الجمعة، 19 أغسطس 2022

ط اخري مجلد1.عجائب الآثار في التراجم والأخبار

 

 ج1.عجائب الآثار في التراجم والأخبار

(المجلد الأول)

يقول مؤلفه: (إني كنت سودت أوراقًا في حوادث آخر القرن الثاني عشر وما يليه من أوائل الثالث عشر الذي نحن فيه جمعت فيها بعض الوقائع إجمالية وأخرى محققة تفصيلية وغالبها محن أدركناها وأمور شاهدناها واستطردت في ضمن ذلك سوابق سمعتها ومن أفواه الشيخة تلقيتها وبعض تراجم الأعيان المشهورين من العلماء والأمراء المعتبرين وذكر لمع من أخبارهم وأحوالهم وبعض تواريخ مواليدهم ووفياتهم فأحببت جمع شملها وتقييد شواردها في أوراق متسقة النظام مرتبة على السنين والأعوام ليسهل على الطالب النبيه المراجعة ويستفيد ما يرومه من المنفعة)

عبد الرحمن الجبرتي

 

مقدمة

من نصائح الرشاد لمصالح العباد

تابع

أثناء الدولة العثمانية ونوابهم وأمرائهم المصرية

أواخر الحجة سنة تسع وتسعين وألف

سنة عشر ومائة وألف

سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف

تاسع عشر جمادى الأولى

سنة إحدى وثلاثين وهي سنة إحدى وثلاثون ومائة وألف

سنة أربعين ومائة وألف

من مات فيها

الشيخ المقري الصوفي محمد ابن سلامة بن عبد الجواد الشافعي

موت الأمير ذو الفقار بك

الأمير الكبير المقدام أيواظ بك والد الأمير اسمعيل بك

سنة اثنتي عشرة وثلاث عشرة وأربع عشرة فشا أمر الفضة

موت محمد بك المعروف بالدالي

ممن مات فيها أيضا

ولما حضر رجب باشا إلى مصر

الأمير علي بك المعروف بالهندي

الأمير يوسف بك زوج هانم بنت ايواظ بك

تولية الوزير علي باشا

الإمام العمدة المتقن الشيخ رمضان بن صالح بن عمر بن حجازي السفطي

الأميـر محمـد بـك إسماعيل بـك الدفتـردار

إسماعيل بك أبو قلنج

الأجل المكرم والملاذ المفخم الخواجا الحاج أحمد بن محمـد الشرايبـي

الشيخ الإمـام المعمـر القطـب

ولاية محمد باشا راقم

ومات الإمام العلامة المتقن المعمر مسند الوقت وشيخ الشيوخ

شمـس الكمـال أبـو محمـد الشيـخ عبـد الوهـاب بن زين الدين

الإمام العلامة الفقيه عبد الرؤوف بن محمد السجيني

الجناب الأجل والكهف الأظل الجليل المعظم والملاذ المفخم الأصيلي الملكي

ثاني عشرين ربيع الأول

أحـد أذكيـاء العصـر ونجبـاء الدهـر

الأمير الكبير علي بك الشهير صاحب الوقائع المذكورة

رمضان جلبي المذكور سنة 1139

الإمام العلامة الفقيه المعمر الشيخ أحمد بن محمد الحماقي الحنفي

العلامة المعمر الصالح الشيخ أحمد الخليلي الشامي

سنة إحدى وتسعين ومائة وألف

الأديب الماهر الشيخ رمضان بن محمد المنصوري الأحمدي

يوم الجمعة حادي عشرين شهر رجب الموافق لعاشر مسـري القبطـي

منتصف شهر رجب

من مات في هذه السنة من الأئمة والأعيان

شهـر شعبان وردت الأخبار من ثغر سكندرية بوصول باشا إلى الثغر

تابع

العمدة العلامة والرحلة الفهامة المفوه المتكلم المتفقه

الإمام الصالح الناسك المجود السيد علي بن محمد العوضي البدري

قدوم مراد بك من ناحية الشرق

تابع

يـوم السـبت ركـب إبراهيـم بـك وحسيـن بـك وأتـوا إلـى المناخ


الجزء الأول

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله القديم الأول الذي لا يزول ملكه ولا يتحول خالق الخلائق وعالم الذرات بالحقائق مفنى الأمم ومحيي الرمم ومعيد النعم ومبيد النقم وكاشف الغمم وصاحب الجود والكرم لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون وأشهد أن لا إله إلا الله تعالى عما يشركون وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله إلى الخلق أجمعين المنزل عليه نبا القرون الأولين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ما تعاقبت الليالي والأيام وتداولت السنين والأعوام‏.‏

وبعد فيقول الفقير عبد الرحمن بن حسن الجبرتي الحنفي غفر الله له ولوالديه وأحسن إليهما وإليه‏:‏ إني كنت سودت أوراقًا في حوادث آخر القرن الثاني عشر وما يليه من أوائل الثالث عشر الذي نحن فيه جمعت فيها بعض الوقائع إجمالية وأخرى محققة تفصيلية وغالبها محن أدركناها وأمور شاهدناها واستطردت في ضمن ذلك سوابق سمعتها ومن أفواه الشيخة تلقيتها وبعض تراجم الأعيان المشهورين من العلماء والأمراء المعتبرين وذكر لمع من أخبارهم وأحوالهم وبعض تواريخ مواليدهم ووفياتهم‏.‏

فأحببت جمع شملها وتقييد شواردها في أوراق متسقة النظام مرتبة على السنين والأعوام ليسهل على الطالب النبيه المراجعة ويستفيد ما يرومه من المنفعة الصحابة رضي الله عنهم وقال‏:‏ أن الأموال قد كثرت وما قسمناه غير مؤقت فكيف التوصل إلى ما يضبط به ذلك‏.‏

فقال له الهرمزان وهو ملك الأهواز وقد أسر عند فتوح فارس وحمل إلى عمر وأسلم على يديه‏:‏ أن للعجم حسابا يسمونه ماه روز ويسندونه إلى من غلب عليهم الأكاسرة فعربوا لفظة ماه روز يمورخ ومصدره التاريخ واستعملوه في وجوه التصريف ثم شرح لهم الهرمزان كيفية استعمال ذلك فقال لهم عمر ضعوا للناس تاريخا يتعاملون عليه وتصير أوقاتهم فيما يتعاطونه من المعاملات مضبوطة‏.‏

فقال له بعض من حضر من مسلمي اليهود‏:‏ أن لنا حسابا مثله مسندًا إلى الإسكندر فما ارتضاه الآخرون لما فيه من الطول‏.‏

وقال قوم‏:‏ نكتب على تاريخ الفرس‏.‏

قيل أن تواريخهم غير مسندة إلى مبدأ معين بل كلما قام منهم ملك ابتدأوا التاريخ من لدن قيامه وطرحوا ما قبله‏.‏

فاتفقوا على أن يجعلوا تاريخ دولة الإسلام من لدن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم لأن وقت الهجرة لم يختلف فيه أحد بخلاف وقت ولادته ووقت مبعثه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكان للعرب في القديم من الزمان بأرض اليمن والحجاز تواريخ يتعارفونها خلفا عن سلف إلى زمن الهجرة‏.‏

فلما هاجر صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وظهر الإسلام وغلت كلمة الله تعالى اتخذت هجرته مبدأ لتاريخها وسميت كل سنة باسم الحادثة التي وقعت فيها‏.‏

وتدرج ذلك إلى سنة سبع عشرة من الهجرة في زمن عمر فكان اسم السنة الأولى سنة الأذن بالرحيل من مكة إلى المدينة والثانية سنة الأمر أي بالقتال إلى آخره‏.‏

وقال أصحاب التواريخ أن العرب في الجاهلية كانت تستعمل شهور الآلهة وتقصد مكة للحج وكان حجهم وقت عاشر الحجة كما رسمه سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكان لما كان لا يقع في فصل واحد من فصول السنة بل يختلف موقعه منها بسبب تفاضل ما بين السنة الشمسية والقمرية ووقوع أيام الحج في الصيف تارة وفي الشتاء أخرى وكذا في الفصلين الآخرين أرادوا أن يقع حجهم في زمان واحد لا يتغير وهو وقت إدراك الفواكه والغلال واعتدال الزمن في الحر والبرد ليسهل عليهم السفر ويتجروا بما معهم من البضائع والأرزاق مع قضاء مناسكهم‏.‏

فشكوا ذلك إلى أميرهم وخطيبهم فقام في الموسم عند إقبال العرب من كل مكان فخطب ثم قال‏:‏ أنا أنشأت لكم في هذه السنة شهرًا أزيده فتكون السنة ثلاثة عشر شهرًا وكذلك أفعل في كل ثلاث سنين أو أقل حسبما يقتضيه حساب وضعته ليأتي حجكم وقت أدراك الفواكه والغلال فتقصدونا بما معكم منها‏.‏

فوافقت العرب على ذلك ومضت إلى سبيلها فنسأ المحرم وجعله كبيسًا وأخره إلى صفر وصفر إلى ربيع الأول وهكذا فوقع الحج في السنة الثانية في عاشر المحرم وهو ذو الحجة عندهم‏.‏

وبعد انقضاء سنتين أو ثلاثة وانتهاء نوبة الكبيس أي الشهر الذي كان يقع فيه الحج وانتقاله إلى الشهر الذي بعده قام فيهم خطيبًا وتكلم بما أراد ثم قال‏:‏ أنا جعلنا الشهر الفلاني من السنة الفلانية الداخلة للشهر الذي بعده‏.‏

ولهذا فسر النسئ بالتأخير كما فسر بالزيادة‏.‏

وكانوا يديرون النسئ على جميع شهور السنة بالنوبة حتى يكون لهم مثلا في سنة محرمان وفي أخرى صفران ومثل هذا بقية الشهور فإذا آلت النوبة إلى الشهر المحرم قام لهم خطيبا فينبئهم أن هذه السنة قد تكرر فيها اسم الشهر الحرام فيحرم عليهم واحدا منها بحسب رأيه على مقتضى مصلحتهم فلما انتهت النوبة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحجة وتم دور النسئ على جميع الشهور حج صلى الله عليه وسلم في تلك السنة حجة الوداع وهي السنة العاشرة من الهجرة لموافقة الحج فيها عاشر الحجة ولهذا لم يحج صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة حين حج أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالناس لوقوعه في عاشر ذي القعدة‏.‏

فلما حج صلى الله عليه وسلم حجة الوداع خطب وأمر الناس بما شاء الله تعالى‏.‏

ومن جملته‏:‏ إلا أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض يعني رجوع الحج إلى الموضع الأول كما كان في زمن سيدنا إبراهيم صلوات الله تعالى عليه ثم تلا قوله تعالى أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعملوا إن الله مع المتقين إنما زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين‏.‏

و منع العرب من هذا الحساب وأمر بقطعه والاستمرار بوقوع الحج في أي زمان أتى من فصول السنة الشمسية فصارت سنوهم دائرة في الفصول الأربع والحج واقع في كل زمان منها كما كان في زمن إبراهيم الخليل عليه السلام‏.‏

ثم كون حجة الصديق واقعة في القعدة فهو قول طائفة من العلماء‏.‏

وقال آخرون بل وقعت حجته أيضا في ميقاتها من ذي الحجة وقد روي في السنة ما يدل على ذلك والله أعلم بالحقائق‏.‏

ولما كان علم التاريخ علما شريفا فيه العظة والاعتبار وبه يقيس العاقل نفسه على من مضى من أمثاله في هذه الدار وقد قص الله تعالى أخبار الأمم السالفة في أم الكتاب فقال تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب‏.‏

وجاء من أحاديث سيد المرسلين كثير من أخبار الأمم الماضين كحديثه عن بني إسرائيل وما غيروه من التوراة والإنجيل وغير ذلك من أخبار العجم والعرب مما يفضي بمتأمله إلى العجب‏.‏

وقد قال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ من علم التاريخ زاد عقله‏.‏

ولم تزل الأمم الماضية من حين أوجد الله هذا النوع الإنساني تعتني بتدوينه سلفًا عن سلف وخلفًا من بعد خلف إلى أن نبذه أهل عصرنا وأغفلوه وتركوه وأهملوه وعدوه من شغل البظالين وأساطير الأولين ولعمري أنهم لمعذورون وبالأهم مشتغلون ولا يرضون لأقلامهم المتعبة في مثل هذه المنقبة فإن الزمان قد انعكست أحواله وتقلصت ظلاله وانخرمت قواعده في الحساب فلا تضبط وقائعه في دفتر ولا كتاب‏.‏

وأشغال الوقت في غير فائدة ضياع وما مضى وفات ليس له استرجاع إلا أن يكون مثل الحقير منزويا في زوايا الخمول والإهمال منجمعًا عما شغلوا به من الأشغال فيشغل نفسه في أوقات من خلواته ويسلي وحدته بعد سيئات الدهر وحسناته‏.‏

وفن التاريخ علم يندرج فيه علوم كثيرة لولاه ما ثبتت أصولها ولا تشعبت فروعها منها طبقات القراء والمفسرين والمحدثين وسير الصحابة والتابعين وطبقات المجتهدين وطبقات النجاة والحكماء والأطباء وأخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخبار المغازي وحكايات الصالحين ومسامرة الملوك من القصص والأخبار والمواعظ والعبر والأمثال وغرائب الأقاليم وعجائب البلدان‏.‏

ومنها كتب المحاضرات ومفاكهة الخلفاء وسلوان المطاع ومحاضرات الراغب‏.‏

وأما الكتب المصنفة فيه فكثيرة جدا ذكر منها في مفتاح السعادة ألفًا وثلاثمائة كتاب قال في ترتيب العلوم وهذا بحسب إدراكه واستقصائه وألا فهي تزيد على ذلك لأنه ما ألف في فن من الفنون مثل ما ألف في التواريخ وذلك لانجذاب الطبع إليها والتطلع على أمور المغيبات ولكثرة رغبة السلاطين لزيادة اعتنائهم بحسب التطلع على سير من تقدمهم من الملوك مع ما لهم من الأحوال والسياسات وغير ذلك فمن الكتب المصنفة فيه تاريخ ابن كثير في عدة مجلدات وهو القائل شعرًا‏:‏ تمر بنا الأيام تترى وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر فلا عائد صفو الشباب الذي مضى ولا زائل هذا المشيب المكدر وتاريخ الطبرى وهو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري مات سنة عشر وثلاثمائة ببغداد وتاريخ ابن الأثير الجزري المسمى بالكامل ابتدأ فيه من أول الزمان إلى أواخر سنة ثمان وعشرين وستمائة وله كتاب أخبار الصحابة في ست مجلدات‏.‏

وتاريخ ابن الجوزي وله المنتظم في تواريخ الأمم ومرآة الزمان لسبط ابن الجوزي في أربعين مجلدًا وتاريخ ابن خلكان المسمى بوفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان وتواريخ المسعودي أخبار الزمان والأوسط ومروج الذهب‏.‏

ومن أجل التواريخ تواريخ الذهبي الكبير والأوسط المسمى بالعير والصغير المسمى دول الإسلام وتواريخ السمعاني منها ذيل تاريخ بغداد لأبي بكر بن الخطيب نحو خمسة عشر مجلداُ وتاريخ مرو يزيد على عشرين مجلدًا والأنساب في نحو ثمان مجلدات وتواريخ العلامة ابن حجر العسقلاني وتاريخ الصفدي وتواريخ السيوطي وتاريخ الحافظ ابن عساكر في سبعة وخمسين مجلداُ وتاريخ اليافعي وبستان التواريخ ست مجلدات وتواريخ بغداد وتواريخ حلب وتواريخ أصبهان للحافظ أبي نعيم وتاريخ بلخ وتاريخ الأندلس والإحاطة في أخبار غرناطة وتاريخ اليمن وتاريخ مكة وتواريخ الشام وتاريخ المدينة المنورة وتواريخ الحافظ المقريزي وهي الخطط والآثار و غير ذلك ونقل في مؤلفاته أسماء تواريخ لم نسمع بأسمائها في غير كتبه مثل تاريخ ابن أبي طي والمسيحي وأبن المأمون وأبن زولاق والقضاعي‏.‏

ومن التواريخ تاريخ العلامة العيني كي أربعين مجلدًا رأيت منها بعض مجلدات بخطه وهي ضخمة في قالب الكامل ومنها تاريخ الحافظ السخاوي والضوء اللامع في أهل القرن التاسع رتبه على حروف المعجم في عدة مجلدات وتاريخ العلامة ابن خلدون في ثمان مجلدات ضخام ومقدمته مجلد على حدة من أطلع عليها رأى بحرًا متلاطما بالعلوم مشحونا بنفائس جواهر المنطوق والمفهوم وتاريخ ابن دقاق‏.‏

وكتب التواريخ أكثر من أن تحصى وذكر المسعودي جملة كبيرة منها وتاريخه لغاية سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة فما ظنك بما بعد ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وهذه صارت أسماء من غير مسميات فأنا لم نر من ذلك كله ألا بعض أجزاء بقيت في بعض خزائن كتب الأوقاف بالمدارس مما تداولته أيدي الصحافيين وباعها القومة والمباشرون ونقلت إلى بلاد المغرب والسودان ثم ذهبت بقايا البقايا في الفتن والحروب وأخذ الفرنسيس ما وجدوه إلى بلادهم‏.‏

ولما عزمت على جمع ما كنت سودته أردت أن أوصله بشيء قبله فلم أجد بعد البحث والتفتيش ألا بعض كراريس سودها بعض العامة من الأجناد ركيكة التركيب مختلة التهذيب والترتيب وقد اعتراها النقص من مواضع في خلال بعض الوقائع‏.‏

وكنت ظفرت بتاريخ من تلك الفروع لكنه على نسق في الجملة مطبوع لشخص يقال له أحمد حلبي بن عبد الغني مبتدئا فيه من وقت تملك بني عثمان للديار المصرية وينتهي كغيره ممن ذكرناه إلى خمسين ومائة وألف هجرية‏.‏

ثم أن ذلك الكتاب استعاره بعض الأصحاب وزلت به القدم ووقع في صندوق العدم‏.‏

ومن ذلك الوقت إلى وقتنا هذا لم يتقيد أحد بتقييد ولم يسطر في هذا الشأن شيئا يفيد فرجعنا إلى النقل من أفواه الشيخة المسنين وصكوك دفاتر الكتبة والمباشرين وما انتقش على أحجار ترب المقبورين وذلك من أول القرن إلى السبعين وما بعدها إلى التسعين أمور شاهدناها ثم نسيناها وتذكرناها ومنها إلى وقتنا أمور تعقلناها وقيدناها وسطرناها إلى أن تم ما قصدنا بأي وجه كان وانتظم ما أردنا استطراده من وقتنا إلى ذلك الأوان‏.‏

وسنورد أن شاء الله تعالى ما ندركه من الوقائع بحسب الإمكان والخلو من الموانع إلى أن يأتي أمر الله وأن مردنا إلى الله ولم أقصد بجمعه خدمة ذي جاه كبير أو طاعة وزير أو أمير ولم أداهن فيه دولة بنفاق أو مدح أو ذم مباين للأخلاق لميل نفساني أو غرض جسماني وأنا استغفر الله من وصفي طريقا لم أسلكه وتجارتي مقدمة أعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض ودحاها وأخرج منها ماءها ومرعاها وبث فيها من كل دابة وقدر أقواتها أحوج بعض الناس إلى بعض في ترتيب معايشهم ومآكلهم وتحصيل ملابسهم ومساكنهم لأنهم ليسوا كسائر الحيوانات التي تحصل ما تحتاج إليه بغير صنعة‏.‏

فإن الله تعالى خلق الإنسان ضعيفا لا يستقل وحده بأمر معاشه لاحتياجه إلى غذاء ومسكن ولباس وسلاح فجعلهم الله تعالى يتعاضدون يتعاونون في تحصيلها وترتيبها بان يزرع هذا لذاك ويخبز ذاك لهذا وعلى هذا القياس تتم سائر أمورهم ومصالحهم وركز في نفوسهم الظلم والعدل‏.‏

ثم مست الحاجة بينهم ميزانا للعدالة وقانونا لسياسة توزن به حركاتهم وسكناتهم وترجع إليه طاعاتهم ومعاملاتهم فانزل الله كتابه بالحق وميزانه بالعدل كما قال تعالى‏:‏ الله الذي انزل الكتاب بالحق والميزان‏.‏

قال علماء التفسير المراد بالكتاب والميزان العلم والعدل وكانت مباشرة هذا الأمر من الله بنفسه من غير واسطة وسبب على خلاف ترتيب المملكة وقانون الحكمة فاستخلف فيها من الآدميين خلائف ووضع في قلوبهم العلم والعدل ليحكموا بهما بين الناس حتى يصدر تدبيرهم عن دين مشروع وتجتمع كلمتهم على رأي متبوع ولو تنازعوا في وضع الشريعة لفسد نظامهم واختل معاشهم‏.‏

فمعنى الخلافة هو أن ينوب أحد مناب آخر في التصرف واقفا على حدود أوامره ونواهيه وأما معنى العدالة فهي خلق في النفس أو صفة في الذات تقتضي المساواة لأنها أكمل الفضائل لشمول أثرها وعموم منفعتها كل شيء وإنما يسمى الإنسان عادلا لما وهبه الله قسطا من عدله وجعله سببا وواسطة لإيصال فيض فضله واستخلفه في أرضه بهذه الصفة حتى يحكم بين الناس بالحق والعدل كما قال تعالى‏:‏ يا داود أنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق‏.‏

وخلائف الله هم القائمون بالقسط والعدالة في طريق الاستقامة ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه والعدالة تابعة للعلم بأوساط الأمور المعبر عنها في الشريعة بالصراط المستقيم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ أن ربي على صراط مستقيم إشارة إلى أن العدالة الحقيقية ليست ألا لله تعالى فهو العادل الحقيقي الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ووضع كل شيء على مقتضى علمه الكامل وعدله الشامل‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بالعدل قامت السموات والأرض إشارة إلى عدل الله تعالى الذي جعل لكل شيء قدرًا لو فرض فارض زائدًا عليه أو ناقصًا عنه لم ينتظم الوجود على هذا النظام بهذا التمام والكمال‏.‏

ورفع الله بعضهم فوق بعض درجات كما قال تعالى‏:‏ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات‏:‏ الأول الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام فهم أدلاء الأمة وعمد الدين ومعادن حكم الكتاب وأمناء الله في خلقه هم السراج المنيرة على سبيل الهدى وحملة الأمانة عن الله إلى خلقه بالهداية بعثهم الله رسلا إلى قومهم وأنزل معهم الكتاب والميزان ولا يتعدون حدود ما أنزل الله إليهم من الأوامر والزواجر إرشادًا وهداية لهم حتى يقوم الناس بالقسط والحق ويخرجونهم من ظلمات الكفر والطغيان إلى نور اليقظة والأيمان وهم سبب نجاتهم من دركات جهنم إلى درجات الجنان‏.‏

وميزان عدالة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدين المشروع الذي وصاهم الله بإقامته في قوله تعالى‏:‏ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا‏.‏

فكل أمر من أمور الخلائق دنيا وآخرة عاجلًا وآجلًا قولًا وفعلًا حركة وسكونًا جار على نهج العدالة ما دام موزونًا بهذا الميزان ومنحرف عنها بقدر انحرافه عنه ولا تصح الإقامة بالعدالة ألا بالعلم وهو أتباع أحكام الكتاب والسنة‏.‏

العلماء - الذين هم ورثة الأنبياء فهم فهموا مقامات القدوة من الأنبياء وأن لم يعطوا درجاتهم واقتدوا بهداهم واقتفوا آثارهم إذ هم أحباب الله وصفوته من خلقه ومشرق نور حكمته فصدقوا بما أتوا به وساروا على سبيلهم وأيدوا دعوتهم ونشروا حكمتهم كشفًا وفهمًا وذوقًا وتحقيقًا أيمانًا وعلمًا بكمال المتابعة لهم ظاهرًا وباطنًا‏.‏

فلا يزالون مواظبين على تمهيد قواعد العدل وإظهار الحق برفع منار الشرع وإقامة أعلام الهدى والإسلام وأحكام مباني التقوى برعاية الأحوط في الفتوى تزهدًا للرخص لأنهم أمناء لله في العالم وخلاصة بني آدم مخلصون في مقام العبودية مجتهدون في أتباع أحكام الشريعة عن باب الحبيب لا يبرحون ومن خشية ربهم مشفقون مقبلون على الله تعالى بطهارة الأسرار وطائرون إليه بأجنحة العلم والأنوار هم أبطال ميادين العظمة وبلابل بساتين العلم والمكالمة‏.‏

أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون وتلذذوا بنعيم المشاهدة ولهم عند ربهم ما يشتهون‏.‏

وما ظهر في هذا الزمان من الاختلال في حال البعض من حب الجاه والمال والرياسة والمنصب والحسد والحقد لا يقدح في حال الجميع لأنه لا يخلو الزمان من محقيهم وأن كثر المبطلون ولكنهم أخفياء مستورون تحت قباب الخمول لا تكشف عن حالهم يد الغيرة الإلهية والحكمة الأزلية‏.‏

وهم آحاد الأكوان وأفراد الزمان وخلفاء الرحمن وهم مصابيح الغيوب مفاتيح أقفال القلوب وهم خلاصة خاصة الله من خلقه وما برحوا أبدًا في مقعد صدقه بهم يهتدي كل حيران ويرتوي كل ظمآن وذلك أن مطلع شمس مشارق أنوارهم مقتبس من مشكاة النبوة المصطفوية ومعدن شجرة أسرارهم مؤيد بالكتاب والسنة لا أحصي ثناء عليهم أفض اللهم علينا مما لديهم‏.‏

الثالث الملوك وولاة الأمور يراعون العدل والأنصاف بين الناس والرعايا توصلا إلى نظام المملكة وتوسلًا إلى قوام السلطنة لسلامة الناس في أموالهم وأبدانهم وعمارة بلدانهم ولولا قهرهم وسطوتهم لتسلط القوي على الضعيف والدنيء على الشريف‏.‏

فرأس المملكة وأركانها وثبات أحوال الأمة وبنيانها العدل والأنصاف سواء كانت الدولة إسلامية أو غير إسلامية فهما أس كل مملكة وبنيان كل سعادة ومكرمة‏.‏

فإن الله تعالى أمر بالعدل ولم تكتف به حتى أضاف إليه الإحسان فقال تعالى‏:‏ أن الله يأمر بالعدل والإحسان لأن بالعدل ثبات الأشياء ودوامها وبالجور والظلم خرابها وزوالها فإن الطباع البشرية مجبولة على حب الانتصاف من الخصوم وعدم الأنصاف لهم والظلم والجور كامن في النفوس لا يظهر ألا بالقدرة كما قيل‏:‏ والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم فلولا قانون السياسة وميزان العدالة لم يقدر مصل على صلاته ولا عالم على نشر علمه ولا تاجر على سفره فإن قيل‏:‏ فما حد الملك العادل قلنا‏:‏ هو ما قال العلماء بالله من عدل بين العباد وتحذر عن الجور والفساد حسبما ذكره رضى الصوفي في كتابه المسمى بقلادة الأرواح وسعادة الأفراح عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة قيام ليلها وصيام نهارها‏.‏

وفي حديث آخر‏:‏ والذي نفس محمد بيده أنه ليرفع للملك العادل إلى السماء مثل عمل الرعية وكل صلاة يصليها تعدل سبعين ألف صلاة وكأن الملك العادل قد عبد الله بعبادة كل عابد وقام له بشكر كل شاكر فمن لم يعرف قدر هذه النعمة الكبرى والسعادة العظمى واشتغل بظلمه وهواه يخاف عليه بان يجعله الله من جملة أعدائه وتعرض إلى أشد العذاب كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ أن أبغض الناس إلى الله تعالى وأشدهم عذابا يوم القيامة إمام جائر‏.‏

فمن عدل في حكمه وكف عن ظلمه نصره الحق وأطاعه الخلق وصفت له النعمى وأقبلت عليه الدنيا فتهنأ بالعيش واستغنى عن الجيش وملك القلوب وأمن الحروب وصارت طاعته فرضا وظلت رعيته جندًا لأن الله تعالى ما خلق شيئا أحلى مذاقا من العدل ولا أروح إلى القلوب من الأنصاف ولا أمر من الجور ولا أشنع من الظلم‏.‏

فالواجب على الملك وعلى ولاة الأمور أن لا يقطع في باب العدل ألا بالكتاب والسنة لأنه يتصرف في ملك الله وعباد الله بشريعة نبيه ورسوله نيابة عن تلك الحضرة ومستخلفا عن ذلك الجناب المقدس ولا يأمن من سطوات ربه وقهره فيما يخالف أمره فينبغي أن يحترز عن الجور والمخالفة والظلم والجهل فانه أحوج الناس إلى معرفة العلم وأتباع الكتاب والسنة وحفظ قانون الشرع والعدالة فإنه منتصب لمصالح العباد وإصلاح البلاد وملتزم بفصل خصوماتهم وقطع النزاع بينهم وهو حامي الشريعة بالإسلام فلا بد من معرفة أحكامها والعلم بحلالها وحرامها ليتوصل بذلك إلى إبراء ذمته وضبط مملكته وحفظ رعيته فيجتمع له مصلحة دينه ودنياه وتمتلئ القلوب بمحبته والدعاء له فيكون ذلك أقوم لعمود ملكه وأدوم لبقائه وأبلغ الأشياء في حفظ المملكة العدل والأنصاف على الرعية‏.‏

وقيل لحكيم‏:‏ أيهما أفضل العدل أم الشجاعة فقال‏:‏ من عدل استغنى عن الشجاعة لأن العدل أقوى جيش وأهنأ عيش‏.‏

وقال الفضيل بن عياض‏:‏ النظر إلى وجه الإمام العادل عبادة وأن المقسطين عند الله على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن‏.‏

قال‏:‏ سفيان الثوري‏:‏ صنفان إذا صلحا صلحت الأمة وإذا فسدا فسدت الأمة‏:‏ الملوك والعلماء‏.‏

والملك العادل هو الذي يقضي بكتاب الله عز وجل ويشفق على الرعية شفقة الرجل على أهله‏.‏

روى ابن يسار عن أبيه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ أيما وال ولي من أمر أمتي شيئا فلم ينصح لهم ويجتهد كنصيحته وجهده لنفسه كبه الله على وجهه يوم القيامة في النار‏.‏

الرابع أوساط الناس يراعون العدل في معاملاتهم وأروش جناياتهم بالأنصاف فهم يكافؤون الحسنة بالحسنة والسيئة بمثلها‏.‏

الخامس القائمون بسياسة نفوسهم وتعديل قواهم وضبط جوارحهم وانخراطهم في سلك العدول لأن كل فرد من أفراد الإنسان مسؤول عن رعايا رعيته التي هي جوارحه وقواه كما ورد‏:‏ كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته كما قيل‏:‏ صاحب الدار مسؤول عن أهل بيته وحاشيته‏.‏

ولا تؤثر عدالة الشخص في غيره ما لم تؤثر أولًا في نفسه إذ التأثير في البعيد قبل القريب بعيد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم دليل على ذلك والإنسان متصف بالخلافة لقوله تعالى‏:‏ ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون‏.‏

ولا تصح خلافا الله ألا بطهارة النفس كما أن أشرف العبادات لا تصح ألا بطهارة الجسم فما اقبح بالمرء أن يكون حسن جسمه باعتبار قبيح نفسه كما قال حكيم لجاهل صبيح الوجه‏:‏ أما البيت فحسن وأما ساكنه فقبيح‏.‏

وطهارة النفس شرط في صحة الخلافة وكمال العبادة ولا يصح نجس النفس لخلافة الله تعالى ولا يكمل لعبادته وعمارة أرضه ألا من كان طاهر النفس قد أزيل رجسه ونجسه‏.‏

فللنفس نجاسة كما أن للبدن نجاسة فنجاسة البدن يمكن إدراكها بالبصر ونجاسة النفس لا تدرك ألا بالبصيرة كما أشار له بقوله تعالى‏:‏ إنما المشركون نجس‏.‏

فإن الخلافة هي الطاعة والاقتدار على قدر طاقة الإنسان في اكتساب الكمالات النفسية والاجتهاد بالإخلاص في العبودية والتخلق بأخلاق الربوبية ومن لم يكن طاهر النفس لم يكن طاهر الفعل‏.‏

فكل أناء بالذي فيه ينضح‏.‏

ولهذا قيل‏:‏ من طابت نفسه طاب عمله ومن خبثت نفسه خبث عمله‏.‏

وقيل في قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب أنه أشار بالبيت إلى القلب وبالكلب إلى النفس الإمارة بالسوء أو إلى الغضب والحرص والحسد وغيرها من الصفات الذميمة الراسخة في النفس ونبه بان نور الله لا يدخل القلب إذا كان فيه ذلك الكلب‏.‏

وإلى الطهارتين أشار بقوله تعالى‏:‏ وثيابك فطهر والرجز فاهجر‏.‏

وأما الذي تطهر به النفس حتى تصلح للخلافة وتستحق به ثوابه فهو العلم والعبادة الموظفة اللذان هما سبب الحياة‏.‏

توضيح أعلم أن الإنسان من حيث الصورة التخطيطية كصورة في جدار وإنما فضيلته بالنطق والعلم‏.‏

ولهذا قيل‏:‏ ما الإنسان لولا اللسان ألا بهمة مهملة أو صورة فبقوة العلم والنطق والفهم يضارع الملك وبقوة الأكل والشرب والشهوة والنكاح والغضب يشبه الحيوان‏.‏

فمن صرف همته كلها إلى تربية القوة الفكرية بالعلم والعمل فقد لحق بأفق الملك فيسمى ملكا وربانيا كما قال تعالى‏:‏ أن هذا ألا ملك كريم‏.‏

ومن صرف همته كله إلى تربية القوة الشهوانية باتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام فحقيق أن يلحق بالبهائم أما غمرًا كثور أو شرهًا كخنزير أو عقورًا ككلب أو حقودًا كجمل أو متكبرًا كنمر أو ذا حيلة ومكر كثعلب أو يجمع ذلك كله فيصير كشيطان مريد وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى‏:‏ وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت‏.‏

وقد يكون كثير من الناس من صورته صورة إنسان وليس هو في الحقيقة ألا كبعض الحيوان‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ أن هم ألا كالأنعام بل هم أضل‏:‏ مثل لبهائم جهلا جل خالقهم لهم تصاوير لم يقرن بهن جحا

من نصائح الرشاد لمصالح العباد

اعلم أن سبب هلاك الملوك اطراح ذوي الفضائل واصطناع ذوي الرذائل والاستفاف بعظة الناصح والاغترار بتزكية المادح من نظر في العواقب سلم من النوائب وزوال الدول اصطناع السفل ومن استغنى بعقله ضل ومن اكتفى برأيه زل ومن أستشار ذوي الألباب سلك سبيل الصواب ومن استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول من عدل في سلطانه استغنى عن أعوانه عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الرمان الملك يبقى على الكفر والعدل لا يبقى على الجور والأيمان‏.‏

ويقال‏:‏ حق على من ملكه الله على عباده وحكمه في بلاده أن يكون لنفسه مالكًا وللهوى تاركًا وللغيظ كاظمًا وللظلم هاضمًا وللعدل في حالتي الرضى والغضب مظهرًا وللحق في السر والعلانية مؤثرًا وإذا كان كذلك الزم النفوس طاعته والقلوب محبته وأشرق بنور عدله زمانه وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه‏.‏

ولقد صدق من قال‏:‏ يا أيها الملك الذي بصلاحه صلح الجميع أنت الزمان فإن عدلت فكله أبدا ربيع وقال عمرو بن العاص‏:‏ ملك عادل خير من مطر وابل من كثر ظلمه واعتداؤه قرب هلاكه وفناؤه‏.‏

موعظة‏:‏ كل محنة إلى زوال وكل نعمة إلى انتقال‏:‏ رأيت الدهر مختلفا يدور فلا حزن يدوم ولا سرور وشيدت الملوك به قصورًا فما بقي الملوك ولا القصور وقال المأمون‏:‏ يبقى الثناء وتنفذ الأموال ولكل وقت دولة ورجال من كبرت همته كثرت قيمته‏.‏

لا تثق بالدولة فإنها ظل زائل ولا تعتمد على النعمة فأنها ضيف راحل‏.‏

فإن الدنيا لا تصفو لشارب ولا تفي لصاحب‏.‏

كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري‏:‏ انصحني فكتب إليه‏:‏ أن الذي يصحبك لا ينصحك والذي ينصحك لا يصحبك وسأل معاوية الأحنف بن قيس وقال له‏:‏ كيف الزمان فقال أنت الزمان أن صلحت صلح الزمان وأن فسدت فسد الزمان‏.‏

آفة الملوك سوء السيرة وآفة الوزراء خبث السريرة وآفة الجند مخالفة القادة وآفة الرعية مخالفة السادة وآفة الرؤساء ضعف السياسة وآفة العلماء حب الرياسة وآفة القضاة شدة الطمع وآفة العدول قلة الورع وآفة القوي استضعاف الخصم وآفة الجريء إضاعة الحزم وآفة المنعم قبح المن وآفة المذنب حسن الظن والخلافة لا يصلحها ألا التقوى والرعية لا يصلحها ألا العدل فمن جارت قضيته ضاعت رعيته ومن ضعفت سياسته بطلت رياسته‏.‏

ويقال‏:‏ شيئان إذا صلح أحدهما صلح الآخر‏:‏ السلطان والرعية‏.‏

ومن كلام بعض البلغاء‏:‏ خير الملوك من كفى وكف وعفا وعف‏.‏

قال وهب بن منبه‏:‏ إذا هم الوالي بالجور أو عمل به أدخل الله النقص في أهل مملكته حتى في التجارات والزراعات وفي كل شيء وإذا هم بالخير أو عمل به أدخل الله البركة على أهل مملكته حتى في التجارات والزراعات وفي كل شيء ويعم البلاد والعباد‏.‏

ولنقبض عنان العبارات والنقلية في أرض الإشارات العقلية المقتطفة من نظم السلوك في مسامرة الملوك وغرر الخصائص وغرر النقائص وهو باب واسع كثير المنافع وملاك الأمر في ذلك حسن القابلية وأن تكون مرآة إذا كان الطباع طباع سوء فليس بنافع أدب الأديب وقيل‏:‏ إن الأخلاق وأن كانت غريزية فإنه يمكن تطبعها بالرياضة والتدريب والعادة والفرق بين الطبع والتطبع أن الطبع جاذب مفتعل والتطبع مجذوب منفعل تتفق نتائجهما مع التكلف ويفترق تأثيرهما مع الاسترسال‏.‏

وقد يكون في الناس من لا يقبل طبعه العادة الحسنة ولا الأخلاق الجميلة ونفسه مع ذلك تتشوق إلى المنقبة وتتأنف من المثلبة‏.‏

لكن سلطان طبعه يأبى عليه ويستعصي عن تكليف ما ندب إليه يختار العطل منها على التحلي ويستبدل الحزن على فواتها بالتسلي فلا ينفعه التأنيب ولا يردعه التأديب وسبب ذلك ما قرره المتكلمون في الأخلاق من أن الطبع المطبوع أملك للنفس التي هي محله لاستيطانه إياها وكثرة أعانته لها‏.‏

وأما الذي يجمع الفضائل والرذائل فهو الذي تكون نفسه الناطقة متوسطة الحال بين اللؤم والكرم وقد تكتسب الأخلاق من معاشرة الإخلاء أما بالصالح أو بالفساد فرب طبع كريم أفسدته معاشرة الأشرار وطبع لئيم أصلحته مصاحبة الأخيار‏.‏

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل‏.‏

وقال علي رضي الله عنه لولده الحسن‏:‏ الأخ رقعة في ثوبك فانظر بمن ترقعه‏.‏

وقال بعض الحكماء في وصيته لولده‏:‏ يا بني أحذر مقارنة ذوي الطباع المزدولة لئلا تسرق طباعك طباعهم وأنت لا تشعر وأما إذا كان الخليل كريم الأخلاق شريف الأعراق حسن السيرة طاهر السريرة فبه في محاسن الشيم يقتدي وبنجم رشده في طريق المكارم يهتدي وإذا كان سيئ الأعمال خبيث الأقوال كان المغتبط به كذلك ومع هذا فواجب على العاقل اللبيب والفطن الأريب أن يجهد نفسه حتى يحوز الكمال بتهذيب خلائقه ويكتسي حلل الجمال بدماثة شمائله وحميد طرائقه‏.‏

وقال عمرو بن العاص المرء حيث يجعل نفسه أن رفعها ارتفعت وأن وضعها اتضعت‏.‏

وقال بعض الحكماء‏:‏ النفس عروف عزوف ونفور الوف متى ردعتها ارتدعت ومتى حملتها حملت وأن أصلحتها صلحت وأن أفسدتها فسدت‏.‏

وقال الشاعر‏:‏ وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت وقالوا‏:‏ من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه والمنهج القويم الموصل إلى الثناء الجميل أن يستعمل الإنسان فكره وتميزه فيما ينتج عن الأخلاق المحمودة والمذمومة منه ومن غيره فيأخذ نفسه بما استحسن منها واستملح ويصرفها عما استهجن منها واستقبح‏.‏

فقد قيل‏:‏ كفاك تأديبا ترك ما كرهه الناس من غيرك‏.‏

اللهم بحرمة سيد الأنام يسر لنا حسن الختام واصرف عنا سوء القضاء وانظر لنا بعين الرضاء وهذا أوان انشقاق كمائم طلع الشماريخ عن زهر مجمل التاريخ‏.‏

أول خليفة جعل في الأرض آدم عليه الصلاة والسلام بمصداق قوله تعالى‏:‏ أني جاعل في الأرض خليفة‏.‏

ثم توالت الرسل بعده لكنها لم تكن عامة الرسالة بل كل رسول أرسل إلى فرقة فهؤلاء الرسل عليهم السلام مقررون شرائع الله بين عباده وملزموهم بتوحيد وامتثال أوامره ونواهيه ليترتب على ذلك انتظام أمور معاشهم في الدنيا وفوزهم بالنعيم السرمدي إذا امتثلوا في الآخرة إلى أن جاء ختامهم الرسول الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أرسله الله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله وأمره بالصدع والإعلان والتطهير من عبادة الأوثان‏.‏

وآمن به من آمن من الصحابة رضوان الله عليهم وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه أولئك هم المفلحون‏.‏

ولم يزل هذا الدين القويم من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم يزيد وينمو ويتعالى ويسمو حتى تم ميقاته وقربت من النبي وفاته‏.‏

وأنزل الله عليه اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا‏.‏

ولما قبض صلى الله عليه وسلم قام بالأمر بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم عمر رضي الله عنه ثم عثمان رضي الله عنه ثم علي كرم الله وجهه ولم تصف له الخلافة بمغالبة معاوية رضوان الله عليهم أجمعين في الأمر وبموت علي رضي الله عنه تمت مدة الخلافة التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكًا عضوضًا وبخلافة معاوية كان ابتداء دولة الأمويين وانقرضت بظهور أبي مسلم الخراساني وإظهاره دولة بني العباس‏.‏

كان أولهم السفاح وظهرت دولتهم الظهور التام وبلغت القوة الزائدة والضخامة العظيمة ثم أخذت في الانحطاط بتغلب الأتراك والديلم ولم تزل منحطة وليس للخلفاء في آخر الأمر إلا الاسم فقط حتى ظهرت فتنة التتار التي أبادت العالم وخرج هولاكو خان وملك بغداد وقتل الخليفة المعتصم وهو آخر خلفاء بني العباس ببغداد ملوك مصر بعد ضعف الخلافة العباسية وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه افتتحت الديار المصرية والبلاد الشامية على يد عمر بن العاص و لم تزل في النيابة أيام الخلفاء الراشدين ودولة بني أمية وبني العباس إلى أن ضعفت الخلافة العباسية بعد قتل المتوكل بن المعتصم بن الرشيد سنة سبع وأربعين ومائتين‏.‏

وتغلب على النواحي كل متملك لها فانفرد أحمد بن طولون بمملكة مصر والشام ثم دولة الاخشيد وبعده كافور أبو المسك‏.‏

ولما مات قدم جوهر القائد من قبل المعز الفاطمي من المغرب فملكها من غير ممانع وأسس القاهرة وذلك في سنة إحدى وستين وثلاثمائة‏.‏

وقدم المعز إلى مصر بجنوده وأمواله ومعه رمم آبائه وأجداده محمولة في توابيت وسكن بالقصرين وأدعى الخلافة لنفسه دون العباسيين‏.‏

وأول ظهور أمرهم في سنة سبعين ومائتين فظهر عبد الله بن عبيد الملقب بالمهدي وهو جد بني عبيد الخلفاء المصريين العبيديين الروافض باليمن وأقام على ذلك إلى سنة ثمان وسبعين فحج تلك السنة وأجتمع بقبيلة من كنانة فأعجبهم حاله فصحبهم إلى مصر ورأى منهم طاعة وقوة فصحبهم إلى المغرب فنما شأنه وشأن أولاده من بعده إلى أن حضر المعز لدين الله أبو تميم معد بن اسمعيل بن القائم ابن المهدي إلى مصر وهو أولهم فملكوا نيفا ومائتين من السنين إلى أن ضعف أمرهم في أيام العاضد وسوء سياسة وزيره شاور فتملكت الإفرنج بلاد السواحل الشامية وظهر بالشام نور الدين محمود بن زنكي فاجتهد في قتال الإفرنج واستخلص ما استولوا عليه من بلاد المسلمين وجهز أسد الدين شيركوه بعساكر لأخذ مصر فحاصرها نحو شهرين فاستنجد العاضد بالإفرنج فحضروا من دمياط فرحل أسد الدين إلى الصعيد فجبى خراجه ورجع إلى الشام‏.‏

وقصد الإفرنج الديار المصرية في جيش عظيم وملكوا بلبيس وكانت إذ ذاك مدينة حصينة ووقعت حروب بين الفريقين فكانت الغلبة فيها على المصريين وأحاطوا بالإقليم برًا وبحرًا وضربوا على أهله الضرائب‏.‏

ثم أن الوزير شاور أشار بحرق الفسطاط فأمر الناس بالجلاء عنها وأرسل عبيده بالشعل والنفوط فأوقدوا فيها النار فاحترقت عن آخرها واستمرت النار بها أربعة وخمسين يوما وأرسل الخليفة العاضد يستنجد نور الدين وبعث إليه بشعور نسائه فأرسل إليه جندًا كثيفًا وعليهم أسد الدين شيركوه وأبن أخيه صلاح الدين يوسف فارتحل الإفرنج عن البلاد وقبض أسد الدين على الوزير شاور الذي أشار بحرق المدينة وصلبه وخلع العاضد على أسد الدين الوزارة فلم يلبث أن مات بعد خمسة وستين يوما فولى العاضد مكانه ابن أخيه صلاح الدين وقلده الأمور ولقبه الملك الناصر فبذل لله همته وأعمل حيلته وأخذ في إظهار السنة وإخفاء البدعة‏.‏

فثقل أمره على الخليفة العاضد فابطن له فتنة أثارها في جنده ليتوصل بها إلى هزيمة الأكراد وإخراجهم من بلاده فتفاقم الأمر وانشقت العصا ووقعت حروب بين الفريقين أبلى فيها الناصر يوسف وأخوه شمس الدولة بلاء حسنا وانجلت الحروب عن نصرتهما فعند ذلك ملك الناصر القصر وضيق على الخليفة وحبس أقاربه وقتل أعيان دولته واحتوى على ما في القصور من الذخائر والأموال والنفائس بحيث استمر البيع فيه عشر سنين غير ما اصطفاه صلاح الدين لنفسه‏.‏

وخطب للمستضيئ العباسي بمصر وسير البشارة بذلك إلى بغداد ومات العاضد قهرًا وأظهر الناصر يوسف الشريعة المحمدية وطهر الإقليم من البدع والتشييع والعقائد الفاسدة وأظهر عقائد أهل السنة والجماعة وهي عقائد الأشاعرة والماتريدية و بعث إليه أبو حامد الغزالي بكتاب ألفه له في العقائد فحمل الناس على العمل بما فيه ومحا من الإقليم مستنكرات الشرع وأظهر الهدي ولما توفي نور الدين الشهيد انضم إليه ملك الشام وواصل الجهاد وأخذ في استخلاص ما تغلب عليه الكفار من السواحل وبيت المقدس بعد ما أقام بيد الإفرنج نيفًا وإحدى وتسعين سنة وأزال ما أحدثه الإفرنج من الآثار والكنائس‏.‏

ولم يهدم القيامة اقتداء بعمر رضي الله عنه وافتتح الفتوحات الكثيرة واتسع ملكه ولم يزل على ذلك إلى أن توفي سنة تسع وثمانين وخمسمائة ولم يترك إلا أربعين درهما وهو الذي أنشأ قلعة الجبل وسور القاهرة العظيم‏.‏

وكان المشد على عمائره بهاء الدين قراقوش ثم استمر الأمر في أولاده وأولاد أخيه الملك العادل وحضر الإفرنج أيضًا إلى مصر في أيام الملك الكامل بن العادل وملكوا دمياط وهدموها فحاربهم شهورًا حتى أجلاهم وعمرت بعد ذلك دمياط هذه الموجودة في غير مكانها وكانت تسمى بالمنشية والكامل هذا هو الذي أنشأ قبة الشافعي رضي الله عنه عندما دفن بجواره موتاهم وأنشأ المدرسة الكاملية بين القصرين المعروفة بدار الحديث‏.‏

وفي أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل حضر الإفرنج وملكوا دمياط وزحفوا إلى فارسكور واستمر الملك الصالح يحاربهم أربعة عشر شهرًا وهو مريض وانحصر جهة الشرق وأنشأ المدينة المعروفة بالمنصورة ومات بها سنة سبع وأربعين وستمائة والحرب قائمة وأخفت زوجته شجرة الدر موته ودبرت الأمور حتى حضر أبنه توران شاه من حصن كيفا وانهزمت الإفرنج وأسر ملكهم ريدا وكانوا طائفة الفرنسيس والملك الصالح هذا هو أول من اشترى المماليك واتخذ منهم جندًا كثيفًا وبنى لهم قلعة الروضة وأسكنهم بها وسماهم البحرية ومقدمهم الفارس اقطاي‏.‏

والملك الصالح هو الذي بنى المدارس الصالحية بين القصرين ودفن بقبة بنيت له بجانب المدرستين‏.‏

ولما أنهزم الإفرنج ومات الصالح وتملك ابنه توران شاه استوحش من مماليك أبيه واستوحشوا منه فتعصبوا عليه وقتلوه بفارسكور و قلدوا في السلطنة شجرة الدر ثلاثة أشهر ثم خلعت وهي آخر الدولة الأيوبية ومدة ولايتهم إحدى وثمانون سنة‏.‏

الملوك التركية ثم تولى سلطنة مصر عز الدين أيبك التركماني الصالحي سنة ثمان وأربعين وستمائة وهو أول الدولة التركية بمصر‏.‏

ولما قتل ولوا أبنه المظفر علي فلما وقعت حادثة التتار العظمى خلع المظفر لصغره وتولى الملك المظفر قطز وخرج بالعساكر المصرية لمحاربة التتار فظهر عليهم وهزمهم ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك بعد أن كانوا ملكوا معظم المعمور من الأرض وقهروا الملوك وقتلوا العباد وخربوا البلاد‏.‏

وفي سنة أربع وخمسين وستمائة ملكوا سائر بلاد الروم بالسيف وفي البحر‏.‏

فلما فرغوا من ذلك صنيعه نزل هولاكو خان وهو ابن طولون بن جنكيز خان على بغداد وذلك سنة ست وخمسين وهي إذ ذاك كرسي مملكة الإسلام ودار الخلافة فملكها وقتلوا ونهبوا وأسروا من بها من جمهور المسلمين والفقهاء والعلماء والأئمة والقراء والمحدثين وأكابر الأولياء والصالحين وفيها خليفة رب العالمين وأمام المسلمين وأبن عم سيد المرسلين فقتلوه وأهله وأكابر دولته وجرى في بغداد ما لم يسمع بمثله في الآفاق‏.‏

ثم أن هولاكو خان أمر بعد القتلى فبلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف وزيادة ثم تقدم التتار إلى بلاد الجزيرة واستولوا على حران والرها وديار بكر في سنة سبع وخمسين ثم جاوزوا الفرات ونزلوا على حلب في سنة ثمان وخمسين وستمائة واستولوا عليها وأحرقوا المساجد وجرت الدماء في الأزقة وفعلوا ما لم يتقدم مثله‏.‏

ثم وصلوا إلى دمشق وسلطانها الناصر يوسف بن أيوب فخرج هاربا وخرج معه أهل القدرة ودخل التتار إلى دمشق وتسلموها بالأمان ثم غدروا بهم وتعدوها فوصلوا إلى نابلس ثم إلى الكرك وبيت المقدس فخرج سلطان مصر بجيش الترك الذين تهابهم الأسود وتقل في أعينهم أعداد الجنود فالتقاهم عند عين جالوت فكسرهم وشردهم وولوا الأدبار وطمع الناس فيهم يتخطونهم‏.‏

ووصلت البشائر بالنصر فطار الناس فرحًا‏.‏

ودخل المظفر إلى دمشق مؤيدًا منصورًا وأحبه الخلق محبة عظيمة وساق بيبرس خلف التتار إلى بلاد حلب وطردهم وكان السلطان وعد بحلب ثم رجع عن ذلك‏.‏

فتأثر بيبرس وأضمر له الغدر وكذلك السلطان وأسر ذلك إلى بعض خواصه فأطلع بيبرس فساروا إلى مصر وكل منهما محترس من صاحبة فاتفق بيبرس مع جماعة من الأمراء على قتل المظفر فقتلوه في الطريق‏.‏

الملك بيبرس ودخل بيبرس مصر سلطانًا وتلقب بالملك الظاهر وذلك سنة ثمان وخمسين وستمائة وهو السلطان ركن الدين أبو الفتح بيبرس البندقداري الصالحي النجمي أحد المماليك البحرية وعندما استقر بالقلعة أبطل المظالم والمكوس وجميع المنكرات وجهز الحج بعد انقطاعه اثنتي عشرة سنة بسبب فتنة التتار وقتل الخليفة ومنافقة أمير مكة مع التتار‏.‏

فلما وصلوا إلى مكة منعوهم من دخول المحمل ومن كسوة الكعبة فقال أمير المحمل لأمير مكة‏:‏ أما تخاف من الملك الظاهر بيبرس فقال‏:‏ دعه يأتيني على الخيل البلق‏.‏

فلما رجع أمير المحمل وأخبر السلطان بما قاله أمير مكة جمع له في السنة الثانية أربعة عشر ألف فرس أبلق وجهزهم صحبة أمير الحج وخرج بعدهم على ثلاث نوق عشاريات فوافاهم عند دخولهم مكة وقد منعهم التتار وأمير مكة فحاربوهم فنصرهم الله عليهم وقتل ملك التتار وأمير مكة طعنه السلطان بالرمح وقال له‏:‏ أنا الملك الظاهر جئتك على الخيل البلق‏.‏

فوقع إلى الأرض وركب السلطان فرسه ودخل إلى مكة وكسا البيت وعاد إلى مصر واستقر ملكه حتى مات بدمشق سابع عشري المحرم سنة ست وسبعين وستمائة ومدته سبع عشرة سنة وشهران واثنا عشر يوما وحج سنة سبع وستين وستمائة‏.‏

ولذلك خبر طويل ذكره العلامة المقريزي في ترجمته في تواريخه وفي الذهب المسبوك فيمن حج من الخلفاء والملوك وكان من أعظم الملوك شهامة وصرامة وانقيادًا للشرع وله فتوحات وعمارات مشهورة ومآثر حميدة ومنها رد الخلافة لبني العباس وذلك أنه لما جرى على بغداد وقتل الخليفة وبقيت ممالك الإسلام بلا خلافة ثلاث سنوات حضر شخص من أولاد الخلفاء الفارين في الواقعة إلى عرب العراق ومعه عشرة من بني مهارش فركب الظاهر للقائه ومعه القضاة وأهل الدولة فأثبت نسبه على يد قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز ثم بويع بالخلافة فبايعه السلطان وقاضي القضاة والشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم الكبار على مراتبهم ولقب بالمستنصر وركب يوم الجمعة وعليه السواد إلى جامع القلعة وخطب خطبة بليغة ذكر فيها شرف بني العباس ودعا فيها للسلطان وللمسلمين ثم صلى بالناس ورسم بعمل خلعة خليفة إلى السلطان وكتب له تقليدا وقرأ بظاهر القاهرة بحضرة الجمع وألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده وفوض إليه الأمور وركب السلطان بالخلعة والتقليد محمول على رأسه ودخل من باب النصر وزينت القاهرة والأمراء مشاة بين يديه ورتب له اتابكيًا واستادارًا وخازندارًا وحاجبًا وشرابيًا وكاتبًا وعين له خزانة وجملة مماليك ومائة فرس وثلاثين بغلًا وعشر قطارات جمال إلى أمثال ذلك‏.‏

ثم أنه عزم على التوجه إلى العراق فخرج معه السلطان وشيعه إلى دمشق وجهز معه ملوك الشرق صاحب الموصل وصاحب سنجار والجزيرة وغرم عليه وعليهم ألف ألف دينار وستين ألف دينار وسافروا حتى تجاوزوا هيت فلاقاهم التتار فحاربوهم فعدم الخليفة ولم يعلم له خبر‏.‏

وبعد أيام حضر شخص آخر من بني العباس وكان أيضا مختفيا عند بني خفاجة فتوصل مع العرب إلى دمشق وأقام عند الأمير عيسى بن مهنا فأخبر به صاحب دمشق فطلبه وكاتب السلطان في شأنه فأرسل يستدعيه فأرسله مع جماعة من أمراء العرب فلما وصل إلى القاهرة وجد المستنصر قد سبقه بثلاثة أيام فلم ير أن يدخل إليها فرجع إلى حلب فبايعه صاحبها ورؤساؤها ومنهم عبد الحليم بن تيمية وجمع خلقًا كثيرًا وقصد عانة ولقب بالحاكم‏.‏

فلما خرج المستنصر وافاه بعانة فانقاد له هذا ودخل تحت طاعته وخاصته فلما قدم المستنصر قصد الحاكم الرحبة وجاء إلى عيسى ابن مهنا فكاتب الملك الظاهر فيه فطلبه فقدم إلى القاهرة ومعه ولده وجماعته فأكرمه الملك الظاهر وبايعوه بالخلافة كما سبق للمستنصر وأنزله بالبرج الكبير بالقلعة‏.‏

واستمرت الخلافة بمصر وأقام الحاكم فيها نيفا وأربعين سنة وهذه من مناقب الملك الظاهر‏.‏

ولما مات الملك الظاهر تولى بعده ابنه الملك السعيد ثم أخوه الملك العادل وكان صغيرًا والأمر لقلاوون فخلعه واستبد بالملك ولقب بالملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي النجمي جد الملوك القلاوونية وهو صاحب الخيرات والبيمارستان المنصوري والمدرسة والقبة التي دفن بها وله فتوحات بسواحل البحر الرومي ومصافات مع التتار وغير ذلك‏.‏

تولى سنة ثمان وسبعين وستمائة ومات أواخر مدته إحدى عشر سنة‏.‏

وتولى بعده ابنه الملك الأشرف خليل بن قلاوون وكان بطلًا شجاعًا ذا همة علية ورياسة مرضية خانه أمراؤه وغدروه وقتلوه بترانة جهة البحيرة سنة ثلاث وتسعين وستمائة ونقل لتربته التي أنشأها بالقرب من المشهد النفيسي بجانب مدرسة أخيه الصالح علي بن قلاوون‏.‏

مات في حياة أبيه وكان هو أكبر أولاده مرشحًا للسلطنة‏.‏

ولما مات الأشرف تولى بعده أخوه الملك الناصر محمد بن قلاوون الألفي الصالحي النجمي‏.‏

أقيم في السلطنة وعمره تسع سنين فأقام سنة وخلع بمملوك أبيه زين الدين ‏)‏كنبغا‏(‏ الملك العادل فثار الأمير حسام الدين لاجين المنصوري نائب السلطنة على العادل وتسلطن عوضه ثم ثار عليه طغى وكبرى فقتلاه وقتلا أيضا‏.‏

واستدعى الناصر من الكرك فقدم وأعيد إلى السلطنة مرة ثانية فأقام عشر سنين وخمسة أشهر محجورا عليه والقائم بتدبير الدولة الأميران بيبرس الجاشنكير وسلار نائب السلطنة فدبر لنفسه في سنة ثمان وسبعمائة وأظهر أنه يريد الحج بعياله فوافقه الأميران على ذلك وشرعا في تجهيزه وكتب إلى دمشق والكرك برمي الإقامات وألزم عرب الشرقية بحمل الشعير فلما تهيأ لذلك احضر الأمراء تقاد معهم الخيل والجمال ثم ركب إلى بركة الحاج وتعين معه للسفر جماعة من الأمراء‏.‏

وعاد بيبرس وسلار من غير أن يترجلا له عند نزوله بالبركة فرحل من ليلته وخرج إلى الصالحية وعيد بها وتوجه إلى الكرك فقدمها في عاشر شوال ونزل بقلعتها وصرح بأنه قد ثنى عزمه عن الحج واختار الإقامة بالكرك وترك السلطنة ليستريح وكتب إلى الأمراء بذلك وسأل أن ينعم عليه بالكرك والشوبك وأعاد من كان معه من الأمراء وسلمهم الهجن وعدتها خمسمائة هجين والمال والجمال وجميع التقادم وأمر نائب الكرك بالمسير عنه وتسلطن بيبرس الجاشنكير وتلقب بالملك المظفر وكتب للناصر تقليدًا بنيابة الكرك‏.‏

فعندما وصله التقليد مع آل ملك اظهر البشر وخطب باسم المظفر على منبر الكرك وأنعم على البريد الحاج آل ملك وأعاده فلم يتركه المظفر وأخذ يناكده ويطلب منه من معه من المماليك الذين اختارهم للإقامة عنده والخيول التي أخذها من القلعة والمال الذي أخذه من الكرك‏.‏

وهدده فحنق لذلك وكتب إلى نواب الشام يشكو ما هو فيه فحثوه على القيام لأخذ ملكه ووعدوه بالنصرة فتحرك لذلك وسار إلى دمشق واتت النواب إليه‏:‏ وقدم إلى مصر وفر بيبرس وطلع الناصر إلى القلعة يوم عيد الفطر سنة تسع وسبعمائة فأقام في الملك اثنتين وثلاثين سنة وثلاثة أشهر ومات في ليلة الخميس حادي عشري ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وعمره سبع وخمسون سنة وكسور ومدة سلطنته ثلاث وأربعون سنة وثمانية أشهر وتسعة أيام‏.‏

وكان ملكًا عظيمًا جليلًا كفوءًا للسلطنة ذا دهاء محبًا للعدل والعمارة وطابت مدته وشاع ومن محاسنه أنه لما أستبد بالملك أسقط جميع المكوس من أعمال الممالك المصرية والشامية وراك البلاد وهو الروك الناصري المشهود وأبطل الرشوة وعاقب عليها فلا يتقلد المناصب إلا مستحقها بعد التروي والامتحان واتفاق الرأي ولا يقضي إلا بالحق‏.‏

فكانت أيامه سعيدة وأفعاله حميدة‏.‏

وفي أيامه كثرت العمائر حتى يقال أن مصر والقاهرة زادا في أيامه أكثر من النصف وكذلك القرى بحيث صارت كل بلدة من القرى القبلية والبحرية مدينة على انفرادها وله ولأمرائه مساجد ومدارس وتكايا مشهورة وحضر في أوائل دولته القان غازات بجنود التتار فخرج إليهم بعساكر مصر وهزمهم مرتين‏.‏

وبعض مناقبه تحتاج إلى طول ونحن لا نذكر إلا لمعًا فمن أراد الإطلاع عليها فعليه بالمطولات‏.‏

وفي السيرة الناصرية مؤلف مخصوص مجلدان ضخمان ينقل عنه المؤرخون وللصفي الحلي فيه مرثية رائية بليغة نحو ستين بيتا‏.‏

ولما مات دفن على والده بالقبة المنصورية بين القصرين‏.‏

وتولى من أولاده وأولاد أولاده اثنا عشر سلطانا منهم السلطان حسن صاحب الجامع بسوق الخيل بالرميلة ومن شاهده عرف علو همته بين الملوك هو الذي ألف باسمه الشيخ بن أبي حجلة التلمساني كتبه العشرة والتي منها ديوان الصبابة والسكردان وطوق الحمامة وحاطب ليل وقرع سن‏.‏

ومنهم الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الملك الناصر محمد وهو الذي أمر الأشراف بوضع العلامة الخضراء في عمائمهم وفي ذلك يقول بعضهم‏:‏ جعلوا لأبناء النبي علامة أن العلامة شأن من لم يشهر نور النبوة في كريم وجوههم يغني الشريف عن الطراز الأخضر وفي أيام الأشرف هذا قدمت الإفرنج إلى الإسكندرية على حين غفلة ونهبوا أموالها وأسروا نساءها ووصل الخبر إلى مصر فتجهز الأشرف وسار بعساكره فوجدهم قد ارتحلوا عنها وتركوها‏.‏

ولهذه الواقعة تاريخ أطلعت عليه في مجلدين ويقال أن الفرنساوي الذي يكون في أذنه قرط أمه أصلها من النساء المأسورات في تلك الواقعة‏.‏

وفي أيامه كثر عبث المماليك الأجلاب فأمر بإخراجهم من مصر فتجمعوا وعصوا فحاربهم وقاتلهم فانهزموا فقبض على كثير منهم فقتل منهم طائفة وغرق منهم طائفة ونفى منهم طائفة وبقي منهم بمصر طائفة التجئوا إلى بعض الأمراء وهؤلاء المماليك كانوا من مماليك يلبغا العمري مملوك السلطان حسن ومنهم صرغتمش واسند مروآلجاي اليوسفي وهم كثيرون مختلفي الأجناس ومنهم من جنس الجركس فلم يزالوا في اختلاف ومقت وهياج وحقد للدولة إلى أن تحيلوا وتراجعوا وتدخلوا في الدولة فاستقر أمرهم على أن طائفة منهم سكنوا بالطباق ودخلوا في مماليك الأسياد أي أولاد السلطان ومنهم من بقي أمير عشرة لا غير ومنهم من انضم إلى المماليك السلطانية ومماليك الأمراء وكانوا أرذل مذكور في الإقليم المصري‏.‏

فلما عزم الأشرف على الحج وأخذ في أسباب ذلك انتهزوا عند ذلك الفرصة وكتموا أمرهم ومكروا مكرهم وتواعدوا مع أصحابهم الذين بصحبة السلطان أنهم يثيرون الفتنة مع السلطان في العقبة وكذلك المقيمون بمصر يفعلون فعلهم حتى ينقضوا نظام الدولة ويزيلوا السلطان والأمراء‏.‏

ولما خرج السلطان من مصر خرج في أبهة عظيمة وتجمل زائد بعد أن رتب الأمور وأستخلف بمصر وثغورها من يثق به وأخذ بصحبته من لا يظن فيه الخيانة ومنهم جملة من الجلبان وأبقى منهم ومن غيرهم بمصر كذلك ولا ينفع الحذر من القدر‏.‏

فلما خرج السلطان وبعد عن مصر أثاروا الفتنة بعد أن استمالوا طائفة من المماليك السلطانية وفعلوا ما فعلوه ونادوا بموت السلطان وولوا أبنه ووقفوا مستعدين منتظرين فعل أصحابهم الغائبين مع السلطان وثار أيضا أصحابهم على السلطان في العقبة فانهزم بعد أمور طالا المجيء إلى مصر وصحبته الأمراء الكبار وبعض المماليك ونهبت الخزينة والحج وذهب البعض إلى الشام والبعض إلى الحجاز والبعض إلى مصر صحبة حريم السلطان وجرى ما هو مسطر في الكتاب من ذبح الأمراء واختفاء السلطان وخنقه وتمكن هؤلاء الأجلاب من الدولة ونهبوا بيوت الأموال وذخائر السلطان واقتسموا محاظيه وكذلك الأمراء ووصل كل صعلوك منهم لمراتع الملوك وأزالوا عز الدولة القلاوونية وأخذوا لأنفسهم الأمريات والمناصب وأصبح الذين كانوا بالأمس أسفل الناس ملوك الأرض يجبى إليهم ثمرات كل شيء‏.

الجراكسة ثم وقعت فيهم حوادث وحروب أسفرت عن ظهور برقوق الجركسي أحد مماليك يلبغا العمري واستقراره أميرًا كبيرًا‏.‏

وكان غاية في الدهاء والمكر فلم يزل يدبر لنفسه حتى عزل بن الأشرف وأخذ السلطنة لنفسه وهو أول ملوك الجراكسة بمصر‏.‏

وبالأشرف شعبان هذا وأولاده زالت دولة القلاوونية وظهرت دولة الجراكسة‏.‏

أولهم برقوق وبعده أبنه فرج وأستمر الملك فيهم وفي أولادهم إلى الأشرف قانصوه الغوري وابتداء دولتهم سنة أربع وثمانين وسبعمائة وانقضاؤها سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة فتكون مدة دولتهم مائة سنة وتسعة وثلاثين سنة‏.‏

وسبب انقضائها فتنة السلطان سليم شاه ابن عثمان وقدومه إلى الديار المصرية فخرج إليه سلطان مصر قانصوه الغوري فلاقاه عند مرج دابق بحلب وخامر عليه أمراؤه خير بك والغزالي فخذلوه وفقدوه ولم يزل حتى تملك السلطان سليم الديار المصرية والبلاد الشامية‏.‏

وأقام خير بك نائبا بها كما هو مسطر ومفصل في تواريخ المتأخرين مثل مرج الزهور لابن إياس وتاريخ القرماني وابن زتبل وغيرهم‏.‏

وعادت مصر إلى النيابة كما كانت في صدر الإسلام ولما خلص له أمر مصر عفا عمن بقي من الجراكسة وأبنائهم ولم يتعرض لأوقاف السلاطين المصرية بل قرر مرتبات الأوقاف والخيرات والعلوفات وغلال الحرمين والأنبار ورتب للأيتام والمشايخ والمتقاعدين ومصارف القلاع والمرابطين وأبطل المظالم والمكوس والمغارم‏.‏

ثم رجع إلى بلاده وأخذ معه الخليفة العباسي وانقطعت الخلافة والمبايعة واخذ صحبته ما انتقاه من أرباب الصنائع التي لم توجد في بلاده بحيث أنه فقد من مصر نيف وخمسون صنعة‏.‏

ولما توفي تولى بعد ابنه المغازي السلطان سليمان عليه الرحمة والرضوان فأسس القواعد وتمم المقاصد نظم الممالك وأنار الحوالك ورفع منار الدين وأخمد نيران الكافرين وسيرته الجميلة أغنت عن التعريف وتراجمه مشحونة بها التصانيف‏.‏

ولم تزل البلاد منتظمة في سلكهم ومنقادة تحت حكمهم من ذلك الأوان الذي استولوا عليها فيه إلى هذا الوقت الذي نحن فيه وولاة مصر نوابهم وحكامهم أمراؤهم‏.‏

وكانوا في صدر دولتهم من خير من تقلد أمور الأمة بعد الخلفاء المهديين وأشد من ذب عن الدين وأعظم من جاهد في المشركين‏.‏

فلذلك اتسعت ممالكهم بما فتحه الله على أيديهم وأيدي نوابهم وملكوا أحسن المعمور من الأرض ودانت لهم الممالك في الطول والعرض‏.‏

هذا مع عدم إغفالهم الأمر وحفظ النواحي والثغور وإقامة الشعائر الإسلامية والسنن المحمدية وتعظيم العلماء وأهل الدين وخدمة الحرمين الشريفين والتمسك في الأحكام والوقائع بالقوانين والشرائع‏.‏

فتحصنت دولتهم وطالت مدتهم وهابتهم الملوك وانقاد لهم المالك والمملوك‏.‏

ومما يحسن إيراده هنا ما حكاه الأسحاقي في تاريخه أنه لما تولى السلطان سليم ابن السلطان سليمان المذكور كان لوالده مصاحب يدعى شمسي باشا العجمي ولا يخفى ما بين آل عثمان والعجم من العداوة المحكمة الأساس فأقر السلطان سليم شمسي باشا العجمي مصاحبًا على ما كان عليه أيام والده وكان شمسي باشا المذكور له مداخل عجيبة وحيل غريبة يلقيها في قالب مرض ومصاحبة يسحر بها العقول فقصد أن يدخل شيئا منكرًا يكون سببًا لخلخلة دولة آل عثمان وهو قبول الرشاوي من أرباب الولاة والعمال‏.‏

فلما تمكن من مصاحبة السلطان قال له على سبيل العرض‏:‏ عبدكم فلان المعزول من منصب كذا وليس بيده منصب الأن قصده من فيض إنعامكم عليه المنصب الفلاني ويدفع إلى الخزينة كذا وكذا‏.‏

فلما سمع السلطان سليم ما أبداه شمسي باشا علم أنها مكيدة منه وقصده إدخال السوء بيت آل عثمان فتغير مزاجه وقال له‏:‏ يا رافضي تريد أن تدخل الرشوة بيت السلطنة حتى يكون ذلك سببا لأزالتها‏.‏

وأمر بقتله فتلطف به وقال له‏:‏ يا باشا لا تعجل هذه وصية والدك لي فإنه قال لي أن السلطان سليم صغير السن وربما يكون عنده ميل للدنيا فاعرض عليه هذا الأمر فإن جنح إليه فامنعه بلطف فإن أمتنع فقل له هذه وصية والدك فدم عليها ودعا له بالثبات وخلص من القتل‏.‏

فانظر يا أخي وتأمل فيما تضمنته هذه الحكاية من المعاني‏.‏

وأقول بعد ذلك يضيق صدري ولا ينطلق لساني وليس الحال لمجهول حتى يفصح عنه اللسان بالقول وقد أخرسني العجز أن أفتح فما أفغير الله أبتغي حكمًا‏.‏ وفي

أثناء الدولة العثمانية ونوابهم وأمرائهم المصرية

ظهر في عسكر مصر سنة جاهلية وبدعة شيطانية زرعت فيهم النفاق وأسست فيما بينهم الشقاق ووافقوا فيها أهل الحرف اللئام في قولهم سعد وحرام وهو أن الجند بأجمعهم اقتسموا قسمين و احتزبوا بأسرهم حزبين‏:‏ فرقة يقال لها فقارية وأخرى تدعى قاسمية ولذلك أصل مذكور وفي بعض سير المتأخرين مسطور لا بأس بإيراده في المسامرة تتميما للغرض في مناسبة المذاكرة وهو أن السلطان سليم شاه لما بلغ من ملك الديار المصرية مناه وقتل من قتل من الجراكسة وسامهم في سوق المواكسة قال يومًا لبعض جلسائه وخاصته وأصدقائه‏:‏ يا هل ترى هل بقي أحد من الجراكسة نراه وسؤال من جنس ذلك ومعناه‏.‏

فقال له خير بك‏:‏ نعم أيها الملك العظيم هنا رجل قديم يسمى سودون الأمير طاعن في السن كبير رزقه الله تعالى بولدين شهمين بطلين لا يضاهيهما أحد في الميدان ولا يناظرهما فارس من الفرسان‏.‏

فلما حصلت هذه القضية تنحى عن المفارشة بالكلية وحبس ولديه بالدار وسد أبوابه بالأحجار وخالف العادة واعتكف على العبادة‏.‏

وهو إلى الآن مستمر على حالته مقيم في بيته وراحته‏.‏

فقال السلطان‏:‏ هذا والله رجل عاقل خبير كامل ينبغي لنا أن نذهب لزيارته ونقتبس من بركته وإشارته قوموا بنا جملة نذهب إليه على غفلة لكي أتحقق المقال وأشاهده على أي حالة هو من الأحوال‏.‏

ثم ركب في الحال ببعض الرجال إلى أن توصل إليه ودخل عليه فوجده جالسا على مسطبة الإيوان وبين يديه المصحف وهو يقرأ القرآن وعنده خدم واتباع وعبيد ومماليك أنواع فعندما عرف أنه السلطان بادر لمقابلته بغير توان وسلم عليه ومثل بين يديه فأمره بالجلوس ولاطفه بالكلام المأنوس إلى أن اطمأن خاطره وسكنت ضمائره فسأله عن سبب عزلته وامتناعه عن خلطته بعشيرته فأجابه أنه لما رأى في دولتهم اختلال الأمور وترادف الظلم والجور وأن سلطانهم مستقل برأيه فلم يصغ إلى وزير ولا عاقل مشير وأقصى كبار دولته وقتل أكثرهم بما أمكنه من حيلته وقلد مماليكه الصغار مناصب الأمراء الكبار ورخص لهم فيما يفعلون وتركهم وما يفترون فسعوا بالفساد وظلموا العباد وتعدوا على الرعية حتى في المواريث الشرعية فانحرفت عنه القلوب وابتهلوا إلى علام الغيوب فعلمت أن أمره في أدبار ولابد لدولته من الدمار فتنحيت عن حال الغرور وتباعدت عن نار الشرور ومنعت ولدي من التداخل في الأهوال وحبستهما عن مباشرة القتال خوفًا عليهما لما أعلمه فيهما من الأقدام فيصيبهما كغيرهما من البلاء العام‏.‏

فإن عموم البلاء منصوص واتقاء الفتن بالرحمة مخصوص‏.‏

ثم أحضر ولديه المشار إليهما وأخرجهما من محبسهما فنظر إليهما السلطان فرأى فيهما مخايل الفرسان الشجعان وخاطبهما فأجاباه بعبارة رقيقة وألفاظ رشيقة ولم يخطئا في كل ما سألهما فيه ولم يتعديا في الجواب فضل التشبيه والتنبيه ثم أحضروا ما يناسب المقام من موائد الطعام فأكل وشرب ولذ وطاب وحصل له مزيد الانشراح وكمال الارتياح‏.‏

وقدم الأمير سودون إلى السلطان تقادم وهدايا وتفضل عليه الخان أيضا بالأنعام والعطايا وأمر بالتوقيع لهم حسب مطالبهم‏.‏

ورفع درجة منازلهم ومراتبهم ولما فرغ من تكرمه وإحسانه ركب عائدًا إلى مكانه وأصبح ثاني يوم ركب السلطان مع القوم وخرج إلى الخلا بجمع من الملا وجلس ببعض القصور ونبه على جميع أصناف العساكر بالحضور فلم يتأخر منهم أمير ولا كبير ولا صغير فطلب الأمير سودون وولديه فحضرا بين يديه فقال لهم‏:‏ أتدرون لم طلبتكم وفي هذا المكان جمعتكم‏.‏

فقالوا‏:‏ لا يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب فقال‏:‏ أريد أن يركب قاسم وأخوه ذو الفقار ويترامحا ويتسابقا بالخيل في هذا النهار‏.‏

فامتثلا أمره المطاع لأنهما صارا من الجند والأتباع فنزلا وركبا ورمحا ولعبا واظهرا من أنواع الفروسية الفنون حتى شخصت فيهما العيون وتعجب منهما الأتراك لأنهم ليس لهم في ذلك الوقت أدراك‏.‏

ثم أشار إليهما فنزلا عن فرسيهما وصعدا إلى أعلى المكان فخلع عليهما السلطان وقلدهما أمارتان ونوه بذكرهما بين الأقران وتقيدا بالركاب ولازما في الذهاب والإياب‏.‏

ثم خرج في اليوم الثاني وحضر الأمراء والعسكر المتواني فأمرهم أن ينقسموا بأجمعهم قسمين وينحازوا بأسرهم فريقين قسم يكون رئيسهم ذو الفقار والثاني أخوه قاسم الكرار‏.‏

وأضاف إلى ذو الفقار أكثر فرسان العثمانيين وإلى قاسم أكثر الشجعان المصريين وميز الفقارية بلبس الأبيض من الثياب وأمر القاسمية أن يتميزوا بالأحمر في الملبس والركاب‏.‏

وأمرهم أن يركبوا في الميدان على هيئة المتحاربين وصورة المتنابذين المتخاصمين فأذعنوا بالانقياد وعلوا على ظهور الجياد وساروا بالخيل وانحدروا كالسيل وانعطفوا متسابقين ورمحوا متلاحقين وتناوبوا في النزال واندفعوا كالجبال وساقوا في الفجاج وأثاروا العجاج ولعبوا بالرماح وتقابلوا بالصفاح وارتفعت الأصوات وكثرت الصيحات وزادت الهيازع وكثرت الزعازع وكاد الخرق يتسع على الراقع وقرب أن يقع القتل والقتال فنودي فيهم عند ذلك بالانفصال‏.‏

فمن ذلك اليوم افترق أمراء مصر وعساكرها فرقتين واقتسموا بهذا اللعبة حزبين‏.‏

واستمر كل منهم على محبة اللون الذي ظهر فيه وكره اللون الآخر في كل ما يتقلبون فيه حتى أواني المتناولات والمأكولات والمشروبات والفقارية يميلون إلى نصف سعد والعثمانيين والقاسمية لا يألفون النصف حرام والمصريين‏.‏

وصار فيهم قاعدة لا يتطرقها اختلال ولا يمكن الانحراف عنها بحال من الأحوال ولم يزل الأمر يفشو ويزيد ويتوارثه السادة والعبيد حتى تجسم ونما واهريقت فيه الدماء‏.‏

فكم خربت بلاد وقتلت أمجاد وهدمت دور وأحرقت قصور وسبيت أحرار وقهرت أخيار‏.‏

وقيل غير ذلك وأن أصل القاسمية ينسبون إلى قاسم بك الدفتردار تابع مصطفى بك والفقارية نسبة إلى ذي الفقار بك الكبير وأول ظهور ذلك من سنة خمسين وألف والله أعلم بالحقائق‏.‏

وأتفق أن قاسم بك المذكور انشأ في بيته قاعة جلوس وتأنق في تحسينها وعمل فيها ضيافة لذي الفقار بك أمير الحاج المذكور فأتى عنده وتغدى عنده بطائفة قليلة ثم قال له ذو الفقار بك‏:‏ وأنت أيضا تضيفني في غد وجمع ذو الفقار مماليكه في ذلك اليوم صناجق وأمراء واختيارية في الوجاقات وحضر قاسم بك بعشرة من طائفته واثنين خواسك خلفه والسعاة والسراج فدخل عنده في البيت وأوصى ذو الفقار أن لا أحد يدخل عليهما إلا بطلب إلى أن فرشوا السماط وجلس صحبته على السماط‏.‏

فقال قاسم بك‏:‏ حتى يقعد الصناجق والاختيارية‏.‏

فقال ذو الفقار‏:‏ أنهم يأكلون بعدنا هؤلاء جميعهم مماليكي عندما أموت يترحمون علي ويدعون لي وأنت قاعتك تدعو لك بالرحمة لكونك ضيعت المال في الماء والطين‏.‏

فعند ذلك تنبه قاسم بك وشرع ينشئ إشراقات كذلك وكانت الفقارية موصوفة بالكثرة والكرم والقاسمية بكثرة المال والبخل‏.‏

وكان الذي يتميز به أحد الفريقين من الآخر إذا ركبوا في المواكب أن يكون بيرق الفقاري أبيض ومزاريقه برمانة وبيرق القاسمية أحمر ومزاريقه بجلبة‏.‏

ولم يزل الحال على ذلك‏.‏

واستهل القرن الثاني عشر وأمراء مصر فقارية وقاسمية‏:‏ فالفقارية ذو الفقار بك وإبراهيم بك أمير الحاج ودرويش بك واسمعيل بك ومصطفى بك قزلار وأحمد بك قزلار بجدة ويوسف بك القرد وسليمان بك بارم ذيله ومرجان جوزبك كان أصله قهوجي السلطان محمد قلدوه صنجقا فقاريا بمصر الجميع تسعة وأمير الحاج منهم والقاسمية مراد بك الدفتر دار ومملوكه ايواظ بك وإبراهيم بك أبو شنب وقانصوه بك وأحمد بك منوفيه وعبد الله بك‏.‏

ونواب مصر من طرف السلطان سليمان بن عثمان في أوائل القرن حسن باشا السلحدار سنة تسع وتسعين وألف وسنة مائة وواحد بعد الألف والسلطان في ذلك الوقت السلطان سليمان بن إبراهيم خان وتقلد إبراهيم بك أبو شنب إمارة الحاج واسمعيل بك الدفتردار وذلك سنة تسع وتسعين‏.‏ وفي

أواخر الحجة سنة تسع وتسعين وألف

حصلت واقعة عظيمة بين إبراهيم بك ابن ذي الفقار وبين العرب الحجازيين خلف جبل الجيوشي وقتلوا كثيرًا من العرب ونهبوا أرزاقهم ومواشيهم وأحضر منهم أسرى كثيرة ووقفت العرب في طريق الحج تلك السنة بالشرفة فقتلوا من الحاج خلقًا كثيرًا وأخذوا نحو ألف جمل بأحمالها وقتلوا خليل كتخدا الحج فعين عليهم خمسة أمراء من الصناجق فوصلوا إلى العقبة وهرب العربان‏.‏

وفي أيامه سافر ألفًا شخص من العسكر وألبسوا عليهم مصطفى بك طكوز جلان وسافروا إلى ادرنه في غرة جمادى الأولى سنة مائة وألف‏.‏

وفي رابع جمادى الثانية خنق الباشا كتخدا بعد أن أرسله إلى دير الطين على أنه يتوجه إلى جرجا لتحصيل الغلال وذلك لذنب نقمه عليه‏.‏

وفي شعبان نقب المحابيس العرقانة وهرب المسجونون منها‏.‏

وفي أيامه غلت الأسعار مع زيادة النيل وطلوعه في أوانه على العادة ثم عزل حسن باشا ونزل إلى بيت محمد بك حاكم جرجا المقتول وتولى قيطاس بك قائمقام فكانت مدته هذه المرة سنة واحدة وتسعة أشهر‏.‏

ثم تولى أحمد باشا وكان سابقا كتخدا إبراهيم باشا الذي مات بمصر وحضر أحمد باشا من طريق البر وطلع إلى القلعة في سادس عشر المحرم سنة مائة وإحدى وألف ووصل آغا بطلب ألفي عسكري وعليهم صنجق يكون عليهم سر دار فعينوا مصطفى بك حاكم جرجا سابقًا وسافر في منتصف جمادى الآخرة‏.‏

وفي هذا التاريخ سافرت تجريدة عظيمة إلى ولاية البحيرة والبهنسا وعليهم صنجقان وتوجهوا في ثاني عشر جمادى الآخرة وسافر أيضا خلفهم اسمعيل بك وجميع الكشاف وكتخدا الباشا وأغوات البلكات وكتخدا الجاويشية وبعض اختيارية وحاربوا ابن وافي وعربانه مرارًا ثم وقعت بينهم وقعة كبيرة فهزم فيها الأحزاب وولوا منهزمين نحو الغرق وأما قيطاس بك وحسن آغا بلغيا وكتخدا الباشا فأنهم صادفوا جمعًا من العرب في طريقهم فأخذوهم ونهبوا مالهم وقطعوا منهم رؤوسًا ثم حضر والي مصر‏.‏

وفي أنامهم كانت وقعة ابن غالب شريف مكة ومحاربته بها مع محمد بك حاكم جدة فكانت الهزيمة على الشريف‏.‏

وتولى السيد محسن بن حسين بن زيد إمارة مكة ونودي بالأمان بعد حروب كثيرة وزينت مكة ثلاثة أيام بلياليها وذلك في منتصف رجب ومرض أحمد باشا وتوفي ثاني عشر جمادى الآخرة سنة اثنتين ومائة وألف ودفن بالقرافة فكانت مدته سنة واحدة وستة أشهر‏.‏

ومن مآثره ترميم الجامع المؤيدي وقد كان تداعى إلى السقوط فأمر بالكشف عليه وعمره ورمه‏.‏

وفي رابع عشر رجب توفي قيطاس بك الدفتر دار‏.‏

وفي ثاني يوم حضر قانصوه بك تابع المتوفى من سفره بالخزينة مكان كتخدا الباشا المتولي قائمقام بعد موت سيده فألبس قانصوه بك دفتردار ثم ورد مرسوم بولاية علي كتخدا الباشا قائمقام وأذن بالتصرف إلى آخر مسرى فكانت مدة تصرفه أربعة وتسعين يومًا ثم تولى علي باشا وحضر من البحر إلى القلعة في ثاني عشر رمضان سنة اثنتين ومائة وألف وحضر صحبته تترخان وأقام بمصر إلى أن توجه إلى الحج ورجع على طريق الشام‏.‏

وفي ثاني عشر القعدة حضر قرا سليمان من الديار الرومية ومعه مرسوم مضمونه الخبر بجلوس السلطان أحمد بن السلطان إبراهيم فزينت مصر ثلاثة أيام وضربت مدافع من القلعة‏.‏

وفي ثالث عشر صفر سنة ثلاث ومائة وألف ورد نجاب من مكة وأخبر بان الشريف سعد تغلب على محسن وتولى إمارة مكة فأرسل الباشا عرضًا إلى السلطنة بذلك‏.‏

وفي ثامن ربيع أول ورد مرسوم مضمونه ولاية نظر الدشابش والحرمين لأربعة من الصناجق فتولى إبراهيم بك ابن ذي الفقار أمير الحج حالًا عوضًا عن اغات مستحفظان ومراد بك الدفتردار على المحمدية عوضًا عن كتخدا مستحفظان وعبد الله بك على وقف الخاصكية عوضًا عن كتخدا العزب واسمعيل بك على أوقاف الحرمين عوضًا عن باش جاويش مستحفظان‏.‏

فألبسهم علي باشا قفاطين على ذلك‏.‏

وفي مستهل رمضان من السنة حضر من الديار الرومية الشريف سعد بن زيد بولاية مكة وتوجه إلى الحجاز‏.‏

وفي شهر شوال سافر علي كتخدا أحمد باشا المنوفي إلى الروم‏.‏

وفي تاريخه تقلد اسمعيل بك الدفتردارية عوضا عن مراد بك‏.‏

وفي ثالث عشر شوال قتل جلب خليل كتخدا مستحفظان ببابهم وحصلت في بابهم فتنة أثارها كحك محمد وأخرجوا سليم أفندي من بلكهم ورجب كتخدا والبسوهما الصنجقية في ثالث عشرينه وأبطل كجك محمد الحمايات من مصر باتفاق السبع بلكات وأبطلوا جميع ما يتعلق بالعزب والإنكشارية من الحمايات بالثغور وغيرها‏.‏

وكتب بذلك بيورلدي ونادوا به في الشوارع‏.‏

وفي غرة القعدة قبض الباشا على سليم أفندي وخنقه بالقلعة و نزل إلى بيته محمولًا في تابوت وتغيب رجب كتخدا ثم استعفى من الصنجقية فرفعوها عنه وسافر إلى المدينة‏.‏

وفي ثامن عشر ربيع الأول ورد مرسوم بتزيين الأسواق بمصر وضواحيها بمولودين توأمين رزقهما السلطان أحمد سمي أحدهما سليمان والآخر إبراهيم‏.‏

وفي ثاني عشر شعبان سافر حسين بك أبو يدك بألف نفر من العسكر لاحقًا بإبراهيم بك أبي شنب وقد كان سافر في أواخر ربيع الأول لقلعة كريد‏.‏

وفي ثاني عشر رمضان سنة خمس ومائة وألف الموافق الحادي عشر بشنس هبت ريح شديدة وتراب أظلم منه الجو وكان الناس في صلاة الجمعة فظن الناس أنها القيامة وسقطت المركب التي على منارة جامع طولون وهدمت دوركثيرة‏.‏

سنة ست ومائة وألف وقصر مد النيل تلك السنة وهبط بسرعة فشرقت الأراضي ووقع الغلاء والفناء‏.‏

وفي شهر الحجة سافر أناس من مكة إلى دار السلطنة وشكوا من ظلم الشريف سعد فعين إليه محمد بك نائب جدة واسمعيل باشا نائب الشام فوردا بصحبة الحاج فتحاربوا معه ونزعوه ونهب العسكر منزله وولوا الشريف عبد الله بن هاشم على مكة ثم بعد عود الحاج رجع سعد وتغلب وطرد عبد الله بن هاشم‏.‏

وفي هذه السنة وقعت مصالحات في المال الميري بسبب الري والشراقى‏.‏

وفي ثاني عشر جمادى الآخرة حضر الشريف أحمد بن غالب أمير مكة مطرودًا من الشريف سعد‏.‏

وفي ثامن عشر رجب سنة ألف ومائة وستة ورد الخبر بجلوس السلطان مصطفى بن محمد‏.‏

وفي ثاني عشر شعبان طلع أحمد بك بموكب مسافر اباش على ألف عسكري إلى انكروس وطلع بعده أيضا في سابع عشرينه اسمعيل بك بألف عسكري لمحافظة رودس بموكب إلى بولاق فأقام بها ثلاثة أيام ثم سافر إلى الإسكندرية‏.‏

وفي رابع شعبان ورد مرسوم بضبط أموال نذير آغا واسمعيل آغا الطواشيين فسجنوهما بباب مستحفظان وضبطوا أموالهما وختموها‏.‏

وفي خامس شوال أنهى أرباب الأوقاف والعلماء والمجاورون بالأزهر إلى علي باشا امتناع الملتزمين من دفع خراج الأوقاف وخراج الرزق المرصدة على المساجد وما يلزم من تعطيل وفي شوال أرسل الباشا إلى مراد بك الدفتردار بعمل جمعية في بيته بسبب غلال الانبار فاجتمعوا وتشاوروا في ذلك فوقع التوافق أن البلاد الشرقي تبقى غلالها إلى العام المقبل وأما الري فيدفع ملتزموها ما عليهم‏.‏

وأخذوا أوراقا بيعت بالثمن اشتراها الملتزمون من أرباب الاستحقاق عن الجراية مائة وخمسون نصفًا وغلق الملتزمون ما عليهم بشراء الوصولات‏.‏

وفي ثاني عشر شوال ورد الخبر من منفلوط بان الشريف فارس بن اسمعيل التيتلاوي قتل عبد الله بن وافي شيخ عرب المغاربة‏.‏

وفي حادي عشر القعدة ورد آغا بمرسوم بمبيع متاع نذير آغا واسمعيل آغا المعتقلين وضبط أثمانها ما عدا الجواهر والذخائر التي اختلسوها من السرايا فأنها تبقى بأعيانها وأن يفحص عن أموالهما وأماناتهما وأن يسجنا في قلعة الينكجرية ففعل بهم ذلك وبلغ أثمان المبيعات ألفا وأربعمائة كيس خلاف الجواهر والذخائر فأنها جهزت مع الأموال صحبة الخزينة على يد سليمان بك كاشف ولاية المنوفية‏.‏

سنة سبع ومائة وألف وفي منتصف المحرم أجتمع الفقراء والشحاذون رجالًا ونساءً وصبيانًا وطلعوا إلى القلعة ووقفوا بحوش الديوان وصاحوا من الجوع فلم يجبهم أحد فرجموا بالأحجار‏.‏

فركب الوالي وطردهم فنزلوا إلى الرميلة ونهبوا حواصل الغلة التي بها ووكالة القمح وحاصل كتخدا الباشا وكان ملآنًا بالشعير والفول وكانت هذه الحادثة ابتداء الغلاء حتى بيع الاردب القمح بستمائة نصف فضة والشعير بثلاثمائة والفول بأربعمائة وخمسين والأرز بثمانمائة نصف فضة وأما العدس فلا يوجد‏.‏

وحصل شدة عظيمة بمصر وأقاليمها وحضرت أهالي القرى والأرياف حتى امتلأت منهم الأزقة واشتد الكرب حتى أكل الناس الجيف ومات الكثير من الجوع وخلت القرى من أهاليها وخطف الفقراء الخبز من الأسواق ومن الأفران ومن على رؤوس الخبازين‏.‏

ويذهب الرجلان والثلاثة مع طبق الخبز يحرسونه من الخطيف وبأيديهم العصي حتى يخبزوه بالفرن ثم يعودون به‏.‏

واستمر الأمر على ذلك إلى أن عزل علي باشا في ثامن عشر المحرم سنة سبع ومائة ألف‏.‏

وورد مسلم اسمعيل باشا من الشام وجعل إبراهيم بك أبا شنب قائمقام ونزل علي باشا إلى منزل أحمد كتخدا العزب المطل على بركة الفيل فكانت مدته أربع سنوات وثلاثة أشهر وأيامًا ثم تولى اسمعيل باشا وحضر من البر وطلع إلى القلعة بالموكب على العادة في يوم الخميس سابع عشر صفر فلما استقر في الولاية ورأى ما فيه الناس من الكرب والغلاء أمر بجميع الفقراء والشحاذين بقراميدان فلما اجتمعوا أمر بتوزيعهم على الأمراء والأعيان كل إنسان على قدر حاله وقدرته وأخذ لنفسه جانبا ولأعيان دولته جانبًا وعين لهم ما يكفيهم من الخبز والطعام صباحًا ومساءً إلى أن انقضى الغلاء وأعقب ذلك وباء عظيم فأمر الباشا بيت المال أن يكفن الفقراء والغرباء فصاروا يحملون الموتى من الطرقات ويذهبون بهم إلى مغسل السلطان عند سبيل المؤمن إلى أن انقضى أمر الوباء وذلك خلاف من كفنه الأغنياء وأهل الخير من الأمراء والتجار وغيرهم وانقضى ذلك في آخر شوال‏.‏

وتوفي فيه الشيخ زين العابدين البكري وإبراهيم بك ابن ذي الفقار أمير الحاج وغيرهما‏.‏

ولما انقضى ذلك عمل الباشا مهما عظيما لختان ولده إبراهيم بك وختن معه ألفين وثلاثمائة وستة وثلاثين غلاما من أولاد الفقراء ورسم لكل غلام بكسوة كاملة ودينار‏.‏

وورد مرسوم بمحاسبة علي باشا المنفصل فحوسب فطلع عليه ستمائة كيس فختموا منزله وباعوا موجوداته حتى غلق ذلك‏.‏

وورد أمر بالزينة بسبب نصره فزينت المدينة وضواحيها ثلاثة أيام‏.‏

وفي رجب ورد مرسوم بطلب ألفين من العسكر وأميرهم مراد بك فلبس الخلع هو وأرباب المناصب وسافروا في حادي عشر شعبان‏.‏

وفي سابع عشر رجب سنة سبع ومائة وألف تقلد قيطاس بك تابع أمير الحاج ذي الفقار بك الصنجقية عوضا عن ابن سيده إبراهيم بك وورد الإفراج عن نذير آغا ورتب له خمسمائة عثماني وخمس جرايات وعشر علائف في ديوان مصر واستمر رفيقه اسمعيل آغا في السجن‏.‏

وفي رابع رجب ورد أحمد بك من السفر وفي سابعه تقلد أيوب بك إمارة الحج‏.‏

وفي ثاني شعبان ورد اسمعيل راجعا من السفر سنة ثمان ومائة وألف وفي ثالث عشر ربيع الأول ورد أمر بتزيين أسواق مصر سرورًا بمولود للسلطان وسمي محمودًا‏.‏

وورد أيضا الخبر باستشهاد مراد بك‏.‏

قتل ياسف اليهودي وفي ثالث عشر رمضان من السنة قامت العساكر على ياسف اليهودي‏.‏

قتلوه وجروه من رجله وطرحوه في الرميلة و قامت الرعايا فجمعوا حطبًا وأحرقوه وذلك يوم الجمعة بعد الصلاة‏.‏

وسبب ذلك أنه كان ملتزمًا بدار الضرب في دولة علي باشا المنفصل ثم طلب إلى اسلامبول وسئل عن أحوال مصر فأملى أمورًا والتزم بتحصيل الخزينة زيادة عن المعتاد وحسن بمكره أحداث محدثات ولما حضر مصر تلقته اليهود من بولاق واطلعوه إلى الديوان وقرأت الأوامر التي حضر بها ووافقه الباشا على أجرائها وتنفيذها‏.‏

وأشهر النداء بذلك في شوارع مصر فاغتنم الناس وتوجه التجار وأعيان البلد إلى الأمراء وراجعوهم في ذلك فركب الأمراء والصناجق وطلعوا إلى القلعة وفاوضوا الباشا فجادلهم بما لا يرضيهم فقاموا عليه قومة واحدة وسألوه أن يسلمهم اليهودي فامتنع من تسليمه فاغلظوا عليه وصمموا على أخذه منه فأمرهم بوضعه في العرقانة ولا يشوشوا عليه حتى ينظروا في أمره ففعلوا به كما أمرهم فقامت الجند على الباشا وطلبوا أن يسلمهم اليهودي المذكور ليقتلوه فامتنع فمضوا إلى السجن وأخرجوه وفعلوا به ما ذكر‏.‏

وفي تاريخه أحضر الباشا الشيخ محمد الزرقاني أحد شهود المحكمة بسبب أنه كتب حجة وقف منزل آل إلى بيت المال فأمر بحلق لحيته وتشهيره على جمل في الأسواق والمنادي ينادي عليه‏:‏ هذا جزاء من يكتب الحجج الزور‏.‏

ثم أمر بنفيه إلى جزيرة الطينة‏.‏

وفي صفر وردت سكة دينار عليها طرة فجمع الباشا الأمراء وأحضر أمين الضربخانة وسلمها له وأمره أن يطبع بها وأن يكون عيار الذهب اثنين وعشرين قيراطا والوزن كل مائة شريفي مائة وخمسة عشر درهما وسعر أبي طرة مائة وخمسة عشر نصفًا‏.‏

وفي ذلك الشهر لبس عبد الرحمن بك على ولاية جرجا وتوجه إليها‏.‏

وفي ثاني عشر ربيع الأول قامت العسكر المصرية وعزلوا الباشا فكانت مدة اسمعيل باشا سنتين وتقلد مصطفى بك قائمقام مصر إلى أن حضر حسين باشا من صيدا وطلع إلى القلعة في موكب عظيم سنة تسع ومائة وألف في منتصف رجب ورد مرسوم بطلب تجهيز ألفي نفر من العسكر وعليهم يوسف بك المسلماني فقضى أشغاله وسافر في تاسع عشر رمضان‏.‏

وفي منتصف شهر ذي الحجة خرج اسمعيل باشا إلى العادلية ليسافر‏.‏

وكان قد حاسبه حسين باشا فتأخر عليه خمسون ألف اردب دفع عنها خمسين كيسًا وباع منزله وبلاد البدرشين التي كان قد وقفها وتوجه إلى بغداد‏.‏ وفي

سنة عشر ومائة وألف

أخذ أرباب الاستحقاقات الجراية والعلائف بثمن عن كل أردب قمح خمسة وعشرون نصفًا وفي آخر جمادى الثانية ظهر رجل من أهل الفيوم يدعى بالعليمي قدم إلى القاهرة وأقام بظهر القهوة المواجه لسبيل المؤمن فاجتمع عليه كثير من العوام وادعوا فيه الولاية وأقبلت عليه الناس من كل جهة واختلط النساء بالرجال وكاد يحصل بسببه مفاسد عظيمة‏.‏

فقامت عليه العسكر وقتلوه بالقلعة ودفن بناحية مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها‏.‏

وفي رابع عشر شوال كانت واقعة المغاربة من أهل تونس وفاس وذلك أن من عادتهم أن يحملوا كسوة الكعبة التي تحمل كل سنة للبيت الحرام ويمرون بها في وسط القاهرة وتحمل المغاربة جانبًا منها للتبرك بها ويضربون كل من رأوه يشرب الدخان في طريق مرورهم‏.‏

فرأوا رجلًا من اتباع مصطفى كتخدا القازدغلي فكسروا إنبوبته وتشاجروا معه وشجوا رأسه وكان في مقدمتهم طائفة منهم متسلحون وزاد التشاجر واتسعت القضية وقام عليهم أهل السوق‏.‏

وحضر أوده باشة البوابة فقبض على أكثرهم ووضعهم في الحديد وطلع بهم إلى الباشا وأخبروه بالقضية فأمر بسجنهم بالعرقانة‏.‏

فاستمروا حتى سافر الحج من مصر ومات منهم جماعة في السجن ثم أفرج عن باقيهم‏.‏

ثم تولى قره محمد باشا وحضر إلى مصر منتصف ربيع الثاني سنة إحدى عشرة ومائة وألف وهو كتخدا اسمعيل باشا المتقدم ذكره‏.‏

وفي أيامه سنة أربع عشرة حصلت حادثة الفضة وفي سنة خمس عشرة وردت الأخبار بوفاة السلطان مصطفى وجلوس السلطان أحمد بن محمد خان في سابع عشر ربيع الآخر منها وأمر الباشا بقطع سقائف الدكاكين لأجل توسعة الطرق والأسواق ففعل ذلك ثم أمر بقطع الأرض وتمهيدها فحفروا نحو ذراع أو أكثر من الأسواق ففعل ذلك‏.‏

ثم أمر بقطع الأرض إلى أن كشفت الجدران‏.‏

ومكث محمد باشا واليًا بمصر خمس سنوات إلى أن عزل في شهر رجب سنة ست عشرة ومائة وألف‏.‏

ومن مآثره تعمير الأربعين الذي بجوار باب قراميدان وأنشأ فيه جامعًا بخطبة وتكية لفقراء الخلواتية من الاروام وأسكنهم بها وأنشأ تجاهها مطبخًا ودار ضيافة للفقراء وفي علوها مكتبا للأطفال يقرؤون فيه القرآن ورتب لهم ما يكفيهم‏.‏

وأنشأ فيما بينها وبين البستان المعروف بالغوري حمامًا فسيحًا مفروشًا بالرخام الملون وجدد بستان الغوري وغرس فيه الأشجار ورمم قاعة الغوري التي بالبستان وعمر بجوار المنزل سكن أميراخور وبنى مسطبة عظيمة برسم إلباس القفاطين وتسليم المحمل لأمير الحج وأرباب المناصب وعمر مسطبة يرمى عليها النشاب وأنشأ الحمام البديع بقراميدان ونقل إليه من القلعة حوض رخام صحن قطعة واحدة أنزلوه من السبع حدارات وعملوا به فسقية في وسط المسلخ وعمر بالقرافة مقام سيدي عيسى بن سيدي عبد القادر الجيلاني وجعل به فقراء مجاورين ورتب لهم ما يكفيهم وأنشأ صهريجًا بداخل القلعة بجوار نوبة الجاويشية ورتب فيها خمسة عشر نفرًا يقرؤون القرآن كل يوم بعد الشمس وهو الذي تسبب في قتل عبد الرحمن بك حاكم جرجا لحزازة معه من أجل مخدومه اسمعيل باشا وسيأتي تتمة ذلك في خبره عند ذكر ترجمته‏.‏

وتولى رامي محمد باشا وكان تولى الوزارة في زمن السلطان مصطفى وانفصل عنها وجعل محافظًا بجزيرة قبرص ثم حضر منها واليًا على مصر فطلع إلى القلعة في يوم الاثنين سادس شعبان سنة ست عشرة ومائة وألف‏.‏

وفي سبع عشرة تقلد قيطاس بك إمارة الحج عوضًا عن أيوب بك‏.‏

وفي تلك السنة توقف النيل عن الزيادة فضج الناس وابتهلوا بالدعاء وطلب الاستسقاء واجتمعوا على جبل الجيوشي وغيره من الأماكن المعروفة بإجابة الدعاء فاستجاب الله لهم في حادي عشر توت وشذ ذلك من النوازل فروى بعض البلاد وهبط سريعًا فحصل الغلاء وبلغ سعر الاردب القمح مائتين وأربعين فضة والفول كذلك والعدس مائتي نصف فضة والشعير مائة نصف فضة والأرز أربعمائة نصف فضة الاردب وبيع اللحم الضاني كل رطل بثلاثة أنصاف فضة والجاموسي والبقري بنصفي فضة والسمن القنطار بستمائة نصف فضة والزيت بثلاثمائة وخمسين والدجاجة بثمانية أنصاف‏.‏

وعلى هذا فقس والبيض كل ثلاث بيضات بنصف والرطل الشمع الدهن بثمانية أنصاف وكثر الشحاذون في الأزقة وفي سنة ثمان عشرة لم يأت من اليمن ولا من الهند مراكب فشح القماش الهندي وغلا البن حتى بلغ القنطار ألفين وسبعمائة وخمسين نصفًا وغلا الشاش فبيع الفرحات خان بأربعمائة نصف فضة والخنكاري بسبعمائة نصف‏.‏

وفي سادس رجب عزل محمد باشا وحضر مسلم علي باشا‏.‏

وفي تاسعه نزل محمد باشا من القلعة في موكب عظيم وسكن بمنزل أحمد كتخدا العزب سابقًا المطل على بركة الفيل بالقرب من حمام السكران‏.‏

ووصل علي باشا من طريق البحر وذهبت إليه الملاقاة على العادة وأرسى بساحل بولاق يوم الاثنين تاسع شعبان وهو في نحو ألف ومائتي نفس خلاف الأتباع‏.‏

وفي ثاني عشر شعبان سنة ثمان عشرة ركب بالموكب وطلع إلى القلعة وضربوا المدافع لقدومه‏.‏

وفي أواخر هذا الشهر وقعت فتنة بين العزب والمتفرقة وسببها إن شخصًا من تلك العزب يسمى محمد أفندي كاتب صغير سابقًا ثم بعد عزله تولى خليفة في ديوان المقابلة وحصل له تهمة عزل بها من المقابلة ثم عمل سردار بالإسكندرية على طائفة العرب وعمل كتخدا القبودان وركب في المراكب وأشيع أنه غرق في البحر فحلوا اسمه وماله من التعلقات في بابه وغيره‏.‏

وبعد مدة حضر إلى مصر وطلع إلى الديوان وصحح اسمه الذي في العزب وجراياته وتعلقاته وبقي له بعض تعلقات لم يقدر على خلاصها ولم يساعده أهل بابه وأهملوا أمره فتغير خاطره منهم وذهب إلى بلك المتفرقة وانضم إليهم وسألهم أن يخرجوه من العزب ويدخلوه فيهم وجعل يركب معهم كل يوم للديوان ويمر على باب العزب‏.‏

فبينما هو ذات يوم طالع إلى الديوان إذ وقف له جماعة من العزب وقبضوا على لجام فرسه وأنزلوه من على فرسه وحبسوه في بابهم‏.‏

وبلغ الخبر المتفرقة وهم في الديوان وحضر محمد أمين بيت المال في العزب وكان في ذلك اليوم نائبًا عن باش جاويش لتمرضه‏.‏

فعاتبه جماعة المتفرقة على ما فعله جماعته فاغلظ عليهم في الجواب فقبضوا عليه من أطواقه وأرادوا ضربه فدخل بينهم المصلحون وخلصوه من أيديهم‏.‏

فنزل إلى باب العزب وأخبرهم بما فعله المتفرقة فاجتمعت طائفة العزب ووقفوا على بابهم فلما مر عليهم اثنان من جماعة المتفرقة نازلين إلى منازلهم وهما محمد الابدال وصاري علي فلما حاذياهم هجم عليهما طائفة العزب هجمة واحدة وضربوهما ضربًا مؤلمًا وأنزلوهما عن الخيل وشجوهما ونهبوا ما على الخيل من العدد واخذوا ما عليهما من الملبوس‏.‏

فلما وصل الخبر للمتفرقة اجتمعوا مع بقية الوجاقات وقعدوا في باب الينكجرية وأنهوا أمرهم إلى الأغوات والصناجق وأهل الحل والعقد واستمروا على ذلك ثلاثة أيام إلى أن وقع التوافق على إخراج أربعة أنفار الذين كانوا سببًا لإشعال نار الفتنة ونفيهم من مصر وهم أحمد كتخدا العزب ومحمد أمين بيت المال والشريف محمد باش أوده باشه ومحمد أفندي قاضي أوغلي الذي كان الباعث على ذلك فوافق على ذلك الجميع وصمموا عليه فسفروهم إلى جهة الصعيد‏.‏

وفي ثاني شهر الحجة عزل علي آغا مستحفظان وتولى عوضه رضوان آغا كتخدا الجاوشية سابقًا وركب بالشعار المعلوم وقطع ووصل وأمر أهل الأسواق أن يدفعوا الأرطال في دار الضرب بالدمغة السلطانية‏.‏

وجعلوا على كل دمغة نصف فضة فتحصل من ذلك مال له صورة‏.‏

وفي سابع عشر المحرم سنة تسع عشرة ومائة وألف توفي اسمعيل بك الدفتردار وولي أيوب بك عوضه وهو الذي كان أمير الحاج سابقًا‏.‏

وفي سادس صفر ورد مرسوم من السلطان أحمد بأن يكون عيار الذهب اثنين وعشرين قيراطًا وكانوا يقطعونه على ستة عشر‏.‏

وفي يوم الخميس ورد أمر بحبس محمد باشا الرامي وبيع كامل ما يملكه من متاع ملبوس وغيره فحبس بقصر يوسف صلاح الدين وأبطال والي البحر الذي يتولى من باب العزب‏.‏

وفيه وصل الحجاج وقد تأخروا إلى نصف صفر بسبب دخول مراكب الهند وشراء ما بها من الأقمشة‏.‏

وفي شهر ربيع حبس جماعة من أتباع الباشا وهو الكتخدا والخازندار وغيرهم من أرباب وفي ثامن عشر جمادى الآخرة تقلد إبراهيم بك الدفتردارية عوضًا عن أيوب بك بموجب مرسوم سلطاني وفيه عزل رضوان آغا مستحفظان وتولى أحمد آغا ابن بكير أفندي عوضًا عنه‏.‏

وفيه ورد أمر بأبطال نوبة محمد باشا ونفيه إلى جزيرة رودس فنزل من يومه إلى بولاق وأقام بها إلى أن سافر‏.‏

وفي أوائل رجب ورد أمر بعزل علي باشا وحبسه في قصر يوسف واستخلاص ما عليه من الديون إلى تجار اسلامبول وجعل إبراهيم بك قائمقام وحبس علي باشا وبيعت موجوداته وفيها وقعت فتنة بباب الينكجرية فعزلوا إفرنج أحمد باشا أوده باشا وحسين أوده باشا ثم نفوهم إلى الطينة بدمياط‏.‏

ووردت الأخبار بولاية حسين باشا على مصر وقدومه إلى الإسكندرية فقدم إلى مصر في ثالث عشري شعبان سنة تسع عشرة‏.‏

وفيه سافر الشريف يحيى بن بركات إلى مكة بمرسوم سلطاني‏.‏

وفيه فر إفرنج أحمد أوده باشا وحسين آغا من حبس الطينة ودخلا مصر ليلًا فاختبآ عند آغات الجراكسة والتجأ حسين إلى باب التفكجبة‏.‏

وفي خامس عشرينه طلع حسين باشا إلى القلعة بالموكب المعتاد على العادة‏.‏

وفي سادس عشرينه أجتمع الينكجرية بالباب بأسلحتهم لما بلغهم قدوم إفرنج أحمد إلى مصر وقالوا لابد من نفيه ورجوعه إلى الطينة فعاند في ذلك طائفة الجراكسة وامتنعوا من التسليم فيه وقالوا‏:‏ لابد من نقله من وجاقكم‏.‏

وساعدهم بقية البلكات ولم يوافق الينكجرية على ذلك ومكثوا ببابهم يومين وليلتين وكذلك فعل كل بلك ببابه‏.‏

فاجتمع كل العلماء والمشايخ على الصناجق والأعيان وخاطبوهم في حسم الفتنة فوقع الاتفاق على أن يجعلوه صاحب طبلخانة وأرسلوا له القفاطين مع كتخدا الباشا وأرباب الدرك وأحضروه إلى مجلس الآغا وقرؤوا عليه فرمان الصنجقية وأن خالف يكون عليه بخلاف ذلك فامتثل الأمر ولبس الصنجقية وطلع من منزل آغات الجراكسة بموكب عظيم إلى منزله ونزل له الصنجق السلطاني والطبلخانة في غايته‏.‏

ومن الحوادث أنه حضر كتخدا حسين باشا المذكور من طريق البحر بأوامر منها تحرير عيار الذهب على ثلاثة وعشرين قيراطًا وأن يضربوا الزلاطة والعثامنة التي يقال لها الاخشاءة بدار الضرب واحضر معه سكة لذلك فامتنع المصريون من ذلك ووافقوا على تصحيح عيار الذهب فقط‏.‏

وفي شهر شوال حضر آغا بمرسوم ببيع موجودات علي باشا المسجون فباعوها بالمزاد بالديوان‏.‏

وفي شهر الحجة ورد آغا بطلب خازندار إبراهيم بك الدفتردار وسببه أنه أنهى إلى السلطان أن خليل الخازندار المذكور أتاه رجل دلال بقوس فصار يجذبها ويتصرف فيها وكان بجانبه رجل من العثمانيين فأخذ القوس من يد خليل المذكور وأراد جذبها فلم يستطع فتعجب من قوة خليل المذكور وأخذ منه القوس وسافر بها إلى الديار الرومية ليمتحن بها أهل ذلك الفن فلم يقدر أحد على جذبها وأتصل خبرها بالسلطان فطلبها لجذبها فلم يستطع فتعجب من صعوبتها فقال له الرجل أن بمصر مملوكًا عند إبراهيم بك أوترها وصار يجذبها حتى تجمع طرفاها وعنده أيضًا مكحلة ثلاثون درهمًا يرمي بها الهدف وهو رامح على ظهر الحصان فأمر السلطان بإحضاره فجهزه إبراهيم بك وأرسله‏.‏

سنة عشرين ومائة وألف ورد قبودان يسمى جانم خوجه رئيس المراكب وطلع إلى الديوان ومعه بقية الرؤساء فلما أجتمع بالباشا أبرز له مرسومًا بتجهيز علي باشا إلى الديار الرومية فجهز في ثامن عشرينه ونزل بموكب فيه حسين باشا والصناجق والآغوات وأتباعهم ونزل في السفائن وسافر في أوائل ربيع الأول‏.‏

وفي ثامن عشر شوال أجتمع عسكر بالديوان وأنهوا إلى الباشا أن محمد بك حاكم جرجا أنزل عربان المغاربة وأمنهم وهذا يؤدي إلى الفساد فعزلوه وولوا آخر اسمه محمد من أتباع قيطاس وفي تاسع عشر شوال ورد محسن زاده أخو كتخدا الوزير أدخله حسين باشا بموكب حفل وطلع إلى القلعة وأبرز مرسومًا بعزل ايواز بك وتولية محمد باشا محسن زاده في منصبه فأنزله في غيظ قراميدان إلى أن سافر صحبة الحاج الشريف‏.‏

ومن الحوادث أن في يوم الاثنين رابع عشر القعدة سنة عشرين ومائة وألف وقف مملوك لرجل يسمى محمد آغا الحلبي على دكان قصاب بباب زويلة ليشتري منه لحمًا فتشاجر مع حمار عثمان أوده باش البوابة فأعلم عثمان بذلك فأرسل أعوانه وقبضوا على ذلك المملوك وأحضروه إليه‏.‏

فأمر بحبسه في سجن الشرطة فلما بلغ محمد جاويش سجن مملوكه حضر هو وأولاده وأتباعه إلى باب صاحب الشرطة لخلاص مملوكه فتفاوضا في الكلام وحصل بينهما مشاجرة فقبض عثمان أوده باشا على محمد جاويش المذكور وأودعه في السجن وركب إلى باش أوده باشا وهو إذ ذاك سليمان ابن عبد الله وطلع إلى كتخدا مستحفظان وعرض القصة فلم يرضوا له بذلك وأمروه بإطلاقه فرجع وأخرج محمد جاويش ومملوكه من السجن وركب ففي ثاني يوم الحادثة اجتمعت طائفة الجاويشية مع طائفة المتفرقة والثلاث بلكات الاسباهية والأمراء والصناجق والآغوات في الديوان وطلبوا نفي عثمان أوده باشا المذكور فلم توافقهم الينكجرية على ذلك فطلعوا إلى الديوان وطلبوا عثمان المذكور للدعوى عليه فحضر وأقيمت الدعوى بحضرة الباشا والقاضي‏.‏

فأمر القاضي بحبس عثمان كما حبس محمد جاويش فلم يرض الأخصام بذلك وقالوا ألا بد من عزله ونفيه فلم توافقهم الينكجرية فطلب العسكر من الباشا أمرًا بنفيه فتوقف في ذلك فنزلوا مغضبين واجتمعوا بمنزل كتخدا الجاويشية وأنزلوا مطبخهم من نوية خاناه إلى منزل كتخدا الجاويشية صالح آغا وأقاموا به ثلاثة أيام ليلًا ونهارًا وامتنعوا من التوجه إلى الديوان ثم أجتمع أهل البلكات وتحالفوا أنهم على قلب رجل واحد واتفقوا على نفي عثمان أوده باشا ثم اجتمعوا على الصناجق واتفقوا أن يكونوا معهم على طائفة الينكجرية لأنهم لم يعتبروهم‏.‏

وأرسل الاسباهية مكاتبات لأنفارهم المحافظين مع الكشاف بالولايات يأمرونهم بالحضور‏.‏

وفي ذلك اليوم عزل أوده باش البوابة وولي خلافه‏.‏

وفي يوم الجمعة ثامن عشري الشهر حضر إلى طائفة الينكجرية من أخبرهم أن العسكر يريدون قتالهم فأرسلوا القابجية إلى أنفارهم ليحضروا إلى الباب بآلة الحرب فاجتمعوا وانزعج أهل الأسواق وقفل غالبهم دكاكينهم ثم اطمأنوا بعد ذلك وجلسوا في دكاكينهم‏.‏

واستمر أهل الوجاقات الستة يجتمعون ويتشاورون في أبوابهم وفي منزل محمد آغا المعروف بالشاطر ومنزل إبراهيم بك الدفتردار و أما الينكجرية فأنهم كانوا يجتمعون بالباشا فقط‏.‏

وفي يوم الأحد رابع عشر ذي الحجة قدم محمد بك الذي كان بالصعيد في جند كثيف وأتباع كثيرة وطلع إلى ديوان مصر على عادة حكام الصعيد المعزولين ولبس الخلع السلطانية ونزل إلى بيته بالصليبة‏.‏

ثم أن أهل الوجاقات الست اجتمعوا واتفقوا على أبطال المظالم المتجددة بمصر وضواحيها وكتبوا ذلك في قائمة واتفقوا أيضًا أن من كان له وظيفة بدار الضرب والانبار والتعريف بالبحرين أو المذبح لا يكون له جامكية في الديوان ولا ينتسب لوجاق من الوجاقات وأن لا يحتمي أحد من أهل الأسواق في الوجاقات وأن ينظر المحتسب في أمورهم ويحرر موازينهم على العادة وأن يركب معه نائب من باب القاضي مباشرا معه وأن لا يتعرض أحد للمراكب التي ببحر النيل التي تحمل غلال الانبار وأن يحمل الغلال المذكورة جميع المراكب التي ببحر النيل‏.‏

ولا تختص مركب منها بباب من أبواب الوجاقات وأن كل ما يدخل مصر من بلاد الأمناء باسم الأكل لا يؤخذ عليه عشر وأن لا يباع شيء من قسم الحيوانات والقهوة إلى جنس الإفرنج وأن لا يباع الرطل البن بأزيد من سبعة عشر نصفًا فضة‏.‏

وأرسلوا القائمة المكتتبة إلى الباشا ليأخذوا عليها بيورلدي وينادي به في الأسواق‏.‏

فتوقف الباشا في إعطاء البيورلدي ولما بلغ الإنكشارية ما فعل هؤلاء اجتمعوا ببابهم وكتبوا قائمة نظير تلك القائمة بمظالم الخردة ومظالم اسباهية الولايات وغيرها وأرسلوها إلى الباشا فعرضها على أهل الوجاقات فلم يعتبروها وقالوا لابد من وفي يوم الأحد حادي عشري الحجة اجتمع أهل الوجاقات ومعهم الصناجق بباب الغرب وقاضي العسكر ونقيب الأشراف بالديوان عند الباشا وأرسلوا إلى الباشا أن يكتب لهم بيورلدي بأبطال ما سألوه فيه والمناداة به وأن لم يفعل ذلك أنزلوه ونصبوا عوضه حاكمًا منهم‏.‏

وعرضوا ذلك على الدولة فلما تحقق الباشا منهم ذلك كتب لهم ما سألوه وكتب لهم القاضي أيضًا حجة على موجبة ونزل بهما المحتسب وصاحب الشرطة ونائب القاضي وآغا من أتباع الباشا ونادوا بذلك في الشوارع‏.‏

وفي غاية الحجة سنة عشرين كسف جرم الشمس في الساعة الثامنة واستمر سبع عشرة درجة ثم انجلت‏.‏

سنة إحدى وعشرين ومائة وألف وفي يوم السبت رابع محرم سنة إحدى وعشرين ومائة وألف أجتمع الينكجرية عند آغاتهم وتحالفوا أنهم على قلب رجل واحد واجتمع أنفارهم جميعًا بالغيط المعروف بخمسين كتخدا وتحالفوا كذلك‏.‏

وفي سابعه أجتمع أهل الوجاقات بمنزل إبراهيم بك الدفتردار وتصالحوا على أن يكونوا كما كانوا عليه من المصافاة والمحبة بشرط أن ينفذوا جميع ما كتب في القائمة ونودي به ولا يتعرضوا في شيء منه فلم يستمر ذلك الصلح‏.‏

وفي ليلة السبت حادي عشرة وقع في الجامع الأزهر فتنة بعد موت الشيخ النشرتي وسيأتي ذكرها في ترجمة الشيخ عبد الله الشبراوي ثم أن الينكجرية قالوا لا نوافق على نقل دار الضرب إلى الديوان حتى تكتبوا لنا حجة بأن ذلك لم يكن لخيانة صدرت منا ولا تخوف عليها فامتنع أخصامهم من إعطاء حجة بذلك ثم توافق أهل البلكات الست على أن يعرضوا في شأن ذلك إلى باب الدولة فإن أقرها في مكانها رضوا به وأن أمر بنقلها نقلت فاجتمعوا هم ونقيب الأشراف ومشايخ السجاجيد وكتبوا العرض المذكور ووضعوا عليه ختومهم ما عدا الينكجرية فإنهم امتنعوا من الختم ثم أمضوه من القاضي وأرسلوه مع أنفار من البلكات وآغا من طرف الباشا في سادس عشري المحرم سنة إحدى وعشرين ومائة وألف‏.‏

وأما الينكجرية فأنهم اجتمعوا ببابهم وكتبوا عرضًا من عند أنفسهم إلى أرباب الحل والعقد من أهل وجاقهم بالديار الرومية وعينوا للسفرية علي أفندي كاتب مستحفظان سابقًا وأحمد جربجي وجهزوهم للسفر فسافروا في يوم الاثنين سابع عشرينه‏.‏

وفي ثالث عشر ربيع الأول تقلد إمارة الحاج قيطاس بك مقررًا على العادة في صبيحية المولد النبوي في كل سنة وكان أشيع أن بعض الأمراء سعى على منصب إمارة الحج فلما بلغ الينكجرية ذلك اجتمعوا ببابهم لابسين سلاحهم وجلسوا خارج الباب الكبير على طريق الديوان بناء على أنه أن لبس شخص إمارة الحج خلاف قيطاس بك لا يمكنوه من ذلك‏.‏

فلما رأى الصناجق والأمراء ذلك منهم خافوهم وقالوا هذه أيام تحصيل الخزينة ونخشى وقوع أمره من هؤلاء الجماعة إلى تعطيل المال فاجتمع رأي الصناجق وأهل الوجاقات الست على نفي ستة أشخاص من الينكجرية الذين بيدهم الحل والعقد ويخرجونهم من مصر إلى بلاد التزامهم تسكينًا للفتنة حتى يأتي جواب العرض‏.‏

فلما بلغ الينكجرية ما دبروه اجتمعوا في بابهم في عددهم وعددهم فلم يلتفتوا إلى فعلهم وقالوا‏:‏ لابد من نفيهم أو محاربتهم‏.‏

واجتمعوا كذلك في أبوابهم واستعد الينكجرية في بابهم وشحنوه بالأسلحة والذخيرة والمدافع فحصل لأهل البلد خوف وانزعاج وأغلقوا الدكاكين وذلك سابع عشر ربيع الأول ونقل الجاويشية مطبخهم من القلعة من النوبة إلى منزل كتخدا الجاويشية وأقام طائفة الينكجرية منهم طوائف محافظين على أبواب القلعة وباب الميدان والسحراء الذي بالمطبخ الموصل إلى القرافة خوفًا من أن العسكر يستميلون الباشا وينزلونه الميدان لأنهم كانوا أرسلوا له كتخدا الجاويشية وطلبوا منه النزول إلى قراميدان ليتداعوا مع الينكجرية على يد قاضي العسكر فلم تمكنهم الينكجرية من ذلك وحصل لكتخدا الجاويشية ومن معه مشقة في ذلك اليوم من المذكورين عند عودهم من عند الباشا وما خلصوا إلا بعد جهد عظيم‏.‏

وفي يوم الخميس عشري ربيع الأول أجتمع الصناجق والعسكر واختاروا محمد بك الذي كان بالصعيد لحصار القلعة من جهة القرافة على جبل الجيوشي بالمدافع والعسكر ففعل ما أمروا به وخافت العسكر وقوع نهب بالمدينة فعينوا مصطفى آغا أغات الجراكسة يطوف في أسواق البلد وشوارعها‏.‏

كما كان يفعل في زمن عزل الباشا‏.‏

وفي يوم السبت ثاني عشرينه أجتمع الأمراء الصناجق والاسباهية بالرميلة وعينوا أحمد بك المعروف بإفرنج أحمد آغات التفكجية ليحاصروا طائفة الينكجرية من بابهم المتوصل منه إلى المحجر وباب الوزير ويمنعوا من يصل إليهم بالإمداد‏.‏

وأما الينكجرية الذين كانوا بالقاهرة فاجتمعوا بباب الشرطة واتفقوا على أن يدهموا العسكر المحافظين بالباب ويكشفوهم ويدخلوا إلى باب الينكجرية‏.‏

فلما بلغ الصناجق ذلك والعسكر عينوا إبراهيم الشهير بالوالي ومصطفى آغات الجبجية في طائفة من الاسباهية فنزلوا إلى باب زويلة ولما بلغ خبرهم الينكجرية الذين كانوا تجمعوا في باب الشرشة تفرقوا فجلس مصطفى آغا محل جلوس الاوده باشا وإبراهيم بك في محل جلوس العسس وانتشرت طوائفهم في نواحي باب زويلة و الخرق واستمروا ليلة الأحد على هذا المنوال فطلع في صبحها نقيب الأشراف والعلماء وقاضي العسكر وأرباب الاشاير واجتمعوا بالشيخونيتين بالصليبة وكتبوا فتوى بأن الينكجرية إن لم يسلموا في نفي المطلوبين وإلا جاز محاربتهم وأرسلوا الفتوى صحبة جوخدار من طرف القاضي إلى باب الينكجرية فلما قرأت عليهم تراخت عزائمهم وفشلوا عن المحاربة وسلموا في نفي المطلوبين بشرط ضمانهم من القتل فضمنهم الأمراء الصناجق وكتبوا لهم حجة بذلك فلما وصلتهم الحجة انزلوا الأنفار الثمانية المطلوبين إلى أمير اللواء ايواز بك ورضوان آغا فتوجها بهم إلى بولاق ومن هناك سافروا إلى بلاد الريف‏.‏

وفي يوم تاسع عشر ربيع الأخر ورد أمير اخوز صغير من الديار الرومية وطلع إلى القلعة وأبرز مرسومين فرثا بالديوان بمحضر الجميع أحدهما بأبطال المظالم والحمايات بموجب القائمة المعروضة من العسكر ونفي عطاء الله المعروف ببولاق وأحمدجلبي بن يوسف آغا وأن يحاسبوا تجارة القهوة على مرابحة العشرة اثني عشر بعد رأس المال والمصاريف والأمر الثاني بنقل دار الضرب من قلعة الينكجرية إلى حوش الديوان وبناء قنطرة اللاهون بالفيوم وأن يحسب ما يصرف عليهما من مال الخزينة العامرة‏.‏

وفي يوم تاريخه برز أمر من الباشا برفع صنجقية أحمد بك الشهير بإفرنج أحمد بك وإلحاقه بوجاق الجملية‏.‏

وفي يوم السبت أجتمع أعيان مستحفظان بمنزل أحمد كتخدا المعروف بشهر اغلان وأرسلوا خلف إفرنج أحمد وتصالحوا معه وتعاهدوا على الصدق وأن لا يغدرهم ولا يغدروه‏.‏

ومضوا معه إلى الباب الجملي وأخذوا عرضه وركب الحمار في يوم الأحد وطلع إلى باب مستحفظان في جم غفير من الأوده باشية وتقرر باش أوده باشا كما كان سابقًا وعاد إلى منزله‏.‏

وفي غاية الشهر رجع الأنفار الثمانية المنفيون وأخرجوهم من وجاق الينكجرية ووزعوهم على أهل الوجاقات باطلاع الأمراء الصناجق والآغوات‏.‏

وفي أوائل جمادى الأولى أرسل القاضي فأحضر مشايخ الحرف وعرفهم أنه ورد أمر يتضمن أن لا يكون لأحد من أرباب الحرف والصنائع علاقة ولا نسبة في أحد الوجاقات السبع فأجابوه بأن غالبهم عسكري وابن عسكري وقاموا على غير امتثال ثم بلغ القاضي أنهم أجمعوا على إيقاع مكروه به فخافهم وترك ذلك وتغافل عنه ولم يذكره بعد‏.‏

وفي هذه السنة أبطل الينكجرية ما كانوا يفعلونه من الاجتماع بالمقياس وعمل الاسمطة والجمعيات وغيرها عند تنظيفه‏.‏

وفي منتصف جمادى الثانية تم بناء دار الضرب التي أحدثوها بحوش الديوان وضرب بها السكة وكان محلها قبل ذلك معمل البارود ونقل معمل البارود إلى محل بجوارها‏.‏

وفيه لبس إبراهيم بك أبو شنب أميرًا على الحج عوضًا عن قيطاس بك وتولى قيطاس بك دفتردارية مصر عوضًا عن إبراهيم بك بموجب مرسوم بذلك من الأعتاب‏.‏

وفي تاسع عشر رمضان ورد الخبر بعزل حسين باشا وولاية إبراهيم باشا القبودان ووردت منه مكاتبة بأن يكون حسين باشا نائبًا عنه إلى حين حضوره ولم يفوض أمر النيابة إلى أحد من صناجق مصر كما هو المعتاد وفي شهر شوال الموافق لكيهك القبطي ترادفت الأمطار وسالت الأودية حتى زاد بحر النيل بمقدار خمسة أذرع وتغير لونه لكثرة ممازجة الطفل للماء في الأودية واستمرت الأمطار تنزل وتسكب إلى غاية الشهر وكان ابتداؤها من غرة رمضان‏.‏

وفي منتصف ذي القعدة نزل حسين باشا من القلعة بموكب عظيم وأمامه الصناجق والآغوات إلى منزل الأمير يوسف آغا دار السعادة بسويقة عصفور ووصل إبراهيم باشا القبو دان وطلع إلى القلعة في منتصف الحجة‏.‏

سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف

وفي منتصف محرم سنة اثنين وعشرين ومائة وألف أجتمع أهل البلكات السبعة بسبيل علي باشا بجوار الإمام الشافعي واتفقوا على نفي ثلاثة أنفار من بينهم فنفوا في يوم الخميس من اختيارية الجاويشية قاسم آغا وعلي أفندي كاتب الحوالة ومن وجاق المتفرقة علي أفندي المحاسبجي وسببه أنهم اتهموا بأنهم يجتمعون بالباشا في كل وقت ويعرفونه بالأحوال وأنهم أغروه بقطع الجوامك المكتتبة بأسماء أولاد وعيال المحلول عنهم وأن العسكر راجعوه في ذلك فلم يوافقهم على ذلك وأيضًا راجعه الاختيارية المرة بعد المرة فقال لا أسلم إلا الوجاقات السبعة فمن نقل اسمه فأني لا أعارضه فرضوا بذلك وأخذوا منه فرمانًا فورد بعد ذلك سلحدار الوزير وعلى يده أوامر بأبطال المرتبات وأن من عاند في ذلك يؤدبه الحاكم فأذعنوا بالطاعة فأراد الباشا نفي الثلاثة أنفار من اختيارية العزب فلم توافق العسكر ثم اتفق العسكر على كتابة عرض بالاستعطاف بإبقاء ذلك وسافر به سبعة أنفار من الأبواب السبعة‏.‏

وفي يوم الخميس غاية ربيع الأول تقلد الأمير ايواز بك إمارة الحج عوضًا عن إبراهيم بك لضعف مزاجه ووهن قوته‏.‏

وفي أوائل جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف ورد من الديار الرومية مرسوم قرئ بالديون مضمونه أن وزن الفضة المصرية زائد في الوزن عن وزن اسلامبول والأمر بقطع الزائد وأن تضرب سكة الجنزرلي ظاهرة ويحرر عياره على ثلاثة وعشرين قيراطًا‏.‏

وفي ثاني رجب حصلت زلزلة في الساعة الثامنة‏.‏

وفيه ورد مرسوم بإبقاء المرتبات التي عرض في شأنها كما كانت ولكن لا يكتب بعد اليوم في التذاكر أولاد وعيال ولا ترتب على جهة وقف‏.‏

وفي خامس عشرة ورد عزل إبراهيم باشا وولاية خليل باشا وإقامة أيوب بك قائمقام ونزل إبراهيم باشا من القلعة إلى منزل عباس آغا ببركة الفيل فكانت مدته ثمانية أشهر ووصل خليل باشا الكوسنج وكان بصيدا من أعمال الشام فقدم بالبر يوم الثلاثاء عاشر شعبان سنة اثنتين وعشرين ومائة ألف‏.‏

وفي ثاني عشر ذي القعدة ورد أمر بطلب ثلاثة آلاف من العسكر المصري وعليهم صنجق لسفر الموسقو و كانت النوبة على محمد بك حاكم جاجاحالا فتعذر سفره فأقيم بدله اسمعيل بك تابع ذي الفقار بك فقلدوه الصنجقية وأمده محمد بك بأربعين كيسًا مصرية وجعله بدلًا عنه وألبس القفطان ثاني عشر الحجة‏.‏

سنة ثلاثة وعشرين ومائة وألف ودخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف واستهل المحرم بيوم الخميس الموافق الرابع عشر أمشير القبطي سابع شباط الرومي وفي ذلك اليوم انتقلت الشمس لبرج الحوت‏.‏

وفيه نزل اسمعيل بك بموكب وشق في وسط القاهرة إلى بولاق وسافر بالعسكر في منتصف المحرم‏.‏

وفي يوم الجمعة سادس عشرة أجتمع طائفة مصطفى كتخدا القازدغلي ومعه من أعيان الينكجرية خمسة عشر نفرًا واتفقوا أنهم لا يرضون إفرنج أحمد باش اوده باشا فإما يلبس الضلمة أو يكون جربجيًا في الوجاق وإن لم يرض بأحد الأمرين يخرج المذكورون من الوجاق ويذهبون إلى أي وجاق شاؤوا‏.‏

وكان الاجتماع بباب العزب وساعدهم على ذلك أرباب البلكات الستة وصمموا أيضًا على رجوع الثمانية أنفار الذين كانوا أخرجوهم من باب الينكجرية ومشت الصناجق بينهم والاختيارية وصاروا يجتمعون تارة بمنزل قيطاس بك الدفتردار وتارة بمنزل إبراهيم بك أمير الحج سابقًا ثم اجمع رأي الجميع على نقل الثمانية أنفار المذكورين ومن أنضم إليهم من الوجاقات إلى باب العزب وأن يخرجوا أنفارًا كثيرة من مصر منفيين منهم ثلاثة من الكتخدائية وعشرة من الجربجية والباقي ممن الينكجرية وعرضوا في شأن ذلك للباشا فاتفق الأمر على أن من كان منهم مكتوبًا لسفر الموسقو فليذهب مع المسافرين ومن لم يكن مكتوبًا فيعطى عرضه ويذهب إلى باب العزب‏.‏

وحضر كاتب العزب والينكجرية في المقابلة واخرجوا من كان اسمه في السفر وما عداهم أعطوهم عرضهم وتفرقوا عن ذلك‏.‏

ووقع الحث على سفر من خرج اسمه في المسافرين وعدم إقامتهم بمصر وان يلحقوا بالمسافرين بثغر الإسكندرية‏.‏

وفي ثالث عشر صفر قدم ركب الحاج صحبة أمير الحاج ايواز بك‏.‏

وفيه اجتمع حسن جاويش القزدغلي الذي كان سردار القطار والأمير سليمان جربجي تابع القزدغلي سردار الصرة وإبراهيم جربجي سردار جداوي وطلبوا عرضهم من باب مستحفظان فذهب إليهم اختيارية بابهم واستعطفوهم فلم يوافقوهم ثم طلب موسى جربجي تابع بن الأمير مرزا أن يخرج أيضًا من الوجاق وينقلوا اسمه من الجملية فلم يوافقه رضوان آغا فذهب موسى جربجي إلى إبراهيم بك وايواز بك وقيطاس بك وسألهم أن يتشفعوا له في ذلك فلم يوافق رضوان آغا فاتفق رأيهم أن يعرضوا للباشا بأن يعزل رضوان آغا المذكور ويتولى علي آغات الينكجرية سابقًا وأن يعزل سليمان كتخدا الجاويشية ويولي عوضه اسمعيل آغا تابع إبراهيم بك فامتنع الباشا من ذلك وكان اختيارية الجملية توافقوا مع الأمراء الصناجق على عزل رضوان آغا فلما رأوا امتناع الباشا أخذوا الصندوق من منزل رضوان آغا واجتمعوا بمنزل باشجاويش واجتمع أهل كل وجاق ببابهم واستمروا على ذلك أيامًا‏.‏

وأما الينكجرية الذين انتقلوا إلى العزب فأنهم اجتمعوا بباب العزب وقطعوا الطريق الموصلة إلى القلعة ومنعوا من يريد الطلوع إلى باب الينكجرية من العسكر والأتباع ولم يبق في الطريق الموصلة إلى القلعة إلا باب المطبخ ثم توجهوا للسواقي لأجل منع الماء عن القلعة فمنعهم العسكر من الوصول إليها فكسروا كشب السواقي التي بعرب اليسار وقطعوا الأحبال والقواديس ثم إن نفرًا من أنفار الينكجرية أراد الطلوع من طريق المحجر فضربوه وشجوا رأسه ومنعوه فمضى من طريق الجبل ودخل من باب المطبخ واجتمع بإفرنج احمد وبقية الينكجرية وعرفهم حاله فأخذه جماعة منهم وعرضوا أمره على خليل باشا وقاضي العسكر فقال هؤلاء صاروا بغاة خارجين عن الطاعة حيث فعلوا ذلك ومنعونا الماء والزاد وأخافوا الناس وسلبوهم فقد جاز لنا قتالهم ومحاربتهم وذلك سابع عشر صفر ثم أن احمد أوده باشا استأذن الباشا في محاربة باب العزب وضربهم بالمدافع والمكاحل فأذن له في ذلك‏.‏

ومن ذلك الوقت تعوق القاضي عن النزول وأخافوه واستمر مع الباشا إلى انقضاء الفتنة مدة سبعين يومًا ورجع إفرنج احمد وشرع في المحاربة وضرب على باب العزب بالمدافع وذلك من بعد الزوال إلى بعد العشاء وقتل من طائفة العزب أربعة أنفار بالمحجر‏.‏

ثم في صبيحة ذلك اليوم اجتمع من الأمراء الصناجق الأمير ايواز بك أمير الحج والأمير إبراهيم أبو شنب وقانصوه بك ومحمود بك ومحمد بك تابع قيطاس بك الدفتردار واتفقوا على أن يلبسوا آلة الحرب ويذهبوا إلى الرميلة معونة للعزب على الينكجرية فأخبروا أن أيوب بك ركب مدافع على طريق المارين على منزله وعلى قلعة الكبش وربما أنهم إذا طلعوا إلى الرميلة يذهب أيوب بك وينهب منازلهم فامتنعوا من الركوب وجلسوا في منازلهم بسلاحهم خوفًا من طارئ‏.‏

واستمر إفرنج احمد يحارب ثلاثة أيام بلياليها وأجتمع على رضوان آغا طائفة من نفره وتذاكروا فيمن كان سببًا لإثارة الفتنة‏.‏

فقالوا سليم جربجي ومحمد أفندي بن طلق ويوسف أفندي واحمد جربجي توالى فقالوا لا نرضى هؤلاء الأربعة بعد اليوم أن يكونوا اختيارية علينا ثم ركبوا وتوجهوا إلى منزل قيطاس بك وأرسلوا من كل بلك اثنين من الاختيارية إلى منزل أيوب بك يطلبون رضوان آغا فاركبوه في موكب عظيم وكتبوا تذاكر للأربع الاختيارية المذكورين بأنهم يلزمون بيوتهم ولا يركبون لأحد ولا يجتمع بهم أحد‏.‏

ثم ركب رضوان آغا إلى منزل أيوب بك وتذاكروا في الصلح وكتبوا تذكرة لاحمد أوده باشا بأبطال الحرب فأبى من الصلح فكتبوا عرضًا إلى الباشا عن لسان الصناجق وآغوات الوجاقات الخمس رفع المحاربة فأرسل الباشا إلى الينكجرية فامتثلوا أمره وأبطلوا الحرب وضرب المدافع ثم أن الصناجق والآغوات أرسلوا يطلبون جماعة من اختيارية الينكجرية ليتكلموا معهم في الصلح فأجابوا إلى الحضور غير أنهم تعللوا إلى الحضور بانقطاع الطريق من العسكر المقيمين بالمحجر فأرسلوا إلى حسن كتخدا العزب فأرسل إليهم من أحضرهم وخلت الطريق فأجتمع رأي الينكجرية على إرسال حسن كتخدا سابقًا وأحمد بن مقز كتخدا سابقًا أيضًا فاجتمعوا بالعسكر والصناجق بمنزل اسمعيل بك وحضر معهم جميع أهل الحل والعقد وتشاوروا في إخماد هذه الفتنة وأرسلوا إلى باب الينكجرية فقالوا نحن لا نأبى الصلح بشرط أن هؤلاء الثمانية الذين كانوا سببًا لإثارة هذه الفتنة لا يكونون في باب العزب بل يذهبون إلى وجاقاتهم الأصلية ولا يقيمون فيه وأن يسلوا الأمير الاخميمي للباشا يفعل فيه رأيه فأبى أهل باب العزب ذلك ولم يرضوه فأرسل الأمراء الصناجق كتخداتهم إلى إفرنج أحمد ومعهم اختيارية الوجاقات الخمسة يشفعون عنده بأن الأنفار والثمانية يرجعون كما ذكرتم إلى وجاقاتهم ويعفون من النفي ومن طلب الأمير حسن فلم يوافق إفرنج أحمد على ذلك وقال أن لم يرضوا بشرطي وإلا حاربتهم ليلًا ونهارًا إلى أن أخفى آثار ديار العزب فتفرقوا على غير صلح ثم أجتمع الأمراء الصناجق والآغوات في رابع شهر ربيع بمنزل إبراهيم بك بقناطر السباع وتذاكروا في إجراء الصلح على كل حال وكتبوا حجة على أن من صدر منه بعد اليوم ما يخالف رضا الجماعة يكون خصم الجماعة المذكورين جميعًا‏.‏

وكلموا أيوب بك أن يرسل إلى إفرنج أحمد بصورة الحال وأن يمنع المحاربة إلى تمام الأمر المشروع فبطل الحرب نحو خمسة عشر يومًا وأخذ إفرنج أحمد مدة هذه الأيام في تحصين جوانب القلعة وعمل متاريس ونصب مدافع وتعبية ذخيرة وجبخانة ملأوا الصهاريج وحضر في أثناء ذلك محمد بك حاكم الصعيد ونزل بالبساتين فأقام ثلاثة أيام ودخل في اليوم الرابع ومعه السواد الأعظم من العرب والمغاربة والهوارة ونزل ببيت آق بردى بالرميلة وحارب من جامع السلطان حسن من منزل يوسف آغات الجراكسة سابقًا فلم يظفر وقتل من جماعته نحو ثلاثين نفرًا وظهر عليه محمد بك المعروف بالصغير تابع قيطاس بك مع من أنضم إليه من أتباع إبراهيم بك وايواز بك ومماليكه وكانوا تترسوا في ناحية سوق السلاح ووضعوا المتاريس في شبابيك الجامع وانتقل من محله وذهب إلى طولون وتترس هناك وهجم على طائفة العزب الذين كانوا بسبيل المؤمن على حين غفلة وصحبته ذو الفقار تابع أيوب بك فوقع بينهم مقتلة عظيمة من الفريقين فلم يطق العزب المقاومة فتركوا السبيل وذهبوا إلى باب العزب وربط محمد بك جماعة من عسكره في مكانهم‏.‏

ثم أن الشيخ الخليفي طلع إلى باب الينكجرية وتكلم مع أحمد أوده باشا والاختيارية في أمر الصلح فقام عليه إفرنج أحمد وأسمعه ما لا يليق وأرسل إلى الطبجية وأمرهم بضرب المدافع على حين غفلة فانزعج الناس وقاموا وقام الشيخ ومضى وأما سكان باب العزب فانهم أخذوا ما أمكنهم من أمتعتهم وتركوا منازلهم ونزلوا المدينة وتفرقوا في حارات القاهرة‏.‏

وحصل عند الناس خوف شديد وأغلقوا الوكائل والخانات والأسواق ورحل غالب السكان القريبين من القلعة مثل جهة الرميلة والحطابة والمحجر خوفًا من هدم المنازل عليهم وكان الأمر كما ظنوه فإن غالبهم هدم من المدافع واحترق والذي سلم منها حرقه عسكر طوائف الينكجرية بالنار ولم يصب باب العزب شيء من ذلك ما عدا مجلس الكتخدا فإنه انهدم منهم جانب وكذلك موضع الآغا لا غير ثم أن إفرنج أحمد توافق مع أيوب بك وعينوا عمر آغا جراكسة وأحمد تفكجيان ورضوان آغا جمليان فقعدوا بمن أنضم إليهم بالمدرسة بقوصون وجامع مزدادة بسويقة العزى وجامع قجماس بالدرب الأحمر ليقطعوا الطريق على العزب واختار إفرنج أحمد نحو تسعين نفرًا من الينكجرية وأعطى كل شخص دينارًا طرلي وأرسلهم بعد الغروب إلى الأماكن المذكورة فأما رضوان آغا فإنه تعلل واعتذر عن الركوب وأما أحمد آغا فإنه توجه إلى المحل الذي عين له فتحارب مع طائفة من الصناجق والعزب في الجنابكية وأما الذين ربطوا بجامع مزداة فلم يأتهم أحد إلى الصباح فأخذوا الفطور من الذاهبين به إلى باب العزب‏.‏

وفي أثناء ذلك نزل رجل أوده باشا من العزب من السلطان حسن يريد منزله فقبض عليه طائفة من الأخصام وسلبوه ثيابه وتركوه بالقميص وأرسلوه إلى إفرنج أحمد فلما بلغ العزب ذلك أرسلوا طائفة منهم إلى المقيمين بجامع مزدادة فدخلوا من بيت الشريف يحيي بن بركات ونقبوا منزل عمر كتخدا مستحفظان إذ ذاك وما بجواره من المنازل إلى أن وصلوا منزل مراد كتخدا‏.‏

فبمجرد ما رآهم العسكر الذين بجامع مزدادة فروا وأما عمر آغات جراكسة المقيم بجامع قجماس فإنه وزع أتباعه جهة باب زويلة وجهة التبانة فحصل لأهل تلك الخطة خوف شديد خصوصًا من كان بيته بالشارع فأرسلت العزب صالح جربجي الرزاز بجملة من عسكر العزب ومن أنضم إليهم من الينكجرية الذين انقلبوا إلى العزب كأتباع الأمير حسن باشجاويش سابقًا والأمير حسن جاويش تابع القزدغلي والأمير حسن جلب كتخدا وجماعة محمد جاويش كدك فحاربوا مع من بجامع قجماس واستولى صالح جربجي عليه وعلى المتاريس التي بشبابيكه وملك الأمير حسن جاويش تابع القزدغلي جامع المرداني وأقام به وحسن جاويش جلب أقام بجامع مع أصلم وانتشرت طوائفهم بتلك الاخطاط والأماكن فاطمأن الساكنون بها وأما عمر آغا الجراكسة فإنه لما فر من جامع قجماس ذهب إلى جامع المؤيد داخل باب زويلة ثم أن محمد بك أرسل بطلبه فركب ومر على أحمد آغا التفكجية فأركبه معه وذهبا إلى محمد بك الصعيدي بالصليبية وحصل لأهل خط قوصون خوف عظيم بسبب إقامة أحمد آغا بالسلمانية ورحل غالبهم من المنازل فلما رحل عنهم اطمأنوا وتراجعوا وحضرت طائفة من المتفرقة إلى محل أحمد آغا التفكجية وعملوا متاريس على رأس عطفة الحطب ونكثوا هناك أيامًا قلائل ثم رحلوا عنها‏.‏

فأتى علي كتخدا الساكن بالداودية بطائفة من العزب فتملكوا ذلك الموضع وجلسوا به ثم أن طائفة من المتفرقة والاسباهية هجموا على منزل الأمير قرا اسمعيل كتخدا مستحفظان فدخلوا من بيت مصطفى بك بن ايواز ونقبوا الحائط بينه وبين منزل قرا اسمعيل كتخدا فلما وصل الخبر إلى العزب عينوا له بيرقًا من عسكر العزب ورئيسهم أحمد جربجي تابع ظالم علي كتخدا فلم يمكنه الدخول من جهة الباب فخرق صدر دكان وتوصل منه إلى منزل أحمد أفندي كاتب الجراكسة سابقًا ثم نقبوا منه محلًا توصلوا منه إلى منزل اسمعيل كتخدا ودخلوا على طائفة البغاة فوجدوهم مشغولين في نهب أثاث المنزل المذكور فهجموا عليهم هجمة واحدة فألقوا ما بأيديهم من السلب ورجعوا القهقرى إلى المحل الذي دخلوا منه من بيت مصطفى بك فتبعوهم وتقاتل الفريقان إلى أن كانت الدائرة على المتفرقة والاسباهية ونهب العزب منزل مصطفى بك لكونه مكن البغاة من الدخول إلى منزله ولكونه كان مصادقًا لأيوب بك‏.‏

ثم أن أحمد جربجي المذكور أنتقل بمن معه من العسكر إلى قوصون ودخل جامع الماس وتحصن به‏.‏

وكان محمد بك حاكم جرجا يمر من هناك ويمضي إلى الصليبة فانتهز أحمد جربجي فرصة هو أنه وجد منزل حسين كتخدا الجزايرلي خاليًا فدخل فيه فرأى داخله قصرًا متصلًا بمنزل محمد كتخدا عزبان المعرف بالبيرقدار بعلو دهليز منزله وطبقاته تشرف على الشارع فكمن فيه هو وطائفة ممن معه ليغتال محمد بك إذا مر به وإذا بمحمد بك قد خرج من عطفة الحطب مارًا إلى جهة الصليبة فضربوه بالبندق فأصيب أربعة من طائفته فقتلوا فظن أن الرصاص أتاه من منزل محمد كتخدا البيرقدار فوقف على بابه وأضرم النار فيه فاحترق أكثر المنزل ونهبوا ما فيه من أثاث ومتاع‏.‏

ثم أن النار اتصلت بالأماكن المجاورة له والمواجهة فاحترقت البيوت والرباع والدكاكين التي هناك من الجهتين من جامع ألماس إلى تربة المظفر يمينًا وشمالًا وأفسدت ما بها من الأمتعة والذي لم يحترق نهبته البغاة وخرجت النساء حواسر مكشفات الوجوه فاستولى أحمد جربجي على جامع ألماس وعلي كتخدا الساكن بالداودية أقام بالمدرسة السليمانية وأما أطراف القاهرة وطرقها فإنها تعطلت من المارة وعلى الخصوص طريق بولاق ومصر العتيقة والقرافة لكون أيوب بك أرسل إلى حبيب الدجوى يستعين به فحضر منهم طائفة وكذلك أخلاط الهوارة الذين حضروا من الصعيد صحبة محمد بك فاحتاطوا بالأطراف يسلبون الخلق واستاقوا جمال السقائين حتى كاد أهل مصر يموتون عطشًا وصار العسكر فرقتين ايواز بك وقيطاس بك الدفتردار وإبراهيم بك أمير الحج سابقًا ومحمد بك وقانصوه بك وعثمان بك بن سليمان بك ومحمود بك وبلكات الاسباهية الثلاثة والجاويشية والعزب عصبة واحدة وأيوب بك ومحمد الكبير وآغوات الاسباهية من غير الأنفار ومحمد آغا متفرقة باشا وأهل بلكه وسليمان آغا كتخدا الجاويشية وبلك الينكجرية المقيمين بالقلعة صحبة إفرنج أحمد والباشا وقاضي العسكر الجميع عصبة واحدة وأخذوا عندهم نقيب الأشراف بحيلة و احتبسوه عندهم وأغلقوا جميع أبواب القلعة ما عدا باب الجبل وامتنع الناس من النزول من القلعة والطلوع إليها إلا من الباب المذكور واستمر إفرنج أحمد ومن معه يضربون المدافع على باب العزب ليلًا ونهارًا وبباب العزب خلق كثيرون منتشرون حوله وما قاربه من الحارات ورتبوا لهم جوامك تصرف عليهم كل يوم فلما طال الأمر أجتمع الأمراء الصناجق بجامع بشتك بدرب الجماميز واتفقوا على عزل الباشا وإقامة قائمقام من الأمراء فأقاموا قانصوه بك قائمقام نائبًا ولوا آغوات البلكات وهو الاسباهية الثلاثة فولوا على الجملية صالح آغا وعلى الجراكسة مصطفى آغا وعلى التفكجية محمد آغا بن ذي الفقار بك واسمعيل آغا جعلوه كتخدا الجاويشية وعبد الرحمن آغا متفرقة باشا وقلدوا الزعامة الأمير حسن الذي كان زعيمًا وعزله الباشا بعبد الله آغا فلما أحكموا ذلك بلغ الخبر طائفة الينكجرية الذين بالقلعة توجهوا إلى خليل باشا وأخبروه بالصورة فكتب لآغوات البلكات الثلاث ومتفرقة باشا يأمرهم بمحاربة الصناجق ومن معهم لكونهم بغاة خارجين على نائب السلطان‏.‏

ثم اتفق مع إفرنج أحمد على اتخاذ عسكر جديد يقال لهم سردن كجدي ويعطى لكل من كتب اسمه خمسة دنانير وخمسة عثامنة فكتبوا ثمانمائة شخص وعلى كل مائة بيرقدار و رئيس يقال له آغات السردن كجدي‏.‏

ثم أن محمد بك الصعيدي أتفق مع إفرنج احمد بأن يهجم على طائفة العزب من طريق قراميدان ويكسر باب العزب المتوصل منه إلى قراميدان ويهجم على العزب‏.‏

ووصل خبر ذلك إلى العزب فاستعدوا له وكمنوا قريبًا من الباب المذكور فلما كان بعد العشاء الأخيرة هجموا على الباب المذكور وكان العزب أحضروا شيئا كثيرًا من حطب القرطم وطلوه بالزيت والقار والكبريت فلما تكامل عسكر محمد بك أوقدوا النار في ذلك الحطب فأضاء لهم قراميدان وصار كالنهار ثم ضربوهم بالبندق ففروا فصار كل من ظهر لهم ضربوه فقتلوا منهم طائفة كثيرة وولوا منهزمين ثم أن قانصوه بك صار يكتب بيورلديات وأوامر يرسلها إلى محمد بك الصعيدي يأمره بالتوجه إلى ولايته آمنًا على نفسه وتحصيل ما عليه من الأموال السلطانية فأرعد وأبرق ثم أن جماعة من العزب أخذوا حسن الوالي المولى من طرف قائمقام مصر وذهبوا وصحبتهم جماعة من أتباع الأمراء الصناجق إلى باب الوالي ليملكوه فلما بلغ الخبر عبد الله آغا الوالي أخذ فرشه وفر إلى بيت أيوب بك وفر الأود باشا أيضًا فلما لم تجد العزب أحدًا في بيت الوالي توجهوا لمنزل عبد الله الوالي لينهبوه فقام عليهم جماعة من أتباع سليمان كتخدا الجاويشية ومن بجوارهم من الجند فهزموا العزب وقتلوا منم رجلًا فأقام حسن الوالي بباب قيظاس بك الدفتردار فلما اتسع الخرق أرسل الباشا إلى إبراهيم بك وايواظ بك وقيطاس بك يطلبهم إلى الديوان ليتداعوا مع الينكجرية فلما حضر تابع الباشا وقرأ عليهم الفرمان أجابوا بالسمع والطاعة واعتذروا عن الطلوع بانقطاع الطرق من الينكجرية وترتيب المدافع ولولا ذلك لتوجهنا إليه‏.‏

فلما يئس الباشا منهم أتفق مع أيوب بك ومن انضم إليه من العسكر على محاربتهم وبرز الجميع إلى خارج البلد‏.‏

فلما كان يوم الأحد ثالث ربيع الأول أرسلوا أيوب بك ومحمد بك إلى العزبان ليأخذوا مال السقائين وحميرهم ومنع الماء عن البلد فأخذوا جميع ما وجدوه فعز الماء ووصل ثمن القربة خمسة أنصاف فضة فأمر الأمراء الآخرون طائفة من العسكر أن يركبوا إلى جهة قصر العيني ويستخلصوا الجمال ممن نهبهم فتوجهوا وجلسوا بالمساطب ينتظرون من يمر عليهم بالجمال‏.‏

فلما بلغ محمد بك حضورهم هناك لمع طائفة هوارة وهجموا عليهم وهم غير مستعدين فاندهشوا ودافعوا عن أنفسهم ساعة ثم فروا وتأخر عنهم جماعة لم يجدوا خيلهم لكون سواسهم أخذوها وفروا فقتلهم محمد بك وأرسل رؤوسهم للباشا فانسر سرورًا عظيمًا وأعطى ذهبًا كثيرًا‏.‏

فلما رجع المنهزمون إلى منزل قانصوه بك وايواظ بك لم يسهل عليهم ذلك واتفقوا على البروز إليهم فركبوا في يوم الاثنين رابع عشر ربيع الثاني وخرج الفريقان إلى جهة قصر العيني والروضة فتلاقيا وتحاربا وتقاتلا قتالًا عظيمًا تجندلت فيه الأبطال وقتل من الجند خاصة زيادة عن الأربعمائة نفر من الفريقين خلاف العربان والهوارة وغيرهم‏.‏

وقصد ايواظ بك ومحمد بك الصعيدي فأنهزم إلى جهة المجراة فساق خلفه وكان الصعيدي قد أجلس أنفارًا فوق المجراة مكيدة وحذرًا فضربوا على ايواظ بك بالرصاص ليردوه فأصيب برصاصة في صدره فسقط عن جواده وتفرقت جموعه وأخذ الأخصام رأسه‏.‏

وبينما القوم في المعركة إذ ورد عليهم الخبر بموت ايواظ بك فانكسرت نفوسهم وذهبوا في طلبه فوجدوه مقتولًا مقطوع الرأس فحمله أتباعه ورجع القوم إلى منازلهم‏.‏

ولما قطعوا رأس ايواظ بك وذهبوا بها إلى محمد بك قال‏:‏ هذه رأس من قالوا رأس قليدهم ايواظ بك فأخذها وذهب بها عند أيوب بك ورضوان‏.‏

فقال أيوب بك‏:‏ هذه رأس من قال رأس قليدهم‏.‏

فبكى أيوب بك وقال‏:‏ حرم علينا عيش مصر‏.‏

قال محمد بك‏:‏ هذا رأس قليدهم وراحت عليهم‏.‏

قال أيوب بك‏:‏ أنت ربيت في أين أما تعلم أن ايواظ بك وراءه رجال وأولاد ومال‏.‏

وهذه الدعوة ليس للقاسمية فيها جناية والآن جرى الدم فيطلبون ثأرهم ويصرفون مالًا ولا يكون إلا ما يريده الله ولما ذهبوا بالرأس إلى الباشا فرح فرحًا شديدًا وظن تمام الأمر له ولمن معه وأعطى ذهبًا وبقاشيش ودفنوا ايواظ بك وطلبوا من أيوب بك الرأس فأرسلها لهم بعد ما سلخها الباشا فدفنوها مع جثته‏.‏

ثم أن أيوب بك كتب تذكرة وأرسلها إلى إبراهيم أبو شنب يعزيه في أيواظ بك ويقول له‏:‏ أن شاء الله تعالى بعد ثلاثة أيام نأخذ خاطر الباشا ويقع الصلح‏.‏

وأرادوا بذلك التثبيط حتى يأخذوا من الباشا دراهم يصرفونها ويرتبوا أمرهم‏.‏

وأما ما كان من أمر أتباع ايواظ بك فركب يوسف الجزار وأخذ معه اسمعيل بن ايواظ بك المتوفى وأحمد كاشف وذهبوا عند قانصوه بك فوجدوا عنده إبراهيم بك وأحمد بك مملوكه وقيطاس بك وعثمان بك بارم ذيله ومحمد بك الصغير المعروف بقطامش جالسين وفيهم الحزن والكآبة‏.‏

فلما استقر بهم الجلوس بكى قيطاس بك فقال له يوسف الجزار‏:‏ وما فائدة البكاء دبروا أمركم‏.‏

قالوا‏:‏ كيف العمل‏.‏

قال يوسف الجزار‏:‏ هذه الواقعة ليس لنا فيها علاقة أنتم فقارية في بعضكم وأننا الآن إنجرحنا ومات منا واحد خلف ألفًا وخلف مالًا اعملوني صنجقًا وأمير حاج وسر عسكر وأعملوا ابن سيدي اسمعيل صنجقًا يفتح بيت أبيه وفيه البركة وأعطوني فرمانًا من الذي جعلتموه قائمقام وحجة من نائب الشرع الذي أقمتموه أيضًا على أن الذي سقطت عدالته يسقط عنه حلوان البلاد ونحن نصرف الحلوان على العسكر والله يعطي النصر لمن يشاء من عباده‏.‏

ففعلوا ذلك وراضوا أمورهم في الثلاثة أيام وتهيأ الفريقان للمبارزة وخرجوا يوم السبت تاسع عشر ربيع الثاني وكان أيوب بك حصن منزله فاتفق رأيهم على محاربة العسكر المجتمعة أولًا ثم محاصرة المنزل فخرج أيوب بك على جهة طولون ووقعت حروب وأمور ثم رجعوا إلى منازلهم فلما رأى طائفة العزب تطاول الأمر وعدم التوصل إلى القلعة وامتناع من فيها وضرب المدافع عليهم ليلًا ونهارًا أجمع رأيهم على أن يولوا كتخدا على الينكجرية ويجلسوه بباب الوالي بطائفة من العسكر وينادوا في الشوارع بإن كل من كانت له علوفة في وجاقات مستحفظان يأتي تحت البيرق بالبوابة ومن لم يأت بعد ثلاثة أيام ينهب بيته‏.‏

ففعلوا ذلك وعملوا حسن جاويش قريب المرحوم جلب خليل كتخدا لكونها نوبته وألبسه قانصوه بك قائمقام قفطانًا وركب وأمامه الوالي والبيرق والعسكر والمنادي أمامه ينادي بما ذكر إلى أن نزل بيت الوالي وأحضروا الأوده باشا المتولي إذ ذاك وأجلسوه محله وطاف البلد بطائفته وكذلك العسكر‏.‏

وفي يوم الخميس هجمت الينكجرية من البذرم على باب العزب ومعهم محمد بك الكبير وكتخدا الباشا وإفرنج أحمد فعندما نزل أولهم من البذرم وكان العزب قد أعدوا في الزاوية التي تحت قصر يوسف مدفعين ملآنين بالرش والفلوس الجدد فضربوا عليهم فوقع محمد آغا سر كدك والبيرقدار وأنفار منهم فولوا منهزمين يطأ بعضهم بعضًا‏.‏

فأخذت العزب رؤوس المقتولين فأرسلوها إلى قانصوه بك‏.‏

ثم أن قائمقام والصناجق اتفقوا على تولية علي آغا مستحفظان لضبطه واهتمامه فلما أرسلوا له أبى أن يقبل ذلك فتغيب من منزله فركب يوسف بك الجزار ومحمد بك الصغير وعثمان بك في عدة كبيرة ودخلوا على منزل علي آغا لم يجدوه وأخبروا بالمكان الذي هو فيه فطلبوه فأتى بعد امتناع وتخويف وتوجه معهم إلى قائمقام فالبسه قفطان الآغاوية يوم الخميس رابع عشري ربيع الثاني وعاد إلى منزله بالقفطان يقدمه العسكر مشاة بالسلاح والملازمون معلنين بالتكبير وبلفظ الجلالة كما هي عادتهم في المواكب‏.‏

وفي صبيحة ذلك اليوم عين قائمقام بمعرفة حسن كتخدا مستحفظان طائفة من العسكر إلى بولاق صحبة أحمد جربجي ليجلسوه في التكية وصحبته والي بولاق وآغا من المتفرقة عوضًا عن آغات الرسالة الذي بها من جانب الباشا‏.‏

فأجلسوه في منزله ونهبوا ما وجدوه لأغات الرسالة الأول من فرش وأمتعة وخيل وغير ذلك‏.‏

وفي صبيحة يوم السبت سادس عشريه خرج الفريقان إلى خارج القاهرة من باب قناطر السباع واجتمعوا بالقرب من قصر العيني ومعهم المدافع وآلات الحرب فتحارب الفريقان من ضحوة النهار إلى العصر وقتل من الفريقين من دنا أجله وأيوب بك ومحمد بك بالقصر‏.‏

ثم تراجع الفريقان إلى داخل البلد وتأخرت طائفة من العزب فأتى إليهم محمد بك الصعيدي وأحتاط بهم وحاصرهم وبلغ الخبر قانصوه بك فأرسل إليهم يوسف بك ومحمد بك وعثمان بك فتقاتلوا مع محمد بك الصعيدي وهزموه وتبعوه إلى قنطرة السد وقد كان أيوب بك داخل التكية المجاورة لقصر العيني فلما رأى الحرب ركب جواده ونجا بنفسه فبلغ يوسف بك أنه بالتكية فقصدوه واحتاطوا بالقصر فاخبرهم الدراويش بذهابه فلم يصدقوهم ونهبوا القصر وأخربوه وأحرقوه وعادوا إلى منازلهم‏.‏

وفي صبيحة يوم الأحد ذهب يوسف بك الجزار ونهب غيط إفرنج احمد الذي بطريق بولاق وفي ثاني جمادى الأولى أجتمع الأمراء الصناجق بمنزل قائمقام وتنازعوا بسبب تطاول الحرب وامتداد الأيام ثم اتفقوا على أن ينادوا في المدينة بأن من له اسم في وجاق من الوجاقات السبعة ولم يحضر إلى بيت آغاته نهب ماله وقتل‏.‏

وأمهلوهم ثلاثة أيام ونودي بذلك في عصريتها وكتب قائمقام بيورلدي إلى من في القلعة من طائفة الينكجرية والكتخدائية والجربجية والاوده باشية والنفر بأننا أمهلناكم ثلاثة أيام فمن لم ينزل منكم بعدها ولم يمتثل نهبنا داره وهدمناها وقتلنا من ظفرنا به ومن فر رفعنا اسمه من الدفتر فتلاشى أمرهم واختلفت كلمتهم‏.‏

وفي رابعة خرج الأمراء والآغوات إلى محل الحرب وأرسلوا طائفة كبيرة من العسكر المشاة لمحاصرة منزل أيوب بك فتحارب الفرسان إلى آخر النهار وأما الرجالة فأنهم تسلقوا من منزل إبراهيم بك وتوصلوا إلىمنزل عمر آغا الجراكسة فتحاربوا مع من فيه إلى أن أخلوه ودخلوا فيه وشرعوا ليلًا في نقب الربع المبني على علو منزل أيوب بك فنقبوه وكمنوا فيه‏.‏

فلما كان صبيحة يوم الأحد خامس عشرة حملوا حملة واحدة على منزل أيوب بك وضربوا البنادق فلم يجدوا من يمنعهم بل فر كل من فيه وركب أيوب بك وخرج هاربًا من باب الجبل فلم يعلم أين توجه فملوا منزله ونهبوه مع كونه كان مستعدا وركب في أعالي منزله المدافع وفي قلعة الكبش فأرسل له إفرنج أحمد بيرقًا وعساكر فلم يفده ذلك شيئًا ونهبوا أيضا منزل احمد آغا التفكجية بعدما قتلوه ببيت قائمقام ولحق من لحق بأيوب بك وفر الجميع إلى جهة الشام وفر محمد بك إلى جهة الصعيد ووقع النهب في بيوت من كان في حزبهم ونهبوا بيت يوسف آغا ناظر الكسوة سابقًا وبيت محمد آغا متفرقة باشا وبيت محمد بك الكبير وأحرقوه وبيت احمد جربجي القونيلي وأحرقوا بيت أيوب بك وما لاصقه من الربع والدكاكين‏.‏

فلما حصل ذلك واجتمع العساكر بمنزل قائمقام بالأسلحة وآلات الحرب وذلك سادس جمادى الأولى فأرسلوا طائفة إلى جبل الجيوشي فركبوا مدافع على محل الباشا ومدافع على قلعة المستحفظان وأحاطوا بالقلعة من أسفل وضربوا ستة مدافع على الباشا ورموا بنادق‏.‏

فنصب الباشا بيرقًا أبيض يطلب الأمان وفر من كان داخل القلعة من العسكر‏.‏

فبعضهم نزل بالحبال من السور وبعضهم خرج من باب المطبخ فعند ذلك هجمت العساكر الخارجة على الباب ودخلوا الديوان فأرسل الباشا القاضي ونقيب الأشراف يأخذان له أمانا من الصناجق والعسكر فتلقوهما وأكرموهما وسألوهما عن قصدهما فقالا لهم‏:‏ أن الباشا يقرئكم السلام ويقول لك آنا كنا اغتررنا بهؤلاء الشياطين وقد فروا المراد أن تعلمونا بمطلوبكم فلا نخالفكم‏.‏

فقالوا لهما‏:‏ اعلموه أن الصناجق والأمراء والأغوات والعسكر قد اتفقوا على عزله وان قانصوه بك قائمقام وأما الباشا فانه ينزل ويسكن في المدينة إلى أن نعرض الأمر على الدولة ويأتينا جوابهم‏.‏

فأرسل القاضي نائبه إلى الباشا يعرفه عن ذلك فأجابه بالطاعة واستأمنهم على نفسه وماله وأتباعه وركب من ساعته في خوصه يقدمه قائمقام وآغات مستحفظان عن يمينه وآغات المتفرقة عن شماله واختيارية الوجاقات من خلفه وأمامه ونزل من باب الميدان وشق من الرميلة على الصليبة والعامة قد اصطفت يشافهونه بالسب واللعن إلى أن دخل بيت علي آغا الخازندار بجوار المظفر وهجم العسكر على باب مستحفظان فملكوه ونهبوا بعض أسباب حسين آغا مستحفظان‏.‏

وخرج حسين آغا من المطبخ فلما رآه يوسف بك أشار إلى العسكر فقطعوه وقطعوا اسمعيل أفندي بالمحجر وكذلك عمر آغات الجراكسة بحضرة اسمعيل بن ايواظ وخازنداره ذو الفقار وقع في عرض بلدية علي خازندار وحسن كتخدا الجلفي فحمياه من القتل وذو الفقار هذا هو الذي قتل اسمعيل بك بن ايواظ وصار أميرًا كما يأتي ذكر ذلك في موضعه فقتلوه بباب العزب ونزل إفرنج أحمد وكجك أحمد أوده باشا إلى المحجر متنكرين فعرفهما الجالسون بالمحجر فقبضوا عليهما وذهبوا بهما إلى باب العزب وقطعوا رؤوسهما وذهبوا بهما إلى بيت ايواز بك‏.‏

وطلع علي آغا إلى محل حكمه وطلع حسن كتخدا من باب الوالي وأمامه العساكر بالأسلحة إلى باب مستحفظان والبيرق أمامه‏.‏

ونزل جاويش إلى أحمد كتخدا برمقس فوجده في بيت اسمعيل كتخدا عزبان فأخذه وطلع به إلى الباب فخنقوه وأخذوه إلى منزله في تابوت‏.‏

وركب علي آغا وأمامه الملازمون بالبيرشان فطاف البلد وأمر بتنظيف الأتربة وأحجار المتاريس وبناء النقوب وألبس قائمقام آغوات البلكات السبع قفاطين وطلع الذين كانوا بباب العزب من الينكجرية إلى بابهم وعدتهم ستمائة إنسان‏.‏

وفي حادي عشر جمادى الأولى لبس يوسف بك الجزار على إمارة الحاج ومحمود بك على السويس وعين يوسف بك المذكور مصطفى آغات الجراكسة للتجريدة على الشرقية‏.‏

وفي رابع عشره لبس محمد بك الصغير على ولاية الصعيد وخرج من بيته بموكب إلى الأثر وصحبته الطوائف الذين عينوا معه من السبع بلكات بسر دارياتهم وبيارقهم وعدتهم خمسمائة نفر منهم مائتان من الينكجرية والعزب وثلاثمائة نفر من الخمس بلكات أعطوا كل نفر من المائتين ألف نصف فضة ترحيلة ولكل شخص من الثلاثمائة ألف وخمسمائة نصف فضة وسافروا رابع جمادى الآخرة وكان محمد بك الكبير خرج مقبلًا وصحبته الهوارة فخرج وراءه يوسف بك الجزار وعثمان بك بارم ذيله ومحمد بك قطامش فوصلوا دير الطين فلاقاهم شيخ الترابين فأخبرهم أنه مر من ناحية التبين نصف الليل فرجعوا إلى منازلهم وبلغهم في حال رجوعهم أن خازندار رضوان آغا تخلف عند الدراويش بالتكية فقبضوا عليه وقطعوا دماغه ولم يزل محمد بك الصعيدي حتى وصل اخميم وصحبته الهوارة وقبل ما بها من الشكاف ونهب البلاد وفعل أفعالًا قبيحة‏.‏

ثم ذهب إلى أسيوط وأرسل إلى قائمقام جرجا فتصرف في جميع تعلقاته وأرسلها إليه نقودًا ونزل مختفيًا إلى بحري ومر من أنيابة نصف الليل ولم يزل سائرًا إلى دمياط ونزل في مركب إفرنجي وطلع إلى حلب ووصل خبره إلى السردار فجمع السردارة والعسكر ولحقوه على البرج فلم يدركوه ثم أنه ركب من حلب وذهب إلى دار السلطنة من البر وكان أيوب بك ومحمد آغا متفرقة وكتخدا الجاويشة سليمان آغا وحسن الوالي وصلوا قبله وقابلوا الوزير وأعلموه بقصتهم وعرضوا عليه الفتوى وعرض الباشا والقاضي فأكرمهم وأنزلهم في مكان ورتب لهم تعيينًا‏.‏

ثم أتاهم محمد بك وقابل معهم الوزير أيضًا فخلع عليه وولاه منصبًا‏.‏

وأما رضوان آغا فإنه تخلف ببلاد الشام ومحمد آغا الكور صحبته‏.‏ وفي

تاسع عشر جمادى الأولى

رجع يوسف بك ومصطفى آغا من الشرقية‏.‏

وفي سابع جمادى الآخرة تقلد محمد بك ابن اسمعيل بك ابن ايواظ بك الصنجقية ثم أنهم اجتمعوا في بيت قائمقام وكتبوا عرضحال بصورة ما وقع وطلبوا إرسال باشا واليًا على مصر وذكروا فيه أن الخزنة تصل صحبة محمد بك الدالي وانقضت الفتنة وما حصل بها من الوقائع التي لخصنا بعضها وذكرناه على سبيل الاختصار واستمر خليل باشا بمصر حتى حضر والي باشا وحاسبوه وسافر في ثامن عشر جمادى الأولى سنة أربع وعشرين ومائة وألف وكانت أيام فتن وحروب وشرور‏.‏

ثم تولى على مصر والي باشا فوصل إلى مصر وطلع إلى القلعة في أواخر رجب سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف‏.‏

وفي شوال قلدوا أحمد بك الأعسر تابع إبراهيم بك صنجقية وزادوه كشوفية البحيرة وكان قانصوه بك قائمقام قبل وصول الباشا رسم بإخراج تجريدة إلى هوارة المفسدين الذين أتوا إلى مصر صحبة محمد بك الصعيدي ورجعوا صحبته وأخربوا أخميم وقتلوا الكشاف وأمير التجريدة محمد بك قطامش وصحبته ألف عسكري وأعطوا كل عسكري ثلاثة آلاف نصف فضة من مال البهار سنة تاريخه وأن يكون محمد بك حاكم جرجا عن سنة ثلاثة وعشرين وأربعة وعشرين وقضى أشغاله وبرز خيامه إلى الآثار ثم طلب الوجه البلي إلى أن وصل إلى اسيوط فقبض على كل من وجده من طرف محمد بك الصعيدي وقتله ومنهم حسين أوده باشا ابن دقماق ثم انتقل إلى منفلوط وهربت طوائف الهوارة بأهلها إلى الجبل الغربي واتت إليه هوارة بحري صحبة الأمير حسن فأخبروه بما وقع لهم وساروا صحبته إلى جرجا فنزل بالصيوان وأبرز فرمانا قرئ بحضرة الجميع باهراق دم هوارة قبلي وأمر بالركوب عليهم إلى أسنا وتسلط عليهم هوارة تجري ونهبوا مواشيهم وأغنامهم ومتاعهم وطواحينهم واشتفوا منهم وكل من وجدوه منهم قتلوه ولم يزل في سيره حتى وصل قنا وقوص وثم رجع إلى جرجا ثم أن هوارة قبلي التجئوا إلى إبراهيم بك أبو شنب والتمسوا منه أن يأخذ لهم مكتوبا من قيطاس بك بالأمان ومكتوبًا إلى حاكم الصعيد كذلك وفرمانا من الباشا بموجب ذلك فأرسل إلى قيطاس بك تذكرة صحبة احمد بك الأعسر يترجى عنده فأجاب إلى ذلك وأرسلوا به محمد كاشف كتخدا وبرجوع التجريدة والعفو عن الهوارة‏.‏

ورجع محمد كاشف والتجريدة وصحبته التقادم والهدايا وأرسلوا إلى إبراهيم بك مركب غلال وخيول مثمنة وأغنامًا‏.‏

وفي أواخر شوال ورد آغا من الدولة وعلى يده مرسومات منها محاسبة خليل باشا واستعجال الخزينة وبيع بلاد من قتل في أيام الفتنة وكذلك أملاكهم‏.‏

وفي شهر رمضان قبل ذلك جلس بجامع المؤيد فكثر عليه الجمع وأزدحم المسجد وأكثرهم أتراك ثم أنتقل من الوعظ وذكر ما يفعله أهل مصر بضرايح الأولياء وإيقاد الشموع والقناديل على قبور الأولياء وتقبيل أعتابهم وفعل ذلك كفر يجب على الناس تركه وعلى ولاة الأمور السعي في أبطال ذلك‏.‏

وذكر أيضًا قول الشعراني في طبقاته أن بعض الأولياء أطلع على اللوح المحفوظ أنه لا يجوز ذلك ولا تطلع الأنبياء فضلًا عن الأولياء على اللوح المحفوظ وأنه لا يجوز ذلك ولا تطلع الأنبياء فضلًا عن والتكايا ويجب هدم ذلك‏.‏

وذكر أيضا وقوف الفقراء بباب زويلة في ليالي رمضان‏.‏

فلما سمع حزبه ذلك خرجوا بعد صلاة التروايح ووقفوا بالنبابيت والأسلحة فهرب الذين يقفون بالباب فقطعوا الجوخ والاكر المعلقة وهم يقولون‏:‏ أين الأولياء‏.‏

فذهب بعض الناس إلى العلماء بالأزهر وأخبروهم بقول ذلك الواعظ وكتبوا فتوى وأجاب عليها الشيخ أحمد النفراوي والشيخ أحمد الخليفي بأن كرامات الأولياء لا تنقطع بالموت وأن إنكاره على اطلاع الأولياء على اللوح المحفوظ لا يجوز ويجب على الحاكم زجره عن ذلك‏.‏

وأخذ بعض الناس تلك الفتوى ودفعها للواعظ وهو في مجلس وعظه فلما قرأها غضب وقال‏:‏ يا أيها الناس أن علماء بلدكم أفتوا بخلاف ما ذكرت لكم وأني أريد أن أتكلم معهم وأباحثهم في مجلس قاضي العسكر فهل منكم من يساعدني على ذلك وينصر الحق‏.‏

فقال له الجماعة‏:‏ نحن معك لا نفارقك‏.‏

فنزل عن الكرسي وأجتمع عليه من العامة زيادة عن ألف نفس ومر بهم من وسط القاهرة إلى أن دخل بيت القاضي قريب العصر فانزعج القاضي وسألهم عن مرادهم فقدموا له الفتوى وطلب منه إحضار المفتيين والتحدث معهما‏.‏

فقال القاضي‏:‏ اصرفوا هؤلاء الجموع ثم نحضرهم ونسمع دعواكم‏.‏

فقالوا‏:‏ ما بقول في هذه الفتوى قال‏:‏ باطلة‏.‏

فطلبوا منه أن يكتب لهم حجة ببطلانها‏.‏

فقال‏:‏ أن الوقت قد ضاق والشهود ذهبوا إلى منازلهم وخرج الترجمان‏.‏

فقال لهم ذلك فضربوه واختفى القاضي بحريمه‏.‏

فما وسع النائب إلا أنه كتب لهم حجة حسب مرادهم ثم اجتمع الناس في يوم الثلاثاء عشرينه وقت الظهر بالمؤيد لسماع الوعظ على عادتهم فلم يحضر لهم الواعظ فأخذوا يسألون عن المانع من حضوره‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ أظن أن القاضي منعه من الوعظ‏.‏

فقام رجل منهم وقال‏:‏ أيها الناس من أراد أن ينصر الحق فليقم معي‏.‏

فتبعه الجم الغفير فمضى بهم إلى مجلس القاضي فلما رآهم القاضي ومن في المحكمة طارت عقولهم من الخوف وفر من بها من الشهود ولم يبق إلا القاضي فدخلوا عليه وقالوا له‏:‏ أين شيخنا فقال‏:‏ لا أدري‏.‏

فقالوا له‏:‏ قم واركب معنا إلى الديوان ونكلم الباشا في هذا الأمر ونسأله أن يحضر لنا أخصامنا الذي أفتوا بقتل شيخنا ونتباحث معهم فإن اثبتوا دعواهم نجوا من أيدينا وإلا قتلناهم فركب القاضي معهم مكرها وتبعوه من خلفه وأمامه إلى أن طلعوا إلى الديوان فسأله الباشا عن سبب حضوره في غير وقته‏.‏

فقال‏:‏ أنظر إلى هؤلاء الذين ملئوا الديوان والحوش فهم الذين أتوا بي وعرفه قصتهم وما وقع منهم بالأمس واليوم وأنهم ضربوا الترجمان وأخذوا مني حجة قهرا وأتوا اليوم وأركبوني قهرًا‏.‏

فأرسل الباشا إلى كتخدا الينكجرية وكتخدا العزب وقال لهما‏:‏ اسألوا هؤلاء عن مرادهم‏.‏

فقالوا‏:‏ نريد إحضار النفراوي والخليفي ليبحثا مع شيخنا فيما أفتيا به عليه فأعطاهم الباشا بيورلديا على مرادهم ونزلوا إلى المؤيد وأتوا بالواعظ وأصعدوه إلى الكرسي فصار يعظهم ويحرضهم على اجتماعهم في غد بالمؤيد ويذهبون بجمعيتهم إلى القاضي وحضهم على الإنتصار للدين وقمع الدجالين‏.‏

وافترقوا على ذلك وأما الباشا أنه لما أعطاهم البيورلدي أرسل بيورلديا إلى إبراهيم بك وقيطاس بك يعرفهم ما حصل وما فعله العامة من سؤ الأدب وقصدهم تحريك الفتن وتحقيرنا نحن والقاضي وقد عزمت أنا والقاضي على السفر من البلد‏.‏

فلما قرأ الأمراء ذلك لم يقر لهم قرار وجمعوا الصناجق والآغوات ببيت الدفتردار وأجمعوا رأيهم على أن ينظروا هذه العصبة من أي وجاق ويخرجوا من حقهم وينفي ذلك الواعظ من البلد‏.‏

وأمروا الآغا أن يركب ومن رآه منهم قبض عليه وأن يدخل جامع المؤيد ويطرد من يسكنه من السفط‏.‏

فلما كان صبيحة ذلك اليوم ركب الآغا وأرسل الجاويشية إلى جامع المؤيد فلم يجدوا منهم أحدا وجعل يفحص ويفتش على أفراد المتعصبين فمن ظفر به أرسله إلى باب آغاته فضربوا بعضهم ونفوا بعضهم وسكنت الفتنة‏.‏

سنة أربع وعشرين ومائة وألف وفي ثالث المحرم سنة أربع وعشرين ومائة وألف ورد مرسوم سلطاني بطلب ثلاثة آلاف من العساكر المصرية إلى الغزو‏.‏

وفي ثامنه تشاجر رجل شريف مع تركي في سوق البندقانيين فضرب التركي الشريف فقتله ولم يعلم أين ذهب‏.‏

فوضع الأشراف المقتول في تابوت وطلعوا به إلى الديوان واثبتوا القتل على القاتل‏.‏

فلما كان يوم عاشرة قامت الأشراف وقفلوا أسواق القاهرة وصاروا يرجمون أصحاب الدكاكين بالحجارة ويأمرونهم بقفل الدكاكين وكل من لقوه من الرعية أو من أمير يضربونه‏.‏

ومكثوا على ذلك يومهم وأصبحوا كذلك يوم الجمعة وأرسلوا خبرًا للأشراف القاطنين بقرى مصر ليحضروا واجتمعوا بالمشهد الحسيني ثم خرجوا وأمامهم بيرق وذهبوا إلى منزل قيطاس بك الدفتردار فخرج عليهم أتباعه بالسلاح فطردوهم وهزموهم فلما تفاقم أمرهم تحركت عليهم العساكر وركب آغوات الاسباهية الثلاث وآغات الينكجرية في عددهم وعددهم وطافوا البلد‏.‏

فعند ذلك تفرقت الجمعية ورجع كل إلى مكانه ونادوا بالأمن والأمان وفتحت الدكاكين ثم أجتمع رأي الأمراء على نفي طائفة من أكابر الأشراف فتشفع فيهم المشايخ والعلماء فعفوا عنهم‏.‏

وفي هذا الشهر وقع ثلج بقريتي سرسنة وعشما من بلاد المنوفية كل قطعة منه مقدار نصف رطل وأقل وأكثر ثم نزلت صاعقة أحرقت مقدارًا عظيمًا من زرع الناحية وقتلت أناسًا‏.‏

وفي يوم الخميس ثامن ربيع الأول سافر مصطفى بك تابع يوسف آغا من بولاق بالعسكر صحبة المعينين للغزو وحضرت العساكر الذين كانوا في سفر الموسقو صحبة سر دارهم اسمعيل بك ولما عادوا إلى اسلامبول بالنصر وضعوا لهم على رؤوسهم ريشا في عمائمهم سمة لهم‏.‏

ومات وفي ثاني عشرينة قبل الغروب خرجت فرتينة بريح عاصف أظلم منها الجو وسقط منها بعض المنازل‏.‏

وفي غرة ربيع الثاني ورد آغا ومعه مرسوم مضمونه حصول الصلح بين السلطنة والموسقو ورجوع العسكر المصري ولما رجعوا أخذوا منهم ثلثي النفقة وتركوا لهم الثلث وكذلك التراقي من الجوامك التي تعطى للسردارية وأصحاب الدركات‏.‏

وفي ثامن عشره ورد قابجي باشا وعلى يده مرسوم بتقليد قيطاس بك الدفتردار أميرًا على الحاج عوضا عن يوسف بك الجزار وأن يكون إبراهيم بك بشناق المعروف بأبي شنب دفتردار‏.‏

فامتثلوا ذلك ولبسوا الخلع ومرسوم آخر بإنشاء سفينتين ببحر القلزم لحمل غلال الحرمين وأن يجهزوا إلى مكة مائة وخمسين كيسا من الأموال السلطانية برسم عمارة العين على يد محمد بك ابن حسين باشا‏.‏

ثم أن قيطاس بك اجتمع بالأمراء وشكا إليهم احتياجه لدراهم يستعين بها على لوازم الحاج ومهماته فعرضوا ذلك على الباشا وطلبوا منه أن يمده بخمسين كيسا من مال الخزينة ويعرض في شأنها بعد تسليمها إلى الدولة وأن لم يمضوا ذلك يحصلوها من الوجاقات بدلا عنها‏.‏

وفي يوم الأربعاء وصل من طريق الشام باشا معين لمحافظة جدة يسمى خليل باشا فدخل القاهرة في كبكبة عظيمة وعساكر رومية كثيرة يقال لهم سارجه سليمان وجمال محملة بالأثقال يقدمهم ثلاثة بيارق وخرج لملاقاته الباشا وقيطاس بك أمير الحاج في طائفة عظيمة من الأمراء والآغوات والصناجق وقابلوه وأنزلوه بالغيظ المعروف بحسن بك ومدوا هناك سماطًا عظيمًا حافلًا وقدموا له خيولا وساروا معه إلى أن دخلوا إلى المدينة في موكب عظيم إلى أن أنزلوه بمنزل المرحوم اسمعيل بك المتوفى في سفر الموسقو بجوار الحنفي فلم يزل هناك حتى سافر في أوائل رجب سنة تاريخه وخرج بموكب عظيم أيضًا وفي منتصف شعبان تقلد احمد بك الأعسر على ولاية جرجا عوضًا عن محمد بك الصغير المعروف بقطامش ثم ورد أمر بتقليد إمارة الحج لمحمد بك قطامش عوضًا عن سيده وطلع بالحج سنة أربع وعشرين ورجع سنة خمس وعشرين وذلك من فعل قيطاس بك سرًا وتقلد ولاية جرجا مصطفى بك مزلار‏.‏

وفي يوم الخميس عشرينه تقلد محمد بك المعروف بجركس تابع إبراهيم بك أبي شنب الصنجقية وكذلك قيطاس تابع قيطاس بك أمير الحج‏.‏

وفي عاشر شوال ورد عبد الباقي أفندي وتولى كتخدائية والي باشا ومعه بقرير للباشا على ولاية مصر‏.‏

وفي ثالث عشر ذي القعدة ورد أيضًا مرسوم صحبة آغا معين بطلب ثلاثة آلاف من العسكر المصري لسفر الوسقو لنقضهم المهادنة وقرئ ذلك بالديوان بحضرة الجميع فألبسوا حسين بك المعروف بشلاق سردار عوضًا عن عثمان بك ابن سليمان بك بارم ذيله وقضى أشغاله وسافر في أوائل المحرم‏.‏

سنة خمس وعشرين ومائة وألف ورد أيضا آغا باستعجال الخزينة ورجع الحجاج في شهر صفر صحبة محمد بك قطامش وانتهت رياسة مصر إلى قيطاس بك ومحمد بك وحسن كتخدا النجدلي وكور عبد الله وإبراهيم الصابونجي‏.‏

فسولت لقيطاس بك نفسه قطع بيت القاسمية وأخذ يدبر في ذلك وأغرى سالم بن حبيب فهجم على خيول اسمعيل بك ابن ايواز بك في الربيع وجم أذناب الخيول ومعارفها ما عدا الخيول الخاص فإنها كانت بدوار الوسية وذهب ولم يأخذ منها شيئا وحضر في صبحها أمير أخور فاخبروه وكان عنده يوسف بك الجزار فلاطفه وسكن حدته وأشار عليه بتقليد حسن أبي دفية قائمقام الناحية ففعل ذلك وجرت له مع ابن حبيب أمور ستذكر في ترجمة ابن حبيب فيما يأتي‏.‏

ثم أنه كتب عرضحال أيضا على لسان الأمير منصور الخبيري يذكر فيه أن عرب الضعفاء أخربوا الوادي وقطعوا درب الفيوم‏.‏

وأرسل ذلك العرضحال صحبة قاصد يأمنه فختمه منصور وأرسله إلى الباشا صحبة البكاري خفير القرافة‏.‏

فلما طلع قيطاس بك في صبحها إلى الباشا وأجتمع باقي الأمراء وكان قيطاس بك رتب مع الباشا أمرًا سرًا وأغراه وأطمعه في القاسمية وما يؤول إليه من حلوان بلاد إبراهيم بك ويوسف بك وابن ايواظ بك وأتباعهم فلما استقر مجلسهم دخل البكاري بالعرضحال فأخذه كاتب الديوان وقرأه على أسماع الحاضرين فأظهر الباشا الحدة وقال‏:‏ أنا أذهب لهؤلاء المفاسيد الذين يخربون بلاد السلطان ويقطعون الطريق‏.‏

فقال إبراهيم بك أقل ما فينا يخرج من حقهم وانحط الكلام على ذهاب إبراهيم بك واسمعيل بك ويوسف بك وقيطاس بك وعثمان بك ومحمد بك قطامش‏.‏

وكان قانصوه بك في بني سويف في الكشوفية وأحمد بك الأعسر في إقليم البحيرة فلما وقع الاتفاق على ذلك خلع عليهم الباشا قفاطين ونزلوا فأرسلوا خيامهم ومطابخهم إلى تحت أم خنان ببر الجيزة وعدوا بعد العصر ونزلوا بخيلهم‏.‏

واتفق قيطاس بك مع عثمان بك أنهم يعدون خلفهم بعد المغرب ويكونون أكلوا العشاء وعلوا على الخيول وعندما ينزلون إلى الصيوان يتركون الخيول ملجمة والماليك والطوائل بأسلحتها‏.‏

فإذا أتى إلينا الثلاثة صناجق نقتلهم ثم نركب على طوائفهم وخيولهم مربوطة فنقتل كل من وقع ونخلص ثار الفقارية الذين قتلهم خال إبراهيم بك في الطرانة‏.‏

فلما فعلوا ذلك وعدوا وأوقدوا المشاعل وذلك وقت العشاء ونزلوا بالصيوان قال إبراهيم بك ليوسف بك واسمعيل بك‏:‏ قوموا بنا نذهب عند قيطاس بك‏.‏

قالا له‏:‏ أنت فيك الكفاية‏.‏

فذهب إبراهيم بك وهو ماش ولم يخطر بباله شيء من الخيانة‏.‏

فلما دخل عندهم وسلم وجلس سأله قيطاس بك عن رفقائه‏.‏

فقال‏:‏ أنهم جالسون محلهم فلم يتم ما أرادوه فيهم من الخيانة‏.‏

فعند ذلك قام محمد بك وعثمان بك إلى خيامهما وقلعا سلاحهما وخلعا لجامات الخيل وعلقا مخالي التبن ورجعا إليهما فقال قيطاس بك لإبراهيم بك‏:‏ أركبوا أنتم الثلاثة في غد وانصبوا عند وسيم ونحن نذهب إلى جهة سقارة فنطرد العرب فيأتون إلى جهتكم فأركبوا عليهم‏.‏

فأجابه إلى ذلك‏.‏

ثم قام وذهب إلى رفقائه فأخبرهم بذلك وباتوا إلى الصباح‏.‏

وفي الصباح حملوا وساروا إلى جهة وسيم كما أشار إليهم قيطاس بك فنزلت إليهم الزيدية بالفطور فسألوهم عن العرب فقالوا لهم الوادي في أمن وأمان بحمد الله لا عرب ولا حرب ولا شر‏.‏

وأما قيطاس بك ومن معه فإنه رجع إلى مصر وأرسل إلى ابن حبيب بأن يجمع نصف سعد وعرب بلي ويرسلهم مع أبنه سالم يدهمون الجماعة بناحية وسيم ويقتلونهم فتلكأ ابن حبيب في جمع العربان لصداقة قديمة بينه وبين إبراهيم بك وحضر لهم رجل من الأجناد كان تخلف عنهم لعذر حصل له فأخبرهم برجوع قيطاس بك ومن معه إلى مصر فركب إبراهيم بك ويوسف بك واسمعيل بك ونزلوا بالجيزة عند أبي هريرة وصحبتهم خيالة الزيدية وباتوا هناك وعدوا في الصباح إلى وفي هذه السنة حصل طاعون وكان ابتداؤه في القاهرة في غرة ربيع الأول وتناقص في أواخر جمادى الآخرة‏.‏

ووصل عابدين باشا إلى الإسكندرية وتقلد يوسف بك الجزار قائمقام وخلع على ابن سيده اسمعيل بك ولما حضر الباشا إلى الحلي وطلع إلى العادلية وأحضر الأمراء تقادمهم وقدم له اسمعيل بك تقدمة عظيمة وأحبه الباشا وأختص به ومال قلبه إلى فرقة القاسمية فقلدهم المناصب والكشوفيات‏.‏

وحضر مرسوم بإمارة الحج لاسمعيل بك ابن ايواظ بك وعابدين باشا هذا هو الذي قتل قيطاس بك بقراميدان كما يأتي خبر ذلك في ترجمة قيطاس بك‏.‏

وهرب محمد بك قطامش تابعه بعد قتل سيده إلى بلاد الروم وأقام هناك مدة ثم عاد إلى مصر وسيأتي خبر ذلك في ترجمته‏.‏

وفي ولايته تقلد عبد الله كاشف وصاري علي وعلي الأرمني واسمعيل كاشف صناجق الأربعة ايواظية وتقلد منهم أيضا عبد الرحمن آغا ولجه آغات جمليه واسمعيل آغا كتخدا وايواظ بك كتخدا الجاويشية ومن أتباع إبراهيم بك أبي شنب قاسم الكبير وإبراهيم فارسكور وقاسم الغير ومحمد جلبي بن إبراهيم بك أبي شنب وجركس محمد الصغير خمستهم صناجق واستقر الحال وطلع بالحج الأمير اسمعيل بك ابن أيواظ سنة سبع وعشرين وسنة ثمان وعشرين في أمن وأمان وسخاء ورخاء‏.‏

وفي سنة ثمان وعشرين ورد آغا من اسلامبول وعلى يده مرسوم بطلب ثلاثة آلاف من العسكر المصري وعليهم أمير فادر وكانت النوبة على محمد بك جركس الكبير فلما اجتمعوا بالديوان وقرئ المرسوم خلع الباشا على محمد بك جركس القفطان ونزل إلى داره فطوى القفطان وأرسله إلى سيده إبراهيم بك ويقول له‏:‏ عندك خلافي صناجق كثيرة فأني قشلان‏.‏

فتكدر خاطره ثم أرسل إليه صحبة أحمد بك الأعسر عشرين كيسا فاستقلها فأعطاه أيضا وصولا بعشرة أكياس على الطرانه فجهز حاله وركب إلى قصر الحلي بالموكب وأحضر عنده الحريم فأقام أيامًا في حظه وصفائه والآغا المعين يستعجل السفر وفي كل يوم يأتيه فرمان من الباشا بالاستعجال والذهاب وهو لا يبالي بذلك‏.‏

ثم أن الباشا تكلم مع إبراهيم بك في شأن ذلك فلما نزل إلى بيته أرسل إليه أحمد بك الأعسر وقاسم بك الكبير فأخبراه بتقريظ الباشا والاستعجال فقال في جوابه‏:‏ جلوسي هنا أحسن من إقامتي تحت الطرانة حتى يدفعوا لي العشرة أكياس فلا أرتحل حتى تأتيني العشرة أكياس‏.‏

ورمى لهم الوصول فرجع أحمد بك إلى إبراهيم بك وأخبره بمقالته ورد إليه الوصول فما وسعه إلا أنه دفع ذلك القدر إليه نقدًا وقال‏:‏ سوف يخرب هذا بيتي بعناده‏.‏

فلما وصله ذلك نزل إلى المراكب وسافر‏.‏

ثم ورد مسلم علي باشا وأخبر بولايته مصر‏.‏

فاجتمعوا بالديوان وتقلد إبراهيم بك أبو شنب قائمقام ونزل إلى بيته وخلع على أحمد بك الأعسر وجعله أمين السماط‏.‏

ونزل عابدين باشا من القلعة عندما وصل الخبر بوصول علي باشا إلى إسكندرية وسافرت إليه أرباب الخدم والعكاكيز وسافر عابدين باشا قبل حضور علي باشا بمصر‏.‏

وحضر علي باشا وطلع إلى القلعة على الرسم المعتاد واستقر في ولاية مصر والأمور صالحة والفتن ساكنة ورياسة مصر للأمير إبراهيم بك أبي شنب الكبير والأمير اسمعيل بك ابن ايواظ بك ومحمد كتخدا جدك مستحفظان وإبراهيم جربجي الصابونجي عزبان وأتباع حسن جاويش القازدغلي وهم عثمان اوده باشا وسليمان أوده باشا تابع مصطفى كتخدا وخلافهم من رؤساء باب العزب وباقي البلكات ومات الأمير إبراهيم بك الكبير سنة ثلاثين فاستقل بالرياسة اسمعيل بك ابن ايواظ بك وسكن محمد بك ابن إبراهيم بك بمنزل أبيه وفي نفسه ما فيها من الغيرة والحسد لاسمعيل بك ابن حشداش أبيه‏.‏

وفي أواخر سنة تسع وعشرين ورد قابجي وعلى يده مرسوم بطلب ثلاثة آلاف من عسكر مصر وعليهم أمير لسفر الجهاد وكان الدور على محمد بك ابن ايواظ أخي اسمعيل بك فعلم أخوه أنه خفيف العقل فلا يستر نفسه في السفر فقلد أحمد كاشف صنجقية وجعله أمير العسكر وجعل مملوكه علي الهندي كتخداء إليه وقضوا أشغالهم‏.‏

وركب الأمير والسدادرة سنة ثلاثين وحضر محمد جركس من السفر في سنة ثلاثين فوجد سيده إبراهيم بك توفي وأمير مصر اسمعيل بك فتاقت نفسه للرياسة فضم إليه جماعة من الفقارية مثل حسين أبو يدك وذي الفقار تابع عمر آغا وأصلان وقيلان ومن يلوذ بهم من أمثالهم واتخذ لهم سراجًا قبيحًا يقال له الصيفي وكان الدفتردار في ذلك الوقت أحمد بك الأعسر تابع إبراهيم بك أبي شنب وكلما رأى تحرك محمد بك جركس لإثارة الفتن يهدي عليه ويلاطفه ويطفئ ناريته‏.‏

وكان ذو الفقار لما قتل سيده عمر آغا وأراد اسمعيل بك قتله أيضا في ذلك اليوم فوقع على خازندار حسن كتخدا الجلفي وحماه من القتل وأخرج له حسن كتخدا حصة في قمن العروس بالمحلول عن سيده وهي شركة اسمعيل بك ابن ايواظ ولم يقدر حسن كتخدا أن يذاكر اسمعيل بك في قائظها لعلمه بكراهته لذي الفقار ويريد قتله‏.‏

فلما مات حسن كتخدا الجلفي وحضر محمد بك جركس من السفر انضم إليه ذو الفقار المذكور وخاطب في شأنه اسمعيل بك فلم يفد ولم يرض أن يعطيه شيئا من فائظه وتكرر هذا مرارًا حتى ضاق خناق ذي الفقار من الفشل فدخل على محمد بك جركس في وقت خلوة وشكا إليه حاله وفاوضه في اغتيال اسمعيل بك‏.‏

فقال له‏:‏ أفعل ما تريد‏.‏

فأخذ معه في ثاني يوم أصلان وقيلان وجماعة خيالة من الفقارية ووقفوا لاسمعيل بك في طريق الرميلة عند سوق الغلة وهو طالع إلى الديوان فمر اسمعيل بك وصحبته يوسف بك الجزار واسمعيل بك جرجا وصاري علي بك فرموا عليهم بالرصاص فلم يصب منهم إلا رجل قواس ورمح اسمعيل بك ومن بصحبته إلى باب القلعة ونزل هناك وكتب عرضحال ملخصه الشكوى من محمد بك جركس وأنه قد جمع عنده المفسدين ويريد إثارة الفتن في البلد وأرسله إلى الباشا صحبة يوسف بك‏.‏

فأمر علي باشا بكتابة فرمان خطابًا للوجاقات بإحضار محمد بك جركس وإن أبى فحاربوه واقتلوه‏.‏

فلما وصل الخبر إلى جركس ركب مع المنضمين إليه فقارية وقاسمية ووصل إلى الرميلة فصادف الموجهين إليه فحاربهم وحاربوه وقتل حسين بك أبو يدك آخرون وانهزم جركس وتفرق من حوله ولم يتمكن من الوصول إلى داره‏.‏

فذهب على طريق الناصرية ولم يزل سائرا حتى وصل إلى شبرا ولم يبق صحبته سوى مملوكين‏.‏

فلاقاه جماعة من عرب الجزيرة فقبضوا عليهم واخذوا سلاحهم وأتوا بهم إلى بيت اسمعيل بك ابن ايواظ بك وكان عند أحمد كتخدا أمين البحرين والصابونجي فأشارا عليه بقتله فلم يرض وقال أنه دخل بيتي وخلع عليه فروة سمور وأعطاه كسوة وذهبا ونفاه إلى جزيرة قبرص‏.‏

ورجع العسكر الذين كانوا بالسفر واستشهد أمير العسكر أحمد بك فقلدت الدولة علي كتخدا الهندي صنجقًا عوضًا عن مخدومه أحمد بك وأعطوه نظر الخاصكية قيد الحياة وأطلقوا له بلاده من غير حلوان‏.‏

فلما وصلوا إلى مصر عمل له يوسف بك الجزار سماطًا بالحلي ثم ركب وطلع إلى القلعة وخلع الباشا على علي بك الهندي خلعة السلامة ونزل إلى بيت اسمعيل بك وأنعم عليه بتقاسيط بلاد فائظها اثنا عشر كيسا‏.‏

واستمر صنجقا وناظرا على الخاصكية‏.‏

وفي هذه السنة أعني سنة ثلاثين حصلت حادث ببولاق وهو أن سكان حارة الجوابر تشاجروا مع بعض الجمالة ابتاع أوسية أمير الحاج فحضر اليهم أمير اخور فضربوه ووصل الخبر إلى الأمير اسمعيل بك فأرسل إليهم آغات الينكجرية والوالي فضربوهم فركب الصنجق بطائفته وقتلوا منهم جماعة وهرب باقيهم وأخرجوا النساء بمتاعهن وسمروا الدرب من الجهتين وكانت حادثة مهولة واستمر الدرب مقفولا مسمرا نحو سنتين‏.‏

وفيها كان موسم سفر الخزينة وأميرها محمد بك ابن إبراهيم بك أبو شنب‏.‏

وكان وصل إليه الدور وخرج بالموكب وأرباب المناصب والسدارة ولما وصل إلى اسلامبول واجتمع بالوزير ورجال الدولة أوشى إليهم في حق اسمعيل بك ابن ايواظ وعرفهم أنه أن استمر أمره بمصر أدعى السلطنة بها وطرد النواب فإن الأمراء وكبار الوجاقات والدفتردار وكتخدا الجاويشية صاروا كلهم اتباعه ومماليكه ومماليك أبيه‏.‏

وعلي باشا المتولي لا يخرج عن مراده في كل شيء ونفى وأبعد كل من كان ناصحًا في خدمة الدولة مثل جركس ومن يلوذ به وعمل للدولة أربعة آلاف كيس على إزالة اسمعيل بك والباشا وتولية وال آخر يكون صاحب شهامة‏.‏

فأجابوه إلى ذلك‏.‏

وكان قبل خروجه من مصر أوصى قاسم بك الكبير على إحضار محمد بك جركس فأرسل إليه وأحضره خفية واختفى عنده‏.‏

ثم أن أهل الدولة عينوا رجب باشا أمير الحاج الشامي ورسموا له عند حضوره إلى مصر أن يقبض على علي باشا ويحاسبه ويقتله ثم يحتال على قتل اسمعيل بك أن ايواظ وعشيرته ما عدا بك الهندي‏.‏

ورجع محمد بك ابن أبي شنب إلى مصر وعمل دفتر دار وحضر مسلم رجب باشا ومعه الأمر بحبس علي باشا بقصر يوسف وقائمقامية إلى أحمد بك الأعسر‏.‏

وبعد أيام وصل الخبر بوصول رجب باشا إلى العريش وسافرت له الملاقاة وتقلد إبراهيم بك فارسكور أمين السماط وطلع اسمعيل بك أميرًا بالحج‏.‏

سنة إحدى وثلاثين وهي سنة إحدى وثلاثون ومائة وألف

وذلك عند وصول رجب باشا إلى العريش ثم حضر رجب باشا إلى مصر وعملوا له الشنك والموكب على العادة فلما اسقر بالقلعة أحضر إليه ابن علي باشا وخازنداره وكاتب خزينته والروزنامجي وأمره بعمل حسابه ثم قطع رأسه ظلمًا وسلخها وأرسلها إلى الباب ودفن علي باشا بمقام أبي جعفر الطحاوي بالقرافة ويعرف إلى الأن قبره بعلي باشا المظلوم وأمر بضبطجميع مخلفاته ثم أحضر له جركس خفية وأمر الآغا والوالي بالمناداة عليه وكل من آواه يشنق على باب داره‏.‏

ثم اختلى به وقال له‏:‏ كيف العمل والتدبير في قتل ابن ايواظ بك وجماعته فقال له‏:‏ الرأي في ذلك أن ترسل إلى العرب يقفون في طريق الوشاوشة فأنهم يرسلون يعرفونكم بذلك فأرسلوا لهم عبد الله بك وبعد عشرة أيام أرسلوا يوسف بك الجزار ومحمد بك ابن ايواظ بك واسمعيل بك جرجا وعبد الرحمن آغا ولجه آغات الجملية فعندما يرتحلون من البركة يقتل اسمعيل بك الدفتردار كتخدا الجاويشية عند ذلك أنا أظهر ونقلد إمارة الحج إلى محمد بك ابن اسمعيل بك ونرسله بتجريدة إلى ابن ايواظ بك يقتلونه مع جماعته وهذا هو الرأي والتدبير‏.‏

ففعلوا ذلك ولم يتم بل اختفى اسمعيل بك ودخل إلى مصر ثم ظهر بعد أن دبر أموره وعزل رجب باشا وأنزلوه إلى بيت مصطفى كتخدا عزبان وفسد تدبيره وكتبوا عرضحال بصورة الواقع وأرسلوه إلى اسلامبول‏.‏

وسيأتي تتمة خبر ذلك في ترجمة اسمعيل بك‏.‏

وكان رجب باشا أخذ من مال دار الضرب مائة وعشرين كيسا صرفها على التجريدة‏.‏

وصل محمد باشا النشانجي سنة ثلاث وثلاثين‏.‏

فعندما استقر بالقلعة طلب من رجب باشا المائة وعشرين كيسا وقلد إمارة الحج لمحمد بك فطلع بالحج سنة ثلاث وسنة أربع وثلاثين ثم حضر مرسوم والعفو لاسمعيل بك ابن ايواظ بك وقرئ بالديوان وساف رجب باشا وسكن الحال مع التنافر والحقد الباطني الكامن في نفس محمد بك جركس وابن أستاذه محمد بك أبي شنب لاسمعيل بك ابن ايواظ وهو يسامح لهم ويتغافل عن أفعالهم وقبائحهم ويسوس أموره معهم وكل عقدة عقدوها بمكرهم حلها بحسن رأيه وسياسته وجودة رأيه‏.‏

وجرت بينه وبينهم أمور ووقائع ومخاصمات وجمعيات ومصالحات يطول شرحها ذكرها أحمد جلبي عبد الغني في تاريخه الذي ضاع مني‏.‏

ولم يزل اسمعيل بك ظاهرا عليهم حتى خانوه واغتالوه وقتلوه بالقلعة على حين غفلة على يد ذي الفقار تابع عمر آغا وأصلان وقيلان ومن معهم وقتلوا وقتلوا معه اسمعيل بك جرجا وعبد الله آغا كتخدا الجاويشية ثم تحيلوا على قتل عبد الله بك ومحمد بك ابن ايواظ وإبراهيم بك ابن الجزار وذلك في سنة ست وثلاثين ومائة وألف في أيام ولاية محمد باشا المذكور‏.‏

وسيأتي تتمة ذلك في ذكر تراجمهم وقلدوا ذا الفقار قاتل اسمعيل بك الصنجقية وكشوفية المنوفية وأنضم إليه من كان خاملًا من الفقارية وبدأ أمرهم في الظهور‏.‏

فممن انضم إليه مصطفى بك يلفيه ومحمد بك أمير الحاج وهو ابن اسمعيل بك الكبير الفقاري واسمعيل بك الدالي وقيطاس بك الأعور واسمعيل بك ابن سيده ومصطفى بك فزلار وخلافهم اختيارية وآغوات من الوجاقلية ونظم أموره وقضى لوازمه وأشغاله وجعل مصطفى أفندي الدمياطي كاتب تركي وعزم على السفر إلى المنوفية وركب في موكب حافر وصحبته من ذكر من الفقارية‏.‏

وكان رجب كتخدا ومحمد جاويش الداودية متوجهين إلى بيت محمد بك جركس وكانا خصيصين به وبيدهما باب الينكجرية مع الاقواسي ولهما الكلمة بالباب دون القازدغلية‏.‏

فصادف موكب ذي الفقار فوقفا ونظرا إلى الراكبين معه من الفقارية فتغير خاطرهم على جركس وتكدر مزاجهما وترحما على اسمعيل بك ابن ايواظ‏.‏

ولما دخلا على جركس نظر إليهما فرآهما منفعلين فسألهما عن سبب انفعالهما فأخبراه بما رأياه‏.‏

وقالا ان دام هذا الحال قتلنا الفقارية فقال‏:‏ يكون خيرًا‏.‏

ثم أمر الصيفي بقتل أصلان وقيلان فوظب معه سراجا يثق به وأمره أن يقف في سلالم المقعد فعندما علم بحضورهما أحدث الصيفي مشاجرة مع ذلك السراج وفزع عليه بالطبنجة فهرب السراج من أمامه فجرى الصيفي خلفه فاخرج ذلك السراج طبنجته أيضا ورفع زنادها فقال له أصلان‏:‏ عيب فأفرغها فيه وفرغ أيضا الصيفي طبنجته في قيلان وذلك بسلالم المقعد ببيت جركس ومسح الخدم الدم وأخذوا خيولهما وأرسلوا المقتولين إلى بيوتهما في تابوتين‏.‏

ثم أن محمد بك جركس طلع إلى القلعة وطلب من الباشا فرمانا بتجريدة يرسلها إلى ذي الفقار ومن معه من الفقارية فامتنع الباشا وقال‏:‏ رجل خاطر بنفسه بمعرفتكم واطلاعكم كيف أني أعطيكم بعد ذلك فرمانا بقتله‏.‏

فقام جركس ونزل إلى بيته ولم يطلع بعد ذلك إلى الديوان وأهملوا الدواوين والباشا‏.‏

فلما ضاق خناق الباشا أبرز مرسوما رفع صنجقية جركس وكتب فرمانا للمشايخ والوجاقلية بذلك ويمنعهم من الذهاب إليه وبلغ إلى جركس فتدارك الأمر وعمل جمعيات ورتب أمورا واجتمعوا بالرميلة وحوالي القلعة وعزلوا الباشا وأنزلوه وأسكنوه في بيت ابن الدالي وكان ذلك في أواخر سنة سبع وثلاثين فكانت مدته في هذه المدة أربع سنوات وأرسلوا له محمد بك ابن أبي شنب فخلع عليه وجعلوه قائمقام وأخذوا منه فرمانا بالتجريدة على ذي الفقار وجعلوا إبراهيم بك فارسكور أمير العسكر وكاشف المنوفية‏.‏

ووصل الخبر إلى ذي الفقار بك بما حصل من مصطفى بك بلغيه فوزع طوائفه في البلاد ودخل إلى مصر خفية إلى بيت أحمد أوده باشا مطر باز‏.‏

فلما سافر إبراهيم بك بالتجريدة فلم يجده فضبط موجوداته وتحقق من المخبرين أنه دخل إلى مصر وأرسل الخبر بذلك لجركس فأمر لهلوبة الوالي والصيفي بالفحص والتفتيش عليه وأرسلوا عرضحال محضرًا بما نمقوه وبنزول الباشا‏.‏

وكان محمد باشا أرسل قبل ذلك مكاتبات لرجال الدولة بما حصل بالتفصيل فلما وصل عرض المصريين عينوا علي باشا واليا جديدًا إلى مصر بتدبير ومكيدة وصحبته قبودان وقابجي بطلب الأربعة آلاف كيس التي جعلها محمد بك ابن أبي شنب حلوانًا على بلاد الشواربية‏.‏

بعض الحوادث في تلك السنة من الحوادث في أيام محمد باشا أن في أول الخماسين طلع الناس على جري العادة في ذلك لاستنشاق النسيم في نواحي الخلاء وخرج سرب من النساء إلى الأزبكية وذهب منهن طائفة إلى غيط الأعجام تجاه قنطرة الدكة فحضر اليهن جماعة سراجون وبأيديهم السيوف من جهة الخليج وهم سكارى وهجموا عليهن وأخذوا ثيابهن وما عليهن من الحلي والحلل‏.‏

ثم أن الخفراء وأوده باشة القنطرة حضروا إليهن بعد ذهاب أولئك السراجين فأخذوا ما بقي وكملوا بقية النهب وجميع من كان هناك من النساء من الأكابر ومن جملة ما ضاع حزام جوهر وبشت جوهر قالوا أن الحزام قيمته تسعة أكياس والبشت خمسة أكياس‏.‏

ومن جملة من أن هناك آمنة الجنكية وصحبتها امرأة من الأكابر فعروهما وأخذوا ما عليهما وكان لها ولد صغير وعلى رأسه طاقية عليها جواهر وبنادقة وزوجا أساور جوهر وخلخال ذهب بندقي قديم وزنه أربعمائة مثقال‏.‏

ومن جملة ما أخذوا لباس شبيكة من الحرير الأصفر والقصب الأصفر وفي كل عين من الشبيكة لؤلؤة شريط مخيش والدكة كذلك واخذوا أزرهن وفرجياتهن وأرسلن إلى بيوتهن فتاتين بثياب يستترن بها وذهبن‏.‏

وكانت هذه الحادثة من أشنع الحوادث‏.‏

ثم أن في ثاني يوم قدموا عرضحال إلى الباشا وأخذوا على موجبة فرمانا إلى آغات الينكجرية على أنه يتوجه وصحبته الوالي واوده باشة البوابة فذهبوا إلى محل الواقعة وأحضروا أهل الخطة فشهدوا على أن هذه الفعلة من الخفراء بيد أوده باشة مركز القنطرة وهو الذي أرسل السراجين والحمارة فقبضوا على الخفراء والاوده باشا وسئلوا فأنكروا فحبس الاوده باشا في بابة والخفراء في العرقانة وأمر الباشا الوالي بعقابهم فلما رأوا آلة العذاب اقروا أن ذلك من فعل الاودة باشا‏.‏

فاخذوا منه مالا كثيرا ونفوه إلى أبي قير ونادى الآغا والوالي على النساء لا يذهبن إلى الغيطان بعد اليوم ولا يركبن الحمير‏.‏

ومنها أنه ورد آغا من الديار الرومية في سابع عشر ربيع الآخرة سنة خمس وثلاثين وعلى يده مرسوم بدفع ستين كيسا إلى باشة جدة ليشتروا بها مركبا هنديا لحمل غلال الحرمين عوضا عن مركب غرقت قبل هذا التاريخ‏.‏

وحضر صحبة ذلك الآغا تاجر عظيم من تجار الشوام ومعه أتباعه ووصل الجميع على خيل البريد إلى أن وصلوا إلى بركة الحاج‏.‏

فنزلوا يأخذوا لهم راحة لكونهم وصلوا أرض الأمان وفارقهم الآغا فنزل عليهم سالم بن حبيب فعراهم وأخذ ما معهم وكذلك كل من صادفه في الطريق‏.‏

ومن جملة ذلك سبعون جملا لعبد الرحمن بك محملة ذخيرة من الولجة إلى منزله وكذلك جمال عبد الله بك وجمال السقائين وحصل منهم ما لا خير فيه وكان صحبة سالم عرب الجزيرة ومغاربة‏.‏

وسبب ذلك أنه لما طرد من دجوة وذهب إلى الصعيد فنزل إلي قيحاس بك وجمع عليه عربان القبائل وحاربه وقتل أولاده فرجع من خلف الجبل وقعد بالبركة وقطع الطريق‏.‏

فلما وصل الخبر بذلك إلى مصر نزل إليه أمير الحاج وكاشف القليوبية حمزة بك تابع ابن ايواظ وعينوا صحبتهم عرب الصوالحة وهم نصف حرام فنزل أمير الحلي بالمسبك وجلس هناك وابن حبيب نازل في المساطب التي بعد البركة وناصب صيوان كاشف شرق اطفيح وكان نهبه وهو متوحه إلى قبلي فإن الكاشف لما أقبل عليه سالم رمح عليه وكان في قلة فهزمه سالم واخذ صيوانه ونهب الوطاق والجمال وأخذ النقاقير ونزل البركة وربط خيوله هو ومن معه في الغيطان‏.‏

فأكلوا ستة وثلاثين فدان برسيم في ليلة واحدة‏.‏

ثم أن الباشا أرسل إلى أمير الحاج بالرجوع وعينوا عبد الله بك وحمزة بك وخليل آغا وأرسل اسمعيل بك صحبتهم خمسمائة جندي من أتباعه ومن البلكات ومعهم فرمان لجميع العرب بالتعمير في أوطانهم ما عدا سالم بن حبيب وأخوته ومن يلوذ به وسافرت لهم التجريدة وارتحل ابن حبيب وسار إلى جهة غزة‏.‏

ونهبت التجريدة ما في طريقها من البلاد وأرسل إليهم ومنها أنه ورد شاهقتان وهما مركبان من أرض حوران مملوءتان قمح حنطة في كل واحدة عشرة آلاف اردب بيعتا في دمياط وكان سعر الغلة غاليا بمصر لقصور النيل في العام الماضي وتسامعت البلاد بذلك فهذا هو السبب في ورود هذين المركبين‏.‏

وفي شهر ذي القعدة سنة خمس وثلاثين ومائة وألف تقلدا الصنجقية علي آغا الأرمني الذي عرف بأبي العزب وكذلك علي آغا صنجقية وأمين العنبر وحاكم جرجا وكمل بذلك صناجق مصر أربعة وعشرين صنجقًا‏.‏

وكانوا في المعتاد القديم اثنين وعشرين وكتخدا الباشا وقبطان الإسكندرية فتكرم الباشا بصنجقية كتخداه لعلى بك الأرمني إكرامًا لاسمعيل بك ابن ايواظ بك فكمل بذلك عشرة من أتباع اسمعيلبك وهم اسمعيل بك الدفتردار وعبد الله بك وأخوه محمد وحمزة بك وعلي بك الهندي وصاري علي بك وإبراهيم بك خازندار الجزار وعبد الرحمن بك ولجه وعلي بك هذا المعروف بأبي العزب وهو عاشرهم ومن بيت أبي شنب محمد بك ابنه وجركس الكبير ومملوكه جركس الصغير وقاسم الكبير وقاسم الصغير والأعسر وإبراهيم بك فارسكور وذو الفقار تابع قانصوه ومصطفى بك القزلار وقيطاس بك تابع قيطاس بك الكبير وابن اسمعيل بك الدفتر دار وهو محمد بك وأحمد بك المسلماني ومرجان جور وإبراهيم الوالي تتمة أربعة عشرة‏.‏

وتقلد كشوفية الغربية محمد بن اسمعيل بك والبحيرة أحمد بك الأعسر وبني سويف قاسم بك الصغير والجيزة محمد بك أبي شنب الدفتر دار والشرقية عبد الرحمن بك‏.‏

ولبس علي القليوبية خليل آغا بعد عزله من آغاوية الجراكسة وتقلد قيطاس بك كشوفية المنوفية بعد عزله من آغاوية التفكجية وتقلد حسين آغا ابن محمد آغا تابع البكري كشوفية الفيوم وإبراهيم بك الوالي على الخزينة وألبس اسمعيل بك محمد آغا ابن أشرف علي آغاوية الجملية على ما هو عليه‏.‏

وكان أراد محمد بك تلبيس مصطفى آغا بلغيه فحصل بين بك ابن أبي شنب وبين اسمعيل بك ابن ايواظ بك غم وكلام في الديوان فلما رأى مصطفى آغا ذلك ما وسعه إلا النزول من باب الميدان وتركهم وألبس عبد الغفار أفندي آغاوية الجراكسة ومصطفى آغا تابع عبد الرحمن بك آغات متفرقة‏.‏

وركب اسمعيل بك بطائفته ونزل بن أبي شنب والأعسر وقاسم بك وهم مملوءون من الغيظ‏.‏

وفي رجب قبل ذلك ورد آغا من الديار الرومية وعلى يده مرسوم وسيف وقفطان للشريف يحيي شريف مكة وتقرير للباشا على السنة وآغاوية المتفرقة لعبد الغفار أفندي لم يسبق نظير ذلك‏.‏

وأن آغاوية المتفرقة تأتي من الديار الرومية وسبب ذلك أن حسن أفندي والد عبد الغفار أفندي كان عنده طواشي أهداه إلى السلطنة فأرسل ذلك الآغا آغاوية المتفرقة إلى ابن سيده فالبسه الباشا القفطان على ذلك فحصل بسبب ذلك فتنة في الوجاق‏.‏

وسبب ذلك أن وجاقهم فرقتان ظاهرتان بخلاف غيره والظاهر منهما ستة أشخاص من الاختيارية وهم سليمان آغا الشاطر وعلي آغا وعبد الرحمن آغا القاشقجي وخليل آغا وإبراهيم كاتب المتفرقة سابقًا وكبيرهم محمد آغا السنبلاوين وهم من طرف محمد بك جركس‏:‏ لكن لما ظهر اسمعيل بك انحطت كلمتهم وظهرت كلمة الذين من طرف اسمعيل بك وهم اسمعيل آغا ابن الدالي وأحمد حلبي بن حسين آغا أستاذ الطالبية وأيوب جلبي‏.‏

فلما تولى عبد الغفار آغاوية لحق أولئك الحقد والحسد وتناجوا فيما بينهم على أن يملكوا الباب فاجتمعوا بأنفارهم وملكوا الباب فهرب عبد الغفار آغا إلى بيت اسمعيل بك وكان عنده الجماعة الآخرون‏.‏

فدخل عليهم عبد الغفار آغا وأخبرهم بما حصل فأشار عليهم اسمعيل بك أن يذهبوا إلى بيت أحمد جلبي ويجعلوه محل الحكم‏.‏

وأرسل أولئك الطرف فطلبوا محمد آغا أبطال وباكير آغا تابع اسمعيل بك الكبير ومصطفى أغا وكانوا منفيين من بابهم إلى العزب وكانوا كبراءهم وخرجوا منهم في واقعة جركس المتقدمة فآبوا من الحضور إليهم‏.‏

فلما أبوا عليهم عملوا القاشقجي باش اختيار عوضًا عن أبطال وعزلوا وولوا على مرادهم وطلع في صبحها اسمعيل بك إلى الديوان وصحبته علي بك وأمير الحاج وأخبروا الباشا بما حصل فأرسل اثنين آغوات ومن كل وجاق اثنين اختيارية فأرسل لهم فرمانا بنفيهم إلى الكشيدة فأبوا وصمموا على عدم ذهابهم إلى الكشيدة‏.‏

وأقام الأمراء عند الباشا إلى الغروب ثم أنهم نزلوا ووعدوا الباشا أنهم في غد يفصلون هذا الأمر وأن لم يمتثلوا حاربناهم‏.‏

فلما كان في ثاني يوم عملوا جمعية واتفقوا على توزيع الستة أنفار على الست وجاقات وكتبوا من الباشا ست فرمانات لك فرد منهم فرمان فكان كذلك وتفرقوا في الوجاقات‏.‏

ونزل اسمعيل بك ابن ايواظ ثالث عشر رجب سنة خمس وثلاثين إلى بيته بعد أقامته في باب العزب ثلاثة أيام في طائفته ومماليكه وصناجقه بحيث أن أوائل الطائفة دخلوا إلى البيت قبل ركوبه من باب العزب وكان خلفه نحو المائتين بالطرابيش الكشف وتمم الأمر على مراده‏.‏

ثم تحقق الخبر فظهر له أن أصل هذه الفتنة من اسمعيل آغا ابن الدالي فطلع في ثاني يوم إلى الديوان وألبس اسمعيل آغا آغاوية العزب وأحضر محمد آغا أبطال باش اختيارًا‏.‏

وفي ذلك اليوم حضر عبد الله بك وحمزة بك المتوجهان إلى العزب ومعهما أربعمائة وخمسون رأسا وسبعة من القادم بالحياة فأرسل إليهما اسمعيل بك بأن يرميا الرؤوس في الخانقاة ويقتلا الذين بالحياة ويدخلا إلى مصر بالليل ففعلا ذلك والله أعلم بغرضه في ذلك‏.‏

وفي أيامه أيضًا في شعبان سنة خمس وثلاثين ورد عرضحال من مكة بان يحيى الشريف وعلي باشا والي جدة وعسكر مصر الذين عينوا صحبة أحمد بك المسلماني وأهل مكة تحاربوا مع الشريف مبارك شريف مكة سابقًا وكان معه سبعة آلاف من العرب اليمانية ووقع بينهم مقتلة عظيمة وسقط علي باشا من على ظهر جواده إلا أن أحمد بك أدركه وأنقذه بجواده الجنيب فخلع على أحمد بك خلعة سمور وسردارية مستحفظان‏.‏

وكان ذلك في عرفات وقتل من العرب زيادة عن ألفين وخمسمائة ومن العسكر نحو الخمسين ومن ابتاع الباشا كذلك‏.‏

ومات علي آغا سردار جمليان وكان الباشا قتل من الأشراف أثني عشر شخصًا وكانوا في جيرة الشريف يحيى وقد أبطل الجيرة ثم أنهم رجعوا بعد المعركة إلى جدة وأنهم مجتهدون في جمع اللموم وقادمون علينا بمكة والقصد الاهتمام والتعجيل بإرسال قدر ألف وخمسمائة عسكري وعليهم صنجق لأن الذين عندنا عندما ينقضي الحج يذهبون إلى بلادهم وتصير مكة خالية‏.‏

وقد أخبرناكم وأرسلنا بمثل ذلك إلى الديار الرومية صحبة الشيخ جلال الدين ومفتي مكة فكتب الباشا والأمراء بذلك أيضا وانتظروا الجواب‏.‏

ثم ورد الساعي وأخبر بوصول على باشا إلى سكندرية في غليون البليك وحضر بعد يومين الملم بقائم مقامية لمحمد بك جركس فخلع عليه فروة سمور وأنزله بمكان شهر حواله ورتب له تعيينات‏.‏

وسافرت الملاقاة وأرباب الخدم والجاويشية والملازمون‏.‏

وقلد محمد بك خازنداره رضوان صنجقية وجعله أمين السماط وأخذ الخاصكية من علي بك الهندي وأعطاها لرضوان المذكور وأبطل الخط الشريف الذي بيده بالخاصكية قيد حياته‏.‏

سنة ثمان وثلاثين ووصل الباشا في منتصف ربيع أول سنة 1138 وركب إلى العادلية وخلع خلع القدوم وقدموا له التقادم وطلع إلى القلعة بالموكب المعتاد وضربوا له المدافع والشنك وسكن الحال‏.‏

‏.‏

ثم أن محمد باشا المنفصل أرسل تذكرة على لسان كتخداه خطابا لمصطفى بك بلغيه وعثمان جاويش القازدغلي مضمونها أن حضرة الباشا يسلم عليكم ويقول كلم‏:‏ لا بد من التدبير في ظهور ذي الفقار وقطع بيت أبي شنب حكم الأمر السلطاني وتحصيل الأربعة آلاف كيس الحلوان المعين بها القابجي‏.‏

فلما وصلت التذكرة إلى مصطفى بك أحضر عثمان جاويش وعرضها عليه فقال‏:‏ هذا يحتاج أولًا إلى بيت مفتوح تجتمع فيه الناس‏.‏

فاتفقا على ضم علي بك الهندي إليهما وهو يجمع طوائف الصناجق المقتولين ومماليكهم ثم يدبرون تدبيرهم بعد ذلك‏.‏

فاعتذر بخلويدة فقالوا له‏:‏ نحن نساعدك وكل ما تريده يحضر إليك‏.‏

وأحضر أحمد أوده باشا المطرباز ذا الفقار عند علي بك الهندي أحضر مصطفى جلبي بن ايواظ فاحضر كامل طوائف أخيه وجماعة الأمراء المقتولين وبلغ محمد بك جركس أن علي بك الهندي عنده لموم وناس‏.‏

فأرسل له رجب كتخدا ومحمد جاويش يأمره بتفريق الجمعية ووعده برد نظر الخاشكية إليه‏.‏

فلما وصلا إليه وجدا كثرة الناس والازدحام وأكلا وشربا فقال له رجب‏:‏ كتخدا إيش هذا الحال وأنت خالي وجمع الناس يحتاج إلى مال‏.‏

فقال له وكيف أفعل قال‏:‏ أطردهم‏.‏

قال‏:‏ وكيف أطردهم وهم ما بين ابن أستاذي وخشداشي وابن خشداشي حتى أني رهنت بلدا‏.‏

فقال‏:‏ أقعد مع عائلتك وخدمك ونرد لك نظر الخاصكية وأخلص لك البلد المرهونة‏.‏

قال‏:‏ يكون خيرًا‏.‏

وانصرفا من عنده ودخل علي بك فاخبر ذا الفقار بذلك فقال له‏:‏ أرسل إلي سليمان آغا أبي دفية يوسف جربجي البركاوي‏.‏

فأرسل إليهما وأحضرهما وأدخلهما إليه وتشاوروا فيما يفعلونه‏.‏

فاتفقوا على قتل إبراهيم أفندي كتخدا العزب وبقتله يملكون باب العزب‏.‏

وعند ذلك يتم غرضنا‏.‏

فأصبحوا بعدما دبروا أمرهم مع الباشا المعزول والفقارية والشواربية وفرقوا الدراهم‏.‏

فركب أبو دفية بعد الفجر وأخذ في طريقه يوسف جربجي البركاوي ودخلا على إبراهيم كتخدا عزبان فركب معهم إلى الباب‏.‏

وتطليس ذو الفقار وأخذ صحبته سليمان كاشف ويوسف زوج هانم بنت ايواظ بك ويوسف الشرايبي ومحمد بن الجزار وأتوا إلى الرميلة ينتظرونهم بعدما ربطوا المحلات والجهات‏.‏

فعندما وصل إبراهيم كتخدا إلى الرميلة تقدم إليه سليمان كاشف ليسلم عليه وتبعه خازنداره ابن ايواظ وضربه فسقط إلى الأرض ورمحوا إلى الباب فطردوا البكجية وملكوه‏.‏

وركب في الحال محمد باشا وحضر إلى جامع المحمودية ونزل علي باشا إلى باب العزب واجتمعت كامل صناجق نصف سعد وقسموا المناصب مثل الحال القديم‏:‏ أمير الحلي من الفقارية والدفتر دار من القاسمية ومتفرقة باشا من الفقارية وكتخدا الجاويشية من القاسمية ونحو ذلك‏.‏

وقرأوا فاتحة على ذلك وأغات الينكجرية أبو دفية‏.‏

ومصطفى فندي الدمياطي زعيم وكان القبودان أتى من الإسكندرية ونزل في قصر عثمان جاويش القازدغلي بعسكره فأتى بهم وملك السلطان حسن وكرنك به مع ذي الفقار بك‏.‏

وخلع محمد باشا على علي بك الهندي دفتر دار وعلى ذي الفقار صنجقيته كما كان وعلى علي كاشف قطامش صنجقية وعلى سليمان كاشف صنجقية وحاكم جرجا وعلى مصطفى جلبي ابن ايواظ صنجقية وعلى يوسف آغا زوج هانم صنجقية وعلى يسف الشرايبي صنجقية وسليمان أبي دفية أغات مستحفظان ومصطفى الدمياطي والي‏.‏

وحضر إليهم محمد بك أمير الحاج سابقًا ومصطفى بك بلغيه واسمعيل بك الدالي وقيطاس بك الكور واسمعيل بك ابن قيطاس وأقاموا في المحمودية‏.‏

هذا ما كان من هؤلاء وأما محمد بك جركس فانه أستعد أيضًا وأرسل إلى بيت قاسم بك عدة كبيرة من الأجناد ومدافع وعملوا متاريس عند درب الحمام وجامع الحصرية وهجمت عساكرهم على من بسبيل المؤمن بالبنادق والرصاص حتى أجلوهم وهزموهم وهربوا إلى جهة القلعة وسوق السلاح وأكثرهم لم يدرك حصانه‏.‏

فلما وقع ذلك عملوا متاريسهم في الحال عند مذبح الجمال ورموا على من بالمحمودية وهرب المجتمعون بالرميلة وبنى طائفة جركس في الحال متاريس عند وكالة الاشكنية وأرتبك أمر الفرقة الأخرى‏.‏

ثم أن يوسف جررجي البركاوي وكان حين ذاك من الخاملين القشلانين وتقدم له الطلوع بالسفر سردار بيرق رمى نفسه في الهلاك وتسلق من باب العزب ونط الحائط والرصاص نازل وطلع عند محمد باشا والصناجق بالمحمودية وطلب منهم فرمانا لكتخدا العزب يعطيه بيرق سردن جشتي ومائة نفر وضمن لهم طرد الذين بسبيل المؤمن وملك بيت قاسم بك وعند ذلك يسير البيارق على بيت جركس‏.‏

وشرط عليهم أن يجعلوه بعد ذلك كتخدا العزب فكعلوا ذلك ونزل بمن معه من باب الميدان وسار بهم من جانب تكية اسمعيل باشا وهناك باب ينفذ على تربة الرميلة فوقف بهم هناك وطوى البيرق وهجم بمن معه على سبيل المؤمن بطلق رصاص متتبع وهو مهللون على حين غفلة‏.‏

فأجلوهم وفروا من مكانهم إلى درب الحصرية وهم في أقفيتهم حتى جاوزوا متاريسهم وملكوها منهم ودخلوا بيت قاسم بك وأداروا المدافع على بيت قاسم بك وصعدوا منارة جامع الحصرية ورموا بالبنادق على بيت قاسم بك‏.‏

فعند ذلك نزلت البيارق من الأبواب وساروا إلى جهة الصليبة وطلع القبو دان إلى قصر يوسف ورتب مدفعًا على بيت جركس على الرحيل والفرار فخرج معه أحمد بك الأعسر ومحمد بك جركس على الرحيل والفرار فخرج معه أحمد بك الأعسر ومحمد بك جركس الصغير وأركب خمسة من مماليكه على خمسة من الهجن المحملة بالمال وذهبوا إلى جهة مصر القديمة وعدوا إلى البر الآخر وساروا وتخلف منهم بمصر محمد بك ابن أبي شنب وعمر بك أمير الحاج ورضوان بك وعلي بك وإبراهيم بك فارسكور‏.‏

وطلع محمد باشا إلى القلعة ثانيًا ونزل علي باشا وسافر إلى منصبه بكريد‏.‏

وترأس ذو الفقار بك وقلد عثمان بك كاشف مملوكه منجقية وهو عثمان بك الشهير الذي يأتي ذكره وأرسلوه صحبة يوسف بك زوج هانم بنت ايواظ خلف محمد بك جركس ومعهم عساكر وآغات البلكات فصاروا كل من وجدوه من أتباع جركس بالجيزة أو خلافها يقتلونه‏.‏

ووقعوا بأحمد أفندي الروزنامجي فأرسلوه إلى محمد باشا فسجنه مع المعلم داود صاحب العيار بالعرقانة ثم قتلوهما وقتلوا عمر بك أمير الحاج ومحمد بك ابن أبي شنب وجدوه ميتا بالجامع الأزهر وعملوا رجب كتخدا سردار جداوي والاقواسي يمق‏.‏

وخرجا إلى بركة الحاج ليذهبا إلى السويس فأرسلوا من قتلهما أتى برؤوسهما ونهبوا بيوت المقتولين والهربانين وبعد أيام رجع عثمان بك ويوسف بك والتجريدة فأخبروا ذا الفقار بك وعلي بك الهندي أنهم وصلوا حوش ابن عيسى سألوا العرب عن محمد بك جركس ومن معه فأخبروهم أنهم باتوا هناك‏.‏

ثم أخذوا معهم دليلًا أوصلهم إلى الجبل الأخضر وركبوا من هناك إلى درنة‏.‏

وكان هروب جركس وخروجه من مصر يوم السبت سابع جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف‏.‏

ثم أنهم عملوا جمعية وكتبوا عرضحال بما حصل وأعطوه للقابجي وسلموه ألف كيس من أصل حلوان بلاد اسمعيل بك ابن ايواظ أمرائه وبلاد أبي شنب وأبنه وأمرأته أيضًا وذلك خلاف بلاد محمد بك قطامش ورضوان آغا وكور محمد آغا كتخدا قيطاس بك وكتبوا أيضا مكاتبة إلى الوزير الأعظم بطلب محمد بك قطامش تابع قيطاس بك الذي تقدم ذكره وهروبه إلى الروم بعد قتل سيده وختم عليه جميع الأمراء الصناجق والآغوات وأعطاه الباشا إلى قابجي باشا فلما وصل إلى الدولة طلب الوزير محمد بك فلما حضر بين يديه قال له أهل مصر‏:‏ أرسلوا يطلبونك إليهم بمصر‏.‏

فاعتذر بقلة ذات يديه وأنه مديون فأنعموا عليه بالدفتردارية والذهاب إلى مصر وكتبوا فرمانات لسائر الجهات بإهدار دم محمد بك جركس أينما وجد لأنه عاص ومفسد وأهل شر وذلك حسب طلب المصريين‏.‏

ثم أن محمد باشا والي مصر خلع على جماعة وقلدهم أمريات فقلد مصطفى بن ايواظ صنجقية وحسن آغات الجملية سابقًا صنجقية واسمعيل بن الدالي صنجقية ومحم جلبي بن يوسف بك الجزار صنجقية وسليمان كاشف القلاقي صنجقية وذلك خلاف الوجاقات والبلكات والسدادرة وغيرهم‏.‏

وسكن الحال وانتهت الرياسة بمصر إلى ذي الفقار بك وعلي بك الهندي‏.‏

وحضر محمد بك إلى مصر من الديار الرومية فلم يتمكن من الدفتردارية لأن علي بك الهندي تقلدها بموجب الشرط السابق وكل قليل يذاكر محمد بك ذا الفقار بك فيقول له‏:‏ طول روحك‏.‏

فاتفق أن علي بك المعروف بأبي العذب ومصطفى بك بن ايواظ ويوسف بك الخائن ويوسف بك الشرايبي وعبد الله آغا كتخدا الجاويشية وسليمان آغا ابادفية والكل من فرقة القاسمية كانوا يجتمعون في كل ليلة عند واحد منهم يعملون حظا ويشربون شرابًا‏.‏

فاجتمعوا في ليلة عند علي بك أبي العذاب فلما أخذ الشراب من عقولهم تأوه مصطفى بك ابن ايواظ وقال‏:‏ يموت العزيز أخي الكبير والصغير ويصير الهندي مملوكنا سلطان مصر ونأكل من تحت يده والباشا في قبضته‏.‏

وكان النيل قريب الوفاء فقال علي بك‏:‏ أنا أقتل الباشا يوم جبر البحر‏.‏

وقال أبو دفية‏:‏ وأنا أقتل ذا الفقار‏.‏

وقال مصطفى بك‏:‏ وأنا أقتل الهندي‏.‏

وكل واحد من الجماعة ألتزم بقتل واحد وقرؤوا الفاتحة وكان معهم مملوك أصله من مماليك عبد الله بك ولما قتل سيده هرب إلى الهند وأقام في خدمته أيامًا فلما تقلد مصطفى بك الصنجقية أخذه من علي بك الهندي‏.‏

فلما سمع منهم ذلك القول ذهب إلى علي بك الهندي وأخبره‏.‏

فأرسله إلى ذي الفقار فأخبره أيضًا‏.‏

فبعثه إلى الباشا فأخبره فلما كان يوم الديوان وطلع علي بك أبو العذب قبض عليه الباشا وقتله تحت ديوان قايتباي وأحاط بداره ونهب ما فيها وكان شيئًا كثيرًا وأرسل في الوقت فرمانًا إلى الآغا بالقبض على باقي الجماعة فقبضوا على مصطفى بك ابن ايواظ وأركبوه حمارًا وصحبته مقدمه وأحضروه إلى الباشا فأمر بقتله وقتل مقدمه أيضًا واختفى الباقون‏.‏

وأخذ ذو الفقار فرمانا ينفي هانم بنت ايواظ بك وأم محمد بك ابن أبي شنب ومحظيته علي بك فمانع عثمان جاويش القازدغلي في ذلك واستقبحه وضمن غائلتهن وألزمهن أن لا يخرجن من بيوتهن ورتب لهن كفايتهن‏.‏

فلما حصل ذلك ضعف جانب القاسمية وانفرد علي بك الهندي وكان ذو الفقار أرسل إلى الشام فأحضر رضوان آغا ومحمد آغا الكور فجعلوا رضوان آغا آغات الجملية ومحمد بك الجزار غائب بإقليم المنوفية‏.‏

فعند ذلك اغتنموا الفرصة وتحرك محمد بك قطامش في طلب الدفتردارية فدبروا أمرهم مع يوسف جربجي عزبان البركاوي ورضوان آغا وعثمان جاويش القازدغلي وقتلوا علي بك الهندي وذا الفقار قانصوه وأرسلوا إلى محمد بك الجزار تجريدة وأميرها اسمعيل بك قيطاس وهو بإقليم المنوفية وقلدوا مصطفى أفندي الدمياطي صنجقية وجعلوه حاكم جرجا‏.‏

وقبضوا على سليمان بك أبي شنب وقضى اسمعيل بك أشغاله وسافر بالتجريدة إلى المنوفية وأخذ صحبته عربان نصف سعد وساروا إلى محمد بك الجزار‏.‏

وأن لما وصله الخبر أخذ ما يعز عليه وترك الوطاق وأرتحل إلى جسر سديمة فلحقوه هناك وحاربوه وحاربهم وقتل بينهم أجناد وعر وحمى نفسه إلى الليل‏.‏

ثم أخذ معه مملوكين وبعض احتياجات وزل في مركب وسار إلى رشيد وترك أربع وعشرين مملوكًا فاخذوا الهجن وساروا ليلًا مبحرين حتى جاوزوا وطاق اسمعيل بك وتخلف عنهم مملوك ماشي فذهب إلى وطاق اسمعيل بك قيطاس وعرفه بمكانهم فأرسل إليهم كتخداه بطائفة فردوهم وأخذهم عنده فأقاموا في خدمته‏.‏

ولم يزل محمد بك في سيره حتى دخل إلى رشيد واختفى في وكالة ووصل خبره إلى حسين جربجي الخشاب فقبض عليه وقتله بع أن أستأذن في ذلك وتقلد في نظير ذلك الصنجقية وكشوفية البحيرة‏.

سنة أربعين ومائة وألف

ونزل بعد ذلك إلى البحيرة ثم حضر محمد بك جركس عن غيبته ببلاد الإفرنج وطلع على درنه وأرسل مركبه التي وصل فيها إلى الإسكندرية وحضر إليه أمراؤه الذين تركهم قبل جهة قبلي فركب معهم ونزل إلى البحيرة ليصل الإسكندرية‏.‏

فصادف حسين بك الخشاب ففر منه وغنم جركس خيامه وخيوله وجماله‏.‏

ثم رجع إلى الفيوم ونزل على بني سويف ثم ذهب إلى القطيعة قرب جرجا واجتمع عليه القاسمية المشردون فحاربه حسين بك حاكم جرجا والسدادرة وقتل حسن بك وطائفته واستولى على وطاقهم وعازفهم‏.‏

ووصلت أخباره إلى مصر فجمع ذو الفقار بك جمعية وأخرج فرمانًا بسفر تجريدة فسافر إليه عثمان بك وعلي بك قطامش وعساكر فتلاقوا معه بوادي البهنسا‏.‏

فكانت الهزيمة على التجريدة واستولى محمد بك جركس ومن معه على عرضيهم وخيامهم وحال بينهم الليل ورجع المهزومون إلى مصر‏.‏

فجمع ذو الفقار الأمراء واتفقوا على التشهيل وإخراج تجريدة أخرى فاحتاجوا إلى مصروف فطلبوا فرمانًا من الباشا بمبلغ ثلاثمائة كيس من الميري عن السنة القابلة فامتنع عليهم فركبوا عليه وأنزلوه وقلدوا محمد بك قطامش قائمقام وأخذوا منه فرمانًا بمطلوبهم وجهزوا أمر التجريدة واعتموا فيها اهتمامًا زائد ورتبوا أشغالهم‏.‏

وخرجوا وجرت أمور وحروب وقتل من جماعة جركس سليمان بك ثم وقعت الهزيمة على جركس‏.‏

تولية باكير باشا وعزله ووصل إلى مصر باكير باشا وذلك في سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف وطلع إلى القلعة فمكث أشهرًا وعزله العساكر في أواخر السنة وحصل بمصر في أيام هذه التجار يدضنك عظيم وثار جماعة القاسمية المختفون بالمدينة ودبروا مكرهم ورئيسهم في ذلك سليمان أغا أبو دفية‏.‏

ودخل منهم طائفة على ذي الفقار بك وقت العشاء في رمضان وقتلوه‏.‏

وكان محمد بك جركس جهة الشرق ينتظر موعدهم معه فقضى الله بموت جركس خارج مصر وموت ذي الفقار داخلها‏.‏

ولم يشعر أحدهما بموت الآخر وكان بينهما خمسة أيام وثارت أتباع ذي الفقار بالقاسمية وظهروا عليهم وقتلوهم وشردوهم ولي يقم منهم قائم بعد ذلك إلى يومنا هذا‏.‏

وانقرضت دولة القاسمية من الديار المصرية وظهرت دولة الفقارية وتفرع منها طائفة القازدغلية وسيأتي تتمة الأخبار عند ذكر تراجمهم في وفياتهم‏.‏

وقد جعلت هذا فضلا مستقلًا من أول القرن إلى سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف التي هي آخر دولة قاسمية‏.‏

ذكر من مات في هذه السنين من العلماء والأعاظم على سبيل الإجمال بحسب الإمكان فإني لم أعثر على شيء من تراجم المتقدمين من أهل هذا القرن ولم أجد شيئا مدونًا في ذلك إلا ما حصلته وفياتهم فقط وما وعيته في ذهني واستنبطته من بعض أسانيدهم وإجازات أشياخهم على حسب الطاقة وذلك من أول القرن إلى آخر سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف وهي أول دولة السلطان محمود بن وأولهم الإمام العلامة والحبر الفهامة شيخ السلام والمسلمين وارث علوم سيد المرسلين الشيخ محمد الخرشي المالكي شارح خليل وغيره ويروى عن والده الشيخ عبد الله الخرشي وعن العلامة الشيخ إبراهيم اللقاني كلاهما عن الشيخ سالم السنهوري المالكي عن النجم الغيطي عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن الحافظ بن حجر العسقلاني بسنده إلى الإمام البخاري في سنة إحدى ومائة وألف‏.‏

ومات الشيخ الإمام شمس الدين محمد بن داود بن سليمان العناني نزيل الجنبلاطية أخذ عن علي الحلي صاحب السيرة والشهاب الغزي والشمس البابلي والشهاب الخفاجي والبرهان اللقاني وغيرهم‏.‏

حدث عنه حسن بن علي البرهاني والخليفي والبديري وغيرهم توفي سنة ثمان وتسعين وألف‏.‏

ومات إمام المحققين وعمدة المدققين صاحب التآليف العديدة والتصانيف المفيدة السيد أحمد الحموي الحنفي ومن تصانيفه شرح الكنز وحاشية الدرر والغرر والرسائل وغير ذلك‏.‏

توفي أيضا في تلك السنة رحمه الله ومن شيوخه الشيخ علي الأجهوري والشيخ محمد ابن علان والشيخ منصور الطوخي والشيخ أحمد البشبيشي والشيخ خليل اللغاني وغيرهم كالشيخ عبد الله بن عيسى العلم الغزي‏.‏

ومات علامة الفنون الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن محمد ابن أحمد بن أمير الدين محمد الضرير بن شرف الدين حسين الحسيني الشهير بالشرنبابلي شيخ مشايخ الأزهر في عصره كذا ذكر نسبه شيخنا السيد مرتضى نقلا عن سبطه العلامة محمد بدر الدين أخذ عن شيوخ عدة كالشيخ سلطان المزاحي والشيخ علي الشبراماسي وأجازه البابلي وأخذ عنه اليليدي والملوي والجوهري والشبراوي بواسطة الشيخ عبد ربه الديوي توفي سنة اثنتين ومائة وألف‏.‏

ومات الشريف المعمر أبو الجمال محمد بن عبد الكريم الجزائري روى عن أبي عثمان سعيد قدورة وأبي البركات عبد القادر وأبي الوقاء الحسن ابن مسعود البوسي وأبي الغيث القشاشي وأجازه البابلي والأجهوري ومحمد الزرقاني وعبد العزيز بن محمد الزمزمي والشبراملسي والشهاب القليوني والغنيمي والشهاب الشلبي وحمد حجازي الواعظ ومفتي تعز محمد الحبشي والتجم الغزي والقشاشي والشهاب السبكي والمزاحي توفي سنة اثنتين ومائة وألف‏.‏

ومات الإمام العلامة أبو الأمداد خليل بن إبراهيم اللقاني المالكي أخذ عن والده وعن أخويه عبد السلام ومحمد اللقانيين والنور الأجهوري والشبراملسي والشيخ عبد الله الخرشي والشمس البابلي وسلطان المزاحي والشيخ عامر الشبراوي والشهاب القليوبي والشمس الشوبري الشافعي وأحمد الشوبري الحنفي وعبد الجواد الجنبلاطي ويس العليمي الشامي وأحمد الدواخلي وعلي النبتيتي وعقد دروسًا بالمسجد الحراس وأخذ بها عن محمد بن علان الصديقي والقاضي تاج الدين المالكي وبالمدينة عن الوجيه الخياري وغرس الدين الخليلي وأجازوه توفي سنة خمس ومائة وألف‏.‏

ومات الإمام أبو سالم عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياشي المغربي الإمام الرحالة قرأ بالمغرب على شيوخ منهم أخوه الأكبر عبد الكريم ابن محمد والعلامة أبو بكر بن يوسف الكتاني وأمام المغرب سيدي عبد القادر الفاسي والعلامة أحمد بن موسى الابار ورحل إلى المشرق فقرأ بمصر على النور الأجهوري والشهاب الخفاجي وإبراهيم المأموني وعلى الشبراملسي والشمس البابلي وسلطان المزاحي وعبد الجواد الطريني المالكي وجاور بالحرمين عدة سنين فأخذ عن زين العابدين الطبري وعبد الله بن سعيد باقشير وعلي بن الجمال وعبد العزيز الزمزمي وعيسى الثعالبي والشيخ إبراهيم الكردي وأجازوه ورجع إلى بلاده وأقام بها إلى أن توفي سنة تسعين وألف وله رحلة مجلدات وذكر فيها أنه أجتمع بالشيخ حسن العجمي وأجاز كل صاحبه ومات الإمام الحجة عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن محمد بن علوان الزرقاني المالكي الوفائي ولد سنة عشرين وألف بمصر ولازم النور الاجهوري مدة وأخذ عن الشيخ يس الحمصي والنور الشبراملسي وحضر في دروس الشمس البابلي الحديثية وأجازه جل شيوخه وتلقى الذكر من أبي الإكرام بن وفي سنة خمس وأربعين وألف وتصدر للإقراء بالأزهر وله مؤلفات منها شرح مختصر خليل وغيره توفي في رابع عشرين رمضان سنة تسع وتسعين وألف وصلى عليه إمامًا بالناس الشيخ محمد قوشي‏.‏

ومات عالم القدس الشيخ عبد الرحيم بن أبي اللطف الحسيني الحنفي المقدسي قرأ بمكة على الإمام زين العابدين بن عبد القادر الطبري وبمصر على الشيخ الشبراملسي والشمس البابلي والشمس الشوبري والفقه على الشهاب الشوبري الحنفي وحسن الشرنبلالي وعبد الكريم الحموي الطرابلسي وبدمشق على السيد محمد بن علي بن محمد الحسيني المقدسي الدمشقي توفي غريبًا بأدرنة سنة أربع ومائة وألف‏.‏

ومات الإمام العلامة شمس الدين محمد بن قاسم بن اسمعيل البقري المقرئ الشافعي الصوفي الشناوي أخذ علم القراءات عن الشيخ عبد الرحمني اليمني والحديث عن البابلي والفقه عن المزاحي والزيادي والشوبري ومحمد المنياوي والحديث أيضا عن النور الحلبي والبرهان اللقاني والطريقة عن عمه الشيخ موسى بن اسمعيل البقري والشيخ عبد الرحمن الحلبي الأحمدي وغالب علماء مصر أما تلميذه أو تلميذ تلميذه وألف وأجاد وانفرد ومولده سنة ثماني عشرة وألف ومات الأديب الفاضل الشاعر أبو بكر بن محمود بن أبي بكر بن أبي الفضل العمري الدمشقي الشافعي الشهير بالصفوري ولد بدمشق وبها نشأ ورحل إلى مصر وتوطنها وأخذ بها عن الشمس البابلي ونظم سيرة الحلبي ولم يتمه وجمع ديوان شعره باسم الأستاذ محمد بن زين العابدين البكري وكان من الملازمين له توفي سنة اثنتين ومائة وألف ودفن بتربة الشيخ فرج خارج بولاق عند قصر الأستاذ البكري‏.‏

ومات السيد عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن محمد كريشه بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن عبد الرحمن السقاف ترجمة صاحب المشرع فقال ولد بمكة وتربى في حجر والده وأدرك شيخ الإسلام عمر ابن عبد الرحيم البصري وصحب الشيخ محمد بن علوي وألبسه الخرقة وكذا أبو بكر بن حسين العيدروس الضرير وزوجه أبنته وأخذ عنه العلوم الشرعية وزار جده وعاد إلى مكة وبها توفي ليلة الجمعة سنة أربع ومائة وألف‏.‏

ومات الأستاذ زين العابدين محمد بن محمد بن محمد ابن الشيخ أبي المكارم محمد أبيض الوجه البكري الصديقي ولد سنة ستين وألف وكان تاريخ ولادته أشرق الأفق بزين العابدين توفي سنة سبع ومائة وألف في الفصل ودفن عند أسلافه بجوار الإمام الشافعي رضي الله عنه‏.‏

ومات السند شيخ الشيوخ برهان الدين إبراهيم بن حسن بن شهاب الدين الكوراني المدني ولد بشهر ان في شوال سنة خمس وعشرين وألف وأخذ العلم عن محمد شريف الكوراني الصديقي ثم أرتحل إلى بغداد وأقام بها مدة ثم دخل دمشق ثم إلى مصر ثم إلى الحرمين وألقى عصا تسياره بالمدينة المنورة ولازم الصيفي القشاشي وبه تخرج وأجازه الشهاب الخفاجي والشيخ سلطان والشمس البابلي وعبد الله بن سعيد اللاهوري وأبو الحسين علي بن مطير الحكمي وقد أجاز لمن أدرك عصره ووفي ثامن عشرين جمادى الأولى سنة إحدى ومائة وألف‏.‏

ومات الإمام العلامة برهان الدين إبراهيم بن مرعي الشبرخيتي المالكي تفقه على الشيخ الاجهوري والشيخ يوسف الفيشي وله مؤلفات منها شرح مختصر خليل في مجلدات وشرح علي العشماوي وشرح على الأربعين النووية وشرح على ألفية السيرة للعراقي مات غريقا بالنيل وهو متوجه إلى رشيد سنة ست ومائة وألف‏.‏

ومات الأستاذ أبو السعود بن صلاح الدين الدنجيهي الدمياطي المولد والمنشأ الشافعي الفال البارع ولد سنة ألف وستين وجود القرآن على العلامة بن المسعودي أبي النور الدمياطي ثم قدم مصر ولازم دروس الشهاب البشبيشي وجد في الأشغال وقدم مكة وتوفي وهو راجع من الحج بالمدينة في أوائل المحرم سنة تسع ومائة وألف‏.‏

ومات الإمام العلامة مفتي المسلمين الشيخ حسن بن علي بن محمد ابن عبد الرحمن الجيرتي الحنفي وهو جد الشيخ الوالد أخذ عن أشياخ عصره من أهل القرن الحادي عشر كالبابلي والاجهوري والزرقاني وسلطان المزاحي والشبراملسي والشهاب الشويري وتفقه على الشيخ حسن الشرنبلالي الكبير ولازمه ملازمة كلية وكتب تقاريره على نسخ الكتب التي حضرها عليه ومنها كتاب الأشباه والنظائر للعلامة بن نجيم وكتاب الدرر شرح الغرر لملاخسرو وكلا النسختين بخطه الأصلي وما عليهما من الهوامش ثم جرد ما عليهما فصارا تأليفين مستقلين وهما الحاشيتان المشهورتان على الدرر والأشباه للعلامة الشرنبلالي وكلتا النسختين وما عليهما من الهوامش موجودتان عندي إلى الآن بخط المترجم ومن تآليفه رسالة على البسملة‏.‏

ولما توفي الأستاذ الشرنبلالي في سنة تسع ستين وألف تصدر بعده للإفادة والتدريس والإفتاء وأقرأ ولده الشيخ حسن وتقيد به حتى ترعرع وتمهر وتوفي المترجم في سنة ست وتسعين وألف وترك الجد إبراهيم صغيرًا فربته والدته الحاجة مريم بنت المرحوم الشيخ محمد المنزلي حتى بلغ رشده فزوجته ببنت عبد الوهاب أفندي الدلجي وعقد عقده عليها بحضرة كل من الشيخ جمال الدين يوسف أبي الإرشاد ابن وفي والشيخ عبد الحي الشرنبلالي الحنفي وشهاب الدين أحمد المرحومي والشيخ شهاب الدين أحمد البرماوي والشيخ زين الدين أبي السعود الدنجيهي الشافعي الدمياطي شيخ المدرسة المتبولية والشيخ شمس الدين محمد الارمناوي وغيرهم المثبتة أسماؤهم في حجة العقد في كاغد كبير رومي محرر ومسطر بالذهب وعليه لوحة مموهة بالذهب مؤرخة بغاية شعبان سنة ثمان ومائة وألف وهي محفوظة عندي إلى الآن بإمضاء موسى أفندي بمحكمة الصالحية النجمية وبني بها في ربيع أول وحملت منه بالمرحوم الوالد وفات الحد بعد ولادة الوالد بشهر واحد وذلك في سنة عشر ومائة وألف وعمره ست عشرة سنة لا غير‏.‏

وماتت الإمام العلامة نور الدين حسن بن أحمد بن العباس بن أحمد ابن العباس بن أبي سعيد المكناسي ولد بها سنة ألف واثنتين وخمسين وقر الفاسي وكثيرين وقدم مصر سنة أربع وسبعين وألف وحضر دروس على محمد بن أحمد الفاسي نزيل مكناس وحضر دروس سيدي عبد القادر الشبراملسي ومنصور الطوخي وأحمد البشبيشي ويحيى الشهاوي وحج وأجتمع على السيد عبد الرحمن المحجوب المكناسي وكانت له مشاركة في سائر العلوم مات بمصر سنة إحدى ومائة وألف‏.‏

ومات الشيخ الإمام العلامة إبراهيم ابن محمد بن شهاب الدين بن خالد البرماوي الأزهري الشافعي الأنصاري الأحمدي شيخ الجامع الأزهر قرأ على الشمس الشوبري والمزاحي والبالبلي والشبراملسي ثم لازم دروس الشهاب القليوبي وأختص به وتصدر بعده بالتدريس في محله توفي سنة ست ومائة وألف روى عنه محمد بن خليل العجلوني وعلي ابن علي المرحومي نزيل ومات عالم المغرب الشيخ الإمام نور الدين حسن بن مسعود اليوسي قدم مكة حاجا سنة اثنتين ومائة وألف وله مؤلفات عديدة مشهورة توفي بالمغرب سنة إحدى عشرة ومائة وألف‏.‏

ومات الإمام العلامة شيخ الشيوخ الشيخ شاهين بن منصور بن عامر ابن حسن الارمناوي الحنفي ولد ببلده سنة ثلاثين وألف وحفظ القرآن والكنز والألفية والشاطبية والرجبية وغيرها ورحل إلى الأزهر فقرأ بالروايات على العلامة المقرئ عبد الرحمن اليمني الشافعي ولازم في الفقه العلامة أحمد الشوبري وأحمد المنشاوي الحنفيين وأحمد الرفاعي ويس الحمصي ومحمد المنزلاوي وعمر الدفري والشهاب القليوبي عبد السلام اللقاني وإبراهيم الميموني الشافعي وحسن الشرنبلالي الحنفي وفي العلوم العقلية شيخ الإسلام محمد الشهير بسيبويه تلميذ أحمد بن قاسم العبادي ولازمه كثيرًا وبشره بأشياء حصلت له وأخذ عن العلامة سري الدين الدروري والشيخ علي الشبراملسي والشمس البابلي وسلطان المزاحي وأجازه جل شيوخه وتصدر للإقراء في الأزهر في فنون عديدة وعنه أخذ جمع من الأعيان كمحمد ابن حسن الملا والسيد علي الحنفي وغيرهما توفي سنة إحدى ومائة وألف‏.‏

ومات العلامة الشيخ أحمد بن حسن البشتكي أخذ عن البناء وعن الشيخ محمد الشرنبابلي وتوفي سنة عشر ومائة وألف‏.‏

ومات السيد الشريف عبد الله بن أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بلفقيه التريمي الإمام الفقيه المحدث أخذ عن مصطفى بن زين العابدين العبدروس والسيد محمد سعيد وعنه ولده عبد الرحمن والسد شيخ بن مصطفى العيدروس وأخواه زين العابدين وجعفر توفي ببندر الشحر في آخر جمادى سنة أربع ومائة وألف‏.‏

ومات خاتمة المحدثين بمصر شمس السنة محمد بن منصور الآطفيحي الوفائي الشافعي ولد سنة اثنتين وأربعين وألف وأخذ عن أبي الضياء علي الشبراملسي وعن الشمس البابلي والشيخ سلطان المزاحي والشمس محمد عمر الشوبري والصوفي والسهاب أحمد القليوبي توفي سنة خمس عشرة ومائة وألف تاسع عشر شوال‏.‏

ومات إمام المحققين الشيخ عبد الحي بن عبد الحق بن عبد الشافي الشرنبلالي الحنفي علامة المتأخرين وقدوة المحققين ولد ببلده ونشأ بها ثم أرتحل إلى القاهرة واشتغل بالعلوم وأخذ عن الشيخ حسن الشرنبلالي والشهاب أحمد الشوبري وسلطان المزاحي والشمس البابلي وعلى الشبراملسي والشمس محمد العناني والسري محمد بن إبراهيم الدروري والسراج عمر بن عمر الزهري المعروف بالدفري وتفقه بهم ولازم فضلاء عصره في الحديث والمعقول وأخذ أيضًا عن الشيخ العلامة يس بن زين الدين العليمي الحمصي والشيخ عبد المعطي البصير والشيخ حسن النماوي وابن خفاجي وأجتهد وحصل واشتهر بالفضيلة والتحقيق وبرع في الفقه والحديث وأكب عليهما آخرًا واشتهر بهما وشارك في النحو والأصول والمعاني والصرف والفرائض مشاركة تامة وقصدته الفضلاء وانتفعوا به وانتهت إليه رياسة مصر‏.‏

توفي سنة سبع عشرة ومائة وألف ودفن عند معبد السيدة نفيسة‏.‏

ومات الشيخ الإمام الفقيه الفرضي الحيسوب صالح بن حسن بن أحمد بن علي البهوتي الحنبلي أخذ عن أشياخ وقته وكان عمدة في مذهبه وفي المعقول والمنقول والحديث وله عدة تصانيف وحواش وتعليقات وتقييدات مفيدة متداولة بأيدي الطلبة أخذ عن الشيخ منصور البهوتي الحنبلي ومحمد الخلوتي وأخذ الفرائض عن الشيخ سلطان المزاحي ومحمد الدلجموني وهو من مشايخ الشيخ عبد الله الشبراوي ولازم عمه الشمس الخاوثي وأخذ الحديث عن الشيخ عامر الشبراوي وله ألفية في الفقه وألفية في الفرائض ونظم الكافي‏.‏

توفي يوم الجمعة ثامن عشرين ربيع الأول سنة إحدى وعشرين ومائة وألف‏.‏

ومات الإمام العلامة محمد فارس التونسي من ذرية سيدي حسن الششتري الأندلسي هو والد الشيخ محمد ابن محمد فارس من أكابر الصوفية كان يحفظ غالب ديوان جده أقام بدمياط مدة ثم رجع إلى مصر ومات بها سنة أربع عشرة ومائة وألف‏.‏

ومات الإمام العلامة الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي بن يوسف ابن أحمد بن علوان الزرقاني المالكي خاتمة المحدثين مع كمال المشاركة وفصاحة العبارة في باقي العلوم ولد بمصر سنة خمس وخمسين وألف وأخذ عن النور الشبراملسي وعن حافظ العصر البابلي وعن والده وحدث عنه العلامة السيد محمد بن محمد ابن محمد الأندلسي وعبد الله الشبراوي والملوي والجوهري والسيد زين الدين عبد الحي ابن زين العابدين بن الحسن البهنسي وعمر بن يحيى بن مصطفى المالكي والبدر البرهاني وله المؤلفات النافعة كشرح الموطأ وشرح المواهب واختصر المقاصد الحسنة للسخاوي ثم اختصر هذا المختصر في نحو كراسين بإشارة والده وعم نفعها وكان معيدًا لدروس الشبراملسي وكان يعتني بشأنه كثيرًا وكان إذا غاب يسأل عنه ولا يفتتح درسه إلا إذا حضر مع أنه أصغر الطلبة فكان محسودًا لذلك في جماعته وكان الشيخ يعتذر عن ذلك ويقول أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاني به‏.‏

توفي سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف‏.‏

ومات الشيخ رضوان إمام الجامع الأزهر في غرة رمضان سنة خمس عشرة ومائة وألف‏.‏

ومات الشيخ المجذوب أحمد أبو شوشة خفير باب زويلة وكانت كراماته ظاهرة وكان يضع في فمه نحو المائة إبرة ويأكل ويشرب وهي في فمه لا تعوقه عن الأكل والشرب والكلام مات في يوم ومات السند العمدة الشيخ حسن أبو البقاء بن علي ابن يحيى بن عمر العجمي المكي الحنفي صاحب الفنون ولد سنة تسع وأربعين وألف كما وجدته بخط والده بمكة وبها نشأ وحفظ القرآن وعدة متون وأخذ عن الشيخ زين العابدين الطبري وعلي بن الجمال وعبد الله بن سعيد باقشير والسيد محمد صادق وحنيف الدين المرشدي والشمس البابلي وبالمدينة علي القشاشي ولبس منه الخرقة وأخذ عن جمع من الوافدين كعيسى الجعفري ومحمد بن محمد العيثاوي الدمشقي وعبد القادر بن أحمد الفضي الغزي وعبد الله بن أبي بكر العياشي وأجازه جل شيوخه وكتب إليه بالإجازة غلب مشايخ الأقطار كالشيخ أحمد العجلي وهو من المعمرين والشيخ علي الشبراملسي وعبد القادر الصفوري الدمشقي والسيد محمد بن كمال الدين بن حمزة الدمشقي والشيخ عبد القادر الفاسي واعتنى بأسانيد الشيوخ بالحرم وأفاد وانتفع به جماعة من الأعلام كالشيخ عبد الخالق الزجاجي الحنفي المكي وأحمد بن محمد بن علي المدرس المدني وتاج الدين الدهان الحنفي المكي ومحمد بن الطيب بن محمد الفاسي والشيخ مصطفى بن فتح الله الحموي توفي ظهر يوم الجمعة ثالث شوال سنة ثلاث عشرة ومائة وألف بالطائف ودفن بالقرب من ابن عباس‏.‏

ومات السيد عبد الله الإمام الشيخ أحمد المرحومي الشافعي وذلك سنة اثنتي عشرة ومائة ومات الأستاذ المعظم والملاذ المفخم صاحب النفحات والإشارات الشيخ يوسف بن عبد الوهاب أبو الإرشاد الوفائي وهو الرابع عشر من خلفائهم تولى النجادة يوم وفاة والده في ثاني رجب سنة ثمان وتسعين وألف وسار سيرًا حسنًا بكرم نفس وحشمة زائدة ومعروف وديانة إلى أن توفي في حادي عشر المحرم سنة ثلاث عشرة ومائة وألف ودفن بحوطة أسلافه رضي الله عنهم‏.‏

ومات الفقيه محمد بن سالم الحضرمي العوفي أخذ عن سليمان بن أحمد النجار وعنه محمد بن عبد الرحمن بن محمد العيدروس توفي بالهند سنة إحدى عشرة ومائة وألف‏.‏

ومات الإمام العلامة المفيد الشيخ أحمد بن محمد المنفلوطي الأصل القاهري الأزهري المعروف بابن الفقي الشافعي ولد سنة أربع وستين وألف وأخذ القراءات عن الشمس البقري والعربية عن الشهاب السندوبي وبه تفقه والشهاب البشبيشي ولازمه لسنين العديدة في علوم شتى وكذا أخذ عن النور الشبراملسي وحضر دروس الشهاب المرحومي وكان إمامًا عالمًا بارعًا ذكيًا حلو التقرير رقيق العبارة جيد الحافظة يقرر العلوم الدقيقة بدون مطالعة مع طلاقة الوجه والبشاشة وطرح التكلف ومن تآليفه حاشية علي الأشموني لم تكمل وأخرى على شرح أبي شجاع للخطيب ورسالة في بيان السنن والهيئات هل هي داخلة في الماهية أو خارجة عنها وأخرى في أشراط الساعة وشرح البدور السافرة ومات قبل تبييضه فاختلسه بعض الناس وبيضه ونسبه لنفسه وكتمه‏.‏

توفي فجأة قيل مسمومًا صبيحة يوم الاثنين سابع عشري شوال سنة ثمان عشرة ومائة وألف‏.‏

ومات الإمام العالم العلامة الشيخ محمد النشرتي المالكي وهو كان وصيًا على المرحوم الشيخ الوالد بعد موت الجد توفي يوم الأحد بعد الظهر وأخر دفنه إلى صبيحة يوم الاثنين وصلي عليه بالأزهر بمشهد حافل وحضر جنازته الصناجق والأمراء والأعيان وكان يومًا مشهودًا وذلك سنة عشرين ومائة وألف‏.‏

ومات السيد أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن علي بن محمد بن أحمد ابن الفقيه المقدم ولد بتريم وأخذ عن أحمد بن عمر البيتي والفقيه عبد الرحمن بن علو بلفقيه وأبي بكر بن عبد الرحمن ابن شهاب العيدروس والقاضي أحمد بن الحسين بلفقيه وأحمد بن عمر عبديد وغيرهم وأجازوه وتميز في العلوم وتمهر ودرس وصنفذ في الفقه والفرائض وممن روى عنه شيخ وجعفر وزين العابدين أولاد مصطفى بن زين العابدين بن العيدروس ومصطفى بن شيخ مصطفى العيدروس وغيرهم توفي بالشحر سنة ثمان عشرة ومائة وألف‏.‏

ومات الشيخ العلامة المفيد سليمان الجنزوري الأزهري توفي سنة أربع وعشرين ومائة وألف‏.‏

ومات الإمام المحدث الإخباري مصطفى بن فتح الله الحموي الحنفي المكي أخذ عن العجمي والبابلي والنخلي والثعالبي والبصري والشبراملسي والمزاحي ومحمد الشلبي وإبراهيم الكوراني وشاهين الأرمناوي والشهاب أحمد البشبيشي وأكثر عن الشاميين وله رحلة إلى اليمن توسع فيها في الأخذ عن أهلها وألف كتابًا في وفيات الأعيان سماه فوائد الإرتحال ونتايج السفر في أخبار أهل القرن الحادي عشر توفي سنة أربع وعشرين ومائة وألف حدث عنه السيد عمر بن عقيل العلوي‏.‏

ومات السيد السند صاحب الكرامات والإشارات السيد عبد الرحمن السقاف باعلوى نزيل المدينة‏.‏

قال الشيخ العيدروس في ذيل المشرع‏:‏ ولد بالديار الحضرمية ورحل إلى الهند فأخذ بها الطريقة النقشبندية عن الأكابر العارفين واشتغل بها حتى لاحت عليه أنوارها وورد الحرمين فقطن بالمدينة المنورة وبها تزوج الشريفة العلوية العيدروسية من ذرية السيد عبد الله صاحب الرهط وممن أخذ عليه بها الطريقة الشيخ محمد حياة السندي بإشارة بعض الصالحين وكان المترجم يخبر عن نفسه أنه لم يبق بيني وبين رسول الله صلى الله وسلم حجاب وأنه لم يعط الطريقة النقشبندرية لأحد إلا بإذن رسول الله صلى الله فيه وسلم وأنه أعطى سيف أبي بكر وسيفي في غمده لدفع الشدائد معدود وقوله‏:‏ بسيفي يلاقي المهند وقائع تشيب الولود ولم يزل على طريقة حميدة حتى توفي بها سنة أربع وعشرين ومائة وألف‏.‏

ومات الإمام الهمام عمدة المسلمين والإسلام الشيخ عبد ربه بن أحمد الديوي الضرير الشافعي أحد العلماء مصابيح الإسلام ولد ببلده ونشأ بها ثم ارتحل إلى دمياط وجاور بالمدرسة المتبولية فحفظ القرآن وعدة متون منها البهجة الوردية واشتغل هناك على أفاضلها كالشمس ابن أبي النور ولازمه في الفنون وتفقه به وقرأ عليه القرآن بالروايات وأخذ عنه الطريق وتهذب به ثم ارتحل إلى القاهرة فحضر عند الشهاب البشبيشي قليلًا ثم لازم الشمس الشرنبابلي في فنون إلى إن توجه إلى الحج فأمره بالجلوس موضعه والتقييد بجماعته فتصدى لذلك وعم النفع وبرعت طلبته وقصدته الفضلاء من الآفاق وكان إمامًا فاضلًا فقيهًا نحويًا فرضيًا حيسوبًا وعروضيًا تحريرًا ماهرًا كثير الاستحضار غريب الحافظة صافي السريرة مشتغل الباطن بالله جميل الظاهر بالعلم توفي يوم السبت ثالث عشر ربيع الآخرة ودفن يوم الأحد بعد الصلاة عليه بالأزهر بمشهد حافل عظيم اجتمع فيه الخاص والعام وذلك سنة ست وعشرين ومائة وألف‏.‏

ومات الشيخ العلامة أبو المواهب محمد بن الشيخ تقي الدين عبد الباقي ابن عبدالقادر الحنبلي البعلي الدمشقي مفتي السادة الحنابلة بدمشق ولد بها وأخذ عن والده وعمن شاركه ثم رحل إلى مصر وقرأ بالروايات على مقرئها الشيخ البقري والفقه على الشيخ محمد البهوتي الخوتي والحديث على الشمس البابلي والفنون على المزاحي والشبراملسي والعناني توفي في شوال سنة ست وعشرين ومائة وألف عن ثلاث وثمانين سنة حدث عنه الشيخ أبو العباس أحمد بن علي بن عمر الدمشقي كتابه وهو عال والشيخ محمد بن أحمد الحنبلي والسيد مصطفى بن كمال الدين الصديقي وغيرهم‏.‏

ومات الإمام العلامة المحقق المعمر الشيخ سليمان بن أحمد بن خضر الخربتاوي البرهاني المالكي هو والد الشيخ داود الخربتاوي الآتي ذكر ترجمته توفي سنة خمس وعشرين ومائة وألف عن مائة وست عشرة سنة‏.‏

ومات الشيخ الإمام العالم العلامة الشيخ أحمد بن غنيم بن سالم بن مهنا النفراوي شارح الرسالة وغيرها ولد ببلده نفرة ونشأ بها ثم حضر إلى القاهرة فتفقه في مبادئ أمره بالشهاب اللقاني ثم لازم العلامة عبد الباقي الزرقاني والشمس محمد بن عبد الله الخرشي وتفقه بهما وأخذ الحديث عنهما ولازم الشيخ عبد المعطي البصير وأخذ العربية والمعقول عن الشيخ منصور الطوخي والشهاب البشبيشي واجتهد وتصدر وانتهت إليه الرياسة في مذهبه مع كمال المعرفة والإتقان للعلوم العقلية لا سيما النحو وأخذ الأعيان وانتفعوا به ومن مؤلفاته شرح الرسالة وشرح النورية وشرح الآجرومية توفي سنة خمس وعشرين ومائة وألف عن اثنتين وثمانين سنة‏.‏

ومات الإمام العلامة الشهير الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن عطية ابن عامر بن نوار بن أبي الخير الموساوي الشهير بالخليفي الضرير أصله من الشرق وقدم جده أبو الخير وكان صالحًا معتقدًا وأقام بمنية موسى من أعمال المنوفية فحصل له بها الإقبال ورزق الذرية الصالحة واستمر بها وولد الشيخ بها ونشأ بها وحفظ القرآن ثم ارتحل إلى القاهرة واشتغل بالعلوم على فضلاء عصره فتفقه على الشمس العناني والشيخ منصور الطوخي وهو الذي سماه بالخليفي لما ثقل عليه نسبة الموسوي فسأله عن أشهر أهل بلده فقال‏:‏ أشهرها من أولياء الله تعالى سيدي عثمان الخليفي‏.‏

فنسبه إليه ولازم الشهاب البشبيشي وأخذ عنه فنونًا وحضر دروس الشهاب السندوبي والشمس الشرنبابلي وغيرهما وأجازه الشيخ العجمي واجتهد وبرع وحصل وأتقن وتفنن وكان محدثًا فقيهًا أصوليًا نحويًا بيانيًا متكلمًا عروضيًا منطقيًا آية في الذكاء وحسن التعبير مع البشاشة وسعة الصدر وعدم الملل والسآمة وحلاوة المنطق وعذوبة الألفاظ انتفع به كثير من المشايخ‏.‏

توفي في عصر يوم الأربعاء خامس عشر صفر ودفن صبيحة يوم الخميس سادس

ومات الإمام العمدة الفهامة الشيخ أحمد التونسي المعروف بالدقدوسي الحنفي توفي فجأة بعد صلاة العشاء ليلة الأحد سادس عشر المحرم سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف‏.‏

ومات في تلك السنة أيضًا الشيخ العلامة أحمد الشرفي المغربي المالكي‏.‏

ومات الشيخ العلامة شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد شنن المالكي وكان مليئًا متمولًا أغنى أهل زمانه بين أقرانه وجعل الشيخ محمد الجداوي وصيًا على ولده سيدي موسى فلما بلغ رشده سلمه ماله فكان من صنف الذهب البندقي أربعون ألفًا خلاف الجنزلالي والطرلي وأنواع الفضة والأملاك والضياع والوظائف والجماكي والرزق والأطيان وغير ذلك بدده جميعه ولده موسى وبنى له دارًا عظيمة بشاطئ النيل ببولاق أنفق عليها أموالًا عظيمة ولم يزل حتى مات مديونًا في سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف وترك ولدًا مات بعده بقليل وكان للمترجم مماليك وعبيد وجوار ومن مماليكه أحمد بك شنن الآتي ذكره توفي المترجم سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف عن سبع وسبعين سنة‏.‏

ومات العمدة العالم الشيخ أحمد الوسيمي توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف‏.‏

ومات الجناب المكرم السيد حسن أفندي نقيب السادة الأشراف وكانت لأبيه وجده وعمه من قبله وبموته انقرضت دولتهم‏.‏

وأقيم في منصب النقابة عوضه السيد مصطفى بن سيدي أحمد الرفاعي قائمقام إلى حين ورود الأمر توفي يوم الجمعة تاسع عشر رجب سنة إحدى وعشرين ومائة وألف ثم ورد في شهر جمادى سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف السيد عبد القادر نقيبًا ونزل ببولاق بمنزل أحمد جاويش الخشاب وهو إذ ذاك باشجاويش الأشراف وبات هناك فوجد في صبحها مذبوحًا في فراشه وحبس باشجاويش بسبب ذلك بالقلعة ولم يظهر قاتله وتقلد النقابة محمد كتخدا عزبان سابقًا لامتناع السيد مصطفى الرفاعي عن ذلك ووافى تاريخه ذبح عبد القادر‏.‏

ومات العلامة الفقيه المحدث الشيخ منصور بن علي بن زين العابدين المنوفي البصير الشافعي ولد بمنف ونشأ بها يتيمًا في حجر والدته وكان بارًا بها فكانت تدعو له فحفظ القرآن وعدة متون ثم ارتحل إلى القاهرة وجاور بالأزهر وتفقه بالشهابيين البشبيشي والسندوبي والشمس الشرنبابلي والزين منصور الطوخي ولازم النور الشبراملسي في العلوم وأخذ عنه الحديث وجد واجتهد وتفنن وبرع في العلوم العقلية والنقلية وكان إليه المنتهى في الحذق والذكاء وقوة الاستحضار لدقائق العلوم سريع الإدراك لعويصات المسائل على وجه الحق نظم الموجهات وشرحها وانتفع به الفضلاء وتخرج به النبلاء وافتخرت بالأخذ عنه الأبناء على الآباء‏.‏

توفي حادي عشرين جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين ومائة وألف وقد جاوز التسعين‏.‏

ومات الإمام العلامة شيخ الشيوخ الشيخ محمد الصغير المغربي سلخ رجب سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف‏.‏

ومات الأجل الفاضل العمدة العلامة رضوان أفندي الفلكي صاحب الزيج الرضواني الذي حرره على طريق الدر اليتيم لابن المجدي على أصول الرصد الجديد السمرقندي صاحب كتاب أسنى المواهب وغير ذلك تآليف وحسابيات وتحقيقات لا يمكن ضبطها لكثرتها وكتب بخطه ما ينوف عن حمل بعير مسودات وجداول حسابيات وغير ذلك وكان بسكن بولاق منجمعا عن خلطة الناس مقبلًا على شأنه وكان في أيامه حسن أفندي الروزنامجي وله رغبة ومحبة في الفن فالتمس منه بعض آلات وكرات فأحضر الصناع وسبك عدة كرات من النحاس الأصفر ونقش عليها الكواكب المرصودة وصورها ودوائر العروض والميول وكتب عليها أسماءها بالعربي ثم طلاها بالذهب وصرف عليها أموالًا كثيرة وذلك في سنة اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة ومائة وألف‏.‏

واشتغل عليه الجمالي يوسف مملوك حسن أفندي المذكور وكلارجيه وتفرغ لذلك حتى أنجب وتمهر وصار من المحققين في الفن واشتهر فضله في حياة شيخه وبعده وألف كتابًا عظيمًا في المحرفات جمع فيه ما تفرق من تحقيقات المتقدمين وأظهر ما في مكنون دقائق الأوضاع والرسومات والأشكال من القوة إلى الفعل وهو كتاب حافل نافع نادر الوجود وله غير ذلك كثير ومن تآليف رضوان أفندي المترجم النتيجة الكبرى والصغرى وهما مشهورتان متداولتان بأيدي الطلبة بآفاق الأرض وطراز الدرر في رؤية الأهلة والعمل بالقمر وغير ذلك‏.‏

توفي يوم السبت ثالث عشري جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف‏.‏

ومات الشيخ الصالح قطب الوقت المشهور بالكرامات معتقد أرباب الولايات الشيخ عبد الله النكاري الشافعي الشهير بالشرقاوي من قرية بالشرقية يقال لها النكارية أخذ عن الشيخ عبد القادر المغربي وكان يحكي عنه كرامات غريبة وأحوال عجيبة‏.‏

وممن كان يعتقده الشيخ الحفني والشيخ عيسى البراوي والشيخ علي الصعيدي وقد خص كل واحد بإشارة نالها كما قال له وشملتهم بركته وأنه تولى القبطانية وكان بينه وبين الشيخ محمد كشك مودة ومؤاخاة‏.‏

توفي سنة أربع وعشرين ومائة وألف‏.‏

ومات الشيخ العمدة المنتقد الفاضل الشاعر البليغ الصالح العفيف حسن البدري الحجازي الأزهري وكان عالمًا فصيحًا مفوها متكلمًا منتقدًا على أهل عصره وأبناء مصره سمعت من الشيخ الوالد قال رأيته ملازمًا لقراءة الكتب الستة تحت الدكة القديمة منجمعًا عن خلطة الناس معتكفًا على شأنه قانعًا بحاله وله في الشعر طريقة بديعة وسليقة منيعة على غيره رفيعة وقلما تجد في نظمه حشوًا أوتكملة‏.‏

وله أرجوزة في التصوف نحو ألف وخمسمائة بيت على طريق الصادح والباغم ضمنها أمثالًا ونوادر وحكايات وديوان على حروف المعجم سماه باسمين تنبيه الأفكار للنافع والضار وأجماع الإياس من الوثوق بالناس شرح فيه حقيقة شرار الخليقة من الناس المنحرفة طباعهم عن طريقة قويم القياس استشهد بكثير من كلامه في هذا المجموع بحسب المناسبة وفي بعض الوقائع والتراجم وله مزدوجة سماها الدرة السنية في الأشكال المنطقية ونظم رسالة الوضع للعلامة العضد ونظم لقطة العجلان في تعريف النقيضين والضدين والخلافين والمثلين وفي حكم المضارع صحيحًا كان أو معتلًا ورموز الجامع الصغير وختم ديوانه بأراجيز بديعة ضمنها نصايح ونوادر وأمثالًا واستغاثات وتوسلات للقبول موصلات‏.‏

ومن كلامه في قافية الباء‏:‏ كن جار كلب وجار الشرة اجتنب ولو أخالك من أم يرى وأب وجانب الدار أن ضاقت مرافقها والمرأة السوء لو معروفة النسب ومركبا شرس الأخلاق لا سيما أن كان ذا قصر أو أبتر الذنب وله غير ذلك كثير اقتصرنا منه على هذا البعض‏.‏

توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف رحمه الله‏.‏

ومات الشيخ الإمام خاتمة المحدثين الشيخ عبد الله بن سالم بن عيسى البصري منشئًا المكي مولدًا الشافعي مذهبًا ولد يوم الأربعاء رابع شعبان سنة ثمان وأربعين ومائة وألف كما ذكره الحموي وحفظ القرآن وأخذ عن علي بن الجمال وعبد الله بن سعيد باقشير وعيسى الجعفري وحمد بن محمد بن سليمان والشمس البابلي والشهاب البشبيشي ويحيى الشاوي وعلي بن عبد القادر الطبري والشمس محمد الشنبابلي والبرهان إبراهيم ابن حسن الكوراني ومحدث الشام محمد بن علي الكاملي ولبس الخرقة من يد السيد عبد الغني الدمياطي‏.‏

وتوفي يوم الاثنين رابع رجب سنة أربع وثلاثين ومائة وألف عن أربع وثمانين سنة ودفن بالمعلاة بمقام الولي سيدي عمر العرابي قدس سره حدث عن شيوخ العصر ابن أخته السيد العلامة عمر بن أحمد بن عقيل العلوي والشهاب أحمد الملوي والجوهري وعلاء الدين بن عبد الباقي المزجاجي الزبيدي والسيد عبد الرحمن بن السيد عبد الرحمن بن السيد أسلم الحسيني والشبراوي والشيخ الوالد حسن الجبرتي وعندي سنده وإجازته له بخطه والسيد المجدد محمد بن اسمعيل الصنعاني المعروف بابن الأمير ذي الشرفين كتابة من صنعاء والسيد العلامة حسن بن عبد الرحمن باعيديد العلوي كتابة من المخنا والشيخ المعمر صبغة الله بن الهداد الحنفي كتابة من خير آباد ومحمد بن حسن ابن همان الدمشقي كتابة من القسطنطينية والشهاب بن أحمد بن عمر بن علي الحنفي كتابة من دمشق كلهم عنه وحدث عنه أيضًا شيوخ المشايخ الشيخ المعمر محمد بن حيوة السندي مزيل المدينة المنورة والشيخ محمد طاهر الكوراني والشيخ محمد ابن أحمد بن سعيد المكي والشيخ العلامة اسمعيل بن محمد بن عبد الهادي بن عبد الغني العجلوني الدمشقي والشيخ عيد بن علي النمرسي الشافعي والشيخ عبد الوهاب الطندتائي والشيخ أحمد باعنتر نزيل الطائف والشهاب أحمد بن مصطفى بن أحمد الإسكندرية وغيرهم كذا في المربي الكابلي فيمن روى عن البابلي‏.‏

ومات الرجل الصالح المجذوب الصاحي أحد صلحاء فقراء السادة الأحمدية بدمياط الشيخ ربيع الشيال كان صالحًا ورعًا ناسكًا حافظًا لأوقاته مداومًا على الصلوات والعبادات والأذكار دائم الإقبال على الله لا يرى إلا في طاعة إذا أحرم في الصلاة يصفر لونه وتأخذه رعدة فإذا نطق بالتكبير يخيل لك بأن كبده قد تمزق وكان يتكسب بحمل الأمتعة للناس بالأجرة مع صرفه جميع جوارحه وأعضائه لما خلق لأجله‏.‏

توفي سنة إحدى وعشرين ومائة وألف‏.‏ ومات

الشيخ المقري الصوفي محمد ابن سلامة بن عبد الجواد الشافعي

ابن العارف بالله تعالى الشيخ نور الدين ساكن الصخرية من أعمال فارسكور الصخري الدمياطي المعروف بأبي السعود بن أبي النور أستاذ من جمع بين طريقي أهل الباطن والظاهر من أهل عصره ولد بدمياط ونشأ بها بين صلحائها وفضلائها فحفظ القرآن واشتغل بالعلوم فتفقه بالشيخ حلال الدين الفارسكوري وتلقى المنهج تسع مرات في تسع سنين عن العلامة مصطفى التلباني وأخذ الطريق عن جمع من أكمل العارفين ثم ارتحل إلى القاهرة فلازم الضياء المزاحي فتفقه به وأخذ عنه فنونًا وقرأ القراءات السبع والعشر عليه وأخذ عن العلامة يس الحمصي فنونًا واجتهد ودأب وأتقن وألف في القراءات وغيرها وعم النفع به وأخذ عنه جمع من الأفاضل‏.‏

توفي سنة سبع عشرة ومائة وألف‏.‏

ومات أحد الأئمة المشاهير الإمام العلامة شهاب الدين أحمد بن محمد النخلي الشافعي المكي ولد بمكة وبها نشأ وأخذ عن علي بن الجمال وعبد الله بن سعيد باقشير وعيسى الثعالبي ومحمد بن سليمان والشمس البابلي وسليمان بن أحمد الضيلي القرشي والسيد عبد الكريم الكوراني الحسيني والشمس الميداني والشهاب أحمد المفلجى الوفائي والشيخ شرف الدين موسى الدمشقي والشيخ إبراهيم الحلبي الصابوتي والشيخ عبد الرحمن العمادي ومحمد بن علان البكري والصفي القشاشى والشيخ خير الدين الرملى وأبي الحسن البازوري‏.‏

توفي بمكة سنة ثلاثين ومائة وألف عن تسعين سنة‏.‏

روى عنه السيد عمر بن أحمد والسيد عبد الرحمن ابن أسلم الحسيني والسيد عبد الله بن إبراهيم بن حسن الحنفي والشهاب أحمد بن عمر بن علي الدمشقي والملوي والجوهري والشبراوي والحفني وحسن الجبرتي والسيد سليمان بن يحيى بن عمر الزبيدي والسيد عبد الله ابن علي الغرابي واسمعيل بن عبد الله الإسكنداري والشهاب أحمد بن مصطفى الصباغ‏.‏

ومات الشيخ الإمام أبو العز محمد بن شهاب أحمد بن أحمد بن محمد ابن العجمي الوفائي القاهري خاتمة المسندين بمصر سمع على الشمس البابلي المسلسل بالأولية وثلاثيات البخاري وجملة من الصحيح والجامع الصغير وغير ذلك وذلك بعد عوده من مكة المشرفة كما رأيت ذلك بخط والده الشهاب في نص إجازته لنادرة العصر محمد بن سليمان المغربي‏.‏

حدث عنه العلامة محمد بن أحمد بن حجازي العشماوي والشيخ أحمد بن الحسن الخالدي وأبو العباس الملوي وأبو علي المنطاوي وولده المعمر أبو العز أحمد‏.‏

ومات أبو عبد الله العلامة محمد بن علي الكاملي الدمشقي الشافعي والواعظ انتهى إليه الوعظ بدمشق وكان فصيحًا روى عن الشبراملسي وعبد العزيز بن محمد الزمزمي والمزاحي والبابلي والقشاشي وخير الدين الرملي‏.‏

توفي في خامس عشر ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف عن سبع وقيل عن تسع وثمانين روى عنه أبو العباس أحمد بن علي بن عمر العدوى وهو عال والشيخ محمد بن أحمد الحنبلي‏.‏

ومات العلامة صاحب الفنون أبو الحسن بن عبد الهادي السندي الأثري شارح المسند والكتب الستة وشارح الهداية ولد بالسند وبها نشأ وارتجل إلى الحرمين فسمع الحديث على البابلي وغيره من الواردين‏.‏

وتوفي بالمدينة سنة ست وثلاثين ومائة وألف‏.‏

ومات الأجل العمدة بقية السلف الشيخ عبد العظيم بن شرف الدين بن زين العابدين بن محيي الدين بن ولي الدين أبي زرعة أحمد بن يوسف بن زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري الشافعي الأزهري من بيت العلم والرياسة جده زكريا شيخ الإسلام عمر فوق المائة وولده يوسف الجمال روى عن أبيه والحافظ السخاوي والسيوطي والقلقشندي وحفيده محيي الدين روى عن جده وحفيده شرف الدين والد المترجم روى عن أبيه وعنه الأئمة أبو حامد البديري وغيره نشأ المترجم في عفاف وتقوى وصلاح معظمًا عند الأكابر وكان كثير الإجتماع بالشيخ أحمد بن عبد المنعم البكري ومن الملازمين له على طريقة صالحة وتجارة رابحة حتى مات سنة ست وثلاثين ومائة وألف وصلي عليه بالأزهر ودفن عند آبائه ومات الشيخ العلامة حسن بن حسن بن عمار الشرنبلالي الحنفي أبو محفوظ حفيد أبي الإخلاص شيخ الجماعة ووالد الشيخ عبد الرحمن الآتي ترجمته في محله كان فقيهًا فاضلًا محققًا ذا تؤدة في البحث عارفًا بالأصول والفروع‏.‏

توفي سنة تسع وثلاثين ومائة وألف‏.‏

ومات العمدة الفاضل السيد محمد النبتيتي السقاف باعلوي وهو والد السيد جعفر الآتي ذكره أحد السادة الأفراد أعجوبة زمانه ولد باليمن ودخل الحرمين وبها أخذ عن السيد عبد الله باحسين السقاف وكان يأخذه الحال فيطعن نفسه بالسلاح فلا يؤثر فيه وكان يلبس الثياب الفاخرة ويتزيا بزي أشراف مكة‏.‏

توفي بمكة سنة خمس وعشرين ومائة وألف‏.‏

ومات الأجل الأوحد السيد سالم بن عبد الله بن شيخ بن عمر بن شيخ ابن عبد الله بن عبد الرحمن السقاف ولد بجدة سنة إحدى وثلاثين وألف تقريبًا ثم رحل به والده إلى المدينة وبها حفظ القرآن وغيره ثم إلى مكة وبها سكن واشتغل على علي بن الجمال وعلى محمد بن أبي بكر الشلبي في سنة اثنتين وسبعين وألف إلى وقت تأليف الكتاب وجد في تحصيل المكارم والفضائل حتى بلغ الغايات ولبس الخرقة عن والده وعن المحبوب ولازمه وصحبه مدة وله نظم حسن‏.‏

توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف‏.‏

ومات الحسيب النسيب السيد محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد ابن عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ العيدروس ولد بتريم وبها نشأ وأخذ عن السيد عبد الله بافقيه وعن والده وعنه أخذ السيد شيخ العيدروس وغيره‏.‏

توفي ثامن عشر شوال سنة سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف‏.‏

ومات الشيخ الإمام العالم العلامة محمد بن عبد الرحمن المغربي ناظم كتاب الشفا والمنظومة المسماة درة التيجان ولقطة اللؤلؤ والمرجان‏.‏

توفي سنة إحدى وأربعين ومائة وألف‏.‏

ومات الإمام العلامة والنحرير الفهامة الشيخ علي العقدي الحنفي ولد سنة سبع وخمسين وألف أدرك الشمس البابلي وشملته إجازته وأخذ الفقه عن السيد الحموي وشاهين الامناوي وعثمان النحراوي والمعقول عن الشيخ سلطان المزاحي وعلي الشبراملسي ومحمد الحبار وعبد القادر الصفوري ولازم عمه العلامة عيسى بن علي العقدي وتفقه به وبالبرهان الوسيمي والشرف يحيى الشهاوي وعبد الحي الشرنبلالي ولازمه في الحديث والعلوم العقلية أكابر عصره كالشهاب أحمد بن عبد اللطيف اليشبيشي والشمس محمد بن محمد الشنبابلي والشهاب أحمد بن علي السندوبي وأخذ عنه الشمائل وغيرها واجتهد وبرع وأتقن وتفنن واشتهر بالعلم والفضائل وقصدته الطلبة من الأقطار وانتفعوا به وكان كثير التلاوة للقرآن وبالجملة فكان من حسنات الدهر ونادرة من نوادر العصر‏.‏

توفي في شهر ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين ومائة وألف عن ست وسبعين سنة وأشهر‏.‏

ومات الإمام العلامة الشيخ محمد الحماقي الشافعي ولد سنة ثلاث وسبعين وألف وتوفي بنخل وهو متوجه إلى الحج في شهر القعدة سنة أربع وثلاثين ومائة وألف‏.‏

ومات الإمام المحدث العلامة والبحر الفهامة الشيخ إبراهيم بن موسى الفيومي المالكي شيخ الجامع الأزهر تفقه على الشيخ محمد بن عبد الله الخرشي قرأ عليه الرسالة وشرحها وكان معيدًا له فهيمًا وتلبس بالمشيخة بعد موت الشيخ محمد شنن ومولده سنة اثنتين وستين وألف أخذ عن الشبراملسي والزرقاني والشهاب أحمد البشبيشي وغيرهم كالشيخ الغرقاوي وعلي الجزايرلي الحنفي وأخذ الحديث عن يحيى الشاوي وعبد القادر الواطي وعبد الرحمن الأجهوري والشيخ إبراهيم البرماوي والشيخ محمد الشرنبابلي وآخرين وله شرح على العزية في مجلدين‏.‏

توفي سنة سبع وثلاثين ومائة وألف عن خمس وسبعين سنة‏.‏

ومات الجناب المكرم والملاذ المفخم محمد الدادة الشرايبي وكان إنسانًا كريم الأخلاق طيب الأعراق جميل السمات حسن الصفات يسعى في قضاء حوايج الناس ويؤاسي الفقراء ولما ثقل في المرض قسم ماله بين أولاده وبين الخواجا عبد الله بن الخواجا محمد الكبير وبين ابن أحمد أخي عبد الله كما فعل الخواجا الكبير فإنه قسم المال بين الدادة وبين عبد الله وأخيه أحمد وكان المال ستمائة كيس والمال الذي قسمه الدادة بين أولاده وبين عبد الله وابن أخيه وهم قاسم وأحمد ومحمد جربجي وعبد الرحمن والطيب وهؤلاء أولاده لصلبه وعبد الله بن الخواجا الكبير وابن أخيه الذي يقال له ابن المرحوم ألف وأربعمائة وثمانون كيسًا خلاف خان الحمزاوي وغيره من الأملاك وخلاف الرهن الذي تحت يده من البلاد وفائظها ستون كيسًا والبلاد المختصة به أربعون كيسًا وذلك خلاف الجامكية والوكائل والحمامات وثلاث مراكب في بحر القلزم وكل ذلك أحداث الدادة وأصل المال الذي استلمه الدادة في الأصل من الخواجا محمد الكبير سنة إحدى عشرة ومائة وألف تسعون كيسًا لما عجز عن البيع والشراء ولما فعل ذلك وقسم المال بين الدادة وبين عبد الله وأخيه بالثلث غضب عبد الله وقال هو أخ لنا ثالث فقال أبو عبد الله‏:‏ والله لا يقسم المال إلا مناصفة له النصف ولك ولأخيك النصف وهذا الموجود كله لسعد الدادة ومكسبه فإني لما سلمته المال كان تسعين كيسًا وها هو الآن ستمائة كيس خلاف ما حدث من البلاد والحصص والرهن‏.‏

فكان كما قال وكان جاعلًا لعبد الله مرتبًا في كل يوم ألف نصف فضة برسم الشبرقة خلاف المصروف والكساوي له ولأولده ولعياله إلى أن مات يوم السبت سادس عشر رجب سنة سبع وثلاثين ومائة وألف وحضر جنازته جميع الأمراء والعلماء وأرباب السجاجيد والوجاقات السبعة والتجار وأولاد البلد وكان مشهده عظيمًا حافلًا بحيث أن أول المشهد داخل إلى الجامع ونعشه عند العتبة الزرقاء وكان ذكيًا فهيمًا دراكًا سعيد الحركات وعلى قدر سعة حاله وكثرة إيراده ومصرفه لم يتخذ كاتبًا ويكتب ويحسب لنفسه‏.‏

ومات الشيخ الإمام العالم العلامة مفرد الزمان ووحيد الأوان محمد ابن محمد بن محمد بن الولي شهاب الدين أحمد بن العلامة حسن بن العارف بالله تعالى علي بن الولي الصالح سلامة بن الولي الصالح العارف بدير بن محمد بن يوسف شمس الدين أبو حامد البديري الحسيني الشافعي الدمياطي مات جده بدير بن محمد سنة ستمائة وخمسين في وادي النسور وحفيده حسن ممن أخذ عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري أخذ أبو حامد المترجم عن الشيخ الفقيه العلامة زين الدين السلسلي إمام جامع البدري بالثغر وهو أول شيوخه قبل المجاورة ثم رحل إلى الأزهر فأخذ عن النور أبي الضياء علي بن محمد الشبراملسي الشافعي والشمس محمد بن داود العناني الشافعي قراءة على الثاني بالجنبلاطية خارج مصر القاهرة وأمام شرف الدين بن زين العابدين بن محي الدين بن ولي الدين بن يوسف جمال الدين بن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري والمحدث المقري شمس الدين محمد بن قاسم البقري شيخ القراء والحديث بصحن الجامع الأزهر والشيخ عبد المعطي الضرير المالكي وشمس الدين محمد الخرشي والشيخ عطية القهوقي المالكي والشيخ المحدث منصور بن عبد الرزاق الطوخي الشافعي إمام الجامع الأزهر والشيخ المحدث العلامة شهاب الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن عبد الغني الدمياطي الشافعي النقشبندي والمحقق شهاب الدين أحمد بن عبد اللطيف البشبيشي الشافعي وحيسوب زمانه محمود بن عبد الجواد بن العلامة الشيخ عبد القادر المحلي والعلامة الشيخ سلامة الشبيني والعلامة المهندس الحيسوب الفلكي رضوان أفندي ابن عبد الله نزيل بولاق ثم رحل إلى الحرمين فأخذ بهما عن الإمام أبي العرفان إبراهيم بن حسن بن شهاب الدين الكوراني في سنة إحدى وتسعين وألف والسيدة قريش وأختها بنت الإمام عبد القادر الطبري في سنة اثنتين وتسعين وألف روى وحدث وأفاد وأجاد أخذ عن الشيخ محمد الخفني وبه تخرج وأخوه الجمال يوسف والشيخ العارف بالله تعالى السيد مصطفى بن كمال الدين البكري وهو من أقرانه والفقيه النحوي الأصولي محمد بن يوسف الدنجيهي الشافعي والعلامة عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن البشبيشي الشافعي الدمياطي ومصطفى بن عبد السلام المنزلي‏.‏

توفي المترجم أبو حامد بالثغر سنة أربعين ومائة وألف‏.‏

ومات العلامة الهمام محمد بن أحمد بن عمر الأسقاطي الأزهري نزيل إدلب كان جل تحصيله بمصر على والده وبه تخرج وتفنن وصار له قدم راسخ وله مشايخ آخرون أزهريون فلما نزل إدلب تلقاه شيخ العلماء بها أحمد ابن حسين الكاملي فأنزله عنده وأكرمه غاية الإكرام وأرشد الطلبة إليه فانتفعوا به جدًا ولم يزل مفيدًا على أكمل الحالات حتى مات سنة تسع وثلاثين ومائة وألف‏.‏

ومات الشيخ العلامة الزاهد الياس بن إبراهيم الكوراني الشافعي ولد بكوران سنة إحدى وثلاثين وألف وأخذ العلم بها عن عدة مشايخ وحج ودخل مصر والشام وألقى بها عصا التسيار عاكفًا على إقراء العلوم العقلية والنقلية وكان على غاية من الزهد وروى عنه شيوخ العصر كالشيخ أحمد الملوي والشهاب أحمد بن علي المنيني وله المؤلفات والحواشي‏.‏

توفي بدمشق بمدرسة جامع العراس بعد العصر من يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة بقين من شعبان سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف ودفن بمقبرة باب الصغير بالقرب من قبر الشيخ نصر المقدسي رحمه الله‏.‏

ومات الإمام العالم العلامة المحدث أبو عبد الله محمد بن علي المعمر الكاملي الدمشقي الشافعي ولد سنة أربع وأربعين وألف وأخذ العلم عن جماعة كثيرين وروى وحدث وانتهى إليه الوعظ بدمشق وكان فصيحًا وإذا عقد مجلس الوعظ تحت قبة النسر غصت أركانها الأربعة بالناس وكان يحضره في دروس الجامع الصغير كثير من الأفاضل وتزدحم عليه الناس العوام لعذوبة تقريره روى عنه ولده عبد السلام ومحمد بن أحمد الطرطوسي والشيخ أبو العباس أحمد المنيني‏.‏

توفي في منتصف القعدة سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف‏.‏

ومات الأستاذ بقية السلف الشيخ مصلح الدين بن أبي الصلاح عبد الحليم بن يحيي بن عبد الرحمن بن القطب سيدي عبد الوهاب الشعراني قدس سره جلس على سجادة أبيه وجده وكان رجلًا صالحًا مهيبًا مجذوبًا‏.‏

توفي يوم الثلاثاء تاسع ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة وألف ولم يعقب إلا ابنته وابن عمة له وهو سيدي عبد الرحمن استخلف بعده وابن أخت له من إبراهيم جربجي باشجاويش الجاويشية جعلوا لكل منهم الثلث في الوقف وحرر الفائظ اثني عشر كيسًا‏.‏

ومات الأستاذ المجذوب الصاحي الشيخ أحمد بن عبد الرزاق الروحي الضماطي الشناوي الجمال كان والده جمالًا من أتباع المشايخ الشناوية وحفظ القرآن واشتغل بالذكر والعبادة إلى أن حصل له جذبة وربما اعتراه استغراق وكان من أكابر الأولياء أصحاب الكرامات‏.‏

توفي في رمضان سنة أربع وعشرين ومائة وألف‏.‏

ومات الأستاذ العلامة أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الغني الدمياطي الشافعي الشهير بالبناء خاتمة من قام بأعباء الطريقة النقشبندية بالديار المصرية ورئيس من قصد لرواية الأحاديث النبوية ولد بدمياط ونشأ بها وحفظ القرآن واشتغل بالعلوم على علماء عصره ثم ارتحل إلى القاهرة فلازم الشيخ سلطان المزاحي والنور الشبراملسيي فأخذ عنهما القراءات وتفقه بهما وسمع عليهما الحديث وعلى النور الأجهوري والشمس الشوبري والشهاب القليوبي والشمس البابلي والبرهان الميوموني وجماعة آخرين واشتغل بالفنون وبلغ من الدقة والتحقيق غاية قل أن يدركها أحد من أمثاله‏.‏

ثم ارتحل إلى الحجاز فأخذ الحديث عن البرهان الكوراني ورجع إلى دمياط وصنف كتابًا في القراءات سماه إتحاف البشر بالقراءات الأربعة عشر أبان فيه عن سعة اطلاعه وزيادة اقتداره حتى أن الشيخ أبو النصر المنزلي يشهد بأنه أدق من ابن قاسم العبادي واختصر السيرة الحلبيبة في مجلد وألف كتابًا في اشراط الساعة سماه الذخائر المهمات فيما يجب الإيمان به من المسموعات وارتحل أيضًا إلى الحجاز وحج وذهب إلى اليمن فاجتمع بسيدي أحمد بن عجيل ببيت الفقيه فأخذ عنه حديث المصافحة من طريق المعمرين وتلقن منه الذكر علىطريق النقشبندية وحل عليه أكسير نظره ولم يزل ملازمًا لخدمته إلى أن بلغ مبلغ الكمال من الرجال فأجازه وأمره بالرجوع إلى بلده والتصدي للتسليك وتلقين الذكر فرجع وأقام مرابطًا بقرية قريبة من البحر المالح تسمى بعزبة البرج واشتغل بالله وتصدى للإرشاد والتسليك وقصد للزيارة والتبرك والأخذ والرواية وعم النفع به لا سيما في الطريقة النقشبندية وكثرت تلامذته وظهرت بركته عليهم إلى أن صاروا أئمة يقتدى بهم ويتبرك برؤيتهم‏.‏

ولم يزل في إقبال على الله تعالى وازدياد من الخير إلى أن ارتحل إلى الديار الحجازية فحج ورجع إلى المدينة المنورة فأدركته المنية بعد شيل الحج بثلاثة أيام في المحرم سنة سبع عشرة ومائة وألف ودفن بالبقيع مساء رحمه الله‏.‏

وأما من مات في هذه الأعوام من الأمراء المشاهير فلنقتصر على ذكر بعض المشهورين مما يحسن إيراده في التبيين إذ الأمر أعظم مما يحيط به المجيد فلنقتصر من الحلي على ما حسن بالجيد ما وصل علمه إلي وثبت خبره لدي إذ التفصيل في أحوالهم متعذر والدواء من غير حمية غير متيسر ولم أخترع شيئًا من تلقاء نفسي والله مطلع على أمري وحدسي‏.

مات الأمير ذو الفقار بك تابع الأمير حسن بك الفقاري تولى الصنجقية وإمارة الحج في يوم واحد وطلع بالحج إحدى عشرة مرة وتوفي سنة اثنتين ومائة وألف‏.‏

ومات أبنه الأمير إبراهيم بك تولى الإمارة بعد أبيه وطلع أميرًا على الحج سنة ثلاث ومائة وألف وتحارب مع العرب تلك السنة في مضيق الشرفة فكانت معركة عظيمة وامتنع العرب من حمل غلال الحرمين فركب عليهم هو ودرويش بك وكبس عليهم آخر الليل عند الجبل الأحمر وساقوا منهم نحو ألف بعير ونهب بيوتهم وأحضر الجمال إلى قراميدان وأحضر أيضًا بدنة أخرى شالوا معهم الغلال والقافلة‏.‏

وولى من طرفه إبراهيم آغا الصعيدي زعيم مصر أخاف الناس وصار له سمعة وهيبة وطلع بالحج بعد ذلك ثلاث مرار في أمن وأمان‏.‏

وتاقت نفسه الرئاسة ولا يتم له ذلك إلا بملك باب مستحفظان وكان بيد القاسمية فأعمل حيلة بمعضدة حسن آغا بلغيه وإغراء علي باشا والي مصر حين ذاك فقلد رجب كتخدا مستحفظان وسليم أفندي صناجق ثم عملوا دعوة على سليم بك المذكور انحط فيها الأمر على حبسه وقتله‏.‏

فلما رأى رجب بك ذلك ذهب إلى إبراهيم بك واستعفى من الإمارة فقلده سردار جداوي وسافر من القلزم وتوفي بمكة وخلف ولد اسمه باكير حضر إلى مصر بعد ذلك ولما قتل سليم بك المذكور لا عن وارث ضبط مخلفاته الباشا لبيت المال وأخذوا جميع ما في بيته الذي بالأزبكية المجاور لبيت الدادة أبي قاسم الشرايبي وهو الذي اشتراه القاضي مواهب أبو مدين جربجي عزبان في سنة أربع ومائة وألف‏.‏

وقتلوا أيضًا خليل كتخدا المعروف بالجلب وقلدوا كجك محمد باشا أوده باشا وصار له كلمة وسمعة ونفى مصطفى كتخدا القازدغلي إلى أرض الحجاز‏.‏

وصفا الوقت لإبراهيم بك وكجك محمد من طرفة في باب مستحفظان فعزم على قطع بيت القاسمية فأخرج ايواظ بك إلى إقليم البحيرة وقاسم بك إلى جهة بني سويف وأحمد بك إلى المنوفية‏.‏

وخلا له الجو وانفرد بالكلمة في مصر وصار منزله بدرب الجماميز مفتوحًا ليلًا ونهارًا لقضاء الحوايج مع مشاركة الأمير حسن آغا بلغيه ثم أنه عزم على قتل إبراهيم بك أبي شنب واتفق مع الباشا على ذلك بحجة المال والغلال التي عليه فلم يتم ذلك ولم يزل المترجم أميرًا على الحج إلى أن مات في فصل الشحاتين سنة ستع ومائة وألف وطلع بالحج خمس مرات‏.‏

ومات الأمير اسمعيل بك الكبير الفقاري تابع حسن بك الفقاري وصهر حسن آغا بلغيه تولى الدفتردارية ثلاث سنين وسبعة أشهر ثم عزل وسافر أميرًا على عسكر السفر إلى الروم ورجع إلى مصر وأعيد إلى الدفتردارية ثانيًا ولم يزل حتى مات سنة تسع عشرة ومائة وألف فجأة ليلة السبت تاسع عشري المحرم وكانت جنازته حافلة وخلف ولده محمد بك تولى بعده الإمارة وطلع بالحج سنة سبع وثلاثين ومائة وألف‏.‏

ومات الأمير حسن آغا بلغيه الفقاري آغات ككللويان وأصله رومي الجنس تابع محمد جاويش فياله تولى أغاوية العزب سنة خمس وثمانين وألف ثم عمل متفرقة باشا سنة تسع وثمانين وألف ثم عزل عنها وتقلد أغات ككللويان سنة ثلاث وتسعين وألف وكان أميرًا جليلًا ذا دهاء ورأي وكلمة مسموعة نافذة بأرض مصر صاحب سطوة وشهامة وحسن تدبير ولا يكاد يتم أمر من الأمور الكلية والجزئية إلا بعد مراجعته ومشورته وكل من انفرد بالكلمة في مصر يكون مشاركًا له وتزوج بابنة اسمعيل بك الكبير المذكورآنفًا وولد له منها ابنه محمد بك الآتي ذكره الذي تولى إمارة الحج في سنة سبع وثلاثين ومائة وألف ومصطفى كتخدا القازدغلي جد القازدغلية كان أصله سراجًا عنده وهو الذي رقاه حتى صار إلى ما صار إليه‏.‏

وتفرعت عنه شجرة القازدغلية وغالب أمراء مصر وحكامها يرجعون في النسبة إلى أحد البيتين وهم بيت بلغيه وبيت رضوان بك صاحب العمارة المتوفى سنة خمس وستين وألف‏.‏

ولم يترك أولادًا بل ترك حسن بك أمير الحاج المتقدم ذكره ولاجين بك حاكم الغربية وهو صاحب السويقة المنسوبة إليه وأحمد بك أباظه وشعبان بك أبا سنة وقيطاس بك جركس وقانصوه بك وعلي بك الصغير وحمزة بك هؤلاء قتلوا بعده في فتنه القاسمية بالطرانة‏.‏

وأما أمراؤه الذين يقتلوا واستمروا أمراء بمصر مدة طويلة فهم محمد بك حاكم جرجا وذو الفقار بك الماحي الكبير وكان رضوان بك هذا وافر الحرمة مسموع الكلمة تولى إمارة الحج عدة سنين وكان رجلًا صالحًا ملازمًا للصوم والعبادة والذكر وهو الذي عمر القصبة المعروفة به خارج باب زويلة عند بيته ووقف وقفًا على عتقائه وعلى جهات بر وخيرات وكان من الفقارية‏.‏

وأما رضوان بك أبو الشوارب القاسمي وهو سيد ايواظ بك فظهر بعد موت رضوان بك المذكور وانفرد بالكلمة بمصر مع مشاركة قاسم بك جركس وأحمد بك بشناق الذي كان بقناش السباع وهو قاتل الفقارية بالطراثة وهو أيضًا عم إبراهيم بك بشيناق المعروف بأبي شنب سيد محمد جركس الآتي ذكره‏.‏

ومات قاسم بك هذا سنة اثنتين وسبعين وألف وهو دفتردار بعد عزله من إمارة الحج وانفرد بعد رضوان بك أبي الشوارب أحمد بك‏.‏

ثم مات رضوان بك عن ولده أزبك بك وانفرد أحمد بك بشناق بإمارة مصر نحو سبعة أشهر فطلع يوم عرفه يهني شيطان إبراهيم باشا باليد فغدره وقتلوه بالخناجر أواخر سنة اثنتين وسبعين وألف ولم يزل حسن آغا لغيه المترجم حتى توفي سنة خمس عشرة ومائة وألف على فراشه وعمره نحو تسعين سنة‏.‏

ولما مات حسن آغا انفرد بالكلمة بعده صهره اسمعيل بك وخضعت له الرقاب مشاركة إبراهيم بك أبي شنب بضعف‏.‏

ومات الأمير مصطفى كتخدا القازدغلي تابع الأمير حسن آغا بلغيه أصله رومي الجنس حضر إلى مصر وخدم عند حسن أغا المذكور ورقاه ولم يزل حتى تقلد كتخدا مستحفظان فلما حصل ما تقدم وتقلد كجك محمد باش أوده باشا بالباب خمل ذكر مصطفى كتخدا وخمدت شهرته ثم نفاه كجك محمد إلى الحجاز فأقام سنتين إلى أن ترجى حسن آغا عند إبراهيم بك أمير الحاج وكجك محمد في رجوعه فردوه إلى مصر فأقام مع كجك محمد خاملًا فأغرى به رجلًا سجماني كان عنده بناحية طلخا يضرب نشابًا فضرب كجك محمد من شباك الجامع بالمحجر فأصابه وملك مصطفى كتخدا باب مستحفظان ذلك اليوم ونفى وقتل وفرق من يخشى طرفه وصفا له الوقت إلى أن مات على فراشه سنة خمس عشرة ومائة وألف‏.‏

ومات كجك محمد المذكور باش أوده باشا وكان له سمعة وشهرة وحسن سياسة‏.‏

ولما قصر مد النيل في سنة ست ومائة وألف وشرقت البلاد وكان القمح بستين نصفًا فضة الاردب فزاد سعره وبيع باثنتين وسبعين فضة نزل كجك محمد إلى بولاق وجلس بالتكية وأحضر الأمناء ومنعهم من الزيادة عن الستين وخوفهم وحذرهم وأجلس بالحملة اثنين من القابجية ويرسل حماره كل يومين أو ثلاثة مع الحمار يمشي به جهة الساحل ويرجع فيظنون أن كجك محمد ببولاق فلا يمكنهم زيادة في ثمن الغلة‏.‏

فلما قتل كما ذكر بيع القمح في ذلك اليوم بمائة نصف فضة ولم يزل يزيد حتى بلغ ستمائة نصف فضة‏.‏

ومما اتفق له أن بعض التجار بسوق الصاغة أراد الحج فجمع ما عنده من الذهبيات والفضيات واللؤلؤ والجواهر ومصاغ حريمه ووضعه في صندوق وأودعه عند صاحب له بسوق مرجوس يسمى الخواجا علي الفيومي بموجب قائمة أخذها معه مع مفتاح الصندوق وسافر إلى الحجاز وجاور هناك سنة ورجع مع الحجاج وحضر إليه أحبابه وأصحابه للسلام عليه‏.‏

وانتظر صاحبه الحاج علي الفيومي فلم يأته فسأل عنه فقيل له أنه طيب بخير فأخذ شيئًا من التمر واللبان والليف ووضعه في منديل وذهب إليه ودخل عليه ووضع بين يديه ذلك المنديل فقال له‏:‏ من أنت فإني لا أعرفك قبل اليوم حتى تهاديني‏.‏

فقال له‏:‏ أنا فلان صاحب الصندوق الأمانة فجحد معرفته وأنكر ذلك بالكلية ولم يكن بينه وبينه بينة تشهد بذلك فطار عقل الجوهري وتحير في أمره وضاق صدره فأخبر بعض أصحابه فقال له‏:‏ اذهب إلى كجك محمد أوده باشه‏.‏

فذهب إليه وأخبره بالفضة فأمره أن يدخل إلى المكان الداخل ولا يأتي إليه حتى يطلبه وأرسل إلى علي الفيومي‏.‏

فلما حضر إليه بش في وجهه ورحب به وآنسه بالكلام الحلو ورأى في يده سبحة مرجان فأخذها من يده يقلبها ويلعب بها ثم قام كأنه يزيل ضرورة وأعطاها لخادمه وقال له‏:‏ خذ خادم الخواجا صحبتك واترك دابته هنا عند بعض الخدم واذهب صحبة الخادم إلى بيته وقف عند باب الحريم وأعطهم السبحة إمارة وقل لهم أنه اعترف بالصندوق والأمانة‏.‏

كلما رأوا الإمارة والخادم لم يشكوا في صحة ذلك وعندما رجع كجك محمد إلى مجلسه قال للخواجا‏:‏ بلغني أن رجلًا جواهرجي أودع عندك صندوقًا أمانة ثم طلبه فأنكرته‏.‏

فقال‏:‏ لا وحياة رأسك ليس له أصل وكأني اشتبهت عليه أو أنه خرفان وذهلان ولا أعرفه قبل ذلك ولا يعرفني‏.‏

ثم سكتوا وإذا بتابع الأوده والخادم داخلين بالصندوق على حمار فوضعوه بين أيديهما فامتقع وجه الفيومي وأسفر لونه فطلب الأوده باشه صاحب الصندوق فحضر فقال له‏:‏ هذا صندوقك قال له‏:‏ نعم‏.‏

قال له‏:‏ عندك قائمة بما فيه قال‏:‏ معي‏.‏

وأخرجها من جيبه مع المفتاح فتناولها الكاتب وفتحوا الصندوق وقابلوا ما فيه على موجب القائمة فوجده بالتمام‏.‏

فقال به‏:‏ خذ متاعك واذهب‏.‏

فأخذه وذهب إلى داره وهو يدعو له ثم التفت إلى الخواجا علي الفيومي وهو ميت في جلده ينتظر ما يفعل به فقال له صاحبالأمانة‏:‏ أخذها وأيش جلوسك فقام وهو ينفض غبار الموت وذهب‏.‏

واتفق أن أحمد البغدادي أقام مدة يرصد المترجم يمر من عطفة النقيب ليضربه ويقتله إلى أن صادفه فضربه بالبندقية من الشباك فلم تصبه وكسرت زاوية حجر وأخبروه أنها من يد البغدادلي فأعرض عن ذلك وقال‏:‏ الرصاص مرصود والحي ماله قاتل‏.‏

وتقلد باش أوده باشه سنة خمس وثمانين وألف فتحركت عليه طائفته وأرادوا قتله فخرج من وجاقه إلى وجاق آخر وعمل شغله في قتل كبار المتعصبين عليه وهم ذو الفقار كتخدا وشريف أحمد باشجاويش باتفاق مع عابدي باشا المتولي إذ ذاك خفية فقتل الباشا الشريف أحمد جاويش في يوم الخميس خامس الحجة سنة تسع وثمانين وألف وهرب ذو الفقار إلى طندتا فأرسلوا خلفه فرمانًا خطابًا لاسمعيل كاشف الغربية بقتله فركب إلى طندتا وقتله وأرسل دماغه وذلك بعد موت أحمد جاويش بعشرة أيام ورجع كجك محمد إلى مكانه كما كان واستمر مسموع الكلمة ببابه إلى أن ملك الباب جربجي سليمان كتخدا مستحفظان في سنة أربع وتسعين وألف‏.‏

ونفى كجك محمد إلى بلاد الروم ثم رجع في سنة خمس وتسعين وألف بسعاية بعض أكابر البلكات بشرط أن يرجع إلى لبس الضلمة ولا يقارش في شيء فاستمر خامل الذكر إلى أن مات جربجي سليمان على فراشه فعند ذلك ظهر أمر المترجم وعمل باش أوده باشا كما كان ولم يزل إلى سنة سبع وتسعين وألف فاستوحش من سليم أفندي كاتب كبير مستحفظان ورجب كتخدا فانتقل إلى وجاق جمليان وعمل جربجي وسافر هجان باشا ثم رجع إلى بابه سنة تسع وتسعين وألف كما كان بمعاضدة إبراهيم بك الفقاري واتفق معه على هلاك سليم أفندي ورجب كتخدا فولوهما الصنجقية وقتلوهما كما ذكر‏.‏

وكان سليم أفندي المذكور قاسمي النسبة واستمر كجك محمد مسموع الكلمة نافذ الحرمة إلى أن قتل غيلة كما ذكر في طريق المحجر في يوم الخميس سابع المحرم سنة ست ومائة وألف‏.‏

ومات الأمير عبد الله بك بشناق الدفتردار تولى الدفتردارية سنة ثلاث ومائة وألف ثم عزل عنها بعد خمسة أشهر وعشرين يومًا وسافر أميرًا على العسكر إلى الروم ورجع إلى مصر وتولى قائمقام عندما عزل حسن باشا السلحدار في سنة اثنتين وذلك قبل سفره وحضر أحمد باشا ثم عزل بعد ذلك المترجم من الدفتردارية واستمر أميرًا إلى أن مات سنة خمس عشرة ومائة وألف على فراشه‏.‏

ومات الأمير سليمان بك الأرمني المعروف ببارم ذيله تولى الصنجقية سنة اثنتين ومائة وألف وكان وجيهًا ذا مال وخدم ومماليك وتولى كشوفيات المنوفية والغربية مرارًا عديدة ولم يزل في إمارته إلى أن توفي على فراشه سنة إحدى وعشرين ومائة وألف وخلف ولدًا يسمى عثمان جلبي تقلد إمارة والده بعده وكان جميلًا وجيهًا حاذقًا يحب مطالعة الكتب ونشد الأشعار وتقلد كشوفية المنوفية والغربية والبحيرة وكان فارسًا شجاعًا ولم يزل حتى هرب مع من هرب في واقعة محمد بك قطامش سنة ستع وعشرين ومائة وألف فاختفى بمصر ونهب بيته واستمر مخفيًا إلى أن مات بالطاعون سنة ثلاثين ومائة وألف وخرجوا بمشهده جهارًا ومات وعمره سبع وثلاثون سنة‏.‏

ومات الأمير حمزة بك تابع يوسف بك جلب القرد تأمر بعد سيده سنة عشرة ومائة وألف فمكث خمس سنوات أميرًا ثم سافر بالخزينة ومات بالطريق سنة ست عشرة ومائة وألف‏.‏

ومات قبله سيده الأمير يوسف بك القرد تولى الصنجقية سنة ثلاث وسبعين وألف وتولى إمارة ومات الأمير رمضان بك تولى الإمارة سنة سبع وسبعين وألف وعمل قائمقام عندما عزل أحمد باشا الدفتردار وسبب ذلك أنه لما ورد أحمد باشا المذكور واليًا على مصر في سنة ست وثمانين وألف وأشيع عنه بأن قصده إحداث مظالم على البيوت والدكاكين والطواحين مثل الشام ويفتش على الجوامك وغيرها فاجتمع العسكر في خامس الحجة بالرميلة وقاموا قومة واحدة وقطعوا عبد الفتاح أفندي الشعراوي كاتب مقاطعة الغلال وهو نازل من الديوان‏.‏

وكان قبل تاريخه ذهب إلى الديار الرومية وحضر صحبته أحمد باشا فاتهموه بأنه هو الذي أغرى الباشا على ذلك‏.‏

ولما نزل الأمراء وأرباب الديوان قام عليهم العسكر والعامة وقالوا لهم‏:‏ لابد من نزول الباشا وإلا طلعنا إليه وقطعناه قطعًا قطعًا‏.‏

فطلعوا إلى الباشا فعرضوا عليه ذلك فامتنع وتكرر مراجعته والعسكر والناس يزيد اجتماعهم إلى قريب العصر فلم يسعه إلا النزول بالقهر عنه إلى بيت حاجي باشا بالصليبية وولوا رمضان بك هذا قائمقام‏.‏

فلم يزل حتى ورد عبد الرحمن باشا سادس جمادى الآخرة من سنة سبع وثلاثين وألف ولم يزل المترجم أميرًا حتى مرض ومات سنة ثلاث عشرة ومائة وألف‏.‏

ومات الأمير درويش بك الفلاح تولى الإمارة سنة خمس وتسعين وألف ومات سنة ثمان ومائة وألف‏.‏

ومات الأمير درويش بك جركس الفقاري وهو سيد أيوب بك تولى الإمارة سنة ثمان وتسعين وألف ومات سنة خمس ومائة وألف‏.‏

ومات الأمير محمد كتخدا عزبان البيرقداري وكان صاحب صولة وعز في بابه وكلمة وشهرة مع مشاركة محمد كتخدا البيقلي وكان المترجم شهير الذكر وبيته مفتوح وتسعى إليه الأمراء والأعيان ويقضي حوائج الناس ويسعى في أشغالهم‏.‏

وظهر في أيامه أحمد أوده باشه القيومجي وظالم علي جاويش عزبان‏.‏

مات المترجم ثالث عشري رمضان سنة سبع ومائة وألف على فراشه بمنزله ناحية المظفر‏.‏

ومات أيضًا محمد كتخدا البيقلي في ثالث عشري رمضان سنة خمس ومائة وألف بمنزله بسوق السلاح وعمره ولده بعد موته وهو يوسف كتخدا عزبان وكالة سنة ست عشرة ومائة وألف‏.‏

ومات الأمير أحمد جربجي عزبان المعروف بالقيومجي وسبب تسميته بالقيومجي أن سيده حسن جربجي كان أصله صائغًا ويقال له باللغة التركية قيومجي فاشتهر بذلك وكان سيده في باب مستحفظان وأحمد هذا عزبان وكان المشارك لأحمد جربجي في الكلمة علي جاويش المعروف بظالم علي إلى أن لبس ظالم علي كتخدا الباب سنة ثمان ومائة وألف ومضى عليه نحو سبعة أشهر فانتبذ أحمد جربجي وملك الباب على حين غفلة وأنزل علي كتخدا إلى الكشيدة فخاف على نفسه ظالم علي فالتجأ إلى وجاق تفكجيان فسعى إليه جماعة منهم ومن أعيان مستحفظان وردوه إلى بابه بأن يكون اختياريًا وضمنوه فيما يحدث منه فاستمر مع أحمد كتخدا معززًا إلى أن مات ظالم علي على فراشه بمنزله بالجبانية الملاصق للحمام سنة خمس عشرة ومائة وألف وانفرد بالكلمة أحمد كتخدا ولم يزل إلى أن مات على فراشه بمنزله ببولاق سنة عشرين ومائة وألف وكان سخيًا يضرب بكرمه المثل وكان به بعض عرج بفخذه الأيسر بسبب سقطة سقطها من على الحمار وهو أوده باشه‏.‏ ومات

الأمير الكبير المقدام أيواظ بك والد الأمير اسمعيل بك

وأصل اسمه عوض فحرفت باعوجاج التركية إلى ايواظ فإن اللغة التركية ليس فيها الضاد فأبدلت وحرفت بما سهل على لسانهم حتى صارت ايواظ وهو جركس الجنس قاسمي تابع مراد بك الدفتردار القاسمي الشهيد بالغزاة ومراد بك تابع أزبك بك أمير الحاج سابقًا ابن رضوان بك أبي الشوارب المشهور المتقدم ذكره تولى الإمارة عوضًا عن سيده مراد بك الشهيد بالغزاة في سنة سبع ومائة وألف وفي سنة عشر ومائة وألف‏.‏

ورد مرسوم من الدولة خطابًا لحسين باشا والي مصر إذ ذاك بالأمر بالركوب على المتغلب عبد الله وافي المغربي بجهة قبلي ومن معه من العربان وإجلائهم عن البلاد وحضرت جماعة من الملتزمين والفلاحين يشكون ويتظلمون من المذكورين فجمع حسين باشا الأمراء والأغوات وأمرهم بالتهيؤ للسفر صحبته فقالوا نحن نتوجه جميعًا وأما أنت فتقيم بالقلعة لأجل تحصيل الأموال السلطانية‏.‏

ثم وقع الاتفاق على إخراج تجريدة وأميرها ايواظ بك وصحبته ألف نفر من الوجاقات ويقرروا له على كل بلد كبيرة ثلاثة آلاف نصف فضة والصغيرة ألف وخمسمائة فأجابهم إلى ذلك وجعلوا لكل نفر ثلاثة آلاف فضة وللأمير عشرة أكياس وخلع عليه الباشا قفطانًا وخرج في يوم السبت سابع عشر جمادى الآخرة بموكب عظيم ونزل بدير الطين‏.‏

فبات به وأصبح متوجهًا إلى قبلي ثم ورد منه في حادي عشر رجب يذكر كثرة الجموع ويطلب الإمداد فعمل الباشا ديوانًا وجمع الأمراء واتفقوا على إرسال خمسة من الأمراء الصناجق وهم أيوب بك أمير الحاج حالًا واسمعيل بك الدفتردار وإبراهيم بك أبو شنب وسليمان بك قيطاس وأحمد بك ياقوت زاده وآغوات الاسباهية الثلاثة وأتباعهم وأنفارهم‏.‏

فتهيئوا وسافروا ونزلوا بالجيزة وأقاموا بها أيامًا فورد الخبر أن ايواظ بك تحارب مع العربان وهزمهم وقروا إلى الوجه البحري من طريق الجبل ورجع الأمراء إلىمصر‏.‏

وفي شوال نزلت جماعة من العربان بكرداسة فكبسهم ذو الفقار كاشف الجيزة وقتل منهم أربعة وسبعين رجلًا وطلع برؤوسهم إلى الديوان ثم ورد الخبر بأن جمع أبي زيد بن وافي نزل بوادي الطرانة فاحتاط به قائمقام البحيرة وقتل من معه من الرجال واحتاط بالأموال والمواشي ولما بلغ بقية العربان ما حصل لأبي زيد ضاقت بهم الأرض ففروا إلى الواحات وأقاموا بها مدة حتى أخربوها وأغلوها وانقطعت السيارة فألجأتهم الضرورة إلى أن هبطوا في صعيد مصر بمحاجر الجعافرة بالقرب من أسنا وصحبتهم علي أبو شاهين شيخ النجمة‏.‏

وحصل منهم الضرر فلما بلغ ذلك عبد الرحمن بك أغرى بهم عربان هوارة فاحتاطوا بهم ونهبوهم وأخذوا منهم جملة كبيرة من الجمال وغيرها ففروا فتبعهم خيل هوارة إلى حاجر منفلوط فتبعهم عبد الرحمن بك ومن معه من الكشاف فأثخنوهم قتلًا ونهبًا وأخذوا منهم ألفا وسبعمائة جمل بأحمالها‏.‏

وهرب من بقي‏.‏

وما زالوا كلما هبطوا أرضًا قاتلهم أهلها إلى أن نزلوا الفيوم بالغرق وأفترق منهم أبو شاهين بطائفة إلى ولاية الجيزة فعين لهم الباشا تجريدة ذهبوا خلفهم إلى الجسر الأسود فوجدوهم عدوا إلى المنوفية وأما ايواظ بك فإنه منحين نزوله إلى الصعيد وهو يجاهد ويحارب في العربان حتى شتت شملهم وفرق جمعهم فتلقاهم عبد الرحمن بك فأذاقهم أضعاف ذلك وحضر ايواظ بك إلى مصر ودخل في موكب عظيم والرؤوس محمولة معه وطلعوا إلى القلعة وخلع عليه الباشا وعلى السدادرة الخلع السنية ونزلوا إلى منازلهم في أبهة عظيمة وتولى كشوفية الأقاليم الثلاثة على ثلاث سنوات ورجع إلى مصر‏.‏

وحضر مرسوم بسفر عسكر إلى البلادالحجازية وعزل الشريف سعد وتولية الشريف عبد الله وأميرها ايواظ بك فخلع عليه الباشا وشهل له جميع احتياجاته وبرز إلى العادلية وصحبته السدادرة وسار برًا في غير أوان الحج ولما وصل إلى مكة جمع السدادرة القدم والجد وحاربوا الشريف سعدا هزموه وملك دار السعادة وأجلس الشريف عبد الله عوضه وقتل في الحرابة رضوان آغا ولده وكان خازنداره وأقام بمكة إلى أيام الحج أتى إليه مرسوم بأنه يكون حاكم جدة وكانت إمارة جدة لأمراء مصر أقام بجدة وحاز منها شيئًا كثيرًا‏.‏

وكان الوكيل عنه بمصر يوسف جربجي الجزار عزبان ويرسل له الذخيرة وما يحتاجه من مصر‏.‏

وتولى المترجم إمارة الحج سنة اثنتين وعشرين وقتل في تلك السنة وذلك أنه اشتدت الفتنية بين العرب والينكجرية وحضر محمد بك حاكم الصعيد معينا للينكجرية وصحبته السواد الأعظم من العسكر والعرب والمغاربة والهوارة فنزل بالبساتين ثم دخل إلى مصر بجموعه نزل ببيت آقباي وحار المتترسين بجامع السلطان حسن وكان به محمد بك الصغير وهو تابع قيطاس بك مع من أنضم إليه من أتباع إبراهيم بك وايواظ بك ومماليكه فكانت النصرة لمحمد بك الصغير بعد أمور وحروب‏.‏

وأنتقل محمد بك جرجا إلى جهة الصليبة ووقعت أمور يطول شرحها مشهورة من قتل ونهب وخراب أماكن‏.‏

وطال الأمر ثم أن الأمراء اجتمعوا بجامع بشتاك وحضر معهم طائفة من العلماء والأشراف واتفقوا على عزل خليل باشا وإقامة قانصوه بك قائمقام وولوا مناصب وآغوت ووالي‏.‏

ووصل الخبر إلى الباشا ومن معه فحرض الينكجرية وفيهم إفرنج أحمد ومحمد بك جرجا ومن معه على الحرب‏.‏

ووقعت حروب عظيمة بين الفريقين عدة أيام وصار قانصوه بك يرسل بيورلديات وتنابيه وأرسل إلى محمد بك جرجا يأمره بالتوجه إلى ولايته ويجتهد في تحصيل المال والغلال السلطانية فعندما وصل إليه البيورلدي قام وقعد واحتد وأشتد بينهم الجلاد والقتال‏.‏

واجتمع الأمراء الصناجق والآغوات عند قائمقام ورتبوا أمورهم وذهبت طائفة لمحاربة منزل أيوب بك إلى أن ملكوه بعد وقائع ونهبوه وخرج أيوب بك هاربًا وكذلك منزل أحمد آغا التفكجية بعد قتله‏.‏

وخرج أيضًا محمد آغا الشاطر وعلي جلبي الترجمان وعبد الله الوالي ولحقوا بأيوب بك وفروا إلى جهة الشام وخرج محمد بك الكبير إلى جهة قبلي وانتهبت جميع بيوت الخارجين وبيت محمد بك الكبير وأحمد جرجي القنيلي وأحرقوا بيت أيوب بك وما لاصقه من البيوت والحوانيت والرباع‏.‏

وفي أثناء ذلك قبل خروج من ذكر أيام اشتداد الحرب خرج محمد بك بمن معه إلى جهة قصر العيني فوصل الخبر إلى ايواظ بك فركب مع من معه ورفع القوس المزراق إمام الصنجق فانشبك في سكفة الباب وانكسر فقالوا للصنجق‏:‏ كسر المزراق‏.‏

قال‏:‏ وتطيروا من ذلك‏.‏

فقال‏:‏ لعل بموتي ينصلح الحال‏.‏

وطلب مزراقًا آخر وسار إلى جهة القبر الطويل فظهر محمد بك والهوارة فتحاربوا معهم فانهزم رجال محمد بك وفر هو ومن معه إلى السواق فطمع فيهم ايواظ بك ورمح خلفهم وكان محمد بك أجلس جماعة سجمانية على السواقي لمنع من يطرد خلفهم عند الانهزام فرموا عليهم رصاصا فأصيب ايواظ بك وسقط من على جواده‏.‏

وحصل بعد ذلك ما حصل من الحروب ونصرة القاسمية والعزب وهروب المذكورين وعزل الباشا ودفن ايواظ بك بتربة أبي الشوارب وكان أميرًا خيرًا شهمًا حزن عليه كثير من الناس‏.‏

وخلف ولده السعيد الشهيد اسمعيل بك الشهير السابق ذكره والآتي ترجمته وما وقع له ولأخيه محمد بك المعروف بالمجنون ومصطفى بك وخلف عدة من المماليك والأمراء ومنهم يوسف بك الجزار غيره‏.‏

ومات الأمير أيوب بك تابع درويش بك وهو كان ممن تسبب في إثارة الفتنة المذكورة وتولى كبرها مع إفرنج أحمد وأرسل إلى محمد بك جرجا فحضر إليه معينًا ومعه من ذكر من أخلاط العالم وحصل ما حصل وأصله جركس الجنس ومن الفقارية تولى إمارة الحج بعد موت إبراهيم بك ذك الفقار سنة سبع ومائة وألف وطلع بالحج عشر مرات وعزل سنة سبع عشرة ومائة وألف وتولى الدفتردارية ثم عزل عنها ثم وقعت الفتنة وقهر فيها وخرج من مصر هاربًا مع من هرب إلى جهة الشام وذهب إلى اسلامبول ولم يزل بها حتى مات سنة أربع وعشرين ومائة وألف طريدًا غريبًا وحيدًا بعد الذي رآه من العز والجاه بمصر وخلف من الأولاد الذكور والإناث اثني عشر لم ينتج منهم أحد عاشوا وماتوا فقراء لأن ماله انتهب في الفتنة‏.‏

ومات الأمير قيطاس بك وهو مملوك إبراهيم بك ذي الفقار كردلي الجنس تولى إمارة الحج سنة عشرة ومائة وألف واستمر فيها إلى سنة إحدى وعشرين ومائة وألف طلع بالحج خمس مرات ثم عزل وتولى الدفتردارية وأستمر فيها إلى سنة أربع وعشرين ومائة وألف ثم عزل عنها وتولى إمارة الحج سنة تاريخه ثم عزل وتلبس بالدفتردارية واستمر فيها إلى أن قتل في سنة ست وعشرين ومائة وألف قتله عابدي باشا وذلك أنه لم حضر عابدي باشا إلى مصر وقدم له الأمراء التقادم وقدم له اسمعيل بك ابن ايواظ تقدمة عظيمة وكان إذ ذاك أمين السماط فأحبه الباشا وسأل عمن تسبب في قتل أبيه فقالوا هذه قضية ليس لأحد فيها جنية وأنما قيطاس بك وايوب بك من بيت واحد وكان أيوب بك أعظم فالتجأ قيطاس بك إلى المرحوم ايواظ بك إلى أن قتل بسببه وقتل أيضًا كثير من رجاله‏.‏

وبعدما بلغ مراده سعى في هلاكنا وأراد قتلنا عند أم أخنان وسلط ابن حبيب على خيولنا في المربع وجم أذنابها‏.‏

فقال الباشا‏:‏ يكون خيرًا‏.‏

ولما استقر الباشا وتقلد اسمعيل بك إمارة الحج وقلدوا مناصب الأقاليم للقاسمية وتقلد عبد الله بك خازندار ايواظ بك الصنجقية وأرسلوا بقتل الأمير حسن كاشف اخميم‏.‏

ثم أن قيطاس بك أرسل كور عبد الله سرًا إلى الباشا وكلمه في إدارة الكشوفيات على الفقارية وعمل رشوة فقال له‏:‏ هذه السنة مضت وفي العام القابل نعطيكم جميع الكشوفيات فاطمأن بذلك وشرع في عمل عزومة للباشا بقصر العيني فأجاب لذلك وذهب مع القاضي وإبراهيم بك الدفتردار وأرباب الخدم وقدم لهم تقادم وخلع عليه الباشا فروة سمور وركبوا أواخر النهار وذهبوا إلى منازلهم‏.‏

ومضى على ذلك أيام وكان محمد بك قطامش تابع قيطاس بك في الخفر بسبيل علام فخضر في بعض الأيام إلى الديوان لحاجة ودخل عند الباشا فقال له‏:‏ أين كنت ولم تحضر معنا عزومة سيدك‏.‏

فقال‏:‏ أنا في خفر بسبيل علام‏.‏

فقال الباشا‏:‏ وسبيل علام هذا بلد والقلعة فعرفه أنه مثل القلعة وحوله قصور لنزول الأمراء‏.‏

فقال الباشا‏:‏ أحب أن أرى ذلك‏.‏

فقال‏:‏ حبًا وكرامة تشرفونا يوم السبت‏.‏

فقال‏:‏ كذلك شهل روحك ونأتي صحبة سيدك والقاضي من غير زيادة وأدع أنت من شئت‏.‏

وقال الباشا لقيطاس بك‏:‏ تنزل في صبح يوم السبت إلى قراميدان فتأتيني هناك ونركب صحبة‏.‏

فقال‏:‏ كذلك‏.‏

فأرسل إبراهيم أبو شنب تلك الليلة تذكرة لقيطاس بك‏:‏ اقبل النصيحة ولا تذهب إلى قراميدان‏.‏

فلما قرأ التذكرة وأعرضها على كتخدا محمد آغا الكور فقال هذا‏:‏ عدو فلا تأخذ منه نصيحة فإنه لا يحب قربك من الباشا‏.‏

وفي الصباح ركب في قلة وذهب إلى قراميدان فوجد الباشا نزل وجلس بالكشك وأوقف أتباعه وعسكره‏.‏

فلما حضر قيطاس بك قال له الباشا من الشباك‏:‏ أطلع حتى يأتي القاضي ونركب سوية وخل الطوائف راكبين‏.‏

فنزل وطلع وجلس فهجم عليه أتباع الباشا وقتلوه بالخناجر وقطعوا رأسه ورموه لطائفته من الشباك‏.‏

وركب الباشا في الحال وطلع إلى القلعة‏.‏

فشاله أتباعه وذهبوا إلى بيته وذهبت طائفة إلى سبيل علام أخبروا محمد بك بقتل سيده فركب من ساعته وصحبته عثمان بك فأتوا صيوان قيطاس بك الأعور وكان طالعًا بالخزينة فعرفوه أن سيده قتله القاسمية بيد الباشا وطلبوه يركب معهم يأخذون بثأره فأتى وقال أنه قتل بأمر سلطاني والخزنة في تسليمي وأنتم فيكم البركة فساروا إلى بيت أستاذهم فوجدوا هناك حسن كتخدا النجدلي وناصف كتخدا القازدغلي وكور عبد الله جاويش وأخضروا رأس الصنجق مسلوخة وغسلوه وكفنوه وصلوا عليه بسبيل المؤمن ودفنوه بالقرافة وكرنك محمد بك قطامش تابعه هو وو عثمان بك بن سليمان بك بارم ذيله ولم يتم له أمر وهرب محمد بك إلى بلاد الروم وسيأتي خبره في ترجمته واختفى عثمان بك في بيت رجل مغربي حتى مات وكان إبراهيم بك أبو شنب يعرف مكانه ويرسل له مصروفًا وثارت فتنة عظيمة بعد قيطاس بك بين الينكجرية والعزب وهو أن حسن كتخدا النجدلي وناصف كتخدا وكور عبد الله جاويش أغراض قيطاس بك ملكوا باب مستحفظان في ذلك اليوم في شهر رجب وقتلوا كتخدا الوقت شريف حسين إبراهيم باش أوده باشه المعروف بكدك وكانوا يتهمونه في قتل قيطاس بك‏.‏

ثم في أواخر رمضان ملك باب مستحفظان محمد كتخدا كدك على حين غفلة ليأخذ ثار أخيه حسين وقتل حسن كتخدا النجدلي وناصف كتخدا القازدغلي وأنزلوا رممهما في صبحها إلى بيوتهم وهرب كور عبد الله ثم قبضوا عليه بعد ستة أيام وأحضروه وهو راكب على حصان وفي عنقه جنزير وعلى رأسه ملاءة فطلع به محمد بك جركس إلى الباشا فأمر به إلى محمد كدك بالباب فقتله وأرسل رمته إلى بيته بسوق السلاح وذلك في غاية رمضان سنة سبع وعشرين ومائة وألف‏.‏

ومات الأمير عبد الرحمن بك وكان أصله كاشف الشرقية وكان مشهورًا بالفروسية والشجاعة قلده الإمارة اسمعيل باشا والي مصر سنة سبع ومائة وألف هو ويوسف بك المسلماني‏.‏

فإنه لما وقع الفصل في تلك السنة وغنم الباشا أموالًا عظيمة من حلوان المحاليل والمصالحات فلما انقضى الفصل عمل عرسًا عظيمًا لختان أولاده في سنة ثمان ومائة وألف وهادنه الأعيان والأمراء والتجار بالهدايا والتقادم وكان مهمًا عظيمًا أستمر عدة أيام لم يتفق نظيره لأحد من ولاة مصر نصبوا في ديوان الغوري وقاتباي الأحمال والقناديل وفرشوهما بالفرش الفاخرة والوسائد والطنافس وأنواع الزينة ونصبوا الخيام على حوش الديوان وحوش السراية وعلقوا التعاليق بها وخيام تركية وأتصل ذلك بأبواب القلعة التحتانية إلى الرميلة والمحجر ووقف أرباب العكاكيز وكتخدا الجاوشية وآغات المتفرقة والأمراء وباشجاويش الينكجرية والعزب والآغا الوالي والمحتسب الجميع ملازمون للخدمة وملاقاة المدعوين وفي أوسلعهم الحازم الزردخان وأبو اليسر الجنكي ملازم بديوان الغوري ليلًا ونهارًا وجنك اليهود بديوتن قايتباي وأرباب الملاعيب والبهلوانيين والخيالة بالحيشان وأبواب القلعة مفتوحة ليلًا ونهارًا وأصناف الناس على اختلاف طبقاتهم وأجناسهم أمراء وأعيان وتجار وأولاد بلد طالعين نازلين للفرجة ليلًا ونهارًا‏.‏

وختن مع أولاده عند انقضاء المهم مائتي غلام من وأولاد الفقراء ورسم لكل غلام بكسوة ودراهم ودعوا في أول يوم المشايخ والعلماء وثاني يوم أرباب السجاجيد والرق وثالث يوم الأمراء والصناجق ثم الآغوات والوجاقلية والاختيارية والجربجية وواجب رعايات الأبواب كل طائفة يوم مخصوص بهم ثم التجار وخواجات الشرب والغورية ثم القاقجية والعقادين والقوافين ومغاربة طيلون وأرباب الحرف ومجاوري الأزهر والعميان بوسط حوش الديوان غدوا وعشيًا‏.‏

ثم خلع الخلع والفراوي وأنعم بحصص وعتامنة على أرباب الديوان والخدم وكذلك كساوي للجنك وأرباب الملاهي والبهلوانيين والطباخين والمزينين وإنعامات وبقاشيش‏.‏

ولما تم وانقضى المهم قال الباشا لإبراهيم بك وحسن أفندي وكانا خصيصين به‏:‏ أريد أقلد إمارة صنجقين لشخصين يكونان إشراقين ويكونان شجاعين قادرين‏.‏

فوقع الاتفاق على يوسف آغا المسلماني وعبد الرحمن آغا كاشف الشرقية‏.‏

هذا وكان ضرب هلباسو يد قبل تاريخه وأشتهر بالشجاعة فخلع عليهما في يوم واحد وعملوا لهما رنك وسعاة ونزلت لهما الأطواغ والبيارق والتوبة وحضرت لهما التقادم والهدايا ولبسا الخلع‏.‏

ثم أن الباشا أنشأ له تكية في قراميدان ووقف سبع بلاد من التي أخذها من المحاليل في إقليم البحيرة وهي أمانة البدرشين وناحية الشنباب وناحية سقارة وناحية مائة رهينة أبي صبر الصدر وناحية شبرامنت بالجيزة وناحية ترسا وجعلها للتكية وسحابة بطريق الحجاز وجعل الناظر على ذلك خازنداره وأرخى لحيته وأعطاه قائظ وعتامنة في دفتر العزب وقلده جربجي تحت نظر أحمد كتخدا القيومجي وأرسل كتخداه قرا محمد آغا إلى اسلامبول لتنفيذ ذلك وسافر على الفور‏.‏

وعندما وصل إلى اسلامبول أرسل مقررًا لمخدومه على سنة تسع ومائة وألف صحبة أمير أخور فوصل إلى بولاق ونزلت له الملاقية وحضر إلى الديوان‏.‏

وبعد انفضاض الديوان دخل الأمراء الكبار وهم إبراهيم بك أبو شنب وايواظ بك وقانصوه بك واسمعيل بك الدفتردار للتهنئة ولم يدخل حسن آغا بلغيه والآغوات وعبد الرحمن بك ويوسف بك وسليمان بارم ذيله وقيطاس بك وحسين بك أبو يدك وكامل الفقارية فسأل الباشا عنهم فرآهم نزلوا فانقبض خاطره من الفقارية وقال لإبراهيم بك‏:‏ أنا أكثر عتابي على إشراقي عبد الرحمن بك ويوسف بك وحيث أنهما فعلا ذلك أنا أطلب منهما حلوان الصنجقية ثمانية وأربعين كيسًا‏.‏

فلاطفه إبراهيم بك وحسن أفندي فلم يرجع وأمر بكتابه فرمانين وأرسلهما إلى الأميرين المذكورين بطلب أربعة وعشرين كيسا من كل أمير‏.‏

فقال عبد الرحمن بك‏:‏ أنا لم أطلب هذه البلية حتى يأخذ مني عليها هذا القدر‏.‏

ولما حضر الآغا المعين ليوسف بك تركه في منزله وركب إلى عبد الرحمن بك معًا إلى حسن آغا بلغيه وعملوا شغلهم وعزلوا الباشا‏.‏

وكانوا تخيلوا منه الغدر بهم ونزل إلى بيت كان أشراه من عتقي عثمان جربجي مطل على بركة الفيل بحدرة طولون بجوار حمام السكران ثم باع المنزل والبلاد التي وقفها على التكية والسحابة وغلق الذي تأخر في طرفه من المال والغلال لحسين باشا المتولي بعده‏.‏

وخرج إلى العادلية وسافر إلى بغداد‏.‏

وتولى عبد الرحمن بك على ولاية جرجا وحصل له أمور مع عربان هوارة ذكر بعضه في ترجمة ايواظ بك‏.‏

وانفصل عبد الرحمن بك من ولاية الصعيد وحضر إلى مصر ونزل عند الآثار وأرسل إلى الباشا المتولي تقادم وعبيدا وآغوات ونزل الباشا في ثاني يوم إلى قراميدان وحضر عبد الرحمن بك بأتباعه ومماليكه وخلفه النوبة التركي فسلم على الباشا وخلع عليه فروة سمور وركب إلى البيت الذي نزل فيه وهو بيت رضوان بك بالقصبة المعروفة بالقوافين‏.‏

وكان ذلك الباشا هو قرا محمد كتخدا اسمعيل باشا المنفصل المتقدم ذكره وفي نفسه من المترجم ما فيها بسبب مخدومه فإنه هو الذي سعى في عزله وأبطال وقفه وأنسلخ من القارية وتنافس معهم وصار يقول‏:‏ أنا قاسمي‏.‏

فحقدوا عليه وذلك وسعوا في عزله من جرجا ولما حضر إلى مصر تعصبوا عليه ووافق ذلك غرض الباشا لكراهته له بسبب أستاذه‏.‏

ولما استقر عبد الرحمن بك بمنزله حضرت إليه الأمراء للسلام عليه ما عدا حسن آغا بلغيه ومصطفى كتخدا القازدغلي‏.‏

ثم بعد انقضاء ذلك ورجوع الهوارة إلى بلادهم وعمارهم كتبوا قوائم بما ذهب لهم من غلال ونحاس وثمنوها بثلثمائة كيس وجعلوا الآخذ لذلك جميعه عبد الرحمن بك وأرسلوا القوائم إلى ابن الحصري ووكلوا وجاق الينكجرية في خلاص ذلك من عبد الرحمن بك فعرض ذلك ابن الحصري على أستاذه الغازدغلي وحسن آغا بلغيه وكتبوا بذلك عرضحال وقدموه للباشا بعدما وضبوا ما أرادوا من الرابطة والتعصيب فأرسل إليه الباشا يطلبه فامتنع من الطلوع وقال للآغا المعين‏:‏ سلم على حضرة الباشا وسوف أطلع بعد الديوان أقابله‏.‏

فنزل إليه كتخدا الجاويشية وآغات المتفرقة وتكلموا معه بسبب ما تقدم فقال‏:‏ أنا لم أكن وحدي كان معي غزسيمانية وعرب هوارة بحري وكشاف الأمير حسن الاخميمي لموم كثيرة وكل من طال شيئًا أخذه وسوف أتوجه للدولة بالخزينة وأعرفهم بفعل أيوب بك وحسن أغا بلغية والقازدغلي وأضمن لهم فتوح مصر وقطع الجبابرة فلا عفوه وعالجوه على الطلوع فامتنع من الطلوع مع الجمهور وقال‏:‏ أروح معهم إلى بيت القاضي ويقيموا بينتهم وإثباتهم وأنا قادر ومليء وما أنا محتاج ولا مفلس‏.‏

فرجعوا وعرفوا الجمع بما قاله بالحرف الواحد‏.‏

فقال الباشا للقاضي‏:‏ أكتب له مراسلة بالحضور والمرافعة‏.‏

فكتب له وأرسلها القاضي صحبة جوخدار من طرفه‏.‏

فلما وصل إليه قال‏:‏ أنا لست بعاصي الشرع ولا أترافع معهم إلا في بيت القاضي ولا أطلع في الجمهور فرجع الجوخدار بالجواب وكان فرغ النهار فعند ذلك بيتوا أمرهم واتفقوا على محاربته‏.‏

وأجتمع عند عبد الرحمن بك أغراضه وأحمد أوده باشا البغدادلي ووصله الخبر بركوبهم عليه فضاق صدره وخرج من منزله ماشيًا وأراد أن يذهب إلى الجامع الأزهر يقع على العلماء فلما وصل إلى باب زويلة لحقه أحمد البغدادلي وحسن الخازندار فرداه وقالا‏:‏ له اجلس في بيتك ونحاربهم وعندنا العدة والعدد‏.‏

وعند الصباح احتاطوا بداره ونزلت البيارق والمدافع والعسكر من كل جانب ورموا عليه من جميع الجهات ودخلت طائفة من العسكر إلى الجامع المواجه للبيت وصعدوا إلى المنارة ورموا بالرصاص فأصيب أحمد البغدادلي وحسن الخازندار وماتا وكان الصنجق والطائفة عند النقيب بالإسطبل فأخبروه بموت حسن الخازندار وكان يحبه فطلع إلى المقعد فأصيب أيضًا ومات‏.‏

فعند ذلك انحلت عزائم الطائفة وأولاد الخزنة فخرجوا من البيت مشاة بما عليهم من الثياب ظنوهم من طوائف الصناجق‏.‏

ولما رأى الذين في النقب بطلان الرمي جخلوا وطلعوا إلى المقعد فوجدوا الصنجق ميتًا فأخذوا رأسه ورأس البغدادلي وطلعوا بهم للباشا وعبرت العساكر إلى البيت نهبوه وأخذوا منه أموالا وذخائر عظيمة وسبوا الحريم وأخذوا كامل ما في الحريم من الجواري البيض والسود ومن جملتهم بنت الصنجق يظنوها جارية فخرجت أمها تصرخ من خلفها فخلصها مصطفى جاويش القيصرلي وطلع بها إلى الباشا فأنعم عليه بخمسة وثلاثين عثماني ومائتين ذهب أخذها وأمها مصطفى جاويش وزوجها لبعض مماليك أبيها وكان قتل عبد الرحمن بك في ثاني عشر ربينع الأول سنة ثلاث عشرة ومائة وألف وأما يوسف بك فإنه توفي بالسفر ببلاد الروم‏.‏

ومات الأمير علي آغا مستحفظان المشهور تولى آغاوية مستحفظان في سنة ثمان ومائة وألف وفي

سنة اثنتي عشرة وثلاث عشرة وأربع عشرة فشا أمر الفضة

المقاصيص والزيوف وقل وجود الديواني وإن وجد اشتراه اليهود بسعر زائد وقصوه فتلف بسبب ذلك أموال النسا‏.‏

فأجتمع أهل الأسواق ودخلوا الجامع الأزهر وشكوا أمره للعلماء وألزموهم بالركوب إلى الديوان في شأن ذلك فكتبوا عرضحال وقدموه إلى محمد باشا فقرأه كاتب الديوان على رؤوس الأشهاد فأمر الباشا بعمل جمعية في بيت حسن آغا بأبطال الفضة المقصوصة وظهور الجدد وأدارة دار الضرب وعمل تسعيرة وضرب فضة وجدد نحاس ويكون ذلك بحضور كتخدائه وكامل الأمراء الصناجق والقاضي والآغواب ونقيب الأشراف وكبار العلماء‏.‏

وطلب جوابًا كافيًا وأعطاه ليد كتخد الجاويشية فأرسل التنابيه مع الجاويشية بتلك الليلة‏.‏

واجتمع الجميع في صبحها بمنزل حسن أغا بلغيه واتفقوا على أبطال المقاصيص وضرب فضة جديدة توزع على الصيارف ويستبدلون المقاصيص بالوزن من الصيارف وأن صرف الكلب بثلاثة وأربعين نصفًا والريال بخمسين والأشرفي بتسعين والطرلي بمائة وقيدوا بتنفيذ ذلك علي آغا المذكور وكذلك الأسعار‏.‏

وشرط عليهم أبطال الحمايات وعدم معارضته في شيء وكل من مسك ميزانًا فهو تحت حكمي وكذلك الخصاصة وتجار البن والصابون ويركب بالملازمين ويكون معه من كل وجاق جاويش بسبب أنفار الأبواب‏.‏

وأخبروا الباشا بما حصل وكتب القاضي حجة بذلك وكتب المشايخ عليها وكذلك الباشا وأعطوهما لعلي آغا فطلع إلى الباب وأحضر شيخ الخبازين وباقي مشايخ الحرف وأحضر اردب قمح وطحنه وعمل معدله على الفضة الديواني خمسة أوراق بجديدين والبن باثني عشر فضة الرطل والصابون بثلاثة والسكر النبات باثني عشر الرطل والخام بخمسة والمنعاد بستة وأربعة جدد والمكرر الشفاف بثمانية فضة وأربعة جدد والشمع السكندري بأربعة عشر فضة والعسل الشهد بستة أنصاف والسقر بثلاثة وأربعة جد والسائل بنصفين والمرسل الحر بنصف فضة والقطر المنعاد بنصفين والقطر القناني بثلاثة والسمن البقري بثلاثة فضة وأربعة والمزهر بنصفين وستة جدد والجاموسي بنصفين وجديدين والزبد البقري بنصفين وأربعة جدد والزبد الجاموسي بنصفين وجديدين واللحم الضاني بنصفين والماعز بنصف وأربعة جدد والجاموسي بنصف وجديدين والزيت الطيب بنصفين وستة جدد والشيرج بنصفين والزيت الحار بنصف وستة جدد والجبن الكشكبان بثلاثة أنصاف فضة والوادي بنصفين وأربعة جدد والجاموسي الطري بنصف وأربعة جدد والجبن المنصوري المغسول بنصف وستة جدد والحالوم الطري بنصف وجديدين الرطل والجبن المصلوق بنصف وأربعة جدد والشلفوطي والقربش بستة جدد الرطل والعيش العلامة خمسة أواق بجديدين والكشكار ستة أواق بجديدين‏.‏

وحصل ذلك بخضرة مشايخ الحرف والمغارية وأرسل الآغا بقفل الصاغة ومسبك النحاس وأمر بإحضار الذهب والفضة المبتاعة والنحاس لدار الضرب وأحضر شيخ الصيارفة وأمرهم بإحضار الذهب والريالات وبروش الكرب يصرفونها بفضة وجدد نحاس وأعلمهم أنه يركب ثالث يوم العيد ويشق بالمدينة وكل من وجد حانوته خاليًا من الفضة والجدد قتل صاحبه أو سمره‏.‏

وكتب القائمة بالأسعار وطلع بها للباشا علم عليها‏.‏

وركب ثالث يوم من شهر شوال سنة أربع عشرة ومائة وألف وعلى رأسه العمامة الديوانية المعروفة بالبيرشانة وأمامه القابجية والملازمون والوالي وأمين الاحتساب وأوده البوابة بطائفته والسبعة جاويشية خلعه ونائب القاضي في مقدمته وكيس جوخ مملوء عكاكيز شوم على كتف قواس والمشاعلي بيده القائمة وهو ينادي على رأس كل حارة يقف مقدار نصف ساعة‏.‏

وضرب في اليوم اثنين قبانية وثلاثة زياتين وجزار لحم خشن ومات الستة من الضرب ورسم على شيخ القبانية بأن لا أحد يزن في بيت زيات سمنًا ولا جبنًا وصار يتفقد الدراهم ويحرر الأرطال والصنج ويسأل عن أسعار المبيعات ولا يقبل رشور وكل من وجده على خلاف الشرط سواء كان فلاحًا أو تاجرًا أو قبانيًا بطحه وضربه بالمساوق الشوم حتى يتلف أو يموت وغالبهم لم يعش بذلك وصار له هيبة عظيمة ووقار زائد‏.‏

ولم يقف أحد في طريقه سواء كان خيالًا أو حمارًا أو قرابًا إلا ويخشاه حتى النساء في البيوت وهو فائت لم تستطع امرأة أن تطل من طاقة واتفق أن اسمعيل بك الدفتردار صادفه بالصليبة فلما رأى المقادم دخل درب الميضاة حتى مر الاغا فقيل له أنت صنجق ودفتردار وكيف أنك تذهب من طريقه فقال كذا كتبنا على أنفسنا حتى يعتبر خلافنا‏.‏

وأقام في هذه التولية ستة أشهر ثم عزل وولي رضوان أغا كتخدا الجاويشية سابقًا وذلك أواخر سنة ثمان عشرة وعزل رضوان أغا في جمادى الأولي سنة تسع عشرة ومائة وألف وتولى أحمد أغا ابن باكير أفندي ثم تولى في أيامه الواقعة الكبيرة في أواخر ربيع الثاني سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف ولم يزل حتى مات في يوم الجمعة ثاني شهر شوال بجامع القلعة وذلك أنه صلى الجمعة والسنن بعدها وسجد في ثاني ركعة فلم يرفع رأسه من السجود فلما أبطأ حركوه فإذا هو ميت فغسلوه وكفنوه ودفنوه بتربة باب الوزير وذلك سنة ثلاث وعشرين ومائة وألف‏.‏

وتولى بعده في أغاوية مستحفظان محمد أفندي كاتب جمليان سابقا الشهير بابن طسلق وركب بالبيرشانة والهيئة وذلك عقيب الفتنة الكبيرة بنحو خمسة أشهر‏.‏

ولما مات علي أغا وتولى هذا الأغا عملوا تسعيرة أيضًا وجعلوا صرف الذهب البندقي بمائة وخمسة عشر نصف فضة والطرلي بمائة والريال بستين والكلب بخمسة وأربعين ونودي بذلك وبمنع التجار وأولاد البلد من ركوب البغال والأكاديش ومنع من بيع الفضة بسوق الصاغة وأن لا تباع الأبدار الضرب وقفل دكاكين الصواغين‏.‏

ومات الأمير الكبير إبراهيم بك المعروف بأبي شنب وأصله مملوك مراط بك القاسمي وخشداش ايواظ بك تقلد الإمارة والصنجقية مع ابواظ بك وكان من الأمراء الكبار المعدودين تولى إمارة الحج سنة تسع وتسعين وألف وطلع بالحج مرتين ثم عزل عنها باستعفائه لأمور وقعت له مع العرب بإغراء بعض أمراء مصر‏.‏

وسافر أميرًا على العسكر المعين في فتح كريد في غرة المحرم سنة أربع وألف‏.‏

ولما ركب بالموكب خرج أمامه شيخ الشحاتين وجملة من طوائفه لأنه كان محسنًا لهم ويعرفه بالواحد‏.‏

وكان إذا أعطى بعضهم نصفًا في جهة ولاقاه في طريقه من جهة أخرى يقول له‏:‏ أخذت نصيبك في المحل الفلاني‏.‏

ثم رجع إلى مصر في شهر ذي الحجة وطلع إلى الإسكندرية ووصل خبر قدومه إلى مصر فجمع الشحاتون من بعضهم دراهم واشتروا حصانًا أزرق عملوا له سرجًا معرقا ورختًا وركابًا مطليًا وعباء زركش ورشمة كلفة ذلك اثنان وعشرون ألف فضة ولما وصل إلى الحلي قدموه له فقبله منهم وركبه إلى داره وذهبت إليه الأمراء والأعيان وسلموا عليه وهنوه بالسلامة وخلع على شيخ الشحاتين ونقيبهم كل واحد جوخة ولكل فقير جبة وطاقية وشملة ولكل امرأة قميص وملاية فيومي وأغدق عليهم إغداقًا زائدا وعمل لهم سماطًا وكان المتعين بالرياسة في الوقت إبراهيم بك ذو الفقار وفي عزمه قطع بيت القاسمية فأخرج ايواظ بك إلى إقليم البحيرة وقانصوه بك إلى بني سويف وأحمد بك إلى المنوفية‏.‏

ولما حضر إبراهيم بك أبو شنب وأستقر بمصر فأتفق إبراهيم بك مع ذو الفقار مع علي باشا المتولي إذ ذاك على قتله بحجة المال والغلال المنكسرة عليه في غيبته وقدرها اثنا عشر ألف أردب وأربعون كيسًا صيفي وشتوي فأرسل إليه الباشا معين بفرمان يطلبه وكان أتاه شخص من أتباع الباشا أنذره من الطلوع فقال للمعلمين تسلم على الباشا وبعد الديوان أطلع أقابله‏.‏

ففات العصر ولم يطلع فأرسل الباشا إلى درويش بك وكان خفيرًا بمصر القديمة وأمره بالجلوس عند باب السر الذي يطلع على زين العابدين وإلى الوالي والعسس وأوده باشا البوابة يجلس عند بيت إبراهيم أبي شنب‏.‏

وأشبع ذلك وضاق خناق إبراهيم بك أبي شنب وأغتم جيرانه وأهل حارته لإحسانه في حقهم وحضر إليه بعض أصحابه يؤانسه مثل إبراهيم جربجي الداودية وشعبان أفندي كاتب مستحفظان سابقًا وأحمد أفندي روزنامجي سابقًا‏.‏

فهم على ذلك وإذا بسليمان الساعي داخل على الصنجق بعد العشاء فأخبره أن مسلم اسمعيل باشا أمير الحاج الشامي ورد إلى العادلية وأرسل جماعة جوخدارية بقائمقامية إلى إبراهيم بك فأمر بدخولهم عليه فدخلوا وأعطوه التذكرة فقرأها وعرف ما فيها فسري عنه الغم‏.‏

وفي التذكرة أن كان غدًا أول توت ندخل وإلا بعد غد وكانت سنة تداخل سنة ست في سنة سبع وكان الباشا أتى له مقرر من السلطان أحمد وتوفي وتولى السلطان مصطفى فعزل علي باشا عن مصر وولى اسمعيل باشا حاكم الشام وأرسل مسلمه بقائمقامية إلى إبراهيم بك فسأل الصنجق أحمد أفندي عن أول توت فأخبره أن غدا أول توت‏.‏

فقال لأحمد كاشف الأعسر‏.‏

خذ حصان الفلاني وعشرة طائفة والجوخدارية ومشعلين وأذهبوا إلى العادلية وأحضروا بالأغا قبل الفجر‏.‏

ففعلوا وحضروا به قبل الفجر بساعتين فخلع عليه فروة سمور وقال للمهنار دقوا النوبة قاصد مفرح فلما ضربت النوبة سمعت الجيران قالوا لا حول ولا قوة إلا بالله أن الصنجق أختل عقله عارف أنه ميت ويدق النوبة‏.‏

ولما طلع النهار وأكلوا الفطور وشربوا القهوة ركب الصنجق بكامل طوائفه وصحبته الأغا وطلع إلى القلعة وجلس معه بديوان الغوري وحضر إليهم كتخدا الباشا فأطلعوه على المرسوم فدخل الكتخدا فأخبر مخدومه بذلك فقال‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

وتعجب في صنع الله ثم قال‏:‏ هذا الرجل يأكل رؤوس الجميع‏.‏

دخلوا إليه فخلع عليه وعلى المسلم ونزل إلى داره ووصل الخبر إلى اسمعيل بك الدفتردار فركب اسمعيل بك إلى إبراهيم ذي الفقار أمير الحاج فركب معه بباقي الأمراء وذهبوا إلى إبراهيم بك يهنوه وكذلك بقية الأعيان وخلع على محمد بك أباظة وجعله أمين السماط‏.‏

وتولى المترجم الدفتردارية سنة 1119 واستمر بها إلى 1121 ثم عزل وتقلد إمارة الحج ثم أعيد إلى الدفتردارية في سنة 1127 ولم يزل إلى أن مات بالطاعون سنة 1130 عمره اثنان وتسعون سنة وخلف ولده محمد بك أميرًا يأتي ذكره‏.‏

ومات إفرنج أحمد أوده باشا مستحفظان الذي تسببت عنه الفتنة الكبيرة الحروب العظيمة التي استمرت المدة الطويلة والليالي العديدة‏.‏

وحاصلها على سبيل الاختصار هو أن إفرنج أحمد أوده باشا المذكور لما ظهر أمره بعد موت مصطفى كتخدا القازدغلي مع مشاركة مراد كتخدا وحسن كتخدا فلما مات مراد كتخدا في سنة 1117 زاد ظهور أمر المترجم ونفذت كلمته على أقرانه وكان جبارًا عنيدًا فتعصب عليه طائفة وقبضوا عليه على حين غفلة وسجنوه بالقلعة وكان ممن تعصب عليه حسن كتخدا النجدلي وناصف كتخدا ابن أخت القازدغلي وكور عبد الله ثم أخرجوه من مصر منفيًا‏.‏

فغاب أيامًا ورجع بنفسه ودخل إلى مصر والتجأ إلى وجاق الجملية وطلب غرضه من باب مستحفظان فلم يرضوا بذلك وقالوا لابد من خروجه إلى محل ما كان‏.‏

ووقع بينهم التشاجر واتفقوا بعد جهد على عدم نفيه وأن يجعلوه صنجقًا فقلدوه ذلك على كره منه وأستمر مدة فلم يهنأ له عيش‏.‏

وخمل ذكره وأنفق ما جمعه قبل ذلك فاتفق مع أيوب بك الفقاري وعصب الوجاقات ونفوا حسن كتخدا النجدلي وناصف كتخدا وكور عبد الله باش أوده باشا وقرأ اسمعيل كتخدا ومصطفى كتخدا الشريف وأحمد جربجي تابع باكير أفندي وإبراهيم أوده باشا الأكنجي وحسني أوده بلضا العنترلي الجميع من باب مستحفظان فأخرجوهم إلى قرى الأرياف ورمى المترجم الصنجقية ورجع إلى بابه وركب الحمار ثانيا وصار أوده باشا كما كان‏.‏

وهذا لم يتفق نظيره أبدًا وكان يقول عند ما أستقر صنجقًا‏:‏ الذي جمعه الحمار أكله الحصان‏.‏

ولما فعل ذلك زادت كلمته وعظمت شوكته ثم أن المنفيين المتقدم ذكرهم حضروا إلى مصر باتفاق الوجاقات الستة ولم يتمكنوا من الرجوع إلى بابهم وذلك أن الوجاقات الستة وبعض الأمراء الصناجق أرادوا رجوع المذكورين إلى باب مستحفظان وأن إفرنج أحمد يلبس حكم قانونهم أو يعمل جربجي وأن كور عبد الله أوده باشا يرجع إلى بابه ويلبس باش كما كان فعاند إفرنج أحمد وعضده أيوب بك وأنضم إليهم من أنضم من الاختيارية والصناجق والأغوات ووقع التفاقم والعناد وافترقت عساكر مصر وأمراؤها فرقتين وجرى ما لم يقع مثله في الحروب والكروب وخراب الدور‏.‏

وطالت مدة ذلك قريبًا من ثلاثة أشهر وانجلت عن ظهور العزب على الينكجرية‏.‏

وقتل في أثنائها الأمير ايواظ بك ثم كان ما ذكر بعضه آنفًا في ترجمة المرحوم ايواظ بك وغيره وهرب أيوب بك ومحمد بك الصعيدي ومن تبعهم ونهبت دور الجميع وأحزابهم وانتصر القاسمية ثم أنزلوا الباشا بأمان وهجمت العساكر على باب مستحفظان وملكوه وقبضوا على المترجم وقطعوا رأسه ورؤوس من معه وفيهم حسن كتخدا واسمعيل أفندي وعمر أغات الجراكسية وذهبوا برؤوسهم إلى بيت قانصوه بك قائمقام ثم طافوا بها على بيوت الأمراء ثم وضعوها على أجسادهم بالرميلة ثم أرسلوها عند الغروب إلى منازلهم وذلك في أوائل جمادى الأولى سنة 1123 وهو صاحب القصر والغيط المعروف به الذي كان بطريق بولاق ونهبه في أيام الفتنة يوسف بك الجزار وكان به شيء من الغلال والأبقار والأغنام والأرز والخيل والجاموس والدجاج والإوز والحمام حتى قلع أشجاره وهدم حيطانه ولما بلغ محمد بك الكبير ما فعله يوسف بك الجزار في غيط إفرنج أحمد عمد هو أيضًا إلى غيط حسن كتخدا النجدلي وفعل به مثل ما فعل يوسف بك بغيط إفرنج أحمد ووقع غير ذلك أمور يطول شرحها‏.‏

ومات محمد بك المعروف بالدالي وقد كان سافر بالخزينة سنة 1122 ومات ببلاد الروم ووصل خبر موته إلى مصر فقلدوا أبنه اسمعيل بك في الإمارة عوضًا عنه بعد انقضاء الفتنة سنة 124 وكان جركسي الجنس وعمل أغات متفرقة ثم أغات جمليان سنة 1113 ثم تقلد الصنجقية ومات الأمير حسن كتخدا عزبان الجلفي وكان أنسانًا خيرًا له بر ومعروف وصدقات وإحسان للفقراء ومن مآثره أنه وسع المشهد الحسيني وأشترى عدة أماكن بماله وأضافها إليه ووسعه وصنع له تابوتا من أبنوس مطعمًا بالصدف مضببًا بالفضة وجعل عليه سترًا من الحرير المزركش بالمخيش‏.‏

ولما تمموا صناعته وضعه على قفص من جريد وحمله أربع رجال وعلى جوانبه أربع عساكر من الفضة مطليات بالذهب ومشت أمامه طائفة الرفاعية بطبولهم وأعلامهم وبين أيديهم المباخر الفضة وبخور العود والعنبر وقماقم ماء الورد يرشون منها على الناس وساروا بهذه الهيئة حتى وصلوا المشهد ووضعوا ذلك الستر على المقام‏.‏

توفي يوم الأربعاء تاسع شوال سنة 1124 وخرجوا بجنازته من بيته بمشهد عظيم حافل‏.‏

وصلى عليه بسبيل المؤمن بالرميلة وأجتمع بمشهده زيادة عن عشرة آلاف إنسان وكان حسن الاعتقاد محسنا للفقراء والمساكين رحمه الله‏.‏

ومات الأمير إبراهيم جربجي الصابونجي عزبان وكان أسدًا ضرغامًا وبطلًا مقدامًا كان ظهوره في سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف وشارك في الكلمة أحمد كتخدا عزبان أمين البحرين وحسن جربجي عزبان الجلفي وعمل أكنجي أوده باشه فلما لبس حسن جربجي الجلفي كتخدائية عزبان لبس المترجم باش أوده باشه وذلك في 1123 فزادت حرمته ونفذت بمصر كلمته ولما قتل قيطاس بك الفقاري في سنة 1127 خمدت بموته كلمة أحمد كتخدا أمين البحرين فانفرد بالكلمة في بابه إبراهيم جربجي الصابونجي المذكور وصار ركنًا من أركان مصر العظيمة ومن أرباب الحل والعقد والمشورة وخصوصا في دولة اسمعيل بك ابن ايواظ‏.‏

وأدرك من العز والجاه ونفاذ الكلمة وبعد الصيت والهيبة عند الأكابر والأصاغر الغاية وكان يخشاه أمراء مصر وصناجقها ووجاقاتها ولم يتقلد الكتخدائية مع جلالة قدره‏.‏

وسبب تسميته بالصابونجي أنه كان متزوجًا بابنه الحاد عبد الله الشامي الصابونجي لكونه كان ملتزمًا بوكالة الصابون وكان له عزوة عظيمة ومماليك وأتباع ومنهم عثمان كتخدا الذي اشتر ذكره بعده ولم يزل في سيادته إلى أن مات على فراشه خامس شهر شوال سنة 1131 وخلف ولدًا يسمى محمدا قلدوه بعده جربجيًا سيأتي ذكره‏.‏

وسعى له عثمان كاشف مملوك والده وخلص له البلاد من غير حلوان وكان عثمان إذ ذاك جربجيًا بباب عزبان‏.‏

ومات الأمير الجليل يوسف بك المعروف بالجزار تابع الأمير الكبير ايواظ بك تقلد الإمارة والصنجقية في سنة 1123 أيام الواقعة الكبيرة بعد موت أستاذه من قانصوه بك قائمقام إذ ذاك‏.‏

وكانت له اليد البيضاء في الهمة والاجتهاد والسعي لأخذ ثار سيده والقيام الكلي في خذلان المعاندين‏.‏

وجمع الناس ورتب الأمور وركب في اليوم الثاني من قتل سيده وصحبته اسمعيل بن أستاذه وأتباعهم وطلع إلى باب العزب وفرق فيهم عشرة آلاف دينار وأرسل إلى البلكات الخمسة مثل ذلك وجر المدافع وخرج بمن أنضم إليه إلى ميدان محمد بك الصعيدي وطائفته ومن بصحبته من الهوارة حتى هزمهم وأجلاهم عن الميدان إلى السواقي‏.‏

وأستمر يخرج إلى الميدان في كل يوم ويكر ويفر ويدبر الأمور وينفق الأموال وينقب النقوب ويدبر الحروب حتى تم لهم الأمر بعد وقائع وأمور ذكرنا بعضها في ولاية خليل باشا وفي بعض التراجم‏.‏

وتقلد المترجم إمارة الحج وطلع به في تلك السنة وتقلد قائمقامية في 1126 عن عابدي باشا‏.‏

ولما حقدوا على اسمعيل بك بن سيده ودبروا على أزالته في أيام رجب باشا وظهر جركس من اختفائه بعد أن أخرجوا المترجم ومن معه بحجة وقوف العرب وقتلوا من كان منهم بمصر وأخرجوا لهم تجريدة قام المترجم في تدبير الأمر واختفى اسمعيل بك ودخل منهم من دخل إلى مصر سرًا ووزع المماليك والأمتعة على أرباب المناصب والسدادرة وأشاع ذهابهم إلى الشام مع الشريف يحيى وتصدر هو للأمر وكتم أموره ولم يزل يدبر على إظهار ابن سيده وأستمال أرباب الحل والعقد وأنفق الأموال سرًا وضم إليه من الأخصام أعاظمهم وعقلاءهم مثل أحمد بك الأعسر وقاسم بك الكبير وأتفق معهم على إظهار اسمعيل بك وأخيه اسمعيل بك جرجا وعمل وليمة في بيته جمع فيها محمد بك جركس وباقي أرباب الحل والعقد وأبرز لهم اسمعيل بك ومن معه بعد المذاكرة والحديث والتوطئة وتمموا أغراضهم وعزلوا الباشا وأنزلوه من القلعة وتأمر اسمعيل بك وظهر أمره كما كان وتولى الدفتردارية في سنة 1127 بعد انفصاله من إمارة الحج ثم عزل عنها واستمر أمير مسموع الكلمة وأفر الحرمة إلى أن مات في سنة 1134 ووقع له مع العرب عدة وقائع وقتل منهم ألوفًا فلذلك يسمى بالجزار‏.‏

ولما مات قلدوا مملوكه إبراهيم أغا الصنجقية عوضًا عنه‏.‏

ومات الأمير الجليل قانصوه بك القاسمي تابع قيطاس بك الكبير الدفتردار الذي كان بقناطر السباع رباه سيده وأرخى لحيته وجعله كتخداه وسافر معه إلى سفر الجهاد في سنة 1126 فمات سيده بالسفر فقلدوا الإمارة والصنجقية بالديار الرومية عوضًا عن سيده وحضر إلى مصر وتقلد كشوفية بني سويف خمس مرات وكشوفية البحيرة ثلاث مرات‏.‏

ولما حصلت الفتنة في أيام خليل باشا كعب الشوم الكوسة 1123 كما تقدم غير مرة كان هو أحد الأعيان الرؤساء المشار إليهم من فرقة القاسمية فاجتمعوا وقلدوا المترجم قائمقام وعملوا ديوانهم وجمعيتم في بيته حتى انقضت الفتنة ونزل الباشا وأستمر وهو يتعاطى الأحكام أحدا وتسعين يومًا حتى حضر والي باشا إلى مصر فعزل وكف مصره ومكث بمنزله حتى توفي على فراشه سنة 1127 وقلدوا أمرته وصنجقيته لتابعه الأمير ذي الفقار أغا وتزوج بابنته وفتح بيت سيده وأحيا مآثره ومات الأمير اسمعيل بك المنفصل من كتخدائية الجاويشية وأصله جلبي بن كتخدا ابري بك وهو من إشراقات اسمعيل بك بن ايواظ وقلده الصنجقية سنة 1128 وتولى الدفتردارية سنة 131 واستمر فيها سنتين وخمسة أشهر وقتله رجب باشا هو واسمعيل أغا كتخدا الجاويشية في وقع واحد عندما دبروا على قتل اسمعيل بك بن ايواظ وهو راجع من الحج فاحتجوا بالعرب وأرسلوا يوسف بك الجزار ومحمد بك بن ايواظ واسمعيل بك ولجه لمحاربة العرب فلما بعدوا عن مصر طلع المترجم وصحبته اسمعيل أغا كتخدا الجاويشية وكان أصله كتخدا ايواظ بك الكبير فقتلوهما في سلالم ديوان الغوري غدرًا بإغراء محمد بك جركس‏.‏

وفي ذلك الوقت ظهر جركس وركب حصان اسمعيل بك المذكور ونزل إلى بيته وكان قتلهما في أوائل سنة 1133 وقتلا ظلمًا وعدوانًا رحمهما الله‏.‏

ومات الأمير حسين بك المعروف بأبي يدك وأصله جرجي الجنس تقلد الإمارة والصنجقية سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف وكان مصاهرًا لسليمان بك بارم ذيله وكان متزوجًا بابنته وكان معدودًا من الفرسان والشجعان إلا أنه كان قليل المال ولما قتل قيطاس بك الفقاري وهرب محمد بك تابعه المعروف بقطامش إلى الديار الرومية اختفى المترجم بمصر وذلك في سنة 127 بعد ما أقام في الإمارة أربعا وعشرين سنة‏.‏

ثم ظهر مع من ظهر في الفتنة التي حصلت بين محمد بك جركس وبين اسمعيل بك بن ايواظ وكان المترجم من أغراض جركس‏.‏

فلما هرب جركس هو أيضًا فلحقه عبد الله بك صهر بن ايواظ وقتله بالريف وقطع رأسه فكان ظهوره سببًا لقتله وذلك في سنة 1131‏.‏

ومات الأمير حسين بك أرنؤد المعروف بأبي يدك وكان أصله أغات جركسة ثم تقلد الصنجقية وكشوفيات الأقاليم مرارًا عديدة وسافر إلى الروم أميرًا على السفر في سنة 1124 فلما رجع في سنة 1129 استعفى من الصنجقية وسافر إلى الحجاز وجاور بالمدينة المنورة‏.‏

فكانت مدة إمارته ثلاث وعشرين سنة‏.‏

واستمر مجاورًا بالمدينة أربع سنوات ومات هناك سنة 1134 دفن بالبقيع‏.‏

ومات الأمير يوسف بك المسلماني وكان أصله إسرائيليًا وأسلم وحسن إسلامه ولبس أغات جراكسة ثم تقلد كتخدا الجاويشية وانفصل عنها وتقلد الصنجقية سنة 1107 وتلبس كشوفية المنوفية ثم إمارة جدة ومشيخة الحرم وجاور بالحجاز عامين ثم رجع وسافر بالعسكر إلى الروم ورجع سالمًا وأخذ جمرك دمياط وذهب إليها وأقام بها إلى أن مات 1120 وأقام في الصنجقية اثنتي عشرة سنة وتسعة أشهر وترك ولدا يسمى محمد كتخدا عزبان‏.‏

ومات الأمير حمزة بك تابع يوسف بك جلب القرد تقلد الإمارة عوضا عن سيده سنة 1110 ومات الأمير محمد بك الكبير الفقاري تقلد الإمارة بعد سيده سنة 1117 وتولى إمارة جرجا وحكم الصعيد مرتين‏.‏

وكان من أخصاء أيوب بك المتقدم ذكرهما في الواقعة الكبيرة وأرسل إليه أيوب بك يستنصر به فأجاب دعوته وحضر إلى مصر ومعه الجم الغفير من العربان والهوارة والمغاربة وأجناس البوادي وحارب وقاتل داخل المدينة وخارجها كما تقدم ذكر ذلك غير مرة وكان بطلا همامًا وأسدًا ضرغامًا ولم يزل حتى هرب مع ايواظ بك إلى بلاد الروم فقلدوه الباشوية وعين في سفر الجهاد ومات سنة 1133‏.‏

ومات الأمير مصطفى بك المعروف بالشريف وهو بن الأمير ايواظ بك الجرجي مملوك حسين أغا وكان والده ايواظ بك المذكور تولى أغاوية العزب سنة 1070 وتزوج ببنت النقيب برهان الدين أفندي فولد له منها المترجم فلذلك عرف بالشريف وتقلد والده كتخدا الجاويشية 1079 وعزل عنها وتقلد الصنجقية سنة 1081 وتولى كشوفية الغربية وتقلد قائمقام مصر وعزل ولم يزل أميرًا حتى مات على فراشه وترك ولده هذا المترجم وكان سنه حين مات والده اثنتي عشرة سنة فرباه ريحان أغا تابع والده ثم مات ريحان أغا فعند ذلك أسرف مصطفى جلبي وأتلف أموال أبيه وكانت كثيرة جدًا وكان المترجم في وجاق المتفرقة وصار فيهم اختيارًا إلى أن لبس سردارية المتفرقة في سفر الخزينة سنة 1109 فمات صنجق الخزينة درويش بك الفلاح في السفر بالروم فلبس صنجقية المذكور حكم القانون ورجع إلى مصر أميرًا وأستمر في إمارته حتى مات سنة 1133 وكان قليل المال‏.‏

ومات الأمير أحمد بك الدالي تابع الأمير ايواظ بك الكبير القاسمي تقلد الصنجقية يوم الخميس سابع جمادى الأولى سنة 1127 ولبس في يومها قفطان الإمارة على العسكر المسافر إلى بلاد مورة بالروم عوضًا عن خشداشة يوسف بك الجزار وسافر بعد ستين يومًا ومات هناك وتقلد عوضه مملوكه علي بك ورجع إلى مصر صنجقًا وهو علي بك المعروف بالهندي‏.‏

ومات كل من الأمير حسين كتخدا الينكجرية المعروف بحسين الشريف وإبراهيم باش أوده باشا المعروف بكدك وذلك أنه لما قتل قيطاس بك الفقاري بقراميدان على يد عابدي باشا في شهر رجب سنة 1127 وثارت بعد ذلك الفتنة بين باب الينكجرية والعزب وذلك أن حسن كتخدا النجدلي وناصف كتخدا وكور عبد الله كانوا من عصبة قيطاس بك فلما قتل خافوا على أنفسهم فملكوا باب مستحفظان على حين غفلة وقتلوا المذكورين وكانوا يتهمونهم بأنهما تسببا في قتل قيطاس بك‏.‏

ومات أيضًا كل من الأمير حسن كتخدا النجدلي وناصف كتخدا الغازدغلي وكور عبد الله وذلك أنه لما ملك المذكورون الباب وقتلوا حسين كتخدا الشريف وإبراهيم الباش كما تقدم وذلك في أواخر رجب وسكن الحال انتدب محمد كتخدا كدك لأخذ ثار أخيه وملك الباب على حين غفلة وذلك ليلة الثلاثاء ثالث عشري رمضان وتعصب معه طائفة من أهل بابه وطائفة من باب العزب وقتل في تلك الليلة حسن كتخدا النجدلي وناصف كتخدا وأنزلوهما إلى بيوتهما في صبح تلك الليلة في توابيت‏.‏

وهرب كور عبد الله فقبض عليه محمد بك جركس بعد ستة أيام وحضر به وهو راكب على الحصان وفي عنقه الحديد ومغطى الرأس وطلع به إلى عابدي باشا‏.‏

فلما مثل بين يديه سبه ووبخه وأمره بأخذه إلى بابه فأمر محمد كتخدا كدك بحبسه بالقلعة‏.‏

وقتل في ذلك اليوم وأنزلوه إلى بيته بسوق السلاح‏.‏

ومات أيضًا محمد كتخدا كدك المذكور فإنه أشتهر صيته بعد هذه الحوادث ونفذت كلمته ببابه ولم يزل حتى مات على فراشه في شهر القعدة 1132‏.‏

ومات الأمير أحمد بك المسلماني ويعرف أيضًا باسكي نازي وكان أصله كاتب جراكسة وكان يسمى بأحمد أفندي ثم عمل باش اختيار جراكسة وحصل له عز عظيم وثروة وكثرة مال وكان أغنى الناس في زمانه وكان بينه وبين اسمعيل بك بن ايواظ وحشة وكان بن ايواظ يكرهه ويريد قتله فالتجأ إلى محمد بك جركس‏.‏

فلما هرب جركس في المرة الأولى اختفى أحمد أفندي المترجم وبيعت بلاده ومتاعه فلما ظهر جركس ثانيا ظهر أحمد أفندي وعمل صنجقيًا سنة 1133 وصار صنجقيًا فقيرًا ثم ورد مرسوم بأن يتوجه المترجم إلى مكة لإجراء الصلح بين الأشراف فتوجه ومكث هناك سنة ثم رجع إلى مصر ومكث بها مدة إلى 1136 فأرسلوه إلى ولاية جرجا ليشهل غلال المبري وكان ذلك حيلة عليه‏.‏

فلما توجه إلى جرجا أرسل محمد باشا فرمانًا إلى سليمان كاشف خفية بقتله فذهب سليمان كاشف ليسلم عليه فغمز عليه بعض أتباعه فضربوه وقتلوه عند العرمة وقطعوا رأسه في حادي عشري شهر القعدة سنة 136‏.‏

ومات الأمير علي كتخدا المعروف بالداودية مستحفظان وكان من أعيان باب الينكجرية وأصحاب الكلمة مع مشاركة مصطفى كتخدا الشريف وكان من الأعيان المعدودين بمصر ولم يزل نافذ الكلمة وافر الحرمة إلى أن مات على فراشه في جمادى الآخرة سنة 1133‏.‏

ومات الأمير إبراهيم أفندي كاتب كبير الشهير بشهر أوغلان مستحفظان و كان أيضًا من الأعيان المشهورين ببابهم مع مشاركة عثمان كتخدا الجرجي تابع شاهين جربجي وانفرد معه بالكلمة بعد مصطفى كتخدا الشريف ورجب كتخدا بشناق لما خرجهما اسمعيل بك بن ايواظ إلى الكشيدة كما تقدم الإشارة إلى ذلك‏.‏

فلما قتل اسمعيل بك رجع مصطفى كتخدا الشريف ورجب كتخدا ثانيًا إلى الباب وانحطت كلمة المترجم وعثمان كتخدا ثم عزل إبراهيم أفندي المذكور إلى دمياط وأهين ومكث هناك أشهرًا ثم حضروه وجعلوه سردار جداوي وتوجه مع الحج ومات هناك في سنة 1137‏.‏

ومات النبيه الفطن الذكي حسن أفندي الروزنامجي الدمرداشي وكان باش قلفة الروزنامجه فلما حضر اسمعيل باشا واليًا على مصر في سنة ست ومائة وألف وكانت سنة تداخل فتكلم الباشا مع إبراهيم بك أبي شنب في كسر الخزينة وعرض عليه المرسوم السلطاني بتعويض كسر الخزينة من أشغال العشرين ألف عثماني التي كانت عليهم وكان له ميل للعلوم والمعارف وخصوصا الرياضيات والفلكيات ويوسف الكلارجي الفلكي الماهر هو تابع المذكور ومملوكه‏.‏

وقرأ على رضوان أفندي صاحب الأزياج والمعارف وكان كثير العناية برضوان أفندي المذكور ورسم باسمه عدة آلات وكرات من نحاس مطلية بالذهب وأحضر المتفنين من أرباب الصنائع صنعوا له ما أراد بمباشرة وإرشاد رضوان أفندي وصرف على ذلك أموالًا عظيمة وباقي أثر ذلك إلى اليوم بمصر وغيرها ونقش عليها اسمه وأسم رضوان أفندي وذلك سنة 1113 وقبل ذلك وبعدها ولم يزل في سيادته حتى توفي‏.‏

ومات الأمير مصطفى بك القزلار المعروف بالخطاط تابع يوسف أغا القزلار دار السعادة تولى الإمارة والصنجقية في سنة 1094 وتقلد قائمقامية بعد عزل اسمعيل باشا وذلك سنة 1109 قهرًا عنه وتقلد مناصب عديدة مثل كشوفية جرجا وغيرها ثم تقلد الدفتر دارية سنة ثلاث وثلاثين فكان بين لبسه الدفتر دارية والقائمقامية أربع وعشرون سنة وبعد عزله من الدفتر دارية مكث في منزله صنجقيًا بطالًا إلى أن توفي سنة 1142‏.‏

ومات الأمير المعظم والملاذ المفخم الأمير اسمعيل بك بن الأمير الكبير ايواظ بك القاسمي من بيت العز والسيادة والإمارة نشأ في حجر والده في صيانة ورفاهية وكان جميل الذات والصفات وتقلد الإمارة والصنجقية بعد موت والده الشهيد في الفتنة الكبيرة كما تقدم وكان لها أهلًا ومحلًا وكان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة وقد دب عذاره وسمته النساء قشطة بك‏.‏

فإنه لما أصيب والده في المعركة بالرملة تجاه الروضة وقتل في ذلك اليوم من الغز والأجناد خاصة نحو السبعمائة ودفن والده فلما أصبحوا ركب يوسف الجزار تابع ايواظ بك وأحمد كاشف وأخذوا معهم المترجم وذهبوا إلى بيت قانصوه بك قائمقام فوجدوا عنده إبراهيم بك أبا شنب وأحمد بك تابعه وقيطاس بك الفقاري وعثمان بك بارم ذيله ومحمد بك قطامش وهم جلوس وعليهم الكآبة والحزن وصاروا مثل الغنم بلا راع متحيرين في أمرهم وما يؤول إليه حالهم فلما استقر بهم الجلوس نظر يوسف الجزار إلى قيطاس بك فرآه يبكي فقال له لأي شيء تبكي هذه القضية ليس لنا فيها ذنب ولا علاقة وأصل الدعوى فيكم معشر الفقارية والآن انجرحنا وقتل منا واحد وخلف مالًا ورجالًا قلدوني الصنجقية وأمير الحاج وسر عسكر وكذلك قلدوا ابن سيدي هذا صنجقية والده فيكون عوضًا عنه و يفتح بيته وأعطونا فرمانا وحجة من الذي جعلتموه نائب شرع بالمعافاة من الحلوان ونحن نصرف الحلوان على المقاتلين والله يعطي النصر لمن يشاء‏.‏

ففعلوا ذلك ورجع يوسف بك وصحبته اسمعيل بك ومن معهم إلى بيت المرحوم ايواظ بك وقضوا أشغالهم ورتبوا أمورهم وركبوا في صبحها إلى باب العزب وأخذوا معهم الأموال فأنفقوا في الست بلكات وغيرهم من المقاتلين ونظموا أحوالهم في الثلاثة أيام الهدنة التي كانوا اتفقوا على رفع الحرب فيها بعد موت ايواظ بك وكان الفاعل لذلك أيوب بك وقصده حتى يرتب أموره في الثلاثة أيام ثم يركب على بيت قانصوه بك ويهجم على من فيه ولو فعل ذلك في اليوم الذي قتل فيه ايواظ بك لتم لهم الأمر ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا‏.‏

ولم يرد الله لهم بذلك وأخذوا في الجد والاجتهاد وبرزوا للحرب في داخل المدينة وخارجها وعملوا المكايد ونصبوا شباك المصايد وأنفقوا الأموال ونقبوا النقوب حتى نصرهم الله على الفرقة الآخرة وهم أيوب بك ومحمد بك الصعيدي وإفرنج أحمد وباب الينكجرية ومن تبعهم وقتل من قتل وفر من فر ونهبت دورهم وشردوا في البلاد وتشتتوا في البلاد البعيدة كما ذكر غير مرة وأستقر الحال وسافر أميرًا بالحج في تلك السنة يوسف بك الجزار واستقر المترجم بمصر وافر الحرمة محتشم المكانة مشاركًا لإبراهيم بك أبي شنب وقيطاس بك في الأمر والرأي وفي نفس قيطاس بك ما فيها من حقد العصبية فصار يناكدهما سرًا وسلط حبيب وأبنه سالم على خيول اسمعيل بك فجم أذنابها ومعارفها كما ذكرنا ثم نصب لهما ولمن والاهما شباكًا ومكايد ولم يظفره الله بهما ولم يزل على ذلك وهما يتغافلان ويغضيان عن مساويه الخفية إلى أن حضر عابدي باشا وأرسل قلد يوسف بك الجزار قائمقام وخلع يوسف بك على ابن سيده اسمعيل بك وجعله أمين السماط‏.‏

ولما وصل الباشا إلى العادلية وقدمت له الأمراء التقادم وقدم له اسمعيل بك المترجم تقدمة عظيمة وتقيد بخدمة السماط أحبه عابدي باشا ومال بكليته إليه ثم أنه اختلى معه ومع يوسف بك وسألهما عن سبب موت والده فأخبراه أن مصر من قديم الزمان فرقتان وعرفاه الحال وإن قيطاس بك وأيوب بك بيت واحد ووقعت بينهما خصومة وأيوب بك أكثر عزوة وجندًا فوقع قيطاس بك على ايواظ بك والتجأ إليه فقام بنصرته وفاداه وأنفق بسببه أموالًا وتجندلت من رجاله أبطال إلى أن مات وقتل وبلغ قيطاس بك بنا ما بلغ فلم يراع معنا جميلًا وفي كل وقت ينصب لنا الحبائل ويحفر فينا الغوائل ونحن بالله نستعين فقال الباشا‏:‏ يكون خيرًا‏.‏

وأضمر لقيطاس بك السوء ولم يزل حتى قتله كما ذكر بقراميدان وورد أمر تقليد المترجم على الحج أميرًا وتقليد إبراهيم بك الدفتر دارية وألبسهما عابدي باشا الخلع وتسلم أدوات الحج والجمال وأرسل غلال الحرمين وبعث القومانية والغلال إلى البندر وأرسل أناسًا وعينهم لحفر الآبار المردومة وتنقية الأحجار من طريق الحجاج‏.‏

وضم إليه جماعة من الفقارية مثل حسين بك أبي يدك وذي الفقار معتوق عمر أغا بلغيه وأصلان وقبلان وأمثالهم وأخذوا يحفرون للمترجم وينصبون له الغوائل واتفقوا على غدره وخيانته ووقف له طائفة منهم بطريق الرميلة وهو طالع إلى الديوان فرموا عليهم الرصاص فلم يصب منهم سوى رجل قواس ورمح اسمعيل بك وأمراؤه إلى باب القلعة و نزل بباب العزب وكتب عرضحال وأرسله إلى علي باشا صحبة يوسف بك الجزار مضمونه الشكوى من محمد بك جركس وإنه جامع عنده المفاسيد ويريدون إثارة الفتن في البلد‏.‏

فكتب الباشا فرمانات إلى الوجاقات بإحضار محمد بك جركس وأن أبي فحاربوه وركب جركس بالمنضمين إليه وهم قاسمية وفقارية وذلك بعد إبائه وعصيانه فصادف المتوجهين إليه فحاربهم بالرميلة وآل الأمر إلى انهزامه وتفرق من حوله ولم يتمكن من الوصول إلى داره وخرج هاربًا من مصر وقبض عليه العربان وأحضروه إلى اسمعيل بك أسيرًا عريانًا في أسوأ حال فكساه وأكرمه ألبسه فروة سمور وأشار عليه أحمد كتخدا أمين البحرين وعلي كتخدا الجلفي بقتله فلم يوافقهما على ذلك‏.‏

وقال إنه دخل بيتي وحل في ذمامي فلا يصح أن أقتله ثم نفاه إلى قبرص‏.‏

ولما سافر محمد بك بن أبي شنب إلى اسلامبول بالخزينة في تلك السنة وصى قاسم بك بالإرسال إلى جركس وإحضاره إلى مصر ففعل وحضر إلى مصر سرًا و اختفى عنده ولما وصل محمد بك بالخزينة وأجتمع بالوزير الأعظم دس إليه كلامًا في حق المترجم وقال له أن أهملتم أمره إستولى على الممالك المصرية وطرد الولاة ومنع الخزينة فإن الأمراء والدفتر دارية وكبار الأمراء والوجاقات صاروا كلهم أتباعه ومساليكه ومماليك أبيه والذي ليس كذلك فهم صنائعه وعلي باشا المتولي لا يخرج عن مراده في كل ما يأمر به‏.‏

وأخرج من مصر وأقصى كل ناصح في خدمة الدولة مثل محمد بك جركس ومن يلوذ به وعمل للوزير أربعة آلاف كيس على إزالة اسمعيل بك والباشا وتولية خلافه ويكون صاحب شهامة وتدبير وكان ذلك في دولة السلطان أحمد فأجابوه إلى ذلك وعينوا رجب باشا أمير الحاج الشامي ورسموا له رسوما بإملاء محمد بك أبي شنب ملخصها قتل الباشا واسمعيل بك وعشيرته ما عدا علي بك الهندي‏.‏

ولما حضر رجب باشا إلى مصر

وقد كان قاسم بك أحضر محمد جركس وأخفاه وكان اسمعيل بك بن أيواظ طالعًا بالحج سنة 1131 فاليوم الذي وصل فيه رجب باشا إلى العريش ووصل المسلم إلى مصر كان خروج اسمعيل بك بالحج من مصر وأرسل رجب باشا مرسومًا إلى أحمد بك الأعسر وجعله قائمقام وأمره بإنزال علي باشا إلى قصر يوسف والاحتفاظ به ففعلوا ذلك ووصل رجب باشا فأحضر علي باشا وخازنداره وكاتب خزينته والروزنامجي وأمرهم بعمل حسابه ثم أمر بقتله فقتلوه ظلمًا وسلخوا رأسه وأرسلها إلى الروم وضبط مخلفاته ودبر معه أمر بن ايواظ‏.‏

وما ما كان من أمر الباشا وجركس ومن بمصر فإنه لما سافر يوسف بك الجزار ومن معه على الرسم المتقدم عملوا شغلهم وقتلوا اسمعيل بك الدفتر دار واسمعيل أغا كتخدا الجاويشية وظهر محمد بك جركس ونزل من القلعة إلى بيته وهو راكب ركوبة الدفتر دار وأستقر الباشا حمد بك الأعسر دفتر دار‏.‏

ولما وصل المتوجهون إلى سطح العقبة نزل يوسف بك الجزار وترك محمد بك بن ايواظ واسمعيل بك جرجا في السطح فلما دخل على الصنجق وسلم عليه اشتغل خاطره وقال له‏:‏ لأي شيء جئت فقال‏:‏ أنا لست وحدي بل صحبتي أخوك محمد بك واسمعيل بك جرجا وعبد الرحمن أغا ولجه‏.‏

فقال‏:‏ لا إله إلا الله كيف أنكم تتركون البلد وتأتون أما تعلموا أن لنا أعداء والعثمانية ليس لهم أمان ولا صاحب ويصيدون الأرنب بالعجلة فأعدوا العدة وسافروا إلى مصر وبعد أيام وصل مرسوم بالأمان والرضا لاسمعيل بك وجماعته وولوا على مصر محمد باشا من حيث أتى بعد ما دفع المائة وعشرين كيسًا التي أخذها من دار الضرب وصرفها على تجريدة أجرود ولم يزل محمد بك جركس ومحمد بك بن سيده ومن يلوذ بهم مصرين على حقدهم وعداوتهم للمترجم وهو يتغافل عنهم ويغضي عن مساويهم ويسامح زلاتهم حتى غدروا به وقتلوه بالقلعة على حين غفلة وذلك أنه لم يزل ذو الفقار تابع عمر أغا يطالب بفائظ حصته في قمن العروس ويكلم جركس يشفع له عند اسمعيل بك فيقول له‏:‏ أطرد الصيفي من عندك وأرسل إلي بعد ذلك ذا الفقار ويأخذ الذي يطلع له عندي إلى أن ضاق خناق ذي الفقار من الفشل والإعدام فطلع إلى كتخدا الباشا وشكا إليه حاله فقال له‏:‏ وما الذي تريد نفعله قال‏:‏ أريد أن أقتل ابن ايواظ عندما يأتي إلى هنا وأعطوني صنجقية وعشرين كيسًا فائظ من بلاده وكشوفية المنوفية فدخل الكتخدا وأخبر مخدومه بذلك فأجابه إلى مطلوبه على شرط أن لا يدخلنا في دمه‏.‏

فنزل ذو الفقار وأخبر جركس بما حصل وطلب أن يكون ذلك بحضوره هو وإبراهيم فارسكور فأجابه إلى ذلك ولما اجتمعوا في ثاني يوم عند كتخدا الباشا دخل ذو الفقار وقدم له عرضحال إلى اسمعيل بك فأخذه وشرع يقرأ فيه وإذا بذي الفقار سحب الخنجر وضرب الصنجق به في مدوده وكان معه قاسم بك الصغير وأصلان وقبلان وخلافهم مستعدين لذلك فعندما رأوه ضرب اسمعيل بك سحبوا سيوفهم وضربوا أيضًا اسمعيل بك جرجا فقتلوه فهرب صاري علي وكتخدا الجاويشية مشاة إلى باب الينكجرية وقطعوا رأس الأميرين وشالوا جثثهما إلى بيوتهما فغسلوهما وكفنوهما ودفنوهما بمدفن أبي الشوارب الذي بطريق الأزبكية عند غيط الطوشي و ذلك في سنة 1136‏.‏

ثم أرسلوا رأسيهما مسلوخين فدفنوهما أيضًا وانقضت دولة اسمعيل بك ابن ايواظ‏.‏

وكانت أيامه سعيدة وأفعاله حميدة و الإقليم في أمن وأمان من قطاع الطريق وأولاد الحرام وله وقائع مع حبيب وأولاده يطول شرحها وسيأتي استطراد بعضها في ترجمة سويلم وكان صاحب عقل وتدبير وسياسة في الأحكام وفطانة ورياسة وفراسة في الأمور وله عدة عمائر ومآثر منها أنه جدد سقف الجامع الأزهر وكان قد آل إلى السقوط وأنشأ مسجد سيدي إبراهيم الدسوقي بدسوق وكذلك أنشأ مسجد سيدي علي المليجي على الصفة التي هما عليها الآن‏.‏

ولما تمم بناء المسجد المليجي سافر إليه ليراه وذلك في منتصف شهر شعبان سنة 1135‏.‏

ومن أفاعيله الجميلة كان يرسل غلال الحرمين في أوانها ويرسل القومانية إلى البنادر ويجعل في بندر السويس والمويلح والينبع غلال سنة قابلة في الشون تشحن السفائن وتسافر في أوانها ويرسل خلافها على هذا النسق‏.‏

ولما بلغ خبر موته لأهل الحرمين حزنوا عليه وصلوا عليه صلاة الغيبة عند الكعبة وكذلك أهل المدينة صلوا عليه بين المنبر والمقام ومات وله من العمر ثمان وعشرون سنة وطلع أمير بالحج ست مرات آخرها سنة ثلاث وثلاثين‏.‏

وكان منزله هو بيت يوسف بك بدرب الجماميز المجاور لجامع بشناك المطل على بركة الفيل وقد عمره وزخرفه بأنواع الرخام الملون وصرف عليه أموالًا عظيمة وقد خرب وصار حيشانًا ومساكن للفقراء وطريقًا يسلك منها المارة إلى البركة ويسمونها الخرابة ولما مات لم يخلف سوى إبنة صغيرة ماتت بعده بمدة يسيرة وحملين في سريتين ولدت إحداهن ولدًا وسموه ايواظ عاش نحو سبعة أشهر ومات وولدت الأخرى بنتًا ماتت في فصل كو دون البلوغ فسبحان الحي الذي لا يموت‏.‏

ومات الأمير اسمعيل بك جرجا وكان أصله خازندار ايواظ بك الكبير وأمره اسمعيل بك وقلده صنجقًا ومنصب جرجا فلذلك لقب بذلك ولم يزل حتى قتل مع ابن سيده في ساعة واحدة ودفن معه في مدفن رضوان بك أبي الشوارب‏.‏

ومات كل من الأمير عبد الله بك والأمير محمد بك بن ايواظ والأمير إبراهيم بك تابع الجزار قتل الثلاثة المذكورون في ليلة واحدة وذلك أنه لما قتل الأمير اسمعيل بك بن ايواظ بالقلعة بيد ذي الفقار بممالأة محمد بك جركس في الباطن وعبد الله بك لم يكن حاضرًا انضمت طوائف الأمراء المقتولين ومماليكهم إلى عبد الله بك لكونه زوج أخت المرحوم اسمعيل بك ومن خاصة مماليك ايواظ بك الكبير‏.‏

وكان كتخداه في حياته وقلده اسمعيل بك الإمارة والصنجقية وطلع أميرًا للحج في السنة الماضية التي هي سنة خمس وثلاثين ورجع سنة ست وثلاثين‏.‏

فلما وقع ذلك انضموا إليه لكونه أرأس الموجودين وأعقلهم وأقبلت عليه الناس يعزونه في ابن سيده اسمعيل بك وأزدحم بيته بالناس وتحقق المبغضون أنه أن أستمر موجودًا ظهر شأنه وانتقم منهم فأعملوا الحيلة في قتله وقتل أمرائهم‏.‏

وطلع في ثاني يوم ذو الفقار قاتل المرحوم اسمعيل بك إلى القلعة فخلع عليه الباشا وقلده الآمرية والصنجقية وكاشف إقليم المنوفية‏.‏

ونزل إلى بيت جركس ومعه تذكرة من كتخدا الباشا مضمونها أنه يجمع عنده عبد الله بك ومحمد بك ومحمد بك ابن ايواظ وإبراهيم بك الجزار ويعمل الحيلة في قتلهم‏.‏

فكتب جركس تذكرة إلى عبد الله بك وأرسلها صحبة كتخداه بطلبه للحضور عنده ليعمل معه تدبيرًا في قتل قاتل المرحومين فلما حضر كتخدا جركس إلى بيت عبد الله بك بالتذكرة وجد البيت مملوءًا بالناس والعساكر والاختيارية والجربجية وواجب رعاياه وعنده علي كتخدا الحلفي عزبان وحسن كتخد حبانية تابع يوسف كتخدا تابع محمد كتخدا البيوقلي وغيرهم نفر وطوائف كثيرة فأعطاه التذكرة فقرأها ثم قال لعلي بك الهندي‏:‏ خذ محمد بك وإبراهيم بك وأذهبوا إلى بيت محمد بك جركس وانظروا كلامه وأرجعوا فأخبروني بما يقول‏.‏

فركبوا وذهبوا عند جركس فدخلوا عليه فوجدوا عنده ذا الفقار بك وهو يتناجى معه سرًا فأدخلهم إلى تنهة المجلس وأرسل في الحال إلى كتخدا الباشا يخبره بحضور المذكورين عنده ويقول له‏:‏ أرسل إلى عبد الله بك وأطلبه فإن طلع إليكم وعوقتموه ملكنا غرضنا في باقي الجماعة‏.‏

فأرسل الكتخدا يقول لجركس أن لا يتعرض لعلي بك الهندي لأن السلطان أوصى عليه وكذلك صاري علي أوصى عليه الباشا لأنه أمين العنبر وناصح في الخدمة‏.‏

وأرسل في الحال تذكرة إلى عبد الله بك يأخذ خاطره ويعزيه في العزيز ابن سيده ويطلبه للحضور عنده ليدبر معه أمر هذه القضية وقتل قاتل المرحوم فراج عليه ذلك الكلام والتمويه‏.‏

وركب في الحال لأجل نفاذ المقدور وقال لعلي كتخدا‏:‏ أجلس هنا ولا تفارق حتى أرجع وطلع إلى القلعة ومعه عشرة من الطائفة ومملوكان والسعادة فقط ودخل على كتخدا الباشا فتلقاه بالبشاشة ورحب به وشاغله بالكلامإلى العصر وعندما بلغ محمد بك جركس ركوب عبد الله بك وطلوعه إلى القلعة صرف علي بك الهندي ووضع القبض على محمد بك ابن ايواظ وإبراهيم بك الجزار وربط خيولهما بالإسطبل وطردوا جماعتهم وطوائفهم وسراجينهم ولم يزل كتخدا الباشا يشاغل عبد الله بك ويحادثه ويلاهيه إلى قبيل الغروب حتى قلق عبد الله ك وأراد الانصراف فقال له كتخدا الباشا‏:‏ لا بد من ملاقاتك الباشا ومحادثتك معه‏.‏

وقام يستأذن له ودخل ورجع إليه وقال له أن الباشا لا يخرج من الحريم إلا بعد الغروب وأنت ضيفي في هذه الليلة لأجل ما نتحادث مع الباشا في الليل‏.‏

وحسن له ذلك وتركه إلى الصباح فطلع محمد بك جركس وابن سيده محمد بك ابن أبي شنب وذو الفقار بك وقاسم بك وإبراهيم بك فارسكور وأحمد بك الأعسر الدفتر دار فخلع الباشا على محمد بك اسمعيل وقلده أمير الحاج وقلد عمر أغا كتخدا جاويشية عوضًا عن عبد الله أغا وقلد محمد أغا لهلوبا والي ونزلوا إلى بيوتهم‏.‏

وطلعت طوائف عبد الله بك وأتباعه وانتظروه حتى انقضى أمر الديوان ولم ينزل‏.‏

فاستمروا في انتظاره إلى بعد العصر ثم سألوا عنه فقالوا لهم أنه جالس مع الباشا في التنهة فنزلوا وأرسل محمد بك جركس لهلوبة الوالي إلى بيت كتخدا الباشا فقعد به إلى بعد العشاء فدخلت الجو خدارية إلى عبد الله بك فأخذوا ثيابه وما في جيوبه وأنزلوه وسلموه إلى الوالي فأركبه على ظهر كديش ونزل به من باب الميدان وساروا به إلى بيت جركس فأوقفوه عند الحوض المرصود ونزلوا بمحمد بك ابن أيواظ وإبراهيم بك الجزار فأركبوهما حمارين وسار بهم إبراهيم بك فارسكور والوالي على جزيرة الخيوعية وأنزلوهم في المركب وصحبتهم المشاعل فقتلوهم وسلخوا رؤوسهم ورموهم إلى البحر ورجعوا وانقضى أمرهم وتغيب حالهم وما فعل بهم أيامًا‏.‏

وكانت قتلتهم في شهر ربيع الأول سنة 1136‏.‏

ومات عبد الله بك وهو متقلد إمارة الحج وعمره ست وثلاثون سنة وكان حليمًا سموح النفس صافي الباطن‏.‏

ومات محمد بك ابن ايواظ بك وسنه ست وعشرون سنة وكان أصغر من أخيه المرحوم‏.‏

ومات الأمير قاسم بك الكبير وهو مملوك إبراهيم بك أبي شنب وخشداش محمد بك جركس تقلد الإمارة والصنجقية بعد قتل قيطاس بك في سنة 1126 في أيام عابدي باشا ولما هرب جركس وقبض عليه العربان وأحضروه إلى اسمعيل بك ونفاه إلى قبرص أتفق محمد بك ابن أبي شنب مع قاسم بك سرًا على إحضاره إلى مصر وسافر محمد بك إلى الروم بالخزينة وأشتغل شغله هناك على قتل اسمعيل بك وأرسل في الخفية وأحضره إلى مصر وأخفاه حتى حضر رجب باشا وفعلوا ما تقدم ذكره‏.‏

ولم يزل أميرًا ومتكلمًا بمصر حتى وقعت حادثة ظهور ذي الفقار بك والمحاربة الكبيرة التي خرج فيها جركس من مصر فقتل قاسم بك المذكور في بيته أصيب برصاصة من منارة الجامع كما تقدم وعندما علم جركس بموته حضر إليه والحرب قائم وكشف وجهه فرآه ميتًا وذلك سنة 1138‏.‏

ومات الأمير قاسم بك الصغير وهو أيضًا من أتباع إبراهيم بك أبي شنب وكان فرعون هذه الطائفة في دولة محمد بك جركس وهو من جملة المتعصبين مع ذي الفقار على قتل اسمعيل بك ابن ايواظ والضارب فيه أيضًا وفي اسمعيل بك جرجا ولم يزل حتى مات في رمضان بولاية البهنسا سنة 1137‏.‏

ومات محمد أغا متفرقة سنبلاوين وكان أغات وجاق المتفرقة وصاحب وجاهة ومات مقتولًا ومات الأمير إبراهيم أفندي كتخدا العزب المذكور قتله سليمان أغا أبو دفية وسليمان كاشف وخازندار ابن ايواظ بالرميلة في حادثة ظهور ذي الفقار كما تقدم ذكر ذلك في أيام علي باشا وملكوا في ذلك الوقت باب العزب وحضر محمد باشا وعلي باشا ووقعت الحروب مع محمد بك جركس حتى خرج من مصر وذلك سنة ثمان وثلاثين وسيأتي تتمة ذلك في ترجمة جركس‏.‏

ومات الأمير عبد الرحمن بك ملتزم الولجة وهو من أتباع ايواظ بك الكبير القاسمي وأمره أبنه اسمعيل بك ابن ايواظ وقلده الصنجقية وسافر بالخزينة 1135 وقتل اسمعيل بك في غيابه فلما حضر إلى مصر خلع عليه محمد بك ابن أبي شنب الدفتر دار قائمقام قفطان ولاية جرجا وأستعجله في الذهاب والسفر إلى قبلي فقضى أشغاله وبرز خيامه إلى ناحية الآثار وخرجت الأمراء والأغوات والاختيارية والوجاقات ومشوا في موكبه على العادة ونزلوا بصيوانه وشربوا القهوة والشربات وودعوه ورجعوا إلى منازلهم‏.‏

ثم أنه قال للطوائف والأتباع‏:‏ أذهبوا إلى منازلكم وأحضروا بعد غد بمتاعكم وأنزلوا بالمركب ونسير على بركة الله تعالى‏.‏

ثم أنه تعشى هو ومماليكه وخواصه وعلق على الخيول والجمال وركب وسار راجعًا من خلف القلعة إلى جهة سبيل علام إلى الشرقية ولم يزل سائرًا إلى أن وصل إلى بلاد الشام ومنها إلى بلاد الروم هذا ما كان من أمره‏.‏

وأما جركس فإنه أحضر علي بك وقاسم بك وعمر بك أمير الحاج وأمرهم بالركوب بعد العشاء بالطوائف ويأخذوا لهم راحة عند السواقي ثم يركبوا بعد نصف الليل ويهاجموا وطاق عبد الرحمن بك ولجة على حين غفلة ويقتلوه ويأخذوا جميع ما معه ففعلوا ذلك وساروا قرابة فلم يجدوا غير الخيام فأخذوها ورجعوا ولم يزل المترجم حتى وصل إلى اسلامبول وأجتمع برجال الدولة فاسكنوه في مكان وأخذ مكتوبًا من أغات دار السعادة خطابًا إلى وكيله بمصر يتصرف له في حصصه بموجب دفتر المستوفي ويرسل له الفائظ كل سنة وأستمر هناك إلى أن مات‏.‏

ومات الأمير الشهير محمد بك جركس وأصله من مماليك يوسف بك القرد وكان معروفًا بالفروسية بين مماليك المذكور فلما مات يوسف بك في سنة 1107 أخذه إبراهيم بك أبو شنب وأرخى لحيته وعمله قائمقام الطرانة وتولى كشوفية البحيرة عدة مرار ثم إمارة جرجا وسافر إلى الروم سر عسكر على السفر في سنة 1128 فضم إليه المبغضين له من الفقارية وغيرهم وتوافقوا على اغتياله ورصد له طائفة منهم ووقفوا له بالرميلة وضربوا عليه بالرصاص فنجاه الله من شرهم وطلع اسمعيل بك وصناجقه إلى باب العزب وطلب جركس إلى الديوان ليتداعى معه فعصي وأمتنع وتهيأ للحرب والقتال فقوتل وهزم وخرج هاربًا من مصر فقبض عليه العربان وأحضروه أسيرًا إلى اسمعيل بك فأشاروا عليه بقتله فأبى وقال‏:‏ أنه دخل إلى بيتي فلا سبيل إلى قتله وأنزله بمكان وأحضر له الطبيب فداوى جراحته وأكرمه وأعطاه ملابس وخلع عليه فروة سمور وألف دينار ونفاه إلى قبرص حسمًا للشر‏.‏

وأستمر الحقد في قلوب خشداشينه ومحمد بك ابن أبي شنب ابن أستاذهم واتفقوا على إحضار جركس سرًا إلى مصر‏.‏

وسافر ابن أبي شنب بالخزينة إلى دار السلطنة فأغرى رجال الدولة ورشاهم وجعل لهم أربع آلاف كيس على إزالة اسمعيل بك وعشيرته‏.‏

ووقع ما تقدم ذكره في ولاية رجب باشا‏.‏

وحضر جركس إلى مصر في صورة درويش عجمي واختفى عند قاسم بك ودبروا بعد ذلك ما دبروه من قتل الباشا وما تقدم ذكره في ترجمة اسمعيل بك‏.‏

ونجا اسمعيل بك أيضًا من مكرهم وظهر عليهم وسامحهم في كل ما صدر منهم مع قدرته على إزالتهم‏.‏

ولم يزالوا مضمرين له السوء حتى توافقوا على قتله غدرًا وخانوه وقتلوه بالديوان وأزالوا دولته‏.‏

وصفا عند ذلك الوقت لمحمد بك جركس وعشيرته فلم يحسن السير وطغى وتجبر وسار في الناس بالعسف والجور وأتخذ له سراجًا من أقبح خلق الله وأظلمهم وهو الذي يقال له الصيفي ورخص له فيما يفعله ولا يقبل فيه قول أحد وأتخذ له أعوانًا من جنسه وخدمًا وكلهم على طبقته في الظلم والتعدي فكانوا يأخذون الأشياء من الباعة ولا يدفعون لها ثمنًا ومن أمتنع عليهم ضربوه بل وقتلوه وصاروا يخطفون النساء والأولاد‏.‏

وصاروا يدخلون بيوت التجار في رمضان بالليل فلا ينصرفون حتى ضاق صدر الباشا وأبرز مرسومًا من الدولة برفع صنجقية محمد بك جركس وكتب فرمانًا وأرسلها إلى الوجاقات ومشايخ العلم والبكري وشيخ السادات ونقيب الأشراف بالأخبار بذلك وبالمنع من الاجتماع عليه أو دخول منزله‏.‏

ووصل الخبر إلى محمد بك جركس فكتب في الحال تذاكر وأرسلها إلى اختيارية الوجاقات والمشايخ بالحضور ساعة تاريخه لسؤال وجواب فذهب إليه الاختيارية فأكرمهم وأجلهم وأجلسهم ثم حضر المشايخ فلما تكامل المجلس أوقف طوائفه ومماليكه بالأسلحة ثم قال لهم‏:‏ تكونوا معي أو أقتلكم جميعًا فلم يسعهم إلا أنهم قالوا له جميعًا نحن معك على ما تريد‏.‏

فقال أريد عزل الباشا ونزوله فقالوا نحن معك على ما تختار‏.‏

ثم أنهم كتبوا فتوى مضمونها ما قولكم في نائب السلطان أراد الإفساد في المملكة وتسليط البعض على البعض وتحريك الفتن لأجل قتلهم وأخذ أموالهم فماذا يلزم في ذلك فكتب المشايخ بوجوب إزالته وعزله قمعًا للفساد وحقنًا للدماء‏.‏

فأخذ الفتوى منهم وقام وأخذ معه رجب كتخدا ومصطفى كتخدا وإبراهيم كتخدا عزبان ودخل إلى داخل وترك الجماعة في المقعد والحوش وعليهم الحرس وباتوا على ذلك من غير عشاء ولا دثار فلما أصبح صباح يوم الجمعة عاشر القعدة أرسل أحمد بك الأعسر إلى الباشا يقول له‏:‏ أنت تنزل أو تحارب وكان أرسل قاسم بك الكبير إلى ناحية الجبل بنحو خمسمائة خيال فقال‏:‏ بل أنزل وانظروا إلي مكانًا أنزل فيه‏.‏

ونزل في ذلك اليوم قبل الصلاة إلى بيت محمد أغا الدالي بقوصون ولم يخرج جركس من بيته ولا أحد من المعوقين سوى قاسم بك وأحمد بك‏.‏

ثم أنه كتب عرضًا على موجب الفتوى وختم عليه المشايخ والوجاقات وكتبوا فيه أنه باع غلال الحرمين وغلاب الأنبار وباع من غلال الدشائش والخواسك ثمانية وعشرين ألف أردب وختم عليه القاضي أيضًا وأرسله صحبة ستة أنفار من الوجاقلية في غرة الحجة سنة 1137‏.‏

ولما فعل ذلك أقام محمد بك الدفتر دار ابن أستاذه قائمقام فصار يعمل الدواوين في منزله ولم يطلع إلى القلعة إلا في يوم نزول الجامكية‏.‏

ولما فعل جركس ذلك صفا له الوقت وعزل مملوكه محمد أغا الوالي وقلده الصنجقية وسماه جركس الصغير وألبس علي أغا مملوكه ابن أخي قاسم بك الصغير صنجقية عمه وأعطاه بلاده وماله وجواره وقلد علي المحرمجي مملوكه الصنجقية أيضًا وكذلك أحمد الخازندار مملوك أحمد بك الأعسر وسليمان أغا جميزة تابع أحمد أغا الوكيل صناجق ألبسهم الجميع قائمقام في بيته‏.‏

ولم يتفق نظير ذلك وحضر جن علي باشا وطلع إلى القلعة فلم يقابله جركس إلا في قصر الحلي وكمل له من الأمراء ثلاثة عشر صنجقًا واستولوا على جميع المناصب والكشوفيات‏.‏

ولما تأمر ذو الفقار بعد قتل اسمعيل بك أنضم إليه كثير من الفقارية وسافر إلى المنوفية فأراد أن يجرد عليه وطلب من الباشا فرمانًا بذاك فامتنع فتغير خاطره من الباشا وأستوحش كل من الآخر وحصل ما تقدم ذكره من عزل الباشا ثم جرد علي ذي الفقار فاختفى ذو الفقار وتغيب بمصر إلى أن حضر علي باشا والي جريد واستقر بالقلعة ودبروا في ظهور ذي الفقار كم تقدم في خبر محمد باشا‏.‏

وخرج محمد بك جركس هاربًا من مصر فنهبوا بيته وبيوت أتباعه وعشيرته فأخرجوا من بيته شيئا لا يحد ولا يوصف حتى أنه وجد به من صنف الحديد أكثر من ألف قنطار ومن الغنم أزيد من الألف خروف‏.‏

وبعدما أحاطوا بما فيه من المواشي والأمتعة ونهبوها هدموه وأخذوا أخشابه وشبابيكه وأبوابه‏.‏

ولم يمض ذلك النهار حتى خرب عن آخره‏.‏

ولم يبق به مكان قائم الأركان وقد أقام يعمر فيه نحو أربع سنوات فخرب جميعه من الظهر إلى قبيل المغرب وقتلوا كل من وجدوه من أتباعه واختفى منهم من اختفى ومن ظهر بعد ذلك قتلوه أيضًا ونهبوا دياره‏.‏

وأخرج خلفه ذو الفقار تجريدة فلم يدركوه وذهب من خلف الجبل الأخضر إلى درنة فصادف مركبًا من مراكب الإفرنج فنزل فيها مع بعض مماليكه وتفرق من كان معه من الأمراء بالبلاد القبلية وسافر المترجم إلى بلاد الإفرنج فأكرموه وتشفعوا فيه عند العثماني بواسطة الالجي فقبلوا شفاعتهم فيه وأخذوا له مرسومًا بالعودة إلى مصر وأخذها أن قدر على ذلك بعد أن عرضوا عليه الولاية والباشوية ببعض الممالك فلم يقبل‏.‏

ولم يرض إلا بالعودة إلى مصر فوصل إلى مالطة وأنشأ له سفينة وشحنها بالجبخانة والآلات والمدافع ورجع إلى درنة فطلع من هناك وأمر الرؤساء بالذهاب بالسفينة إلى ثغر إسكندرية‏.‏

وحضر إليه بعض أمرائه وأتباعه المتفرقين فركب معهم وذهب إلى ناحية البحيرة فصادف حسين بك الخشاب فهرب من وجهه فنهب حملته وخيامه وذهب إلى الإسكندرية وكانت سفينته قد وصلت فأخذ ما فيها من المتاع والجبخانة والآلات ورجع إلى قبلي على حوش ابن عيسى وأجتمع عليه الكثير من العربان وسار إلى الفيوم فهجم على دار السعادة وهربت الصيارف فأخذ ما وجده من المال ونزل على بني سويف وكان هناك علي بك المعروف بالوزير فنزل إليه وقابله ثم سار إلى القطيعة بالقرب من جرجا ثم عرجا جهة الغرب قبلي جرجا وأرسل إلى سليمان بك وطلبه للحضور إليه بمن عنده من القاسمية فعدى إليه سليمان بك ومن معه وقابله وأطلعه على ما بيده من المرسوم والأمان والعفو‏.‏

وحضر إليه أحمد بك الأعسر وجركس الصغير فركب بصحبة الجميع وأنحدر إلى جهة بحري فتعرض لهم حسن بك والسدادرة وعسكر جرجا وحاربوهم فقتل حسن بك و طائفته ولم ينج منهم إلا من دخل تحت بيارق العسكر‏.‏

ونزل جركس بصيوان حسن بك وأنزلوا مطابخهم وعازقهم في المراكب وسار بمن معه طالبين مصر ووصلت أخبارهم إلى ذي الفقار بك فعمل جمعية وأخذ فرمانًا بسفر تجريدة وميرها عثمان بك تابع ذي الفقار وعلي بك قطامش وعساكر اسباهية وغيرهم فقضوا أشغالهم وعدوا إلى أم خنان وصحبتهم الخبيري وساروا إلى وادي البهنسا فتلاقوا مع محمد بك جركس فتحاربوا معه يومًا وليلة وكان مع جركس طائفة من الزيدية والهوارة وعرب نصف حرام فكانت الهزيمة على التجريدة وأستولى محمد جركس ومن معه على عرضيهم وخيامهم وقتل منهم نحو مائة وسبعين جنديًا وحال بينهم الليل ورجع المهزومون لمصر وقالوا لذي الفقار بك أن لم تتداركوا أمركم وإلا دخلوا عليكم البيوت‏.‏

فجمع ذو الفقار بك الأمراء واتفقوا على تشهيل تجريدة أخرى واحتاجوا إلى مصروف فطلبوا من الباشا فرمانا بمبلغ ثلثمائة كيس من الميري أو من مال البهار على السنة القابلة فامتنع الباشا فركبوا عليه وعزلوه وأنزلوه ولبسوا محمد بك قطامش قائمقام وأخذوا منه فرمانًا وجهزوا أمر التجريدة فأخرجوا فيها مدافع كبار وأحضروا سالم بن حبيب ومعه نصف سعد ونزل عثمان جاويش القازدغلي بجماعة جهة البدرشين وصحبته علي كتخدا الجلفي بالمراكب ورتبوا أمورهم وأشغالهم ووصل جركس ومن معه ناحية دهشور والمنشية ووقعت بينهم حروب ووقعت الهزيمة على جركس وقتل سليمان بك ونزلت القرابة المركب وسارت الخيالة صحبة العرب مقبلين‏.‏

وسار عثمان جاويش القازدغلي خلف قرا مصطفى جاويش ليلًا ونهارًا حتى أدركه عند أبي جرج فقبض عليه ومعه ثلاثة وأخذ ما وجده معه وأنزلهم في المركب وأتى بهم إلى مصر وقطعوا رؤوسهم وأرسلوا فرمانًا برجوع التجريدة ولحوق الصنجقيين وأغات البلك والأسباهية وسالم بن حبيب بجركس أينما توجه‏.‏

فسافروا خلفه أيامًا ثم عدى إلى جهة الشرق ومعه عرب خويلد وأقام هناك ينتظر حركة القاسمية بمصر وكانوا عدوا معه سرًا على قتل ذي الفقار بك فعدى إليه علي بك قطامش والعسكر وسالم بن حبيب فتلاقوا معه ووقع بينهم مقتلة عظيمة انجلت عن انهزام جركس ومن معه حتى ألقوا بأنفسهم في البحر‏.‏

وأما جركس فانه خلع لجام الحصان وأراد أن يعدي به بمفرده إلى البر الأخر فانغرز الحصان في روبة وتحتها الماء عميق فنزل من على ظهره ليخلصه فزلقت رجله وغرق بجانبه وكان بالقرب منه شادوف وعليه رجلان من الفلاحين ينقلان الماء إلى المزرعة فنزلا إليه فوجدا الحصان ميتًا وهو غاطس بجانبه لم يعلما من هو فجراه من رجله وأخذا سلاحه وزرخه وثيابه وما في جيوبه ودفناه بالجزيرة‏.‏

ومر بهما قارب صياد فطلباه ووضعاه فيه وكان علي بك جالسًا بجنب البحر ومعه سالم بن حبيب فنظر سالم إلى القارب وهو مقبل فقال ما هذا إلا سمكة عظيمة واصلة إلينا فأوقفوا القارب في ناحية من البر وتقدم أحد الشدافين إلى الصنجق وباس يده فقال له ما خبرك قال وجدنا جنديًا من المهزومين وهو غرقان بحصانه فلعله من المطلوبين وإلا رميناه البحر فلما رآه عرفه ورجع إلى الصنجق فأمر بإخراجه من القارب ووضع أحد الرجلين في الحديد وقال للثاني أذهب فآت بكامل ما أخذتماه وأنا أطلق لك رفيقك وأمر بسلخ رأسه وغسلوه وكفنوه ودفنوه ناحية شرونة وارتحلوا وساروا إلى مصر‏.‏

وكان القاسمية الذين بمصر فعلوا فعلهم وقتلوا ذا الفقار بك وذلك في أواخر رمضان والبلد في كرب والقاسمية منتظرون قدوم جركس وأبواب المدينة مقفلة وعلى كل باب أمير من الصناجق والوجاقلية داثرون بالطوف في الشوارع وبأيديهم الأسلحة‏.‏

فلما وصل علي بك قطامش إلى الآثار النبوية وأرسل عرفهم بما حصل خرج إليه عثمان بك ودخل صحبته بموكب والرأس أمامهم محمولة في صينية فكان ذلك اليوم يوم سرور عند الفقارية وحزن عظيم عند القاسمية‏.‏

فطلعوا بالرأس إلى القلعة فخلع عليهم الباشا الخلع السمور ونزلوا إلى منازلهم وأتتهم التقادم والهدايا‏:‏ فكان بين موت جركس وذي الفقار خمسة أيام ولم يشعر أحدهما بموت الآخر‏.‏

ثم تتبعوا القاسمية وقتلوا منهم ألوفًا‏.‏

وبهذه الحوادث انقطعت دولة القاسمية و السبب في دمارهم محمد بك جركس المترجم وابن أستاذه محمد بك بن أبي شنب وسوء أفعالهما وخبث نياتهما فإن جركس هذا كان من أظلم خلق الله وأتباعه كذلك وخصوصًا سراجه المعروف بالصيفي وطائفته وكانت أيامه شر الأيام وحصل منهم من أنواع الفساد والإفساد مالا يمكن ضبطه وكان موته في أواخر رمضان سنة 1142‏.‏ ومات

الأمير علي بك المعروف بالهندي

وهو مملوك أحمد بك تابع ايواظ بك الكبير جرجي الجنس تقلد الإمارة والصنجقية بالديار الرومية وذلك أنه لما قلد اسمعيل بك بن ايواظ أستاذ أحمد بك الصنجقية والإمارة على السفر إلى بلاد مورة في سنة 1127 عوضًا عن يوسف بك الجزار جعل عليا هذا كتخداه فلما توجهوا إلى هناك وتلاقوا في مصاف الحرب هجم المصريون على طابور العدو بعد انهزام الروميين فكسروا الطابور وأنهزم العدو وأستشهد أحمد بك أمير العسكر المصري‏.‏

فلما رجعوا إلى اسلامبول ذكروا ذلك وحكوه لرجال الدولة فأنعموا على علي الهندي وأعطوه صنجقية أستاذه أحمد بك وأعطوه مرسومًا بنظر الخاصكية قيد حياته زيادة على ذلك ورجع إلى مصر ولم يزل معدودًا في الأمراء الكبار مدة دولة اسمعيل بك ابن سيد أستاذه حتى قتل اسمعيل بك وأراد قتله محمد بك جركس هو وعلي بك الأرمني المعروف بأبي العدبات فدافع عنهما محمد باشا وقال أن الهندي منظور مولانا السلطان والأرمني أمين العنبر وناصح في بخدمته وضمن عائلتهما الباشا فاستمرا في إمارتهما‏.‏

فلما أستوحش جركس من ذي الفقار وجرد عليه وهو في كشوفية المنوفية هرب وحضر إلى مصر ودخل عند علي بك الهندي المذكور فأخفاه عنده خمسة وستين يومًا ثم أنتقل إلى مكان آخر والمترجم يكتم أمره فيه وجركس وأتباعه يتجسسون ويفحصون عليه ليلًا ونهارًا وعزل جركس محمد باشا وحضر علي باشا ودبروا أمر ظهور ذي الفقار مع عثمان كتخدا الغازدغلي و أحضروا إليهم المترجم وصدروه لذلك وأعانوه بالمال وفتح بيته وجمع إليه الايواظية والخاملين من عشيرتهم وكتموا أمرهم وثاروا ثورة واحدة وأزالوا دولة جركس كما تقدم‏.‏

وظهر أمر ذي الفقار وتقلد علي بك الهندي الدفتر دارية بموجب الشرط المتقدم وحضر محمد بك قطامش من الديار الرومية باستدعاء المصريين بتقليد الدفتر دارية من الدولة فلم يمكنه المترجم منها حتى ضاقت نفسه منه ووجه عزمه إلى ذي الفقار بك و ألح عليه وهو يعده ويمنيه ويأمره بالصبر والتأني إلى أن حضر المملوك الواشي وأخبر علي بك باجتماع مصطفى بك بن ايواظ وأبي العدب ومن معهم وذكر له ما قالوه في حال نشوتهم فلم يتغافل عن ذلك وقال لذلك المملوك‏:‏ أذهب إلى ذي الفقار بك فأخبره‏.‏

فذهب إليه فعرفه صورة الحال فأوقع بهم ما تقدم ذكره من قتلهم بيد الباشا وكان يظن مصافاة ذي الفقار له ويعتقد مراعاة حقه له وبهذه النكتة صار علي بك وحيدًا فطمع فيه العدو واختلى محمد بك قطامش بذي الفقار بك وتذاكر معه أمر الدفتر دارية وعدم نزول علي بك عنها وقال‏:‏ لابد من قتلي إياه فقال له ذو الفقار‏:‏ لا أدخل معك في دمه فإن له في عنقي جميلًا فإن كنت ولابد فاعلًا فأذهب إلى يوسف كتخدا البركاوي ورضوان أغا وعثمان جاويش القازدغلي ودبر معهم ما تريد ولكن أن قتلتم الهندي فلازم من قتل محمد بك الجزار وذي الفقار قانصوه‏.‏

فقال محمد بك قطامش‏:‏ أن ابن الجزار له في عنقي جميل فإنه صان بيتي وحريمي في غيابي كوالده من قبل فقال ذو الفقار بك‏:‏ وأنا كذلك أقمت في الاختفاء بمنزل علي بك وبغيره باطلاعه‏.‏

وأنحط الأمر بينهم على الخيانة والغدر وذهب محمد بك فأجتمع بيوسف البركاوي ومن ذكر وتوافقوا على ذلك‏.‏

فأحضر يوسف كتخدا البركاوي باش سراجينه وكلمه على قتل الهندي ووعده بالإكرام فأخذ معه في صبحها خمسة أنفار ووقف بهم عند باب العزب‏.‏

فلما أقبل علي بك في طائفته أبتكر ذلك السراج مشاجرة مع بعض السراجين وتسابوا فقيل لهم‏:‏ أما تستحوا من الصنجق فأخرج ذلك السراج الطبتجة وضربها في صدر الصنجق فنفذت الرصاصة من كمه وساق علي بك جواده إلى جهة المحجر وسار على باب زويلة وذهب إلى داره بحارة عابدين وحضر إليه طوائفه و أغراضه وأصحابه وامتلأ البيت والشارع وباتوا تلك الليلة وعند الفجر ركب محمد بك قطامش وحضر عند ذي الفقار بك فركب معه إلى جامع السلطان حسن البركاوي وباقي الأغوات فأرسلوا من طرفهم جاسوسًا إلى بيت الهندي فرجع وعرفهم بمن عنده فقال رضوان أغا‏:‏ أنا أذهب إليه وأحضره بحيلة إلى بيت ذي الفقار بك ويأتي أغات مستحفظان فيأخذه إليكم‏.‏

فركب رضوان أغا وأرسلوا إلى ذي الفقار بك قانصوه أتي عندهم أيضًا‏.‏

فلما دخل رضوان أغا على علي بك الهندي وجده شعلة نار فجلس معه وحادثه وخادعه وقال له‏:‏ بلغني أن ذا الفقار بك في بيتك خمسة وستين يومًا وبينك وبينه عهد وميثاق فقم بنا إلى بيته وهو ينظر السراج الذي ضرب عليك الطبنجة وينتقم منه ودع الجماعة ينتظرونا إلى أن نعود إليهم‏.‏

فطلب الحصان فأشار عليه كتخدا الجلفي بعدم الذهاب فلم يسمع وركب في قلة من أتباعه وصحبه مملوكان فقط وذهب مع رضوان أغا فدخل معه بيت ذي الفقار بك وتركه وسار ليأتي إليه بذي الفقار بك وذهب إليهم وعرفهم حصوله في بيت ذي الفقار‏.‏

فأرسلوا إليه أغات مستحفظان في جماعة كثيرة فدخلوا بيت ذي الفقار بك وأخذوا الحصان والكرك من عليه وقدموا له اكديشًا عريانًا فقام عثمان تابع صالح كتخدا عزبان الرزاز وأخذ كليمًا قديمًا فوق الاكديش وميل عليه وقال له‏:‏ هذا جزاء من يقص جناحه بيده‏.‏

وأركبوه عليه ذهبوا به إلى السلطان حسن‏.‏

فلما رآه ذو الفقار بك قال خذوا هذا أيضًا وأشار إلى ذي الفقار قانصوه وكان رجلًا وجيهًا ولحيته بيضاء عظيمة وعليه هيبة ووقار فسحبوهما مشاة على أقدامهما إلى سبيل المؤمن وقطعوا رؤوسهما ووضعوهما في تابوتين وذهبوا بهما إلى بيوتهما فما شعر الجماعة الجالسون في بيت الهندي إلا وهم داخلون عليهم برمته فغسلوه وكفنوه ومشوا في جنازته وذهبوا إلى منازلهم وأنفض الجميع‏.‏

وركب ذو الفقار ومن معه وطلعوا إلى القلعة وتمموا أغراضهم‏.‏

وكان المترجم سليم الصدر وعنده الحلم والعفة وسماحة النفس وتولى كشوفية الغربية والمنوفية وبنى سويف ونظر الخاصكية بأمر سلطاني قيد حياته‏.‏

فلما ترأس محمد بك جركس وابن أستاذه محمد بك ابن أبي شنب الدفتر دارية نزعها منه فورد بذلك مرسوم من الدولة بالتمكين للمترجم بنظر الخاصكية وألبسه محمد باشا قفطانًا بذلك فلم يمتثل محمد بك ابن أبي شنب ولم يمكنه منها فورد بعد ذلك مرسوم كذلك بتمكين علي بك فلبسه علي باشا قفطانًا وبعث إلى محمد بك يطلب منه المفاتيح فوعده بذلك‏.‏

ثم أحضروها له بسعي رجب كتخدا ومحمد جاويش الداودية فأعطاها إلى علي بك فركب بصحبة الأغا المعين ونائب القاضي ومن كل بلك واحد وفتحوا الخاصكية فلم يجدوا فيها شيئا فأخذ حجة بذلك‏.‏

وكان موت المترجم في أوائل سنة 140‏.‏

ومات الأمير ذو الفقار بك قانصوه وهو تابع قانصوه بك الكبير الايواظي القاسمي تقلد الإمارة والصنجقية في سابع شعبان سنة 1128 ولبس عدة مناصب كثيرة مثل كشوفية بني سويف والبحيرة‏.‏

ولما حصلت الحوادث وقتل اسمعيل بك ابن ايواظ أعتكف في بيته ولازم داره ولم يتداخل معهم في شيء من الأمور فلما تعصب ذو الفقار بك ومحمد بك قطامش ومن معهم على قتل علي بك الهندي وإخماد فرقة القاسمية عزم على قتل ذي الفقار قانصوه أيضًا وأرسل إليه وأحضره إلى جامع السلطان حسن وهو لم يخطر بباله أنهم يغدرونه لانجماعه عنهم‏.‏

فلما أحضروا علي بك الهندي على الصورة المتقدمة وسحبوه إلى القتل فقال ذو الفقار بك‏:‏ خذوا هذا أيضًا وأشار إلى المترجم لحزازة قديمة بينهما أو لعلمه بأنه من رؤساء القاسمية وقاعدة من قواعدهم‏.‏

فقال لهم‏:‏ وما ذنبي خذوا عني الأمرية والبلاد ولا تقتلوني ظلمًا‏.‏

فلم يمهلوه ولم يسمعوا لقوله فسحبوه ماشيًا مع الهندي وقتلوهما تحت سبيل المؤمن بالرميلة و كان إنسانًا عظيمًا وجيهًا منور الشبيبة عظيم اللحية رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الأمير محمد بك ابن يوسف بك الجزار تقلد الإمارة والصنجقية في شعبان سنة 1138 بعد واقعة محمد بك جركس وخروجه من مصر‏.‏

ولما قتل علي بك الهندي وذو الفقار بك قانصوه كان هو في كشوفية المنوفية فعينوا له تجريدة وعليها اسمعيل بك قيطاسن وأخذ صحبته عربان نصف سعد وكان قد وصل إليه الخبر فأخذ ما يعز عليه وترك الوطاق وأرتحل إلى جسر سديمة‏.‏

فلحقوه هناك واحتاطوا به وحاربوه وحاربهم وقتل بينهم أجناد وعرب وحمى نفسه إلى الليل‏.‏

ثم أحضر مركبًا فنزل فيها وصحبته مملوكان لا غير وفراش وأخراج وذهب إلى رشيد وترك أربعة وعشرين مملوكًا خلاف المقتولين‏.‏

فأخذوا الهجن وساروا ليلًا متحيرين حتى جاوزوا وطاق اسمعيل بك‏.‏

وتخلف منهم شخص فحضر إلى وطاق اسمعيل بك قيطاس فأخبره فأرتحل كتخداه بطائفة فردوهم وأخذوهم عنده فخدموه إلى أن مات‏.‏

ودخل محمد بك الجزار ثغر رشيد فاختفى في وكالة فنمي خبره إلى حسين جربجي الخشاب السردار فحضر إليه وقبض عليه وسجنه مع أحد المملوكين وكان الثاني غائبًا بالسوق فتغيب ولم يظهر إلا بعد مدة وأرخى لجنة وفتح له دكانًا يبيع ويشتري ولم يعرفه أحد‏.‏

وأرسل حسين جربجي الخبر إلى مصر مع الساعي إلى ذي الفقار بك ويستأذن في أمره بشرط أن يجعلوه صنجقًا ويعطوه كشوفية البحيرة عن سنة 1140 فأجيب إلى ذلك وأرسلوا له فرمانًا بقتل محمد بك الجزار وقتل مملوكه و أن يأتي هو إلى مصر وأعطوه مراده ومطلوبه‏.‏

ومع الفرمان أغا معين من طرف الباشا فقتلوا محمد بك ومعه مملوكه وسلخوا رؤوسهما‏.‏

ورجع بهما الأغا المعين إلى مصر‏.‏

ومات الأمير محمد بك ابن إبراهيم بك أبي شنب القاسمي تقلد الإمارة والصنجقية في حياة والده في سنة 1127 ولما توفي والده أنتقل إلى بيته الذي بالقرب من جامع اينال بالقرب من قناطر السباع وتولى عدة كشوفيات بالإقليم في أيام المرحوم اسمعيل بك ابن ايواظ‏.‏

وكان يحقده ويحسده ويكرهه باطنًا هو ومماليك أبيه وخصوصًا محمد بك جركس‏.‏

وأرادوا اغتياله وأوقفوا له في طريقه من يقتله ونجاه الله منهم فظفر بهم وأخرج جركس منفيًا إلى قبرص كما تقدم وسافر محمد بك المترجم بالخزينة فأغرى به رجال الدولة وأوشى في حقه وحصل ما تقدم ذكره وأيده الله عليهم أيضًا في تلك المرة‏.‏

ولما قتل اسمعيل بك واستقل محمد جركس فتقلد المترجم دفتر دار وصار أميرًا كبيرًا يشار إليه ويرجع إليه في جميع الأمور ولما عزلوا محمد باشا النشنجي تقلد المترجم أيضًا قائمقام وعمل الدواوين في بيته ولم يطلع إلى القلعة كعادة الوكلاء والنواب وقلد المناصب والأمريات في منزله وصار كأنه سلطان‏.‏

وكان على نسق مملوك أبيه محمد جركس في العسف وسوء التدبير ولا يخرج أحدهما عن مراد الآخر‏.‏

ولم يزل على ذلك حتى وقعت حادثة ظهور ذي الفقار وخرج محمد بك جركس ومن معه هاربين واختفى المترجم‏.‏

ثم أن جماعة من العامة وجدوه ميتًا بالجامع الأزهر‏.‏

ومات أيضًا عمر بك أمير الحاج تابع عبد الرحمن بك جرجا المتقدم ذكره انطوى إلى محمد بك جركس وأمره وجعله أمير الحاج في أيامه‏.‏

وكان غنيًا وصاحب فائظ كثير ومات في واقعة جركس‏.‏

ومات رضوان بك وهو من مماليك محمد بك جركس ويقال له رضوان الخازندار قلده الصنجقية وأخذ نظر الخاصكية من علي بك الهندي وأعطاها له‏.‏

وتنافس بسببها مع جركس وانجمع كل منهما عن الآخر مدة طويلة‏.‏

ولما وقع لجركس ما وقع اختفى رضوان بك المذكور عند يوسف بك زوج هانم فأخبر عنه وأخذه سليمان أغا وقتله فسمي لذلك يوسف الخائن‏.‏

ومات الأمير علي بك المعروف بالأرمني ويعرف أيضًا بالشامي وهو من أتباع ابن ايواظ وكان أمين العنبر ويعرف أيضًا بأبي العدب تقلد الصنجقية في عشري شهر القعدة سنة 1135 ولما أراد اسمعيل بك تأميره لم يجدوا له أمريه في المحلول‏.‏

فأنعم عليه الباشا بصنجقية كتخداه رعاية لخاطر ابن ايواظ‏.‏

ومات أيضًا مصطفى بك ابن ايواظ وهو أخو اسمعيل بك تقلد الإمارة والصنجقية أيام ظهور ذي الفقار كما تقدم وصار من الأمراء القاسمية المعدودين فلما أحضر الباشا علي بك الأرمني وقتله وأمر بالقبض على باقي الجماعة فقبضوا على مصطفى بك المذكور وأحضروه على حمار وصحبته المقدم تابعه فقتلوهما تحت ديوان قايتباي بعد قتل علي بك بيومين‏.‏

ومات الأمير صاري علي بك ويقال له علي بك الأصغر لأن صاري بمعنى الأصغر وهو من أتباع ايواظ بك تقلد الإمارة والصنجقية غاية شعبان سنة 1135 ولبس كشوفية الغربية ولما قتل ابن أستاذه اسمعيل بك إستعفى من الصنجقية وعمل جربجيًا بباب العزب واعتكف ببيته ولم يتداخل في أمر من الأمور ثم أعيد وسافرا أميرًا بالعسكر إلى الروم وتوفي بدار السلطنة سنة 141‏.‏

ومات الأمير أحمد كتخدا عزبان المعروف بأمين البحرين وكان من الأعيان المشهورين نافذ الكلمة وافر الحرمة‏.‏

وكان بينه وبين الأمير اسمعيل بك ابن ايواظ وحشة وكان يكرهه فلما ظهر اسمعيل بك خمدت كلمة المترجم واستمر في خموله ثم أنضم إلى اسمعيل بك وتحابب له وصار من أكبر أصدقائه‏.‏

وعمل باش أوده باشه ثم تولى الكتخدائية وعمل أمين البحرين ثالث مرة‏.‏

وسمعت كلمته ونمي صيته فلما قتل اسمعيل بك رجع إلى خموله‏.‏

ثم نفي إلى أبي قير بمعرفة اختيارية الباب وتعصب إبراهيم كتخدا أفندي عليه وكان إذ ذاك ضعيف المزاج فأرسلوا له الفرمان صحبة كمشك جاويش ومعه نحو المائتين نفر فدخلوا عليه منزله بدرب السادات مطل على بركة الفيل على حين غفلة وأركبوه من ساعته وهم حوله إلى بولاق وأرسلوه إلى أبي قير‏.‏

ثم أرسلوا له فرمانًا بالسفر إلى سفر العجم مع صاري علي وجعلوه سر دار العزب ومع الفرمان القفطان وفيه الأمر له بأن يجهز نفسه ويسافر من أبي قير إلى الإسكندرية‏.‏

وتوفي في سنة 141‏.‏

ومات الأمير علي بك قاسم وهو ابن أخي قاسم بك الصغير ويلقب بالملفق ولما مات قاسم بك بالبهنسا كما تقدم قلد محمد بك جركس عليا هذا الصنجقية عوضًا عن قاسم بك ونزل في منصبه وأعطاه فائظه‏.‏

ولم يزل أميرًا حتى خرج محمد بك جركس من مصر هاربًا وخرج معه من خرج واختفى المترجم فيمن اختفى ببيت امرأة دلالة في كوم الشيخ سلامة ومات به‏.‏

ومات الأمير رجب كتخدا سليمان الأقواسي و ذلك أنه لما انقضى أمر جركس قلدوا رجب كتخدا سر دار جداوي وجعلوا الأقواسي يمق وجهزا أمورهما وأحمالهما وخرجا إلى البركة ليذهبا إلى السويس فخرج إليهما صنجق من الأمراء وصحبته جاويش من الباب فأتياهما آخر الليل وقتلاهما وقطعا رؤوسهما وضبطا ما وجداه من متاعهما وسلماه لبيت المال بالباب‏.‏

ومات الأمير أحمد أفندي كاتب الروزنامة ابن محمد أفندي التذكرجي خنقه محمد باشا النشنجي في واقعة جركس وظهور ذي الفقار بك ولما خرج جركس من مصر هاربًا خرج معه إلى وردان وكان جسيمًا فانقطع مع بعض المنقطعين وأخذت ثيابهم العرب وقبضوا عليه وفيهم أحمد أفندي الروزنامجي وأتوا بهم إلى مصطفى تابع رضوان أغا وكان في الطرانة قائمقام‏.‏

فأخذهم وقتل منهم أن أناسًا وأرسل رؤوسهم وأرسل أحمد أفندي بالحياة فحضروا به إلى بيت الدفتر دار وهو راكب على ظهر حمار سوقي فأرسله علي بك الهندي الدفتر دار إلى ذي الفقار لم يلتفت إليه ولم يخاطبه وأرسله إلى الباشا فمثل بين يديه وكان يوم ديوانه وذلك بعد الواقعة بخمسة أيام فأرسله الباشا إلى كتخداه فبات عنده تلك الليلة ثم أرسله إلى كتخدا مستخفظان فحبسه بالقلعة وخنقوه تلك الليلة وأنزلوه إلى بيته فغسلوه وكفنوه ودفنوه‏.‏

ومات محمد جربجي المرابي وكان ذا مال عريض وضبط موجوده ألقي كيس ولم يعقب أولادًا إلا أولاد سيده وزوجته بنت أستاذه وأوصى لشخص يقال له عمر أغا بثلاثين كيسًا ولآخر بالفي دينار ولآخر بألف ولكل مملوك من مماليكه ألف دينار ولمجاوري الأزهر حمسمائة دينار‏.‏

توفي في عشرين رمضان سنة 1138‏.‏

ومات المعلم داود صاحب عيار خنقه محمد باشا النشجي بعد خروج محمد بك جركس فقبضوا عليه وحبسوه بالعرقانة وخنقوه وهو الذي ينسب إليه الجدد الداودية‏.‏

وفي سنة 1137 الماضية حضر من الديار الرومية أمين ضربخانة وصاحب عيار وصناع دار الضرب وصحبتهم سكة الفندقلي والنصف فندقلي وأن يكون عياره ثلاثة وعشرين قيراطًا وصرف الفندقلي مائة وأربعة وثلاثون نصفًا والنصف سبعة وستون فاحضر الباشا المعلم داود وطلب منه سكة الجنزرلي وأعطاه سكة الفندقلي وختم على سكة الجنزرلي في كيس وأودعها في خزانة الديوان‏.‏

وعندما سمع داود بهذه الأخبار قبل حضورهم إلأى مصر تدارك أمره وفرق علي الباشا وكتخدا الباشا ومحمد بك جركس والمتكلمين عشرين ألف دينار‏.‏

فلما قرئ المرسوم بالديوان قالوا سمعنا وأطعنا في أمر السكة وأما صاحب عيار فإنه لا يتغير فقال الباشا‏:‏ كذلك لكن يكون الأغا ناظرًا على الضربخانة لأجل أجراء المرسوم وتم الأمر على ذلك‏.‏

فلما عزل الباشا أجتمع الموردون للذهب عند المعلم داود وكلموه في إخراج سكة الجنزرلي لأنهم هابوا سكة الفندقلي وامتنعوا من جلب الذهب‏.‏

وتعطل الشغل فرشا قائمقام وأخرج له سكة الجنزرلي وسلمها لداود فأخذها إلى داره بالجيزة وعمل له فرنًا للذهب وأحضر الصناع والذهب من التجار وضرب في ستين يومًا وليلة تسعمائة وثمانين ألف جنزرلي ونقص عياره قيراطًا ودفع المصلحة وسدد ما عليه من ثمن الذهب وقضى ديونه وكشوفية دار الضرب‏.‏

فصارت الصيارف تتوقف فيه ويقولون ضرب الجيزة يعجز خمسة أنصاف فضة فنقمها محمد باشا على داود فلما عاد إلى المنصب في واقعة جركس وذي الفقار قبض عليه وقتله وذلك في أواخر جمادى الآخرة سنة 1138‏.‏

ومات الأمير أحمد بك الأعسر وهو من مماليك إبراهيم بك أبي شنب القاسمي تقلد الإمارة والصنجقية في عشرين شهر شوال 1123 وتلبس بعده مناصب مثل جرجا والبحيرة والدفتر دارية وعزل عنها وهو خشداش جركس وعضده وخرج معه من مصر ولما ذهب جركس إلى بلاد الإفرنج تخلف عنه وأقام عند العرب ونزل عند ابن غازي بناحية درنة‏.‏

فلما وصل الحاج المغربي أرسل معهم ثلاثة من مماليكه وأرسل معهم مكاتيب ومفاتيح إلى ولد وذكر له أنه يتوجه إلى رجل سماه له‏.‏

فلما وصلت السفينة التي نزلوا بها أعلم القبطان سردار مستحفظان فقبض عليهم وأرسل بخبرهم إلى باب مستحفظان فأخبروا الباشا فأحضروا إلى الشرطة وأمره بإحضار ابن أحمد بك الأعسر فأحضره فأمر بحبسه بالعرقانة فحبسوه وعاقبوه فأقر بأن المال عند ابن درويش المزين وهو كان مزين إبراهيم بك أبي شنب فأرسلوا إليه وهجموا عليه ليلًا وأخذوا كل ما في داره ووجدوا عنده ثلاثة صناديق للأعسر ثم نفوا بعد ذلك ابن أحمد بك إلى دمياط ولم يزل أحمد بك ينتقل مرة عند عرب درنة ومرة عند الهوارة بالصعيد وكذلك باقي جماعة جركس وخشداشينه حتى رجع إليهم جركس وخرجت إليهم التجاريد وقتل في الحرب سنة 1143‏.‏

ومات الأمير مصطفى بك الدمياطي قلده الصنجقية ذو الفقار بك بعد هروب محمد بك جركس وولاه جرجا وكان يقال له مصطفى الهندي فلما نزل إلى جرجا وكان بها سليمان بك القاسمي عدى سليمان بك إلى البر الشرقي تجاهه وصار كل يوم بعمل نشانا ويضرب الجرة فلم يتجاسر مصطفى بك على التعدية وكان غالب أتباع مصطفى بك وطوائفه قاسمية من أتباع المقتولين فراسلهم سليمان بك وراسلوه سرًا ثم أتفقوا على قتل مصطفى بك فقتلوه وغدروه ليلًا وأخذوا خزانته وما أمكنهم من متاعه وعدوا إلى سليمان بك وأنضموا إليه‏.‏

فلما أصبح مماليكه وخاصته وجدوا سيدهم مقتولًا فغسلوه وكفنوه ودفنوه‏.‏

وكتب كتخداه بذلك إلى ذي الفقار بك فلما وصل إليه الجواب أرسل إليه بالحضور بمخلفاته ومماليكه المشتروات ففعل ذلك وقلد عوضه حسن كاشف من أتباعه الصنجقية وولاية جرجا فأرسل قائمقامه ثم جهز أموره ونزل إلى منصبه‏.‏

ومات سليمان بك القاسمي المذكور آنفًا وذلك أيه لما رجع محمد بك جركس وسار إلى ناحية القطيعة ثم أنتقل إلى جهة الغرب قبلي جرجا فأرسل إلى المترجم يطلبه للحضور إليه بمن معه من القاسمية فعدى إليه بمن ذكر وصحبته قرا مصطفى أوده باشا فقابلوه وأرتحل معهم إلى بحري فبرز إليهم حسن بك وقتل كما ذكر وأستولى جركس على صيوانه ومطابخه وعازقه وأرتحل جركس ومن معه إلى بحري وخرجت إليهم التجاريد وأميرها عثمان بك وعلي بك قطامش فتلاقوا معهم بوادي البهنسا ووقعت بينهم الحروب‏.‏

وكان مع جركس طوائف الزيدية وخلافهم وأنجلت الحرب عن هزيمة المصريين وأستولى جركس ومن معه على خيامهم ونزل جركس في وطاق عثمان بك وسليمان بك المترجم في وطاق علي بك ورجع المنهزمون إلى مصر وزحف جركس ومن معه إلى ناحية دهشور وخرجت لهم التجريدة ونصبوا تجاههم فأصبح سليمان بك وتهيأ للركوب والمحاربة فمنعه جركس وقال له‏:‏ هذا اليوم ليس لنا فيه حظ‏.‏

فقال له‏:‏ كيف أصب على القعاد والراية البيضاء أمامي ثم ركب وهجم على التجريدة وقتل أناسًا كثيرا وشتتهم وأنحازوا خلف المتاريس وردوه بالمدافع وبرزوا إليه مرتين وهزمهم وفي الثالثة أصيب جواده برصاصة في فخذه فسقط إلى الأرض فتحلقت به طوائفه ومماليكه وذهب بعض الخدم ليأتي إليه بمركوب آخر وتابع الأخصام الرمي حتى تفرق من حوله ولم يبق معه سوى مملوك وآخر من الطوائف فأصيب هو الطائفة فوقعا‏.‏

فهجم عليه سالم بن حبيب وأخذوهما إلى الصيوان وقطعوا دماغهما ودفنوهما عند الشيمي فلما وقع لسليمان بك ما وقع أرتحل جركس وسار نحو الجبل‏.‏

ومات قرا مصطفى جاويش وكان أوده باشا فلبسه جركس الضلمة في أيام رجب كتخدا مستحفظان سابقًا ثم عمل كجك جاويش ونزل يجمع عرائد الباب من الوجه القبلي فوقع بمصر ما وقع من حروب جركس وقتل رجب كتخدا والاقواسى فالتجأ إلى سليمان بك المذكور وعدى صحبه الشرق فلما وقعت الحروب وقتل سليمان بك أجتمع إليه الطوائف القرابة ونزل بهم المراكب وساروا إلى قبلي فتبعه عثمان جاويش القازدغلي ليلًا ونهارًا حتى لحقه وهو راسي تحت أبي جرج وكانت الأجناد الذين بصحبته طلعوا جهة الشرق قرابة من عدم القومانية فقبضوا على مصطفى جاويش المذكور ومعه ثلاثة من الغزنهب عثمان جاويش ما وجدوه في المراكب وحضر إلى مصر فقطعوا رأس مصطفى جاويش المذكور ومن معه‏.‏

ومات الأمير ذو الفقار بك الفقاري وهو مملوك عمر أغا من أتباع بلغية قتل سيده المذكور بعد انفصال الفتنة الكبيرة‏.‏

ولما طلع الأمير اسمعيل بك أثر ذلك إلى باب العزب وقتل حسن كتخدا برمق سرو أمر بقتل عمر أغا المذكور فقتلوه عند باب القلعة وأمر بقتل المترجم أيضًا وكان إذ ذاك خازنداره فالتجأ إلى علي خازندار حسن كتخدا الخلفي وكان من بلده فحماه وخاصم أستاذه من أجله وخلص له نصف قمن العروس وكانت لاستاذه فأخرج له تقسيطها وأخذ النصف الثاني اسمعيل بك من المحلول وتصرف في كامل البلد ومات حسن كتخدا الجلفي فانطوى المترجم إلى محمد بك جركس وترجاه كي استخلاص فائظه من اسمعيل بك وكلمه بسببه مرارًا فلم ينجح‏.‏

وكلماخاطبه في أمره قطب وجهه وقال له‏:‏ أما يكفيك أني تاركه حياء لأجل خاطرك فإن أردت قبول شفاعتك فيه أطرد الصيفي من بيتك وأرسل إلي بعد ذلك المذكور يحاسبني وأعطيه الذي له‏.‏

فيسكت جركس وضاق الحال بالمترجم من الفشل والأعدام فاستأذن جركس في غدر ابن ايواظ فقال أفعل ما تريد فوقف له مع نظرائه بالرميلة وضربوا عليه الرصاص فلم يصيبوه ووقع بسبب ذلك ما وقع لجركس وأخرج من مصر ونفي إلى قبرص كما تقدم وتغيب المترجم فلم يظهر حتى رجع جركس وظهر أمره ثانيا وعاد إلى طلب فائظه والألحاح على جركس بذلك وهو يسوفه ويعده ويمنيه ويعتذر له إلى أن ضاق خناقه وعاد إلى حالة الغدر الأولى وفعل ما تقدم من المخاطرة بنفسه وقتله لابن ايواظ بمجلس كتخدا الباشا وكان إذ ذاك من آحاد الأجناد ولم يتقدم له إمارة ولا منصب فعندها قلده الصنجقية وكشوفية المنوفية وأخذ من فائظ اسمعيل بك عشرين كيسًا وأنضم إليه الكثير من فرقة الفقارية وحقد عليه القاسمية وحضر رجب كتخدا ومحمد جاويش الداودية عند كركس وتذاكروا أمر ذي الفقار وأنهم نظروه وهو خارج بالموكب إلى كشوفية المنوفية ومعه عصبة الفقارية وامراؤهم راكبين في موكبه مثل مصطفى بك بلغيه ومحمد بك أمير الحاج واسمعيل بك الدالي وقيطاس بك الأعور واسمعيل بك ابن سيده ومصطفى بك قزلار وغيرهم وقالا له أن غفلنا عن هذا الحال قتلتنا الفقارية فحركا فيه حمية الجاهلية وقتلا أصلان وقبلان بيد الصيفي وطلب من محمد باشا فرمانا بالتجريد على ذي الفقار فامتنع الباشا من ذلك وقال‏:‏ رجل خاطر بنفسه وفعل ما فعله باطلاعكم فكيف أعطيكم فرمانًا بقتله‏.‏

فتحامل جركس على الباشا وعزله وقلد محمد بك ابن أستاذه قائمقام وأخذ منه فرمانًا وجهز التجريدة إلى ذي الفقار وكتب بذلك مصطفى بك بلغيه إلى ذي الفقار يخبره بما حصل ويأمره بالإختفاء ففعل ذلك وحضر إلى مصر واختفى أحمد أوده باشا المطر باز أياما وعند علي بك الهندي زيادة عن شهرين وحصل له ما تقدم ذكره من حضور علي باشا والقبطان وقيام الايواظية والفقارية وظهور ذي الفقار ووقوع الحرب بينهم وبين محمد بك جركس وخروجه من مصر وذهابه إلى بلاد الإفرنج ورجوعه وتجهيز ذي الفقار بك التجاريد إليه وهزمها وزحفه على مصر‏.‏

وقد كان أوقع بالايواظية في غيبة جركس ما أوقعه من القتل والتشريد ما ذكرناه فلما قرب جركس من أرض مصر راسل القاسمية سرًا ومنهم سليمان أغا أبو دفية وهم إذ ذاك خاملون ومتغيبون ومختفون وذو الفقار بك يفحص عنهم ويأمر الوالي والأغا والأوده باشة البوابه بالتجسس والتفتيش على كل من كان من القاسمية وخصوصا يعسوبهم سليمان آغا المذكور‏.‏

وقرب ركات جركس من مصر بعد ما كسر التجاريد وعدى إلى جهة الشرق وأشتد الكرب بذي الفقار وأجتهد في تحصين المدينة وأجلس أمراءه وصناجقه على الأبواب وفي النواحي والجهات ولازم أرباب الدرك والمقادم الطواف والحرس وخصوصًا بالليل وفتائل البندق مشعلة بالنار في الأزقة والشوارع والقاسمية منتظرون الفرصة والوثوب من داخل البلدة‏.‏

فلما راسل جركس سليمان أغا أبادفيه في الوثوب وأعمال الحيلة على قتل ذي الفقار بك بأي وجه أمكن توافقوا فيما بينهم على وقت معين وأجتمع أبو دفية وخليل أغا تابع محمد بك قطامش وجمعوا إليهم ثلاثين أوده باشا من القاسمية وأعطاهم إلفا ومائتي جنززلي وأن يضم كل واحد منهم إليه عشرة أنفار ويقفوا متفرقين جهة باب الخرق وجامع الحين وقت آذان العشاء وجمع إليه خليل أغا نحو سبعين نفرًا من القاسمية ولبسوا كملابس أتباع أوده باشه البوابه ومن داخل ثيابهم الأسلحة وبأيديهم النبابيت‏.‏

ولبس خليل أغا ثيئة الأوده باشا وزيه وكان شبيهًا به في الصورة وأخذوا معهم سليمان أغا أبادفيه وهو مغطى الرأس وبيده القرابينة ودخلوا إلى بيت ذي الفقار بك في كبكبة وهو يقولون قبضنا على أبي دفية وكان المترجم جالسًا بالمقعد ومعه الحاج قاسم الشرايبي وآخرون وهو مشمر ذراعيه يريد الوضوء لصلاة العشاء فلما وقفوا بين يديه وقف على أقدامه وقال أين هو فقال خليل أغا ها هو وكشفوا رأسه فأراد أن يكلمه ويوبخه فأطلق أبو دفية القرابينة في بطن الصنجق وأطلق باقي الجماعة ما معهم من الطبنجات فانعقدت الدخنة بالمقعد فنط قاسم الشرايبي ومن معه من المقعد إلى الحوش ونزلوا على الفور فوجدوا سراجه المسمى بالشتوي فقتلوه في سلالم المقعد وعلي بك المعروف بالوزير قتلوه أيضًا وهو داخل يظنوه مصطفى بك بلغيه وإذا بعلي الخازندار يقول بأعلى صوته الصنجق طيب هاتوا السلاح وسمعه الجماعة فكانت هذه الكلمة سببا لظهور الفقارية وانقراض القاسمية إلى آخر الدهر ولم يقم لهم بعدها قائم أبدًا فأنهم لما سمعوا قول الخازندار ذلك اعتقدوا صحته وتحققوا فساد طبختهم وخرجوا على وجوههم وتفرق جمعهم فذهب أبو دفية ويوسف بك الشرايبي وخليل أغا فاختفوا بمكان يوسف بك زوج هانم بنت ايواظ الذي هو مختفي فيه وأربعة من أعيانهم اختفوا في دار عند مطبخ الأزهر وأما الجماعة المجتمعون بباب الخرق في أنتظار آذان العشاء فما يشعرون إلا بالكرشة في الناس فتفرقوا واختفوا فلو قدر الله أنه أجتمع الواصلون والمجتمعون بباب الخرق وهم محرمون في صلاة التراويح لتم غرضهم وظهر شأن القاسمية ولكن لم يرد الله بذلك‏.‏

هم أن علي الخازندار أرسل إلى مصطفى بك بلغيه فحضر إليه بجمعه وإذا برجل سراج من العصبة المتقدمة حضر إليهم وعرفهم بصورة الواقع ليأخذ بذلك وجاهة عندهم فحبسوه إلى طلوع النهار فحضر عثمان جاويش القزدغلي ويوسف كتخدا البركاوي وعلي كتخدا الحلفي ومحمد بك قطامش وخليل أفندي جراكسة فغروا على الخازندار فقال علي الخازندار لمحمد بك قطامش‏:‏ دم الصنجق عندك فإن القاتل لستاذنا مملوكك خليل أغا فقال‏:‏ أنا طارده من يوم عزل من أغاوية العزب ووقت ما تجدوه إقتلوه ثم أحضروا ذلك السراج بين أيديهم وسأله عثمان جاويش فعرفه أنه ينكجرلاي فأرسلوه إلى الباب ليقرروه على أسماء المجتمعين ثم غسلوا الصنجق وكفنوه وصلوا عليه في مصلى المؤمنين ودفنوه بالقرافة وطلعوا إلى القلعة وقلدوه الصنجقية وقلدوا أيضًا صالح كاشف بابع محمد بك قطامش وعزلوا محمد بك من إمارة الحج باستعفائه لعدم قدرته‏.‏

وأرسلوا إلى خشداشة عثمان بك فحضر من التجريدة وسكن ببيت أستاذه وسكن علي بك في بيت محمد أغا تابع اسمعيل باشا في الشيخ الظلام وتزوج بزوجة سيده بعد ذلك وقطعوا فرمانًا في اليوم الذي تقلد فيه علي بك الصنجقية بقتل القاسمية ومات محمد بك جركس بعد موت ذي الفقار كما ذكر وحضر برأسه علي بك قطامش وذلك بعد موت ذي الفقار بك بخمسة أيام‏.‏

وأنقضت دولة القاسمية وتتبعهم الفقارية بالقتل حتى أفنوهم وكان موت ذي الفقار وجركس في أواخر شهر رمضان سنة 1142 وكان الأمير ذو الفقار بك أميرًا جليلًا شجاعًا بطلًا مهيبًا كريم الأخلاق مع قلة أيراده وعدم ظلمه وكان يرسل اليلكات والكساوي في شهر رمضان لجميع الأمراء والأعيان والوجاقات ويرسل لأهل العلم بالأزهر ستين كسوة ودراهم تفرق على الفقراء المجاورين بالأزهر ومن أنشائه الجنينة والحوض ببركة الحاج والوكالة التي برأس الجودرية ولم يتمها‏.‏ ومات

الأمير يوسف بك زوج هانم بنت ايواظ بك

وتزوج بها بعد موت عبد الله بك واصل يوسف بك من مماليك ايوائ بك وقلده الإمارة والصنجقية اسمعيل بك وعرف بالخائن لآنه لما هرب عنده رضوان بك خازندار جركس أخبر عنه وخفر ذمة نفسه وسلمه إليهم فقتلوه فسماه أهل مصر الخائن‏.‏

ولماحصل ما تقدم ذكره من قصة أجتماعهم وحديثهم في حال نشوتهم بمنزل علي بك الأرمني ونقل عنهم المملوك مجلسهم إلى علي بك الهندي وأرسله علي بك إلى الأمير ذي الفقار والباشا فنقل لهما ذلك وقتل الباشا علي بك الأرمني ومصطفى بك ابن ايواظ فاختفى المترجم وباقي الجماعة ولم يزل في اختفائه إلى أن حضر رجل عطار إلى أغات مستحفظان وأخبره عن رجل من الفقهاء يأتي إلى الجزار بجواره ويأخذ منه كل يوم زيادة عن عشرة أرطال من اللحم الضاني وكان من عادته أن لا يأخذ سوى رطلين في يومين ولا بد لذلك من سبب بأن يكون عنده أناس من المطلوبين فركب الأغا والوالي إلى ذلك البيت فوجدوا به امرأتين عجوزتين وعندهم حلل وقصاع ومعالق وليس بالبيت فراش ولا متاع فطلعوا إلى أعلى المكان نزلوا أسفله فلم يجدوا شيئا فنزل الأغا وهو يشتم العطار وأراد ضربه وإذا بشخص من الأجناد أراد أن يزيل ضرورة في ناحية فلاح له رأس إنسان في مكان متسفل مظلم فلما رأى ذلك الجندي خبأ رأسه وانزوى إلى داخل فأخبر الأغا فأوقدوا الطلق وإذا بشخص صاعد من المحل وبيده سيف مسلول وهو يقول طريق فتكاثروا عليه وقتلوه ونزلوا بالطلق إلى اسفل فوجدوا يوسف بك المترجم ومعه شخصان فقبضوا عليهم وأنعم الأغا على العطار وأخذهم إلى الباشا فأرسلهم إلى عثمان بك ذي الفقار فضربوا رقابهم تحت المقعد‏.‏

ومات كل من الأمير محمد بك جركس الصغير وأخ محمد بك الكبير وذلك أنه لما أنقضى أمر محمد بك جركس الكبير اختفى المذكوران ودخلا إلى مصر متنكرين واختفيا في بيت رجل من أتباعهما بخطة القبر الطويل ومعهما مملوكان‏.‏

فأخلى لهم البيت وباع الخيل وشال العدد وأتى إلى أغات الينكجرية فأخبره فأرسل الأغا والوالي والأوده باشا وحضروا إليهم فرموا عليهم بالرصاص من الجانبين وكامنوهم إلى الليل وحضر علي بك مصطفى بك بلغيه فنقب عليهم مصطفى بك من بيت إلى بيت حتى وصل إليهم وأوقدا نارًا من أسفل المكان الذي هم فيه فأحسوا بذلك ففر أحد المملوكين هرب وقتل الثاني برصاصة وقبضوا على الاثنين وقتلوهما ودفنوهما‏.‏

ومات الأمير خليل أغا تابع محمد بك قطامش أغات العزب سابقًا وهو الذي أنتدب العمل المتصف المتقدم ذكره وتزيا بزي أوده باشا البوابة ودخل إلى بيت الأمير ذي الفقار وقت آذان العشاء ومعه سليمان أبو دفية وقتلوا ذا الفقار بك كما تقدم‏.‏

ثم كانت الدائرة عليهم واختفوا ثم وقعوا بخازنداره بالخليج فقبضوا عليه وسجنوه وقرروه فأقر على سيده وغيره فقبضوا على خليل أغا من المكان الذي كان مختفيًا فيهوكان بصحبته يوسف بك الشرايبي وسليمان أغا أبو دفية‏.‏

ففي ذلك الوقت قال أبو دفية‏:‏ قوموا بنا من هذا المكان فإن قلبي يختلج‏.‏

فقال يوسف الشرايبي‏:‏ وأنا كذلك‏.‏

فتقنعا وخرجا وأستمر خليل أغا في محله حتى وصلوا إليه في ذلك اليوم كما ذكر وأخذه الأغا إلى بيت علي بك ذي الفقار فأرسله إلى الباشاوأرسله الباشا إلى عثمان بك فرمى دماغه تحت المقعد وكذلك عثمان أغا الرزاز وغيره‏.‏

وأما أبو دفية فانه لم تقنع هو ويوسف الشرايبي وخرجا وتفرقا فذهب أبو دفية إلى بيت مقدمه ولبس زي بعض القواسة وركب فرسه ووضع له أوراقًا في عمامته وخرج في وقت الفجر إلى جهة الشرقية وذهب مع القافلة إلى عزة ثم إلى الشام وسافر إلى اسلامبول‏.‏

وخرج في السفر وذهب إلى عند التترخان فأعطاه منصبًا وعمله مرزةوتزوج بقونية ولم يزل هناك حتى مات‏.‏

وأما يوسف بك الشايبي فذهب إلى دار بالأربكية وخفى أمره ومات بعد معد ولم يعلم له خبر‏.‏

ومات عبد الغفار أغا بن حسن أفندي وقد تقدم أنه تقلد في أيام ابن ايواظ أغاوية المتفرقة بموجب مرسوم ورد من الدولة بذلك وسببه أن حسن أفندي والده كان له يد وشهرة في رجال الدولة وكان من يأتي منهم إلى مصر يترددون إليه في منزله ويهادونه ويهاديهم فاتفق أنه أهدى إلى السلطنة عبدا طواشيًا فترقى هناك وأرسل إلى ابن سيده مرسومًا بأغاوية المتفرقة وذلك في سنة 1135 بعد موت والده وألبسه الباشا قفطانًا بذلك وعند ذلك من النوادر التي لم يسبق نظيرها ووقع بذلك فتنة في البلكات تقدم الألماع يذكر بعضها والتجأ المترجم إلى ابن ايواظ وهرب من الباب ولحديث قتله نبأ غريب وذلك أنه في أثناء تتبع القاسمية وقتلهم ورد مكتوب من كتخدا الوزير إلى عبد الله باشا الكبورلي بالوصية على عبد الغفار أغا فقال الباشا لكتخدا الجاويشية‏:‏ عندكم إنسان يسمى عبد الغفار أغا قال له‏:‏ نعم كان أغات متفرقة ثم عمل أغات عزب وعزل‏.‏

فقال‏:‏ أرسل إليه بالحضور‏.‏

فخرج كتخدا الجاويشية وأخبر محمد بك قطامش الدفتر دار فقال‏:‏ أرسل إليه وأطلبه للحضور‏.‏

وطلب الوالي فقال له‏:‏ إذا أنقضى أمر الديوان فأنزل إلى باب العزب وأجلس هناك وأنتظر عبد الغفار أغا وهو نازل من عند الباشا فاركب وسر خلفه حتى يدخل إلى بيته فاعبر عليه وأقطع رأسه‏.‏

فلما أحضر المترج صحبة الجاويش ودخل إلى الباشا وصحبته كتخدا الجاويشية وعرف الباشا عنه وتركه وخرج وانقضى الديوان وحضر الغداء فأشار إلى عبد الغفار أغا فجلس وأكل صحبته وحادثه الباشا فقال له‏:‏ أنت لك صاحب في الدولة قال‏:‏ نعم كان لأبي صديق من أغوات عابدي باشا وكان شهر حوالة وبلغني أنه الأن كتخدا الوزير وكان أشترى جارية ووضعها عندنا في مكان فكان ينزل ويبيت عندنا ولما عزل عابدي باشا أخذها وسافر فهو إلى الآن يودنا ويراسلنا بالسلام‏.‏

فقال له الباشا‏:‏ أنه أرسل يوصينا علييك فانظر ما تريد من الحوايج أو المناصب‏.‏

فقال‏:‏ لا أريد شيئًا ويكفينى نظركم ودعاؤكم‏.‏

وأخذ خاطر الباشا ونزل إلى داره فلما مر بباب العزب ركب الوالي ومشى في أثره ولم يزل سائرًا خلفه حتى دخل إلى البيت ونزل من على الحصان بسلم الركوبة وكان بيته بالناصرية فعند ذلك قبضوا عليه وأخذوا عمامته وفروته وثيابه وسحبوه إلى الإسطبل فقطعوا رأسه وأخذها الوالي مع الحصان وأتى بهما إلى بيت محمد بك قطامش فصرخت والدته وزوجته وجواريه وتقنعن وطلعن إلى القلعة صارخات فقال الباشا‏:‏ ما خبر هذا الحريم فقالت والدته‏:‏ حيث أن الباشا أراد قتله كان يفعل به ذلك بعيدا عنا فتعجب الباشا وقام من مجلسه وخرج إلى ديوان قايتباي واستخبرهن فأخبرته بما حصل فاغتم غمًا شديدًا وطلب الوالي وأمر برجوع الحوايج والرأس وأعطاهن كفنا ودراهم وأعطى والدته فرمانًا بكامل ما كان تحت تصرفه من غير حلوان ونزلت الأغوات والنساء فأخذوا الرأس والثياب وغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه‏.‏

ولما طلع محمد بك قطامش إلى الديوان قال له الباشا‏:‏ تقتلون الأغوات في بيوتهم من غير فرمان‏.‏

فقال‏:‏ لم نقتله إلا بفرمان فإنه كان من جملة الثلثمائة المتعصبين على قتل اخينا ذي الفقاربك وعزل الباشا الوالي وقلد خلافه في الزعامة وكان المترجم آخر من قتل من القاسمية المعروفين رحمه الله وكان عند المترجم سبعة مماليك من مماليك محمد بك بن أبي شنب فبلغ خبرهم محمد بك قطامش فأرسل من أخذهم من عنده قبل كائنته بنحو ثمانية أيام‏.‏

في ذكر حوادث مصر ابتداء من سنة 1143 في ذكر حوادث مصر وولاتها وتراجم أعيانها ووفياتهم ابتداء من سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف ووجهه أن بهذا التاريخ كان انقراض فرقة القاسمية وظهور أمر الفقارية وخلع السلطان أحمد من السلطنة وولية السلطان محمود خان ووالي مصر إذ ذاك عبد الله باشا الكبورلي بباء معطشة فارسية نسبة إلى كبور بلد بالروم وحضر إلى مصر في السنة الخالية وكان من أرباب الفضائل وله ديوان شعر جيد على حروف المعجم ومدحه شعراء مصر لفضله وميله إلى الأدب وكان إنسانا خيرًا صالحًا منقادًا إلى الشريعة إبطل المنكرات والخمامير ومواقف الخواطىء والبوظعن بولاق وباب اللوق وطولون ومصر القديمة وجعل للوالي والمقدمين عوضًا عن ذلك في كل شهر كيسًا من كشوفيات الباشاوات وكتب بذلك حجة شرعية وفيها لعن كل من تسبب في رجوع ذلك‏.‏

ووصل الأمر بالزينة في أيامه لتولية السلطان محمود وكان الوقت غير قابل لذلك فعملوا شنكًا ومدافع بالقلعة‏.‏

عزل عبد الله باشا وتولية عثمان باشا الحلبي وعزل عبد الله باشا المذكور أواخر سنة أربع وأربعين ومائة وألف وأمراء مصر في هذا التاريخ محمد بك قطامش وتابعه علي بك قطامش وعثمان جاويش القازدغلي ويوسف كتخدا البركاوي وعبد الله كتخدا القازدغلي وسليمان كتخدا القازدغلي وحسن كتخدا القازدغلي ومحمد كتخدا الداودية وعلي بك ذو الفقار وعثمان بك ذو الفقار خشداشة‏.‏

ووصل مسلم محمد باشا السلحدار فأخبر بولاية محمد باشا السلحدار وقدم من البصرة سنة 1145 ونزل عبد الله باشا إلى بيت شكريره وأستمر محمد باشا واليا على مصر إلى سنة ست وأربعين ثم عزل وتولى عثمان باشا الحلبي ووصل المسلم بقائمقامية إلى علي بك ذي الفقار فطلع إلى الديوان ولبس القفطان من عثمان باشا ونزل إلى بيته وحضر إليه الأمراء وهنوه وخلع علي اسمعيل بك أبي قلنج أمين السماط ووصل عثمان باشا إلى العريش وتوجهت إليه الملاقاة وأرباب الخدم وحضر إلى العادلية وعملوا له شنكا وطلع إلى القلعة وخلع الخلع وورد قابجي باشا بالسكة وأبطال سكة الذهب الفندقلي وضرب الزر محبوب كامل وصرفه مائة نصف فضة وعشرة أنصاف وكذلك سكة النصف محبوب وصرفه خمسة وخمسون وزاد في الفندقلي الموجود بأيدي الناس أثني عشر نصف فضة فصار يصرف بمائة نصف وستة وأربعين نصفًا وحضر مرسوم أيضًا بتعيين صنجق للوجه القبلي بتحرير النصارة واليهود وما عليهم من الجزية في كل بلد العال أربعمائة نصف وعشرون نصفًا والوسط مائتان وسبعون والدون مائة‏.‏

فتشاوروا فيمن ينزل بصحبته الأغا والكاتب من الأمراء الصناجق لتحرير بلاد قبلي فقال حسين بك الخشاب‏:‏ أنا مسافر بمنصب جرجا وينزل بصحبتي الأغا المعين وأنظروا من يذهب إلى بحري‏.‏

فقال محمد بك قطامش‏:‏ كل إقليم يتقيد بتحريره الكاشف المتولي عليه ومعه الأغا والكاتب فاتفق الرأي وفي أيامه عمل اسمعيل بك بن محمد بك الدالي مهما لزواج ولده ودعا عثمان باشا إلى منزله الذي ببركة الفيل وعندما حضر الباشا وأستقر به الجلوس وضع بين يديه منديلًا فيه ألف دينار برسم تفرقة البقاشيش على الخدم وأرباب الملاعيب وقدم له تقادم خيول وهدايا وجودا مرختا وذلك في شعبان سنة 1147‏.‏

ومن الحوادث في أيامه أن في أوائل رمضان سنة تاريخه ظهر بالجامع الأزهر رجل تكروري وأدعى النبوة فأحضروه بين يدي الشيخ أحمد العماوي فسأله عن حاله فأخبره أنه كان في شربين فنزل عليه جبريل وعرج به إلى السماء ليلة سبع وعشرين رجب وأنه صلى بالملائكة ركعتين وأذن له جبريل ولما فرغ من الصلاة أعطاه جبريل ورقة وقال له أنت نبي مرسل فأنزل وبلغ الرسالة وأظهر المعجزات‏.‏

فلما سمع الشيخ كلامه قال له أنت مجنون فقال لسب بمجنون وأنما أنا نبي مرسل فأمر بضربه فضربوه وأخرجوه من الجامع‏.‏

ثم سمع عثمان كتخدا فأحضره وسأله فقال مثل ما قاله للشيخ العماوي فأرسله إلى المارستان فأجتمع عليه الناس والعامة رجالًا ونساء ثم أنهم أخفوه عن أعين الناس ثم طلبه الباشا فسأله فأجابه بمثل كلامه الأول فأمر بحبسه في العرقانة ثلاثة أيام ثم أنه جمع العلماء في منتصف شهر رمضان وسألوه فلم يتحول عن كلامه فأمروه بالتوبة فأمتنع وأصر على ما هو عليه فأمر الباشا بقتله فقتلوه بحوش من الحوادث الغريبة في أيامه أيضًا أن في يوم الأربعاء رابع عشري الحجة آخر سنة 1147 أشيع في الناس بمصر بأن القيامة قائمة يوم الجمعة سادس عشري الحجة وفشا هذا الكلام في الناس قاطبة حتى في القرى والأرياف وودع الناس بعضهم بعضًا ويقول الإنسان لرفيقه‏:‏ بقي من عمرنا يومان وخرج الكثير من الناس والمخاليع الغيطان والمنتزهات ويقول بعضهم لبعض دعونا نعمل حظًا ونودع الدنيا قبل أن تقوم القيامة‏.‏

وطلع أهل الجيزة نساء ورجالًا وصاروا يغتسلون في البحر‏.‏

ومن الناس من علاه الحزن وداخله الوهم ومنهم من صار يتوب من ذنوبه ويدعو ويبتهل ويصلي وأعتقدوا ذلك ووقع صدقه في نفوسهم‏.‏

ومن قال لهم خلاف ذلك أو قال هذا كذب لا يلتفتون لقوله ويقولون هذا صحيح وقال فلان اليهودي فلان القبطي وهما يعرفان في الجفور والزايرجات ولا يكذبان في شيء يقولانه‏.‏

وقد أخبر فلان منهم على خروج الريح الذي خرج في يوم كذا وفلان ذهب إلى الأمير الفلاني وأخبره بذلك وقال له أحبسني إلى يوم الجمعة وأن لم تقم القيامة فأقتلني ونحو ذلك من وساوسهم وكثر فيهم الهرج والمرج إلى يوم الجمعة المعين المذكور‏.‏

فلم يقع شيء‏.‏

ومضى يوم الجمعة وأصبح يوم السبت فانتقلوا يقولون فلان العالم قال أن سيدي أحمد البدوي والدسوقي والشافعي تشفعوا في ذلك وقبل الله شفاعتهم‏.‏

فيقول الآخر‏:‏ اللهم أنفعنا بهم فأننا يا أخي لم نشبع من الدنيا وشارعون نعمل حظًا ونحو ذلك من الهذيانات‏.‏

وأقام عثمان باشا في ولاية مصر إلى سنة 1148 فكانت مدة ولايته بمصر سنة واحدة وخمسة أشهر‏.‏

ولاية باكير باشا وتولى بعده باكير باشا وهي ولايته الثانية فقدم من جدة إلى السويس من القلزم لأنه كان واليا عليها بعد انفصاله من مصر فقدم يوم السبت رابع عشري شوال سنة 1147 ولما ركب بالموكب كان خلفه من أتباعه نحو الثلاثين خيالًا ملبسة بالزروخ المذهبة وله من الأولاد خمسة ركبوا أماه في الموكب وصرخت العامة في وجهه من جهة فساد المعاملة وهي الأخشا والمرادي والمقصوص والفندقلي فإن الاخشا صار بستة عشر جديد والمرادي بأثنى عشر والمقصوص بثمانية جدد وصار صرف القندقلي بثلثمائة نصف والجنزرلي بمائتين وغلت بسبب ذلك الأسعار وصار الذي كان بالمقصوص بالديواني فلم يلتفت الباشا لذلك‏.‏

في شهر القعدة ورد أغا وعلى يده مرسوم بطلب سفر ثلاثة آلاف عسكري لمحافظة بغداد وأن يكون العسكر من أصحاب العتامنة ولا يرسلوا عسكرا من فلاحي القليوبية والجيزة والبحيرة وشرق أطفيح والمنصورة فقلدوا أمير السفر مصطفى بك اباظة حاكم جرجا سابقًا وسافر حسن بك الدالي بالخزينة وأرتحل من العادلية في منتصف هر الحجة وكان خروجه بالموكب في أوائل رجب‏.‏

فأقام خارج القاهرة نحو خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا وأوكب مصطفى بك بموكب السفر يوم الخميس خامس الحجة وسافر في المحرم سنة ثمان وأربعين‏.‏

وفي عاشر الحجة يوم الأضحية قبل آذان العصر خرجت ريح سوداء غربية أظلمت منها الدنيا وحجبت نور الشمس فغرق منها مراكب وسقطت أشجار ومن جملتها شجرة جميز عظيمة بناحية الشيخ فمر وهدمت دورا قديمة وشجرة اللبخة بديوان مصر القديمة ثم أعقبها بعد العشاء مطرة عظيمة ووصل أيوب بك أمير سفر العجم وطلع إلى الديوان ألبسه الباشا قفطان القدوم والسدادة وأصحاب الدركات وكانت مدة غيابه سنتين وثلاثة أشهر‏.‏

وفي أيامه ورد أغا وعلى يده مراسيم وأوامر منها أبطال مرتبات الأولاد والعيال ومنها أبطال التوجيهات وأن المال يقبض إلى الديوان ويصرف من الديوان وأن الدفاتر تبقى بالديوان ولا تنزل بها الأفندية إلى بيوتهم‏.‏

فلما قرئ ذلك قال القاضي أمر السلطان لا يخالف ويجب أطاعته‏.‏

فقال الشيخ سليمان المنصوري يا قاضي الإسلام هذه المرتبات فعل نائب السلطان وفعل النائب كفعل السلطان وهذا شيء جرت به العادة في مدة الملوك المتقدمين وتداولته الناس وصار يباع ويشرى ورتبوه على خيرات ومساجد وأسبلة ولا يجوز أبطال ذلك وإذا بطل بطلت الخيرات وتعطلت الشعائر المرصد لها ذلك فلا يجوز لأحد يؤمن بالله ورسوله أن يبطل ذلك وأن أمر ولي الأمر بأبطاله لا يسلم له ويخالف أمره لأن ذلك مخالف للشرع ولا يسلم للأمام في فعل ما يخالف الشرع ولا لنائبه أيضًا‏.‏

فسكت القاضي فقال الباشا هذا يحتاج إلى المراجعة ثم قال الشيخ سليمان‏:‏ وأما التوجيهات ففيها تنظيم وصلاح وأمر في محله وانفض الديوان على ذلك وكتب الشيخ عبد الله الشبراوي عرضًا في شأن المرتبات من إنشائه ولولا خوف الإطالة أسطرته في هذا المجموع ثم أنهم عملوا مصالحة على تنفيذ ذلك فجعلوا على كل عثماني نصف جنزرلي وحضروا المرتبات في قائمقامية إبراهيم بك أبي شنب وابن درويش بك وقطامش وعلي بك الصغير تابع ذي الفقار بك من سنة ثلاثين فبلغت ثمانية وأربعين ألف عثماني فكانت أربعة وعشرين ألف جنزرلي فقسموها بينهم وأرسلوا إلى عثمان بك ورضوان بك ألف جنزرلي فأبيا من قبولها وقالا هذه دموع الفقراء والمساكين فلا نأخذ منها شيئًا فإن رجع رد الجواب بالقبول كانت مظلمة وأن جاء بعدم القبول كانت مظلمتين‏.‏

الطاعون ووقع الطاعون المسمى بطاعون كو ويسمى أيضًا الفصل العائق يأخذ على الرائق ومات به كثير من الأعيان وغيرهم بحيث مات من بيت عثمان كتخدا الغازدغلي فقط مائة وعشرون نفسًا وصارت الناس تدفن الموتى بالليل في المشاعل‏.‏

ووقع في أيامه الفتنة التي قتل فيها عدة من الأمراء وسببها أن صالح كاشف زوج هانم بنت ايواظ بك كان ملتجئًا إلى عثمان بك ذي الفقار وتزوج ببنت ايواظ بك بعد يوسف بك الخائن وكان من القاسمية فحرضته على طلب الإمارة والصنجقية وتأخذ له فائظ عشرين كيسًا وكلم عثمان بك في شأن ذلك فوعده ببلوغ مراده وخاطب محمد بك قيطاس المعروف بقطامش و هو إذ ذاك كبير القوم في ذلك فلم يجبه وقال له‏:‏ تريد أن تفتح بيتًا للقاسمية فيقتلونا على غفلة هذا لا يكون أبدًا ما دمت حيًا‏.‏

وكان عثمان بك المذكور أخذ كشوفية المنصورة فانزل فيها صالح كاشف قائمقام فلما كمل السنة ورجع تحركت الهمة إلى طلب الصنجقية وعاود عثمان بك في الخطاب وهو كذلك تكلم مع محمد بك فصمم على الامتناع فوقع على الأغوات والاختيارية فلم يجب ولم يرض ووافقه على الأمتناع علي بك تابع المذكور وخليل أفندي فذهب صالح كاشف إلى عثمان كتخدا القازدغلي وأتفق معه على قتل الثلاثة وقال له‏:‏ أعمل تدبير في قتلهم فذهب إلى رضوان بك أمير الحاج سابقًا وسليمان بك الفراش فاتفق معهما على قتل الثلاثة في بيت محمد بك الدفتر دار باطلاع باكير باشا‏.‏

وعرفوا محمد بك بذلك فرضي وكتب فرمانا بالجمعية في بيت الدفتر دار بسبب الحلوان والخزينة‏.‏

فركبوا بعد العصر إلى بيت محمد بك قطامش وركبوا معه إلى بيت الدفتر دار وصحبتهم علي بك وصالح بك وخليل أفندي وأغات الجملية وعلي صالح جربجي واختيار من الأسباهية ويوسف كتخدا البركاوي وحضر عثمان بك ذو الفقار وعثمان كتخدا القازدغلي وأحمد كتخدا الخربطلي وكتخدا الجاويشية وأغات المتفرقة وعلي جلبي الترجمان‏.‏

فلما تكاملت الجمعية أمر محمد بك قطامش بكتابة عرضحال وقال للكاتب أكتب كذا وكذا فطلعة إلى خارج وصحبته كتخدا الجاويشية ومتفرقة باشا وجلس يكتب في العرض وقد قرب الغروب فأرادوا الانصراف فوقف الدفتر دار وقال‏:‏ هاتوا شربات‏.‏

وكان ذلك القول هو الإشارة مع صالح كاشف وعثمان كاشف ومملوك سليمان بك‏.‏

ففتحوا باب الخزانة وخرج منها جماعة بطرابيش وهم شاهرون السلاح‏.‏

فوقف محمد بك قطامش على أقدامه وقال‏:‏ هي خونة فضربه الضارب بالقرابينة في صدره ووقع الضرب وهاج المجلس في دخنة البارودة وظلام الوقت فلم يعلم القاتل من المقتول وعندما سمع كتخدا الجاويشية أول ضربة وهو جالس مع الأفندي الكاتب نزل مسرعًا وركب وعلي الترجمان ألقى بنفسه من شباك الجنينة وعثمان بك ذو الفقار أصابه سيف فقطع شاشه وقاووقه ودفعه صالح كاشف فنجا بنفسه إلى أسفل وركب حصان بعض الطوائف وخرج من باب البركة وأصيب باش اختيار مستحفظان البرلي بجراحة قوية فأرسلوه إلى منزله ومات بعد ثلاثة أيام‏.‏

ثم أوقدوا الشموع وتفقدوا المقتولين وإذا هم محمد بك قطامش وعلي بك تابعه وصالح بك وعثمان بك كتخدا القازدغلي وأحمد كتخدا الخربطلي ويوسف كتخدا البركاوي وخليل أفندي وأغات الجملية وعلي صالح جربجي والأسباهي تتمة عشرة وباش اختيار الذي مات بعد ذلك في بيته‏.‏

فعروا المقتولين ثيابهم وقطعوا رؤوسهم وأتوا بهم جامع السلطان حسن فوجدوه مغلوقًا فأحرقوا ضرفة الباب الذي جهة سوق السلاح ووضعوا الرؤوس العشرة على البسطة ووضعوا عند كل رأس شيئًا من التبن وظنوا أنهم غالبون‏.‏

وطلع صالح كاشف إلى الباشا من باب الميدان فخلع عليه الصنجقية فطلب منه دراهم يفرقها في العسكر المجتمعين إليه فقال له‏:‏ أنزل لأشغالك وأنا أرسل إليك ما تطلب‏.‏

فنزل إلى السلطان حسن فوجد محمد كتخدا الداودية حضر باتباعه وجماعته هناك بظن أنهم غالبون وعندما بلغ الخبر سليمان كتخدا الجلفي ركب في جماعة بعد المغرب وطلع إلى باب العزب وكان كتخدا الوقت إذ ذاك أحمد كتخدا إشراق يوسف كتخدا البركاوي فطرق الباب فقال التفكجية‏:‏ من هذا فعرفهم عن نفسه فقال الكتخدا‏:‏ قولوا له‏:‏ أنت توليت الكتخدائية وتعرف القانون وأن الباب لا يفتح بعد الغروب فإن كان له حاجة يأتي في الصباح‏.‏

وأما عثمان بك فإنه لما خرج من باب البركة وشاشه مقطوع لم يزل سائر إلى باب الينكجرية فوجده ملآن جاويشية وواجب رعايا ونفر وطلع عندهم عمر جلبي بن علي بك قطامش فأخذه حسن جاويش النجدلي ومعه طائفة وطلع به إلى الباشا بعد نزول صالح كاشف فخلع عليه صنجقية أبيه وأعطاه فرمانًا بالخروج من حق الذين قتلوا الأمراء وحرقوا باب المسجد ونزل فرد على كتخدا الوقت وصحبته حسن جاويش النجدلي ومعهم بيرق وأنفار وواجب رعايا من المحجر خلف جامع المحمودية وبيت الحصري وزاوية الرفاعي‏.‏

وكانت ليلة مولده وهي أول جمعة في شهر رجب سنة 1149 فعملوا متريز على باب الدرب قبالة باب السلطان حسن وضربوا عليها بالرصاص وكذلك من باب العزب وبيت الأغا وكان أغات العزب عبد اللطيف أفندي روزنامجي مصر سابقًا‏.‏

وأما صالح بك فإنه أنتظر وعد الباشا فلم يرسل له شيئًا فاخذ رضوان بك وعثمان كاشف ومملوك سليمان بك واختفوا في خان الخليلي واختفى أيضًا محمد بك اسمعيل ومحمد كتخدا الداودية ندم على ما فعل فركب بجماعته وذهب إلى بيت مصطفى بك الدمياطي فوجده مقفولًا‏.‏

فطرق الباب فلم يجبه أحد فذهب إلى بيت إبراهيم بك بلغيه ودخل هناك ولما بطل الرمي من السلطان حسن هجم حسن جاويش فلم يجد به أحدًا ولما طلع النهار ذهبوا إلى بيت الدفتر دار فنهبوه ونهبوا أيضًا بيت رضوان بك وذهبوا إلى سليمان بك قتلوه وقطعوا رأسه ونهبوا البيت وأتوا إلى الباب‏.‏

ثم أن السبع وجاقات اجتمعوا في بيت علي كتخدا الجلفي وقالوا له‏:‏ أنت بيت سر يوسف كتخدا البركاوي ولا يفعل شيئًا إلا باطلاعك وعندك خبر بقتل أمرائنا وأعياننا والشاهد على ذلك مجيء خشداشك سليمان كتخدا بعد المغرب بطائفته يملك باب العزب فحلف بالله العظيم لم يكن عنده خبر بشيء من ذلك ولا بمجيء سليمان كتخدا إلى الباب ولكن أي شيء جاء بمحمد كتخدا الداودية إلى السلطان حسن‏.‏

ثم أنهم أنزلوا باكير باشا وعزلوه وطيبوا عليه حلوان بلاد المقتولين وكتبوا عرض محضر وسفروه صحبة سبعة أنفار‏.‏

فحضر مصطفى أغا أمير أخور كبير ومعه مرسوم من الدولة بضبط متروكات المقتولين فمكث بمصر شهرين ثم ورد أمر بولايته على مصر وتوجيه باكير باشا إلى جدة‏.‏

تولية مصطفى باشا وسليمان باشا الشامي فتولى مصطفى باشا فأقام واليًا بمصر إلى سنة 1152 وتولى بعده سليمان باشا الشامي الشهير بابن العظم ولما أستقر في ولاية مصر أراد إيقاع فتنة بين الأمراء فضم إليه عمر بك ابن علي بك قطامش فأرسل إليه من يأمنه على سره واتفق معه على قتل عثمان بك ذي الفقار وإبراهيم بك قطامش وعبد الله كتخدا القازدغلي وعلي كتخدا الجلفي وهم إذ ذاك أصحاب الرياسة بمصر‏.‏

ووعده نظير ذلك إمارة مصر والحاج وأن يعطيه من بلادهم فائظ عشرين كيسًا فجمع عمر بك خليل أغا وأحمد كتخدا عزبان وإبراهيم جاويش قازدغلي واختلى بهم وعرفهم بالمقصود وتكفل أحمد بقتل علي كتخدا وخليل أغا بعثمان بك وإبراهيم جاويش بعبد الله كتخدا‏.‏

وإذا انفرد إبراهيم بك أخذوه بعد ذلك بحيلة وقتلوه في الديوان‏.‏

ثم أن أحمد كتخدا أغرى بعلي كتخدا الاظ إبراهيم فقتل علي كتخدا عند بيت أقبري وهو طالع إلى الديوان وبلغ الخبر عثمان بك فتدارك الأمر وفحص عن القضية حتى أنكشف له سرها وعمل شغله وقتل أحمد كتخدا‏.‏

وعندما قتل علي كتخدا ظن الباشا تمام المقصد فأراد أن يملك باب الينكجرية بحيلة وأرسل مائتي تفكجي ومعهم مطرجي وجوخدار وهم مستعدون بالأسلحة فمنعهم التفكجية من العبور وطلب الكتخدا شخصين من أعيانهم يسألهما عن مرادهم‏.‏

فقالا‏:‏ أن الباشا مقصر في حقنا ولم يعطنا علائفنا‏.‏

فأرسل معهم باش جاويش بالسلام على الباشا من الاختيارية والوصية بهم فقبل ذلك ولم يتمكن من مراده‏.‏

ثم أن حسين بك الخشاب طلع إلى باب العزب وتحيل في نزول أحمد كتخدا من الباب وملك هو الباب‏.‏

واجتمعوا بعد ذلك وأمروا الباشا بالنزول إلى قصر يوسف‏.‏

فركب وأراد أن يدخل إلى باب الينكجرية فرفعوا عليه البنادق فدخل إلى قصر يوسف فوجده خرابًا فأخذ حسن جاويش النجدلي خاطر الينكجرية على نزوله ببيت الأغا وانتقل الأغا إلى السرجي فأقام الباشا إلى أن نزل ببيت البيرقدار وسافر بعد ذلك فكانت ولايته على مصر إلى شهر جمادى الأولى سنة 153‏.

تولية الوزير علي باشا

ثم تولى بعده الوزير علي باشا حكيم أوغلي وهي توليته الأولى بمصر فدخل مصر في شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين ومكث إلى عاشر جمادى الأولى سنة 1154 ونزل سليمان باشا إلى بيت البيرقدار وعمل علي باشا أول ديوان بقراميدان بحضرة الجم الغفير وقرئ مرسوم الولاية بحضرة الجميع‏.‏

ثم قال الباشا أنا لم آت إلى مصر لأجل إثارة فتن بين الأمراء وأغراء ناس على ناس وإنما أتيت لأعطي كل ذي حق حقه وحضرة السلطان أعطاني المقاطعات وأنا أنعمت بها عليكم فلا تتعبوني في خلاص المال والغلال وأخذ عليهم حجة بذلك‏.‏

وأنفض المجلس‏.‏

ثم أنه سلم على الشيخ البكري وقال له‏:‏ أنا بعد غد ضيفك ثم ركب وطلع إلى السراية وأرسل إلى الشيخ البكري هدية وأغنامًا وسكرًا وعسلًا ومربات ونزل إليه في الميعاد وأمر ببناء رصيف الجنينة التي في بيته وكان له فيه اعتقاد عظيم لرؤيا منامية رآها في بعض سفراته منقولة عنه مشهورة‏.‏

وكانت أيامه أمنا وأمانا والفتن ساكنة والأحوال مطمئنة‏.‏

ثم عزل ونزل إلى قصر عثمان كتخدا القازدغلي بين بولاق وقصر العيني‏.‏

تولية يحيى باشا ثم تولى يحيى باشا ودخل إلى مصر وطلع إلى القلعة في موكبه على العادة وطلع إليه علي باشا وسلم عليه ونزل هو الآخر وسلم على علي باشا بالقصر ودعاه عثمان بك ذو الفقار وعمل له وليمة في بيته وقدم له تقادم كثيرة وهدايا ولم يتفق نظير ذلك فيما تقدم أن الباشا نزل إلى بيت أحد من الأمراء في دعوة وإنما كان الأمراء يعملون لهم الولائم بالقصور في الخلاء مثل قصر العيني أو المقياس‏.‏

وأقام يحيى باشا في ولاية مصر إلى أن عزل في عشرين شهر رجب سنة 1156‏.‏

تولية محمد باشا اليدكشي وتولى بعده محمد باشا اليدكشي وحضر إلى مصر وطلع إلى القلعة وفي أيامه كتب فرمان بأبطال شرب الدخان في الشوارع وعلى الدكاكين وأبواب البيوت‏.‏

ونزل الأغا والوالي فنادوا بذلك وشددوا في الأنكار والنكال بمن يفعل ذلك من عال أو دون وصار الأغا يشق البلد في التبديل كل يوم ثلاث مرات‏.‏

وكل من رأى في يده آلة الدخان عاقبه وربما أطعمه الحجر الذي يوضع فيه الدخان بالنار وكذلك الوالي‏.‏

وفي أيامه أيضًا قامت العسكر بطلب جراياتهم وعلائفهم من الشون ولم يكن بالشون أردب واحد فكتب الباشا فرمانًا بعمل جمعية في بيت علي بك الدمياطي الدفتر دار وينظروا الغلال في ذمة أي من كان يخلصونها منه‏.‏

فلما كان في ثاني يوم أجتمعوا وحضر الروزنامجي وكاتب الغلال والقلقات وأخبروا أن بذمة إبراهيم بك قطامش أربعين ألف أردب والمذكور لم يكن في الجمعية وأنتظروه فلم يأت‏.‏

فأرسلوا له كتخدا الجاويشية وأغات المتفرقة فامتنع من الحضور في الجمهور وقال‏:‏ الذي له عندي حاجة يأتي عندي فرجعوا وأخبروهم بما قال‏.‏

فقال العسكر‏:‏ نذهب إليه ونهدم بيته على دماغه فقام وكيل دار السعادة وأخذ معه من كل بلك اثنين اختيارية وذهبوا إلى إبراهيم بك قطامش‏.‏

فقال له الوكيل‏:‏ أي شيء هذا الكلام والعسكر قائمة على اختياريتها قال‏:‏ والمراد أي شيء وليس عند غلال‏.‏

قال له الوكيل‏:‏ نجعلها مثمنة بقدر معلوم‏.‏

فثمنوا القمح بستين نصف فضة الأردب والشعير بأربعين‏.‏

فقال إبراهيم بك‏:‏ يصبروا حتى يأتيني شيء من البلاد‏.‏

قال الوكيل‏:‏ العسكر لا يصبروا ويحصل من ذلك أمر كبير‏.‏

فجمعوا مبلغ اليكون فبلغ ثمانين كيسًا فرهن عند الوكيل بلدين لأجل معلوم‏.‏

وكتب بذلك تمسك وأخذ التقاسيط ورجع الوكيل إلى محل الجمعية وأحضر مبلغ الدراهم وكل من كان عليه غلال أورد بذلك السعر وهذه كانت أول بدعة ظهرت في تثمين غلال الأنبار للمستحقين‏.‏

واستمر محمد باشا في ولاية مصر حتى عزل سنة 1158‏.‏

تولية محمد باشا راغب ووصل مسلم ‏)‏محمد باشا راغب‏(‏ وتقلد إبراهيم بك بلغيه قائمقام وخلع عليه محمد باشا القفطان وعلى محمد بك أمين السماط‏.‏

ثم ورد الساعي من الإسكندرية فأخبر بورود حضر محمد باشا راغب إلى ثغر الإسكندرية فنزل أرباب العكاكيز لملاقاته وحضروا صحبته إلى مصر وطلع إلى القلعة وحصل بينه وبين حسين بك الخشاب محبة و مودة و حلف له أنه لا يخونه ثم أسر إليه أن حضرة السلطان يريد قطع بيت القطامشة والدمايطة فأجاب إلى ذلك‏.‏

واختلى بإبراهيم جاويش وعرفه بذلك فقال له الجاويش‏:‏ عندك توابع عثمان بك قرقاس وذو الفقار كاشف وهم يقتلون خليل بك وعلي بك الدمياطي في الديوان‏.‏

فقال له يحتاج أن يكون صحبتهم أناس من طرفك وإلا فليس لهم جسارة على ذلك‏.‏

فقال له‏:‏ أنا أتكلم مع عثمان أغا أبي يوسف بطلب شرهم لأنه من طرفي‏.‏

فلما كان يوم الديوان وطلع حسين بك الخشاب وقرقاش وذو الفقار وجماعته وطلع علي بك الدمياطي وصحبته محمد بك وطلع في أثرهم خليل بك أمير الحاج وعمر بك بلاط جلسوا بجانب المحاسبة فحضر عثمان أغا المتفرقة عند خليل بك فقال له‏:‏ لماذا لم تدخل عند الباشا‏.‏

فقال له‏:‏ تركناه لك‏.‏

فقال‏:‏ كأني لم أعجبك‏.‏

واتسع بينهما الكلام فسحب أبو يوسف النمشة وضرب خليل بك وإذا بالجماعة كذلك أسرعوا وضربوا عمر بك بلاط‏.‏

قتلوه ودخلوا برأسيهما إلى الباشا فقام علي بك الدمياطي ومحمد بك ونزلا ماشيين ودخلا إلى نوبة الجاويشية فأرسل الباشا للاختيارية يقول لهم أنهما مطلوبان للدولة‏.‏

وأخذهما وقطع رأسيهما أيضًا‏.‏

وكتبوا فرمانا إلى الصناجق والأغوات واختيارية السبع وجاقات بأن ينزلوا بالبيارق والمدافع إلى إبراهيم بك وعمر بك وسليمان بك الألفي وكان سليمان بك دهشور مسافرًا بالخزينة‏.‏

فنزلت البيارق والمدافع فضربوا أول مدفع من عند قيطرة سنقر فحمل الثلاثة أحمالهم وخرجوا بهجنهم وعازقهم إلى جهة قبلي ودخل العساكر إلى بيت إبراهيم بك فنهبوه وكذلك بيت خليل بك وذهبوا إلى بيت علي بك فوجدوا فيه صنجقيًا من الصناجق ملكه بما فيه ولم يتعرضوا ليوسف بك ناظر الجامع الأزهر ورفعوا صنجقية محمد بك صنجق ستة وماتت ستة أيضًا وذهب إلى طندتا وعمل فقيرًا بضريح سيدي أحمد البدوي‏.‏

ولما رجع سليمان بك دهشور من الروم رفعوا صنجقيته وأمروه بالأقامة برشيد وقلدوا عثمان كاشف صنجقية وكذلك كجك أحمد كاشف وقلدوا محمد بك أباظة أشراق حسين بك الخشاب دفتر دار مصر‏.‏

وأنقضت تلك الفتنة‏.‏

ثم أن الباشا قال لحسين بك الخشاب‏:‏ مرادي أن نعمل تدبيرا في قتل إبراهيم جاويش قازدغلي ورضوان كتخدا الجلفي وتصير أنت مقدام مصر وعظيمها‏.‏

فاتفق معه على ذلك وجمع عنده علي بك جرجا وسليمان بك مملوك عثمان بك ذي الفقار وقرقاش وذي الفقار كاشف ودار القال والقيل وسعت المنافقون وعلم إبراهيم جاويش ورضوان كتخدا ما يراد بهما‏.‏

فحضر إبراهيم جاويش عند رضوان كتخدا وأمتلأ باب الينكجرية وباب العزب بالعسكر والأوده باشيه وأجتمعت الصناجق والأغوات السبعة في سبيل المؤمن والأسباهية بالرميلة وأرسلوا يطلبون فرمانا من الباشا بالركوب على بيت حسين بك الخشاب الذي جمع عنده المقاسيد أعداءنا وقصده قطعنا‏.‏

فلما طلع كتخدا الجاويشية ومتفرقة باشا إلى راغب باشا وطلبوا منه فرمانا بذلك فقال الباشا‏:‏ رجل نفذ أمر مولانا السلطان وخاطر بنفسه ولم ينكسر عليه مال ولا غلال كيف أعطيكم فرمانا بقتله الصلح أحسن ما يكون‏.‏

فرجعوا وردوا عليهم بجواب الباشا فأرسلوا له من كل بلك اثنين اختيارية بالعرضحال وقالوا لهم‏:‏ أن أبي قولوا له ينزل ويولي قائمقام ونحن نعرف خلاصنا مع بعضنا‏.‏

فنزل بكامل أتباعه من قراميدان ولما صار في الرميلة أراد أن ينزل علي شيخون إلى بيت حسين بك الخشاب يكرنك معه فيه وإذا بالعزب المرابطين في السلطان حسن ردوه بالنار فقتل أغا من أغواته فنزل على بيت آقبردي إلى بيت ذي عرجان تجاه المظفر فأرسلوا له إبراهيم بك بلغيه صحبة كتخدا الجاويشية خلع عليه قفطان القائمقامية ورجع إلى بيته وأخذوا منه فرمانا بجر المدافع والبيارق من ناحية الصليبة‏.‏

وسارت الصناجق يقدمهم عمر بك أمير الحاج ومحمد بك الدالي وإبراهيم بك بلغيه ويوسف بك قطامش وحمزة بك وعثمان بك أبو سيف وأحمد بك ابن كجك محمد واسمعيل بك جلفي وعثمان بك وأحمد بك قازدغلية ورضوان بك خازندار عثمان كتخدا قازدغلي وأحتاطوا ببيت حسين بك الخشاب ومحمد بك أباظة من الأربع جهات‏.‏

فحارب بالبندق من الصبح إلى الظهر حتى وزع ما يعز عليه وحمل أثقاله وطلع من باب السر على زين العابدين وذهب إلى جهة الصعيد فدخل العسكر إلى بيته‏.‏

فلم يجدوا فيه شيئا ولا الحريم‏.‏

وهرب أيضًا إبراهيم بك قيطاس إلى الصعيد وعمر بك ابن علي بك وصحبته طائفة من الصناجق هربوا إلى أرض الحجاز وكان ذلك أواخر سنة 1161‏.‏

فكانت مدة محمد باشا راغب في ولاية مصر سنتين ونصفا ثم سار إلى الديار الرومية وتولى الصدارة‏.‏

وكان إنسانًا عظيمًا عالمًا محققًا وكان أصله رئيس الكتاب وسيأتي تتمة ترجمته في سنة وقاته والله أعلم‏.‏

مات الإمام الكبير والأستاذ الشهير صاحب الأسرار والأنوار الشيخ عبد الغني بن اسمعيل النابلسي الحنفي الصالحي‏.‏

ولد سنة 1050 وأحواله شهيرة وأوصافه ومناقبه مفردة بالتأليف‏.‏

ومن مؤلفاته المقصود في وحدة الوجود وتحفة المسالة بشرح التحفة المرسلة والأصل للشيخ محمد فضل الله الهندي والفتح الرباني والفيض الرحمان وربع الأفادات في ربع العيادات وهو مؤلف جليل في مجلد صخم في فقه الحنفية نادر الوجود والرحلة القدسية وكوكب الصبح في إزالة القبح والحديقة الندية في شرح الطريقة المحمدية والفتح المكي واللمح الملكي وقطر السماء ونظرة العلماء والفتح المدني في النفس اليمني وبديعيتان أحداهما لم يلتزم فيها اسم النوع وشرحها والثانية التزمه فيها شرحها القلعي مع البديعيات العشر‏.‏

توفي رضي الله عنه سنة 143 عن ثلاث وتسعين سنة‏.‏

ومات إمام الأئمة شسخ الشيوخ وأستاذ الأساتذة عمدة المحققين والمدققين الحسيب النسيب السيد علي بن علي إسكندر الحنفي السيواسي الضرير أخذ عن الشيخ أحمد الشوبري الشرنبلالي والشيخ عثمان ابن عبد الله التحريري الحنفيين وأخذ الحديث عن الشيخ البابلي والشبراملسي وغيرهم‏.‏

وسبب تلقيبه بإسكندر أنه كان يقرأ دروسًا بجامع إسكندر باشا بباب الخرق وكان عجيبًا في الحفظ والذكاء وحدة الفهم وحسن الألقاء وكان الشيخ العلامة محمد السجيني إذا مر بحلقة درسه خفض من مشيته ووقف قليلًا وأنصت لحسن تقريره وكان كثير الأكل ضخم البدن طويل القامة لا يلبس زي الفقهاء بل يعتم عمامه لطيفة بعذبه مرخية وكان يقول عن نفسه‏:‏ أنا آكل كثيرًا وأحفظ كثيرًا‏.‏

وسافر مرة إلى دار السلطنة وقرأ هناك دروسًا وأجتمع عليه المحققون حين ذاك وباحثوه وناقشوه وأعترفوا بعلمه وقضله وقوبل بالأجلال والتكريم وعاد إلى مصر ولم يزل يملي ويفيد ويدرس ويعيد حتى توفي في ذي القعدة سنة 148 عن ثلاث وسبعين سنة وكسور أخذ عنه كثير من الأشياخ كالشيخ الحفني وأخيه الشيخ يوسف والسيد البليدي والشيخ الدمياطي والشيخ الوالد والشيخ عمر الطحلاوي وغيرهم‏.‏

وكان يقول بحرمة القهوة وأتفق أنه عمل مهما لزواج ابنه فهاداه الناس وبعث إليه عثمان كتخدا القازدغلي فردين فأمر بطرحه في الكنيف لأنه يرى حرمة الانتفاع بثمنه أيضًا مثل الخمر ودليله في ذلك ما ذكر في وصف خمر الجنة في قوله تعالى‏:‏ لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون بأن الغول ما يعتر شارب الخمر بتركها وهذه العلة موجودة في القهوة بتركها بلا شك‏.‏

توفي إلى رحمة الله تعالى سنة 1146 ومات الإمام العلامة والمحقق الفهامة شيخ مشايخ العلم الشيخ محمد عبد العزيز الزيادي الحنفي البصير أخذ عن الشيخ شاهين الأرمناوي الحنفي عن العلامة البابلي وأخذ عنه الشمس الحفني ومات الشيخ الفقيه العلامة المتقن المتفنن الشيخ عيسى بن عيسى السقطي الحنفي أخذ عن الشيخ إبراهيم بن عبد الفتاح بن أبي الفتح الدلجي الفرضي الشافعي وعن الشيخ أحمد الأهناسي وعن الشيخ أحمد ابن إبراهيم التونسي الحنفي الشهير بالدقدوسي وعن السيد علي ابن السيد علي الحسيني الشهير بإسكندر والشيخ محمد عبد العزيز بن إبراهيم الزياد ثلاثتهم عن الشيخ شاهين الأرمناوي وأخذ أيضًا عن الشيخ العقدي والشيخ إبراهيم الشرنبلالي والشيخ حسن بن الشيخ حسن الشرنبلالي والشيخ عبد الحي الشرنبلالي ثلاثتهم عن الشيخ حسن الشرنبلالي الكبير‏.‏

توفي المترجم في سنة 1143‏.‏

ومات الأستاذ العلامة شيخ المشايخ محمد السجيني الشافعي الضرير أخذ عن الشيخ الشنبالي ولازمه ملازمو كلية وأخذ أيضًا عن الشيخ عبد ربه الديوي وأهل طبقته مثل الشيخ مطاوع السجيني وغيره وكان إمامًا عظيمًا فقيهًا نحويًا أصوليًا منطقيًا أخذ عنه كثير من فضلاء الوقت وعلمائهم‏.‏

توفي سنة 1158‏.‏

ومات الإمام العلامة والبحر الفهامة إمام المحققين شيخ الشيوخ عبد الؤوف بن محمد بن عبد اللطيف بن أحمد بن علي البشبيشي الشافعي خاتمة محققي العلماء وواسطة عقد نظام الأولياء العظماء ولد ببشبيش من أعمال المحلة الكبرى وأشتغل على علمائها بعد أن حفظ القرآن ولازم ولي الله تعالى العارف بالله الشيخ علي المحلي الشهير بالأقرع في فنون من العلم وأجتهد وحصل وأتقن وتفنن وتفرد وتردد على الشيخ العارف حسن البدوي وغيره من صوفية عصره وتأدب بهم وأكتسى من أنوارهم ثم أرتحل إلى القاهرة سنة 1081 وأخذ عن الشيخ محمد ابن منصور الأطفيحي والشيخ خليل اللقاني والزرقاني وشمس الدين محمد بن قاسم البقري وغيرهم وأشتهر علمه وفضله ودرش وأفاد وأنتفع به أهل عصره من الطبقة الثانية وتلقوا عنه المعقول والمنقول ولازم عمه الشهاب في الكتب التي كان يقرأها مع كمال التوحش والعزلة والأنقطاع إلى الله وعدم مسايرة أحد من طلبة عمه والتكلم معهم بل كان الغالب عليه الجلوس في حارة الحنابلة وفوق سطح الجامع حتى كان يظن من لايعرف حاله أنه بليد لا يعرف شيئًا إلى أن توجه عمه إلى الديار الحجازية حاجًا سنة 1094 وجاور هناك فأرسل له بأن يقرأ موضعه‏.‏

فتقدم وجلس وتصدر لتقرير العلوم الدقيقة والنحو والمعاني والفقه‏.‏

ففتح الله له باب القبض فكان يأتي بالمعاني الغريبة في العبارات العجيبة وتقريره أشهى من الماء العذب عند الظمآن وأنتفع به غالب مدرسي الأزهر وغالب علماء القطر الشامي ولم يزل على قدم الإفادة وملازمة الإفتاء والتدريس والإملاء حتى توفي في منتصف رجب سنة 1143‏.‏

ومات الأستاذ الإمام صاحب الأسرار وخاتمه سلسلة الفخار الشيخ أحمد بن عبد المنعم بن محمد بن محمد أبو السرور البكري الصديقي شيخ سجادة السادة البكرية بمصر أجازه أبو الإحسان بن ناصر وغيره وكان للوزير علي باشا بن الحكيم فيه اعتقاد عظيم كما تقدمت الإشارة إلى وعندما ذهب الأستاذ للسلام عليه تلقاه وقبل يديه وأقدامه وقال‏:‏ هذا الذي كنت رأيته في عالم الرؤيا وقت كربنا في السفرة الفلانية ولعله الشيخ البكري كما أخبرني عن نفسه‏.‏

فقيل له‏:‏ هو المشار إليه فاقبل بكليته عليه واستجازه في الزيارة بعد الغد وأرسل إليه هدية سنية ونزل لزيارته مرارًا‏.‏

توفي سنة 1153 ودفن بمشهد أسلافه عند ضريح الإمام الشافعي‏.‏

ومات الإمام العلامة والعمدة الفهامة المتفنن المتقن المتبحر الشيخ محمد صلاح الدين البرلسي المالكي الشهير بشلبي أخذ عن الشيخ أحمد النفراوي والشيخ عبد الباقي القليني والشيخ منصور المنوفي وغيرهم وروى عن البصري والنخلي وعنه أخذ الأشياخ المعتبرون‏.‏

توفي ليلة الخميس سابع عشر صفر سنة 1154‏.‏

ومات الإمام العالم العلامة والعمدة الفهامة أستاذ المحققين وصدر المدرسين الشيخ أحمد بن أحمد بن عيسى العماوي المالكي أخذ عن الشيخ محمد الزرقاني والعلامة الشبراملسي والشيخ محمد الأطفيحي و الشيخ عبد الرؤوف البشبيشي والشيخ منصور المنوفي والشيخ أحمد النفراوي كما نقلت ذلك من خطه وأجازته للمغفور له عبد الله باشا كبورلي زاده وكان قد قرأ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ وسنن أبي داود وابن ماجه والنسائي والترمذي والمواهب قراءة لبعضها دارية ولبعضها روايه ولباقيها إجازة وألفية المصطلح من أولها إلى آخرها العلامة الشبراملسي تصدر للأقراء والأفادة في محله وانتفع به الطلبة وكان حلو التقرير فصيحًا كثير الإطلاع مستحضرًا للأصول والفروع والمناسبات والنوادر والمسائل والفوائد تلقى عنه غالب أشياخ العصر وحضروا دروسه القهية والمعقولية كما هو مذكور في تراجمهم‏.‏

ولم يزل مواظبًا وملازمًا على الإقراء والإفادة وإملاء العلوم حتى وافاه الأجل المحتوم‏.‏

وتوفي سابع جمادى الأولى من سنة 1155 وخلف بعده ابنه أستاذنا الإمام المحقق والتحرير المدقق بركة الوقت وبقية السلف الشيخ عبد المنعم أدام الله النفع بوجوده وأطال عمره مع الصحة والعافية آمين‏.‏

ومات الإمام العلامة الوحيد والبحر الخضم الفريد روض العلوم والمعارف وكنز الأسرار واللطائف الشيخ محمد بن محمد الغلاني الكثناوي الدانرانكوي السوداني كان إمامًا دراكا متقنا متفننا وله يد طولى وباع واسع في جميع العلوم ومعرفة تامة بدقائق الأسرار والأنوار‏.‏

تلقى العلوم والمعارف ببلاده عن الشيخ الإمام محمد ابن سليمان بن محمد النوالي البرناوي الباغرماوي والأستاذ الشيخ محمد بندو والشيخ الكامل الشيخ هاشم محمد فودو ومعناه الكبير‏.‏

قال وهو أول من حصل لي علي يديه الفتح وعليه قرأت أكثر كتب الأدب ولازمته حضرا وسفرا نحو أربع سنوات فأخذ عنه الصرف والنحو حتى أتقن ذلك وصار شيخه المذكور يلقبه بسيبويه‏.‏

وكان يلقبه قبل ذلك بصاحب المقامات لحفظه لها واستحضاره لألفاظها استحضارًا شديدًا بحيث إذا ذكرت كلمة يأتي بما قبلها بالبديهة وعدم الكلفة‏.‏

وتلقى عن الشيخ محمد بند وعلم الحرف والأوفاق وعلم الحساب والواقيت على أسلوب طريقة المغاربة والعلوم السرية بأنواعها الحرفية والوفقية وآلاتها الحسابية والميقاتية‏.‏

وحصلت له منه المنفعة التامة قال‏:‏ وقرأت عليه الأصول والمعاني والبيان والمنطق وألفية العراقي وجميع عقائد السنوسي الستة‏.‏

وسمع عليه البخاري وثلاثة أرباع مختصر الشيخ خليل من أول البيوع إلى آخر باب السلم ومن أول الأجارة إلى آخر الكتاب ونحو الثلث من كتاب ملخص المقاصد وهو كتاب لابن زكري معاصر الشيخ السنوسي في ألف بيت وخمسمائة بيت في علم الكلام وأكثر تصانيفه إلى غير ذلك‏.‏

قال‏:‏ وسمعت منه كثيرًا من الفوائد العجيبة والحكايات الغريبة والأخبار والنوادر ومعرفة الرجال ومراتبهم وطبقاتهم‏.‏

ذكر ذلك في برنامج شيوخه المذكورين وكان للمترجم همة عالية ورغبة صادقة في تحصيل العلوم المتوقف عليها تحصيل الكتب وكان يقول عن نفسه أن مما من الله علي به أني لم أقرأ قط من كتاب مستعار وإنما أدني مرتبتي إذا حاولت قراءة كتاب لم يكن موجودا عندي أن اكتب متنه موسع السطور لأقيد فيه ما أردته من شروحه أو ما سمعته من تقريرات الشيخ عند قراءته وأعلاها أن أكتب شرحه وحاشيته بدليل أنه لولا علو همتي وصدق ربتي في تحصيل العلوم لما فارقت أهلي وأنسي وطلقت راحتي وبدلتهما بغربتي ووحشتي وكربتي مع كون حالي مع أهلي في غاية الغبطة والانتظام فبادرت في اقتحام الأخطار لكي أدرك الأوطار‏.‏

ولما أستأذن شيخه في الرحلة والحج فمر في رحلته بعدة ممالك وأجتمع بملوكها وعلمائها فمن أجتمع به في كاغ برن الشيخ محمد كرعك وأخذ عنه أشياء كثيرة من علوم الأسرار والرمل وأقام هناك خمسة أشهر وعنده قرأ كتاب الوالية للكردي وهو كتاب جليل معتبر في علم الرمل وقرأ عليه هو الرجراجي وبعض كتب من الحساب‏.‏

وله رحلة تتضمن ما حصل له في تنقلاته وحج سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف وجاور بمكة وابتدأ هناك بتأليف الدر المنظوم وخلاصة السر المكتوم في علم الطلاسم والنجوم وهو كتاب حافل رتبه على مقدمة وخمسة مقاصد وخاتمه وقسم المقاصد أبوابًا وأتم تبييضه بمصر المحروسة في شهر رجب سنة ست وأربعين ومن تأليفه كتاب بهجة الآفاق وأيضاح اللبس والأغلاق في علم الحروف والأوفاق رتبه على مقدمة ومقصد وخاتمه وجعل المقدمة ثلاثة أبواب والمقصد خمسة أبوابوكل باب يشتمل على مقدمة وفصول ومباحث وخاتمة‏.‏

وله منظومة في فلم المنطق سماها منح القدوس وشرحها شرحًا عظيمًا سماه أزاله العبوس عن وجه منح القدوس وهو مجلد حافل نحو ستين كراسًا‏.‏

وله شرح بديع على كتاب الدر والترياق في علم الأفاق‏.‏

ومن تآليفه بلوغ الأرب من كلام العرب في علم النحو وله غير ذلك‏.‏

توفي سنة 1154 بمنزل المرحوم الشيخ الوالدوجعله وصيًا على تركته وكتبه وكان يسكن أولًا بدرب الأتراك وهو الذي أخذ عنه علم الأوفاق وعلم الكسر والبسط الحرفية والعددية ودفنه الوالد ببستان العلماء بالمجاورين بنى على قبره تركيبة وكتب عليه اسمه وتاريخه‏.‏

ومات جامع الفضائل والمحاسن طاهر الأعراق والأوصاف السيد علي أفندي نقيب السادة الأشراف ذكره الشيخ عبد اله الأدكاوي في مجموعته وأثنى عليه وكان مختصًا بصحبته‏.‏

وحج مع المترجم سنة 1147 وعاد إلى مصر ولم يزل على أحسن حال حتى توفي في الليلة الثامنة عشرة من شهر شوال سنة 1153‏.‏

ومات الأستاذ العارف الشيخ أبو العباس أحمد بن أحمد العربي الأندلسي تلمساني الأزهري المالكي أخذ الحديث عن الإمام أبي سالم عبد الله سالم البصري المكي وأبي العباس أحمد بن محمد النخلي المكي الشافعيين وغيرهما من علماء الحرمين ومصر والمغرب أخذ عنه الشيخ أبو سالم الحفني والسيد علي بن موسى المقدسي الحسيني وغيرهما من علماء الحرمين ومصر والمغرب‏.‏

توفي سنة 1151‏.‏

ومات الإمام العلامة والتحرير الفهامة شمس الدين محمد بن سلامة البصير الإسكندري المكي البليغ الماهر أخذ العلم عن الشيخ خليل اللقاني والشهاب أحمد السندوبي والشيخ محمد الخرشي والشيخ عبد الباقي الزرقاني والشبرخيتي والأبيذري وهو الشهاب أحمد الذي روى عن البرهان اللقاني والبابلي وأخذ أيضًا عن الشيخ يحيى الشاوي والشهاب أحمد البشبيشي وله تأليفات عديدة منها تفسير القرآن العزيز نظمًا في نحو عشر مجلدات‏.‏

وقد أجاز الشيخ أبا العباس أحمد بن علي العثماني وأملى عليه نظمًا وذلك بمنزله بالجانب الغربي من الحرم الشريف وعمر ابن أحمد بن عقيل ومحمد بن علي بن خليفة الغرياني التونسي وحسين ابن حسن الأنطاكي المقري أجازه في سنة 1131 في الطائف واسمعيل بن محمد العجلوني وغيرهم‏.‏

توفي في ذي الحجة سنة 1149‏.‏

ومات الشيخ الإمام العالم العلامة صاحب التآليف العديدة والتقريرات المفيدة أبو العباس احمد بن عمر الديربي الشافعي الأزهري أخذ عن عمه الشيخ علي الديربي قرأ عليه التحرير وابن قاسم وشرح الرحبية وأخذ عن الشيخ محمد القليوبي الخطيب وشرح التحرير والشيخ خالد علي الآجرومية وعلي الأزهرية وعن الشيخ أبي السرور الميداني والشيخ محمد الدنوشر المشهور بالجندي علم الحساب والفرائض وأخذ عن الشيخ الشنشوري ومن مشايخه يونس بن الشيخ القليوبي والشيخ علي السنبطي والشيخ صالح الحنبلي والشيخ محمد النفراوي المالكي وأخوه الشيخ أحمد النفراوي والشيخ خليل اللقاني والشيخ منصور الطوخي والشيخ إبراهيم الشبرخيتي والشيخ إبراهيم المرحومي والشيخ عامر السبكي والشيخ علي الشبراملسي والشيخ شمس الدين محمد الحموي والشيخ أبو بكر الدلجي والشيخ أحمد المرحومي والشيخ أحمد السندوبي والشيخ محمد البقري والشيخ منصور المنوفي والشيخ عبد المعطي المالكي والشيخ محمد الخرشي والشيخ محمد النشرتي والشيخ أبو الحسن البكري خطيب الجامع الأزهر وانتشر فضله وعلمه وأشتهر صيته وأفاد وألف وصنف‏.‏

فمن تآليفه غاية المرام فيما يتعلق بانكحة الأنام وغاية المقصود لمن يتعاطى العقود على مذهب الأئمة الأربعة والختم الكبير على شرح التحرير المسمى‏:‏ فتح الملك الكريم الوهاب بختم شرح تحرير تنقيح اللباب وغاية المراد لمن قصرت همته من العباد وختم على شرح المنهج سماه فتح الملك الباري بالكلام على آخر شرح المنهج للشيخ زكريا الأنصاري وختم على شرح الخطيب وعلى شرح ابن قاسم وكتابه المشهور المسن فتح الملك المجيد لنفع العبيد جمع فيه ما جربه وتلقاه من الفوائد الروحانية والطبية وغيرها‏.‏

وهو مؤلف لا نظير له في بابه وله رسالة على البسملة وحديث البداءة ورسالة تسمى تحفة المشتاق فيما يتعلق بالسنانية ومساجد بولاق ورسالة تسمى تحفة الصفا فيما يتعلق بابوي المصطفى والقول المختار فيما يتعلق بابوي النبي المختار ومناسك حج على مذهب الإمام الشافعي وتحفة المريد في الرد على كل مخالف عنيد وفتح الملك الجواد بتسهيل قسمة التركات على بعض العباد بالطريق المشهورة بين الفريضيين في المسائل العائلة ورسالة في سؤال الملكين وعذاب القبر ونعيمه والوقوف في المحشر والشفاعة العظمى وأربعون حديثًا وتمام الانتفاع لمن أرادها من الأنام وجاشية على شرح ابن قاسم الغزي ورسالة تتعلق بالكواكب السبعة والساعات الجيدة وبضرب المنادل العلوية ولسفلية وإحضار عامر المكان وأستنطاقه وعزله ولوح الحياة والممات وغير ذلك‏.‏

توفي سابع عشرين شعبان سنة 1151‏.‏

وما الإمام العلامة والبحر الفهامة شيخ مشايخ العصر ونادرة الدهر الصالح الزاهد الورع القانع الشيخ مصطفى العزيزي الشافعي ذكره الشيخ محمد الكشناوي في آخر بعض بآليفه بقوله‏:‏ وكان الفراغ من تأليفه في شهر كذا سنة ست وأربعين وذلك في أيام الأستاذ زاهد العصر الفخر الرازي الشيخ مصطفى العزيزي وناهيك بهده الشهادة‏.‏

وسمعت وصفه من لفظ الشيخ الوالد وغيره من مشايخ العصر من أنه كان أزهد أهل زمانه في الورع والتقشف في المأكل والملبس والتواضع وحسن الأخلاق ولا يرى لنفسه مقامًا‏.‏

وكانمعتقدًا عند الخاص والعام وتأتي الأكابر والأعيان لزيارته ويرغبون في مهاداته وبره فلا يقبل من أحد شيئًا كائنًا ما كان مع قلة دنياه لا كثيرًا ولا قليلًا وأثاث بيته على قدر الضرورة والأحتياج‏.‏

وكان يقرأ دروسه بمدرسة السنانية المجاورة لحارة سكنه بخط الصنادقية بحارة الأزهر ويحضر دروسه كبار العلماء والمدرسين ولا يرضى للناس بتقبيل يده ويكره ذلك فإذا تكامل حضور الجماعة وتحلقوا حضر من بيته ودخل إلى محل جلوسه بوسط الحلقة فلا يقوم لدخوله أحد‏.‏

وعندما يجلس يقرأ المقري وإذا تم الدرس قام في الحال وذهب إلى داره وهكذا كان دأبه‏.‏

توفي سنة أربع وخمسين وأقام عثمان بك ذا الفقار وصيًا على أبنته‏.‏ ومات

الإمام العمدة المتقن الشيخ رمضان بن صالح بن عمر بن حجازي السفطي

الخانكي الفلكي الحيسوني أخذ عن رضوان أفندي وعن العلامة الشيخ محمد البرشمسي وشارك الجمال يوسف الكلارجي والشيخ الوالد وحسن أفندي قطة مسكين وغيرهم وأجتهد وحرر وكتب بخطه كثيرًا جدًا وحسب المحكمات وقواعد المقومات على أصول الرصد السمرقندي الجديد وسهل طرقها بأدق ما يكون وإذا نسخ شيئًا من تحريراته رقم منها عدة نسخ في دفعة واحدة فيكتب من كل نسخة صفحة بحيث يكمل الأربع نسخ أو الخمسة على ذلك النسق فيتم الجميع في دفعة واحدة‏.‏

وكان شديد الحرص على تصحيح الأرقام وحل المحلولات الخمسة ودقائقها إلى الخوامس والسوادس وكتب منها عدة نسخ بخطه وهو شيء يعسر نقله فضلًا عن حسابه وتحريره‏.‏

ومن تصانيفه نزهة النفس بتقويم الشمس بالمركز والوسط فقط والعلامة بأقرب طريق وأسهل ما أخذ وأحسن وجه مع الدقة والأمن من الخطأ وحرر طريقة أخرة على طريق الدر اليتيم يدخل إليها بفاضل الأيام تحت دقائق الخاصة ويخرج منها المقوم بغاية التدقيق لمرتبة الثوالث في صفحات كبيرة متسعة في قالب الكامل‏.‏

وأختصرها الشيخ الوالد في قالب النصف ويحتاج إليها في عمل الكسوفات والخسوفات والأعمال الدقيقة يومًا يومًا‏.‏

ومن تآليفه‏:‏ كفاية الطالب لعلم الوقت وبغية الراغب في معرفة الدائر وفضله والسمت والكلام المعروف في أعمال الكسوف والخسوف والدرجات الوريفة في تحرير قسي العصر الأول وعصر أبي حنيفة وبغية الوطر في المباشرة بالقمر ورسالة عظيمة في حركات أفلاك السيارة وهيآتها وحركاتها وتركيب جداولها على التاريخ العربي على أصول الرصد الجديد وكشف الغياهب عن مشكلات أعمال الكواكب ومطالع البدور في الضرب والقسمة والجذور وحرك ثلثمائة وستة وثلاثين كوكبًا من الكواكب الثابتة المرصودة بالرصد الجديد بالأطوال والأبعاد ومطالع الممر ودرجاته لأول سنة 1139 والقول المحكم في معرفة كسوف النير الأعظم ورشف الزلال في معرفة أستخراج قوس مكث الهلال بطريفي الحساب والجدول‏.‏

وأما كتاباته وحسابياته في أصول الظلال وأستخراج السموت والدساتير فشيء لا ينحصر ولا يمكن ضبطه لكثرته وكان له بالوالد وصلة شديدة وصحبة أكيدة ولماحانت وفاته أقامه وصيًا على مخلفاته وكان يستعمل البرشعثا ويطبخ منه في كل سنة قزانا كبيرًا ثم يملأمنه قدورًا ديدفنها في الشعير ستة أشهر ثم يستعمله بعد ذلك ويكون قد حان فراغ الطبخة الأولى وكان يأتيه من بلده الخانكة جميع لوازمه وذخيرة داره من دقيق وسمن وعسل وجبن وغير ذلك ولا يدخل لداره قمح إلا لمؤنة الفراخ وعلفهم فقط وإذا حضر عنده ضيوف وحان وقت الطعام قدم لكل فرد من الخاضرين دجاجة على حدته‏.‏

ولم يزل حتى توفي ثاني عشر جمادى الأولى سنة 1158 يوم الجمعة ودفن بجوار تربة الشيخ البحيري كاتب القسمة العسكرية بجوار حوش العلامة الخطيب الشربيني‏.‏

ومات قاضي قضاة مصر صالح أفندي القسطموني‏.‏

كان عالمًا بالأصول والفروع صوفي المشرب في التورع ولي قضاء مصر سنة 1154 وبها مات سنة 1155 ودفن عند المشهد الحسيني‏.‏

ومات السيد زين العابدين المنوفي المكي أحد السادة المشهورين بالعلم والفضل توفي سنة 151‏.‏

ومات السيد الشربف حمود بن عبد الله ابن عمرو النموي الحسيني المكي أحد أشراف آل نمي كان صاحب صدارة ودولة وأخلاق رضية ومحاسن مرضية حسن المذاكرة والمطارحة لطيف المحاضرة والمحاورة‏.‏

توفي أيضًا سنة 1151‏.‏

ومات الأجل الفاضل المحقق أحمد أفندي الواعظ الشريف التركي كان من أكابر العلماء أمارا بالمعروف ولا يخالف في الله لومه لائم وكان يقرأ الكتب الكبار ويباحث العلماء على طريق النظار ويعظ العامة بجامع المرداني فكانت الناس تزدحم عليه لعذوبة لفظه وحسن بيانه وربما حضره بعض الأعيان من أمراء مصر فيسبهم جهرًا ويشير إلى مثالهم وربما منقوا منه وسلطوا عليه جماعة من الأتراك ليقتلوه فيخرج عليهم وحده فيغشى الله على أبصارهم‏.‏

مات في حادي عشري الحجة سنة 1161‏.‏

ومات القطب الكامل السيد عبد الله بن جعفر بن علوي مدهر باعلوى نزيل مكة ولد بالشحر وبها نشأ ودخل الحرمين وتوجه إلى الهندي ومكث في دهلي مدة تقرب من عشرين عامًا ثم عاد إلى الحرمين وأخذ عن والده وأخيه العلامة علوي ومحمد بن أحمد بن علي الستاري وابن عقيلة وآخرين‏.‏

وعنه أخذ الشيخ السيد وشيخ والسيد عبد الرحمن العيدروس‏.‏

وله مؤلفات نفيسة منها‏:‏ كشف أسرار علوم المقربين ولمح النور بباء اسم الله يتم السرور وأشرق النور وسناه من سر معنى الله لا نشهد سواه والأصل أربعة أبيات للقطب الحداد واللآلى الجوهرية على العقائد البنوفرية وشرح ديوان شيخ بن اسمعيل الشحري والنفحة المهداة بأنفاس العيدروس بن عبد الله والايفا بترجمة العيدروس جعفر بن مصطفى ديوان شعر ومراسلات ومات السيد الأجل عبد الله بن مشهور بن علي بن أبي بكر العلوي أحد السادة أصحاب الكرامات والأشراقات كان مشهورًا برؤية الخضر أدركه السيد عبد الرحمن العيدروس وترجمه في ذيل المشرع وأثنى عليه وذكر له بعض كرامات‏.‏

توفي سنة 1144‏.‏

ومات الأستاذ النجيب الماهر المتفنن جمال الدين يوسف بن عبد الله الكلارجي الفلكي تابع حسن أفندي كاتب الروزنامة سابقًا‏.‏

قرأ القرآن وجود الخط وتوجهت همته للعلوم الرياضية كالهيئة والهندسة والحساب والرسم فتقيد بالعلامة الماهر رضوان أفندي وأخذ عنه وأجتهد وتمهر وصار له باع طويل في الحسابيات والرسميات وساعده على إدراك مأموله ثروة مخدومه فاستنبط واخترع ما لم يسبق به وألف كتابًا حافلًا في الظلال ورسم المنحرفات والبسائط والمزاول والأسطحة جمع فيه ما تفرق في غيره من أوضاع المتقدمين بالأشكال الرسمية والبراهين الهندسية والتزم المثال بعد المقال والكف كتابا أيضًا في منازل القمر ومحلها وخواصها وسماها كنز الدرر في أحوال منازل القمر وغير ذلك‏.‏

وأجتمع عنده كتب وآلات نفيسة لم تجتمع عند غيره ومنها نسخة الزيج السمرقندي بخط العجم وغير ذلك‏.‏

توفي سنة 1153‏.‏

ومات الإمام العلامة والعمدة الفهامة مفتي المسلمين الشيخ أحمد بن عمر الأسقاطي الحنفي المكنى بأبي السعود تفقه على الشيخ عبد الحي الشرنبلالي والشيخ علي العقدي الحنفي البصير وحضر عليه المنار وشرحه لابن فرشته وغيره والشيخ أحمد النفراوي المالكي والشيخ محمد بن عبد الباقي الزرقاني والشيخ أحمد ابن عبد الرزاق الروحي الدمياطي الشناوي والشيخ أحمد الشهير بالبناء وأحمد بن محمد بن عطية الشرقاوي الشهير بالخليفي والشيخ أحمد بن محمد المنفلوطي الشافعي الشهير بابن الفقيه والشيخ عبد الرؤوف البشبيشي وغيرهم كالشيخ عبد ربه الديوي ومحمد بن صلاح الدين الدنجيهي والشيخ منصور المنوفي والشيخ صالح البهوتب ومهر في العلوم وتصدر لالقاء الدروس الفقهية والمعقولية وأفاد وأفتى وألف وأجاد وأنتفع الناس بتآليفه ولم يزل يملي ويفيد حتى توفي سنة 1159‏.‏

ومات الأستاذ الكبير والعلم الشهير صاحب الكرامات الساطعة والأنوار المشرقة اللامعة سيدي عبد الخالق بن وفا قطب زمانه وفريد أوانه وكان على قدم أسلافه وفيه فضيلة وميل للشعر وأمتدحه الشعراء وأجازهم الجوائز السنية وكان يحب سماع الآلات‏.‏

توفي رحمه الله في ثاني عشر ذي الحجة سنة 1161‏.‏

ومات الأستاذ شيخ الطريقة والحقيقة قدوة السالكين ومربي المريدين الإمام المسلك السيد مصطفى بن كمال الدين المذكور في منظومة النسبة لسيدي عبد الغني النابلسي كما ذكره السيد الصديقي في شرحه الكبير على ورده السحري البكري الصديقي الخلوتي نشأ ببيت المقدس على أكرم الأخلاق وأكملها رباه شيخه الشيخ عبد اللطيف الحلبي وغذاه بلبان أهل المعرفة والتحقيق ففاق ذلك الفرع الأصل وظهرت به في أفق الوجود شمس الفضل فبرع فهمًا وعلمًا وأبدع نثرًا نظمًا ورحل إلى جل الأقطار لبلوغ أجل الأوطار كما دأب على ذلك السلف لما فيه من أكتساب المعالي والشرف‏.‏

ولما أرتحل إلى اسلامبول لبس فيها ثياب الخمول ومكث فيها سنة لم يؤذن له بارتحال ولم يدر كيف الحال‏.‏

فلما كان آخر السنة قام ليلة فصلى على عادته من التجهد ثم جلس لقراءة الورد السحري فأحب أن تكون روحانية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المجلس ثم روحانية خلفائه الأربعة والأئمة الأربعة والأقطاب الأربعة والملائكة الأربعة‏.‏

فبينما هو في أثنائه إذ دخل عليه رجل فشمر عن أذياله كأنه يتخطى أناسا في المجلس حتى انتهى إلى موضع فجلس فيه ثم لما ختم الورد قام ذلك الرجل فسلم عليه ثم قال‏:‏ ماذا صنعت يا مصطفى فقال له‏:‏ ما صنعت شيئًا‏.‏

فقال له‏:‏ ألم ترني أتخطى الناس قال‏:‏ بلى أنما وقع لي أني أحببت أن تكون روحانية من ذكرناهم حاضرة‏.‏

فقال له‏:‏ لم يتخلف أحد مم أردت حضوره وما أتيتك إلا بدعوة والآن أذن لك في الرحيل‏.‏

وحصل الفتح والمدد والرجل المذكور هو الولي الصوفي السيد محمد التافلاتي متى عبر السيد في كتبه بالوالد فهو السيد محمد المذكور وقد منحه علوما جمة‏.‏

ورحل أيضًا إلى جبل لبنان وإلى البصرة وبغداد وما والاهما وحج مرات وتآليفه تقارب المائتين وأحزابه وأوراده أكثر من ستين وأجلها ورده السحري إذ هو باب الفتح وله عليه ثلاثة شروح أكبرها في مجلدين‏.‏

وقد شاد أركان هذه الطريقة وأقام رسومها وأبدى فرائدها وأظهر فوائدها ومنحه الله من خزائن الغيب ما لا يدخل تحت حصر‏.‏

قال الشيخ الحفني أنه جمع مناقب نفسه في مؤلف نحو أربعين كراسًا تسويدًا في الكامل ولم يتم‏.‏

وقد راى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وقال له‏:‏ من أين لك هذا المدد فقال‏:‏ منك يا رسول الله‏.‏

فأشار أن نعم ولقي الخضر عليه السلام ثلاث مرات وعرضت عليه قطبانية المشرق فلم يرضها وكان أكرم من السيل وأمضى في السر من السيف وأوتي مفاتيح العلوم كلها حتى أذعن له أولياء عصره و محققوه في مشارق الأرض ومغاربها وأخذ على رؤساء الجن العهود وعم مدده سائر الورود ومناقبه تجل عن التعداد وفيما أشرنا إليه كفاية لم أراد‏.‏

وأخذ عنه طريق السادة الخلوتية الأستاذ الحفني وارتحل لزيارته والأخذ عنه إلى الديار الشامية كما سيأتي ذلك في ترجمته وحج سنة إحدى وستين ثم رجع إلى مصر وسكن بدار عند قبة المشهد الحسيني وتوفي بها في ثاني عشر ربيع الثاني 1162 ودفن بالمجاورين ومولده في آخر المائة بعد الألف بدمشق الشام‏.‏

ومات العلامة الثبت المحقق المحرر المدقق الشيخ محمد الدفري الشافعي أخذ العلم عن الأشياخ من الطبقة الأولى وأنتفع به فضلاء كثيرون منهم العلامة الشيخ محمد المصيلحي والشيخ عبد الباسط السنديوني وغيرهما توفي سنة 1161‏.‏

ومات الأجل المكرم عبد الله أفندي الملقب بالانيس أحد المهرة في الخط الضابط كتب على الشاكري وغيره وأشتهر أمره جدًا وكان مختصًا بصحبة مير اللواء عثمان بك ذي الفقار أمير الحج وكتب عليه جماعة ممن رأيناهم ومنهم شيخ الكتبة بمصر اليوم حسن أفندي مولى الوكيل المعروف بالرشدي وقد أجازه في مجلس حافل‏.‏

توفي سنة 1159‏.‏

ومات الإمام الفقيه المحدث شيخ الشيوخ المتقن المتفنن المتجر الشيخ أحمد بن مصطفى بن أحمد الزبيري المالكي الإسكندري نزيل مصر وخاتمة المسندين بها الشهير بالصباغ ذكر في برنامج شيوخه أنه أخذ عن إبراهيم بن عيسى البلقطري وعلي بن فياض والشيخ محمد النشرتي والشيخ محمد الزرقاني وأحمد الغزاوي وإبراهيم الفيومي وسليمان الشبرخيتي ومحمد زيتونة التونسي نزيل الإسكندرية وأبي العز العجمي وأحمد بن الفقيه والكنكسي ويحيى الشاوي وعبد الله البقري وصالح الحنبلي وعبد الوهاب الشنواني وعبد الباقي القليني وعلي الرميلي وأحمد السجيني وإبراهيم الكتبي وأحمد الخليفي ومحمد الصغير والوزراري وعبده الديوي وعبد القادر الواطي وأحمد بن محمد الدرعي‏.‏

ورحل إلى الحرمين فأخذ عن البصري والنخلي والسندي ومحمد أسلم وتاج الدين القلعي والسيد سعد الله‏.‏

وكان المترجم أمامًا علامة سليم الباطن معمور الظاهر قد عم به الأنتفاع‏.‏

روى عنه كثيرون من الشيوخ وكان يذهب في كل سنة إلى تغر الإسكندرية فيقيم بها شعبان ورمضان وشوالًا وثم يرجع إلى مصر يملي ويفيد ويدرس حتى توفي في سنة 1162 ودفن بتربة بستان المجاورين بالصحراء‏.‏

ذكر من مات في هذه السنين من الأمراء المشهورين والأعيان مات الأمير علي بك ذو الفقار وهو مملوك ذي الفقار بك وخشداش عثمان بك ولما دخلوا على أستاذه وقت العشاء وقتلوه كما تقدم كان هو إذ ذاك خازنداره كما تقدم فقال المترجم بأعلى صوته‏:‏ الصنجق طيب هاتوا السلاح فكانت هذه الكلمة سببًا لهزيمة القاسمية وإخمادهم إلى آخر الدهر وعد ذلك من فطانته وثبات جأشه في ذلك الوقت والحالة‏.‏

ثم أرسل إلى مصطفى بك بلغيه فحضر عنده وجمع إليه محمد بك قطامش وأرباب الحل والعقد وأرسلوا إلى عثمان بك فحضر من التجريدة ورتبوا أمورهم وقتلوا القاسمية الذين وجدوهم في ذلك الوقت‏.‏

ولما وقف العرب بطريق الحجاج في العقبة سنة سبع وأربعين وكان أمير الحاج رضوان بك أرسل إلى محمد بك قطامش فعرفه ذلك فأجتمع الأمراء بالديوان وتشاوروا فيمن يذهب لقتال العرب فقال المترجم أنا أذهب إليهم وأخلص من حقهم وأنقذ الحجاج منهم ولاآخذ من الدولة شيئًا بشرط أن أكون حاكم جرجا عن سنة ثمان وأربعين فأجابوه إلى ذلك وألبسه الباشا قفطانًا وقضى أشغاله في أسرع وقت وخرج في طوائفه ومماليكه وأتباع أستاذه وتوجه إلى العقبة وحارب العرب حتى أنزلهم من الحلزونات وأجلاهم وطلع أمير الحاج بالحجاج وساق هو خلف العرب فقتل منهم مقتلة عظيمة ولحق الحجاج بنخل ودخل صحبتهم‏.‏

ولما دخل توت سافر إلى ولاية جرجا فأقام بها أياما ومات هناك بالطاعون‏.‏

ومات الأمير مصطفى بك بلغيه تابع حسن أغا بلغيه تقلد الإمارة والصنجقية في أيام اسمعيل بك ابن ايواظ سنة 1135 لم يزل أميرًا متكلمًا وصدرًا من صدور أصحاب الأمر والنهي والحل والعقد إلى أن مات بالطاعون على فراشه سنة 1148 ومات أيضًا رضوان أغا الفقاري وهو جرجي الجنس تقلد اغاوية مستحفظان عندما عزل علي أغا المقدم ذكره في أواخر سنة 1118 ثم تقلد كتخدا الجاويشية ثم أغات جملية في سنة 120 وكان من أعيان المتكلمين بمصر وفر من مصر وهرب مع من هرب في الفتنة الكبرى إلى بلاد الروم ثم رجع إلى مصر سنة خمس وثلاثين باتفاق من أهل مصر بعدما بيعت بلاده وماتت عياله ومات له ولدان‏.‏

فمكث بمصر خاملًا إلى سنة ست وثلاثين ثم قلده اسمعيل بك بن أيواظ آغاوية الجملية فاستقر بها نحو خمسين يومًا‏.‏

ولما قتل اسمعيل بك في تلك السنة نفي المترجم إلى أبي قير خوفًا من حصول الفتن فأقام هناك ثم رجع إلى مصر وأستمر بها إلى أن مات في الفصل سنة 1148‏.‏

ومات كل من اسمعيل بك قيطاس وأحمد بك اشراق ذي الفقار بك الكبير وحسن بك وحسين بك كتخدا الدمياطي واسمعيل كتخدا تابع مراد كتخدا وخليل جاويش قباجيه وأفندي كبير عزبان وحسن جاويش بيت مال العزب وأفندي صغير مستحفظان وأحمد أوده باشا المطرباز ومحمد أغا ابن تصلق أغات مستحفظان وحسن جلبي بن حسن جاويش خشداش عثمان كتخدا القازدغلي وغير ذلك مات الجميع في الفصل سنة ثمان وأربعين‏.‏

ومات أحمد كتخدا الخربطلي وهو الذي عمر الجامع المعروف بالفاكهاني الذي بخط العقادين الرومي بعطفة خوش وقدم وصرف عليه من ماله مائة كيس وأصله من بناء الفائز بالله الفاطمي وكان أتمامه في حادي عشر شوال سنة 1148 وكان المباشر على عمارته عثمان جلبي شيخ طائفة العقادين الرومي وجعل مملوكه علي ناظرا عليه ووصيًا على تركته‏.‏

ومات المترجم في واقعة بيت محمد بك الدفتر دار سنة 1149 مع من مات كما تقد الألماع بذكر ذلك في ولاية باكير باشا‏.‏

ومات الأمير عثمان كتخدا القازدغلي تابع حسن جاويش القازدغلي والد عبد الرحمن كتخدا صاحب العماير‏.‏

تنقل في مناصب الوجاقات في أيام سيده وبعدها إلى أن تقلد الكتخدائية ببابه وصار من أرباب الحل والعقد وأصحاب المشورة وأشتهر ذكره ونما صيته وخصوصًا لما تغلبت الدول وطهرت الفقارية‏.‏

ولما وقع الفصل في سنة ثمان وأربعين ومات الكثير من أعيان مصر وأمرائها غنم أموالا كثيرة من المصالحات والتركات وعمر الجامع المعروف بالأزبكية بالقرب من رصيف الخشاب في سنة سبع وأربعين وحصلت الصلاة فيه ووقع به ازدحام عظيم حتى أن عثمان بك ذا الفقار حضر للصلاة في ذلك اليوم متأخرًا فلم يجد له محلًا فيه فرجع وصلى بجامع أزبك‏.‏

وملأوا المزملة بشربات السكر وشرب منه عامة الناس وطافوا بالقلل لشرب من بالمسجد من الأعيان وعمل سماطًا عظيمًا في بيت كتخداه سليمان كاشف برصيف الخشاب وخلع في ذلك اليوم على حسن أفندي ابن البواب الخطيب والشيخ عمر الطهلاوي المدرس وأرباب الوظائف خلعا وفرق على الفقراء دراهم كثيرة وشرع في بناء الحمام بجواره بعد تمام الجامع والسبيل والكتاب وبنى زاوية العميان بالأزهر ورحبة رواق الأتراك والرواق أيضًا ورواق السليمانية ورتب لهم مرتبات من وقفه وجعل مملوكه سليمان الجوخدار ناظرًا ووصيًا وألبسه الضلمة‏.‏

ولم يزل عثمان كتخدا أميرًا ومتكلمًا بمصر وافر الحرمة مسموع الكلمة حتى قتل مع من قتل ببيت محمد بك الدفتر دار مع أن الجمعية كانت باطلاعه ورأيه ولم يكن مقصودًا بالذات في القتل‏.‏

ومات الأمير الكبير محمد بك قيطاس المعروف بقطامش وهو مملوك قيطاس بك جرجي الجنس وقيطاس بك مملوك إبراهيم بك ابن ذي الفقار بك تابع حسن بك الفقاري تولى الإمارة والصنجقية في حياة أستاذه وتقلد إمارة الحج سنة خمس وعشرين وطلع بالحج مرتين وتقلد أيضًا إمارة الحج سنة 1146 و 1148 لما قتل عابدي باشا أستاذه بقراميدان سنة 1126 كما تقدم ذكر ذلك عصى المترجم وكرنك في بيته هو وعثمان بك بارم ذيله وطلب بثار أستاذه ولم يتم له أمر وهرب إلى بلاد الروم فأقام هناك إلى أن ظهر ذو الفقار في سنة ثمان وثلاثين وخرج جركس هاربًا من مصر فأرسل عند ذلك أهل مصر يستدعون المترجم ويطلبون من الدولة حضوره إلى مصر فأحضروه وأرسلوا إلى مصر وأنعموا عليه بالدفتر دارية‏.‏

ولما وصل إلى مصر لم يتمكن منها حتى قتل علي بك الهندي فعند ذلك تقلد الدفتر دارية وظهر أمره ونما ذكره وقلد مملوكه علي صنجقًا وكذلك اشراقه إبراهيم بك‏.‏

ولما عزل باكير باشا تقلد المترجم قائمقامية وذلك سنة ثلاث وأربعين‏.‏

وبعد قتل ذي الفقار بك صار المترجم أعظم الأمراء المصرية وبيده النقض والأبرام والحل والعقد وصناجقه علي بك ويوسف بك وصالح بك وإبراهيم بك ولم يزل أميرًا مسموع الكلمة وافر الحرمة حتى قتل في واقعة بيت الدفتر دار كما تقد وقتل معه أيضًا من أمرائه علي بك وصالح بك‏.‏

ومات معهم أيضا يوسف كتخدا البركاوي وكان أصله جربجيا بباب العزب وطلع سردار بيرق في سفر الروم ثم رجع إلى مصر فأقام خاملًا قليل الحظ من المال والجاه فلما حصلت الواقعة التي ظهر فيها ذو الفقار وأجتمع محمد باشا وعلي باشا والأمراء وحصرهم محمد بك جركس من جهات الرميلة من ناحية مصلى المؤمنين والحصرية وتلك النواحي وتابعوا رمي الرصاص على من بالمحمودية وباب العزب والسلطان حسن بحيث منعوهم المرور والخروج والدخول وضاق الحال عليهم بسبب ذلك فعندها تسلق المترجم وخاطر بنفسه ونط من باب العزب إلى المحمودية والرصاص نازل من كل ناحية وطلع عند الباشا والأمراء وطلب فرمانا خطا بالكتخدا العزب بأنه يفرد قايبر بمائة نفر وأوده باشه ويكون هو سر عسكر ويطرد الذين في سبيل المؤمنين وهو يملك بيت قاسم بك ويفتح الطريق فأعطوه ذلك وفعل ما تقدم ذكره وملك بيت قاسم بك وجرى بعد ذلك ما جرى‏.‏

ولما انجلت القضية جعلوه كتخدا باب العزب وظهر شأنه من ذلك الوقت وأشتهر ذكره وعظم صيته‏.‏

وكان كريم النفس ليس للدنيا عنده قيمة ولم يزل حتى قتل في واقعة بيت الدفتر دار‏.‏

ومات الأمير قيطاس بك الأعور وهو مملوك قيطاس بك الفقاري المتقدم ذكره تقلد الإمارة في أيام أستاذه كان المترجم مسافرًا بالخزينة ونازلًا بوطاقه بالعادلية وكان خشداشة محمد بك قطامش نازلًا بسبيل علام فلما بلغه قتل أستاذه ركب هو وعثمان بك بارم ذيله وأتيا إليه وطلباه للقيام معهما في طلب ثار أستاذهم فلم يطاوعهما على ذلك وقال‏:‏ أنا معي خزينة السلطان وهي في ضماني فلا أدعها وأذهب معكما في الأمر الفارغ وفيكم البركة‏.‏

وذهب محمد بك وفعل ما فعله من الكرنكة في داره ولم يتم له أمر وخرج بعد ذلك هاربًا من مصر ولحق بقيطاس بك المذكور وسافر معه إلى الديار الرومية وأستمر هناك إلى أن رجع كما ذكر وعاد المترجم سنة اثنتين وأربعين وتوفي بمنى ودفن هناك‏.‏

ومات الأمير علي كتخدا الجلفي تابع حسن كتخدا الجلفي المتوفى سنة 1124‏.‏

تنقل في الإمارة بباب عزبان بعد سيده وتقلد الكتخدائية وصار من أعيان الأمراء بمصر وأرباب الحل والعقد ولما أنقضت الفتنة الكبيرة وطلع اسمعيل بك بن ايواظ إلى باب العزب وقتل عمر أغا أستاذ ذي الفقار بك وأمر بقتل خازنداره ذي الفقار المذكور أستجار بالمترجم وكان بلديه وكان إذ ذاك خازندار عند سيده حسن كتخدا فأجاره وأخذه في صدره وخلص له حصة قمن العروس كما تقدم فلم يزل يراعي له ذلك حتى أن يوسف كتخدا البركاوي أنحرف منه في أيام إمارة ذي الفقار وأراد غدره وأسر بذلك إلى ذي الفقار بك فقال له‏:‏ كل شيئ أطاوعك فيه إلا الغدر بعلي كتخدا فإنه كان السبب في حياتي وله في عنقي ما لا أنساه من المنن والمعروف وضمانة علي في كل شيء‏.‏

وقلده الكتخدائية وسبب تلقبهم بهذا اللقب هو أن محمد أغا مملوك بشير أغا القزلار أستاذ حسن كتخدا كان يجتمع به رجل يسنمى منصور الزتاحرجي السنجلفي من قرية من قرى مصر تسمى سنجلف وكان متمولًا وله ابنة تسمى خديجة فخطبها محمد أغا لمملوكه حسن أغا أستاذ المترجم وزوجها له وهي خديجة المعروفة بالست الجلفية‏.‏

وسبب قتل المترجم ماذكر في ولاية سليمان باشا بن العظم لما أراد أيقاع الفتنة وأتفق مع عمر بك ابن علي بك قطامش على قتل عثمان بك ذي الفقار وإبراهيم بك قطامش وعبد الله كتخدا القازدغلي والمترجم وهم المشار إليهم إذ ذاك في رياسة مصر‏.‏

وأتفق عمر بك مع خليل بك وأحمد كتخدا عزبان البركاوي وإبراهيم جاويش القازدغلي وتكفل كل منهم بقتل أحد المذكورين فكان أحمد كتخدا ممن تكفل بقتل المترجم فأحضر شخصًا يقال له لاظ إبراهيم من أتباع يوسف كتخدا الركاوي وإغراه بذلك فانتخب له جماعة من جنسه ووقف بهم في قبو السلطان حسن تجاه بيت آقبردي ففعل ذلك ووقف مع من أختارهم بالمكان المذكور ينتظر مرور علي كتخدا وهو طالع إلى الديوان وأرسل إبراهيم جاويش إنسانًا من طرفه سرًا يقول لا تركب في هذا اليوم صحبة أحمد كتخدا فإنه عازم على قتلك‏.‏

وبعد ساعة حضر إليه أحمد كتخدا فقام وتوضأ وقال لكاتبه التركي‏:‏ خذ من الخازندار الفلاني ألف محبوب ندفعها فيما علينا من مال الصرة‏.‏

فأخذ الكاتب في كيس وسبقه إلى الباب وركب مع أحمد كتخدا وإبراهيم جاويش وخلفهم حسنكتخدا الرزاز وأتباعهم فلما وصلوا إلى المكان المعهود خرج لاظ إبراهيم وتقدم إلى المترجم كأنه يقبل يده فقبض علي يده وضربه بالطبنجة في صدره فسقط إلى الـأرض وأطلـق باقـي الجماعـة مـا معهـم مـن آلـات النـار‏.‏

وعبقـت الدخنـة فرمـح ابن أمين البحرين وذهـب إلـى بيتـه وطلـع أحمـد كتخـدا وصحبتـه حسـن كتخدا الرزاز إلى الباب‏.‏

ولما سقط على كتخـدا سحبـوه إلـى الخربـة وفيه الروح فقطعوا رأسه ووضعوها تحت مسطبة البوابة في الخرابة وطلعوا إلى الباب وعندما طلع أحمد كتخدا واستقر بالباب أخذ الألف محبوب من الكاتب وطرده وأقترض من حسن كتخدا المشهدي ألف محبوب أيضًا وفرق ذلك على من الباب من أوده باشية والنفر‏.‏

ومن مآثر علي كتخدا المترجـم القصـر الكبيـر الـذي بناحيـة الشيـخ قمـر المعـروف بقصـر الجلفـي وكـان في السابق قصرًا صغيرًا يعرف بقصر القبرصلي وأنشأ أيضًا القصر الكبير بالجزيرة المعروفة بالفرشة تجاه رشيد الذي هدمه الأمير صالح الموجود الآن زوج الست عائشة الجلفية في سنة 1202 وباع أنقاضه وله غير ذلك مآثر كثيرة وخبرات رحمه الله‏.‏

ومات أحمد كتخدا المذكور قاتل علي كتخدا المذكور ويعرف بالبركاوي لأنه اشراق يوسف كتخدا البركاوي‏.‏

وخبر قتله أنه لما تم ما ذكر ونزول أحمد كتخدا من باب العزب بتمويهات حسيـن بـك الخشـاب وملكـه أتبـاع عثمـان بـك ندم على تفريطه ونزوله وعثمان بك يقول‏:‏ لابد من قتل قاتل صاحبي ورفيق سيدي قبل طلوعي إلى الحج وإلا أرسلت خلافي وأقمت بمصر وخلصت ثار المرحوم‏.‏

وأرسل إلى جميع الأعيان والرؤساء بأنهم لا يقبلوه وطاف هو عليهم بطول الليل فلم يقبله منهم أحد فضاقت الدنيا في وجهه وتوفي في تلك الليلة محمد كتخدا الطويل فاجتمع الاختيارية والأعيان ببيته لحضور مشهده فدخل عليهم أحمد كتخدا في بيت المتوفـى وقـال‏:‏ أنـا في عرض هذا الميت‏.‏

فقال له‏:‏ أطلع إلى المقعد وأجلس به حتى نرجع من الجنازة‏.‏

فطلع إلى المقعد كما أشاروا إليه وجلس لاظ إبراهيم بالحوش وصحبته اثنان من السراجين فلما خرجوا بالجنازة إغلقوا عليهم الباب من خارج وتركوا معهم جماعة حرسجية وأقامـوا مماليـك أحمد كتخدا في بيته يضربون بالرصاص على المارين حتى قطعوا الطريق وقتلوا رجلًا مغربيًا وفراشًا وحمارًا‏.‏

فأرسل عثمان بك إلى رضـوان بـك كتخـدا يأمـره بإرسـال جاويـش ونفـر وقابجيـة بطلـب محمـد كتخـدا مـن بيتـه ففعل ذلك فلما وصلوا إلى هناك ويقدمهم أبو مناخير فضة وجدوا رمي الرصاص فرجعوا ودخلوا من درب المغربلين وأرادوا ثقب البيت من خلفه فأخبرهم بعض الناس وقال بهم الذي مرادكم فيه دخل بيت الطويل فأتوا إلى البـاب فوجـدوه مغلقـًا من خارج فطلبوا حطبًا وأرادوا أن يحرقوا الباب فخاف الذين أبقوهم في البيت من النهب فقتلوا لاظ ابراهيم ومن معه وطلعوا إلى أحمد كتخدا فقتلوه أيضًا وألقوه من الشباك المطل على حوض الداودية فقطعوا رأسه وأخذوها إلى رضوان كتخدا فأعطاهم البقاشيش وقطـع رجـل ذراعـه وذهـب بهـا إلـى السـت الجلفيـة وأخـذ منها بقشيشًا أيضًا‏.‏

ورجع من كان في الجنـازة وفتحـوا البـاب وأخرجـوا لـاظ إبراهيـم ميتـًا ومن معه وقطعوه قطعًا‏.‏

واستمر حمد كتخدا مرميًا من غير رأس ولا ذراع حتى دفنوه بعد الغروب ثم دفنوا معه الرأس والذراع‏.‏

ومات الأمير سليمان جاويش تابع عثمان كتخدا القازدغلي الذي جعله ناظرًا وصيـًا وكـان جوخداره ولما قتل سيده استولى على تركته وبلاده ثم تزوج بمحظية أستاذه الست شويكار الشهيرة الذكر ولم يعط الوارث الذي هو عبد الرحمن بن حسن جاويش أستاذ عثمان كتخدا سـوى فائـظ أربعـة أكيـاس لا غيـر‏.‏

وتواقـع غبـد الرحمن جاويش على اختيارية الباب فلم يساعده أحد فحنـق منهـم واتسلـخ مـن بابهـم وذهـب إلـى بـاب العـزب وحلـف أنـه لا يرجـع إلـى بـاب الينكجريـة مـادام سليمـان جاويـش حيـًا‏.‏

وكـان المترجـم صحبـة أستـاذه وقـت المقتلـة ببيـت الدفتردار فانزعجوداخله الضعف ومرض القصبة ثم انفصـل مـن الجاويشيـة وعمـل سـردار قطـار سنـة إحـدى وخمسيـن وركـب في الموكب وهو مريض وطلع إلى البركة في تختروان وصحبته الطبيب فتوفـي بالبركـة وأميـر الحـاج إذ ذاك عثمـان بك ذو الفقار وكان هناك سليمان آغا كتخدا لجاويشية وهو زوج أم عبد الرحمن جاويش فعرف الصنجق بموت سليمان جاويش ووارثه عبد الرحمن جاويـش واستأذنـه فـي إحضـاره وأن يتقلـد منصبه عوضه فأرسلوا إليه وأحضروه ليلًا وخلع عليه عثمان بك قفطان السردارية وأخذ عرضه من باب العزب وطيب سليمان آغا خاطر الباشا بحلوان وكتب البلاد باسم عبد الرحمن جاويش وأتباعه وتسلم مفاتيح الخشاخين والصناديق والدفاتر من الكاتب وجاز شيئًا كثيرًا وبرفي قسمه ويمينه‏.‏ ومات

الأميـر محمـد بـك إسماعيل بـك الدفتـردار

وقتل الأمراء المتقدم ذكرهم في بيته ووالدته بنت حسـن آغـا بلغيـه‏.‏

وخبـر موته أنه لما حصل ما حصل وانقلب التخت عليهم اختفى المترجم في مكان لم يشعر به أحد فمرضت والدته مرض الموت فلهجت بذكر ولدها فذهبوا إليه وقنعوه وأتوا به إليها من المكان المختفي فيه بزي النساء فنظرت إليه وتأوهت وماتت ورجع إلى مكانه‏.‏

وكانت عندهم امرأة بلانة فشاهدت ذلك وعرفت مكانه فذهبت إلى آغا الينكجرية وأخبرتـه بذلـك فركـب إلى المكان الذي هو فيه في التبديل وكبسوا البيت وقبضوا عليه وركبوه حمـارًا وطلعـوا بـه إلـى القلعـة فرمـوا عنقـه وكانـوا نهبـوا بيتـه قبـل ذلـك فـي أثـر الحادثـة وكـان موتـه أواخـر ومات عثمان كاشف ورضوان بك أمير الحاج سابقًا ومملوكه سليمان بك فإنهم بعد الحادثة وقتـل الأمـراء المذكوريـن وانعكـاس أمـر المذكوريـن اختفوا بخان النحاس في خان الخليلي وصحبتهم صالح كاشف زوج بنت إيواظ الذي هو السبب في ذلك فاستمروا في أخفائهم مدة ثم أنهم دبـروا بينهـم رأيـًا فـي ظهورهـم واتفقـوا علـى إرسـال عثمـان كاشف إلى إبراهيم جاويش قازدغلي فغطى رأسه بعد المغرب ودخل إلى بيت إبراهيم جاويش فلما رآه رحب به وسألـه عـن مكانهم فأخبره أنه بخان النحاس وهم فلان وفلان يدعـون لكـم ويعرفـون همتكـم وقصدهـم الظهـور علـى أي وجـه كـان‏.‏

فقال له نعم ما فعلتم وآنسه بالكلام إلى بعد العشاء عندما أراد أن يقوم قال له اصبر وقام كأنه يزيل ضرورة‏.‏

فأرسل سراجًا إلى محمد جاويش الطويل يخبره عن عثمـان كاشـف بأنـه عنـده فأرسـل إليـه طائفـة وسراجيـن وقفـوا لـه في الطريق وقتلوه‏.‏

ووصل الخبر إلـى ولـده ببيـت أبـي الشـوراب فحضر إليه وواراه وأخذ ولده المذكور إبراهيم جاويش وطلع في صبحهـا إلـى البـاب فأخبـر أغـات مستحفظـان فنـزل وكبـس خان النحاس وقبض على رضوان بك وصحبتـه ثلاثـة فأحضرهـم إلـى الباشـا فقطـع رؤوسهـم‏.‏

وأما صالح كاشف فإنه قام وقت الفجر فدخـل الحمـام فسمـع بالحمـام قتـل عثمـان كاشـف فـي حوض الداودية فطلع من الحمام وهو مغطى الرأس وتأخر في رجوعه إلى خان الخليلي‏.‏

ثم سمع بما وقع لرضوان بك ومن معه فضاقت الدنيافـي وجهـه فذهـب إلـى بيته وعبأ خرج حوايج وما يحتاج إليه وحمل هجينا وأخذ صحبته خدامًا ومملوكًا راكبًا حصانًا وركب وسار من حارة السقايين على طريق بولاق على الشرقية وكلمـا أمسـى عليـه الليـل يبيـت فـي بلـد حتـى وصـل عربـان غـزة‏.‏

ثم ذهب في طلوع الصيف إلى اسلامبول ونـزل فـي مكـان‏.‏

ثـم ذهـب عنـد دار السعـادة وكـان أصلـه مـن أبتـاع والـد محمـد بـك الدفتـر دار فعرفـه عـن نفسـه فقـال لـه‏:‏ أنـت السبـب فـي خـراب بيت ابن سيدي واستأذن في قتله فقتلوه بيـن الأبـواب فـي المحل الذي قتل فيه الصيفي سراج جركس فكان تحرك هؤلاء الجماعة وطلبهم الظهور من الأختفاء كالباحث على حتفه بظلفه‏.‏

ومات الأمير خليل بك فطامش أمير الحاج سابقًا تقلد الإمارة والصنجقية سنة تسع وأربعين وطلع بالحج أميرًا سنة ثمان وخمسين و لم يحصل في أمارته على الحجاج راحة وكذلك على غيرهم‏.‏

وكان أتباعه يأخذون التبن من بولاق ومن المراكب إلى المناخ من غير ثمن ومنع عوائد العـرب وصـادر التجـار فـي أموالهـم بطريـق الحـج‏.‏

وكانـت أولاد خزنته ومماليكه أكثرهم عبيد سود يقفـون فـي حلزونـات العقبـة ويطلبـون مـن الحجـاج دراهـم مثـل الشحاتيـن‏.‏

وكـان الأمير عثمان بك ذو الفقـار يكرهـه ولا تعجبـه أحوالـه ولمـا وقـع للحجـاج ما وقع في أمارته ووصلت الأخبار إلى مولاي عبـد اللـه صاحـب المغـرب وتأخـر بسبـب ذلـك الراكب عن الحج في السنة الأخرى أرسل مكتوبًا إلـى علمـاء مصـر وأكابرهـن ينقـم عليهـم فـي ذلك ويقول فيه‏:‏ وإن مما شاع بمغربنا والعياذ بالله وذاع وانصدعت منه صدور أهل الدين والسنة أي انصداع وضاقت من أجله الأرض على الخلائق وتحمـل مـن فيـه أيمـان لذلـك ما ليس بطائق من تعدى أمير حجكم على عباد الله وإظهار جرأته علـى زوار رسـول اللـه فقـد نهـب المـال وقتـل الرجـال وبـذل المجهـود في تعديه الحدود وبلغ في خبثه الغاية وجاوز في ظلمه الحد و النهاية فيالها من مصيبة ما أعظمها ومـن داهيـة دهمـاء مـا أجسمهـا فكيـف يـا أمـة محمـد صلى الله عليه وسلم يهان أو يضام حجاج بيت الله الحرام وزائرو نبينا عليه الصلاة والسلام وبسببها تأخر الركب هذه السنة لهنالك وأفصحت لنا علماء الغرب بسقوطه لما ثبت عندهم ذلك فيا للعجب كيف بعلماء مصر ومن بها من أعيانها لا يقومون بتغييـر هـذا المنكـر الفادح بشيوخها وشبانها‏.‏

فهي والله معرة تلحقهم من الخاص والعام إلى آخر ما قال فلما وصل الجوار وأطلع عليه الوزير محمد باشا راغب أجاب عنه بأحسن جواب وأبدع فيما أودع من درر وغرر تسلب عقول أولي الألباب يقول فيه بعد صدر السلام وسجع الكلام‏:‏ ينهي بعد أبلاغ دعاء نبع من عين المحبة وسما وملأ بساط أرض الود وطما أن كتابكم الذي خصصتم الخطاب به إلى ذوي الأفاضة الجلية النقية سلالة الطاهرة الفاخـرة الصديقيـة أخواننا مشايخ السلسلة البكرية تشفت أنظارنا بمطالعة معانيـه الفائقـة والتقطـت أنامـل أذهاننـا درر مضامينـه الكافيـة الرائقـة التـي أدرجتم فيها ما أرتكبه أمير الحاج السابق في الديار المصرية فـي مـق قصـاد بيـت اللـه الحـرام وزوار روضـة النبـي الهاشمـي عليـه أفضل الصلاة والسلام‏.‏

فكل ما حررتموه صدر من الشقي المذكور بل أكثر مما تحويه بطون السطور لكن الزارع لا يحصد إلا مـن جنـس زرعـه فـي حـزن الـأرض وسهلـه ولا يحيـق المكر السيء إلا بأهله لأن الشقي المذكور لما تجاسر إلى بعض المنكرات في السنة الأولى حملناه إلى جهالته وأكتفينا بتهديدات تلين عروق رعونتـه وتكشـف عيـون هدايتـه فلـم تفـد في السنة الثانية إلا الزيادة في العتو والفساد ومن يضلل اللـه فمـا لـه مـن هاد‏.‏

ولما تيقنا أن التهديد بغير الأيقاع كالضرب في الحديد البارد أو كالسباخ لا يرويها جريان الماء الوارد هممنا باسقائه من حميم جراء أفعاله لآن كل أحد من الناس مجزى بأعماله فوفقني الله تعالى لقتل الشقي المذكور مع ثلاثة من رفقائه العاضدين له في الشرور وطردنـا بقيتهـم بأنـواع الخـزي إلـى الصحـاري فهم بحول الله كالحيتان في البراري وولينا إمارة الحج من الأمراء المصريين من وصف بين أقرانه بالأنصاف والديانة وشهد له بمزيد الحماية والصيانة‏.‏

والحمد لله حق حمده رفعت البلية من رقاب المسلمين خصوصًا من جماعة ركبوا غـارب الأغتراب بقصد زيارة البلد الأمين‏.‏

فإن كان العائق من توجه الركب المغربي تسلط الغادر السالف فقـد أنقضـى أوان غـدره علـى ماشرحنـاه وصـار كرمـاد أشتـدت بـه الريـح فـي يـوم عاصف والحمد لله معى ما منحنا من نصرة المضلومين وأقدرنا على رغـم أنـوف الظالميـن وصلـى اللـه علـى سيدنـا محمـد خاتم النبيين والمرسلين والحمد لله رب العالمين تحريرًا في سادس عشر المحرم أفتتاح سنة 1161‏.‏

وأجاب أيضًا الأشياخ بجواب بليغ مطول أعرضت عن ذكره لطوله ومات خليل بك المذكور قتيلًا في ولاية راغب باشا سنة 1160 قتله عثمان أغا أبو يوسف القلعة وقتل معه أيضًا عمر بك بلاط وعلي بك الدمياطي ومحمد بك قطامش الذي كـان تولـى الصنجقيـة وسافـر باخزينـة سنـة سبـع وخمسيـن عوضـًا عـن عمـر بـك ابـن علـي بك ونزلت البيـارق والعسكـر والمدافـع لمحاربـة إبراهيـم بـك وعمـر بـك وسليمـان بـك القطامشة فخرجوا بمتاعهم وعازقهم وهجنهم من مصر إلى قبلي ونهبوا بيوت المقتولين والفارين وتعض من هم من عصبتهم‏.‏

ومـات محمـد بـك المعروف باباظة وذلك أنه لما حصلت واقعة حسين بك الخشاب وخروجه من مصـر كمـا تقـدم فـي ولايـة محمـد باشـا راغـب حضـر محمـد بـك المذكـور إلـى مصـر وصحبته شخص آخـر فدخـلا خفيـة استقرا بمنزل بعض الاختيارية من وجاق الجاويشية فوصل خبره إلى إبراهيم جاويش فأرسل إليه أغات الينكجرية فرمى عليـه بالرصـاص وحاربـه‏.‏

وحضـر أيضـًا بعـض الأمـراء الصناجـق فلـم يـزل يحاربهـم حتـى فـرغ مـا عنـده مـن البـارود فقبضـوا عليـه وقتلـوه في الداودية ورموا رقبة بباب زويلة‏.‏

ومـا الأجـل الأمثـل المبجـل الخواجـا الحـاج قاسـم بـن الخواجا المرحوم الحاج محمد الدادة الشرايبي من بيت المجد والسيـادة والإمـارة والتجـارة وسبـب موتـه أنـه نزلـت بانثييـه نازلـة فأشـاروا عليـه بفصدهـا وأحضـروا لـه حجامـًا ففصـده فيهـا بمنزلـه الـذي خلف جامع الغورية‏.‏

ثم ركب إلى منزله بالازبكية فبات به تلك الليلة‏.‏

وحضر له المزين في ثاني يوم ليغير له الفتيلة فوجد الفصدلم يصـادف المحـل فضربـه بالريشـة ثانيـا فأصابـت فـرخ الأنثييـن ونزل منه دم كثير‏.‏

فقال له‏:‏ قتلتني أنج بنفسك‏.‏

وتوفي فـي تلـك الليلـة وهـي ليلـة السبـت ثانـي عشـر ربيـع الآخـرة سنـة 1147 فقبضـوا علـى ذلـك المزيـن وأحضروه إلى أخيه سيدي أحمد فأمرهم باطلاقه فأطلقوه وجهزوا المتوفى وخرجوا بجنازته من بيته بالازبكية في مشهد عظيم حضره العلماء وأرباب السجاجيد والصناجـق والأغوات والاختيارية والكواخي حتى عثمان كتخدا القازدغلي لم يزل ماشيًا إمام نعشه من البيت إلى المدفن بالمجاورين‏.‏

ومـات الأميـر حسـن بـك المعـروف بالوالـي الـذي سافـر بالخزينـة إلـى الديـار الروميـة فتوفـي بعـد وصوله إلـى اسلامبـول وتسليمـه الخزينـة بثلاثـة أيـام ودفـن باسكدار وألبسوا حسن مملوكه أمارته وذلك في أوائل جمادى الأولي سنة 1148‏.‏

ومـات الوزيـر المكـرم عبـد اللـه باشـا الكبورلـي الـذي كـان واليـًا فـي مصر في سنة 1143 وقد تقدم أنه من أرباب الفضائل وله ديوان وتحقيقات وكان له معرفة بالفنون والأدبيـات والقـراءات تـلا القرآن على الشهاب الأسقاطي وأجازه وعلى محمد بن يوسف شيخ القراء بدار السلطنة‏.‏

الأمير عثمان بك ذو الفقار وهو وأن لم يمت لكنه خرج من مصر ولم يعد إليها إلى أن مات بالروم وأنقطع أمره من مصر فكأنـه صار في حكم من مات‏.‏

وليس هو ممن يهمل ذكره أو يذكر في غير موضعه لأنه عاش بعد خروجه من مصر نيفًا وثلاثين سنة‏.‏

ولجلالة شأنه جعل أهل مصر سنة خروجه منها تاريخًا لأخبارهم ووقائعهم ومواليدهم إلى الآن من تاريخ جمع هذا الكتاب أعني سنة 1220 فيقولـون جـرى كـذا سنـة خـروج عثمـان بـك وولـدت سنـة خروج عثمان بك أو بعده بكذا سنة أو شهر‏.‏

هو تابع الأمير ذي الفقار تابع عمر أغا تقلد الإمارة والصنجقية سنة 1138 بعد ظهور أستاذه من أختفائه وخرود محمد بك جركس من مصر فتقلد الإمارة وخرج بالعسكر للحوق بجركس وصحبته يوسف بك قطامش والتجريدة فوصلوا إلى حوش ابن عيسى وسألوا عنه فأخبرهـم العرب أنه ذهب من خلف الجبل الأخضر إلى درنة‏.‏

فعاد بالعسكر إلى مصر وتقلد عـدة مناصـب وكشوفيـات الإقليم في حياة أستاذه ولما رجع محمد بك جركس في سنة اثنتين وأربعيـن خـرج إليـه بالعسكـر وجـرى مـا تقـدم ذكـره مـن الحروب والأنهزام وخروجه صحبة علي بك قطامش ولما قتل سيده بيد خليل آغا وسليمان أبي دفية قبل صلاة العشاء وجرى ما تقدم أرسلـو إليـه وحضـر مـن التجريـدة وجلـس ببيـت أستـاذه وتقلـد خشداشه على الخازندار الصنجقية وتعضده به ومات محمد بك جركس ودخل برأسه علي بك قطامش ثم تفرغوا للقبض على القاسمية فكان كلما قبضوا على أمير منهم احضروه إلى محمد باشا فيرسله إلى المترجم فيأمر برمي عنقه تحت المقعد حتى أفنوا الطائفة القاسمية قتلًا وطردًا وتشتتوا رفي البلـاد وأختفـوا فـي النواحـي والتجـأ الكثيـر منهم إلى أكابر الهوارة ببلاد الصعيد ومنهم من فر إلى بلـاد الشـام والـروم ولـم يعـد إلـى مصـر حتـى مـات ومـات خشداشـه علـي بـك بولاية جرجا سنة ثمان وأربعيـن فقلـد عوضـه مملوكـه حسـن الصنجقيـة‏.‏

ولمـا حصلت كائنة قتل الأمراء الأحد عشر ببيت الدفتر دار وكان المترجم حاضرًا في ذلك المجلس وأصابه سيف فقطع عمامته فنزل وركب وخـرج مـن بـاب البركة وسار إلى باب الينكجرية وأجتمع إليه الأعيان من الاختيارية والجاويشية وأحضروا عمر بن علي بك قطامش فقلـدوه إمـارة أبيـه وضمـوا إليهـم بـاب العـزب وعملـوا متاريس وحاربوا المجتمعين بجامع السلطان حسن حتى خذلوهم وتفرقوا وأختفـوا كمـا تقـدم وعزلوا الباشا‏.‏

وظهر أمر المترجم بعد هذه الواقعة وانتهت إليه رياسة مصر وقلد أمراء من أشراقاته وحضر إليه مرسوم من الدولة بالإمارة على الحج فطلع بالحج سنة إحدى وخمسين ورجـع سنـة اثنتيـن وخمسيـن فـي أمـن وأمـان وسخـاء ورخاء‏.‏

ولما حصلت الكائنة التي قتل فيها علـي كتخـدا الجلفـي تعصـب المترجـم أيضـًا لطلـب ثآره وبذل همته في ذلك وعضد أتباعه وعزل الباشا المتولي وقلد رضوان كتخدائية العزب عوضًا عن أستاذه وأحاط بأحمد كتخدا قاتل المذكور حتى قتل هو ولاظ إبراهيم كما تقدم وقلد مملوكه سليمان كاشف الصنجقية وجعله أميـرًا علـى الحـج وسافر به سنة ثلاث وخمسين ورجع سنة أربع وخمسين في أمن وأمان فطلع عمر بك ابن علي بك قطامش سنة أربع وخمسين ورجع سنة خمس وخمسين‏.‏

ثم ورد أمر للمترجم بإمارة الحج سنة خمس وخمسين وذلك في ولاية يحيى باشا‏.‏

وفي تلك السنة عمل المترجـم وليمـة ليحيـي باشـا فـي بيتـه وحضـر إليه وقدم له تقادم وهدايا ولم يتفق نظير ذلك فيما تقدم بأن الباشا نزل إلى بيت أحد من الأمراء وأنما كانوا يعملون لهم الولائم بالقصور خارج مصـر مثـل قصـر العينـي أو المقيـاس‏.‏

وطلع بالحج تلك السنة ورجع سنة ست وخمسين في أمن وأمـان وأنتهـت إليـه الرياسـة وشمـخ علـى أمـراء مصـر ونفذ أحكامه عليهم قهرًا عنهم عمل في بيته دواوين لحكومات العامة وأنصاف المظلوم من الظالم وجعل لحكومات النساء ديوانا خاصًا ولا يجري أحكامه إلا على مقتضى الشريعة ولا يقبل الرشوة ويعاقب عليها ويباشر أمور الحسبـة بنفسه‏.‏

وعمل معدل الخبز وغيره حتى الشمع والفحم ومحقرات المبيعات شفقة على الفقراء ومنـع المحتسـب مـن أخـذ الرشوات وحجج الشهود من المحاكم‏.‏

وكان يرسل الخاصكية أتباعه في التعابيـن حتـى علـى الأمـراء ولم يعهد عليه أنه صادر أحدًا في ماله وأخذ مصلحة على ميراث ومات كثير من الأغنياء وأرباب الأموال العظيمة مثل عثمان حسون وسليمان جاويش تابـع عثمان كتخدا فلم تطمح نفسه لشيء من أموالهم‏.‏

ولما ورد الأمر بأبطال المرتبات ةجعلوا على تنفيذها مصلحة للباشا وغيره أفرزوا له قدرا أمتنع من قبوله وأقتدى به رضوان بك وقال‏:‏ هذا من دموع الفقراء وإن حصلت الأجابة كانت مظلمة وأن لم تحصل كانت مظلمتين‏.‏

وكان عالي الهمة حسن السياسة ذكي الفطنة يحب أقامة الحق والعدل في الرعية وهابته العرب وأمنت الطرق والسبل البرية والبحرية في أيامه وله حسن تدبير في الأمور طاهر الذيل شديد الغيرة‏.‏

ولم يـأت بعـد اسمعيـل بـك ابـن ايـواظ فـي أمـراء مصـر مـن يشابهـه أو يدانيـه لـولا مـا كـان فيـه مـن حدة الطبيعة إذا قال كلامًا أو عاند في شيء لا يرجع عنه وكان لا يجالس إلا أرباب الفضائل مثل المرحوم الشيخ الوالد والسيد أحمد النخال والشيخ عبد الله الأدكـاوي والشيـخ يوسـف الدلجـي وسيـدي مكـي وقرأ على الشيخ الوالد تحفة الملوك في المذهب والمقامات الحريرية وكتبها لـه بخطـه التعليـق الحسـن فـي خمسيـن جـزء لطافـا كـل مقامة على حدتها وألف لأجله مناسك الحج المشهـورة فـي جـزء لطيـف وبالجملـة فكـان المترجـم مـن خيـار الأمـراء لـولا مـا كـان فيـه مـن الحدة حتى أستوحشـوا منـه وحضـر إليـه يومـًا علـي باشجاويـش اختيـار مستحفظـان الدرندلـي فـي قضية فسبه وشتمه وكذلك علي جاويش الخربطلي شتمه وأراد أن يضربه وغير ذلك السبب في كائنة عثمان بك وخروجه من مصر مبدأ ذلك تغير خاطره من إبراهيم جاويش وتغير خاطر إبراهيم جاويش منه لأمور وحقد باطنـي لا تخلـو عنـه الرياسـة والإمـارة فـي الممالـك‏.‏

والثانـي أن علـى كاشـف لـه حصـة بناحيـة طحطـا وباقـي الحصـة تعلـق عبـد الرحمـن جاويش ابن حسن جاويش القازدغلي فأجرها لعثمان بك ونزل علـي كاشف فيها على حصته وحصة مخدومه فحضر إليه رجل وأغراه على قتل حماد شيخ البلد ويأخذ من أولاده مائة جنزرلي وحصانًا ويعمل واحدا منهم شيخًا عوضًا عن أبيه ففعل ذلـك ووعـده إلـى أن يذهـب منهـم شخـص إلـى مصـر ويأتـي بالدراهـم مـن الأميـن وضمنهم الذي كان السبـب فـي قتـل أبيهـم فحضـر شخـص منهـم إلـى مصـر وطلب من الأمين مائة جنزرلي وحكى له ما وقع فأخذه وأتى به إلى إبراهيم جاويش القازدغلي وعرفه بالقصة وما فعل علي كاشف بأغراء سالـم شيـخ البلـد وأنـه ضمنهـم أيضـًا فـي المائـة جنزرلـي وقـد أتـى فـي غرضيـن تمنـع عنـه علـي كاشف وتخلص ثاره من سالم‏.‏

فركـب إبراهيـم جاويـش وأتـى بيـت عبـد الرحمـن جاويـش وصحبتـه الولـد فقص عليه القصة وفهمها ثم أنهم ركبوا وذهبوا عند عثمان بك فوجدوا عنده عبـد اللـه كتخـدا القازدغلـي وعلـي كتخـدا الجلفـي فسلمـوا وجلسـوا فقـال إبراهيم جاويش‏:‏ نحن قد اتينـا فـي سـؤال قـال الصنجـق‏:‏ خيـر‏.‏

فذكـر القصـة ثم قال له‏:‏ أرسل أعزل علي كاشف وأرسل خلافـه‏.‏

فقال الصنجق‏:‏ صاحب قيراط في الفرس يركب وهذا له حصة فلا يصح أني أعزله وللحاكم الخروج من حق المفسود‏.‏

وتراددوا في الكلام إلى أن أحتد الصنجق وقال له إبراهيم جاويش‏:‏ أنت لك غيره على بلاد الناس وسنتك فرغت وأنـا أستأجـرت الحصـة‏.‏

فقـال لـه الصنجـق‏:‏ أنـزل أعمـل كاشفًا فيها على سبيل الهزل‏.‏

فقام إبراهيم جاويش منتورًا وقام صحبته عبـد الرحمـن جاويـش وذهبـوا إلـى بيـت عمـر بـك فوجـدوا عنده خليل أغا قطامش وأحمد كتخدا البركـاوي صنجق ستة فحكوا لهم القصة وما حصل بينهم وبين عثمان بك فقال أحمد كتخدا عزبان‏:‏ الجمل والجمال حاضران أكتب ايجار حصة أخيك عبد الرحمن جاويش وخذ على موجبهـا فرمانـا بالتصـرف فـي الناحيـة فأحضـروا واحدا شاهدا وكتبوا الأيجار‏.‏

وبلغ الخبر عثمان بك فأرسل كتخداه إلى الباشا يقول‏:‏ لا تعط فرمانا بالتصرف في ناحيـة طحطـا لإبراهيـم جاويش فلما خرجت الحجة أرسلهـا للباشـا صحبـة باشجاويـش فامتنـع الباشـا مـن أعطـاء الفرمان فقامت نفس إبراهيم جاويش من عثمان بك وعـزم علـى غـدره وقتلـه‏.‏

ودار علـى الصناجـق والوجاقليـة وجمـع عنـده أنفارًا فسعى علي كتخدا الجلفي وبذل جهده في تمهيد النائرة وأرسل إبراهيم جاويش ابن حماد وقال له‏:‏ لماتطلع البلد وزع كامل ما عندك وخليكم على ظهـور الخيـل ولمـا يأتيكـم سالـم أقتلـوه واخرجـوا مـن البلـد حتـى ينزل كاشف من طرفي أرسل لكم ورقة أمان أرجعوا وعمروا‏.‏

فنزل الولد وفعل ما قاله له الجاويش فوصل الخبر على كاشف فركب خلفهم فلم يحصل منهم أحدًا وأرسل إبراهيم جاويش كاشفًا من طرفه بطائفة ومدافع ونقارية وورقة أمان لاولاد حماد‏.‏

وأستمر علـى كتخـدا يسعـى حتـى أصلـح بيـن الصنجـق والجاويش والذي في القلب في القلب كما قيل‏:‏ أن القلوب إذا تنافـر ودهـا مثل الزجاجة كسرهـا لا يجبـر ولما أخذ الخبر علي كاشف بالخصومة حضر إلى مصر قبل نزول الكاشف الجديد وكانت هذه القضية أوائل سنة 1149 قبل واقعة بيت الدفتر دار وقتل الأمراء‏.‏

وأمـا النفـرة التي لم يندمل جرحها فهي دعوة برديس وفرشوط وهو أن شيخ العرب همام رهن عنـد إبراهيـم جاويـش ناحيـة رديـس تحت مبلغ معلوم لأجل معلوم وشرط فيه وقوع الفراغ بمضي الميعـاد فأرسـل همـام إلى المترجم يستعير جاهه في منع الفراغ بالناحية لإبراهيم جاويش فأخبر عثمان بك الباشا وقال له‏:‏ هوارة قبلي راهنون عند إبراهيم جاويش بلدا وأرسلوا يقولون أن أوقـع فيهـا فراغه وأرسل لها كاشفًا قتلناه وقطعنا الجالب فأنتم لا تعطونه فرمانا في بلاد هوارة فأنهم يوقفون المال والغلال‏.‏

فلم يتمكن إبراهيم جاويش من عمل الفراغ ويطلب الدراهم فلا يعطيه وطالت الأيام وعثمان بك مستمر على عناده وإبراهيـم جاويـش يتواقـع علـى الأمـراء والاختيارية فلم ينفذ له غرض ويحتج عليه بأشياء وشبه قوية وحسابات وحوالات ونحو ذلك إلى أن ضاق خناق إبراهيم جاويش فاجتمع على عمر بك وخليل بك وأنجمعوا على رضوان كتخدا وكان أنفصل من كتخدائية الباب فقالـوا لـه‏:‏ أ ان تكـون معنـا وأمـا أن ترفـع يـدك مـن عثمـان بـك‏.‏

فلـم يطـاوع وقـال‏:‏ هـذا لا يكـون وكيـف أنـي أفـوت إنسانـا بـذل مجهوده في تخليص ثارنا مـن أخصامنـا ولـولا هـو لـم يبـق منـا إنسان‏.‏

وكان وجاق العزب لهم صولة وخصوصًا بعد الواقعة الكبيرة ولا يقع أمر بمصر إلا بيدهم ومعونتهم‏.‏

فلما أيسوا منه قالوا له‏:‏ إذا كان كذلك فانت سياق عليه في قضية أخينا إبراهيم جاويش فوعدهم بذلك وذهب عثمان بك وكلمه في خصـوص ذلـك‏.‏

فقـال‏:‏ هـذا شـيء لا يكـون ولا يفرحـون بـه فألـح عليه في الكلام فنفر فيه وقال له أترك هذا الكلام وأشار إلى وجهه بالمذبة فأنجرح أنفه فأخذ في نفسه رضوان كتخدا وأغتم وقال له‏:‏ حيث أنك لم تقبل شفاعتي دونك وأياهم ولا أدخل بينك وبينهم‏.‏

وركب إلى بيته وأرسل إلى إبراهيم جاويش عرفه بذلك فركب في الوقت وأخذ صحبته حسـن جاويـش النجدلـي وذهبـوا إلـى عمـر بـك فوجـدوا عنـده خليـل بـك ومحمد بك صنجق سته فأجمعوا أمرهم وأتفقـوا علـى الركـوب علـى عثمـان بـك يـوم الخميـس علـى حين غفلة وهو طالع إلى الديوان فأكمنوا لـه فـي الطريـق فلمـا ركـب فـي صبـح يـوم الخميـس وصحتبـه اسمعيـل بـك أبو قلنج خرج عليه خليل بـك ومـن معـه وهجـم علـى عثمـان بـك شخـص وضربـه بالسيـف فـي وجهـه فـزاغ عنـه ولم يصب إلا طرف أنفه ولفت وجهه ودخل من العطفة النافذة إلى بيت مناو وراس الخيمية وخاف مـن رجوعـه علـى بيـت إبراهيم جاويش ومر على قصبة رضةان على حمام الوالي وهرب أبو قلتج إلى بيـت نقيـب الأشـراف‏.‏

وبلـغ الخبـر عبـد اللـه كتخـدا فركـب فـي الحـال ليتـدارك القضيـة ويمنعـه مـن الركوب فوجده قد ركب ولاقاه عند حمام الوالـي فرجـع صحبتـه إلـى البيـت وإذا بإبراهيـم جاويش وعلي جاويش الطويل وحسن جاويش النجدلي تجمعوا ومعهم عدة وافـرة وأحاطـوا بالجهات وهجموا علي بيوت أتباعه واشراقاته وأوقعوا فيها النهب وأحرقوها بالنـار وركبـوا المدافع في رؤوس السويقة وضربوا بالرصاص من كل جهة وأخذوا ينقبون عليه البيت‏.‏

فلما رأى ذلـك الحـال أمـر بشد الهجن وركب وخرج من البيت وتركه بما فيه ولم يأخذ منه إلا بعض نقـود مـع أعيان المماليك وطلع من وسط المدينة ومر على الغورية ودخل من مرجوش وخرج من بـاب الحديـد وذهـب إلـى بولـاق‏.‏

ونـزل فـي جامع الشيخ أبي العلا ولم يذهب أحد خلفه بل غم أمره على غالب الناس وعند خروجه دخل العسكر إلى بيته ونهبوه وسبوا الحريم والجواري وأخرجوا منه ما يجل عن الوصف وأعتنى كثير من السراجين وغيرهم من ذلك اليوم وصاروا تجارًا وأكابر ولم يزالوا في النهب متى قلعوا الرخام والأخشاب وأوقدوا النار‏.‏

وحضر أغات الينكجرية أواخر النهار وأخرج العالم وقفل الباب وأعطى المقتاح للوالي ليدفن القتلى ويطفيء النار‏.‏

وأقامت النار وهز يطفئونها يومين وكان أمرا شنيعًا‏.‏

وأما عثمـان بـك فإنـه لمـا نـزل بمسجـد أبـي العـلا وصحبتـه عبـد اللـه كتخـدا أقامـا إلـى بعـد الغـروب فأرسـل عبد الله كتخدا إلى داره فأحضر خيامًا وفراشًا وقومانية وركبوا بعد الغروب وذهبوا إلى جهة قبلي من ناحيـة الشرق فلم يزالا إلى أن وصلا إلى اسيوط عند علي بك تابعه حاكم جرجا وأجتمعت عليه طوائـف القاسميـة الهاربيـن الكائنيـن بشـرق أولاد يحيى وغيرهم‏.‏

وأما ما كان من إبراهيم جاويش القازدغلي فإنه جعل مملوكه عثمان أغات متفرقة وكذلك رضوان كتخدا جعل مملوكه اسمعيل أغـات عـزب وشرعـوا فـي تشهيـل تجريـدة وجعلـوا خليـل بـك قطامش أمير العسكر‏.‏

ووعدوه بولاية جرجـا إذا فبـض علـى عثمان بك‏.‏

فجهزوا أنفسهم وجمعوا الاسباهية وسافروا إلى أن قربوا من ناحيـة أسيـوط فأرسلوا جواسيس لينظروا مقدار المجتمعين فرجعموا وأخبروا أنهم نحو خمسمائة جندي وعلي بك وسليمان بك وبشيير كاشف وطوائفهم فأشاروا على عثمان بك بالهجوم علـى خليـل بـك ومـن معـه فلـم يـرض وقـال‏:‏ المتعدي مغلوب‏.‏

ثم أنهم أرسلوا إلى إبراهيم جاويش يطلبـون منـه تقويـة فأنهـم فـي عـزوة كبيـرة فشـرع فـي تجهيـز نفسـه وأخـذ صحبتـه علي جاويش الطويل وعلي جاويش الخربطلي وكامل أتباعهم وأنفارهم وسافروا إلى أن وصلوا عند خليل بـك‏.‏

ووصـل الخبـر إلـى عثمـان بـك فتفكـر فـي نفسـه ساعـة ثـم قـال لعبـد الله كتخدا القازدغلي‏:‏ أنتم لم تفوتوا بعضكم‏.‏

وأشار عليه بأن يطلع إلى عند السردار وطلع عند السر دار وعدى عثمان بك ومن معه وأنعم على القاسمية الواصلين إليه ورجعوا إلى أماكنهم‏.‏

وسار هو من جهة الشرق إلى السويس ثم ذهب إلى الطور فاقام عند عرب الطور مدة أيامًا‏.‏

ووصل إبراهيم جاويش ومن معه إلى أسيوط فوجدوه قد أرتحل وحضر إليهم السر دار فأخبرهم بارتحال عثمان بك وتخلف عبد الله كتخدا عنده فأرسل إليه علي جاويـش الطويـل فأحضـره إلـى إبراهيم جاويش وعاتبه وأرتحل في ثاني يوم خوفًا من دخول عثمان بك مصر‏.‏

ولما وصل إبراهيم جاويش إلى مصر أتفقوا على نفي عبد الله كتخدا إلى دمياط فسافر إليها بكامل أتباعها ثم هرب إلى الشام وتوفي هناك ورجعت إتباعه إلى مصر بعد وفاته‏.‏

ولما وصل عثمان بك إلأى السويس أرسل القبطان الخبر بوروده البندر وصحبته سليمان بك وبشير كاشـف بطوائفهـم وأنهم أخذوا من البندر سمنًا وعسلًا وجبنًا ودقيقًا وذهبوا إلى الطور فعملوا جمعيـة فـي بيـت إبراهيـم بـك قطامش واتفقوا على أرسال صمجقين وهما مصطفى بك جاهين ومحمد بك قطامش وصحبتهما أغات بلوك وأسباهية وكتخدا إبراهيم بك وكتخدا عمر بك وطلعوا إلى الباشا فخلع عليهم قفاطين وجهزوا أنفسهم وأخذوا مدفعين وجبخانة وساروا‏.‏

ووصـل الخبـر إلـى عثمـان بـك فخـاف علـى العـرب وركـب بمـن معـه وأتـى قـرب أجـرود فتلاقى فعهم هنـاك ووقعـت بينهـم معركـة أبلـى فيهـا علـي بـك وسليمـان بـك وبشيـر كاشـف وقتل كتخدا إبراهيم بـك وكـان عثمـان بـك نـازلا بعيدا عن المعركة فأرسل إليهم وأمرهم بالرجوع وأرتحل إلى الطور‏.‏

وأمـا التجريدة فأنهم قطعوا رؤوسا من العرب ودخلوا بها مصر وكان عثمان بك أرسل مكاتبة سرًا إلى محمد أفندي كاتبه التركي يطلبه أن يأتيه إلى الطور فحضر محمد أفندي المذكور إلى إبراهيـم جاويـش الـذي أحضـر رجـلًا بدويًا طوريًا وسلمه له فأركبه هجينا وسار به إلى الطور فلما وصل إليه وأجتمع به زين له الذهاب إلى اسلامبول حسن له ذلك وأنه يحصل له بذلك وجاهة ورفعة ويحصل من بعد الأمور أمور‏.‏

فوافق على ذلك وعزم عليه وركب عثمان بك ومحمـد أفنـدي ومعهـم جماعة عرب أوصلوهم إلى الشام ومنها ذهب إلى اسلامبول ودخل علي بـك وسليمـان بـك وبشيـر أغـا إلـى مصـر وبعـد مـدة ظهـر بشيـر أغـا فأرسلـه إبراهيـم جاويش قائمقام علـى أمانـة فـي الصعيـد‏.‏

ولمـا وصـل المترجـم إلـى اسلامبـول وقابل رجال الدولة أكرموه وأنزلوه بمنزل متسع باتباعه وخدمه وعينوا له كفايته من كل شيء‏.‏

وأجتمع بالسلطان وسأله عن أحوال مصر فأخبره فقال له من جملة الكلام وما صنعت مع أخوانك حتى تعصبوا عليك وأخرجوك قال‏:‏ لكوني أقول الحقق وأقيم الشرع فعلوا معي ما فعلوه ونهبوا من بيتي ما يزيد على ألفي كيس ومن وسايا البرد والخيار الشنبر ألف كيس وحلوان بلادي ألف كيس‏.‏

فأمر بكتابـة مرسـوم وطلـب أربعـة آلـاف كيـس وعينـوا بذلـك قابجـي باشـا ويكرمـي سكزجلبـي الذي كان الجـي فـي بلـاد الموسكو وبلاد فرنسيس وحضروا إلى مصر في أيام محمد باشا الذي تولى بعد يحيى باشا المعروف باليدكشـي وذلـك أواخـر سنـة سبـع وخمسيـن‏.‏

فلمـا قـرئ ذلـك المرسـوم قالـوا فـي الجواب‏:‏ أما البيت فقد نهبته العسكر والرعايا والأوسية والخيار الشنبر نهبته أتباعه وخدمه والعـرب والفلاحـون وأما حلوان البلاد فعندما يتحرر الحساب فيخصم منه الذي في عهدته من المال السلطاني وما بقي ندفعه مثل العادة عن ثلاث سنوات فقـال لهـم‏:‏ يكرمـي سكزجلبـي حـرروا ثمـن البلـاد والخيـار الشنبـر وأخصمـوا منـه مـا عليـه وما بقي أكتبوا به عرض محضر ويذهب به قابجـي باشـا ويرجـع لكـم بالجـواب‏.‏

ففعلـوا ذلـك وذهـب بـه قابجـي باشـا وصحبتـه سمعيـل بـك أبـو قلنـج بخزينـة سنـة سـت وخمسيـن ولمـا عـرض قابجـي باشـا العـرض بحضـرة عثمـان بـك قـال‏:‏ ليـس في جهتي هذا القدر ولكن أرسلوا بطلب الرزنامجي وأحمد السكري كتخدادي وكاتبي يوسف وجيش فكتبوا فرمانا بحضور المذكورين وأرسلوه صحبة جوخدار معين خطابـًا إلـى محمـد باشـا ويكرمـي سكـز جلبـي وذكـروا فيـه أن يكرمي سكز جلبي يخضر بثلث الحوان بولصة‏.‏

فلما وصـل الجوخـدار جمـع الباشا الصناجق والأغوات والبلكات وقرأ عليهم ذلك المرسوم‏.‏

فقالوا في الجـواب‏:‏ أن مـن يـوم هـروب المترجم وخروجه من مصر لم نر كتخداه ولا يوسف وجيش الكاتب وأمـا الروزنامجي فهو حاضر ولكنه لا النقص ولا الزيادة لآن المبري محرر في المقاطعات والحال أن ابن السكري كان ممن نافق على أستاذه حتى وقع له ما وقع وأخذه إبراهيم جاويش عنده وجعلـه كتخـدا وبعـد مدة جعله متفرقة باشا ثم قلده الصنجقية وهو أحمد بك السكري أستاذ يحيـى كاشـف أستـاذ علـي كتخـدا الموجـود الأن الذي كان ساكنا بالسبع قاعات وبها أشتهر‏.‏

ثم أنهم أكرموا سكز جلبي وقدموا له التقادم وعملوا له عزائم وولائم وهادوه بهدايا ثم أعطوه بولصة بثلث الحلوان وسافر من مصر مثنيا ومادحا في القطامشة والدمايطة والقازدغلية‏.‏

ثم أنهـم أرسلـوا عثمـان بـك إلـى برصـا فأقـام بهـا مـدة سنيـن ثـم رجـع إلـى اسلامبـول وأستمـر بها إلى أن مات في حدود سنة 1190‏.‏

وأما يوسف وجيش فالتجأ إلى عبد الرحمن كتخدا القازدغلي ولمـا سافـر عثمـان بـك مـن أجـرود إلـى الشـام وأرتاحوا من قبله قلد إبراهيم جاويش عثمان أغات تابعه أغات المتفرقة وجعله صنجقًا وهو عثمان بك الذي عرف بالجرجاوي وهو أول أمرئه وكذلك رضوان كتخدا الجلفي قلد تابعه اسمعيل أغات العزب والصنجقية وعزلوا يحيى باشا وحضر بعده محمد باشا اليدكشي‏.‏

وتقلد إمارة الحج سنة 1156 إبراهيم بك بلغيه ورجع مريضـًا فـي تختـروان سنـة 1157‏.‏

وتـرك المترجـم بمصـر ولدين عاشا وشابت لحاهماوبنتًا تزوج بها بعـض الأمـراء وأتفـق أيـه سافـر إلـى اسلامبـول في بعض المهمات ولم يقدر على مواجهة صهره ولم يقـدر أحـد علـى ذكـره لـه مطلقـا لشـدة غيرتـه وحدة طبيعته وفي أواخر أمره أقعد ولم يقدر على النهوض فكانوا يحملونه لركوب الحصان‏.‏

فإذا أستوى راكبًا أقوى من الشاب الصحيح ورمح وصفح وسابق ولم يزل باسلامبول حتى مات كما ذكر وكما سيأتي في تاريخ سنة وفاته‏.‏

ومات مصطفى بك الدفتر دار من أشراقات عثمان بك وذلك أنه سافر أميرًا على العسكر الموجه إلى بلاد العجم ومات هناك سنة 1155‏.‏ ومـات أيضًا

إسماعيل بك أبو قلنج

وكان سافر أيضًا بالخزينة عن سنة 1156 ومات باسلامبول ودفن هناك‏.‏

ومات الأمير عمر بك بن علي بك قطامش تقلد الإمارة والصنجقية سنة 1149 في رجب بعـد واقعـة بيـت محمـد بـك الدفتـر دار ولمـا قتـل والـده علـي بـك مـع استاذ محمد بك أجتمع الأمراء والاختياريـة ببـاب الينكجريـة وأحضـروا المترجم وطلعوا به إلى الباشا وقلدوه الإمارة ليأخذ بثار أبيـه وجرى ما جرى على أخصامهم‏.‏

وطهر شأن المترجم ونما أمره وأشتهر صيته وتقلد إمارة الحج سنة 1154 ورجع سنة 1155 ولم يزل حتى حصلت كائنة قتل خليل بك ومن معـه بالديوان سنة 1160 فخرج المترجم هاربًا من مصر إلى الصعيد ثم ذهب إلى الحجاز ومات هناك‏.‏

ومـات علـي بـك الدمياطـي ومحمـد بـك قتـلا فـي اليـوم الـذي قتـل فيه خليل بك قطامش وعمر بك بلاط بالديوان في القلعة في ولايـة محمـد باشـا راغـب كمـا تقـدم ومحمـد بـك المذكـور مـن القطامشة وكان أغات مستحفظان فحصل دور السفر بالخزينة إلى عمـر بـك ابـن علـي بـك المذكـور فقلـده الصنجقيـة وسافـر بالخزينـة عوضـًا عنـه سنـة سبع وخمسين ومائة وألف‏.‏

ومات أبو مناخير فضة وذلك أنه كا ببيت أستاذه رضوان كتخدا في ليالي مولد النبي صلى الله عليه وسلم وكان جعله باش نفر عنده فأقام يتفرج إلى نصف الليل وأراد الذهاب إلى بيته فركب حماره وسار وخلفه عبده من طريق تربة الازبكية على قنطرة الأمير حسين وإذا بجماعة من أتباع الدمايطة ضربوه بالسلاح وهرب العبد والخدام وظنوا أنه مات فتركوه ثم رجعوا إليه بعد ساعة فوجدوا فيه الروح فحملوه على الحمار وساروا فلاقاهم أوده باشة البوابة وهو مـن الدمايطة فوجد فيه الروح فكمل قتله فذهب العبد وعرف جماعة رضوان كتخدا فحضر منهـم طائفة وشالوه ودفنوه في صبحها‏.‏

وأرسل رضوان كتخدا عرف إبراهيم جاويش بذلك فعزل الأوده باشة وولى خلافه وذلك في أواخر قبل واقعة الدمايطة‏.‏

ومات علي كاشف قرقوش وهو من أتباع عثمان بك ذي الفقار المخفيين وذلك أن أوده باشة البوابة الذي تولى بعد عزل الأوده باشة الذي كمل قتل أبي مناخير فضة سرج بعد المغرب وجلـس عنـد قنطـرة سنقـر وإذا بإنسـان جائـز بالطريق وهو مغطى الرأس فقبضوا عليه ونظروا في وجهه فوجدوه علي قرقاش فعرفوا عنه إبراهيم جاويش فأمر الوالي بقتله فقتله والله أعلم بالحقائق‏.‏

في ذكر حوادث مصر ابنداء من سنة 1162 في ذكر حوادث مصر وتراجم أعيانها وولاتها من ابتداء سنة اثنتين وستين ومائة وألف إلى أواخر سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف وذلك بحسب التيسير والأمكان ومالا يدرك كله لا يترك كله‏.‏

فنقول لما عـزل الجنـاب المكـرم حضـرة محمـد باشـا راغـب فـي الواقعـة التـي خـرج فيهـا حسـن بـك الخشـاب ومحمـد بـك اباظـة ونـزل مـن القلعـة إلـى بيـت دوعزجـان تجـاه المظفر كما تقدم ثم سافر في ولاية أحمد باشا المعروف بكور وزير ووصل حضرة الجناب الأفخم أحمد باشا المعروف بكور وزير وسبب تلقبه بذلك أنه كان بعينه بعض حول فطلع إلى ثغرسكندرية ووصلت السعاة ببشائر قدومه فنزلت إليه الملاقاة وأرباب العكاكيز وأصحاب الخدم مثل كتخـدا الجاويشيـة وأغـات المتفرقـة والترجمـان وكاتـب الحوالة وغيرهم وكان الكاشف بالبحيرة إذ ذاك حسن أغا كتخدا بك تابع عمر بك وتوفي هنـاك فأرسـل عمـر بـك لكتخـداه حسـن أغا المذكور بان يستمر في المنصب عوضًا عن مخدومه المتوفى حتى تتم السنة وخرج عمر بك من مصر وأستمر المذكور بالبحيرة إلى أن أحضر احمد باشا المذكور إلى إسكندرية فحضر إلأيه وتقيد بخدمته وجمع الخيول لركـوب أغواتـه وأتباعه والجمال لحمل أثقاله وقدم له تقادم عمل له السماط بالمعدية حكم المعتاد وعرفه حاله ووفاة أستاذه وخروج سيدهم من مصر فخلع عليه الباشا صنجقية أستاذه وأعطاه بلاده من غيـر حلـوان وذلـك قبـل وصـول الملاقـاة‏.‏

ووصـل خبـر ذلـك إلى مصر فأرسل المتكلمون إلى كتخدا الجاويشية يقولون له أن المذكور رجل ضعيف ولا يليق بالصنجقية فقالوا للباشا ذلك فأغتاظ فسكتوا ووصل إلى رشيد وأجتمع هناك براغب باشا وسافر في المركب التي حضر فيها أحمـد باشـا وحضـر إلـى مصـر وطلـع بالموكـب المعتـاد إلـى القلعة في غرة المحرم سنة 1162 وضربوا لـه المدافـع والشنـك مـن أبراج الينكجرية وعمل الديوان وخلع الخلع على الأمراء والاعيان والمشايخ وخلصت رياسة مصر وأمارتها إلى إبراهيم جاويش ورضوان كتخدا وقلد إبراهيم جاويش مملوكه علي أغا وهو الذي عرف بالغزاوي صنجقيًا وكذلك حسين أغـا وهـو الـذي عـرف بكشكش‏.‏

وكذلك قلد رضوان كتخدا أحمـد آغـا خازنـداره صنجقيـًا فصـار لكـل واحـد منهمـا ثلاثـة صناجـق هـو عثمـان وعلـي وحسيـن الابراهيميـة واسمعيـل وأحمـد ومحمـد الرضوانية‏.‏

ثم أن إبراهيـم جاويش عمل كتخدا الوقت ثلاثة أشهر وأنفصل عنها‏.‏

وحضر عبد الرحمن كتخدا القازدغلـي من الحجاز وعمل كتخدا الوقت بباب مستحفظان سنتين وشرع في عمل الخيرات وبناء المساجد وأبطـل الخماميـر‏.‏

وسيأتـي تتمـة ذلـك فـي ترجمتـه سنـة وفاتـه‏.‏

وأقـام أحمـد باشـا فـي ولاية مصر إلـى عاشـر شـوال سنـة 1163 وكـان مـن أربـاب الفضائـل ولـه رغبـة فـي العلـوم الرياضيـة ولمـا وصـل إلـى مصـر وأستقر بالقلعة وقابله صدور العلماء في ذلك الوقت وهم الشيخ عبـد اللـه الشبـراوي شيـخ الجامـع الأزهـر والشيـخ سالم النفراوي والشيخ سليمان المنصوري فتكلم معهم وناقشهم وباحثهم ثم تكلم معهم في الرياضيات فأحجموا وقالوا لا نعرف هذه العلـوم فتعجب وسكت‏.‏

وكان الشيخ عبد الله الشبراوي له وظيفة الخطابة بجامع السراية ويطلع في كـل يوم جمعة ويدخل عند الباشا ويتحدث معه ساعة وربما تغدى معه ثم يخرج إلى المسجد ويأتـي إلـى الباشـا فـي خواصـه فيخطـب الشيـخ ويدعـو للسلطـان وللباشـا ويصلي بهم ويرجع الباشا إلـى مجلسـه وينـزل الشيـخ إلـى داره‏.‏

فطلـع الشيخ على عادته في يوم الجمعة وأستأذن ودخل عن الباشا يحادثه فقال له الباشا‏:‏ المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصـر منبـع الفضائـل والعلـوم وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها فلما جئتهـا وجدتهـا كمـا قيـل تسمـع معـدن العلـوم والمعـارف‏.‏

فقال‏:‏ وأين هي وأتنم أعظم علمائها وقد سألتكم عن مطلوبي من العلوم فلم أجد عندكم منها شيئًا وغاية تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل ونبذتم المقاصد‏.‏

فقال له نحن لسنا أعظم علمائها وأنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أربـاب الدولـة والحكـام وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث كعلم الحساب والغبار‏.‏

فقال له‏:‏ وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية بل هـو مـن شـروط صحـة العبادة كالعلم بدخول الوقت وأستقبال القبلة وأوقات الصوم والأهلة وغير ذلـك‏.‏

فقـام‏:‏ نعم مرفة ذلك من فروض الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات وأمور ذوقية كرقة الطبيعة حسن الوضع والخط والرسم والتشكيل والامور العطاردية وأهل الأزهر بخلاف ذلك غالبهم فقراء وأخلاط مجتمعة من القرى والآفاق فيندر فيهم القابلية لذلك‏.‏

فقال‏:‏ وأين البعض فقال‏:‏ موجودون في بيوتهم يسعى إليهـم‏.‏

ثـم أخبـره عـن الشيـخ الوالـد وعرفـه عنـه وأطنـب فـي ذكـره فقـال‏:‏ التمـس منكـم أرسالـه عندي‏.‏

فقال‏:‏ يا مولانا أنه عظيم القدر وليس هو تحت أمري‏.‏

فقال‏:‏ وكيف الطريق إلى حضـوره‏.‏

قـال‏:‏ تكتبـون لـه ارساليـة مـع بعـض خواصكـم فـلا يسعـه الأمتناع‏.‏

ففعل ذلك وطلع إليه ولبى دعوته وسر برؤياه وأغتبط به كثيرًا‏.‏

وكان يترد إليه يومين في الجمعة وهما السبت والأربعـاء وأدرك منـه مأمولـه وواصلـه بالبـر و الأكـرام الزائـد الكثيـر ولـازم المطالعـة عليـه مـدة ولايتـه‏.‏

وكـان يقـول‏:‏ لـو لـم أغنـم مـن مصـر إلا أجتماعـي بهـذا الأستـاذ لكفانـي‏.‏

وممـا أتفـق له لما طالع ربـع الدستـور وأتقنـه طالع بعده ‏)‏‏)‏وسيلة الطلاب في أستخراج الأعمال بالحساب‏(‏‏(‏ وهو مؤلف دفيـق للعلامـة الماردينـي فكـان الباشـا يختلي بنفسه ويستخرج منه ما يستخرجه بالطرق الحسابية ثم يستخرجه من النجيب فيجده مطابقًا‏.‏

فاتفق لـه عـدم المطابقـة فـي مسألـة مـن المسائـل فاشتغـل ذهنـه وتحيـر فكـره إلـى أن حضـر إليـه الأستـاذ في الميعاد فأطلعة على ذلك وعن السبب فـي عـدم المطابقـة فكشـف لـه علـة ذلـك بديهـا‏.‏

فلمـا أنجلى وجهها على مرآه عقله كاد يطير فرحًا وحلف أن يقبل يده ثم أحضر له فروة من ملبوسه السمور باعها المرحوم بثمانمائة دينار‏.‏

ثم أشتغـل عليـه برسـم المـزاول والمنحرفـات حتى أتقنها ورسم على اسمه عدة منحرفات على ألواح ولاية عبد الله باشا وصل الخبر بولاية الشريف عبد الله باشا ووصل إلى إسكندرية ونزل أحمد باشا إلى بيت البيرقدار وسافرت الملاقاة للباشا الجديد ثم وصل إلى مصر في شهر رمضان سنة 1164 وطلـع إلـى القلعـة فأقـام في ولاية مصر إلى سنة 1166 ثم عزل عن مصر وولي حلب فنزل إلى القصـر بقبـة العـزب وهـاداه الأمـراء ثـم سافـر إلـى منصبـه‏.‏

ووصـل محمد باشا أمين فطلع إلى القلعة وهـو منحـرف المـزاج فأقـام فـي الولايـة نحـو شهريـن وتوفـي فـي خامـس شهـر شوال سنة 1166 ودفن بجوار قبة الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه‏.‏

قصد نصارى القبط الحج إلى بيت المقدس وفي هذا التاريـخ أحضـر بطـرك الـأروام مرسومـا سلطانيـا بمنـع طائفـة النصـارى الشـوام مـن دخولهم كنائس الإفرنج وأن دخلوا فأنهم يدفعون للدولة ألـف كيـس فأرسـل إبراهيـم كتخـدا فأخذ أربعة قسوس من دير الإفرنج وحبسهم وأخذ منهم مبلغًا عظيمًا من المال‏.‏

وأستمـر نصارة الشوام يدخلون كنائس الأفرانج ولعلها من تحيلات إبراهيم كتخدا‏.‏

ومـن الحـوادث أيضـًا فـي نحـو هـذا التاريـخ أن نصـارى الأقبـاط قصدوا الحج إلى بيت المقدس وكان كبيرهـم إذ ذلـك نـوروز كاتـب رضـوان كتخدا فكلم الشيخ عبد الله الشبراوي في ذلك وقدم له هديـة وألـف دينـار فكتـب لـه فتـوى وجوابـا ملخصـه أن أهـل الذمـة لا يمنعون من دياناتهم وزياراتهم‏.‏

فلما تم لهم ما أرادوا شرعوا في قضاء أشغالهم وتشهيل إغراضهم وخرجوا في هيئـة وأبهـا وأحمال ومواهي وتختروانات فيها نساؤهم وأولادهم ومعهم طبول وزمور ونصبوا لهم عرضيًا عند قبـة العـزب وأحضـروا العربـان ليسيـروا فـي خفارتهـم وأعطوهـم أمـوالًا وخلعـًا وكسـاوي وأنعامـات‏.‏

وشـاع أمـر هـذه القضيـة فـي البلد واستنكرها الناس فحضر الشيخ عبد الله الشبـراوي إلـى بيـت الشيـخ البكري كعادته وكان علي أفندي أخو سيدي بكري متمرضًا فدخل إليه بعوده فقال له‏:‏ أي شيء هذا الحال يا شيخ الإسلام على سبيل التبكيت كيف ترضى وتفتـي النصارة وتأذن لهم بهذه الأفعال لكونهم رشوك وهادوك‏.‏

فقال‏:‏ لم يكن ذلك‏.‏

قال‏:‏ بل رشـوك بألـف دينـار وهديـة وعلـى هذا تصير لهم سنة ويخرجون في العام القابل بأزيد من ذلك ويصنعون لهم محملًا ويقال حج النصارى وحج المسلمين وتصير سنة عليك وزرها إلى يوم القيامة‏.‏

فقام الشيخ وخرج من عنده مغتاظًا وأذن للعامة في الخروج عليهم ونهب ما معهم وخرج كذلك معهم طائفة من مجاوري الأزهر فأجتمعوا عليهم ورجموهم وضربوهم بالعصي والمسـاوق ونهبـوا مـا معهـم وجرسوهـم ونهبـوا أيضـًا الكنيسة القريبة من دمرداش وأنعكس ولاية مصطفى باشا وعزله وولاية علي باشا أوغلي الثانية وحضر مصطفى باشا وطلع إلى القلعة ثالث عشر ربيع الأول 1167 وأستمر واليًا على مصر إلى أن ورد الخبر بعزله في أوائل شهر ربيع الأول سنة 1169 وولاية حضرة الوزير المكرم علي باشا حكيم أوغلي وهي ولايته الثانية‏.‏

وطلع إلـى سكندريـة ونزلـت إليـه الملاقـاة وأربـاب المناصـب والعكاكيـز‏.‏

ثـم حضـر إلـى مصـر وطلـع إلـى القلعـة يـوم الأثنيـن غرة شهر جمادى الأولى من السنة المذكورة وسار في مصر سيرته المعهودة وسلك طريقته المشكورة المحمودة فأحيا مكارم الأخلاق وأدر على رعيته الأرزاق بحلم وبشر ربي عليهما فكانا له طبعًا وصدر رحب لا يضيق بنازله ذرعًا‏.‏

واستمر في ولاية مصر إلى شهر رجب سنة 1171‏.‏

ذكر من مات في هذه الأعوام من العلماء والأعيان مات العلامة شيخ المشايخ شمس الدين الشيخ محمد القليني الأزهري وكان له كرامات مشهورة ومآثر مذكورة منها أنه كان ينفق من الغيب لأنه لم يكن له أيراد ولا ملك ولا وظيفة ولا يتناول من أحد شيئًا وينفق أنفاق من لا يخشى الفقر وإذا مشى في السوق تعلق به الفقراء فيعطيهم الذهب والفضة وإذا دخل الحمام دفع الآجرة عن كل من فيه‏.‏

توفي سنة 1164‏.‏

ومات الشيخ الإمام الفقيه المحدث المسند محمد بن أحمد بـن يحيـى بـن حجـازي العشمـاوي الشافعي الأزهري تفقه على الشيـخ عبـده الديـوي والشهـاب أحمـد بـن عمـر الديربـي وسمـع الحديث على الزرقاني وبعد وفاته أخذ الكتب الستة عن تلميذه الشهـاب أحمـد بـن عبـد اللطيف المنزلي وانفرد بعلو الأسناد وأخذ عنه غالب فضلاء العصر توفي يوم الأربعاء ثاني عشري جمادى الأولى سنة 1167 ودفي بتربة المجاورين‏.‏

ومات الشيخ الإمام العلامة سالم بن محمد النفراوي المالكي الأزهري المفتي الضرير أخذ عن الشيخ العمدة أحمد النفراوي الفقه وأخذ الحديث عن الشيخ محمد الزرقاني والشيخ محمد بن علاء الدين البابلي ببيته بالازبكية والشبراملسي وغيرهم وكان مشهورًا بمعرفة فروع المذهب وأستحضار الفروع الفقهية‏.‏

وكانت حلقة درسه أعظم الحلق وعليه مهابة وجلالة‏.‏

توفي يوم الخميس سادس عشر من شهر صفر سنة 1168‏.‏

ومات الشيخ الفقيه المفتي العلامة سليمان بن مصطفى بن عمر بن الولي العارف الشيخ محمد المنير المنصوري الحنفي أحد الصدور المشـار إليهـم ولـد سنـة 1078 بالنقيطـة إحـدى قـرى المنصـورة وقـدم الأزهـر فأخـذ عـن شيوخ المذهب كشاهين الأرمناوي وعبد الحي بن عبد الحق والشرنبلالـي وأبـي الحسـن علـي بن محمد العقدي وعمر الزهري وعثمان النحريري وقائد الأبياري شارح الكنز فاتقن الأصول ومهر في الفروع ودارت عليه مشيخة الخنفية ورغب الناس في فتاويه وكان جليل القدر عالي الذكر مسموع الكلمة مقبول الشفاعة‏.‏

توفي سنة 1169‏.‏

ومـات الشيـخ الإمـام الفاضـل الصالـح الشاعـر الأديـب عمـر بن محمد بن عبد الله الحسيني الشنواني من ولد القطب شهاب الدين العراقي دفين شنوان قرأ على أفاضل عصره وتكمل في الفنون وإلقى دروسا بالأزهر‏.‏

توفي في رجب سنة 1167‏.‏

ومات الأجل المكرم الحاج صالح الفلاح وهو أستاذ الأمراء المعروفين بمصر المشهورين بجماعة الفلاح وينسبون إلى القازدغلية‏.‏

وكان متمولا ذا ثروة عظيمة وشيخ وأصله غلام يتيم فلاح من قريـة مـن قـرى المنوفية يقال لها الراهب‏.‏

وكان خادمًا لبعض أولاد شيخ البلد فانكسر عليه المال فرهـن ولـده عنـد الملتـزم وهـو علـي كتخـدا الحلفي ومعه صالح هذا وهما غلامان صغيران فأقاما ببيـت علـي كتخـدا حتـى غلـق أبـوه مـا عليـه مـن المـال و استلـم ابنـه ليرجـع بـه إلى بلده فامتنع صالح وألـف المقام ببيت الملتزم وأستمر به يخدم مع صبيان الحريم وكان نبيهًا خفيف الروح والحركة‏.‏

ولم يزل يتنقل في الأطوار حتى صار من أرباب الأموال وأشترى المماليك والعبيد والجواري ويزوجهم من بعضهم ويشتري لهم الدور والإيراد ويدخلهم في الوجاقات والبلكات بالمصانعات والرشوات لأرباب الحل والعقد والمتكلمين وتنقلوا حتى تلبسوا بالمناصب الجليلـة كتخـدا آت واختيارية وأمراء طلخانات وجاويشية وأوده باشيـة وغيـر ذلـك حتـى صـار مـن مماليكـه مـن يركـب فـي العـذارات فقط نحو المائة وصار لهم بيوت وأتباع ومماليك وشهرة عظيمة بمصر وكلمة نافـذة وعـزوة كبيـرة‏.‏

وكـان يركـب حمارًا ويعتم عمة لطيفة على طربوش وخلفه خادمه ومات في سـن السبعيـن ولـم يبق في فمه سن وكان قال له صالح جلبي والحاج صالح وبالجملة فكان من نـوادر الزمـن وكـان يقرض إبراهيم كتخدا وأمراءه بالمائة كيس وأكثر وكذلك غيرهم ويخرج الأموال بالربا والزيادة وبذلك أنمحقت دولتهم وزالت نعمهم في أقرب وقت وآل أمرهم إلى البوارهم وأولادهم وبواقيهم لذهاب ما في أيديهم وصاروا أتباعًا وأعوانًا للامراء المتأخرين‏.‏

ومات الأمير إبراهيم كتخـدا تابـع سليمـان كتخـدا القازدغلـي وسليمـان هـذا تابـع مصطفـى كتخدا والد عبد الرحمن كتخدا المشهور لبس الضلمة في سنة 1148 وعمل جاويشًا وطلع سـر دار قطـار فـي الحـج فـي إمـارة عثمـان بـك ذي الفقـار سنـة 1153‏.‏

وفـي تلـك السنـة أستوحش منه عثمان بك باطنًا لأنه كان شديد المراس قوي الشكيمة وبعد رجوعه من الحج في سنة 152 نما ذكره وأنتشر صيته ولم يزل من حينئذ ينمو أمره وتزيد صولته وتنقذ كلمته وكان ذا دهاء ومكـر وتحيـل وليـن وقسـوة وسماحـة وسعـة صـدر وتـؤدة وحـزم وأقدام ونظر في العواقب‏.‏

ولم يزل يدبر على عثمان بك وضم إليه كتخداه أحمد السكري ورضوان كتخدا الحلفي وخليل بك قطامـش عمـر بـك بسبـب منافسـة معـه على بلاد هوارة كما تقدم حتى أوقع به على حين غفلة وخرج عثمان بك من مصر علـى الصـورة المتقدمـة فعنـد ذلـك عظـم شأنـه وزادت سطوتـه وأستكثر من شراء المماليك وقلد عثمان مملوكه الـذي كـان أغـات متفرقـة صنجقـًا وهـو أول صناجقـه وهـو الـذي عـرف بالجرجاوي‏.‏

ولما قتل خليل بك قطامش وعمر بك بلاط وعلي بك الدمياطـي ومحمـد بك في أيام راغب باشا بمغامرة حسين بك الخشاب ثم حصلت أيضًا كائنة الخشاب وخروجه ومـن معـه مـن مصـر وزالـت دولـة القطامشـة والدمايطـة والخشابيـة وعزلـوا راغب باشا في أثناء ذلـك كمـا تقـدم فعنـد ذلـك أنتهـب رئاسـة مصـر وسيادتهـا للمترجـم وقسيمـه رضوان كتخدا الجلفي ونفذت كلمتهما وعلت سطوتهما على باقي الأمراء والاختيارية الموجودين بمصر وتقلد المترجم كتخدائية باب مستحفظان ثلاثة أشهر ثم أنفصل عنها‏.‏

وذلك كما يقال لأجل حرمة الوجاق وقلد مملوكيه عليا وحسينًا صنجقين وكذلك رضوان كتخدا كما سبق وصار لكل واحد منهما ثلاثة صناجق‏.‏

وأشتغل المترجم بالأحكام وقبض الأموال الميرية وصرفها في جهاتها وكذلك العلوفات وغلال الأنبار ومهمات الحج والخزينة ولوازم الدولة والولاة وقسيمه رضوان كتخدا مشتغل بلذاته ومنهمك على خلاعاته ولا يتدخل في شيء مما ذكر والمترجم يرسل له الأموال ويوالي بر الجميع ويراعي خواطرهم وينفذ أغراضهم وعبد الرحمن كتخدا مشتغل بالعمائر وفعل الخيرات وبناء المساجد‏.‏

وأستكثر المترجم من شراء المماليك وقلدهم الأمريات والمناصب وقلد إمارة الحج لمملوكه علي بك الكبير وطلع بالحج ورجع سنة 167‏.‏

وفـي تلـك السنـة نـزل علـى الحجـاج سيـل عظيـم بمنزلـة ظهـر الحمـار فأخـذ معظم الحجاج بجمالهم وأحمالهـم إلـى البحـر ولم يرجع من الحجاج إلا القليل‏.‏

ومما يحكى عنه أنه رأى في منامه أن يديه مملوءتـان عقـارب فقصهـا علـى الشيـخ الشبـراوي فقـال‏:‏ هـؤلاء مماليـك يكونـون مثل العقارب ويسري شرهم وفسادهم لجميع الناس‏.‏

فإن العقرب لدغت النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لعن الله العقرب لا تدع نبيًا ولا غيره إلا لدغته وكذا يكون مماليكك‏.‏

وكان الأمر كذلك وليس للمترجم مآثر أخروية ولا أفعال خيرية يدخرها في ميعاده ونخفف عنه بها ظلم خلقه وعباده بل كان معظم أجتهاده الحرص على الرياسة والإمارة عمر داره التـي بخـط قوصـون بجـوار دار رضـوان كتخـدا والـدار التـي ببـاب الخـرق هـي دار زوجته بنت البارودي والقصر المنسوب إليها أيضًا بمصر القديمة‏.‏

والقصر الذي عند سبيل قيماز بالعادلية وزوج الكثيـر مـن مماليكـه نسـاء الأمـراء الذيـن ماتـوا وقتلـوا وأسكنهم في بيوتهم وعمل وليمة لمصفي باشا وعزمه في بيته بحارة قوصون في سنة 1166 وقدم له تقادم وهدايا وأدرك المترجم من العـز والعظمـة ونفـاذ الكلمـة وحسـن السياسـة واستقـرار الأمـور مـا لـم يدركـه غيـره بمصر ولم يزل في ومات بعده رضوان كتخدا الجلفي وهو مملوك علي كتخدا الجلفي تقلد كتخدائية باب عزبان بعـد قتل أستاذه بعناية عثمان بك ذي الفقار كما تقدم ولم يزل يراعي لعثمان بك حقه وجميله حتـى أوقـع بينهمـا إبراهيـم كتخـدا كمـا تقـدم‏.‏

ولمـا استقـرت الأمور له ولقسيمه ترك له الرياسة في الأحكام وأعتكف المترجم على لذاته وفسوقه وخلاعاته ونزهاته وأنشأ عدة قصور وأماكن بالغ في زخرفتها وتأنيقها وخصوصًا داره التي أنشأها على بركة الأزبكية وأصلها بيت الدادة الشرايبـي وهـي التـي علـى بابهـا العامـودان الملتفـان المعروفـة عنـد أولاد البلد بثلاثة وليه وعقد على مجالسها العالية قبابا عجيبة الصنعة منقوشة بالذهب المحلول واللازورد والزجاج الملون والألوان المفرحة والصنائع الدقيقة ووسع قطعة الخليج بظاهر قنطرة الدكة بحيث جعلها بركة عظيمة وبنـى عليهـا قصـرًا مطـلًا عليهـا وعلـى الخليـج الناصـري مـن الجهـة الأخرى‏.‏

وكذلك أنشأ في صدر البركـة مجلسـًا خارجًا بعضه على عدة قناطر لطيفة وبعضه داخل الغيط المعروف بغيط المعدية وبوسطـه بحيـرة تمتلـئ بالمـاء مـن أعلـى ويصـب منهـا إلـى حـوض مـن أسفـل ويجري إلى البستان لسقي الأشجـار‏.‏

وبنـى قصـرًا آخـر بداخـل البستـان مطـلًا علـى الخليـج وعلـى الأعلاق من ظاهره‏.‏

فكان يتنقـل في تلك القصور وخصوصًا في أيام النيل ويتجاهر بالمعاصي والراح والوجوه الملاح وتبرج النسـاء ومخاليـع أولـاد البلـد‏.‏

وخرجـوا عـن الحـد فـي تلك الأيام ومنع أصحاب الشرطة من التعرض للنـاس فـي أفاعيلهـم‏.‏

فكانت مصر في تلك الأيام مراتع غزلان ومواطن حور وولدان كأنما أهلها خلصـوا من الحساب ورفع عنهم التكليف والخطاب‏.‏

وهو الذي عمر باب القلعة الذي بالرميلة المعـروف ببـاب العـزب وعمل حوله هاتين البدنتين العظيمتين والزلاقة على هذه الصورة الموجودة الـآن‏.‏

وقصدتـه الشعـراء ومدحوه بالقصائد والمقامات والتواشيخ وأعطاهم الجوائز السنية وداعب بعضهم بعضًا فكان يغري هـذا بهـذا ويضحـك منهـم ويباسطهـم وأتخـذ لـه جلسـاء وندمـاء منهـم الشيـخ علـي جبريـل والسيد ليمان والسيد حمودة السدبدي والشيخ معروف والشيخ مصطفى اللقيمي الدمياطي صاحب المدامة الأرجوانية في المدائح الرضوانيـة ومحمـد أفنـدي المدنـي‏.‏

وأمتدحه العلامة الشيخ يوسف الحفني بقصائد طنانة وللشيخ عمار القروي فيه مقامة مدحا في المترجم ومداعبة للسيد حمودة السديدي المحلاوي‏.‏

ولم يزل رضوان كتخدا وقسيمه على إمارة مصر ورئاستها حتى مات إبراهيم كتخدا كما تقدم فتداعى بموته ركن المترجم ورفعت النيام رؤوسها وتحركت حفائظها ونفوسها وظهر شأن عبد الرحمن كتخدا القازدغلي وراح سوق نفاقه وأخذ يعضد مماليك إبراهيم كتخدا ويغريهم ويحرضهم على الجلفية لكونهم مواليـه‏.‏

فيخلـص لـه بهـم ملـك مصر ويظن أنهم يراعون حق ولائه وسيادته جده فكان الأمر عليه بخلـاف ذلـك كمـا ستـراه وهـم كذلـك ييظهرون له الأنقياد ويرجعون إلى رأيه ومشورته ليتم لهم به المراد‏.‏

وكل من أمراء إبراهيم كتخدا متطلع للرياسة أيضًا بالبلدة أيضًا من الأكابر والاختيارية وأصحاب الوجاهة مثل حسن كتخدا أبي شنـب وعلـي كتخـدا الخربطلـي وحسـن كتخـدا الشعراوي وقرا حسن كتخدا واسمعيل كتخدا التبانة وعثمان أغا الوكيل وإبراهيم كتخدا مناو وعلـي أغـا توكلـي وعمـر أغـا متفرقـة وعمـر أفندي محرم اختيار جاويشان وخليل جاويش حيضان مصلـي وخليـل جاويـش القازدغلي وبيت الهياتم وإبراهيم أغا بن الساعي وبيت درب الشمسي وعمر جاويش الداودية ومطفى أفندي الشريف اختيارية متفرقـة وبيـت بلغيـه وبيـت قصبـة رضوان وبيت الفرح وهم كثيرون اختيارية وأوده باشيه ومنهم أحمد كتخدا واسمعيل كتخدا وعلـي كتخـدا وذو الفقـار جاويـش واسمعيـل جاويـش وغيرهـم فأخـذ أتبـاع إبراهيم كتخدا يدبرون في أغتيال رضوان كتخدا وأزالته وسعت فيهم عقارب الفتن فتنبه رضوان كتخدا لذلـك فأتفق مع أغراضه ولمك القلعة والأبواب والمحمودية وجامع السلطان حسن وأجمع إليه كثير مـن أمرائـه وغيرهـم مـن أنضـم إليهم وكاد يتم له الأمر فسعى عبد الرحمن كتخدا والاختيارية في أجـراء الصلـح وطلـع بعضهـم إلـى رضـوان نصحهـم لأنـه كـان سليـم الصـدر ففـرق الجمـع ونـزل إلى بيته الذي بقوصون فاغتنموا عند ذلك الفرصة وبيتوا أمرهم ليلًا وملكوا القلعة والأبواب والجهات والمترجـم فـي غفلتـه آمـن فـي بيتـه مطمئـن مـن قبلهـم ولا يـدي مـا خبـئ لـه فلـم يشعـر إلا وهم يضربون عليه بالمدافع وكان المزين يحلق له رأسه فسقطت على داره الحلل فأمر بالاستعداد وطلب من يركن إليهم فلم يجد أحدًا وجدهم قد أخذوا حوله الطرق والنواحي فحارب فيهم إلى قريب الظهر وخامر عليه أتباعه فضربه مملوكه صالح الصغير برصاصة من خلف الباب الموصل لبيت الراحة فأصابته في ساقه وهرب مملوكه إلى الأخصام وكانوا وعدوه بأمرية أن هو قتل سيده‏.‏

فلمـا حضـر إليهـم وأخبرهـم بمـا فعـل أمر علي بك بقتله‏.‏

ثم أمر رضوان بك بالخيول وركب في خاصتـه وخـرج مـن نقـب نقبـه فـي ظهـر البيـت وتألـم مـن الضربـة لأنهـا كسـرت عظم ساقه فسار إلى جهة البساتين وهو لا يصدق بالنجاة فلم يتبعه أحد ونهبوا داره ثم ركب وسار إلـى جهـة الصعيـد‏.‏

فمـات بشـرق أولـاد يحيـى ودفـن هنـاك‏.‏

فكانـت مدتـه بعـد قسيمـه قريبًا من ستة أشهر‏.‏

ولما مات تفرقت صناجقه ومماليكه في البلاد وسافر بعضهم إلى الحجاز من ناحية القصير ثم ذهبوا من الحجاز إلى بغداد واستوطنوها وتناسلوا وماتوا وإنقضت دولتهما‏.‏

فكانت مدتهما نحو سبع سنوات ومصر في تلك المدة هادية من الفتن والشرور والإقليم البحري والقبلي أمن وأمان والأسعار رخيـة والأحـوال مرضيـة واللحـم الضانـي المجـروم مـن عظمـه رطلـه بنصفيـن والجاموسي بنصف والسمن البقري عشرته بأربعين نصف فضة اللبن المنعاد كذلك والمكرر قنطاره بألف نصف والعسل القطر قنطاره بمائة وعشرين نصفًا واقل والرطل البن القهوة بأثني عشر نصفًا والتمر يجلب من الصعيد في المراكب الكبار ويصب على ساحل بولاق مثل عرم الغلال ويباع بالكيل والأردب والأرز أردبه بأربعمائة نصف والعسل النحل قنطاره بخمسمائة نصف وشمع العسل رطله بخمسة وعشرين نصفًا وشمع الدهن بأربعة أنصاف والفحم قنطاره بأربعيـن نصفـا والبصـل قنطاره بسبعة أنصاف وفسر على ذلك‏.‏

يقول جامعه‏:‏ أني أدركت بقايا تلـك الأيـام وذلـك أن مولـدي كـان فـي سنة 1167 ولما صرت في سن التمييز رأيت الأشياء على ما ذكر إلا قليلًا وكنت أسمع الناس يقولون الشيء الفلاني زاد سعره عما كان في سنة كذا وذلـك فـي مبـادئ دولـة إبراهيـم كتخـدا وحدوث الاختلال في الأمور وكانت مصر إذ ذاك محاسنها باهرة وفضائلها ظاهرة ولأعدائها قاهرة ويعيش رغدًا بها الفقير وتتسع للجليل والحقير وكان لأهل مصر سنن وطرائق فـي مكـارم الأخلـاق لا توجـد فـي غيرهـم‏.‏

أن فـي كـل بيـت مـن بيـوت جميـع الأعيان مطبخين أحدهما أسفل رجالـي والثانـي فـي الحريـم‏.‏

فيوضـع فـي بيـوت الأعيـان السمـاط فـي وقتي العشاء والغداء مستطيلًا في المكان الخارج مبذولًا للناس ويجلس بصدره أمير المجلس وحوله الضيفان ومن دونهم مماليكه وأتباعه‏.‏

ويقف الفراشون في وسطه يفرقون على الجالسين ويقربون إليهم ما بعد عنهم من القلايا والمحمرات ولا يمنعون في وقت الطعام من يريد الدخول أصلًا ويرون أن ذلك من المعايب حتى أن بعض ذوي الحاجات عند الأمراء إذا حجبهم الخدام أنتظروا وقت الطعام ودخلوا فلا يمنعهم الخدم في ذلك الوقت فيدخل صاحب الحاجة ويأكل وينال غرضه من مخاطبة الأمير لأنه إذا نظر على سماطه شخصًا لم يكن رآه قبل ذلك ولم يذهب بعد الطعام عرف أن لـه حاجـة‏.‏

فيطلبـه ويسألـه عـن حاجتـه فيقضيهـا لـه وأن كـان محتاجا واساه بشيء‏.‏

ولهم عادات وصدقات في أيام المواسم مثل أيام أول رجب والمعراج ونصف شعبان وليالي رمضان والأعياد وعاشوراء والمولد الشريف يطبخون فيها الأرز باللبن والـزردة ويملـأون مـن ذلك قصاعًا كثيرة ويفرقون منها على من يعرفونه من المحتاجين‏.‏

ويجتمع في كل بيت الكثير من الفقراء فيفرقون عليهم الخبز ويأكلون حتى يشبعوا من ذلك اللبن والزرده‏.‏

ويعطونهم بعد ذلك دراهـم ولهـم غيـر ذلـك صدفـات وصلـت لمـن يلـوذ فيهـم ويعرفـون منـه الأحتياج وذلك خلاف ما يعمل ويفرق من الكعك المحشـو بالسكـر والعجميـة والشريـك علـى المدافـن والترب في الجمع والمواسم‏.‏

كذلك أهل القرى والأرياف فيهم من مكارم الأخلاق ما لا يوجـد فـي غيرهـم مـن أهـل قرى الإقليم فإن أقل ما فيهم إذا نزل به ضيف ولم لم يعرفه أجتهد وبـادر بقـراه فـي الحـال وبـذل وسعـه في أكرامه وذبح له ذبيحة في العشاء وذلك ما عدا مشايخ البلاد والمشاهير من كبار العرب والمقادم فإن لهم مضايف واستعدادات للضيوف ومن ينـزل عليهـم مـن السفـار والأجنـاد‏.‏

ولهـم مساميـح وآطيـان فـي نظيـر ذلـك خلفـا عن سلف إلى غير ذلك ومات

الأجل المكرم والملاذ المفخم الخواجا الحاج أحمد بن محمـد الشرايبـي

وكـان مـن أعيـان التجار المشتهرين كأسلافه وبيتهم المشهور بالازبكية بيت المجد والفخر والعز ومماليكهم وأولاد مماليكهـم مـن أعيـان مصـر جربجية وأمراء ومنهم يوسف بك الشرايبي‏.‏

وكانوا في غاية من الغنى والرفاهيـة والنظـام ومكارم الأخلاق والأحسان للخاص والعام ويتردد إلى منزلهم العلماء والفضلاء ومجالسهم مشحونة بكتب العلم النفيسة للأعارة والتغيير وأنتفاع الطلبة ولا يكتبون عليها وقفية ولا يدخلونهـا فـي مواريثهـم ويرغبـون فيهـا ويشترونهـا بأغلـى ثمـن ويضعونهـا علـى الرفـوف والخزائـن والخورنقـات وفـي مجالسهـم جميعـًا‏.‏

فكـل مـن دخـل إلـى بيتهـم مـن أهل العلم إلى أي مكان يقصد الإعارة أو المراجعة وجد بغيته ومطلوبه في أي علم كان من العلوم ولو لم يكن الطالـب معروفـًا ولا يمنعون من يأخذ الكتاب بتمامه فإن رده في مكانه رده وأن لم يرده وأختص بـه أو باعـه لا يسأل عنه وربما بيع الكتاب عليهم واشتروه مرارًا ويعتذرون عن الجاني بضرورة الاحتياج وخبزهم وخبزهم وطعامهم مشهور بغاية الجودة والإتقان والكثرة وهو مبذول للقاصي والداني مع السعة والاستعداد وجميعهم مالكيو المذهب على طريقة أسلافهم وأخلاقهم جميلة وأوضاعهم منزهة عن كـل نقـص ورذيلـة‏.‏

ومـن أوضاعهـم وطرائقهـم أنهـم لا يتزوجـون إلا مـن بعضهـم البعـض ولا تخـرج مـن بيتهـم امرأة إلا للمقبرة فإذا عملوا عرسا أولموا الولائم وأطعموا الفقراء والقراء على نسق أعتادوه وتنزل العروس من حريم أبيها إلى مكان زوجهـا بالنسـاء الخلـس والمغاني والجنك تزفها ليلًا بالشموع وباب البيت مقلوق عليهن وذلك عندما يكون الرجال في صلاة العشاء بالمسجد الأزبكي المقابل لسكنهم وبيتهم يشتمل على أثني عشر مسكنا كل مسكن بيت متسع على حدته‏.‏

وكان الأمراء بمصر يترددون إليهم كثيرًا من غير سبق دعوة وكـان رضـوان كتخـدا يتفسـح عنـد المترجـم فـي كثيـر مـن الأوقـات مع الكمال والاحتشام ولا يصحبه فـي ذلـك المجلـس إلا الطفـاء مـن ندمائـه وإذا قصـده الشعراء بمدح لا يأتونه في الغالب إلا في مجلسه لينالوا فضيلتين ويحرزوا جائزتين‏.‏

وكان من سنتهم أنهم يجعلون عليهم كبيرًا منهم وتحت يده الكاتـب والمستوفـي والجابـي فيجمـع لديـه جميـع الأيراد من الألتزام والعقار والجامكية ويسدد الميري ويصرف لكل إنسان راتبه على قدر حاله وقانون أستحقاقه‏.‏

وكذلك لوازم الكساوي للرجال والنساء في الشتاء والصيف ومصروف الجيب في كل شهر وعند تمام السنة يعمل الحساب ويجمـع مـا فضل عنده من المال ويقسمه على كل فرد بقدر استحقاقه وطبقته‏.‏

واستمروا على هذا الرسم والترتيب مدة مديدة فلما مـات كبارهـم وقـع بينهـم الاختلـاف واقتسمـوا الإيـراد وأختص كل فرد منهم بنصيبه يفعل به ما يشتهي‏.‏

وتفرق الجمع وقلت البركة وأنعزل المحبون وصار كل حزب بما لديهم فرحون وكان مسك ختامهم صديقنا وأخانا في اللوذعي الأريب والنـادرة المفـرد النجيـب سيـدي إبراهيـم بـن محمـد بـن الـدادة الشرايبـي الغزالـي‏.‏

كـان رحمـه اللـه تعالى ملكي الصفات بسام الثنايات عذع المورد رحيب النادي واسع الصدر للحاضر والبادي قطعنا معـه أوقاتـا كانـت لعيـن الدهـر قـرة وعلـى مكتوب العمر عنوان المسرة‏.‏

وما زال يشتري متاع الحياة بجوهر عمره النفيـس مواظبـًا علـى مذاكـرة العلـم وحضـور التدريـس حتـى كـدر المـوت ورده وبدد الدهـر الحسـود بنوائبـه عقـده كمـا يأتـي تتمـة ذلـك فـي سنـة وفاتـه وأنمحـت بموتـه مـن بيتهـم المآثـر وتبدد بقية عقدهم المتناثر‏.‏

ومـات أحمـد جلبـي ابـن الأميـر علـي والأمير عثمان وتزوج مماليك القازدغلية نساءهم وسكنوا في بيتهم‏.‏

ومنهم سليمان أغا صالح وتقلد الزعامة وصار بيتهم بيت الوالي وتوفي سنة 1171 وفاة السلطان محمود خان وتولية السلطان عثمان ومـات سلطـان الزمـان محمـود خان العثماني وكانت مدته نيفًا وعشرين سنة وهو آخر عثمان في حسن السيرة والشهامة والحرمة واستقامة الأحوال والمأثر الحسنة‏.‏

توفي ثامن عشر صفر سنة 168‏.‏

وتولى السلطان عثمان بن أحمد أصلح الله شأنه ومات النبيه النبيل والفقيه الجليل والسيد الأصيل السيد محمد المدعو حمودة السديدي أحد ندماء الأمير رضوان كتخدا ولد بالمحلة الكبرى وبها نشأ وحفظ القرآن وأشتغل بطلب العلم فحصل مأموله في الفقه والمعقول والمعاني والبيان والعـروض وعانـى نظـم الشعـر وكـان جيـد القريحة حسن السليقة في النظم والنثر والأنشاء وحضر إلى مصر وأخذ عن علمائها وأجتمع بالأمير رضوان كتخدا عزبان الجلفي المشار إليه وصار من خاصة ندمائه وأمتدحه بقصائد كثيرة طنانة وموشحات ومزدوجة بديعة والمقامة التي داعب بها الشيخ عمار القروي و أردفها بقصيـدة رائيـة بليغـة فـي هجـو المذكـور سامحهمـا اللـه‏.‏

وكـل ذلـك مذكور في الفوائح الجنانية لجامعه الشيخ عبد الله الأدكاوي‏.‏

حج رحمه الله ومات وهو آيب بأجرود سنة 1163‏.‏

ومات الأجل المكرم محمد جلبي ابن إبراهيم جربجي الصابونجي مقتولًا وخبره أنه لما توفي أبوه وأخـذ بلـاده وبيتهـم تجـاه العتبـة الزرقـاء علـى بركـة الأزبكيـة فتوفي أيضًا عثمان جربجي الصابونجي بمنفلوط وذلك سنة 1147 ومات غيره كذلك مـن معاتيقهـم وكـان محمـد جربجـي مثـل والـده بالبـاب ويلتجيء إلى يوسف كتخدا البركاوي فلما مات البركاوي خاف من علي كتخدا الجلفي فالتجأ إلى عبـد اللـه كتخـدا القازدغلـي وعمـل ينكجـري فـأراد أن يقلـده أوده باشـه ويلبسـه الضلمـة فقصـد السفـر إلـى الوجـه القبلـي وذلك في سنة أربع وخمسين فسافر وأستولى على بلاد عثمان جربجي ومعاتيقه وقام هناك وكان رذلا نجيلًا طماعًا شرهًا في الدنيا وكان مماليكـه يهربون منه وكانت أخته زوجا لعمر أغا خازندار أبيه ولم يفتقدها بشيء‏.‏

ولما مات إبراهيم كتخدا القازدغلي ورضوان كتخدا الجلفي بدأ أمر أتباع إبراهيم كتخدا في الظهـور وكـان المتعيـن بالإمـارة منهـم عثمـان بـك الجرجـاوي وعلـي بـك الذي عرف بالغزاوي وحسين بـك الـذي عـرف بكشكـش وهـؤلاء الثلاثـة تقلدوا الصنجقية والإمارة في حياة أستاذهم‏.‏

والذي تقلـد الإمـارة منهـم بعـد موتـه حسيـن بـك الـذي عـرف بالصابونجـي وعلـي بـك بلـوط قبـان وخليل بك الكبيـر‏.‏

وأمـا مـن تأمـر منهـم بعـد قتـل حسيـن بك الصابونجي فهم حسن بك جوجه واسمعيل بك أبـو مدفـع‏.‏

وأمـا مـن تأمـر بعـد ذلـك بعنايـة علـي بك بلوط قبان عندما ظهر أمره فهو اسمعيل بك الأخيـر الـذي تـزوج ببنـت أستاذه وكان خازنداره وعلي بك السروجي‏.‏

فلما أستقر أمرهم بعد خـروج رضـوان كتخدا وزوال دولة الجلفية تعين بالرياسة منهم على أقرانه عثمان بك الجرجاوي فسـار سيـرًا عنيفـًا مـن غيـر تدبـر وناكـد زوجـه سيـده بنـت البارودي وصادرها في بعض تعلقاتها فشكـت أمرهـا إلـى كبـار الاختياريـة فخاطبـوه فـي شأنهـا وكلمـه حسـن كتخدا أبو شنب فرد عليه ردًا قبيحـًا فتحزبـوا عليـه ونزعـوه مـن الرياسة وقدموا حسين بك الصابونجي وجعلوه شيخ البلد‏.‏

لم يزل حتى حقد عليه خشداشينه وقتلوه‏.‏

وخبر موت حسين بك المذكور أنه لما مات إبراهيم كتخدا قلدوا المذكور إمارة الحج وطلع سنة 1169 وسنة 1170 ثم تعين بالرياسة وصار هو كبيـر القـوم والمشـار إليـه وكـان كريمـًا جـوادًا وجيهـًا وكـان يميل بطبعه إلى نصف حرام لأن أصله من مماليك الصابونجي فهرب من بيته وهـو صغيـر وذهـب إلـى أبراهيـم جاويـش فاشتراه من الصابونجي ورباه ورقاه ثخم زوجه بزوجة محمد جربجي ابن إبراهيم الصابونجي وسكن بيتهم وعمره ووسعه وأنشأ فيه قاعة عظيمة فلذلك أشتهر بالصابونجي ولما رجع من الحجاز قلد عبد الرحمن أغا أغاوية مستحفظان وهو عبـد الرحمـن أغـا المشهـور فـي شهـر شعبـان مـن سنـة 1171 وطلـع بالحـج في تلك السنة محمد بك بـن الدالـي ورجـع فـي سنـة 1172 ثـم أن المترجـم أخرج خشداشه علي بك المعروف ببلوط قبان ونفاه إلى بلده النوسات وأخرج خشداشه أيضًا عثمان بك الجرجاوي منفيًا إلى اسيوط وأراد نفي علي بك الغزاوي وإخراجه إلى جهة العادلية فسعى فيه اختيارية بواسطة نسيبه علي كتخدا الخربطلي وحسن كتخدا أبي شنب فألزمه أن يقيم بمنزل صهره علي كتخدا المذكور ببركة الرطلي ولا يخرج من البيت ولا يجتمع بأحد من أقرانه وأرسل إلى خشداشه حسين بك المعروف بكشكش فأحضره من جرجا وكان حاكمًا بالولاية فأمره بالأقامة في قصر العيني ولا يدخل إلى المدينة‏.‏

ثم أرسل إليه يأمره بالسفر إلى جهة البحيرة وأحضروا إليه المراكب التي يسافر فيها ويريد بذلك تفرق خشداشينه في الجهات ثم يرسل إليهم ويقتلهم ليينفرد بالأمر والرياسة ويستقل بملك مصر ويظهر دولة نصف حرام وهو غرضه الباطني‏.‏

وضم إليه جماعة من خشداشينه وتوافقوا معه على مقصد ظاهرًا وهم حسن كاشف جوجه وقاسم كاشف وخليل كاشف جرجي وعلي أغا المنجي واسمعيل كاشف أبـو مدفـع وآخـر يسمـى حسـن كاشف‏.‏

وكانوا من إخصائه وملازميه فاشتغل معهم حسين بـك كشكـش واستمالهـم سـرًا وأتفـق معهـم علـى أغتيالـه فحضـروا عنـده في يوم الجمعة على جري عادتهم وركبوا صحبته إلى القرافة فزاروا ضريح الإمام الشافعي ثم رجع صحبتهم إلىمصر القديمة فنزلوا بقصر الوكيـل وباتـوا صحبتـه فـي أنـس وضحـك‏.‏

وفي الصباح حضر إليهم الفطور فأكلوه وشربوا القهوة وخرج المماليك ليأكلوا الفطور مع بعضهم وبقي هو مع الجماعة وحده وكانوا طلبوا منه أنعامًا فكتب إلـى كـل واحـد منهـم وصـولا بألـف ريـال وألـف أردب قمح وغلال ووضعوا الأوراق في جيوبهم ثم سحبوا عليه السلاح وقتلوه وقطعوه قطعًا ونزلوا من القصر وأغلقوه على المماليك والطائفة من خـارج‏.‏

وركـب حسـن كاشـف جوجـه ركوبـة حسيـن بك وكان موعدهم مع حسين بك كشكش عند المجراة فإنه لما أحضروا له مراكب السفر تلكأ في النزول وكلما أرسل إليه حسين بك يستعجلـه بالسفـر يحتـج بسكـون الريـح أو ينـزل بالمراكـب ويعـدي إلى البر الآخر ويوهم أنه مسافر ثم يرجـع ليـلًا ويتعلـل بقضـاء أشغالـه‏.‏

وأستمـر علـى ذلـك الحـال ثلاثـة أيـام حتـى تمـم أغراضـه وشغله مع الجماعة ووعدهم بالأمريات‏.‏

وأتفق معهم أنه ينتظرهم عند المجراة وهم يركبون مع حسين بك ويقتلونه في الطريق أن لم يتمكنوا من قتله بالقصر‏.‏

فقدر الله أنهم قتلوه وركبوا حتى وصلوا حسيـن بـك كشكـش فأخبـروه بتمـام الأمـر فركـب معهـم ودخلـوا إلـى مصـر وذهـب كشكـش إلى بيت حسين بك الداودية وملكه بما فيه وأرسل بأحضار خشداشيه المنفيين‏.‏

وعندما وصل الخبر إلى علي بك الغزاوي ببركة الرطلي ركب في الحال مع القاتلين وطلعوا إلى القلعة وأخذوا في طريقهـم أكابـر الوجاقليـة ومنهـم حسـن كتخـدا أبو شنب وهو من أغراض حسين بك المقتول وكان مريضـًا بالآكلـة فـي فمه‏.‏

فلما دخلوا إليه وطلبوه نزل إليهم من الحريم فأخبروه بقتلهم حسين بك فطلبوه للركوب معهم فاعتذر بالمرض فلم يقبلوا عذره فتطيلس وركب معهم إلى القلعة وولوا علـي بـك كبيـر البلـد عوضـًا عن حسين بك المقتول وكان قتله في شهر صفر سنة 1171 ثم أن مماليكه وضعوا أعضاءه في خرج وحملوه على هجين ودخلوا به إلى المدينة فأدخلوه إلى بيت الشيـخ الشبـراوي بالرويعـي فغسلـوه وكفنـوه ودفنـوه بالقرافة‏.‏

وسكن علي بك المذكور بيت حسين بك الصابونجي الذي بالازبكية وأحضروا علي بك من النوساب وعثمان بك الجرجاوي من أسيـوط وقلدواخليـل كاشـف صنجقيـة واسمعيـل أبو مدفع كذلك وقاسم كاشف قلدوه الزعامة ثم قلدوا بعد أشهر حسن كاشف المعروف بجوجه صنجقية ايا وكان ذلك في ولاية علي باشا ابن الحكيم الثانية فكان حال حسين بك المقتول مع قاتليه كما قال الشاعر‏:‏ وإخـوان تخذتهمـو دروعًا فكانوهـا ولكن للاعادي وخلتهمو سهامـا صائبـات فكانوها ولكن في فؤادي وأما من مات في هذا التاريخ من الأعيان خلاف حسين بك المذكور فالشيخ الإمام الفقيه المحـدث الأصولـي المتكلـم الماهـر الشاعـر الأديـب عبـد اللـه بـن محمـد بن عامر شرف الدين الشبراوي الشافعي ولد تقريبًا في سنة 1092 هو من بيت العلم والجلالة فجده عامر بن شرف الدين ترجمه الأميني في الخلاصة ووصفه بالحفظ والذكاء فأول من شملته أجازته سيدي محمد بن عبد الله الخرشي وعمره إذ ذاك نحو ثمان سنوات وذلكفي سنة 1100 وتوفي الشيخ الخرشي المالكـي فـي سابـع عشرين الحجة سنة 1101 وتولى بعده مشيخة الأزهر الشيخ محمد النشرتي المالكـي وتوفـي فـي ثامن عشري الحجه سنة 1120 ووقع بعد موته فتنة بالجامع الأزهر بسبب المشيخة والتدريس بالاقبغاوية وأفترق المجاورون فرقتين تريد الشيخ أحمد النفراوي والأخرى تريد الشيخ عبد الباقي القليني ولم يكن حاضرًا بمصر فتعصب له جماعة النشرتي وأرسلوا يستعجلونه للحضور فقبل حضوره تصدر الشيخ أحمد النفراوي وحضر للتدريس بالاقبغاوية فمنعه القاطنون بها وحضر القليني فأنضم إليه جماعة النشرتي وتعصبوا له فحضـر جماعـة النفراوي إلى الجامع ليلًا ومعهم بنادق وأسلحة وضربوا بالبنادق في الجامع وأخرجوا جماعة القلينـي وكسـروا بـاب الاقبغاويـة وأجلسـوا النفراوي مكان النشرتي‏.‏

فاجتمعت جماعة القليني في يومها بعد العصر وكبسوا الجامع وقفلوا أبوابه وتضاربوا مع جماعة النفراوي فقتلوا منهم نحو العشرة أنفار وانجرح بينهم جرحى كثيرة وانتهبت الخزائن وتكسرت القناديـل‏.‏

وحضـر الوالـي فأخـرج القتلـى وتفـرق المجـاورون ولـم يبـق بالجامـع أحـد‏.‏

ولـم يصـل فيـه ذلـك اليـوم وفـي ثاني يوم طلع الشيـخ أحمـد النفـراوي إلـى الديـوان ومعـه حجـة الكشـف علـى المقتوليـن فلم يلتفت الباشا إلى دعواه لعلمـه بتعديـه وأمـره بلـزوم بيتـه وأمـر بنفـي الشيـخ محمـد شنـن إلـى بلـده الجدية وقبضوا على من كان بصحبته وحبسوهم في العرقانة وكانـوا أثنـي عشـر رجـلًا‏.‏

وأستقـر القلينـي فـي المشيخـة والتدريـس‏.‏

ولما مات تقلد بعده الشيخ محمد شنن وكان النفراوي قد مات‏.‏

ولما مات الشيخ شنن تقلد المشيخة الشيخ إبراهيم ابن موسى الفيومي المالكي‏.‏

ولما مات في سنة سبع وثلاثين انتقلت المشيخـة إلـى الشافعيـة فتولاهـا الشيخ عبد الله السبراوي المترجم المذكور في حياة كبار العلماء بعـد أن تمكن وحضر الأشياخ كالشيخ خليل بن أبراهيم اللقاني والشهاب الخليفي والشيخ محمد بـن عبد الباقي الزرقاني والشيخ أحمد النفراوي والشيخ منصور المنوفي والشيخ صالح الحنبلي والشيخ محمد المغربي الصغير والشيخ عيد النمرسي‏.‏

وسمع الأولية وأوائل الكتب من الشيخ عبـد الله بن سالم البصر أيام حجه ولي يزل يترقى في الأحوال والأطوار ويفيد ويملي ويدرس حتى صار أعظم الأعاظم ذا جاه ومنزلة عند رجال الدولة والأمراء ونفذت كلمته وقبلـت شفاعتـه وصـار لأهـل العلم في مدته رفعة مقام ومهابة عند الخاص والعام وأقبلت عليه الأمراء وهادوه بأنفس ما عندهم وعمر دارًا عظيمة على بركة الأزبكية بالقرب من الرويعي وكذلك ولده سيدي عامر عمر دارًا تجاه دار أبيه وصرف عليها أموالًا جمة‏.‏

وكان يقتني الظرائف والتحائـف مـن كل شيء والكتب المكلفة النفيسة بالخط الحسن وكان راتب مطبخ ولده سيدي عامـر فـي كـل يـوم مـن اللحـم الضانـي رأسيـن مـن الغنـم السمـان يذبحـان فـي بيتـه وكـان طلبـة العلم في أيام مشيخة الشيخ عبد الله الشبراوي في غاية الأدب والأحترام‏.‏

ومن آثـاره كتـاب مفائـح الألطـاف فـي مدائـح الأشـراف وشـرح الصـدر في غزوة بدر ألفها بإشارة علي باشا ابن الحكيم وذكـر فـي أخرهـا نبـذة مـن التاريـخ وولـاة مصـر إلـى وقت صاحب الإشارة‏.‏

وله ديوان يحتوي على غزليـات وأشعار ومقاطيع مشهور بأيدي الناس وغير ذلك كثير توفي في صبيحة يوم الخميس سادس ذي الحجة سنة 1171 وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل عن ثمانين سنة تقريبًا‏.‏

ومـات الشيـخ الإمـام الأحـق بالتقديـم الفقيـه المحدث الورع الشيخ حسن ابن علي بن أحمد بن عبد الله الشافعي الأزهري المنطاوي الشهير بالمدابغي أخذ العلوم عن الشيخ منصور المنوفي وعمر بن عبد السلام التطاوني والشيخ عيد النمرسي والشيخ محمد بن أحمد الوزازي ومحمد بن سعيد التنبكتي وغيرهم خدم العلم ودرس بالجامع الأزهر وأفتى وألف وأجاد ومنها حاشيته علـى شـرح الخطيـب علـي أبـي شجاع نافعة للطلبة وثلاثة شروح على الآجرومية وشرح الصيغة الأحمديـة وشرح الدلائل وشرح على حزب البحر وشرح حزب النووي شرحًا لطيفًا‏.‏

واختصر شـرح الحـزب الكبيـر للبنانـي ورسالـة فـي القـراءات العشـر وأخـرى فـي فضائـل ليلـة القدر وأخرى في المولد الشريف وحاشيته على جمع الجوامع المشهورة وحاشيته على شرح الأربعين لابن حجر وأختصر سيرة ابن الميت وحاشية التحرير وحاشية على الأشموني وشرح قصيدة المقري التي أولها سبحان من قسم الحظوظ وحاشية على الشيخ خالد وغير ذلك‏.‏

ومات العلامة القدوة شمس الدين محمد بن الطيب بن محمد الشرفي الفاسي ولد بفاس سنة 110 واستجاز له ولده من أبي الاسرار حسن ابن علي العجمي من مكة المشرفة وعمره إذ ذاك ثلاث سنوات فدخل في عموم أجازته وتوفي بالمدينة المنورة سنة 1170 وتاريخه مغلق عن ستين عاما رحمه الله تعالى‏.‏

ومـات الشيـخ داود بـن سليمـان بن أحمد بن محمد بن عمر بن عامر بم خضر الشرنوبي البرهاني المالكي الخربتاوي ولد سنة 1080 وحضـر علـى كبـار أهـل العصـر كالشيـخ محمـد الزرقانـي والخرشي وطبقتهما وعاش حتى الحق الأحفاد بالأجداد وكان شيخًا معمرًا مسندًا له عناية بالحديث‏.‏

توفي في جمادى الثانية سنة 1170‏.‏

ومات الشيخ القطب الصالح العارف الواصل الشيخ محمد بن علي الجزائي القاسمي الشهيـر بكشك ورد مصر صغيرًا وبها نشأ وحج وأخذ الطريقة عن سيدي أحمد السوسـي تلميـذ سيدي قاسم وجعله خليفة القاسمية بمصر فلوحظ بالأنوار والأسرار ثم دخل المغرب ليزور شيخه فوجده قد مات قبل وصوله بثلاثة أيام وأخبره تلامذة الشيخ أن الشيخ أخبر بوصول المترجم وأودع له أمانة فأخذها ورجع إلى مصر وجلس للإرشاد وأخذ العهود ويقال أبه تولى القطبانبة توفي سنة 1170‏.‏

ومات الشيخ الفاضل العلامة محمد بـن أحمـد الحنفـي الأزهري الشهير بالصائم تفقه على سيدي علي العقدي والشيخ سليمان المنصوري والسيد محمد أبي السعود وغيرهم وبرع في معرفة فروع المذهب ودرس بالأزهر وبمسجد الحنفـي ومسجـد محـرم فـي أنـواع الفنـون ولازم الشيخ العقيقي كثيرًا ثم أجتمع بالشيخ أحمد العريان وتجرد للذكر والسلوك وترك علائق الدنيا ولبس زي الفقراء ثم باع ما ملكت يداه وتوجه إلى السويس فركـب فـي سفينـة فانكسـرت فخـرج مجردا يساتر العورة‏.‏

ومال إلى بعض خباء الأعراب فأكرمته امـرأة منهـم وجلس عندها مدة يخدمها وثم وصل إلى المنبع على هيئة رثه وأوى إلى جامعها‏.‏

وأتفـق لـه أنـه صعـد ليلـة مـن الليالـي على المنارة وسبح على طريقة المصريين فسمعه الوزير إذ كان منزله قريبًا من هناك فلما أصبح طلبه وسأله فلم يظهر حاله سوى أنه من الفقراء فأنعم عليه ببعض ملابس وأمره أن يحضر إلى داره كل يوم للطعام ومضت على ذلك برهة إلى أن اتفق مـوت بعـض مشايـخ العربـان وتشاجـر أولاده بسبب قسمة التركة فأتوا إلى الينبع يستفتون فلم يكن هناك من يفك المشكل فرأى الوزير أن يكتب السؤال ويرسله مع الهجان بأجرة معينة إلى مكة يستفتـي العلماء فاستقل الهجان الآجرة ونكص عن السفر ووقع التشاجر في دفع الزيادة للهجان وأمتنـع أكثرهـم ووقعـوا فـي الحيـرة‏.‏

فلمـا رأى المترجـم ذلـك طلـب الدواة والقلم وذهب إلى خلوة له بالمسجد فكتب الجواب مفصلًا بنصوص المذهب وختم عليها وناوله للوزير فلما قرأ تعجب وأكرمه الوزير وأجله ورفع منزلته وعين له من المال والكسوة وصار يقرأ دروس الفقه والحديث هنـاك حتـى أشتهـر أمـره وأقبلـت عليه الدنيا‏.‏

فلما أمتلأ كيسه وانجلى بؤسه وقرب ورود الركب المصـري رأى الوزيـر تفلته من يده فقيد عليه ثم لما لم يجد بدا عاهده على أنه يحج ويعود إليه فوصل مـع الركـب إلـى مكـة وأكـرم وعـاد إلـى مصـر ولـم يـزل علـى حالـة مستقيمـة حتـى توفـي عـن فالـج جلـس فيـه شهـورًا فـي سنـة 1170 وهو منسوب إلى سفط الصائم إحدى قرى مصر من إعمال ومـات الإمـام الأديـب المتفنـن أعجوبـة الزمـان علـى بـن تـاج الدين محمد ابن عبد المحسن بن محمد بن سالـم القلعـي الحنفـي المكـي ولـد بمكـة وتربـى فـي حجـر أبيـه في غاية العز والسيادة والسعادة وقرأ عليـه وعلـى غيـره مـن فضـلاء مكة وأخذ عن الواردين إليها ومال إلى فن الأدب وغاص في بحره فاستخرج منه اللآلى والجواهر وطارح الأدباء في المحاضر فبان فضله وبهر برهانه ورحل إلى الشام في سنة 1142 وأجتمع بالشيخ عبد الغني النابلسي فأخذ عنه وتوجه إلى الروم وعاد إلى مكة وقدم إلى مصر سنة ستين ثم غاب عنها نحو عشر سنين ثم ورد عليها وحينئذ كمـل شرحـه علـى بديعيتـه وعلـى بديعيتيـن لشيخـه الشيـخ عبد الغني وغيره ممن تقدم وهي عشر بديعيـات وشرحـه علـى بديعيتـه ثلـاث مجلـدات قـرظ عليـه غالـب فضـلاء مصـر كالشبـراوي والادكـاوي والمرحومـي ومـن أهـل الحجـاز الشيـخ إبراهيـم المنوفـي وكـان للمترجم بالوزير المرحوم علي باشـا ابـن الحكيـم التئـام زائـد لكونـه لـه قـوة يـد ومعرفـة فـي علـم الرمـل وكـان فـي أول اجتماعـه به في الروم أخبره بأمور فوقعت كما ذكرن فازداد عنده مهابة وقبولا‏.‏

ولما تولى المذكور ثاني توليته وهـي سنـة سبعيـن قـدم إليـه مـن مكـة من طريق البحر فأغذق عليه ما لا يوصف ونزل في منزل بالقـرب مـن جامع أزبك بخط الصليبة وصار يركب في موكب حافل تقليدًا للوزير‏.‏

ورتب في بيته كتخدا وخازندار والمصرف والحاجب على عادة الأمراء وكان فيه الكرم المفرط والحياء والمروءة وسعة الصدر في أجازة الوافدين مالًا وشعرًا‏.‏

ومدحه شعراء عصره بمدائح جليلة منهم الشيخ عبد الله الادكاوي له فيه عدة قصائد وجوزي بجوائز سنية‏.‏

ولما عزل مخدومه توجـه إلـى بلـاد الروم فلما ولى الختام ثانيا زاد المترجم عنده أبهة حتى صار في سدة السلطنة أحد الأعيان المشار إليهم وأتخذ دارًا واسعة فيها أربعون قصرًا ووضع في كل قصر جارية بلوازمهـا‏.‏

ولمـا عـزل الوزيـر ونفـي إلـى إحـدى مـدن الـروم سلـب المترجـم جميـع ما كان بيده ونفي إلى الإسكندرية‏.‏

فمكث هناك حتى مات سنة 1172 شهيدًا غريبًا ولم يخلف بعده مثله‏.‏

وله ديوان شعر ورسائل منها تكميل الفضل بعلم الرمل ومتن البديعية سماه الفرج في مدح عالي الـدرج أقتـرح فيهـا بأنـواع منهـا وسـع الأطلـاع والتطريـز والـرث والأعتـراف والعـود والتعجيـب والترهيب والنعريض وأمثلة ذلك كله موضحة في شرحه علـى البديعيـة‏.‏

ولمـا تغيـرت دولـة مخدومه وتغير وجه الزمان عاد روض أنسه ذابل الأفنان ذا أحزان وأشجان لم يطب له المكان ودخل اسم عزه في خبر كان وتوفي في نحو هذا التاريخ‏.‏

ومات العمدة الأجل النبيه الفصيح المفوه الشيخ يوسف بن عبد الوهاب الدلجـي وهـو أخـو الشيخ محمد الدلجي كلاهما ابنا خال المرحوم الوالد وكان إنسانًا حسنًا ذا ثروة وحسن عشرة وكان من جملة جلساء الأمير عثمان بك ذي الفقار ولديه فضيلة ومناسبات ويحفظ كثيرًا من النـوادر والشواهـد وكـان منزلـه المشـرف علـى النيـل ببولـاق مـأوى اللطفاء والظرفاء ويقتني السـراري والجـواري توفي سنة 1171 عن ولديه حسين وقاسم وابنة أسمها فاطمة موجودة في الأحياء إلى الآن‏.‏

ومات الشيخ النبيه الصالح علي بن خضر بن أحمد العمروسي المالكي أخذ عن السيد محمد السلموني والشهاب النفرواي والشيخ محمـد الزرقانـي ودرس بالجامـع الأزهـر وأنتفـع بـه الطلبـة وأختصـر المختصـر الخليلـي فـي نحـو الرابـع ثم شرحه وكان إنسانًا حسنًا منجمعًا عن الناس مقبلًا على شأنه توفي سنة 1173‏.‏

ومات الأستاذ المبجل ذو المناقب الحميدة السيد شمس الدين محمد أبو الأشراق بن وفي وهو ابـن أخـي الشيـخ عبـد الخالـق ولمـا توفـي عمـه في سنة 1161 خلفه في المشيخة والتكلم وكان ذا أبهـة ووقـار محتشمـًا سليـم الصـدر كريـم النفـس بشوشًا‏.‏

توفي سادس جمادى الأولى سنة 1171 وصلـي عليـه بالأزهـر وحمـل إلـى الزاويـة فدفـن عنـد عمـه وقـام بعـده فـي الخلافة الأستاذ مجد الدين محمد أبو هادي ابن وفي رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

ومات الإمام العلامة الفريد الفقيه الفرضي الحيسوبي الشيخ حسين المحلي الشافعي كان وحيد دهره وفريد عصره فقهًا وأصولًا ومعقولًا جيد الاستحضار والحفظ للفروع الفقهية‏.‏

وأما في علم الحساب الهوائي والغباري والفرائض وشبـاك ابـن الهائـم والجبـر والمقابلـة والمساحـة وحـل الأعداد فكان بحرًا لا تشبهه البحار ولا يدرك له قرار وله في ذلك عدة تآليف بخطه ويبيعها لمن يرغب فيها ويأخذ من الطالبين أجرة على تعليمهم فإذا جاء من يريد التعلم وطلب أن يقرأ عليه الكتاب الفلاني تعزز عليه وتمنع ويساومه على ذلك بعد جهد عظيم وكان له حانوت بجوار باب الأزهر يتكسب فيه ببيع المناكيب لمعرفة الأوقات والكتب وتسفيرها‏.‏

وألف كتابًا حافلًا في الفروع الفقهية على مذهب الإمام الشافعي وهو كتاب ضخم في مجلدين معتبر مشهـور معتمـد الأقوال في الأفتاء وله غير ذلك كثير‏.‏

وبالجملة فكان طودا راسخًا تلقى عنه كثيـر مـن أشيـاخ العصـر ومنهـم شيخنـا الشيـخ محمـد الشافعـي الجناجـي المالكي وغيره‏.‏

توفي سنة 170‏.‏ ومات

الشيخ الإمـام المعمـر القطـب

أحـد مشايـخ الطريـق صاحـب الكرامـات الظاهـرة والأنـوار الساطعة الباهرة عبد الوهاب بن عبد السلام بن أحمد ابن حجازي بن عبد القادر بن أبي العبـاس بـن مديـن بـن أبـي العباس بن عبد القادر بن أبي العباس بن شعيب بن محمد بن القطب سيدي عمر الرزوقي العفيفي المالكي البرهاني يتصل نسبه إلى القطب الكبير سيدي مرزوق الكفافي المشهور ولد المترجم بمنية عفيف إحدى قرى مصر ونشأ بها على صلاح وعفة ولما ترعـرع قـدم إلـى مصـر فحضـر علـى شيـخ المالكيـة فـي عصـره الشيـخ سالـم النفـراوي أيامـا فـي مختصـر الشيخ خليل وأقبل على العبادة وقطن بالقاعة بالقرب من الأزهر بجوار مدرسة السنانية وحج فلقي بمكة الشيخ أدريس اليماني فأجازه وعاد إلى مصر وحضر دروس الحديث على الإمام المحدث الشيخ أحمد بن مصطفى الإسكندري الشهير بالصباغ ولازمه كثيرا حتى عرف به‏.‏

وأجازه مولاي أحمد التهامي حين ورد إلى مصر بطريقة الأقطاب والأحزاب الشاذلية والسيد مصطفـى البكـري بالخلوتيـة‏.‏

ولمـا توفـي شيخه الصباغ لازم السيد محمد البليدي في دروسه من ذلـك تفسيـر البيضـاوي بتمامـه‏.‏

وروى عنـه جملـة من أفاضل عصره كالشيخ محمد الصبان والسيد محمد مرتضى والشيخ محمد بن اسمعيل النفراوي وسمعوا عليه صحيح مسلم بالاشرفية وكان كثير الزيارة لمشاهد الأولياء متواضعًا لا يرى لنفسه مقاما متحرزًا في مأكله وملبسه لا يأكل إلا ما يؤتى إليه من زرعه من بلده من العيش اليابـس مـع الدقـة وكانـت الأمـراء تأتـي لزيارتـه ويشمئـز منهـم ويفـر منهم في بعض الأحيان‏.‏

وكل من دخل عنده يقدم له ما تيسر من الزاد من خبـزه الـذي كـان يأكـل منـه‏.‏

وأنتفـع بـه المريدون وكثروا في البلاد ونجبوا ولم يزل يترقى في مدارج الوصول إلى الحق حتى تعلل أياما بمنزله الذي بقصر الشوك‏.‏

توفي في ثاني عشر صفر سنة 172 ودفن بجوار سيدي عبد الله المنوفي ونزل سيل عظيم وذلك في سنة 1178 فهدم القبور وعامـت الأمـوات فانهـدم قبـره وامتـلأ بالمـاء فاجتمـع أولـاده ومريـدوه وبنـوا لـه قبـرًا في العلوة على يمين تربة الشيخ المنوفي ونقلوه إليه قريبا من عمارة السلطان قايتباي وبنوا على قبره قبة معقودة وعملوا له مقصورة ومقاما من داخلها وعليه عمامة كبيرة وصيروه مزارا عظيمًا يقصد للزيارة ويختلـط بـه الرجـال والنسـاء‏.‏

ثـم أنيشـأوا بجانبه قصرًا عاليًا عمره محمد كتخدا اباظة وسوروا له رحبة متسعة مثل الحوش لموقف الدواب من الخيل والحمير دثروا بها قبورا كثيرة بها كثير من أكابـر الأوليـاء والعلمـاء والمحدثيـن غيرهـم مـن المسلميـن والمسلمـات‏.‏

ثـم أنهـم أبتدعـوا له موسمًا وعيدًا في كل سنة يدعون إليه الناس من البلاد القبلية والبحريـة فينصبـون خيامـًا كثيـرة وصواويـن ومطابخ وقهاوي ويجتمع العالم الأكبر من أخلاط الناس وخواصهم وعوامهم وفلاحي الأرياف وأربـاب الملاهـي والملاعـب والغـوازي والبغايـا والقراديـن والحـواة فيملأون الصحراء والبستان فيطـأون القبـور يوقـدون عليهـا النيـران ويصبـون عليها القاذورات ويبوبون ويتغوطون ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول والزمور ليلًا ونهارًا ويستمر ذلك نحو عشرة أيام أو أكثر ويجتمع لذلك أيضًا الفقهاء والعلماء وينصبون لهم خيامًا أيضًا ويقتدي بهم الأكابر من الأمراء والتجار والعامة من غير إنكار بل ويعتقدون ذلك قربة وعبادة‏.‏

ولو لم يكن كذلك لأنكره العلماء فضلًا عن كونهم يفعلونه فالله يتولى هدانا أجمعين‏.‏

ومات الشيخ الأجل المعظم سيدي محمد بكري بن أحمد بن عبد المنعم ابن محمد بن أبي السرور محمد بن القطب أبي المكارم محمد أبيض الوجه ابن أبي الحسن محمد بن الجلال عبد الرحمن بـن أحمـد بـن محمـد بـن أحمـد ابـن محمـد بـن عـوض بـن محمـد بـن عبـد الخالـق بـن عبـد المنعـم بـن يحيـى بـن الحسـن بـن موسـى بـن يحيـى بـن يعقـوب بـن نجـم بـن عيسـى بـن شعبـان ابـن عيسى بن داود بن محمد بن نوح بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق وكان يقال له سيـدي أبـو بكـر البكـري شيـخ السجـادة بمصـر ولـاه أبـوه الخلافـة فـي حياتـه لمـا تفرس فيه النجابة مع وجـود أخوتـه الذيـن هـم أعمامـه وهـم أبـو المواهـب وعبـد الخالـق ومحمـد بن عبد المنعم‏.‏

فسار في المشيخة أحسن سير وكان شيخًا مهيبًا ذا كلمـة نافـذة وحشمـة زائـدة تسعـى إليـه الـوزراء والأعيان والأمراء‏.‏

وكان الشيخ عبد الله الشبراوي يأتيه في كل يوم قبل الشروق يجلس معه مقدار ساعة زمانية ثم يركب ويذهب إلى الأزهر‏.‏

ولما مات خلفه ولده الشيخ سيد أحمد وكـان المترجـم متزوجـًا بنـت الشيخ الحنفي فأولدها سيدي خليلا وهو الموجود الآن تركه صغيرًا فتربـى فـي كفالـة ابـن عمـه السيـد محمد أفندي ابن علي أفندي الذي أنحصرت فيه المشيخة بعد وفـاة ابـن عمه الشيخ سيد أحمد مضافة إلى نقابة السادة الأشراف كما يأتي ذكر ذلك أن شاء الله‏.‏

وكانت وفاة المترجم في أواخر شهر صفر سنة 1171‏.‏

ومات أيضًا في هذه السنة السلطان عثمان خان العثماني‏.‏

وتولى السلطان مصطفى بن أحمد خـان وعـزل علـي باشـا ابـن الحكيم وحضر إلى مصر محمد سعيد باشا في أواخر رجب سنة 171 واستمر في ولاية مصر إلى سنة 1173‏.‏

وفي تلك السنة نزل مطر كثير سالت منه السيول‏.‏

ومات أفضل النبـلاء وأنبـل الفضـلاء بلبـل دوحـة الفصاحـة وغريدهـا مـن انحـازت لـه بدائعهـا طريفها وتليدها الماجد الأكرم مصطفى أسعد اللقيمي الدمياطي هو أحد الأخوة الأربعة وهم عمر ومحمد وعثمان والمترجم أولاد المرحوم أحمد بن أحمد بن صلاح الدين اللقيمي الدمياطي الشافعي سبط العنبوسي وكلهم شعراء بلغاء توفي سنة 1173‏.‏

وما أديب الزمان وشاعر العصر والأوان العلامة الفاضل شمس الدين الشيخ محمد سعيد بن محمد الحنفي الدمشقي الشهير بالسمان ورد إلى مصر في سنة 1144 فطارح الأدباء وزاحم بمناكبـه الفضـلاء ثـم عـاد إلـى وطنـه وورد إلـى مصـر أيضًا في سنة 1172 وكان ذا حافظة وبراعة وحسن عشرة وصار بينه وبين الشيخ عبد الله الادكاوي محاضرات ومطارحات وذكره في مجموعته وأثنى عليه وأورد له من شعره كثيرًا ثم توجه إلى الشام وقد وافاه الحمام ودفـن بالصالحية سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف‏.‏

ومات الشيخ الصالح الشاعر اللبيب الناظم الناثر الشيخ عامر الأنبوطي الشافعي شاعر مفلق هجاء ليب شراره محرق كان يأتي من بلده يزور العلماء والأعيان‏.‏

وكلما رأى لشاعر قصيدة سائرة قلبها وزنا وقافية إلى الهزل والطبيخ فكانوا يتحامون عن ذلك‏.‏

وكان الشيخ الشبراوي يكرمه ويكسيه ويقول له‏:‏ يا شيخ عامر لا تزفر قصيدتي الفلانية وهذه جائزتك‏.‏

ومن بعده الشيخ الخفني كان يكرمه ويغدق عليه ويستأنس لكلامه‏.‏

وكان شيخًا مسنًا صالحًا مكحل العينين دائمًا عجيبًا في هيئته ومن نظمه ألفية الطعام على وزن ألفية ابن مالك وأولها‏:‏ يقول عامـر هـو الانبوطـي أحمـد ربي لست بالقنوطي ومـات الأميـر الكبيـر عمـر بـك بـن حسـن بـك رضوان وذلك أنه لما قلد إبراهيم كتخدا تابعه علي بك الكبير إمارة الحج وطلع بالحجاج ورجع في سنة 1167 ونزل عليهم السيل العظيم بظهر حمار وألقى الحجاج وأحمالهم إلى البحر ولم يرجع منهم إلا القليل تشاور فيمن يقلدونه إمارة الحج فاقتضى رأي إبراهيم كتخدا تولية المترجم وقد صار مسنًا هرمًا فاستعفى من ذلك فقـال لـه إبراهيـم كتخـدا‏:‏ أمـا أن تطلـع بالحـج أو تدفع مائتي كيس مساعدة‏.‏

فحضر عند إبراهيم كتخـدا فـرأى منـه الجد‏.‏

فقال‏:‏ إذا كان ولابد فأني أصرفها واحد ولو أني أصرف ألف كيس‏.‏

ثم توجه إلى القبلة وقال‏:‏ اللهم لا ترني وجه إبراهيم هذا بعد هذا اليوم أما أني أموت أو هو يموت‏.‏

فاستجـاب اللـه دعوتـه ومـات إبراهيـم كتخـدا فـي صفـر قبـل دخـول الحجـاج إلـى مصـر بخمسـة ومات الرجل الفاضـل النبيـه الذكـي المتفنـن المتقـن الفريـد الأوسطـي إبراهيـم السكاكينـي كـان إنسانـا حسنـًا عطارديـا يصنـع السيـوف والسكاكيـن ويجيـد سقيهـا وجلاءهـا ويصنـع قراباتها ويسقطها بالذهب والفضة ويصنـع المقاشـط الجيـدة الصناعـة والسقـي والتطعيـم والبـر كـارات للصنعة وأقلام الجدول الدقيقة الصنعة المخرمة وغير ذلك‏.‏

وكان يكتب الخط الحسن الدقيق بطريقة متسقة معروفة من دون الخطوط لا تخفى وكتب بخطه ذلك كثيرًا مثل مقامات الحريري وكتب أدبية ورسائل كثيرة في الرياضيات والرسميات وغير ذلك وبالجملة فقد كان فريدا في ذاته وصفاته وصناعتـه لـم يخلـف بعـده مثلـه‏.‏

توفـي فـي حـدود هـذا التاريـخ وكـان حانوتـه تجـاه جامـع المرداني بالقرب من درب الصياغ‏.‏

وفي تلك السنة أعني سنة 1171 نزل مطر كثير سالت منه السيول وأعقبه الطاعون المسمى بقارب شيحة الذي أخذ المليح والمليحة‏.‏

مات به الكثير من الناس المعروفين وغيرهم ما لا يحصـى ثـم خـف وأخـذ ينقـر في سنة 1172 وكان قوة عمله في رجب وشعبان وولد للسلطان مصطفـى مولـود فـي تلـك السنـة وورد الأمـر بالزينـة فـي تلـك الأيـام‏.‏

وهـذا المولـود هو السلطان سليم المتولـي الـآن ولمـا قتـل حسيـن بـك القازدغلـي المعـروف بالصابونجـي وتعيـن فـي الرياسـة بعـده علـي بك الكبير وأحضر خشداشينه المنفيين وأستقر أمرهم وتقلد إمارة الحج سنة 1173 فبيت مـع سليمـان بـك الشابـوري وحسـن كتخدا الشعراوي وخليل جاويش حيضان مصلي وأحمد جاويش المجنـون وأتفـق معهـم علـى قتـل عبـد الرحمـن كتخـدا فـي غيبتـه وأقـام عوضـه فـي مشيخـة البلد خليل بـك الدفتـر دار فلمـا سافـر استشعـر عبـد الرحمـن كتخـدا بذلـك فشـرع فـي نفـي الجماعة المذكورين فأغرى بهم علي بك بلوط فبن فنفى خليل جاويش حيضان مصلي وأحمد جاويش إلى الحجـاز مـن طريـق السويـس علـى البحـر ونفـى حسـن كتخـدا الشعـراوي وسليمـان بـك الشابوري مملوك خشداشه إلى فارسكور‏.‏

فلما وصل علي بك وهو راجع بالحج إلى العقبة وصـل إليـه الخبـر فكتـم ذلك وأمر بعمل شنك يوهم من معه بأن الهجان أتاه بخبر سار ولم يزل سائرًا إلى أن وصل إلى قلعة نخل فانحاز إلى القلعة وجمع الدويدار وكتخدا الحج والسدادرة وسلمهـم الحجـاج والمحمـل وركـب فـي خاصتـه وسـار إلى عزة وسار الحجاج من غير أمير إلى أن وصلوا إلى أجرود فأقبل عليهم حسن بك كشكش ومن معه يريد قتل علي بك فلم يجده فحضر بالحجاج ودخل بالمحمل إلى مصر وأستمر علي بك بغزة نحو ثلاثة شهر وأكثر وكاتب الدولـة بواسطـة باشـة الشـام فارسلـوا إليـه واحـدًا أغـا ووعـدوه ومنـوه وتحيلـوا عليه حتى استقصـوا مـا معـه مـن المـال والأقمشـة وغيـر ذلـك‏.‏

ثم حضر إلى مصر بسعاية نسيبه علي كتخدا الخربطلي وأغراضه ومات بعد وصوله إلى مصر بثمانية أيام‏.‏

يقال أن بعض خشداشينه شغله ولاية مصطفى باشا وأحمد باشا كامل وفـي تلـك السنـة حضـر مصطفـى باشـا واليًا على مصر وأستمر إلى أواخر سنة 1174 ونزل إلى القبة متوجهًا إلى جدة فأقام هناك‏.‏

وحضر أحمد باشا كامل المعروف بصبطلان في أواخر سنـة 1174‏.‏

وكـان ذا شهامـة وقـوة مراس فدقق في الأحكام وصار يركب وينزل ويكشف على الأنبار والغلال فتعصبت عليه الأمراء وعزلوه وأصعدوا مصطفى باشا المعزول وعرضوا في شأنه إلى الدولة وسافر بالعرض الشيخ عبد الباسط السنديوني ووجه مصطفى باشا خازنداره إلى جدة وكيلًا عنه‏.‏

ولما وصـل العـرض إلـى الدولـة وكان الوزير إذ ذاك محمد باشا راغب فوجهوا أحمد باشا المنفصل إلى ولاية قندية ومصطفى باشا إلى حلب ووجهوا باكير باشا والي حلب إلى مصر فحضر وطلع إلـى القلعـة وأقـام نحـو شهريـن ومـات ودفـن بالقرافـة سنـة 1175 وحضر حسن باشا في أواخر سنة ست وسبعين ثم عزل‏.‏

وحضر حمزة باشا في سنة 1179 وسيأتي تتمة ذلك واستقر الحال وتقلـد فـي إمـارة الحـج حسيـن بـك كشكـش وطلـع سنـة 1174 ووقـف لـه العـرب في مضيق وحضر إليه كبراؤهم وطلبوا مطالبهم وعوائدهم فأحضر كاتبه الشيخ خليـل كاتـب الصـرة والصـراف وأمرهم بدفع مطلوبات العرب‏.‏

فذهبوا معه إلى خيمته وأحضر المال وشرع الصراف يعد لهم الدراهم فضرب عند ذلك مدفع الشيل فقال لهم حينئذ‏:‏ لا يمكن في هذا الوقت فاصبروا حتـى ينـزل الحـج فـي المحطـة يحصـل المطلـوب‏.‏

وسـار الحـج حتى خرج من ذلك المضيق إلى الوسع ورتب مماليكه وطوائفه وحضر العرب وفيهم كبيرهم هزاع فأمر بقتلهم فنزلوا عليهم بالسيوف فقتلوهم عن أخرهم وفيهم نيف وعشرون كبيرًا من مشايخ العربان المشهورين خلاف هـزاع المذكور وأمر بالرحيل وضربـوا المدفـع وسـار الحـج وتفـرق قبائـل العـرب ونساؤهـم يصرخـون بطلب الثأر‏.‏

فتجمعب القبائل من كل جهة ووقفوا بطريق الحجاج وفي المضايق وهو يسوق عليهـم مـن إمـام الحـج وخلفـه ويحاربهـم ويقاتلهـم بمماليكـه وطوائفـه حتـى وصل إلى مصر بالحج سالما ومعه رؤوس العربان محملة على الجمال‏.‏

ودخل المدينة بالمحمل والحجاج منصورا مؤيدا فاجتمع عليه الأمراء من خشداشينه وغيرهم وقال له علي بك بلوط قبن‏:‏ أنك افسدت علينا العرب وأخربـت طريـق الحـج ومـن يطلـع بالحـج فـي العـام القابـل بعـد هـذه الفعلـة التـي فعلتهـا‏.‏

فقال‏:‏ أنا الذي أسافر بالحج في العام القابل ومنى للعرب أصطفل‏.‏

فطلع أيضًا في السنة الثانية وتجمع عليه العـرب ووقفـوا فـي كـل طريق ومضيق وعلى رؤوس الجبال وأستعدوا له بما أستطاعوا من الكثرة من كل جهة فصادمهم وقاتلهم وحار بهم وصار يكر ويفر ويحلق عليهم من إمام الحج ومن خلفـه حتـى شردهـم وأخافهـم وقتـل منهـم الكثيـر ولـم يبـال بكثرتهم مع ما هو فيه من القلة فإنه لم يكن معه إلا نحو الثلثمائة مملوك خلاف الطوائف والأجناد وعسكر المغاربة‏.‏

وكان يبرز لحربهم حاسرا رأسه مشهورًا حسامه فيشتت شملهم ويفـرق جمعهـم فهابـوه وأنكمشـوا عـن ملاقاتـه وأنكفـوا عـن الحـج‏.‏

فلـم تقـم للعـرب معـه بعـد ذلـك قائمـة‏.‏

فحـج أربـع مـرات أميـرًا بالحـج آخرهـا سنـة 176 ورجع سنة 1177 ولم يتعرض له أحد من العرب ذهابًا وايابًا بعد ذلك‏.‏

وكذلك أخاف العربان الكائنين حوالي مصر ويقطعون الطريق على المسافرين والفرحين ويسلبون الناس فكان يخـرج إليهـم علـى حيـن غفلـة فيقتلهـم وينهـب مواشيهـم ويرجع بغنائمهم ورؤوسهم في أشناف على الجمال فارتدعوا وأنكفوا عن أفاعيلهم‏.‏

وأمنت السبل وشاع ذكره بذلك‏.‏

وفـي هـذه المـدة ظهـر شـأن علـي بـك بلـوط قبـن واستفحـل أمـره وقلـد اسمعيـل بـك الصنجقية وجعله أشراقـه وزوجـه هانـم بنـت سيـده وعمل له مهما عظيما أحتفل به للغاية ببركة الفيل‏.‏

وكان ذلك فـي أيـام النيـل سنـة 1174 فعلموا على معظم البركة أخشابًا مركبة على وجه الماس يمشي عليها الناس للفرجة‏.‏

واجتمع بها أرباب الملاهي والملاعيب وبهلوان الحبل وغيره من سائر الأصناف والفرج والمتفرجون والبياعون من سائر الأصناف والأنواع وعلقوا الناديل والوقدات على جميع البيـوت المحيطـة بالبركـة وغالبها سكن الأمراء والأعيان أكثرهم خشداشين بعضهم البعض ومماليك إبراهيم كتخدا أبي العروس‏.‏

وفي كل بيت منهم ولائم وعزائم وضيافات وسماعات وآلات وجمعيات‏.‏

وأستمر هذا الفرح والمهم مدة شهر كامل والبلد مفتحة والناس تغدو وتروح ليلًا ونهارًا للحظ والفرجة من جميع النواحي‏.‏

ووردت على علي بك الهدايا والصلات من إخوانه الأمراء والأعيان والاختيارية والوجاقلية والتجار والمباشرين والأقباط والإفرنج والأروام واليهود والمدينـة عامـرة بالخيـر والنـاس مطمئنـة والمكاسب كثيرة والأسعار رخية والقرى عامرة‏.‏

وحضرت مشايخ البلدان وأكابر العربـان ومقـادم الإقاليـم والبنـادر بالهدايـة والأغنـام والجواميـس والسمـن والعسل وكل من الأمراء والإبراهيمية كأنه صاحب الفرح والمشار إليه من بينهم صاحب الفرح علـي بيـك‏.‏

وبعد تمام الشهر زفت العروس في موكب عظيم شقوا به من وسط المدينة بأنواع الملاعيب والبهلوانات والجنك والطبول ومعظم الأعيان والجاويشية والملازمين والسعاة والأغوات إمام الحريمات وعليهم الخلع والتخاليق المثمنة وكذلك المهاترة والطبالـون وغيرهـم مـن المقدميـن والخـدم والجاويشية والركبدارية والعروس في عربة‏.‏

وكان الخازندار لعلي بيك في ذلك الوقت محمد بك أبو الذهب ماشيًا بجانب العربة وفي يده عكاز ومن خلفها أولاد خزنات الأمراء ملبسين بالزرد والخود واللثامات الكشميري مقلدين بالقسي والنشاب وبأيديهم المزاريق الطوال وخلف الجميع النوبة التركية والنفيرات‏.‏

فمن ذلك الوقت أشبهر أمر علي بك وشاع ذكره ونما صيته وقلد أيضًا مملوكه علي بك المعروف بالسروجية‏.‏

ولما كان عبد الرحمـن كتخـدا بـان سيدهـم ومركـز دائـرة دولتهـم انضـوى إلـى ممالأتـه ومـال هـو الآخـر إلـى صداقتـه ليقوى به على أرباب الرياسة من اختيارية الوجاقات وكل منهما يريد تمام الأمر لنفسه‏.‏

حتى أن عبد الرحمن كتخدا لما أراد نفي الجماعة المتقدم ذكرهم مع بعض المتكلمين وصوروا علي أحمد جاويش المجنون ما يقتضـي نفيـه ثـم عرضـوا ذلـك علـى عبـد الرحمن كتخدا فمانع في ذلك وأظهر الغيظ وأصبح في ثانـي يـوم أجتمـع عنـده الاختياريـة والصناجـق علـى عادتهـم‏.‏

فلما تكامل حضور عين عبد الرحمن كتخـدا غاديـا إلـى بيـت علـي بـك وكذلـك باقـي الأمـراء والاختياريـة وصـار الجميـع والديـوان في بيته من ذلك اليوم ولبس الخلعة من الباشا على ذلك ثم أنهم طلعوا أيضًا في ثاني يوم إلى الديوان وأجتمعوا بباب الينكجرية وكتبوا عرضحال بنفي أحمد جاويش وخليل جاويش وسليمان بك الشابوري فقال عبد الرحمن كتخدا‏:‏ وأكتبوا معهـم حسـن كتخـدا الشعـراوي أيضـًا‏.‏

فكتبـوه وأخرجوا فرمانًا بذلك نفوهم كما ذكر واستمروا في نفيهم‏.‏

وعمل أحمد جاويش وقادا بالحرم المدني وخليل جاويش أقام أيضًا بالمدينة والشابوري وحسن كتخدا جهة فارسكور والسرو ورأس الخليج وأخذ علي بك يمهد لنفسه وأستكثر من شراء المماليك وشرع فـي مصـادرة الناس‏.‏

ويتحيل على أخذ الأموال من أرباب البيوت المدخرة والأعيان المستورين مع الملاطفة حادثة سماوية ومـن الحـوادث السماويـة أن فـي يـوم السبـت تاسـع عشـر جمادى الأولى هبت رسح عظيمة شديدة نكبـاء غريبـة وغـرق منهـا بالإسكندريـة ثلاثـة وثلاثـون مركبـا فـي مرسـى المسلميـن وثلاثـة مراكـب في مرسى النصارى‏.‏

وضجت الناس وهاج البحر شديدًا وتلف بالنيل بعض مراكب وسقطت عدة أشجار‏.‏

وطلـع علـي بـك أميـرًا بالحـج فـي سنـة 1177 ورجـع فـي أوائـل سنـة 1178 فـي أبهـة عظيمـة وأرخى مملوكه محمد الخازندار لحيته على زمزم‏.‏

فلما رجع قلده الصنجقية وهو الذي عرف بأبي الذهب‏.‏

ثم قلد مملوكه أيوب أغا ورضوان قرابينه وإبراهيم شلاق بلغيه وذا الفقار وعلي بك الحبشي صناجق أيضًا‏.‏

وأنقضت تلك السنة وأمر علي بك يتزايد‏.‏

وشهلوا أمور الحج على العادة وقبضوا الميري وصرفوا العلوفات والجامكية والصرة وغلال الحرمين والانبار وخرج المحمل علـى القانـون المعتـاد وأميره حسن بك رضوان‏.‏

ولما رجع من البركة بعد أرتحال الحج طلع علي بك وخشداشينه وأغراضه وملكوا أبواب القلعة وكتبوا فرمانا وأخرجوا عبد الرحمن كتخدا وعلي كتخدا الخربطلي وعمر جاويش الداودية ورضوان جربجي الرزاز وغيرهم منفيين‏.‏

فأما عبـد الرحمـن كتخدا فأرسلوه إلى السويس ليذهب إلى الحجاز وعينوا للذهاب معه صالح بك ليوصلـه إلـى السويـس‏.‏

ونفـوا باقـي الجماعـة إلـى جهـة بحـري وأرتجـت مصـر فـي ذلـك اليـوم وخصوصًا لخروج عبد الرحمن كتخدا فإنه كان أعظم الجميع وكبيرهم وابن سيدهم وله الصولة والكلمة والشهرة وبه أرتفع قدر الينكجرية على العزب وكان له عزوة كبيرة ومماليك وأتباع وعساكر مغاربـة وغيرهـم حتـى ظـن الناس وقوع فتنة عظيمة في ذلك اليوم‏.‏

فلم يحصل شيء من ذلك سـوى مـا نـزل بالنـاس مـن البهتـة والتعجـب‏.‏

ثم أرسل إلى صالح بك فرمانا ينفيه إلى غزة فوصل إليه الجاويش فـي اليـوم الـذي نـزل فيـه عبـد الرحمـن كتخـدا فـي المركـب وسافـر وذهـب صالـح بـك إلـى غزة فأقام بها مدة قليلة ثم أرسلوا له جماعة ونقلوه من غزة وحضروا به إلى ناحية بحري وأجلسـوه برشيـد ورتـب لـه علـي بـك مـا يصرفـه وجعـل لـه فائظـا فـي كـل سنة عشرة أكياس‏.‏

فأقام برشيـد مـدة فحضـرت أخبـار وصـول الباشا الجديد وهو حمزة باشا إلى ثغر سكندرية فأرسلوا إلى صالح بك جماعة يغيبونه من رشيد ويذهبون به إلى دمياط يقيم بها وذلك لئلا يجتمع بالباشا‏.‏

فلما وصلت إليه الأخبار بذلك ركب بجماعته ليلًا وسار إلى جهة البحيرة وذهب مـن خلـف جبـل الفيـوم إلـى جهة قبلي فوصل إلى منية ابن خصيب فأقام بها وأجتمع عليه أناس كثيرة من الذين شردهم علي بك ونفاهم في البلاد وبنى له أبنية ومتاريس وكان له معرفة وصداقـة مـع شيـخ العـرب همـام وأكابـر الهـوارة وأكثـر البلـاد الجارية في التزامه جهة قبلي‏.‏

وأجتمع عليـه الكثيـر منهـم وقدمـوا لـه التقـادم والذخيـرة وما يحتاج إليه ووصل المولى حفيد أفندي القاضي وكـان من العلماء الأفاضل ويعرف بطرون أفندي وكان مسنًا هرمًا فجلس على الكرسي بجامع المشهـد الحسينـي ليملـي درسًا فأجتمع عليه الفقهاء الأزهرية وخلطوا عليه وكان المتصدي لذلك الشيـخ أحمـد بـن يونـس والشيـخ عبـد الرحمن البراذعي فصار يقول لهم‏:‏ كلموني بآداب البحث أما قرأتـم آداب البحـث‏.‏

فـزادوا فـي المغالطـة فمـا وسعـه إلا القيـام فانصرفـوا عنـه وهـم يقولون عكسناه‏.‏

وفي شعبان من السنة المذكورة شرع القاضي المذكور في عمل فرح لختان ولده فأرسل إليه علي بك هدية حافلة وكذلك باقي الأمراء والاختيارية والتجار والعلماء حتى امتلأت حواصل المحكمـة بالـأرز والسمـن والعسـل والسكر وكذلك امتلأ المقعد بفروق البن ووسط الحوش بالحطب الرومي وأجتمع بالمحكمة أرباب الملاعيب والملاهي والبهلوانات وغيرهم وأستمر ذلك عدة أيام والنـاس تغـدو وتـروح للفرجـة‏.‏

وسعـب العلماء والأمراء والأعيان والتجار لدعوته‏.‏

وفي يوم الزفة أرسل إليه علي بك ركوبته وجميع اللوازم من الخيول والمماليك وشجر الدر والزرديات وكذلك طاقـم الباشـا من الأغوات والسعاة والجاويشية والنوبة التركية وأركبوا الغلام بالزفة إلى بيت علي بك فألبسه فروة سمور ورجع إلى المحكمة بالموكب وختن معه عدة غلمان وكان مهما مشهودًا وأتحـد هـذا القاضـي بالشيـخ الوالـد بالشيـخ الوالـد وتـرد كـل منهمـا على الآخر كثيرًا وحضر مرة في غيـر وقـت ولا موعـد في يوم شديد الحر فلما صعد إلى أعلى الدرج وكان كثيرًا فاستلقى من التعـب علـى ظهـره لهرمـه فلما تروح وأرتاح في نفسه قال له الشيخ‏:‏ يا أفندي لاي شيء تتعب نفسك أنا آتيك متى شئت‏.‏

فقال‏:‏ أنا أعرف قدرك وأنت تعرف قدري‏.‏

وكان نائبه من الأذكياء أيضًا‏.‏

ولما حضر حمزة باشا سنة 1179 المذكورة واليًا على مصر وطلع إلى القلعة عرضوا له أمر صالح بك وأنه قاطع الطريق ومانع وصول الغلال والميري وأخذوا فرمانا بالتجريد عليه وتقلد حسيـن بـك كشكـش حاكـم جرجـا وأمي رالتجريدة وشرعوا في التشهيل والخروج فسافر حسين بك كشكش وصحبته محمد أبو الذهب وحسن بك الأزبكاوي فالتطموا مع صالح بك لطمة صغيـرة ثـم توجـه وعـدى إلـى شـرق أولـاد يحيـى وكـان حسيـن بـك شبكـة مملـوك حسين بك كشكش نفـاه علـي بـك إلـى قبلـي فلمـا ذهـب صالـح بـك إلـى قبلـي أنضـم إليه وركب معه فلما توجه حسين بك بالتجريدة وعدى صالح بك شرق أولاد يحيى أنفصل عنه وحضر إلى سيده حسين بك وأنضم إليه كما كان ورجع محمد بك وحسن بك إلى مصر وتخلف حسين بك عن الحضور يريـد الذهـاب إلـى منصبـه بجرجـا وأقـام فـي المنيـة فأرسـل إليـه علـي بـك فرمانـا بنفيـه إلـى جهة عينها له فلم يمتثل لذلك وركب في مماليكه وأتباعه وأمرائه وحضر إلى مصر ليلًا فوجـد البـاب الموصـل لجهـة قناطـر السبـاع مغلوقـا فطرقـه فلـم يفتحوه فكسره ودخل وذهب إلى بيته وبقي الأمر بينهـم علـى المسالمة ايامًا فأراد علي بك أن يشغله بالسم بيد عبد الله الحكيم وقد كان طلب منه معجونًا للبـاءة فوضـع لـه السـم فـي المعجـون وأحضـره لـه فأمـره أن يأكـل منـه أولًا فتلكـأ وأعتذر فأمر بقتله‏.‏

وكان عبد الله الحكيم هذا نصرانيًا روميًا يلبس على رأسه قلبق سمور وكان وجيهًا جميل الصورة فصيحًا متكلمًا يعرف التركية والعربية والرومية والطليانية‏.‏

وعلم حسين بك أنها من عزيمة علي بك فتأكدت بينهما الوحشة وأضمر كل منهما لصاحبه السوء وتوافق علي بك مع جماعته على غدر حسين بك أو أخراجه فوافقوه ظاهرًا وأشتغل حسين بك على أخراج علي بك وعصب خشداشينه وغيرهم وركبوا عليه المدافع فكرنك في بيته وأنتظر حضور المتوافقين معه فلم يأته منهم أحد وتحقق نفاقهم عليه‏.‏

فعند ذلك أرسل إليهم يسألهـم عـن مرادهـم فحضـر إليه منهم من يأمره بالركوب والسفر فركب وأخرجوه منفيًا إلى الشام ومعـه مماليكـه وأتباعه وذلك في أواخر شهر رمضان سنة 1179 وأقام بالعادلية ثلاثة أيام حتى عملـوا حسابـه وحسـاب أتباعـه وهـم محيطون بهم من كل جهة بالعسكر والمدافع حتى فرغوا من الحسـاب وأستخلصـوا مـا بقـي علـى طرفهـم ثـم سافـروا إلـى جهة غزة وكانت العادة فيمن ينفى من أمـراء مصـر انـه إذا خـرج إلـى خارج فعلوا معه ذلك ولا يذهب حتى يوفي جميع ما يتأخر بذمته مـن ميري وخلافه وأن لم يكن معه ما يوفي ذلك باع أساس داره ومتاعه وخيوله ولا يذهب إلا خالص الذمة‏.‏

وسافر صحبة علي بك أمراؤه وهم محمد بك وأيوب بك ورضوان بك وذو الفقار بك وعبد الله أغا الوالي وأحمد جاويش وقيطاس كتخدا وباقي أتباعه‏.‏

وأستقر خليل بك كبير البلد مع قسيمه حسين بك كشكش وباقي جماعته وحسن بك جوجو وعزلوا عبد الرحمن الرحمن أغا وقلدوا قاسم أغا الوالي أغات مستحفظان وورد الخبر من الجهة القبلية بأن صالـح بـك رجـع مـن شـرق أولـاد يحيى إلى المنية وأستقر فيها وحصنها‏.‏

فعند ذلك شرعوا في تشهيل تجريـدة وبـرزوا إلـى جهـة البساتيـن‏.‏

وفـي تلـك الأيـام رجـع علـي بـك ومـن معـه علـى حيـن غفلـة ودخل إلى مصر فنزل ببيت حسين بك كشكش ومحمد بك نزل عند عثمان بك الجرجاوي وأيوب بك دخل منزل إبراهيم أغا الساعي فأجتمع الأمراء بالآثار وعملوا مشوره في ذلك‏.‏

فاقتضى الرأي بأن يرسلوه إلى جدة فأجتمع الرأي بأن يعطوه النوسات ويذهب إليها فرضي بذلـك وذهـب إلـى النوسـات وأقـام بهـا وأرسلـوا محمـد بـك وأيـوب بـك وضـوان بـك إلى قبلي بناحية أسيـوط وجهاتها وكان هناك خليل بك الأسيوطي فانضموا إليه وصادقوه وسفروا التجريدة إلى صالـح بـك فهزمـت فأرسلـوا لـه تجريـدة أخـرى وأميرهـا حسـن بـك جوجو وكان منافقا فلم يقع بينهم إلا بعض مناوشات ورجعوا أيضًا كأنهم مهزومون وأرسلوا له ثالث ركبة فكانت الحرب بينهم سجالًا ورجعوا كذلك بعد أن اصطلحوا مع صالح بك أن يذهب إلى جرجا ويأخذ ما يكفيه هو ومن معه ويمكث بها ويقوم بدفع المال والغلال‏.‏

وكان ذلك في شهر جمادى الأولى سنة 180 وفـي ثانـي شعبـان منهـا اتهمـوا حسـن بـك الأزبكـاوي أنـه يراسـل علـي بك وعلي بك يراسله فقتلوه في ذلك اليوم بقصر العيني ورسموا بنفي خشداشينه وهم حسن بك أبو كرش ومحمد بك الماوردي وسليمان أغا كتخدا الجاويشية سيد الثلاثة وهو زوج أم عبد الرحمن كتخدا وكان مقيمًا بمصر القديمة وقد صار مسنًا فسفروهم إلى جهة بحري ةتخيلوا من أقامـة علـي بـك بالنوسات فأرسلوا له خليل بك السكران فأخذه وذهب به إلى السويس ليسافر إلى جدة من القلزم وأحضر له المركب لينزل فيها‏.‏

وفي ثاني شهر شوال من السنة ركب الأمراء إلى قراميدان ليهنئوا الباشا بالعيد وكان معتاد الرسـوم القديمة أن كبار الأمراء يركبون بعد الفجر من يوم العيد كذلك أرباب العكاكيز فيطلعون إلـى القلعـة ويمشـون إمـام الباشـا مـن بـاب السراية إلى جامع الناصر بن قلاوون فيصلون صلاة العيد ويرجعون كذلك ثم يقبلون أتكه ويهنئونه وينزلون إلى بيوتهم فيهنئ بعضهم بعضًا على رسمهم وأصطلاحهم وينزل الباشا في ثاني يوم إلى الكشك بقراميدان وقد هيئت مجالسـه بالفـرش والمساند والستائر واستعد فراشو الباشا بالتطلي والقهوة والشربات والقماقم والمباخر ورتبـوا جميع الأحتياجات واللوازم من الليل وأصطف الخدم والجاويشيـة والسعـاة والملازمـون وجلـس الباشـا بذلـك الكشك وحضرت أرباب العكاكيز والخدم قبل كل أحد ثم يأتي الدفتر دار وأمير الحـاج والأمـراء الصناجـق والاختياريـة وكتخـدا الينكجريـة والعـزب أصحاب الوقت والمقادم والأوده باشية واليمقات والجربجية فيهنئون الباشا ويعيدون عليه وعلى قدر مراتبهم بالقانون والترتيب ثم ينصرفون‏.‏

فلما حضروا في ذلك اليوم المذكور وهنأ الأمراء الصناجـق الباشـا وخرجـوا إلـى دهليـز القصـر يريـدون النـزول وقـف لهم جماعة وسحبوا السلام عليهم وضربوا عليهم بنـادق فأصيـب عثمـان بـك الجرجـاوي بسيف في وجهه وحسين بك كشكش أصيب برصاصة نفذت من شقه وسحب الآخرون سلاحهم وسيوفهم وأحتاط بهم مماليكهم نط أكثرهم من حائـط البستـان ونفـذوا مـن الجهـة الأخرى وركبوا خيولهم وهم لا يصدقون بالنجاة‏.‏

و انجرح أيضًا اسمعيل بك أبـو مدفـع ومحمـود بـك وقاسـم أغـا ولكـن لـم يمـت منهـم إلا عثمـان بـك‏.‏

وباتـوا علـى ذلـك فلما أصبحوا اجتمعـوا وطلعـوا إلـى الأبـواب وأرسلـوا إلـى الباشـا يأمرونـه بالنـزول فنـزل إلـى بيـت أحمـد بـك كشـك بقوصـون وعنـد نزولـه ومـروره ببـاب العـزب وقـف لـه حسين بك كشكش وأسمعه كلامًا قبيحًا ثم أنهم جعلوا عوضا خليل بك بلغيه قائمقام وقلدوا عبد الرحمن أغا مملوك عثمان بك صنجقًا عوضًا عن سيده ونسبت هذه النكتة إلى حمزة باشا وقيل أنها من علي بك الذي بالنوسـات ومراسلاته إلى حسن بك جوجو فبيت مع أنفار من الجلفية وأخفاهم عنده مدة أيام وتواعدوا على ذلك اليوم وذهبوا إلى الكشك بقراميدان وكانوا نحو الأربعين فاختلفوا واتفقوا علـى ثاني يوم بدهليز بيت القاضي وتفرقوا إلا أربعة منهم ثبتوا على ذلك الأتفاق وفعلوا هذه الفعلـة وبطل أمر العيد من قراميدان من ذلك اليوم‏.‏

وتهدم القصر وخرب وكذلك الجنينة ماتت أشجارهـا وذهبـت نضارتهـا لمـا حصلـت هـذه الحادثـة أرسلوا حمزة بك إلى علي بك فوجده في المركب بالغاطس ينتظر أعتدال الريح للسفر فرده إلى البر وأركبه بمماليكه وأتباعه ورجع إلى جهـة مصـر ومـر مـن الجبـل وذهب إلى جهة شرق اطفيح ثم إلى أسيوط بقبلي ورجع حمزة بك إلـى مصـر‏.‏

ثـم أن علـي بـك أجتمـع عليه المنفيون وهوارة وخلافهم وأراد الأنضمام إلى صالح بك فنفر منه فلم يزل يخادعه وكان علي كتخدا الخربطلي هناك منفيًا من قبله وجعله سفيرًا فيما بينـه وبيـن صالـح بـك هـو وخليـل بـك الأسيوطـي وعثمـان كتخـدا الصابونجـي فأرسلهـم فلم يزالوا به حتى جنح لقولهم‏.‏

فعند ذلك أرسل إليه محمد بك أبو الذهب فلم يزل به حتى أنخدع له وأجتمـع عليـه بكفالـة شيـخ العرب همام وتحالفا وتعاقدا وتعاهدا على الكتاب والسيف‏.‏

وكتبوا بذلـك حجـة وأتفـق مع علي بك أنه إذا تم لهم الأمر أعطى لصالح بك جهة قبلي قيد حياته‏.‏

وأتفقـوا علـى ذلـك بالمواثيـق الأكيـدة وأرسلـوا بذلـك إلـى شيـخ العـرب همام فانسر بذلك ورضي به مراعاة لصالح بك وأمدهم عند ذلك همام بالعطايا والمال والرجال وأجتمع عليهـم المتفرقـون والمشـردون مـن الغـز والأجنـاد والهوارة والشجعان ولموا جموعا كثيرة وحضروا إلى المنية وكان بها خليل بك السكران‏.‏

فلما بلغه قدومهم أرتحل منها وحضر إلى مصر هاربًا وأستقر علي بك وصالح بك وجماعتهم بالمنية وبنوا حولها أسوارا وأبراجا وركبوا عليها المدافع وقطعوا الطريق علـى المسافريـن المبحريـن والمقبليـن‏.‏

وأرسـل علـي بـك إلـى ذي الفقار بك وكان بالمنصورة وصحبته جماعة كشاف فارتحلوا ليلًا وذهبوا إلى المنية فعمل الأمراء جمعية وعزموا على تشهيل تجريدة وتكلمـوا وتشـاوروا فـي ذلك فتكلم الشيخ الحفناوي في ذلك المجلس وأفحمهم بالكلام ومانع في ذلـك وحلـف أنـه لا يسافـر أحد بتجريدة مطلقًا وإن فعلوا ذلك لا يحصل لهم خير أبدًا فقالوا‏:‏ إنه هـو الذي يحرك الشر ويريد الانفراد بنفسه ومماليكه وأن لم نذهب إليه أتى هو إلينا وفعل مراده فينا فقال لهم الشيخ‏:‏ أنا أرسل إليه مكاتبة فلا تتحركوا بشيء حتى يأتي رد الجواب‏.‏

فلم يسعهـم إلا الإمتثـال فكتـب لـه الشيـخ مكتوبًا ووبخه فيه وزجره ونصحه ووعظه وأرسلوه إليه فلم يلبـث الشيـخ بعـد هـذا المجلـس إلا أيامـًا ومـرض ورمـى بالـدم وتوفـي إلـى رحمـة اللـه تعالـى‏.‏

فيقـال أنهـم

ولاية محمد باشا راقم

وفـي أثنـاء ذلك ورد الخبر بوصول محمد باشا راقم إلى سكندرية فأرسلوا له الملاقار وحضر إلى مصر وطلع إلى القلعة في غرة ربيع الثاني سنة 1181‏.‏

وفي حادي عشر جمادى الأولى أجتمعوا بالديوان وقلدوا حسن بك رضوان دفتر دار مصر‏.‏

وفي خامس عشرة قلدوا خليل بك بلعيه أمير الحاج وقاسم إغا صنجقًا وكتبوا فرمانا بطلوع التجريدة إلـى قبلـي ولبـس صـاري عسكرهـا حسيـن بيـك كشكـش وشرعـوا فـي التشهيـل وأضطرهـم الحـال إلـى مصـادرة التجـار وأحضر خليل بيك النواخيد وهم منلا مصطفى وأحمد أغا الملطيلي وقرأ إبراهيم وكاتب البهار وطلب منهم مال البهار معجلًا فاعتذروا فصرخ عليهم وسبهم فخرجـوا مـن بيـن يديـه وأخـذوا فـي تشهيـل المطلـوب وجمـع المـال مـن التجـار وبـرز حسيـن بيك خيامه للسفر في منتصف جمادى الأولى وخرج صحبته ستة من الصناجق وهم حسن بيك جوجو وخليل بيك السكران وحسن بيك شبكة واسمعيل بيك أبو مدفع وحمزة بيك وقاسم بيك وأسرعوا في الارتحال‏.‏

وفـي عشرينـه أخـرج خلفهـم أيضـًا خليـل بـك تجريدة أخرى وفيها ثلاثة صناجق ووجاقلية وعسكر مغاربـة وسافـروا أيضـًا في يومها وبعد ثلاثة أيام ورد الخبر وقوع الحرب بينهم ببياضة تجاه بني سويـف فكانـت الهزيمـة علـى حسيـن بـك ومـن معـه وقتـل علـي أغـا الميجـي وخلافه‏.‏

وقتل من ذلك الطـرف ذو الفقـار بـك ورجـع المهزومـون فـي ذلـك ثانـي يـوم الأحـد طلعـوا إلـى أبـواب القلعـة وطلبـوا من الباشـا فرمانـا بالتجريـدة علـى الكثـرة وهـو يـوم السبـت رابـع عشرينـه وهـم في اسأ حال‏.‏

وأصبحوا يـوم علي بك وصالح بك ومن معهم وطلبوا مائتي كيس من الميري يصرفوها في اللوازم فامتنع الباشـا مـن ذلـك وحضـر الخبر يوم الاثنين بوصول القادمين إلى غمازة وكان الوجاقلية وحسن بك جوجو ناصبين خيامهم جهة البساتين فارتحلوا ليلًا وهربوا وتخبل عقل خليل بك وحسين بك ومـن معهمـا وتحيـروا فـي أمرهم وتحققوا الأدبار والزوال وأرسل الباشا إلى الوجاقلية يقول لهم كل وجاق يلازم بابه‏.‏

وفي سابـع عشرينـه حضـر علـي بـك وصالـح بـك ومـن معهـم إلـى البساتيـن فـازداد تحيرهـم وطلعـوا إلـى الأبواب فوجدوها مغلوقة فرجعوا إلى قراميدان وجلسوا هناك ثم رجعوا وتسحب تلك الليلة كثير من الأمراء والأجناد وخرجوا إلى جهة علي بك وكان حسن بك المعروف بجوجو ينافق الطرفين ويراسل علي بك وصالح بك سرًا ويكاتبهما وضم إليه بعض الأمراء مثل قاسم بك خشداشـه واسمعيـل بـك زوج هانـم بنـت سيدهـم وعلـي بـك السروجـي وجن علي وهو خشداش إبراهيم بك بلغية وكثير مـن أعيـان الوجاقليـة ويرسلـون لهـم الـأوراق فـي داخـل الأقصـاب التـي يشربـون فيها الدخان ونحو ذلك‏.‏

وفي ليلة الخميس تاسع عشرين جمادى الأولى هرب الأمراء الذين بمصر وهم خليل بك شيخ البلد وأتباعه وحسين بك كشكـش وأتباعـه وهـم نحـو عشـرة صناجـق وصحبتهـم مماليكهـم وأجنادهـم عـدة كثيـرة وأصبـح يـوم الخميـس فخـرج الأعيـان وغيرهـم لملاقـاة القادميـن ودخل في ذلك اليوم علي بك وصالح بك وصناجقهم ومماليكهم وأتباعهم وجميع من كان منفيًا بالصعيد قبل ذلـك مـن أمـراء ووجاقليـة وغيرهم وحضر صحبتهم علي كتخدا الخربطلي وخليل بك السيوطي وقلده علي بك الصنجقية مجددًا وضربت النوبة في بيته ثم أعطاه كشوفية الشرقية وسافر إليها‏.‏

وفـي يـوم الأحـد ثانـي شهـر جمـادى الثانيـة طلـع علـي بـك وصالح بك وباقي الأمراء القادمين والذين تخلفوا عن الذاهبين مثل حسن بك جوجو واسمعيل بك زوج هانم وجـن علـي وعلـي بـك السروجـي وقاسـم بـك والاختياريـة والوجاقليـة وغيرهـم إلـى الديـوان بالقلعة فخلع الباشا على علي بـك وأستقر في مشيخة البلد كما كان وخلع علي صناجقه خلع الأستمرار أيضًا في أماراتهم كمـا كانوا ونزلوا إلى بيوتهم وثبت قدم علي بك في إمارة مصر ورئاستها في هذه المرة وظهر بعد ذلك الظهور التام وملك الديار المصرية والأقطار الحجازية والبلاد الشامية وقتل المتمردين وقطـع المعانديـن وشتـت شمـل المنافقيـن وخـرق القواعد وخرم العوائد وأحزب البيوت القديمة وأبطل الطرائق التي كانت مستقيمة ثم أنه حضر سليمان أغا كتخدا الجاويشية وصناجقه إلى مصر وعزم على نفي بعض الأعيان وأخراجهم من مصر فعلم أنه لا يتمكن من أغراضه مع وجود حسن بك جوجو وأنم ما دام حيًا لا يصفو له الحال فأخذ يدبر على قتله فبيت مع أتباعهم علـى قتلـه فحضـر حسـن بـك جوجـو وعلـي بـك جن علي عند علي بك وجلسوا معه حصة من الليل وقام ليذهب إلى بيته فركب وركب معه جن علي ومحمد بك أبو الذهب وأيوب بك ليذهبـا أيضـًا إلـى بيوتهمـا لأتحـاد الطريـق فلما صاروا في الطريق التي عند بيت الشابوري خلف جامع قوصون سحبوا سيوفهم وضربوا حسن بك وقتلوه وقتلوا معه أيضا جن علي ورجعوا وأخبروا سيدهم علي بك وذلك ليلة الثلاثاء ثامن شهر رجب من سنة 1181 وأصبح علي بك مالكـًا للأبـواب ورسـم بنفـي قاسـم بـك واسمعيـل بـك أبـي مدفـع وعبـد الرحمـن بـك واسمعيـل بـك كتخدا عزبان ومحمد كتخدا زنـور ومصطفـى جاويـش تابـع مصطفـى جاويـش الكبيـر مملـوك إبراهيم كتخدا وخليل جاويش درب الحجر‏.‏

وفي حادي عشر شهر شوال أخرج أيضًا نحو الثلاثين شخصًا من الأعيان ونفاهم في البلاد وفيهم ثمانية عشر أميرا من جماعة الفلاح وفيهم علي كتخدا وأحمد كتخدا الفلاح وإبراهيم كتخدا مناو وسليمان أغا كتخدا جاووشان الكبير وصناجقه حسن بك أبو كرش ومحمد بك الماوردي وخلافهم مقادم وأوده باشية فنفى الجميع إلى جهة قبلي وأرسل سليمان أغا كتخدا الجاويشية إلى السويس ليذهب إلى الحجاز من القلزم وأستمر هناك إلى أن مات‏.‏

وفيـه قبـض علـي بـك علـى الشيـخ يوسـف بـن وحيش وضربه علقة قوية ونفاه إلى بلده جناج فلم يـزل بهـا إلى أن مات‏.‏

وكان من دهاة العالم وكان كاتبًا عند عبد الرحمن كتخدا القازدغلي وله شهرة وسمعة في السعي وقضاء الدعاوى والشكاوى والتحيلات والمداهنات والتلبيسات وغير ذلك‏.‏

فـي شهـر الحجـة وصلـت أخبـار عـن حسيـن بـك كشكـش وخليـل بـك أنهـم لمـا وصلـوا إلـى غـزة جمعـوا جموعـًا وأنهـم قادمـون إلـى مصـر فشرع علي بك في تشهيل تجريدة عظيمة وبرزوا وسافروا‏.‏

ثم ورد الخبر بعد ثلاثة أيام أنهم عرجوا إلى جهة دمياط ونهبوا منها شيئًا كثيرًا ثم حضروا إلى المنصورة ونهبوا منها كذلك فأرسل علي بك يأمر التجريدة بالذهاب إليهم وأرسل لهم أيضًا عسكرًا من البحر فتلاقوا معهم عند الديزس والجراح من أعمال المنصورة عند سمنود فوقع بينهـم وقعـة عظيمـة وانهزمـت التجريـدة وولـوا راجعيـن‏.‏

وقتـل فـي هـذه المعركـة سليمـان جربجـي باش اختيار جمليان وأحمد جربجي طنان جراكسه وعمر إغا جاووشان أمين الشون وكانوا صدور الوجاقـات ولـم يزالـوا فـي هزيمتهـم إلـى دجـوة‏.‏

فلمـا وصـل الخبـر بذلـك إلـى علـي بـك أهتـم لذلـك ونـزل الباشا وخرج إلى قبة باب النصر خارج القاهرة وجمع الوجاقلية والعلماء وأرباب السجاجيد وأمـر الباشـا بـأن كـل مـن كـان وجاقيـًا أو عليـه عتامنـة يشهل نفسه ويطلع إلى التجريدة أو يخرج عنه بـدلًا وأجتهـد علـي بـك فـي تشهيـل تجريـدة عظيمة أخرى وكبيرها محمد بك أبو الذهب وسافروا فـي أوائـل المحـرم واجتمعـوا بالتجريـدة الأولـى وسـار الجميـع خلـف حسين بك وخليل بك ومن معهم وكانـوا عـدوا إلـى بـر الغربية بعد أن هزموا التجريدة فلو قدر الله أنهم لما كسروا التجريدة ساقوا خلفهـم كمـا فعـل علـي بـك وصالـح بـك لدخلـوا إلـى مصـر من غير مانع ولكن لم يرد الله تعالى لهم ذلك‏.‏

وانقضت هذه السنين وما وقع بها‏.‏

من مات في هذه الأعوام من أكابر العلماء وأعاظم الأمراء مات الشيخ الإمام الفقيه المحدث الشريف السيـد محمـد بـن محمـد البليـدي المالكـي الأشعـري الأندلسي حضر دروس الشيخ شمس الدين محمد بن قاسم البقري المقري الشافعي في سنة 110 ثـم على أشياخ الوقت كالشيخ العزيزي والملوي والنفراوي وتمهر ثم لازم الفقه والحديث بالمشهد الحسيني فراج أمره وأشتهر ذكره وعظمت حلقته وحسن اعتقاد الناس فيه وانكبوا على تقبيل يده وزيارته وخصوصا تجار المغاربة لعلة الجنسية فهادوه وواسوه واشتروا له بيتـا بالعطفـة المعروفـة بـدرب الشيشينـي وفسطـوا ثمنـه علـى أنفسهـم ودفعـوه مـن مالهـم‏.‏

فلـم يـزل مقبـلًا علـى شانه ملازما على طريقته مواظبًا على أملاء الحديث كصحيح البخاري ومسلم والموطـأ والشفـاء والشمائل حتى توفي ليلة التاسع والعشرين من رمضان سنة ست وسبعين ومائة وألف‏.‏

ومات الأستاذ المعظم ذو المناقب العلية والشجايا المرضية بقية السلف السيد مجد الدين محمد أبـو هـادي بـن وفـي ولـد سنـة 1151 ومـات والـده وهـو طفل فنشأ يتيمًا وخلف عمه في المشيخة والتكلم وأقبل على العلم والمطالعة والأذكار والأوراد وولى نقابة الأشراف بمصر في الأثناء فسـاس فيهـا أحسـن سياسـة وجمـع لـه بيـن طرفـي الرياسـة وكان أبيض وسيمًا ذا مهابة لا يهاب في الله أمارا بالمعروف فاعلًا للخير توفي يوم الخميس خامس ربيع الـأول سنـة 1176 وصلـي عليه بالأزهر في مشهد عظيم حضره الأكابر والأصاغر وحمل على الأعناق ودفن بزاويتهم بالقرب من عمه رضي الله عنه وتخلف بعده السيد شهاب الدين أحمد أبو الأمداد‏.‏

ومات أيضًا في هذا الشهر والسنة الصدر الأعظم المغفور له محمد باشا المعروف براغب وكان معدودا من أفاضل العلماء وأكابر الحكماء جامعًا للرياستين حويا للفضيلتين وله تأليف وأبحاث في المعقول والمنقول والفروع والأصول وهو الذي حضر إلى مصر واليًا في سنة 1159 ووقع له ما وقع مع الخشاب والدمايطة كما تقدم ورجع إلى الديار الرومية وتولى الصدارة ثم توفي إلى رحمة الله تعالى في رابع عشرين شهر رمضان سنة 1176‏.‏

ومات الشيخ المجذوب علي الهواري كان من أرباب الأحوال الصادقيـن والأوليـاء المستغرقيـن وأصلـه مـن الصعيـد‏.‏

وكان يركب الخيول ويروضها ويجيد ركوبها ولذلك لقب بالهواري‏.‏

ثم أقلع من ذلك وأنجذب مرة واحدة وكان للناس فيه اعتقاد حسن وحكى عنه الكشف غير واحد ويـدور فـي الأسـواق والنـاس يتبركـون بـه‏.‏

مـات شهيـدا بالرميلـة أصابتـه رصاصـة مـن يد رومي فلتة في سنة 1176 وصلوا عليه بالأزهر وأزدحم الناس على جنازته رحمه الله‏.‏

ومات الشيخ المسند بن أحمد بن عقيل الحسيني المكي الشافعي الشهير بأسقاف ابن أخت حافـظ الحجاز عبد الله سالم البصري وأسقاف لقب جده الأكبر عبد الرحمن من آل باعلوي‏.‏

ولد بمكة سنة 1102 وروى عن خالد المذكور وعن الشيخين العجمي والنخلي والشيخ تاج الديـن المفتـي وسيـن بـن عبـد الرحمـن الخطيـب ومحمـد عقبلـة وإدريـس بـن أحمـد اليماني والشيخ عيد وعبد الوهاب الطنتدائي ومصطفى ابن فتح الله الحنفي وسمع الأولية عاليا عن الشهاب أحمد البناء بعناية خاله سنة 1110 ومهر وأنجب واشتهر صيته وسمع منه كبار الشيوخ وأجازهم كالشيخ الوالد والشيخ أحمد الجوهري وعندي إجازته للوالد بخطه وكذلك أجاز عبد الله بن سالم البصري والشيخ محمد عقيلة ومحمد السندي وذلك بمكة سنة 1157 وبه تخرج شيخنا السيد محمد مرتضى في غالب مروياته وسمعت منه أنه أجتمع به بالمدينة المنورة عند باب الرحمة أحد أبـواب الحـرم الشريـف وسمـع منـه وأجـازه إجـازة عامـة وذلـك فـي سنـة 1163 ولازمه بمكة سنة 1164 وسمع منه أوائل الكتب الستة وأباح له كتب خاله يراجع فيها ما يحتـاج إليـه وسمـع مـن لفظـه المسلسـل بالعيـد بالحـرم المكي في صحبة سلالة الصالحين الشيخ عبد الرحمن المشرع وأجازهما توفي في سنة 1174‏.‏

ومـات العمـدة العلامـة المفـوه النبيـه الفقيـه الشيـخ محمـد العـدوي الحنفـي تفقه على كل من الأسقاطـي والسيـد علـي الضريـر والشيخ الزيادي وغيرهم‏.‏

وضر في المعقول على أشياخ الوقف كالملوي والعماوي وتصدر للإفادة والإقراء وكان ذا شكيمة وشجاعة نفس وقوة جنان ومكارم أخلاق‏.‏

توفي في ثالث الحجة سنة 1175‏.‏

ومات الإمام العلامة الفقيه المتقن الشيخ محمد بن عبد الوهاب الدلجي الحنفي وهو ابن خال الوالد أشتغل بالعلوم والفقه على أشياخ الوقت ودرس وأفتى وأقتنى كتبـًا نفيسـة فـي الفقـه وجميعها بخط حسن وقابلها وصححها وكتب عليها بخطه الحسن وكانت جميع كتبه الفقهيـة وغيرهـا فـي غاية الجودة والصحة يضرب بها المثل ويعتمد عليها إلى الآن‏.‏

وكان ملازمًا للإفادة والإفتـاء والتدريـس والنفـع علـى حالـة حسنـة ودماثـة أخلـاق وحسـن عشـرة ولم يزل حتى توفي في شهر رجب سنة 1177‏.‏

ومات الفقيه الصالح الخير الدين حسن بن سلامة الطيبي المالكي نزيل ثغر رشيد تفقه على شيخـه محمـد بـن عبـد اللـه الزهيـري وبـه تخـرج وأجـازه محمـد بـن عثمـان الصافي البرلسي في طريقة البراهمـة وسيـدي أحمـد ابـن قاسـم البوتـي حين ورد ثغر رشيد في الحديث ودرس بجامع زغلول وأغتى ودرسه أكبر الدروس وكان لديه فوائد كثيرة‏.‏

توفي سنة 1176‏.‏

ومـات المغتـي الفاضـل النبيـه زيـن الديـن أبـو المعالـي حسـن بـن علـي بـن علـي ابن منصور بن عامر بن ذئـاب شمـة الفـوي الأصـل المكـي ينتهـي نسبـه إلـى الولـي الكامـل سيـدي محمد بن زين النحراوي ومن أمـه إلى سيدي إبراهيم البسيوني ولد بمكة سنة 1142 بها نشأ وأخذ العلم عن الشيخ عطاء بـن أحمـد المصـري والشيـخ أحمـد الأشبولي وغيرهما من الواردين بالحرمين وأتى إلى مصر فحضر دروس الشيخ الحفني وله أنتسب وأجازه في الطريقـة البرهاميـة بلديـة الشيـخ منصـور هديـة وألـف وأجـاد وكـان فصيحـًا بليغـًا ذكيًا حاد الذهن جيد القريحة له سعة اطلاع في العلوم الغريبة وظـم رائـق مـع سرعـة الأرتجـال وقـد جمـع كلامـه فـي ديـران هـو علـى فضلـه عنـوان وسكـن فـي الأخر بولاق بها توفي ليلة الجمعة رابع عشرين رمضان سنة 1146‏.‏

ومات الشيخ الإمام الفقيه المحدث المحقق الشيخ خليل بن محمد المغربي الأصل المالكي المصري أتى والده من المغرب فتدير مصر وولد المترجم بها نشأ على عفة وصلاح وأقبل على تحصيل المعارف والعلوم فأدرك منها المروم وحضر دروس الشيخ الملوي والسيد البليدي وغيرهما من فضلاء الوقت إلى أن استكمل هلال معارفه وأبدر وفاق أقرانه في التحقيقات واشتهر وكان حسن الإلقاء للعلوم حسن التقرير والتحرير حاد القريحة جيد الذهن إماما في المعقولات وحلالا للمشكلات وولي خزانة كتب المؤيد مدة فأصلح ما فسد منها ورم ما تشعث وأنتفع به جماعة كثيرون من أهل عصرنا وله مؤلفات منها شرح المقولات العشر‏.‏

توفي يـوم الخميـس خامـس عشرين المحرم سنة 1177 بالري وهو منصرف من الحج‏.‏

ومات السيد الأديب الشاعر المفنن عمر بن علي الفتوشي التونسي ويعرف بابن الوكيل ورد مصـر فـي سنـة أربـع وخمسيـن فسمـع الصحيـح علـى الشيـخ الحفنـي وأجـازه في ثاني المحرم منها ثم توجـه إلـى الإسكندريـة وتديرهـا مـدة ثـم ورد فـي أثنـاء أربـع وسبعيـن وكـان ينشـد كثيرًا من المقاطع لنفسه ولغيره وألف رسالة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم خرج صيغها بالدور الأعلـى للشيـخ الأكبـر وتولـى ينابة القضاء بالكاملية وكان إنسانًا حسنًا لطيف المحاورة كثير التودد والمراعاة بشوش الملتقى مقبلًا على شأنه توفي في ثاني ذي الحجة 1175‏.‏

ومات الأستاذ الذاكر الشيخ محفوظ الفوي تلميذ سيدي محمد ابن يوسف من ورم في رجليه في غرة جمادى الثانية سنة 1178‏.‏

ودفن يومه قريبًا من مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها‏.‏

ومات العالم الفقيه المحدث الأصولي الشيخ محمد بن يوسف بن عيسـى الدنجيهـي الشافعـي بدمياط في سادس شعبان سنة 1178‏.‏

ومـات الجنـاب المكـرم الصالح المنفصل عن مشيخة الحرم النبوي عبد الرحمن آغا في ثامن شوال سنة 1179 ودفن بجوار المشهد النفيسي‏.‏

ومـات الجنـاب المكـرم محـب الفقـراء والمساكيـن الأميـر إبراهيـم أوده باشـه غالم فجأة في ثامن جمادى الأولى سنة 1177 ودفن بمقبرتهم عند السادة المالكية‏.‏

ومات أيضًا العمدة الشيخ عبد الفتاح المرحومي بالأزبكية في تاسع شوال سنة 1178‏.‏

ومات الأجل المكرم الحاج حسن فخر الدين النابلسي عن سن عالية وكان من أرباب الأموال رابع عشرين جمادى الأولى سنة 1178‏.‏

ومـات الأميـر الأجـل المحتـرم صاحـب الخيـرات والمحبـب إلـى الصالحات علي بن عبد الله مولى بشير آغا دار السعادة ولي وكالة دار السعادة فباشر فيها بحشمة وافرة وشهامة باهرة‏.‏

وكان منزله مورد الوافدين من الآفاق مظهر التجليات الأشراق مع ميله إلى الفنون الغريبة وكماله في البدائع العجيبة من حسن الخط وجودة الرمي وأتقان الفروسية‏.‏

ومدحته الشعراء وأحبته العلماء وألقت إليه الرياسة قيادها فأصلح ما وهن من أركانها وأزال فسادها ولقد عزل عن منصبه ولم يأفل بدر كماله وأستمر ناموس حشمته باقيًا على حاله وأقتنـى كتبـًا نفيسـة وكـان سموحـًا باعإرتهـا وكـان عنـده مـن جملتها البرهان القاطع للتبريزي في اللغة الفارسية على ثيئة القاموس وسفينة الراغب وهي مجموعة جامعة للفوائد الغربية ومنها كشف الظنون في أسمـاء الكتـب والفنـون لمصطفـى خليفـة وهـو كتـاب عجيـب‏.‏

توفـي يـوم الاثنيـن ثامـن عشـر شهـر صفـر سنة 1176 وصلى عليه بسبيل المؤمن ودفن بالقرافة بالقرب من الإمام الشافعي ولم يخلف بعده مثله في المروءة والكرم رحمه الله تعالى وقد رثاه الشعراء بمراث كثيرة‏.‏

ومـات الإمـام العالـم والمدقق الفهامة الشيخ يوسف شقيق الأستاذ شمس الدين الحفني أخذ العلم عن مشايخ عصره مشاركا لأخيه وتلقى عن أخيه ولازمه ودرس وأفاد وأفتى وألف ونظـم الشعر الفائق الرائق وله ديوان شعر مشهور فكتب حاشية عظيمة على الأشموني هي مشهورة يتنافس فيها الفضلاء وحاشية علـى مختصـر السعـد وحاشيـة علـى شـرح الخزرجيـة لشيـخ الإسلام وحاشية على جمع الجوامع لم تكمل وحاشية على الناصر وابن قاسم وشرح شرح الأزهريـة لمؤلفهـا وشـرح علـى شـرح السعـد لعقائـد النسفي وحاشية الخيالي عليه‏.‏

توفي في شهر سفر سنة 1178‏.‏

ومـات الإمام الفصيح المفرد الأديب الماهر الناظم الناثر الشيخ علي ابن الخبر بن علي المرحومي الشافعي خطيب جامع الحبشلي وفي ليلة الجمعة سادس ذي القعدة سنة 1178‏.‏

ومـات الإمـام العلامـة السيـد إبراهيـم بـن محمـد أبـي السعود بن علي بن علي الحسيني الحنفي ولد بمصـر وقـرأ الكثيـر علـى والـده وبـه تخـرج فـي الفنـون ومهـر فـي الفقه وأنجب وغاص في معرفة فروع المذهـب وكانـت فتاويـه في حياة والده مسددة معروفة ويده الطولى في حل لا أشكالات العقيمة مذكورة موصوفة رحل في صحبة والده إلى المنصورة فمدحهما القاضي عبد الله بن مرعي المكـي وأثنـى عليهمـا بمـا هـو مثبـت فـي ترجمتـه ولـو عـاش المترجـم لتـم به جمال المذهب‏.‏

توفي يوم الأحد سابع عشر جمادى الآخرة سنة 1179‏.‏

ومـات الفقيـه الزاهـد الـورع العالـم المسلـك الشيـخ محمـد بـن عيسـى ابـن يوسف الدمياطي الشافعي أخذ المعقول عن السيد على الضرير والشيخ العزيزي والشيخ إبراهيم الفيومي والفقه أيضًا عنهما وعن الشيخ العياشي والشيخ الملوي والحفني وطبقتهم وأجتمع بالسيد مصطفى البكري وأخذ عنه الطريقة الخلوتية ولقنه الأسماء بشروطها وألف حاشية على المنهج ونسبها لشيخه السيد مصطفى العزيزي وله حاشية على سلم الأخضري في المنطق وحاشية علي السنوسيـة وغير ذلك‏.‏

توفي في ثامن رمضان سنة 1178 وكانت جنازته حافلة وصلى عليه بالأزهـر ودفـن ببستـان المجاوريـن وبنـوا علـى قبـره سقيفـة يجتمـع تحتهـا تلامذته في صبح يوم الجمعة يقرأون عنده القرآن ويذكرون وأستمروا على ذلك مدة سنين‏.‏

ومات الإمام العلامة الناسك الشيخ أحمد بن محمد السحيمي الشافعي نزيل قلعة الجبل حضر دروس الأشياخ ولازم الشيخ عيسى البراوي وبه أنتفع وتصدر للتدريس بجامع سيدي سارية وأحيا الله به تلك البقعة وأنتفع به النسا جيلا بعد جيل وعمر بالقرب من منزله زاوية وحفر ساقية بذل عليها بعض الأمراء بأشارته مالا حفيلا فنبع الماء وعد ذلك من كراماته فأنهم كانـوا قبـل ذلـك يتعبـون مـن قلة الماء كثيرًا وشغل الناس بالذكر والعلم والمراقبة وصنف التصانيف المفيـدة فـي علـم التوحيـد على الجوهرة وجعله متنا وشرحه مزجًا وهي غاية في بابها وله حال مع الله وتؤثر عنه كرامات أعتنى بعض أصحابه بجمعها وأشتهر بينهم أنه كان يعرف الأسم الإعظم وبالجملة فلم يكن في عصره من يدانيه في الصلاح والخير وحسن السلوك على قدم ومات الإمام العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن صالح ابن أحمد بن علي بن الأستاذ أبي السعود الجارحي الشافعي ويقال لـه السعـودي نسبـة إلـى جـده المذكـور حضـر دروس الشيخ مصطفى العزيزي وغيره من فضلاء الوقت‏.‏

وكان أماما محققًا له باع في العلوم وكان مسكنـه فـي بـاب الحديـد أحـد أبـواب مصـر وحضـر السيـد البليـدي فـي تفسيـر البيضـاوي وكـان الشيخ يعتمده في أكثر ما يقول ويعترف بفضله ويحسن الثناء عليه‏.‏

توفي في شعبان سنة 1179‏.‏

ومات السيد الأجل المحترم فخر أعيان الأشراف المعتبر بن السيد محمد بن حسين الحسيني العادلي الدمرداشي ولد بمصر قبل القرن بقليل وأدرك الشيوخ وتمول وأثرى وصار له صيت وجاه وكان بيته بالأزبكية ويرد عليه العلماء والفضلاء وكان وحيدا في شأنه وكلمته مقبولة عنـد الأمـراء والأكابـر‏.‏

ولمـا تولـى الشيـخ أبو هادي الوفائي رحمه الله تعالى كان يتردد إلى مجلسه كثيرًا توفي سنة 1178‏.‏

ومـات الشيـخ الفاضـل الناسـك الكاتـب الماهـر البليـغ سليمـان بـن عبـد الله الرومي الأصل المصـري مولـى المرحوم علي بك الدمياطي جود الخط على حسن أفندي الضيائي وأنجب وتميز فيه وأجيز وكتب بخطه الفائق كثيرًا من الرسائل والأحزاب والأوراد وكانت له خلوة بالمدرسة السليمانية لإجتماع الأحباب وكان حسن المذاكرة لطيف الشمائل حلو الفاكهة يحفظ كثيرًا من ومـات السيـد العالـم الأديـب الماهـر الناظـم الناثـر محمـد بـن رضوان السيوطي الشهير بابن الصلاحي ولـد باسيـوط علـى رأس الأربعين ونشأ هناك وأمه شريفة من بيت شهير هناك ولما ترعرع ورد مصر وحصل العلوم وحضر دروس الشيخ محمد الحفني ولازمه وأنتسب إليه فلاحظته لوناره ولبستـه أسراره ومال إلى فن الأدب فأخذ منه بالحظ الأوفر وخطه في غاية الجودة والصحة‏.‏

وكتب نسخة من القاموس وهي في غاية الحسن والأتقان والضبط وله شعر عذب يغوص فيه على غرائب المعاني وربما يبتكر ما لم يسبق إليه‏.‏

وتوجه بآخر أمره إلى بلده وبه توفي سنة 180 رحمه الله‏.‏

ومـات الإمـام الصوفـي العـارف الناسـك الشيـخ محمد سعيد بن أبي بكر بن عبد الرحيم بن مهنا الحسينـي البغـدادي ولـد بمحلـة أبـي النجيـب مـن بغداد وبها نشأ وأخذ عن الشيخ عبد العزيز بن أحمد الرحبي وحسن ابن مصطفى القادري وآخرين وحج وقطن المدينة مدة وأجازه الشيخ محمـد حيـوة السنـدي والشيـخ حسن الكوراني‏.‏

ورد مصر سنة 1171‏.‏

فنزل بقصر الشوك قرب المشهـد الحسينـي وكـان له في كلام القوم عرفان إلى الغاية يورده على طريقة غريبة بحيث يرسخ في ذهن السامع ويلتذ به وكان يذهب لزيارته الأجلاء من الأشياخ مثل شيخنا السيد علي المقدسي والسيد محمد مرتضى والشيخ الفيفي وبالجملة فكان من أعاجيب دهره وكان الشيخ العفيفـي ينـوه بشأنـه ويقـول فـي حقـه أنـه مـن رجـال الجضـرة وأنـه ممـن يرى النبي صلى الله عليه وسلم عيانا‏.‏

وتوجه إلى الديار الرومية ثم عاد إلى المدينة ثم ورد أيضًا إلى مصر بعد ذلك ونزل قـرب الجامـع الأزهـر‏.‏

ثـم توجه إلى الديار الرومية وقطن بها‏.‏

وظهرت له هناك الكرامات وطار صيتـه وعلـت كلمتـه وصـار لـه أتباع ومريدون ولم يزل هناك على حالة حسنة حتى وافاه الأجل المحتوم في أواخر الثمانين وخلف ولده من بعده رحمه الله تعالى وسامحه‏.‏

ومات الفقيه الصالـح العلامـة الفرضـي الحيسوبـي الشيـخ أحمـد بـن أحمـد السبلـاوي الشافعـي الأزهري الشهير برزة كان أمامًا عالمًا مواظبًا على تدريس الفقه والمعقول بالجامع الأزهر وكان يحتـرف بيـع الكتب وله حانوت بسوق الكتبين مع الصلاح والورع والديانة ملازما على قراءة ابن قاسم بالأزهر كل يوم بعد الظهر أخذ عن الأشياخ المتقدمين وأنتفع به الطلبة وكان إنسانا حسنًا بهي الشكل عظيم اللحية منور الشيبة معتنيًا بشأنه مقبلًا على ربه‏.‏

توفي سنة 1180‏.‏

ومات الأجل المكرم الفاضل النبيه النجيب الفقيه حسن أفندي ابن حسـن الضبائـي المصـري المجود المكتب ولد كما وجد بخطه سنة 1092 في منتصف جمادى الثانية وأشتغـل بالعلـم على أعيان عصره وأشتغل بالخط وجوده على مشايخ هذا الفن في طريقتي الحمدية وابن الصائغ‏.‏

أما الطريقة الحمدية فعلى سليمان الشاكري والجزائري وصالح الحمامي وأما طريقة ابن الصائـغ فعلـى الشيـخ محمـد بـن عبـد المعطـي السملـاوي فالشاكري والحمامي جودا على عمر أفندي وهـو علـى درويـش علـي وهـو علـى خالـد أفنـدي وهـو علـى درويش محمد شيخ المشايخ حمد الله بـن بيـر علـي المعـروف بابـن الشيـخ الأماسي وأما السملاوي فجود على محمد ابن محمد بن عمار وهو على والده وهو علي يحيى المرصفي وهو علي اسمعيل المكتب وهو علي محمد الوسمي وهـو علـي أبـي الفضـل الأعـرج وهـو علـي ابـن الصائـغ بسنـده‏.‏

وكـان شيخًا مهيبًا بهي الشكل منور الشيبـة شديـد الأنجمـاع عـن النـاس ولـه معرفـة فـي علم الموسيقى والأوزان والعروض‏.‏

وكان يعاشر الشيخ محمد الطائي كثيرًا ويذاكره في العلوم والمعارف وبكتب غالب تقاريره على ما يكتبه بيده من الرسائل والمرقعات وقد أجاز في الخط لأناس كثيرًا ويجتمع في مجالس الكتبة مع صرامة وشهامة وعزة نفس‏.‏

توفي في منتصف ذي الحجة سنة 1180‏.‏

ومات الإمام العالم أحد العلماء الأذكياء وافراد الدهر البحاث في المعضلات الفتاح للمقفلات الشيخ عبد الكريم بن علي المسيري الشافعي المعروف بالزيات لملازمته شيخه سليمان الزيات حضر دروس فضلاء الوقت وأنضوى إلى الشيخ سليمان الزيات ولازمـه حتـى صـار معيـدًا الدروسـة ومهر وأنجب وتضلع في الفنون ودرس وأملى‏.‏

وكان أوحد زمانه في المعقولات ولازم أخيرًا الشيخ دروس الشيخ الحفني وتلقن منه العهد ثم أرسله الشيخ إلى بلاد الصعيد لأنه جاءه كتاب من أحد مشايخ الهوارة ممن يعتقد في الشيخ بأن يرسل إليهم أحد تلامذته ينفع الناس بالناحية فكان هو المعين لهذا المهم فألبسه وأجازه ولما وصل إلى ساحل بهجورة تلقته الناس بالقبول التام وعين له منزل واسع وحشم وخدم وأقطعوا له جانبا من الأرض ليزرعها‏.‏

فقطـن بالبهجـورة وأعتنـى بـه أميرهـا شيـخ العـرب اسمعيـل بـن عبد الله فدرس وأفتى وقطع العهود وأقام مجلس الذكر وراج أمره وراش جناحه ونفع وشفع وأثرى جدًا وتملك عقارات ومواشي وعبيدًا وزروعات ثم تقلبت الأحوال بالصعيد وأوذي المترجم وأخذ ما بيـده مـن الأراضـي وزحرحـت حالـه فأتـى إلـى مصـر فلـم يجـد مـن يعينـه لوفاة شيخه‏.‏

ثم عاد ولم يحصل على طائل وما زال بالبهجورة حتى مات في أواخر سنة 1181‏.‏ ومات

ومات الإمام العلامة المتقن المعمر مسند الوقت وشيخ الشيوخ

الشيخ أحمد بن عبد الفتاح بن يوسـف بـن عمـر المجيري الملوي الشافعي الأزهري ولد كما أخبر من لفظه في فجر يوم الخميس ثاني شهر رمضان سنة 1088 وأمه آمنة بنت عامر بن حسن بن حسن بن علي بن سيف الدين ابن سليمان بن صالح بن القطب علي المغراوي الحسني أعتنى من صغره بالعلوم عناية كبيرة وأخذ عن الكبار من أولي الأسناد والحق الأحفاد بالأجداد فمن شيوخه الشهاب أحمد بن الفقيه والشيخ منصور المنوفي والشيخ عبد الرؤوف البشبيشي والشيخ محمد بن منصور الأطفيحي والشهاب الخليفي والشيخ عيد النمرسي والشيخ عبد الوهاب الطندتاوي وأبو العز محمـد بـن العجمـي والشيـخ عبـد ربـه الديوي والشيخ رضوان الطوخي والشيخ عبد الجواد وخاله أبـو جابـر علـي بـن فامـر الأيتـاوي وأبـو الفيـض علـي بـن إبراهيـم البوتيجي وأبو الأنس محمد بن عبد الرحمن المليجي هؤلاء من الشافعية ومن المالكية محمد بن عبد الرحمن بن أحمد الـورزازي والشيخ محمد الزرقاني والشيخ عمر بن عبد السلام التطواني والشيخ أحمد الهشتوكي والشيخ محمد بن عبد الله السجلماسي والشيخ أحمد النفراوي والشيخ عبد الله الكنكسي وابن أبي زكـري وسليمـان الحصينـي والشبرخيتـي ومـن الحنفيـة السيـد علـي بن علي الحسيني الضرير الشهير بإسكندر ورحل إلى الحرمينسنة 1122‏.‏

فسمع علي البصري والنخلي الأولية وأوائل الكتب الستة وأجازاه والشيخ محمد طاهر الكوراني وأجـازه الشيـخ إدريـس ليمانـي ومنـلا الياسـي الكورانـي ودخـل تحـت إجـازة الشيـخ إبراهيـم الكوراني في العموم وعاد إلى مصر وهو إمام وقته المشـار إليـه فـي حل المشكلات المعول عليه في المعقولات والمنقولات قرأ المنهج مرارًا وكذا غالب الكتب وأنتفع به الناس طبقة بعد طبقة وجيلًا بعد جيل‏.‏

وكان تحريره أقوى من تقريره‏.‏

وله رضـي اللـه عنه مؤلفات كثيرة منها شرحان على متن السلم كبير وصغير وشرحان كذلك على السمرقندية وشرح على الياسمينية وشرح الأجرومية ونظـم النسـب وشرحهـا وشـرح عقيـدة الغمري وعقود الدرر على شرح ديباجة المختصر أتمه بالمشهد الحسيني سنة ثلاث وعشرين‏.‏

ونظـم الموجهـات وشرحهـا وتعريـب رسالـة منـلا عصـام في المجاز ومجموع صيغ صلوات على النبي صلـى اللـه عليـه وسلـم‏.‏

ومؤلفاتـه مشهورة مقبولة متداولة بإيدي الطلبة ويدرسها الأشياخ‏.‏

وتعلل مـدة وأنقطع لذلك في منزله وهو ملقى على الفراش ومع ذلك يقرأ عليه في كل يوم في أوقات مختلفـة أنـواع العلـوم وترد عليه الناس من الآفاق ويقرأون عليه ويستجيزونه فيجيزهم ويملي عليهم ويفيدهم ومنهم من يأتيه للزيارة والتبرك وطلب الدعاء فيمدهم بأنفاسه ويدعو لهم وكان ممتع الحـواس وأقـام علـى هـذه الحالـة نحـو الثلاثين سنة حتى توفي في منتصف شهر ربيع الأول سنة 181‏.‏

ومـات الشيـخ الإمـام الصالـح عبـد الحـي ين الحسن بن زين العابدين الحسيني البهنسي المالكي نزيل بولاق ولد بالبهنسا سنة 1083 وقدم إلى مصر فأخذ عن الشيخ خليل اللقاني والشيخ محمد النشرتـي والشيـخ محمـد الزرقانـي والشيـخ محمـد الأطفيحـي والشيـخ محمد الغمري والشيخ عبد الله الكنكسي والشيخ محمد بن سيف والشيخ محمد الخرشي وحج سنة 1113‏.‏

وألف فأخذ عن البصري والنخلي وأجازه السيد محمد التهامي بالطريقة الشاذلية والسيد محمد بن علي العلوي في الأحمدية والشيخ محمد شويـخ فـي الشناويـة وحضـر دروس المحـدث الشيـخ علـي الطولوني ودرس بالجامع الخطيري ببولاق وأفاد الطلبة وكان شيخـًا بهيـًا معمـرًا منـور الشيبـة منجمعًا عن الناس زاهدًا قانعًا بالكفاف توفي ليلة الاثنين حادي عشري شعبان سنة 1181 بمنزلـه ببولـاق وصلـي عليـه بالجامـع الكبيـر فـي مشهـد حافـل وحمل على الأعناق إلى مدافن الخلفاء قرب مشهد السيدة نفيسة فدفن بها رحمة الله‏.‏

ومـات الشيـخ إمـام السنـة ومقتـدى الأمـة عبـد الخالـق بـن أبي بكر بن الزين ابن الصديق بن الزين بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن أبي القاسم النمري الأشعري المزجاجي الزبيدي الحنفي من بيت العلم والتصوف جده الأعلى محمد بن محمد بن أبي القاسم صاحب الشيخ اسمعيل الجبرتي قطب اليمن وحفيده عبد الرحمن بن محمد خليفة جده في التسليك والتربية وهو الذي تدير زبيد بأهله وعياله وكان قبل بالمزجاجة وهي قرية أسفل زبيد خربت الآن‏.‏

ولد المترجم سنة ألف ومائة بزبيد وحفظ القرآن وبعض المتون ولما ترعرع أخذ عن الإمام المسند الشيخ علاء الدين المزجاجي والسيد عبد الفتاح بـن اسمعيـل الخـاص والشيـخ علـي المرحومي نزيل مخا وأجازه من مكة الشيخ حسن العجمي بعناية والده وبعناية قريبه الشيـخ علي بن علي الزجاجي نزيل مكة ووفد إلى الحرمين فأخذ بمكة عن الشيخ محمد عقيلة‏.‏

روىعنـه الكتـب الستـة وحمـل عنـه المسلسلات بشرطها وألبسه وحكمه وحضر على الشيخ عبد الكريم اللاهوري في الفقه والأصول وكان يحثه على قراءة الأخسكيتي ويقول لا يستغنى عنه طالـب وحضـر دروس الشيخ عبد المنعم ابن تاج الدين القلعي ومحمد بن حسن العجمي ومحمد بـن سعيـد التنبكتـي وبالمدينـة عـن الشيـخ محمـد طاهـر الكـردي سمـع منـه أوائـل الكتـب الستـة والشيخ محمـد حيـاة السـدي لازمـه فـي سمعـا الكتب الستة وعاد إلى زبيد فأقبل على التدريس والأفادة وسمـع عليـه شيخنـا السيد محمد مرتضى الصحيحين وسنن النسائي كله بقراءته عليه في عين الرضا موضح بالنخل خارج زبيد كان يمكث فيه أيام خراف النخل والكنز والمنار كلاهما للنسفـي ومسلسلـات شيخـه بـن عقيلـة وهـي خمسة وأربعون مسلسلًا‏.‏

وسمع عليه أيضًا المسلسل بيـوم العيـد ولازم درسه العامة والخاصة وألبسه الخرقة ونقبه وحكمه بعد أن صحبه وتأدب به وبه تخرج شيخنا المذكور‏.‏

كذا ذكر في ترجمتـه‏.‏

قـال وفـي أخـرى توجـه إلـى الحرميـن فمـات بمكـة فـي ذي الحجة سنة 1181‏.‏

ومات الشيخ الإمام الثبت العلامة الفقيه المحدثاشيخ عمر بن علي ابن يحيى بـن مصطفىالطحلاوي المالكي الأزهـري تفقـه علـى الشيـخ سالـم النفـراوي وحضـر دروس الشيـخ منصور المنوفـي والشهـاب بـن الفقيـه والشيـخ محمـد الصغيـر الـورزازي والشيـخ أحمـد الملـوي والشبراوي والبليدي وسمع الحديث عن الشهابين أحمد البابلي والشيخ أحمـد العمـاوي وأبـي الحسن علي بـن أحمـد الحريشـي الفاسـي وتمهـر فـي الفنـون ودرس بالجامـع الأزهـر وبالمشهـد الحسينـي وأشتهـر أمـره وطـار صيتـه وأشيـر إليـه بالتقـدم فـي العلـوم وتوجـه إلـى دار السلطنـة فـي مهم اقتضـى لأمـراء مصـر فقوبـل بالأجابـة وألقى هناك دروسًا في الحديث في آيا صوفية وتلقى عنه أكابـر العلمـاء هنـاك في ذلك الوقت وصرف معززًا مقضيًا حوائجه وذلك في سنة 1147‏.‏

ولما تمـم عثمـان كتخـدا القازدغلـي بنـاء مسجـده بالازبكية في تلك السنة تعين المترجم للتدريس فيه وذلك قبل سفره إلى الديار الرومية وكان مشهورًا في حسن التقرير وعذوبة البيـان وجـودة الألقـاء وقرأ الموطأ وغيره بالمشهد الحسيني وأفاد وأجاز الأشياخ وكان يطلع في كل جمعة إلى المرحـوم حمـزة باشـا مـرة فيسمـع عليـه الحديث‏.‏

وكان للناس فيه أعتقاد حسن وعليه هيبة ووقار وسكـون ولكلامـه وقـع فـي القلـوب توفـي ليلـة الخميـس حـادي عشر صفر سنة 1181 وصلي عليه بصباحه في الأزهر في مشهد حافل ودفن بالمجاورين رحمه الله‏.‏

ومـات الوجيـه الصالـح الشيـخ عبـد الوهـاب بن زين الدين بن عبد الوهاب بن نور الدين بن بايزيد بن أحمد بن القطب شمس الدين بن أبي المفاخر بن داود الشربيني الشافعي وهو أحد الأخوة الثلاثة وهو أكبرهم تولى النظر والمشيخة بمقام جده بعد أبيه فسار فيها سيرًا مليحًا وأحيا المآثر بعدما أندرست وعمر الزاوية وأكرم الوافدين وأقام حلقة الذكر كل يوم وليلة بالمسجـد ويغدق على المنشدين وورد مصر مرارًا منها صحبـة والـده ومنهـا بعـد وفاتـه وألـف باسمـه شيخنا السيد مرتضى رسالة في الطريقة الأوسية سماها عقيلة الأتراب في سند الطريقة والأحـزاب وفـي آخـره أتـى إلـى مصـر لمقتضـى ومـرض ثلاثـة أيـام‏.‏

وتوفي ليلة الأحد غرة ذي القعدة سنة 1181‏.‏

ومات الشيخ الإمام العلامة الهمام أوحد أهل زمانه علمًا وعملًا ومن أدرك ما لم تدركه الأول المشهـود لـه بالكمـال والتحقيـق والمجمـع علـى تقدمه في كل فريق شمس الملة والدين محمد بن سالم الحفاوي الشافعي الخلوتي وهو شريف حسيني من جهة أم أبيه وهي السيدة ترك ابنة السيد سالـم بن محمد بن علي بن عبد الكريم بن السيد برطع المدفون ببركة الحاج وينتهي نسبه إلى الإمـام الحسيـن رضـي اللـه عنـه وكـان والده مستوفيًا عند بعض الأمراء بمصر وكان على غاية من العفاف ولد على رأس المائة ببلده حفنا بالقصر قرية من أعمال بلبيس وبها نشأ والنسبة إليها حفناوي وحفني وحفنوي وغلبت عليه النسبة حتى صار لا يذكر إلا بها وقرأ بها القرآن إلى سورة الشعراء ثم حجزه أبوه بإشارة الشيخ عبد الرؤوف البشبيشي وعمره أربع عشرة سنة بالقاهرة فكمل حفظ القرآن ثم أشتغل بحفظ المتون فحفظ إلفية ابن مالك والسلم والجوهرة والرحبيـة وأبا شجاع وغير ذلك‏.‏

وأخذ العلم عن علماء عصره وأجتهد ولازم دروسهم حتى تمهر واقرأ ودرس وأفاد في حياة أشياخه وأجازوه بالأفتاء والتدريس فأقرأ الكتب الدقيقة كالاشموني وجمع الجوامع والمنهج ومختصر السعد وغير ذلك من كبت الفقه والمنطق والأصول والحديث والكلام عام اثنتين وعشرين وأشياخه الذين أخذ عنهم وتخرج عليهم الشيخ أحمد الخليفي والشيخ محمد الديربي والشيخ عبد الرؤوف البشبيشي والشيخ أحمد الملوى والشيخ محمد السجاعي والشيخ يوسف الملوي والشيخ عبده الديوي والشيخ محمد الصغير ومن أجل شيوخه الذين تخرج بالسند عنهم الشيخ محمد البديري الدمياطي الشهير بابن الميت أخذ عنه التفسير والحديث والمسندات والمسلسلات والأحياء للأمام الغزالي وصحيـح البخـاري ومسلـم وسنن أبي داود وسنن النسائي وسنن ابن ماجه والموطأ ومسنـد الشافعـي والمعجـم الكبيـر للطيرانـي والمعجـم الأوسـط والصغيـر لـه أيضـًا وصحيـح ابـن حيان والمستدرك للنيسابوري والحليـة للحافـظ أبـي نعيـم وغيـر ذلـك‏.‏

وشهـد لـه معاصـروه بالتقدم في العلوم وحين جلس للأفادة لازمه جل طلبة العلم ومن بهم يسمو المعقول والمنقول وكان إذ ذاك في شدة من ضيق العيش والنفقة فاشترى دواة وأقلامًا وأوراقًا واشتغل بنسخ الكتب فشق عليه ذلك خوفًا من انقطاعه عـن العلـم‏.‏

وكـان يتـردد إلـى زاويـة سيـدي شاهيـن الخلوتـي بسفـح الجبـل ويمكـث فيهـا الليالـي متحنثًا وأقبل على العلم وعقد الدروس وختم الختوم بحضرة جمع العلماء وقرأ المنهاج مرات وكتب عليه وكذلك جمع الجوامع والاشموني ومختصر السعد وحاشية حفيده علبه كتب عليه وقرأها غير مرة وكان الشيخ العلامة مصطفى العزيزي إذا رفع إليه سؤال يرسله إليه‏.‏

وأشتغل بعلم العروض حتى برع فيه وعالى النظم والنثر وتخرج عليه غالب أهل عصره وطبقته ومن ذويهم كأخيه العلامة الشيخ يوسف والشيخ اسمعيل الغنيمي صاحـب التآليـف البديعـة والتحريـرات الرفيعة المتوفى سنة إحدى وستين وشيخ الشيوخ الشيخ على الغدوي والشيخ محمد الغيلاني والشيـخ محمـد الزهـار نزيـل المحلـة الكبـرى وغيرهم كما هو في تراجم المذكورين منهم‏.‏

وكان على مجالسه هيبة ووقار ولا يسأله أحد لمهابته وجلالته فمن تآليفه المشهورة حاشية على شـرح رسالة العضد للسعد وعلى الشنشوري في الفرائض وعلى شرح الهمزية لأبن حجر وعلى مختصـر السعـد وعلـى شرح السرقندي للياسمينية في الجبر والمقابلة وله تصانيف أخر مشهورة‏.‏

وكان كريم الطبع جدًا وليس للدنيا عنده قدر ولا قيمة جميل السجايا مهاب الشكل عظيم اللحية أبيضها كأن على وجهه قنديلًا من النور‏.‏

وكان كريم العين على أحداهما نقطة وأكثر الناس لا يعلمون ذلك لجلالته ومهابته وكان في الحلم على جانب عظيم ومن مكارم أخلاقه أصغاؤه لكلام كل متكلم ولو من الخزعبلات مع أنبساطه إليه وإظهار المحبة ولو أطال عليه ومن رأه مدعيًا شيئًا سلم له في دعواه ومن مكارم أخلاقه أنه لو سأل إنسانا أعز حاجة عليه أعطاها له كائنة ما كانت ويجد لذلك أنسـًا وأنشراحـًا ولا يعلـق أملـه بشـيء مـن الدنيـا ولـه صدقات وصلات أخفية وظاهرة وكان راتب بيته من الخبز في كل يوم نحو الأردب والطاحون دائمة الدوران وكذلك دق البن وشربات السكر ولا ينقطع ورود الوارديـن ليـلًا ونهـارًا ويجتمـع على مائدته الأربعون والخمسون والستون ويصرف على بيوت أتباعه والمنتسبين إليه‏.‏

وشاع ذكره في أقطار الأرض وأقبل عليه الوافدون بالطول والعرض وهادتـه الملـوك وقصـده الأميـر والصعلوك فكل من طلب شيئًا من أمور الدنيا والآخرة وجده‏.‏

وكـان رزقـه فيضـًا ألهيـًا‏.‏

وللشيخ رضي الله عنه مناقب ومكاشفات وكرامات وبشارات وخوارق عادات يطول شرحها ذكرها الشيخ حسن المكي المعروف بشمه في كتابه الذي جمعه في خصوص الأستاذ وكذلك العلامة الشيخ محمد الدمنهوري المعروف بالهلباوي له مؤلف في مناقب الشيخ ومدائحه وغير ذلك وصل في ذكر أخذ العهد بطريق الخلوتية وهي نسبة إلى سيدي محمد الخلوتي أحد أهل السلسلة ويعرفون أيضًا بالقرباشلية نسبة إلى سيـدي علـي أفنـدي قـره باش أحد رجالها أيضًا وهذا هو الأسم الخاص المميز لهم عن غيرهم والخلوتيـة الكـرام فرق قـد نهجـوا نهـج الجنيد فرقوا وخيرهم طريقنا العليـه من قد دعوا بالقربا شليه وهي طريقة مؤيدة بالشريعة الغراء والحنيفة السمحاء ليس فيها تكليف بما لا يطـاق وكانـت خير الطرق لأن ذكرها الخاص بها‏:‏ لا إله إلا الله وهي أفضل ما يقول العبد كما في الحديث الشريف‏.‏

وكان المترجم رضي الله عنه أشتغل بالسلوك وطريق القوم بعد الثلاثين فأخذ على رجل يقال لـه الشيـخ أحمـد الشاذلـي المغربـي المعـروف بالمقري فتلقى منه بعض أحزاب وأوراد ثم قدم السيد البكري من اشام سنة 1133 فأجتمع عليه الشيخ بواسطة بعض تلامذة السيد وهو السيد عبد الله السلفيتي فسلم عليه وجلس فجعل السيد ينظر إليه وهو كذلك ينظر إليه فحصل بينهمـا الأرتبـط القلبـي ثـم قـام وجلـس بيـن يـدي السيد بعد الأستئذان وكانت عادة السيد إذا أتاه مريد أمره أولا بالأستخارة قبل ذلك إلا هو فلم يأمره بها وذلك إشـارة إلـى كمـال الأرتبـاط فاخذ عليه العهد حالًا ثم أشتغل بالذكر والمجاهدة‏.‏

فرأى في منامه في تعض الليالي السيد البكري والشيخ أحمد الشاذلي المذكور جالسين والشيخ حمد يعاتبه على دخوله في الطريق ويعاتب أيضًا السيد فقال له السيد‏:‏ هل لك معه حاجة قال‏:‏ نعم لي معه أمانة‏.‏

وإذا بجريدة خضـراء بيـد السيـد فقـال لـه‏:‏ هـذه أمانتـك قال‏:‏ نعم‏.‏

فكسرها نصفين ورماها للشاذلي وقال له‏:‏ خـذ أمانتـك ثـم أنتبـه‏.‏

فأخبر السيد فقال له‏:‏ هذا اتصال بنا وانفصال عنه‏.‏

وهذه هي النسبة الباطنية التي صار بها سلمان الفارسي وصهيب من أهل البيت‏.‏

وقال ابن الفاض في التائية على لسان الصادق صلى الله عليه وسلم‏:‏ وأني وأن كنت ابن آدم صورة فلي فيـه معنـى شاهـد بالأبـوة فإن آدم له أب من حيث النسبة الظاهرة وهو أب لآدم من حيث النسبة الباطة لأنه نائب عنه فـي الأرسـال ومنبـأ بخـده فـي الأنـزال ولـم يستمـد مـن الخضـرة العليـة إلا بواسطتـه ولذلـك لما توسل به قبلـت توبته وزادت محبته لم يجعل مهر حواء سوى الصلاة والسلام عليه كما ورد ذلك كله وهو مـن المعلـوم ضـرورة‏.‏

فظهـر بهـذا أن هـذه النسبـة أعظم من تلك لترتب الثمرة عليها‏.‏

ثم سار في طريقـة القـوم أتـم سيـر حتـى لقنـه الأستـاذ الأسـم الثانـي والثالـث‏.‏

ومـن حيـن أخـذ عليه العهد لم يقع منـه فـي حـق الشيخ إلا كمال الأدب والصدق التام وهو الذي قدمه وبه ساد أهل عصره‏.‏

فمن ذلـك أنـه كـان لا يتكلـم فـي مجلسـه أصـلًا إلا إذا سألـه فإنـه يجيبـه على قدر السؤال ولم يزل يستعمل ذلـك معـه حتـى إذن لـه بالتكلـم فـي مجلسـه فـي بعـض رحلاته إلى القاهرة وسببه أنه لما رأى إقبال النـاس عليـه وتوجههـم إليه قال له‏:‏ أنبسط إلى الناس وأستقبلهم لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم‏.‏

ومماأتفق له أن شيخه المذكور قال له مرة‏:‏ تعال الليلة مع الجماعة وأذكروا عندنا في البيت‏.‏

فلما دخل الليل نزل شتاء ومطر شديد فلم يتخلف وذهب حافيا والمطر يسكب عليه وهو يخوض في الوحل فقال له‏:‏ كيف جئت في هذه الحالة‏.‏

فقال‏:‏ يا سيدي أمرتمونا بالمجيء ولم تقيدوه بعذر وأيضًا لا عذر والحالة هذه لا مكان المجيء وأن كنت حافيـًا فقـال لـه‏:‏ أحسنـت هـذا أول قدم في الكمال إلى غير ذلك‏.‏

ولما علم الشيخ صدق حاله وحسن فعاله قدمه على خلفائه وأولاه حسن ولائه ودعاه بالأخ الصادق ومنحه أسرارًا وأراه عيون الحقائق وكيفية تلقين الذكر وأخذ العهد كما وجد بخط الأستاذ يظهر ثبت عبد الله بن سالـم البصـري مـا نصـه‏:‏ هـذه صـورة أخـذ العهـد أرسلهـا إليـه السيد البكري الصديقي الخوتي حين أذنه بأخذ العهود على طريقة السادة الخلوتية‏.‏

ونص ما كتب كيفية المبايعة للنفس الطائعة أن يجلس المريد بين يدي الأستاذ ويلصق ركبته بركبته والشيخ مستقبل القبلة ويقرأ الفاتحة ويضع يده اليمنى في يده مسلما له نفسه مستمدًا من أمداده ويقول له‏:‏ قل معي أستغفر الله العظيم ثلاث مرات ويتعوذ ويقرأ آية التحريم‏:‏ يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا إلى قدير ثم يقرأ آية المبايعة التي في الفتح ليزول الأشتباه وهي‏:‏ أن الذين يبايعونك أنما يبايعون الله أقتداء برسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم إلـى قولـه تعالـى عظيمـًا ثم يقرأ فاتحة الكتاب ويدعو الله لنفسه وللآخذ بالتوفيق ويوصيه بالقيام باوراد الطريق والدوام علـى ذوق أهـل هـذا الفريـق وعـرض الخواطـر وقـص الؤيـات العواطـر وإذا وقعـت الإشـارة بتلقيـن الأسـم الثانـي لقنـه ليبلـغ الأماني‏.‏

وفتح له بـاب توحيـد الأفعـال إذ لا غيـره فعـال وفـي الثالـث توحيد الأسماء ليشهد السر الأسمى وفي الرابع توحيد الصفات ليدرجه إلى أعلى الصفات وفي الخامس توحيد الذات ليحظى بأوفر اللذات وفـي السـادس والسابـع يكمـل لـه التوابـع‏.‏

ونسـأل اللـه تعالـى الهداية والرعاية والعناية والدراية والحمد للـه رب العالميـن انتهـى‏.‏

هذا ما كتب بخطه الشريف‏.‏

قال ورأيت أيضًا بظهر الثبت المذكور ما نصه‏:‏ ثم رأيت في الفتوحات الألهية في نفع أرواح الذوات الإنسانية وهو كتاب نحو كراس لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري ما نصه‏:‏ إذا أراد الشيخ أن يأخذ الهد علـى المريـد فليتطهـر وليأمـره بالتطهـر مـن الحـدث والخبـث ليتهيـأ لقبـول مـا يلقيـه إليـه مـن الشـروط فـي الطريـق ويتوجـه إلـى اللـه تعالى ويسألـه القبول لهما ويتوسل إليه في ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه الواسطة بينه وبين خلفه ويضع يده اليمنى على يد المريد اليمنى بأن يضع راحته على راحتـه ويقبـض أبهامـه بأصابعـه ويتعوذ ويبسمل ثم يقول‏:‏ الحمد لله رب العالمين أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ويقول المريد بعده مثل ما قال‏.‏

ثم يقول اللهم أني أشهدك واشهد ملائكتك وأنبياءك ورسلك وأولياءك أني قـد قبلتـه شيخـًا فـي اللـه ومرشـدًا وداعيـًا إليـه ثم يقول الشيخ اللهم أني أشهدك وأشهد ملائكتك وأنبيـاءك ورسلـك وأوليـاءك أنـي قـد قبلتـه ولـدًا فـي الله فأقبله وأقبل عليه وكن له ولا تكن عليه‏.‏

ثم يدعو كأن يقول اللهم أصلحنا وأصلح بنا وأهدنا وأهد بنا وأرشدنا وأرشد بنا اللهم أرنا الحق حقًا وألهمنا أتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا أجتنابه اللهم أقطع عنا كل قاطع يقطعنا عنك ولا تقطعنا عنك ولا تشغلنا بغيرك عنك أنتهى‏.‏

قلت والمراتب السبعة التي أشار إليها السيد في الكيفية المتقدمة هي مراتب الأسماء السبعة وللنفـس فـي كـل مرتبـة منهـا مرتبـة باسـم خـاص دال عليـه‏:‏ الاسـم الأول لا إله إلا الله وتسمى النفس فيه إمارة والثاني الله وتسمى النفس فيه لوامة والثالث هو وتسمى النفس فيه ملهمة والرابع حق وهو أول قدم يحله المريد من الولاية كما مرت الإشارة إليه وتسمى النفس فيه مطمئنة والخامس حي وتسمى النفس فيه راضية والسادس فيرم وتسمى النفس فيه مرضية والسابع قهـار وتسمـى النفـس فيـه كاملـة وهـو غايـة التلقيـن‏.‏

وكلهـا ما عدا الأول منها تلقن في الأذن اليمنى إلا السابع ففي اليسرى وتلقينها بحسب ما يراه الشيخ من أحوال المريدين إفعال وأقوال وعالم مثـال‏.‏

واعلـم أن سلسلـة القـوم هـذه فـي كيفيـة أخـذ العهـد والتلقيـن مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرويه عن جبريل وهو يرويه عن الله عز وجل‏.‏

وفي بعض الروايات روايته عن رؤسـاء الملائكـة الأربـع والنبـي صلـى الله عليه وسلم لقن عليًا رضى الله عنه وصورة ذلك كما في ريحـان القلـوب فـي التوصـل إلـى المحبـوب لسيـدي يوسـف العجمـي أن عليـًا سـأل رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم فقـال يـا رسـول اللـه دلني على أقرب الطرق إلى الله تعالى‏.‏

فقال يا علي عليك بمداومـة ذكـر اللـه فـي الخلوات‏.‏

فقال علي رضي الله عنه هذا فضيلة الذكر وكل الناس ذاكرون فقـال رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم يا علي لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول الله‏.‏

فقـال علـي كيـف أذكـر يـا رسـول الـه‏.‏

قـال غمـض عينيـك وأسمـع منى ثلاث مرات ثم قل أنت ثلاث مـرات وأنـا أسمـع‏.‏

فقـال النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم لا إله إلا الله ثلاث مرات مغمضًا عينيه رافعًا صوتـه وعلـي يسمـع ثـم قـال علـي لا إلـه إلا اللـه ثلـاث مـرات مغمضـًا عينيـه رافعـا صوته والنبي صلى اللـه عليـه وسلـم يسمـع‏.‏

ثـم لقن علي الحسن البصري رضي الله عنهما على الصحيح عند أهل السلسلـة الأخيـار مـن المحدثيـن‏.‏

قال الجاحظ السيوطي‏:‏ الراجح أن البصري أخذ عن علي ومثله عـن الضيـاء المقدسـي ومـن المقـرر فـي الأصـول أن المثبـت مقدم على النافي ثم لقن الحسن البصري حبيبـًا العجمـي وهـو لقـن داود الطائـي وهو لقن معروفا الكرخي وهو لقن سريا السقطي وهو لقن أبـا القاسـم سيـد الطائفتيـن الجنيـد البغدادي وعنه تفرقت سائر الطرق المشهورة في الإسلام‏.‏

ثم لقن الجنيد ممشاد الدينوري وهو لقن محمد الدينوري وهو لقن القاضي وجيه الدين وهو لقن عمر البكري وهو لقن أبا النجيب الهروردي وهو لقن قطب الدين الابهري وهو لقـن محمـد النجاشي وهو لقن شهاب الدين الشيرازي وهو لقن جلال الدين التبريـزي وهـو لقـن إبراهيـم الكيلانـي وهـو لقـن أخـي محمـد الخلوتـي وإليـه نسبـة أهـل الطريـق وهـو لقـن بير عمر الخلوتي وهو لقن أخي بيرام الخلوتي وهو لقن عز الدين الخلوتي وه لقن صدر الدين الخيالي وهـو لقـن يحيـي الشرواني صاحب ورد الستار وهو لقن بير محمد الأرزنجاني وهو لقن جلبي سلطان المشهور بجلبي خليفة وهو لقن خير التوقادي وهو لقن شعبان القسطموني وهو لقن اسمعيل الجورومي وهـو المدفـون فـي بـاب الصغيـر فـي بيـت المقـدس عنـد مرقـد سيـدي بلـال الحبشـي وهو لقن سيدي علـي أفنـدي قـره بـاش أي أسـود الرأس باللغة التركية وإليه نسبة طريقنا كما مر وهو لقن مصطفى أفندي ولده وخلفاؤه كما قال السيد الصديقي أربعمائة ونيف وأربعون خليفة وهو لقن عبد اللطيـف بـن حسـام الديـن الحلبـي وهـو لقـن شمس الطريقة وبرهان الحقيقة السيد مصطفى بن كمال الدين البكري الصديقي وهو لقن قطب رحاها ومقصد سرها ونجواها شيخنا الشيخ محمد الحفناوي وهو لقن وخلف أشياخًا كثيرة منهم بركة المسلمين وكهف الواصلين الصوفي الصائم القائـم العابـد الزاهـد الشيـخ محمد السمنودي المعروف بالمنير شيخ القراء والمحدثين وصدر الفقهاء من مناقبه الحميدة صيام الدهر مع عدم التكلف لذلك وقيام الليل يقرأ في كل ركعة ثلث القرآن وربما نصفه أو جميعه في كل ركعة هذا ورده دائمًا صيفًا وشتاء فتى وشيخًا يافعًا ومنهـا تواضعـه وخمولـه وعـدم رؤيـة نفسـه ويبـرأ مـن أن تنسب إليه منقبة وسيأتي باقي ترجمته في وفاته‏.‏

ومنهـم علامة وقته وأوانه الولي الصوفي الشيخ حسن الشيبيني ثم القوي طلب العلم وبرع فيه وفـاق علـى أقرانـه ثـم جذبتـه أيـدي العنايـة إلـى الشيـخ فأخـذ عليـه العهـد ولقنه أسماء الطريق السبعة على حسب سلوكه في سيره ثم ألبسه التاج وأجازه بأخذ العهود والتلقين والتسليك وصار خليفة محضًا فإدار مجالس الذكر ودعا الناس إليها من سائر الأقطار وفتـح اللـه عليـه بـاب العرفان حتى صار ينطق بأسرار القرآن‏.‏

ومنهـم العالـم النحريـر الصوفـي الصالـح السلـك أراجـح الشيخ محمد السنهوري ثم الفوى طلب العلم حتى صار من أهل الأفتاء والتدريس وأنتصب للتأكيد والتأسيس ثم دعته سعادة حضرة القـوم فسلـك مـع المجاهـدة وحسـن السيرة على يد الأستاذ حتى لقنه الأسماء السبعة وألبسه التاج وأقامه خليفة يهدي لأقوم منهاج ثم إذن له في التوجه إلى بلده فتوجه إليها وربي بها المريدين وأدار مجالس الأذكار بتلك البقاع وعم به في الوجود الأنتفاع‏.‏

ومنهم البحر الزاخر حائز مراتب المفاخر الولي الرباني والصوي في العالم الإنساني الشيخ محمد الزعيـري أشتغل بالعلم حتى برع وصار قدوة لكل مفتدي وجذوة لمن لا يهتدي ثم سلك على يد الأستاذ فأخذ عليه العهد ولقنه الأسماء على حسب سيره وسلوكه ثم خلفه وألبسه التاج وأجازه بالتلقين والتسليك‏.‏

ومنهم الحبر العلامة والبحر الفهامة شيخ الأفتاء والتدريس الشيخ خضر رسلان أشتغل على الشيخ مدة مديدة ولازمه ملازمة شديدة وأخذ عليه العهد في طريق الخلوتيـة حتـى تلقـن الأسماء وألبسه الشيخ التاج وصار خليفة بأخذ العهود والتسليك‏.‏

ومنهـم الشيـخ الصوفـي الولـي صاحـب الكرامـات والأيـادي والمكرمـات شيخنـا الشيـخ محمود الكردي أخذ على الشيخ العهد والطريق ولقنه الأسماء فكان محمود الأفعال معروفا بالكمال ثم ألبسـه التاج وصار خليفة وأجازه بالتلقين والتسليك فأرشد الناس وأزال عن قلوبهم الوسواس‏.‏

وهو مشهور البركة يعتقده الخاص والعام كثير الرؤية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومـن كراماته أنه متى أراد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم رآه‏.‏

وله مكاشفات عجيبة نفعنا الله بحبـه ولا حجبنـا عـن قربـه وهـو الـذي قام للإرشاد والتسليك بعد أنتقال شيخه وسلك على يده كثيـر وخلفـوه من بعده منهم الشيخ الصالح الصوفي والشيخ محمد السقاط والشيخ العلامة شيخ الإسلام والمسلمين مولانا الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر الآن والأمام الأوحد الشيـخ محمـد بديـر الـذي هـو الـآن بالقدس الشريف والمشار إليه في التسليك بتلك الديار والشيخ الصالـح الناحـج إبراهيم الحلبي الحنفي والسيد الأجل العلامة والرحالة الفهامة السيد عبد القادر الطرابلسـي الحنفـي والشيـخ الإمـام العمـدة الهمـام الشيـخ عمـر البابلـي وغيرهـم أدام اللـه النفـع بوجودهم‏.‏

ومنهـم العالـم العلامـة الألمعـي الفهامـة بقيـة السلـف والخليفـة ونعم الخلف الشيخ محمد سبط الأستاذ المترجم أطال الله بقاءه‏.‏

ومنهم الشيخ الفهامة الأديب الأريب واللوذعي النجيب الشيخ محمد الملاوي الشهير بالدمنهوري الشافعي‏.‏

ومنهم الشيخ الصوفي القدوة الشيخ أحمد الغزالي تلقن منه الأسماء وتخلف عنه وألبسه التاج وأجازه بالتلقين والتسليك‏.‏

ومنهم العالم العامل الشيخ أحمد القحافي الأنصاري أخذ العهد وأنتظم في سلك أهل الطريق وتلقن الأسماء وصار خليفة مجازًا فأرشد الناس وأفتتح مجالس الأذكار‏.‏

ومنهـم تـاج الملـة وإنسـان عين المجد عن غير علة ذو النسب الباذخ والشرف الرفيع الشانح السيد علي القناوي تلقن الأسماء وألبس التاج وصار خليفة حقا ومجـازًا بالتلقيـن والتسليـك فـأدار مجالس الأذكار وأشرقت به الأنوار‏.‏

ومنهم العلامة العامل والفهامة الواصل الفاضل الشيخ سليمان المنوفي نزيل طندتا لقنه وأرشده وخلفه وألبسه التاج وأجازه فسلك وأرشد وله أحوال عجيبة‏.‏

ومنهم الصوفي الصالح الشيخ حسن السخاوي نزيل طندتا أيضًالقنه وخلفه وألبسه التاج فدعا الناس لأقوم منهاج‏.‏

ومنهم علامة الأنام الشيخ محمد الرشيدي الملقب بشعير لقنه وخلفه وأجازه فكثر نفعه‏.‏

ومنهم العلامة الأوحد ومن على مثله الخناصر تعقد الشيخ يوسف الرشيدي الملقب بالشيال رحل أيضًا إليه فتلقن منه وسلك على يديه حتى صار خليفة وألبسه التاج وأجازه بالتلقين والتسليك ورجع إلى بلاده بأوفر زاد وأدار مجالس الذكـر وأكثـر المراقبـة والفكـر حتـى كثـرت أتباعه وعم أنتفاعه‏.‏

ومنهم العمدة المقدم الهمام الناسـك السالـك الشيـخ محمـد الشهيـر بالسقالقنـه وإجـازه بالتلقيـن والتسليك فكثر نفعه وطاب صنعه‏.‏

ومنهم فريد دهر وعالم عصره معدن الفضل والكمال قطب الجمال والجلال الشيخ باكير أفندي ومنهم بدر الطريق و شمس أفق التحقيق العالم العلامة والصوفي الفهامة الشيخ محمد الفشني لقنه وخلفه وألبسه التاج فأخذ السهود ولقن وسلك وفاق في سائر الآفاق وتقدم في الخلاف والوفاق‏.‏

ومنهـم العالم العامل والشهم الماهر الكامل الشيخ عبد الكريم المسيري الشهير بالزيات تلقن العهد والأسمـاء حسـب سلوكـه وسيـره وأجيـز بأخـذ العهـود والتلقيـن والتسليـك فزاد نورًا على نور وحبي بلذة الطاعة والحبور‏.‏

ومنهم شيخ الفروع والأصول الجامع بين المعقول والمنقول علامة الزمان والحامل في وقته لواء العرفان والشيخ أحمد العدوي الملقب بدردير جذبته العناية إلى نادي الهداية فجاء إلى الشيخ وطلـب منـه تلقيـن الذكـر فلقنـه وسار أحسن سير وسلك أحسن سلوك حتى صار خليفة بأخذ العهـود والتلقين والتسليك مع المجاهدة والعمل المرضي وسيأتي في وفياتهم تتمة تراجمهم رضي الله عنهم‏.‏

ومنهم أيضًا الشيخ العلامة الولي الصوفي الشيخ محمد الرشيدي الشهير بالمعصراوي‏.‏

ومنهـم الإمـام الجامـع والولـي الصوفي النافع مولاي أحمد الصقلي المغربي تلقن وتخلف وأجيز بأخذ العهود والتلقين والتسليك‏.‏

ومنهـم الصالـح العامـل الفهامـة العابـد الزاهـد الشيـخ اسمعيـل اليمنـي تلقـن وسلك مع التقى والعفاف والملازمة الشديدة والخدمة الأكيدة وحسن المجاهدة‏.‏

ومنهم النحرير الكامل واللوذعي الفاضل مؤلف المجموع الشيخ حسن بن علي المكي المعروف بشمه الناظم الناثر الحاوي الخير المتكاثر وغير هؤلاء ممن لم نعرف كثير‏.‏

في ذكر رحلة الأستاذ المترجم إلى بيت المقدس وهو أنه لم إذن له السيد البكري بأخذ العهود وتلقين الذكر لم يقع له تسليك أحد في هذه الطريقة إنما كان شغله وتوجهه كله إلى العلم واقرائه لكن ذلك بجسمه وأما قلبه فلم يكن إلا عند شيخه السيد الصديقي ولم يزل كذلك إلى عام تسع وأربعين‏.‏

فحن جسمه إلى زيارة شيخه وأنشد لسان حاله‏:‏ أخذتم فؤادي وهو بعضى فما الذي يضركـم لـو كـان عندكـم الكـل فأرسـل إليـه السيـد يدعـوه لزيارتـه فهـام إذ فهـم رمـز إشارتـه وتعلقـت نفسـه بالرحيـل فتـرك الأقراء والتدريس وتقشف وسافر إلى أن وصل بالقرب من بيت المقدس‏.‏

فقيل له إذا دخلت بيت المقدس فأدخل من الباب الفلاني وصل ركعتين وزر محل كذا فقال لهم أنا جئت قاصدا بيـت المقـدس ومـا جئـت قاصـدًا إلا أستـاذي فـلا أدخـل إلا مـن بابـه ولا أصلـي إلا فـي بيتـه‏.‏

فعجبوا لـه فبلـغ السيـد كلامـه فكـان سببًا لإقباله عليه وإمداده ثم سار حتى دخل بيت المقدس فتوجه إلـى بيـت الأستـاذ فقابلـه بالرحـب والسعـة وأفـرد له مكانًا ثم أخذ في المجاهدة من الصلاة والصوم والذكر والعزلة والخلوة قال‏:‏ فبينما أنا جالس في الخلـوة إذا بـداع يدعونـي إليـه فجئـت إليـه فوجـدت بيـن يديـه مائـدة فقال أنت صائم قلت نعم‏:‏ فقال كل فامتثلت أمره وأكلت فقال اسمع ما أقول لك إن كان مرادك صومًا وصلاة وجهادًا أو رياضة فليكن ذلك في بلدك وأما عندنا فلا تشتغل بغيرنا ولا تقيد أوقاتك بما تروم من المجاهدة وإنما يكون ذلك بحسب الاستطاعة وكل واشـرب وانبسـط قـال فامتثلـت إشارتـه ومكثـت عنـد أربعـة أشهـر كأنهـا ساعة غير أني لم أفارقه قط خلوة وجلوة ومنحه في هذه المدة الأسرار وخلع عليه القبول وتوجه بتاج العرفان وأشهد مشاهد الجمع الأول والثاني وفرق له فرق الفرق الثاني فحاز من التداني أسرار المثاني ثم لما انقضـت المـدة أراد العـود إلـى القاهـرة ودعـه ومـا ودعـه وسافـر حتى وصل إلى غزة فبلغ خبره أمير تلك القرية وكانت الطريق مخيفة فوجه مع قافلة ببيرقين من العسكر فساروا فلقيهم في أثناء الطريق أعراب فخافوهم فقالوا لأهل القافلة لا تخافوا فلسنا من قطاع الطريق وإن كنا منهم فلا نقـدر نكلمهـم وهـذا معكـم وأشـاروا إلـى الشيـخ ولـم يزالوا سائرين حتى انتهوا إلى مكان في أثناء الطريـق بعـد مجـاوزة العريـش بنحـو يوميـن فقيـل لهـم أن طريقكـم هذا غير مأمون الخطر ثم تشاوروا فقـال لهـم أعـراب ذلـك المكـان نحـن نسيـر معكـم ونسلـك بكـم طريقـًا غير هذا لكن اجعلوا لنا قدرًا من الدراهم نأخذه منكم إذا وصلتم إلى بلبيس فتوقف الركب أجمعه فقال الأستاذ أنا أدفع لكـم هـذا القـدر هنالـك فقالـوا لا سبيـل إلـى ذلـك كيـف تدفـع أنـت وليس لك في القفل شيء والله ما نأخذ منك إلا إن ضمنت أهل القافلة فقبل ذلك فاتفق الرأي على دفع الدراهم من أرباب التجـارات بضمانـة الشيخ فضمنهم وساروا حتى وصلوا إلى بلبيس ثم منها إلى القاهرة فسرت بـه أتـم سرور وأقبل عليه الناس من حينئذ أتم قبول ودانت لطاعته الرقاب وأخذ العهود على العالم وأدار مجالس الأذكار بالليل والنهار وأحيا طريق القوم بعد دروسهـا وأنقـذ مـن ورطـة الجهل مهجًا من عي نفوسها فبلغ هديه الأقطار كلها وصار في كثير من قرى مصر نقيب وخليفـة وتلامـذة وأتبـاع يذكـرون اللـه تعالـى ولـم يـزل أمـره في ازدياد وانتشار حتى بلغ سائر أقطار الأرض‏.‏

وسار الكبار والصغار والنساء والرجال يذكرون الله تعالى بطريقتـه وصـار خليفـة الوقـت وقطبـه ولـم يبـق ولـي مـن أهـل عصـره إلا أذعـن لـه وحين تصدى للتسليك وأخذ العهود أقبل عليه الناس من كل فج وكان بد الأمر لا يأخذون إلا بالاستخارة والاستشارة وكتابة أسمائهم ونحو ذلك فكثر الناس عليه وكثر الطلب فأخبر شيخه السيد الصديقي بذلك فقال لا تمنع أحدًا يأخذ عنك ولو نصرانيًا من غير شرط وأسلم على يديه الولي الصوفي العالم العلامة المرشد الشيخ أحمد البناء الفوي ثم تلاه من ذكر وغيرهم وكان أستـاذه السيـد يثنـي عليـه ويمدحه ويراسله نظمًا ونثرًا ويترجمه بالأخ ولولا رآه قسيمًا له في الحال ما صدر عنه ذلك المقال حتى أنه قال له يومًا إني أخشى من دعائكم لي بالأخ لأنه خلاف عادة الأشياخ مع المريدين فقال له لا تخش من شيء وامتدحه أشياخه ومعاصروه وتلامذته‏.‏

توفي رضي الله عنه يوم السبت قبل الظهر سابع عشر ربيع الأول سنة 1181 ودفن يوم الأحد بعد أن صلي عليـه فـي الأزهـر فـي مشهـد عظيـم جـدًا وكـان يـوم هـول كبيـر وكـان بيـن وفاته ووفاة الأستاذ الملوي ثلاثة عشر يومًا ومن ذلـك التاريـخ ابتـدأ نـزول البـلاء واختلـال أحـوال الديـار المصريـة وظهـر مصداق قول الراغب أن وجوده أمـان علـى أهـل مصـر مـن نـزول البـلاء وهـذا مـن المشاهـد المحسـوس وذلـك أنـه إذا لـم يكـن فـي النـاس مـن يصـدع بالحـق ويأمـر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقيم الهدى فسد نظام العالم وتنافرت القلوب ومتى تنافرت القلوب نزل البلاء ومن المعلوم المقرر أن صلاح الأمة بالعلمـاء والملـوك وصلـاح الملـوك تابـع لصلـاح العلمـاء وفسـاد اللـازم بفسـاد الملـزوم فما بالك بفقده والرحى لا تدور بدون قطبها وقد كان رحمه الله قطب رحى الديار المصرية ولا يتـم أمـر مـن أمـور الدولـة وغيرهـا إلا باطلاعـه وإذنه ولما شرع الأمراء القائمون بمصر في إخراج التجاريـد لعلـي بـك وصالـح بـك واستأذنـوه فمنعهـم مـن ذلـك وزجرهـم وشنـع عليهم ولم يأذن بذلك كما تقدم وعلموا أنه لا يتم قصدهم بدون ذلك فأشغلوا الأستاذ وسموه فعند ذلك لم يجدوا مانعًا ولا رادعًا وأخرجوا التجاريد وآل الأمر لخذلانهم وهلاكهم والتمثيل بهم وملك علي بك وفعـل مـا بـدا لـه فلـم يجـد رادعًا أيضًا ونزل البلاء حينئذ بالبلاد المصرية والشامية والحجازية ولم يزل يتضاعف حتى عم الدنيا وأقطار الأرض فهذا هـو السـر الظاهـري وهـو لا شـك تابـع للباطنـي وهـو القيام بحق وراثة النبوة وكمال المتابعة وتمهيد القواعد وإقامة أعلام الهدى والإسلام وأحكـام مبانـي التقـوى لأنهـم أمنـاء اللـه فـي العالـم وخلاصـة بنـي آدم أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون‏.‏ ومات

شمـس الكمـال أبـو محمـد الشيـخ عبـد الوهـاب بن زين الدين

بن عبد الوهاب بن الشيخ نور بن بايزيد بن شهاب الدين أحمد بن القطب سيدي محمد بن أبي المفاخر داود الشربيني بمصر ونقلوا جسده إلى شربين ودفن عند جده سامحه الله وتجاوز عن سيآته وتولى بعـده فـي خلافتهم أخوه الشيخ محمد ولهما أخ ثالث اسمه علي وكانت وفاة المترجم ليلة الأحد غرة ذي القعدة سنة 1181‏.‏

ومات الشيخ الإمام العلامة المتقن المتفنن الفقيه الأصولي النحوي الشيخ محمد بـن محمـد بـن موسـى العبيـدي الفارسـي الشافعي وأصله من فارسكور أخذ عن الشيخ علي قايتباي والشيخ الدفري والبشبيشي والنفراوي وكان آية فـي المعـارف والزهـد والـورع والتصـوف وكـان يلقـي دروسًا بجامع قوصون على طريقة الشيخ العزيزي والدمياطي وبآخراته وتوجـه إلـى الحجـاز وجاور به سنة وألقى هناك دروسًا وانتفع به جماعة ومات بمكة وكان له مشهد عظيم ودفن عند السيد خديجة رضي الله عنها‏.‏

ومات الشيخ الإمام العلامة مفيد الطالبين الشيخ أحمد أبو عامر النفراوي المالكي أخذ الفقه عـن الشيـخ سالـم النفـراوي والشيـخ البليدي والطحلاوي والمعقول عنهم وعن الشيخ الملوي والحفني والشيخ عيسى البراوي وبرع في المعقول والمنقول ودرس وأفاد وانتفع به الطلبة وكان درسه حافلًا وله حظوة في كثرة الطلبة والتلاميذ توفي سنة 1181‏.‏

ومات الأمير حسن بك جوجو وجن علي بك وهما من مماليك إبراهيم كتخدا وكان حسن مذبذبـًا ومنافقـًا بيـن خشداشينـه يوالـي هـؤلاء ظاهـرًا وينافـق الآخريـن سـرًا وتعصب مع حسين بك وخليل بك حتى أخرجوا علي بـك إلـى النوسـات ثـم صـار يراسلـه سـرًا ويعلمـه بأحوالهـم وأسرارهـم إلـى أن تحـول إلـى قبلـي وانضـم إلـى صالـح بـك فأخذ يستميل متكلمي الوجاقلية إلى أن كانوا يكتبون لأغراضهم بقبلي ويرسلون المكاتبات في داخل أفصاب الدخان وغيرها وهو مع مـن بمصرفـي الحركـات والسكنـات إلـى أن حضـر علـي بـك وصالـح بـك وكـان هـو ناصبهـا وطاقـه معهـم جهة البساتين فلما أرادوا الارتحال استمر مكانه وتخلف عنهم وبقي مع علي بك بمصر يشار إليه ويروى لنفسه المنة عليه وربما حدثته بالإمارة دونه وتحقق علـي بـك أنـه لا يتمكـن مـن أغراضـه وتمهيـد الأمـر لنفسـه ما دام حسن بك موجودًا فكتم أمره وأخذ يدبر على قتله‏.‏

فبيت مـع أتباعـه محمـد بك وأيوب بك وخشداشينهم وتوافقوا على اغتياله فلما كان ليلة الثلاثاء ثامن مـن شهـر رجـب حضـر حسـن بك المذكور وكذا خشداشه جن علي بك وسرما معه حصة من الليـل ثـم ركبـا فركـب صحبتهمـا محمـد بك وأيوب بك ومماليكهما واغتالوهما في أثناء الطريق كما تقدم‏.‏

ومات الأمير رضوان جربجي الرزاز وأصله مملوك حسن كتخدا ابن الأمير خليل أغا وأصل خليل أغا هذا شاب تركي خردجي يبيع الخردة دخل يومًا من بيت لاجين بك الذي عند السويقـة المعروفـة بسويقة لاجين وهو بيت عبد الرحمن أغا المتخرب الآن وكان ينفذ من الجهتين فـرآه لاجين بك فمال قلبه إليه ونظر فيه بالفراسة مخايل النجابة فدعاه للمقام عنده في خدمته فأجاب لذلك واستمر في خدمته مدة وترقى عنده ثم عينه لسد جسر شرمساح ووعده بالإكـرام إن هـو اجتهـد في سده على ما ينبغي فنزل إليه وساعدته العناية حتى سده وأحكمه ورجع ثم عينه لجبي الخراج وكان لا يحصل له الخراج إلا بالمشقة وتبقى البواقي على البواقي القديمـة في كل سنة فلما نزل وكان في أوان حصاد الأرز فوزن من المزارعين شعير الأرز من المال الجديد البواقي أولًا بأول وشطب جميع ذلك من غير ضرر ولا تأذية وجمعه وخزنه واتفق أنـه غـلا ثمنـه فـي تلـك السنـة غلـوًا زائـدًا عـن المعتـاد فباعـه بمبلـغ عظيـم ورجع لسيده بصناديق المال فقال‏:‏ لا آخذ إلا حقي وأما الربح فهو لك فأخذ قدر ماله وأعطاه الباقي فذهب واشترى لمخدومه جارية مليحة وأهداها له فلم يقبلها وردها إليه وأعطى له البيت الذي بلتنبانة ونزل له عن طصفة وكفرها ومنية تمامه وصار من الأمراء المعدودين فولد لخليل هذا حسن كتخدا ومصطفى كتخدا كانا أميرين كبيرين معدودين بمصر ومماليكه صالح كتخدا وعبد الله جربجي وإبراهيـم جربجي وغيرهم ومن مماليكه حسن حسين جربجي المعروف بالفحل ورضوان جربجي هـذا المترجـم وغيرهمـا أكثـر مـن المائـة أمير‏.‏

وكان رضوان جربجي هذا من الأمراء الخيرين الدينين له مكارم أخلاق وبر ومعروف ولما نفي علي بك عبد الرحمن كتخدا نفاه أيضًا وأخرجه من مصـر‏.‏

ثـم أن عـل يبـك ذهـب يومًا عند سليمان أغا كتخدا الجاويشية فعاتبه على نفي رضوان جربجـي فقـال لـه علـي بك‏:‏ تعاتبني على نفي رضوان جربجي ولا تعاتبني على نفي ابنك عبد الرحمن كتخدا فقال‏:‏ ابني المذكور منافق يسعى في إثارة الفتن ويلقي بين الناس فهو يستاهل وأمـا هـذا فهـو إنسـان طيـب ومـا علمنـا عليـه مـا يشينـه في دينه ولا دنياه فقال‏:‏ نرده لأجل خاطرك وخاطـره ورده ولـم يـزل فـي سيادتـه حتـى مـات علـى فراشـه سادس جمادى الأولى في هذه السنة والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف‏.‏

استهل شهر المحرم بيوم الأربعاء في ثانيه سافرت التجريدة المعينة إلى بحري بسبب الأمراء المتقدم ذكرهم وهم حسين بك وخليل بك ومن معهم وقد بذل جهده علي بك حتى شهل أمرها ولوازمها في أسرع وقت وسافرت يوم الخميس وأميرها وسر عسكرها محمد بك أبو الذهب‏.‏

فلما وصلوا إلى ناحية دجوة وجدوهم عـدوا إلـى مسجـد الخضـر فعـدوا خلفهـم فوجدوهـم ذهبـوا إلـى طندتـا وكرنكـوا بها فتبعوهم إلى هناك وأحاطوا بالبلدة من كل جهة ووقع الحـرب بينهـم فـي منتصـف شهـر المحـرم فلـم يـزل الحـرب قائمـًا بيـن الفريقين حتى فرغ ما عندهم من الجبخانة والبارود فعند ذلك أرسلوا إلى محمد بك وطلبوا منه الأمان فأعطاهم الأمان وارتفع الحـرب مـن بيـن الفريقيـن‏.‏

وكاتبهـم محمـد بـك وخادعهـم والتـزم لهـم بإجـراء الصلـح بينهـم وبيـن مخدومه علي بك فانخدعوا له وصدقوه وانحلت عزائمهم واختلفت آراؤهم‏.‏

وسكن الحال تلك الليلة ثـم أن محمـد بـك أرسـل في ثاني يوم إلى حسين بك يستدعيه ليعمل معه مشورة فحضر عنده بمفـرده وصحبتـه خليـل بـك السكـران تابعـة فقـط‏.‏

فلمـا وصلـوا إلى مجلسه جماعة وقتلوهما وحضر فـي أثرهمـا حسـن بك شبكة ولم يعلم ما جرى لسيده فلما قرب من المكان أحسن قلبه بالشر فـأراد الرجـوع فعاقه رجل سائس يسمى مرزوق وضربه بنبوت فوقع على الأرض فلحقه بعض الجنـد واحتـز رأسه فلما علم بذلك خليل بك الكبير ومن معه ذهبوا إلى ضريح سيدي أحمد البدوي والتجئوا إلى قبره واشتد بهم الخوف وعلموا أنهم لاحقون بإخوانهم فلما فعلوا ذلك لم يقتلوهـم وأرسـل محمـد بـك يستشيـر سيـده فـي أمر خليل ومن معه فأمر بنفيه إلى ثغر سكندرية وخنقـوه بعـد ذلـك بهـا‏.‏

ورجـع محمـد بـك وصالـح بـك والتجريـدة ودخلـوا المدينـة من باب النصر في موكـب عظيـم وأماهـم الـرؤوس محمولـة فـي صـوان مـن فضـة وعدتها ستة رؤوس وهي رأس حسين بك وخليل بك السكران وحسن بك شبكة وحمزة بك واسمعيل بك أبي مدفع وسليمان أغا الوالي وذلك يوم الجمعة سابع عشر المحرم‏.‏

وفـي يـوم الثلاثـاء رابـع عشـر صفـر حضـر نجـاب الحج واطمأن الناس وفي يوم الجمعة سابع عشره وصـل الحجـاج بالسلامـة ودخلوا المدينة وأمير الحاج خليل بك بلغيه وسر الناس بسلامة الحجاج وكانوا يظنون تعبهم بسبب هذه الحركات والوقائع‏.‏

وفي ثامن عشر صفر أخرج علي بك جملة من الأمراء من مصر ونفى بعضهم إلى الصعيد وبعضهم إلى الحجاز وأرسل البعض إلى الفيوم وفيهم محمد كتخدا تابع عبد الله كتخدا وقرا حسن كتخدا وعبد الله كتخدا تابع مصطفى بـاش اختيـار مستحفظـان وسليمـان جاويـش ومحمـد كتخـدا الجردلـي وحسن أفندي الباقرجي وبعض أوده باشية وعلي جربجي وعلي أفندي الشريـف جمليـان‏.‏

وفيـه صرف علي بك مواجب الحامكية‏.‏

وفيه أرسل علي بك وقبض على أولاد سعد الخادم بضريح سيد أحمد البدوي وصادرهم وأخذ منهم أموالًا عظيمة لا يقدر قدرها وأخرجهم من البلدة ومنعهم من سكناها ومن خدمة المقـام الأحمـدي وأرسـل الحـاج حسن عبد المعطي وقيده بالسدنة عوضًا عن المذكورين وشرع في بناء الجامع والقبة والسبيل والقيسارية العظيمة وأبطل منها مظالم أولاد الخادم والحمل والنشالين والحرمية والعيارين وضمان البغايا والخواطئ وغير ذلك‏.‏

وفي تاسع شهر ربيع الأول حضر قابجي من الديار الرومية بمرسوم وقفطان وسيف لعلي بك من الدولة وفيه وصلت الأخبار بموت خليل بك الكبير بثغر سكندرية مخنوقًا‏.‏

وفـي يـوم السـب ثانـي عشـرة نـزل الباشـا إلـى بيـت علـي بـك باستدعائـه فتغـدى عنـده وقـدم له تقادم وهدايا‏.‏

وفـي يـوم الأحـد ثامـن عشـر ربيـع الآخـر اجتمـع الأمـراء بمنـزل علـي بـك علـى العـادة وفيهم صالح بك وقـد كـان علي بك بيت مع أتباعه على قتل صالح بك فلما انقضى المجلس وركب صالح بك ركـب معه محمد بك وأيوب بك ورضوان بك وأحمد بك بشناق المعروف بالجرار وحسن بك العبـداوي وعلـي بـط الطنطـاوي وأحـدق الجميـع بصالح بك ومن خلفهم الجند والمماليك والطوائف فلما وصلوا إلى مضيق الطريق عند المفارق بسويقة عصفور تأخر محمد بك ومن معه عن صالح بك قليلًا وأحدث له محمد بك حماقة مع سائسه وسحب سيفه من غمده سريعًا وضرب صالح بك وسحب الآخرون سيوفهم ما عدا أحمد بك بشناق وكملوا قتلته ووقع طريحًا على الأرض ورمح الجماعة الضاربون وطوائفهم إلى القلعة وعندما رأوا مماليـك صالح بك وأتباعه ما نزل بسيدهم خرجوا على وجوههم ولما استقر الجماعة القاتلون بالقلعة وجلسـوا مـع بعضهـم يتحدثـون عاتبـوا أحمـد بـك بشنـاق فـي عـدم ضربـه معهـم صالـح بك وقالوا له‏:‏ لماذا لم تجرد سيفك وتضرب مثلنا فقال بل ضـرب معكـم فكذبـوه فقـال لـه بعضهـم‏:‏ أرنـا سيفـك فامتنع وقال‏:‏ إن سيفي لا يخرج من غمده لأجل الفرجة ثم ستوا وأخذ في نفسه منهم وعلـم أنهـم سيخبـرون سيدهـم بذلـك فـلا يأمـن غائلتـه وذلـك أن أحمـد بك هذا لم يكن مملوكًا لعلي بـك وإنمـا كـان أصلـه مـن بلـاد بشنـاق حضـر إلـى مصـر فـي جملـة أتبـاع علـي باشـا الحكيـم عندمـا كان واليـًا علـى مصـر فـي سنـة 1169‏.‏

فأقـام في خدمته إلى سنة 1171‏.‏

وتلبس صالح بك بإمارة الحـج فـي ذلـك التاريـخ فاستـأذن أحمـد بك المذكور علي باشا في الحج وأذن له فحج مع صالح بك وأكرمه وأحبه وألبسه زي المصريين ورجع صحبته وتنقلت به الأحوال وخدم عند عبد اللـه بـك علـي ثـم خـدم عنـد علـي بـك فأعجبـه شجاعتـه وفروسيتـه فرقـاه فـي المناصـب حتـى قلده الصنجقيـة وصـار مـن الأمراء المعدودين‏.‏

فلم يزل يراعي منة صالح السابقة عليه فلما عزم علي بـك علـى خيانـة صالـح بك السابقة وغدره خصصه بالذكر وأوصاه أن يكون أول ضارب فيه لما يعلمـه فيـه مـن العصبيـة لـه فقيـل لـه أن أحمـد بـك أسر ذلك إلى صالح بك وحذره غدر علي بك إياه فلم يصدقه لما بينهما من العهود والأيمان والمواثيق ولم يحصل منه ما يوجـب ذلـك ولـم يعارضـه في شيء ولم ينكر عليه فعلًا‏.‏

فلما اختلى صالح بك بعلي بك أشار إليه بما بلغه فحلف له علي بك بأن ذلك نفاق من المخبر ولم يعلم من هو فلما حصل ما حصل ورأى مراقبة الجماعة له ومناقشتهم له عند استقرارهم بالقلعة تخيل وداخله الوهم وتحقق في ظنه تجسم القضية فلما نزلوا من القلعة وانصرفوا إلى منازلهم تفكر تلك الليلـة وخـرج مـن مصـر وذهب إلى الإسكندرية وأوصى حريمه بكتمان أمره ما أمكنهم حتى يتباعد عن مصر فلما تأخـر حضوره بمنزل علي بك وركوبه سألوا عنه فقيل له أنه متوعك فحضر إليه في ثاني يوم محمـد بـك ليعـوده وطلـب الدخـول إليـه فلـم يمكنهـم منعـه فدخـل إلـى محـل مبيتـه فلم يجده في فراشه فسألـه عنه حريمه فقالوا لا نعلم له محلًا ولم يأذن لأحد بالدخول عليه وفتشوا عليه فلم يجدوه وأرسـل علي بك عبد الرحمن أغا وأمره بالتفتيش عليه وقتله فأحاط بالبيت وفتش عليه في البيـت والخطـة فلـم يجـده وهـو قـد كـان هـرب ليلـة الواقعـة فـي صـورة جزائرلـي مغربـي وقصقـص لحيتـه وسعى بمفرده إلى شلقان وسافر إلى بحري ووصل السعاة بخبره لعلي بك بأنه بالإسكندرية فأرسل بالقبض عليه فوجدوه نزل بالقبطانة واحتمى بها وكان من أمره ما كان بعد ذلك كما سيأتـي وهـو أحمـد باشا الجزار الشهير الذكر الذي تملك عكا وتولى الشام وإمارة الحج الشامي وطار صيته في الممالك‏.‏

وفيه عين علي بك تجريدة على سويلم بن حبيب وعرب الجزيرة فنزل محمد بك بتجريدة إلى عرب الجزيـرة وأيـوب بـك إلـى سويلـم فلمـا ذهـب أيـوب بـك إلـى دجـوة فلـم يجـد بهـا أحـدًا وكـان سويلـم بائتًا في سند نهور وباقي الحبايبة متفرقين في البلاد فلما وصله الخبر ركب من سند نهور وهـرب بمـن معـه إلـى البحيـرة والتجأ إلى الهنادي‏.‏

ونهبوا دوائره ومواشيه وحضروا بالمنهوبات إلى مصر واحتج عليه بسبب واقعة حسين بك وخليل بك لما أتيا إلى دجوة بعد واقعة الديرس والجراح قدم لهم التقادم وساعدهم بالكلف والذبائح ونحو ذلك والغرض الباطني اجتهاده في وفـي يـوم الاثنيـن تاسع عشرة أمر علي بك بإخراج علي كتخدا الخربطلي منفيًا وكذلك يوسف كتخدا مملوكه ونفي حسن أفندي درب الشمسي وأخوته إلى السويس ليذهبوا إلـى الحجـاز وسليمـان كتخـدا الجلفـي وعثمـان كتخـدا عزبـان المنفوخ وكان خليل بك الأسيوطي بالشرقية فلما سمع بقتل صالح بك هرب إلى غزة‏.‏

وفـي يـوم الأحد خامس جمادى الأولى طلع علي بك إلى القلعة وقلد ثلاثة صناجق من أتباعه وكذلك وجاقلية وقلد أيوب بك تابعه ولاية جرجا وحسن بك رضوان أمير حج وقلد الوالي‏.‏

وفي جمادى الآخرة قلد اسمعيل بك الدفتر دارية وصرف المواجب في ذلك اليوم‏.‏

وفي منتصف شهر رجب وصل أغا من الديا الرومية وعلى يده مرسوم بطلب عسكر للسفر فاجتمعـوا بالديـوان وقرأوا المرسوم وكان علي بك أحضر سليمان بك الشابوري من نفيه بناحية المنصورة وكان منفيًا هناك من سنة 1172‏.‏

وفـي يـوم الثلاثـاء عملـوا الديـوان بالقلعـة ولبسـوا سليمان بك الشابوري أمير السفر الموجه إلى الروم وأخذوا في تشهيله وسافر محمد بك أبو الذهب بتجريدة ومعه جملة من الصناجق والمقاتلين لمنابذة شيخ العرب همام فلما قربوا من بلاده ترددت بينهم الرسل واصطلحوا معه على أن يكـون لشيـخ العـرب همـام من حدود برديس ولا يتعدى حكمه لما بعده‏.‏

واتفقوا على ذلكثم بلغ شيخ العرب أنه ولد لمحمد بك مولود فأرسل له بالتجاوز عن برديس أيضًا إنعامًا منه للمولود ورجـع محمـد بـك ومـن معه إلى مصر‏.‏

وفيه قبض علي بك على الشيخ أحمد الكتبي المعروف بالسقـط وضربـه علقـة قويـة وأمـر بنفيـه إلـى قبـرص فلمـا نـزل إلى البحر الرومي ذهب إلى اسلامبول وصاهـر حسـن أفنـدي قطـه مسكيـن النجـم وأقام هناك إلى أن مات وكان المذكور من دهاة العالم يسعى في القضايا والدعاوى يحيي الباطل ويبطل الحق بحسن سبكه وتداخله‏.‏

وفي سابع عشرة حصلت قلقة من جهة والي مصر محمد باشا وكان أراد أن يحدث حركة فوشـي بـه كتخـداه عبـد اللـه بـك إلـى علـي بـك فأصبحـوا وملكوا الأبواب والرملية والمحجر وحوالي القلعـة وأمـروه بالنـزول فنـزل مـن بـاب الميـدان إلـى بيـت أحمد بك كشك وأجلسوا عنده الحرسجية‏.‏

وفي يوم الأحد غرة شعبان تقلد علي بك قائمقامية عوضًا عن الباشا‏.‏

وفي يوم الخميس أرسل علي بك عبد الرحمن أغا مستحفظان إلى رجل من الأجناد يسمى اسمعيـل أغـا من القاسمية وأمره بقتله وكان اسمعيل هذا منفيًا جهة بحري وحضر إلى مصر قبل ذلك وأقام ببيته جهة الصليبة‏.‏

وكان مشهورًا بالشجاعة والفروسية والإقدام فلما وصل الأغا حـذاء بيتـه وطلبـه ونظـر إلـى الأغـا واقفـًا بأتباعه ينتظره علم أنه يطلبه ليقتله كغيره لأنه تقدم قتله لأنـاس كثيرة على هذا النسق بأمر علي بك فامتنع من النزول وأغلق باباه ولم يكن عنده أحد سوى زوجته وهي أيضًا جارية تركية‏.‏

وعمر بندقيته وقرابينته وضرب عليهم فلم يستطيعوا العبور إليه من الباب وصارت زوجته تعمر له وهو يضرب حتى قتل منهم أناسـًا وانجـرح كذلـك واستمـر علـى ذلـك يوميـن وهـو يحـارب وحـده‏.‏

وتكاثروا عليه وقتلوا منن أتباعه وهو ممتنع عليهم إلى أن فرغ منه البارود والرصاص ونادوه بالأمان فصدقهم ونزل من الدرج فوقف له شخص وضربه وهو نازل من الدرج وتكاثروا عليه وقتلوه وقطعوا رأسه ظلمًا رحمـه اللـه تعالى‏.‏

وفي تاسع عشره صرفت المواجب على الناس والفقراء‏.‏

وفي ثامن عشرينه خرج موكب السفر الموجه إلى الروم في تجمل زائد‏.‏

وفـي عاشـر رمضـان قبض علي بك على المعلم اسحق اليهودي معلم الديوان ببولاق وأخذ منه أربعيـن ألـف محبـوب ذهـب وضربـه حتـى مات وكذلك صادر أناسًا كثيرة في أموالهم من التجار مثل العشوبي والكمين وغيرهما وهو الذي ابتدع المصادرات وسلب الأموال من مبادي ظهوره واقتدى به من بعده‏.‏

وفي شوال هيأ علي بك هدية حافلة وخيولًا مصرية جيادًا وأرسلها إلى اسلامبول للسلطان ورجـال الدولـة وكـان المتسفـر بذلـك إبراهيـم أغـا سـراج باشـا وكتـب مكاتبـات إلـى الدولة ورجالها والتمس من الشيخ الوالـد أن يكتـب لـه أيضـًا مكاتبـات لمـا يعتقـده مـن قبـول كلامـه وإشارته عندهم ومضمون ذلك الشكوى من عثمان بك بن العظم والي الشام وطلب عزله عنها بسبب انضمام بعض المصريين المطرودين إليه ومعاونته لهم وطلب منه أن يرسل من طرفه أناسًا مخصوصين فأرسل الشيخ عبـد الرحمـن العريشـي ومحمـد أفنـدي البردلـي فسافـروا مـع الهدية وغرضه بذلك وضع قدمه بالقطر الشامي أيضًا‏.‏

وفي ثاني عشر ذي القعدة رسم بنفي جماعة من الأمراء أيضًا وفيهم إبراهيم أغا الساعي اختيارية متفرقة واسمعيل أفندي جاويشان وخليل أغا باش جاويشـان جمليـان وباشجاويـش تفكجيـان ومحمـد أفنـدي جراكسـة ورضـوان والزعفرانـي فأرسـل منهـم إلـى دميـاط ورشيـد وإسكندريـة وقبلـي وأخذ منهم دراهم قبل خروجهم واستولى على بلادهم وفرقها في أتباعه وكانت هذه طريقته فيمن يخرجه يستصفي أموالهم أولًا ثم يخرجهم ويأخذ بلادهم وأقطاعهم فيفرقها على مماليكه وأتباعه الذين يؤمرهم في مكانهم ونفى أيضًا إبراهيم كتخدا جدك وابنه محمدًا إلى رشيد وكان إبراهيم هذا كتخداه ثم عزله وولاه الحسبة فلما نفاه ولى مكانه في الحسبة مصطفى أغا والله أعلم‏.‏

مـات الإمـام الفقيـه المحـدث الأصولـي المتكلم شيخ الإسلام وعمدة الأنام الشيخ أحمد بن الحسن بن عبد الكريم بن محمد بن يوسف بن كريم الدين الكريمي الحالدي الشافعي الأزهري الشهير بالجوهري وإنما قيل له الجوهري لأن والده كان يبيع الجوهر فعرف به ولد بمصر سنة 1096 واشتغـل بالعلـم وجـد في تحصيله حتى فاق أهل عصره ودرس بالأزهر وأفتى نحو ستين سنة مشايخه كثيرون منهم الشهاب أحمد بن الفقيه ورضوان الطوخي إمام الجامع الأزهر والشيخ منصـور المنوفـي والشهـاب أحمـد الخليلـي والشيـخ عبـد ربـه الديـوي والشيـخ عبـد الـرؤوف البشبيشي والشيـخ محمـد أبو العز العجمي والشيخ محمد الاطفيحي والشيخ عبد الجواد المخلي الشافعيون والشيخ محمد السجلماسي والشيخ أحمد النغراوي والشيخ سليمان الحصيني والشيخ عبد الله الكنكسـي والشيـخ محمـد الصغيـر الـورزازي وابن زكري والشيخ أحمد الهشتوكي والشيخ سليمان الشبرخيتي والسيد عبد القادر المغربي ومحمد القسطنطيني ومحمد النشرتي الماليكيون ورحل إلى الحرمين في سنة 1120 فسمع من البصري والنخلي في سنة 1124 ثم في سنة 1130 وحمل في هذه الرحلات علومًا جمة أجازه مولاي الطيب بن مولاي عبد الله الشريف الحسيني وجعلـه خليفـة بمصـر ولـه شيـوخ كثيـرون غيـر مـن ذكـرت وقد وجدت في بعض إجازاته تفصيل ما سمعـه مـن شيوخـه مـا نصـه علـى البصري والنخلي أوائل الكتب الستة والإجازة العامة مع حديث الرحمة بشرطه وعلى الاطفيحي بعض كتب الفقه والحديث والتصوف والإجازة العامة وعلى السجلماسي في سنة 1126 الكبرى للسنوسـي ومختصـره المنطقـي وشرحـه وبعـض تلخيـص القرزويني وأول البخاري إلى كتاب الغسل وبعض الحكم العطائية وأجازه علي بن زكري أوائل الستة وأجازه وعلـى الكنكسـي الصحيـح بطرفيـه وشـرح العقائـد للسعـد وعقائـد السنوسـي وشروحها وشرح التسهيل لابن مالك إلى آخره وشرح الألفية للمكوي والمطول بتمامه وشرح التلخيص وعلى الهشتوكي الإجازة بسائرها وعلى النفراوي شرح التلخيص مرارًا وشرح ألفية المصطلح وشرح الورقات وعلي الديوي شرح المنهج لشيخ الإسلام مرارًا وشرح التحرير وشرح ألفيـة ابـن الهائـم وشـرح التلخيـص وشـرح ابن عقيل على الألفية وشرح الجزرية وعلى المنوفي جمع الجوامـع وشرحه للمحلى وشرح التلخيص وعلى ابن الفقيه شرح التحرير وشرح الخضيب مرارًا وشرح العقائد النسفية وشرح التلخيص والخبيصي وعلى الطوخي شرح الخطيب وابن قاسم مـرارًا وشرح الجوهرة لعبد السلام وعلي الخليفي البخاري وشرح التلخيص والاشموني والعصـام وشـرح الورقـات وعلـي الحصينـي شـرح الكبـرى للسنوسـي بتمامه وعلى الشبرخيتي شرح الرحبيـة وشرح الأجرومية وغيرهما وعلى الورزازي شرح الكبرى بتمامه مرارًا وشرح الصغرى وشرح مختصر السنوسي والتفسير وغيره وعلي البشبيشي المنهج مرارًا وجمع الجوامع مرارًا والتلخيص وألفية المصطلح والشمائل وشرح التحرير لزكريا وغيره هذا نص ما وجدته بخطه‏.‏

واجتمع بالقطب سيدي أحمد بن ناصر فأجازه لفظًا وكتابة وممن أجازه أبو المواهب البكري وأحمـد البنـاء وأبـو السعـود الدنجيهـي وعبـد الحـي الشرنبلالي ومحمد بن عبد الرحمن المليجي وفي الحرميـن عمـر بـن عبـد الكريـم الخلخالـي حضـر دروسـه وسمع منه المسلسل بالأولية بشرطه وتوجه بآخرته الحرمين بأهله وعياله وألقى الدروس وانتفع به الواردون ثم عاد إلى مصر فانجمع عن الناس وانقطع في منزله يزار ويتبرك به ولن تآليف منها منقذة العبيد عن ربقة التقليد في التوحيد وحاشية علي عبد السلام ورسالة في الأولية وأخرى في حياة الأنبياء في قبورهم وأخرى في الغرانق وغيرها وكانت وفاته وقت الغروب يوم الأربعاء ثامن جمادى الأولى وجهز بصباحه وصلي عليه بالجامع الأزهر بمشهد حافل ودفن بالزاوية القادرية داخل درب شمس الدولة رحمه الله‏.‏

ومات الأمير العلامة والحبر الفهامة الفقيه الدراكة الأصولي النحو شيخ الإسلـام وعمـدة ذوي الأفهام الشيخ عيسى بن أحمد بن عيسى بن محمد الزبيري البراوي الشافعي الأزهري ورد الجامـع الأزهـر وهـو صغيـر فقـرأ العلم على مشايخ وقته وتفقه على الشيخ مصطفى العزيزي وابن الفقيه وحضر دروس الملوي والجوهري والشبراوي وأنجب وشهد له بالفضل أهل عصره وقرأ الدروس في الفقه وأحدقت به الطلبة واتسعت حلقته واشتهر بحفظ الفروع لفقهية حتى لقب بالشافعي الصغير لكثرة استحضاره في الفقه وجودة تقريره وانتفع به طلبة العصر طبقة بعد طبقة وصاروا مدرسين وروى الحديث عن الشيخ محمد الدفري وكان حسن الاعتقـاد فـي الشيخ عبد الوهاب العفيفي وفي سائر الصلحاء‏.‏

وله مؤلفات مقبولة منها حاشية على شرح الجوهـرة فـي التوحيـد وشـرح علـى الجامـع الصغيـر للسيوطـي فـي مجلـد يذكـر فـي كـل حديـث مـا يتعلـق بالفقه خاصة ولا زال يملي ويفيد ويدرس ويعيد حتى توفي سحر ليلة الاثنين رابع رجب وجهـز فـي صباحـه وصلـي عليـه بالأزهـر بمشهـد حافـل ودفـن بالمجاوريـن وبنـي علـى قبـره مزار ومقام واستقـر مكانـه فـي التصـدر والتدريـس ابنـه العلامـة الشيخ أحمد ولازم حضوره تلامذة أبيه رحمه الله‏.‏

ومات الإمام العلامة الفقيه واللوذعي الذكي النبيه عمدة المحققين ومفتي المسلمين حسن بن نور الدين المقدسي الحنفي الأزهري تفقه على شيخ وقته الشيخ سليمان المنصوري والشيخ محمد عبـد العزيـزي الزيـادي وحضـر دروس الشيـخ مصطفـى العزيـزي والسيـد علـي الضريـر والملـوي والجوهري والحفني والبليدي وغيرهم ودرس بالجامع الأزهر في حياة شيوخه ولما بنى الأمير عثمان كتخدا مسجده بالأزبكية جعله خطيبًا وإمامًا به وسكن في منزل قرب الجامع وراج أمره ولما شعر فتوى الحنفية بموت الشيخ سليمان المنصوري جعل شيخ الحنفية بعناية عبد الرحمـن كتخـدا وكـان لـه به ألفة ثم ابتنى منزلًا نفيسًا مشرفًا على بركة الأزبكية بمساعدة بعض الأمـراء واشتهـر أمره ودرس بعدة أماكن كالصرغقشية المشروطة لشيخ الحنفية والمدرسة المحموديـة والشيـخ مطهر وغيرها وألف متنًا في فقه المذهب ذكر فيه الراجح من الأقوال واقتنى كتبًا نفيسة بديعة الأمثال وكان عنده ذوق وألفة ولطافة وأخلاق مهذبة توفي يوم الجمعة ثامن عشر جمادى الآخرة‏.‏

ومات الإمام العلامة أحد أذكياء العصر ونجباء الدهر الشيخ محمد ابن بدر الدين الشافعي سبط الشمس الشرنبابلي ولد قبل القرن بقليل وأجازه جده وحضر بنفسه على شيوخ وقته كالشيخ عبد ربه الديوي والشيخ مصطفى العزيزي وسيدي عبد الله الكنكسي والسيد علي الحنفـي والشيـخ الملـوي فـي آخريـن وباحـث وناصـل وألـف وأفـاد ولـه سليقة في الشعر جيدة وكلامه موجـود بيـن أيـدي النـاس ولـه ميـل لعلـم اللغـة ومعرفـة بالأنسـاب غيـر أنه كان كثير الوقيعة في الشيخ محـي الديـن ابـن عربـي قدس الله سره وألف عدة رسائل في الرد عليه وكان يباحث بعض أهل العلم فيما يتعلق بذلك فينصحونه ويمنعونه من الكلام فيذلك فيعترف تارة وينكر أخرى ولا يثبـت علـى اعترافـه وبلغنـي أنـه لـف مـرة رسالـة فـي الـرد عليـه فـي ليلـة مـن الليالـي ونـام فاحتـرق منزلـه بالنـار واحترقـت تلـك الرسالـة من جملة ما احترق من الكتب ومع ذلك فلم يرجع عما كان عليه من التعصب وربما تعصب لمذهبه فيتكلم في بعض مسائل مع الحنفية ويرتب عليها أسئلة ويغـض عنهـم ولمـا كـان عليـه مما ذكر لم يخل حاله عن ضيق وهيئته عن رثاثة توفي المترجم في المحرم افتتاح السنة وصلي عليه بالأزهر ودفن بالقرافة عند جده لامه رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الجناب الأمجد والملاذ الأوحد حامل لواء علم المجد وناشره وجالب متاع الفضل وتاجره السيـد أحمـد بـن اسمعيـل بـن محمـد أبـو الإمـداد سبـط بنـي الوفي والده وجده من أمراء مصر وكذا أخـوه لأبيـه محمـد وكل منهم قد تولى الإمارة والمترجم أمه هي ابنة الأستاذ سيدي عبد الخالق بـن وفـي ولـد بمصـر ونشـأ فـي حجـر أبويـه فـي عفـاف وحشمـة وأبهة وأحبه الناس لمكان جده لأمه المشار إليه مع جذب فيه وصلاح وتولى نقابة السادة الأشراف سنة 1168 ثم تولى الخلافة الوفائيـة بعد وفاة السيد أبي هادي فنزل عن النقابة للسيد محمد أفندي الصديقي وقنع بخلافة بيتهم وكان إنسانـًا حسنـًا بهيـًا ذا تـؤدة ووقـار وفيـه قابليـة لـإدراك الأمـور الدقيقـة والأعمـال الرياضية وهو الذي حمل الشيخ مصطفى الخياط الفلكي على حساب حركة الكواكب الثابتة وأطوالها وعروضها ودرجات ممرها ومطالعها لما بعد الرصد الجديد إلى تاريخ وقته وهي من مآثره مستمرة المنفعة لمدة من السنين واقتنى كثيرًا من الآلات الهندسية الأدوات الرسمية رغب فيها وحصلها بالأثمان الغالية وهو الذي أنشأ المكان اللطيـف المرتفـع بدارهـم المجـاور للقاعـة الكبير المعروفة بأم الأفراح المطل على الشارع المسلوك وما به من الرواشن المطلة على حوش المنزل والطريق وما به من الخزائن والخورنقات والرفارف والشرفات والرفوف الدقيقـة الصنعـة وغيـر ذلـك وهـو الـذي كنى الفقير بأبي العزم وذلك في سنة 1177 برحاب أجدادهم يوم المولد النبـوي المعتـاد وتوفـي فـي سابـع المحـرم سنـة تاريخـه وصلـي عليـه بالجامـع الأزهـر بمشهد حافل ودفن بتربة أجدادهم نفعنا الله بهم وأمدنا من أمدادهم‏.‏

وتولى الخلافة بعده مسك ختامهم ومهبط وحي أسرارهم نادرة الدهر وغرة وجه العصر الإمام العلامة واللوذعي الفهامة مـن مصابيـح فضله مشارق الأنوار السيد شمس الدين محمد أبو الأنوار نسأل الله لحضرته طول البقاء ودوام العز والارتقاء آمين‏.‏ ومات

الإمام العلامة الفقيه النبيه شيخ الإسلام وعمدة الأنام

الشيخ عبد الرؤوف بن محمد بن عبـد الرحمـن بـن أحمـد السجينـي الشافعـي الأزهـري شيـخ الأزهر وكنيته أبو الجود أخذ عن عمه الشمـس السجينـي ولازمـه وبـه تخـرج وبعـد وفاته درس المنهج موضعه وتولى مشيخة الأزهر بعد الشيـخ الحفنـي وسـار فيهـا بشهامـة وصرامة إلا أنه لم تطل مدته وتوفي رابع عشر شوال وصلي عليه بالأزهر ودفن بجوار عمه بأعلى البستان واتفق أنه وقعت له حادثة قبل ولايته على مشيخـة الجامـع بمـدة وهـي التـي كانـت سببـًا لاشتهار ذكره بمصر وذلك أن شخصًا من تجار خان الخليلي تشاجر مع رجل خادم فضربه ذلك الخادم وفر من أمامه فتبعه هو وآخرون من أبناء جنسه فدخل إلى بيت الشيخ المترجم فدخل خلفه وضربه برصاصة فأصابت شخصًا من أقارب الشيخ يسمى السيد أحمد فمات وهرب الضارب فطلبوه فامتنع عليهم ونعصب معه أهل خطته وأبناء جنسه فاهتم الشيخ عبد الرؤوف وجمع المشايخ والقاضي وحضر إليهـم جماعـة مـن أمراء الوجاقلية وانضم إليهم الكثير من العامة وثارت فتنة أغلق الناس فيها الأسواق والحوانيت واعتصم أهل خان الخليلي بدائرتهم وأحاط الناس بهم من كل جهة وحضر أهل بولـاق وأهل مصر القديمة وقتل بين الفريقين عدة أشخاص واستمر الحال على ذلك أسبوعًا ثم حضـر علـي بـك أيضـًا وذلـك فـي مبـادي أمره قبل خروجه منفيًا واجتمعوا بالمحكمة الكبرى وامتلأ حوض القاضي بالغوغاء والعامة وانحط الأمر على الصلح وانفض الجمع ونودي في صبحهـا بالأمان وفتح الحوانيت والبيع والشراء وسكن الحال‏.‏

ومات الشيخ الصالح الخير الجواد أحمد بن صلاح الدين الدنجيهـي الدمياطـي شيـخ المتبوليـة والناظر على أوقافها كان رجلًا رئيسًا محتشمًا صاحب إحسان وبر ومكارم أخلـاق وكـان ظلًا ظليلًا على الثغر يأوي إليه الواردون فيكرمهم ويواجههم بالطلاقة والبشر التام مع الإعانة والإنعام ومنزله مجمع للأحباب ومورد لائتناس الأصحاب وتوفي يوم السبـت ثانـي عشـر ذي الحجة عن ثمانين سنة تقريباص‏.‏

ومـات الإمـام الفاضـل أحـد المتصدريـن بجامع بن طولون الشيخ أحمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمـد بـن عامـر العطاشـي الفيومـي الشافعـي كـان لـه معرفـة في الفقه والمعقول والأدب بغني أنه كان يخبر عن نفسه أنه يحفظ اثني عشر ألف بيت من شواهد العربية وغيرها وأدرك الأشياخ المتقدمين وأخذ عنهم وكان إنسانًا حسنًا منور الوجه والشيبة ولديه فوائد ونوادر مات في سادس جمادى الثانية عن نيف وثمانين سنة تقريبًا غفر الله له‏.‏

ومات الأمير خليل بك القازدغلي أصله من مماليك إبراهيك كتخدا القازدغلي وتقلد الإمارة والصنجقيـة بعـد مـوت سيـده وبعـد قتـل حسيـن بـك المعـروف بالصابونجـي وظهـر شأنـه فـي أيام علي بـك الغزاوي وتقلد الدفتر دارية ولما سافر علي بك أميرًا بالحج في سنة ثلاث وسبعين جعله وكيـلًا عنـه فـي رياسـة البلـد ومشيختهـا وحصـل مـا حصـل مـن تعصبهـم علـى علي بك وهروبه إلى غـزة كمـا تقـدم وتقلبـت الأحـوال فلمـا نفـي علـي بـك جن في المرة الثانية كان هو المتعين للإمارة مع مشاركة حسين بك كشكش فلما وصل علي بك وصالح بك على الصورة المتقدمة هرب المترجم مع حسين بك وباقي جماعتهم إلى جهة الشام ورجعوا في صورة هائلة وجرد عليهم علي بك وكانت الغلبة لهم على المصريين فلم يجسروا على الهجوم كما فعل علي بك وصالح بك‏.‏

فلو قدر الله لهم ذلك كان هو الرأي فجهز علي بك على الفور تجريدة عظيمة وعليهم محمـد بـك أبـو الذهـب وخشداشينـه فخرجـوا لهـم وعـدوا خلفهـم ولحقوهـم إلى طندتا فحاصروهم بها وحصل ما حصل من قتل حسين بك ومن معه والتجأ المترجم إلى ضريح سيدي أحمد البدوي فلم يقتلوه إكرامًا لصاحب الضريح‏.‏

وأرسل محمد بك يخبر مخدومه ويستشيره في أمره فأرسـل غليـه بتأمينـه وإرسالـه إلـى ثغـر سكندريـة ثم أرسل بقتله فقتلوه بالثغر خنقًا ودفن هنا‏.‏

وكان أميرًا جليلًا ذا عيل ورياسة وأما الظلم فهو قدر مشترك في الجميع‏.‏

ومات أيضًا الأمير حسين بك كشكش القازدغلي وهو أيضًا من مماليك إبراهيم كتخدا وهو أحـد مـن تآمـر فـي حياة أستاذه وكان بطلًا شجاعًا مقدامًا مشهورًا بالفروسية وتقلد إمارة الحج أربـع مـرات آخرهـا سنـة 1176 ورجع أوائل سنة 1177 ووقع له مع العبر ما تقدم الالماع به في الحوادث السابقة وأخافهم وهابوه حتى كانوا يخوفـون بذكـره أطفالهـم وكذلـك عربـان الأقاليـم المصرية‏.‏

وكان أسمر جهوري الصوت عظيم اللحيـة يخالطهـا الشيـب يميـل طبعـه إلـى المـزاح والخدعة وإذا لم يجد من يمازجه في حال ركوبه وسيره مازح سواسه وخدمه وضاحكهم‏.‏

وسمعتـه مـرة يقـول لبعضهـم مثـلًا سائـرًا ونحـو ذلـك‏.‏

وكـان له ابن يسمى فيض الله كريم العين فكان يكنـى بـه‏.‏

قتـل المترجـم بطندتـا وأتـى برأسـه إلـى مصـر كما تقدم ودفن هناك وقبره ظاهر مشهور ودفن أيضًا معه مملوكه حسن بك شبكة وخليل بك السكران وكانا أيضًا يشبهان سيدهما في الشجاعة والخلاعة‏.‏

ومات الأمير الكبير الشهير صالح بك القاسمي وأصله مملوك مصطفى بك المعروف بالفرد ولما مات سيده تقلد الإمارة عوضه وجيش عليه خشداشينه واشتهر ذكره وتقلد إمارة الحج في سنـة 1172 كما تقدم في ولاية علي باشا الحكيم وسار أحسن سير ولبسته الرياسة والإمارة والتزم ببلاد أسيـاده وإقطاعاتهـم القبليـة هـو وخشداشينـه وأتباعهـم وصـار لهـم نمـاء عظيـم وامتزجوا بهوارة الصعيد وطباعهم ولغتهم ووكله شيخ العرب همام في أموره بمصر وأنشأ داره العظيمة المواجهة للكبش ولم يكن لها نظير بمصر‏.‏

ولما نما أمر علي بك ونفي عبد الرحمن كتخـدا إلـى السويـس كـان المترجـم هـو المتسفـر عليـه وأرسـل خلفـه فرمانـًا بنفيـه إلى غزة ثم نقل منها إلـى رشيـد ثـم ذهـب مـن هنـاك إلـى الصعيـد من ناحية البحيرة وقام بالمنية وتحصن بها وجرى ما جرى من توجيه المحاربين إليه وخروج علي بك منفيًا وذهابه إلى قبلي وانضمامه إلى المذكور كما تقدم بعد الأيمان والعهود والمواثيق وحضوره معه إلى مصر على الصورة المذكورة آنفًا وقد ركـن إليـه وصـدق مواثيقـه ولـم يخرج عن مزاجه ولا ما يأمر به مثقال ذرة وباشر قتال حسين بك كشكـش وخليـل بـك ومـن معهمـا مـع محمـد بـك كمـا ذكر آنفًا كل ذلك في مرضاة علي بك وحسن ظنه فيه ووفائه بعهده إلى أن غدر به وخانه وقتله كما ذكر‏.‏

وخرجت عشيرته وأتباعه من مصـر علـى وجوههم منهم من ذهب إلى الصعيد ومنهم من ذهب إلى جهة بحري‏.‏

وكان أميرًا جليـلًا مهيبـًا ليـن العريكـة يميـل بطبعـه إلـى الخيـر ويكـره الظلـم سليـم الصـدر ليـس فيه حقد ولا يتطلع لما في أيدي الناس والفلاحين ويغلق ما عليه وعلى أتباعه وخشداشينه من المال والغلا الميرية كيلًا وعينًا سنة بسنة وقورًا محتشمًا كثير الحياء وكانت إحدى ثناياه مقلوعة فإذا تكلم مع أحـد جعـل طـرف سبابتـه على فمه ليسترها حياء من ظهورها حتى صار ذلك عادة له‏.‏

ولما بلـغ شيـخ العـرب همـام موتـه اغتـم عليـه غمـًا شديـدًا وكـان يحبـه محبة أكيدة وجعله وكيله في جميع مهماته وتعلقاته بمصر ويسدد له ما عليه من الأموال الميرية والغلال‏.‏

ولما قتل الأمير صالح بك أقام مرميًا تجاه الفرن الذي هناك حصة ثم أخذوه في تابوت إلى داره وغسلوه وكفنوه ودفنوه بالقرافة رحمه الله‏.‏

ومات وحيد دهره في المفاخر وفريد عصره في المآثر نخبة السلالة الهاشمية وطراز العصابة المصطفوية السيد جعفر بن محمد البيتي السقاف باعلوي الحسيني أديب جزيرة الحجاز ولد بمكة وبها أخذ عن النخلي والبصري وأجيز بالتدريس فدرس وأفاد‏.‏

واجتمع إذ ذاك بالسيد عبد الرحمن العيدروس وكل منهما أخذ عن صاحبه وتنقلت به الأحوال فولي كتابة الينبع ثم وزارة المدينة وصار إمامًا في الـأدب يشـار إليـه بالبنـان وكلامـه العـذب يتناقلـه الركبـان ولـه ديـوان شعـر جمعـه لنفسـه ولـه مدائـح وقصائد وغزليات كلها غرر محشوة بالبلاغة تدل على غزارة علمه وسعة اطلاعه‏.‏

توفي بهذه السنة بالمدينة المنورة‏.‏

سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف فيها في المحرم أخرج علي بك عثمان أغا الوكيل من مصر منفيًا إلى جهة الشام وكذلك أحمد أغـا أغـات الجوالـي وأغـات الضربخانـة إلـى جهـة الـروم‏.‏

وكان أحمد أغا هذا رجلًا عظيمًا ذا غنية كبيرة وثروة زائدة فصادره علي بـك فـي مالـه وأمـره بالخـروج مـن مصـر فأحضـر المطربازيـة والدلالين والتجار وأخرج متاعه وذخائره وباعها بسوق المزاد بينهم فبيع موجـوده مـن أمتعـة وثياب وجواهر وتحف وأسلحة وكتب وأشياء نفيسة وهو ينظر إليها ويتحسر ثم سافر إلى جهة الإسكندرية‏.‏

وفيهـا توفي محمد باشا الذي كان بقصر عبد الرحمن كتخدا بشاطئ النيل ولعله مات مسمومًا ودفـن بالقرافة الصغرى عند مدافن الباشوت بالقرب من الإمام الشافعي‏.‏

ونزل الحج ودخل إلى مصـر مـع أميـر الحـاج خليـل بـك بلغيـا فـي أمـن وأمـان‏.‏

ووصـل باشـا مـن طريـق البر وطلع الأمراء إلى العادلية لملاقاته ونصبوا خيامهم ودخل بالموكب وذلك في شهر صفر‏.‏

وفيها أرسل علي بك تجريدة إلى سويلم بن حبيب والهنادي بالبحيرة ثم نقلها منها إلى المحلة الكبرى فأقام سنين‏.‏

وفيها أرسل علي بك تجريدة إلى سويلم بن حبيب والهنادي بالبحبر وباش التجريدة اسمعيل بـك وذلك أن ابن حبيب لما رحل من دجوة وذهب إلى البحيرة وانضم إلى عبر الهنادي وكان المتولـي علـى كشوفيـة البحيـرة عبـد اللـه بك تابع علي بك فحاربوه وحاربهم حتى قتل عبد الله بك المذكور في المعركة ونهبوا متاعه ووطاقه وكان أحمد بك بشناق لما خرج من مصر هاربًا بعـد قتل صالح بك كما تقدم ذهب إلى الروم فصادف هناك جماعة من الهربانين ومنهم يحيى السكري وعلي أغا المعمار وعلي بك الملط وغيرهم وزيفوا بسبب المغرضين لعلي بك بدار السلطنة فنزلوا في مركبين إلى درنه فوصلوها متفرقين‏.‏

فالتي وصلت أولًا بها يحيى السكري وعلي المعمار والملط فركبوا عندما وصلوا إلى درنه وذهبوا إلى الصعيـد ووصلـت المركـب الأخرى بعد أيام وبها أحمد بك بشناق فطلع إلى عند الهنادي‏.‏

فلما وصل اسمعيل بك ومن معـه بالتجريـدة فتحاربـوا مـع الحبايبـة والهنادي ومعهم أحمد بك بشناق ثلاثة أيام وكان سويلم بن حبيـب منعـزلًا فـي خيمـة صغيـرة عنـد امـرأة بدويـة بعيدًا عن المعركة فذهب بعض العرب وعرف الأمراء بمكانه فكبسوه وقتلوه وقطعوا رأسه ورفعوها على رمح واشتهر ذلك‏.‏

فارتفع الحرب مـن بيـن الفريقيـن وتفـرق الهنـادي وعـرب الجزيـرة والصوالحة وغيرهم وراحت كسرة على الجميع ولم يقم لهم قائم من ذلك اليوم‏.‏

وتغيب أحمد بك بشناق فلم يظهر إلا بعد مدة ببلاد الشام‏.‏

وفيهـا تقلـد أيوب بك على منصب جرجا وخرج مسافرًا ومعه عدة كبيرة من العساكر والأجناد فوصلوا إلى قرب أسيوط فوردت الأخبار باجتماع الأمراء المنفيين وتملكهم أسيوط وتحصنهم بهـا وكـان مـن أمرهـم أنـه لمـا ذهـب محمـد بـك أبو الذهب إلى جهة قبلي لمنابذة شيخ العرب همام كما تقدم وجرى بينهما الصلح على أن يكون لهمام من حدود برديس وتم الأمر على ذلك ورجـع محمـد بـك إلـى مصـر أرسـل علـي بـك يقـول له‏:‏ إني أمضيت ذلك بشرط أن تطرد المصريين الذين عندك ولا تبقي منهم أحدًا بدائرتك‏.‏

فجمعهم وأخبرهم بذلك وقال لهم‏:‏ اذهبوا إلى أسيـوط واملكوهـا قبل كل شيء فإن فعلتم ذلك كان لكم بها قوة ومنعة وأنا أمدكم بعد ذلك بالمال والرجال فاستصوبوا رأيه وبادروا وذهبوا إلى أسيوط وكان بها عبد الرحمن كاشف من طرف علي بك وذو الفقار كاشف وقد كانوا حصنـوا البلـدة وجهاتهـا وبنـوا كرانـك والبوابـة ركب عليها المدافع فتحيل القوم ليلًا وزحفوا إلى البوابة ومعهم أنخاخ وأحطاب جعلوا فيها الكبريت والزيت وأشعلوها وأحرقوا الباب وهجموا على البلدة فلم يكن له بهم طاقة لكثرتهم وهم جماعة صالح بك وباقي القاسمية وجماعة الخشاب وجماعة الفلاح وجماعة مناو ويحيى السكـري وسليمـان الجلفـي وحسـن كاشف ترك وحسن بك أبو كرش ومحمد بك الماوردي وعبد الرحمن كاشف من خشداشين صالح بك وكان من الشجعان ومحمد كتخدا الجلفي وعلي بك الملط تابع خليل بك وجماعة كشكش وغيرهم ومعهم كبار الهوارة وأهالي الصعيد‏.‏

فملكوا أسيوط وتحصنوا بها وهرب من كان فيها ووردت الأخبار بذلك إلى علي بك فعين للسفر إبراهيم بلغيا ومحمد بك أبا شنب وعلي بك الطنطاوي ومـن كـل وجـاق جماعـة وعساكـر ومغاربة وأرسل إلى خليل بك القاسمي المعروف بالأسيوطـي فأحضـره مـن غـزة وطلـع هـو وإبراهيـم بـك تابـع محمـد بـك بعساكـر أيضـًا وعـزل الباشـا وأنزلـه وحبسـه ببيت أيواظ بك عند الزير المعلـق ثـم سافـر محمـد بـك أبو الذهب ورضوان بك وعدة من الأمراء والصناجق وضم إليهم ما جمعه وجلبه من العساكر المختلفة الأجناس من دلاة ودروز ومتاولة وشوام‏.‏

وسافر الجميع برًا وبحـرًا حتـى وصولـوا إلى أيوب بك وهو يرسل خلفهم في كل يوم بالإمداد والجبخانات والذخيرة والبقسماط وذهب الجميع إلى أن وصلوا قرب أسيوط ونصبوا عرضيهم عند جزيرة منقباط وتحققوا وصول محمد بك ومن معه وفرحوا بذلك لأنهم كانوا رأوا في زايرجات الرمل سقوطه فـي المعركـة‏.‏

ثـم أجمعـوا رأيهم على أن يدهموهم آخر الليل فركبوا في ساعة معلومة وسار بهم الدليـل فـي طـوق الجبـل وقصـدوا النـزول مـن محـل كذا على ناحية كذا من العرضي فتاه وضل بهم الدليل حتى تجاوزوا المكان المقصود بساعتين وأخذوا جهة العرضي فوجدوه قبليهم بذلـك المقدار وعلموا فوات القصد وأن القوم متى علموا حصلوهم خلفهم ملكوا البلدة من غير مانع قبـل رجوعهـم من المكان الذي أتوا منه فما وسعهم إلا الذهاب إليهم ومصادمتهم على أي وجه كان فلم يصلوهم إلا بعد طلوع النهار‏.‏

وتيقظ القوم واستعدوا لهم فالتطموا معهم وهم قليلون بالنسبـة إليهم ووقع العرب واشتد الجلاد وبذلوا جهدهم في الحرب ويصرخ الكثير منهم بقوله‏:‏ أين محمد بك فبرز إليهم محمد بك أبو شنب وهو يقول‏:‏ أنا محمد بك‏.‏

فقصدوه وقاتلـوه وقاتلهـم حتـى قتـل وسقـط جـواد يحيى السكري فلم يزل يقاتل ويدافع حصة طويلة حتى تكاثروا عليه وقتلوه وعبد الرحمن كاشف القاسمي يحارب بمدفع يضربه وهو علـى كتفـه‏.‏

وانجلـت الحرب عن هزيمتهم ونصرة المصريين عليهم وذلك عند جبانة أسيوط‏.‏

فتشتتوا في الجهات وانضموا إلى كبار الهوارة وملك المصرين أسيوط ودفنوا القتلى ومحمد بك أبا شنب‏.‏

واغتم محمد بك أبو الذهب لموته وفرح لوقوع الزايرجة عليه ومفاداته له لأنه كان يعلم ذلك أيضًا‏.‏

وأقامـوا بأسيـوط أيامـًا ثـم ارتحلـوا إلـى قبلـي بقصـد محاربـة همـام والهوارة‏.‏

واجتمع كبار الهوارة مع من انضم إليهم من الأمراء المهزومين فراسل محمد بك اسمعيل أبا عبد الله وهو ابن عم همام واستمالـه ومنـاه وواعده برياسة بلاد الصعيد عوضًا عن شيخ العرب همام حتى ركن إلى قوله وصـدق تمويهاتـه وتقاعـس وتثبـط عـن القتـال وخذل طوائفه‏.‏

ولما بلغ شيخ العرب همام ما حصل ورأى فشل القوم خرج من فرشوط وبعد عنها مسافة ثلاثة أيام ومات مكمودًا مقهورًا ووصل محمـد بـك ومـن معـه إلـى فرشـوط فلم يجدوا مانعًا فملكوها ونهبوها وأخذوا جميع ما كان بدوائر همام وأقاربه وأتباعه من ذخائر وأمـوال وغلـال‏.‏

وزالـت دولـة شيـخ العـرب همـام مـن بلـاد الصعيـد مـن ذلـك التاريـخ كأنهـا لـم تكن ورجع الأمراء إلى مصر ومحمد بك أبو الذهب وصحبته درويـش ابن شيخ العرب همام‏.‏

فإنه لما مات أبوه وانكسر ظهر القوم بموته وعلموا أنهم لا نجاح لهـم بعـده أشـاروا علـى ابنـه بمقابلـة محمـد بـك وانفصلـوا عنـه وتفرقـوا في الجهات‏.‏

فمنهم من ذهب إلـى درنـه ومنهـم مـن ذهـب إلـى الروم ومنهم من ذهب إلى الشام‏.‏

وقابل درويش بن همام محمد بك وحضر صحبته إلى مصر وأسكنه في مكان بالرحبة المقابلة لبيته وصار يركب ويذهب لزيارة المشاهد ويتفرج على مصر ويتفرج عليه الناس ويعدون خلفه وأمامه لينظروا ذاته‏.‏

وكان وجيهًا طويلًا أبيض اللون أسود اللحية جميل الصورة ثم أن علي بـك أعطـاه بلـاد فرشـوط والوقـف بشفاعهـة محمـد بـك وذهـب إلـى وطنه فلم يحسن السير والتدبير وأخذ أمره في الانحلال وحاله في الاضمحال وأرسل من طالبه بالأموال والذخائر فأخذوا ما وجدوه‏.‏

وحضر إلى مصر والتجأ إلى محمد بك من مصر مغاضبًا لأستاذه فلحق به وسافر إلى الصعيد وخلص الإقليم المصري بحري وقبلي إلى علي بك وأتباعه فشرع في قتل المنفيين الذين أخرجهم إلى البنادر مثل دمياط ورشيد والإسكندرية والمنصورة فكان يرسل إليهم ويخنقهم واحدًا واحد فخنق علي كتخدا الخربطلـي برشيـد وحمـزة بـك تابـع خليـل بـك بزفتـا وقتلـوا معـه سليمـان أغـا الوالـي واسمعيل بك أبا مدفع بالمنصورة وعثمان بك تابع خليل بك هرب إلى مركب البيليك فحماه وذهب إلى اسلامبول ومات هناك ونفى أيضـًا جماعـة وأخرجهـم مـن مصـر وفيهـم سليكـان كتخـدا المشهـدي وإبراهيـم أفنـدي جمليـان‏.‏

ومـات الباشا المنفصل بالبيت الذي نزل فيه ولحق بمن قبله‏.‏

وممـا اتفـق أن علـي بك صلى الجمعة في أوائل شهر رمضان بجامع الداودية فخطب الشيخ عبد ربـه ودعـا للسلطـان ثـم دعـا لعلـي بـك‏.‏

فلمـا انقضـت الصلاة وقام علي بك يريد الانصراف أحضر الخطيـب وكـان رجـلًا من أهل العلم يغلب عليه البله والصلاح فقال له‏:‏ من أمرك بالدعاء باسمي على المنبر أقيل لك أني سلطان فقال‏:‏ نعم أنت سلطان وأنا أدعو لك‏.‏

فأظهر الغيظ وأمر بضربه فبطحوه وضربوه بالعصي فقام بعد ذلك متألمًا من الضرب وركب حمارًا وذهب إلى من مات في هذه السنة من العلماء والأمراء مات الإمام الوالي الصالح المعتقد المجذوب العالم العامل الشيخ علي ابن حجازي بـن محمـد البيومي الشافعي الخلوتي ثم الأحمدي ولد تقريبًا سنة 1108 حفظ القرآن في صغره وطلب العلم وحضر دروس الأشياخ وسمع الحديث والمسلسلات على عمر بن عبد السلام التطاوني وتلقـن الخلوتيـة من السيد حسين الدمرداش العادلي وسلك بها مدة ثم أخذ طريق الأحمدية عن جماعـة ثم حصل له جذب ومالت إليه القلوب وصار للناس فيه اعتقاد عظيم‏.‏

وانجذبت إليه الأرواح ومشى كثير من الخلق على طريقته وأذكاره وصار له أتبـاع ومريـدون وكـان يسكـن الحسينيـة ويعقـد حلـق الذكـر فـي مسجـد الظاهـر خـارج الحسينيـة وكان يقيم به هو وجماعته لقربه من بيته وكـان ذا واردات وفيوضـات وأحوالـه غريبـة‏.‏

وألـف كتبـًا عديـدة منهـا شـرح الجامـع الصغيـر وشـرح الحكم لابن عطاء الله السكندري وشرح الإنسان الكامل للجيلي وله مؤلف في طريق القوم خصوصًا في طريق الخلوتية الدمرداشية ألفه سنة 1144 وشرح الأربعين النووية ورسالـة فـي الحـدود وشـرح علـى الصيغـة الأحمديـة وشـرح علـى الصيغـة المطلسمـة ولـه كلـام عال في التصوف وإذا تكلم أفصح في البيان وأتى بما يبهر الأعيان وكان يلبس قميصًا أبيض وطاقية بيضـاء ويعتـم عليهـا بقطعـة شملـة حمراء لا يزيد على ذلك شتاء ولا صيفًا وكان لا يخرج من بيته إلا في كل أسبوع مرة لزيارة المشهد الحسيني وهو على بغلة وأتباعه بين يديه وخلفه يعلنون بالتوحيد والذكر وربما جلس شهورًا لا يجتمع بأحد من الناس‏.‏

وكانت كرامات ظاهرة‏.‏

ولما كـان يعقـد الذكـر بالمشهـد الحسينـي فـي كـل يـوم ثلاثـاء ويأتـي بجماعتـه علـى الصفة المذكورة ويذكرون فـي الصحـن إلـى الضحـوة الكبـرى قامـت عليه العلماء وأنكروا ما يحصل من التلوث في الجامع من أقدام جماعته إذ غالبهم كانوا يأتـون حفـاة ويرفعـون أصواتهـم بالشـدة وكـاد أن يتـم لهـم منعـه بواسطـة بعـض الأمـراض فانبرى لهم الشيخ الشبراوي وكان شديد الحب في المجاذيب وانتصر له وقـال للباشـا والأمـراء‏:‏ هـذا الرجـل مـن كبـار العلمـاء والأولياء فلا ينبغي التعرض له‏.‏

وحينئذ أمره الشيـخ بـأن يعقـد درسـًا بالجامـع الأزهـر فقـرأ فـي الطيبرسيـة الأربعين النووية وحضره غالب العلماء وقـرر لـه مـا بهـر عقولهـم فسكتـوا عنـه وخمـدت نـار الفتنـة‏.‏

ومـن كلامـه في آخر رسالة الخلواتية ما نصـه‏:‏ فمـن منـن اللـه علـي وكرمـه أنـي رأيـت الشيـخ دمـرداش فـي السمـاء وقـال لـي لا تخف في الدنيا ولا في الآخرة وكنت أرى النبي صلى اللـه عليـه وسلـم فـي الخلـوة فـي المولـد فقـال لـي فـي بعـض السنيـن لا تخـف فـي الدنيـا ولا فـي الآخـرة ورأيتـه يقـول لأبـي بكـر رضـي اللـه عنه اسع بنا نطل على زاوية الشيـخ دمـرداش وجـاءا حتـى دخـلا فـي الخلـوة ووقفـا عنـدي وأنـا أقـول اللـه اللـه وحصـل لـي فـي الخلوة وهم في رؤيـة النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم فرأيـت الشيـخ الكبيـر يقـول لـي عنـد ضريحـه مـد يـدك إلـى النبي صلى الله عليه وسلم فهو حاضر عندي‏.‏

ورأيته في خلوة الكردي يعني الشيخ شرف الدين المدفون بالحسينية بين اليقظة والنوم وأنا جالس فانتبهـت فرأيـت النـور قـد مـلأ المحـل فخرجت منها هائمًا فحاشني بعـض مـن كـان فـي المحـل فوقفـت عنـد الشيـخ ولـم أقـدر علـى العـود إلـى الخلـوة مـن الهيبـة إلـى آخـر الليـل‏.‏

وتبسـم فـي وجهـي مـرة وأعطانـي خاتمـًا وقـال لـي والـذي نفسـي بيـده فـي غد يظهر ما كان مني وما كان منك‏.‏

ومن كراماته أنه كان يتوب العصاة من قطاع الطريق ويردهم عن حالهم فيصيرون مريدين له وذا سمعته من الثقات ومنهم من صار من السالكين وكان تارة يربطهم بسلسلة عظيمة من حديد في عمدان مسجد الظاهر وتارة بالشوق في رقبتهم يؤدبهم بما يقتضيه رأيه‏.‏

وكان إذا ركب ساروا خلفه بالأسلحة والعصي وكانت عليه مهابة الملوك وإذا ورد المشهد الحسيني يغلب عليه الوجد في الذكر حتى يصير كالوحش النافر في غاية القوة فإذا جلس بعد الذكر تراه في غاية الضعف‏.‏

وكان الجالس يرى وجهه تارة كالوحش وتارة كالعجل وتارة كالغزال‏.‏

ولما كان بمصر مصطفى باشا مال إليه واعتقده وزاره فقال له‏:‏ إنك ستطلب إلى الصدارة في الوقت الفلاني فكان كما قال له الشيخ‏.‏

فلما ولي الصـدارة بعـث إلـى مصـر وبنى له المسجد المعروف به بالحسينية وسبيلًا وكتابًا وقمة وبداخلها مدفن للشيخ علي على يد الأمير عثمان أغا وكيل دار السعادة ولمـا مـات خرجـوا بجنازتـه وصلي عليه بالأزهر في مشهد عظيم ودفن بالقبر الذي بني له بداخل القبة بالمسجد المذكور‏.‏

ومـات علامـة وقته وأوانه الآخذ من كمية البلاغة بعنانه الولي الصوفي من صفا فصوفي الشيخ حسـن الشيبينـي ثـم الفوي رحل من بلدته فوة إلى الجامع الأزهر فطلب العلم وأخذ عن الشيخ الديربـي فجعلـه ممليـًا عليـه في الدرس حتى قرأ الأشموني والمختصر ونحو ذلك وأخبر عن نفسه كان ملازمًا لولي من أولياء الله تعالى فحين تعلقت نفسه بالمجيء إلى الجامع الأزهر توجه مع هذا الولي لزيارة ثغر دمياط‏.‏

ثم اشتغل بالفقه وغيره من أصول ومنطق ومعان وبيان وتفسير وحديث وغير ذلك حتى فاق على أقرانه وصار علامة زمانه‏.‏

ثم أخذ عن الشيخ الحفني الطريق وتلقن الأسماء وسار على حسب سلوكه وسيره وألبسه التاج وأجازه بأخـذ العهـود والتلقين والتسليك وصـار خليفـة محضـًا فـأدار مجالـس الأذكـار ودعـا النـاس إليهـا فـي سائـر الأقطـار وفتـح الله عليه باب العرفان حتى صار ينطق بأسرار القرآن ويتكلم في الحقائق‏.‏

نقل عن الشيخ الحفني أنه ورد عليه منه مكتوب فقال‏:‏ الحمد لله الذي جعل في أتباعه من هو كمحيي الدين ابن العربي‏.‏

توفي رحمه الله تعالى في هذه السنة‏.‏

وخلف ولده السيد أحمد موجـود في الإحياء بارك الله فيه‏.‏

وممن أخذ عنه صاحبنا العمدة العلامة الصالح السيد علي ومات الجنـاب المبجـل الفريـد الكاتـب الماهـر المنشـئ البليـغ المجيـد محمـد أفنـدي بـن اسمعيـل السكندري العارف بالألسنة الثالثة العربية والفارسية والتركية وكـان لديـه محـاورات ولطائـف أدبيـة وميـل شديـد إلـى علـم اللغـة وبحث عن الأدوات المتعلقة به ورسائله في الألسن الثلاثة غاية في الفصاحة مع حسن حظ ووفور حظ ومهابة عند الأمراء وقبول عند الخواص ووالده كان إسرائيليًا فأسلم وحسن إسلامه وتولى مناصب جليلة بالثغر وله هناك شهرة فولد هذا هناك وهذبه وأدبه حتى صار إلى ما صار واستقر بمصر وما زالت له أملاك هناك وقرابة رايته يأتـي لزيـارة الشيـخ الوالـد وقـد اكتهـل وتناهـى فـي السـن وأبقـى الدهر في زواياه خبايا مستحسنة‏.‏

ورأيـت بخـط يـده كتـاب بهارستـان لمولانا جامي قدا حسن في كتابته وأتقن في سياقه ومجموعًا فيـه النـوادر مـن أشعـار الألسـن الثلاثـة‏.‏

وبالجملـة لـم يكـن فـي عصـره مـن يدانيـه في الفنون التي كان تجمـل بهـا‏.‏

وقـد ذكـره الأديب الشيخ عبد الله الأدكاري في بضاعة الأريب وأثنى على محاسنه وكانت بينهما ألفة تامة ومصافاة ومصادقة ومحاورات أدبية‏.‏

فإن المترجم كان أوحد عصره ووحيـد مصـره لـم يدانيـه فـي مجموعـة الفضائـل أحـد ولـم يـزل حميد المسعى جميل السيرة بهيًا وقورًا مهيبًا عند الأمراء والوزراء حتى وافاه الحمام في يوم الجمعة حادي عشر المحرم من السنة‏.‏

ومات الأستاذ العارف سيدي علي بن العربي بن علي بن العربي الفاسي المصري الشهير بالسقـاط ولـه بفـارس وقـرأ علـى والـده وعلى العلامة محمد ابن أحمد بن العربي بن الحاج الفاسي سمـع منـه الأحيـاء جميعـًا بقـراءة ولـد عمـه النبيـه الكاتـب أبـي عبـد اللـه محمـد بـن الطيـب بـن محمد بن علي السقاط وعلى ولده أبي العباس أحمد بن محمد العربي ابن الحاج ولما ورد مصر حاجًا لازمه فقرأ عليه بلفظه من الصحيح إلى الزكاة والشمايل بطرفيه بالجامـع الأزهـر وكثيـرًا مـن المسلسلات والكتب التـي تضمنتهـا فهرسـت ابـن غـازي قـراءة بحـث وتفيهـم وأجـازه حينئـذ بأواسط جمادى الثانية سنة 1143 وجاور بمكة فسمع على البصري الصحيح كاملًا ومسلمًا بفوت وجميع الموطأ رواية يحيى بن يحيى وذلك خلف المقام المالكي عند باب إبراهيم وأجازه وعلى النخلي الفيومي أوائل البخاري وعلى أحمد بن أحمد الغرقاوي وأجازه وعلى عمر بن عبد السلام التطاوني جميع الصحيح وقطعة من البيضاوي بجامع الغوري سنة 1136 وجميع المنح البادية في الأسانيد العالية وأضافه على الأسوديـن وشابكـه وصافحـه وناولـه السبحـة وأجازه بسائر السلسلات وعلى محمد القسطنيطيني رسالة ابن أبي زيد برواق المغاربة وعلى محمد بن زكري شرحه على الحكم بجامع الغوري وعلى سيدي محمد الزرقاني كتاب الموطأ من باب العتق إلى آخره وأجازه به يوم ختمه وذلك ثامن شعبان سنة 1113‏.‏

وروى حديث الرحمة عن سيدي السيد مصطفى البكري في سنـة 1160 وأجـازه ابـن الميـت فـي العمـوم واجتمـع بـه شيخنـا السيـد مرتضـى فـي منـزل السيـد علـي المقدسـي وكان قد أتى إليه لمقابلة المنح البادية على نسخته وشاركهما في المقابلة وأحبه وباسطه وشافهه بالإجازة العامة وكان إنسانًا مستأنسـًا بالوحدة منجمعًا عن الناس محبًا للانفراد غامضًا ولا زال كذلك حتى توفي في أواخر جمادى الأولى سنة 1183 ودفن بالزاوية بالقرب من الفحامين‏.‏ ومات

الجناب الأجل والكهف الأظل الجليل المعظم والملاذ المفخم الأصيلي الملكي

ملجأ الفقراء والأمراء ومحط رحال الفضلاء والكبراء شيخ العرب الأمير شرف الدولة همام بن يوسف بن أحمد بن محمد بن همام بن صبيه بن سيبيه الهواري عظيم بلاد الصعيد ومن كان خيره وبره يعم القريب والبعيد وقد جمع فيه من الكمال ما ليس فيه لغيره مثال تنزل بحرم سعادته قوافل الأسفار وتلقى عنده عصى التسيار وأخباره غنية عن البيان مسطرة في صحف الإمكان منها أنه إذا نزل بساحته الوفـود والضيفـان تلاقهـم الخـدم وأنزلوهـم فـي أماكـن معـدة لأمثالهـم وأحضروا لهم الاحتياجات واللوازم من السكر وشمع العسل والأواني وغيـر ذلـك ثـم مرتـب الأطعمـة فـي الغـداء والعشـاء والفطـور فـي الصبـاح والمربيـات والحلـوى مـدى إقامتهم لمن يعرف ومنن لا يعرف‏.‏

فإن أقاموا على ذلك شهورًا لا يختل نظامهم ولا ينقص راتبهم وإلا قضوا أشغالهم على أتم مرادهم وزادهم إكرامًا وانصرفوا شاكرين وإن كان الوافد ممن يرتجي البر والإحسان أكرمه وأعطاه وبلغه أضعاف ما يترجاه‏.‏

ومن الناس من كان يذهب إليه في كل سنة ويرجع بكفايـة عامـة وهذا شأنه في كل من كان من الناس‏.‏

وأما إذا كان الوافد عليه من أهل الفضائل أو ذوي البيوت قابله بمزيد الاحترام وحياه بجزيل الأنعام وكان ينعم بالجواري والعبيد والسكر والغلـال والثمـر والسمـن والعسـل وإذا ورد عليـه إنسـان ورآه مـرة وغـاب عنـه سنيـن ثـم نظـره وخاطبه عرفه وتذكره ولا ينساه‏.‏

وحالـه فيمـا ذكـر مـن الضيفـان والوافديـن والمسترفديـن أمـر مستمـر علـى الـدوام لا ينقطـع أبـدًا‏.‏

وكـان الفراشـون والخـدم يهيئـون أمر الفطور من طلوع الفجر فلا يفرغون من ذلك إلى ضحوة النهار ثم يشرعون في أمر الغداء من الضحوة الكبرى إلى قريب العصر ثم يبتدئون في أمر العشاء وهكذا‏.‏

وعنده من الجواري والسراري والمماليك والعبيد شيء كير ويطلب في كل سنة دفتر الارقاء ويسأل عن مقدار من مات منهم فإن وجده خمسمائة أو أربعمائة استبـش وانشـرح وإن وجـده ثلاثمائـة أو اقـل أو نحـو ذلـك اغتـم وانقبـض خاطره ورأى أن ربما كانت في أعظم من ذلك وكان له برسم زراعة قصب السكر وشركة فقـط اثنـا عشـر ألـف ثـور وهـذا بخلـاف المعـد للحـرث ودراس الغلـال والسواقـي والطواحيـن والجواميس والأبقار الحلابة وغير ذلـك‏.‏

وأمـا شـون الغلـال وحواصـل السكـر والتمـر بأنواعـه والعجوة فشي لا يعد ولا يحد وكان الإنسان الغريب إذا رأى شون الغلال من البعد ظنها مزارع مرتفعـة لطول مكث الغلال وكثرتها فينزل عليها ماء المطر ويختلط بالتراب فتنبت وتصير خضرًا كأنهـا مزرعـة وكـان عنده من الأجناد والقواسة وأكثرهم من بقايا القاسمية انضموا إليه وانتسبوا له وهم عدة وافرة وتزوجوا وتوالدوا وتخلقوا بأخلاق تلك البلاد ولغاتهم وله دواوين وعدة كتبة من الأقباط والمستوفين والمحاسبين لا يبطل شغلهـم ولا حسابهـم ولا كتابتهـم ليـلًا ونهارًا ويجلس معهم حصة من الليل إلى الثلث الأخير بمجلسه الداخل يحاسب ويملي ويأمر بكتابة مراسيم ومكاتبات‏.‏

لا يعزب عن فكره شيء قل ولا جل ثم يدخل إلى الحريم فينام حصة لطيفة ثم يقوم إلى الصلاة‏.‏

وإذا جلس مجلسًا عامًا وضع بجانبه فنجانًا فيه قطنة وماء ورد فـإذا قـرب منـه بعـض الأجلاف وتحادثوا معه وانصرفوا مسح بتلك القطنة عينيه وشمها بأنفه حـذرًا مـن رائحتهـم وصنانهـم‏.‏

وكـان لـه صلـات وإغداقـات وغلـال يرسلهـا للعلماء وأرباب المظاهر بمصر في كل سنة‏.‏

وكان ظلًا ظليلًا بأرض مصر ولما ارتحل لزيارته شيخنا السيد محمـد مرتضى وعرف فضله أكرمه إكرامًا كثيرًا وأنعم عليه بغلال وسكر وجوار وعبيد وكذلك كـان فعلـه مـع أمثالـه مـن أهـل العلـم والمزايـا‏.‏

ولـم يـزل هـذا شأنـه حتـى ظهر أمر علي بك وحصل ما تقدم شرحه من وقائعه مع خشداشينه وذهابه إلى الصعيد وأعلموه بما أوقعه بهم علي بك فاغتـم علـى فقـد صالـح بـك غمـا شديـدًا‏.‏

وحملـه ذلـك علـى أن أشـار عليهـم بذهابهم إلى أسيوط وتملكهم إياها فإنها باب الصعيد فذهبوا إليها مع جملة المنفيين من مصر والمطرودين كما تقدم وأمدهـم شيـخ العـرب المترجـم حتـى ملكوهـا وأخرجـوا مـن كـان بهـا واستوحش منه لي بك بسبب ذلك وتابع إرسال التجاريد وقدر الله بخذلان القبالي ورجوعهم إلى قبلي على تلك الصورة فعنـد ذلـك علم همام أنه لم يبق مطلوبًا لهم سواه وخصوصًا مع ما وقع من فشل كبار الهوارة وأقاربه ونفاقهم عليه فلم يسعه إلى الارتحال من فرشوط وتركها بما فيها من الخيرات وذهب إلـى جهـة اسنـا فمات في ثامن شعبان من السنة ودفن في بلدة تسمى قموللة فقضى عليه بها رحمه الله‏.‏

وخلف من الأولاد الذكور ثلاثة وهم درويش وشاهين وعبد الكريم‏.‏

ولما مات انكسرت نفوس الأمراء ثم أن أكابر الهوارة قدموا ابنه درويشًا لكونه أكبر أخوته وأشاروا عليه بمقابلـة محمـد بـك ففعـل‏.‏

وأمـا الأمـراء فمنهـم مـن أخذ أمانًا من محمد بك وقابله وانضم إليه ومنهم من ذهب إلى ناحية درنه ونزل البحر وسافر إلى الشام والروم ومنهم من انزوى إلى الهوارة بالصعيد‏.‏

وحضر درويش صحبة محمد بك إلى مصر وقابل علي بك وأعطاه بلاد فرشوط ورجـع مكرمـًا إلـى بلـاده‏.‏

فلـم يحسـن السيـر ولـم يفلح وأول ما بدأ ي أحكامه أنه صار يقبض على خدم أبيه وأتباعه ويعاقبهم ويسلب أموالهم وقبض علـى رجـل يسمـى زعيتـر وكيـل البصـل المرتب لمطابخ أبيه فأخذ منه أموالًا عظيمة في عدة أيام على مرار أخذ منه في دفعة من الدفعات مـن جنـس الذهـب البندقـي أربعيـن ألفـًا وكذلـك مـن يصنـع البـرد للجـواري السـود والعبيد وذلك خلاف وكلاء الغلال والأقصاب والسكر والسمن والعسل والتمر والشمع والزيت والبـن والشركـاء فـي المـزارع‏.‏

ووصلـت أخبـاره بذلـك إلـى علـي بـك فعيـن عليـه أحمـد كتخـدا وسافر إليه بعدة من الأجناد والمماليك وطالبه بالأموال حتى قبض منه مقادير عظيمة ورجع بها إلى مخدومه واقتدى به بعد ذلك محمد بك في أيام إمارته وأخذ منه جملة وكذلك أتباعه من بعـده حتى أخرجوا ما في دورهم من المتاع والأواني والنحاس قناطير مقنطرة ثم تتبعوا الحفر لأجـل استخـراج الخبايـا حتـى هدمـوا الـدور والمجالـس ونبشوهـا وأخربوهـا وحضر درويش المذكـور بآخـرة إلـى مصـر جاليـًا عـن وطنـه ولم يزل بها حتى مات كآحاد الناس‏.‏

واستمر شاهين وعبد الكريم يزرعان بأرض الوقف أسوة المزارعين ويتعيشون حتى ماتا‏.‏

فأما شاهين فقتله مراد بك في سنة 1214 أيام الفرنسيس لأمور نقمها عليه وخلف ولدًا يدعى محمدًا‏.‏

وأما عبد الكريم فإنه مات على فراشه قريبًا من ذلك التاريخ وترك ولدًا يدعى همامًا دون البلوغ يوصف بالنجابة حسبما نقل إلينا من الأسفار‏.‏

وكاتبني وكاتبته في بعض المقتضيات ورأيت ابـن عمـه محمـد المذكـور حيـن أتـى إلى مصر بعد ذهاب الفرنسيس وتردد عندي مرارًا وسبحان من يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏

ومات الجناب الكبير والمقدام الشهير من سر بذكره الركبان وطار صيته بكل مكان الفارس الضرغام النجيب شيخ العرب سويلم بن حبيب منن أكابر عظماء مشايخ العـرب بالقليوبيـة ومسكنهـم دجـوة علـى شاطـي البحـر وهـو كبيـر نصـف سعـد مثـل أبيـه حبيب بن أحمد وليس لهم أصل مذكور في قبائل العرب وإنما اشتهروا بالفروسية والشجاعة‏.‏

وحبيب هذا أصله من شطـب قريبـة قريبـة مـن أسيـوط ولمـا مـات حبيـب خلف ولديه سالمًا وسويلمًا وكان سالم أكبر من أخيه وهو الذي تولى الرياسة بعد أبيه واشتهر بالفروسية وعظم أمره وطار صيته وكثرت جنـوده وفرسانـه ورجالـه وخيولـه وأطاعتـه جميـع المقـادم وكبار القبائل ونفذت كلمته فيهم وعظمـت صولته عليهم وامتثلوا أمره ونهيه ولا يفعلون شيئًا بدون إشارته ومشورته‏.‏

وصار له خفـارة البريـن الشرقـي والغربـي مـن ابتـداء بولـاق إلـى رشيـد ودميـاط‏.‏

وكـان هـو وفرسه مقومًا على انفـراده بألـف خيـال‏.‏

وكـان ظهـور حبيـب هذا في أوائل القرن‏.‏

واتفق له ولابنه سالم هذا وقائع وأمـور مـع اسمعيـل بـك ابـن ايـواظ وغيره لا بأس يذكر بعضها في ترجمته منها أن في سنة 1125 أرسـل حبيـب ولـده سالمـًا إلـى خيـول الأميـر اسمعيـل بـك ابـن ايـواظ وهجـم عليـاه بالمربـع وجم معافها وأذنابها وتركها وذهب ولم يأخذ منها شيئًا‏.‏

وذلك بإغراء بعـض النـاس مثـل قيطـاس بـك وخلافه‏.‏

وكانت الخيول بالغيط جهة القليوبية‏.‏

وحضر أميراخور وأخبر مخدومه فاغتاظ لذلك وعزم على الركوب عليه فلاطفه يوسف بك الجزار حتى سكن غيظه ثم أحضر حسنًا أبا دفية زعيم مصر سابقًا من القاسمية مشهور بالجشاعة وجعلوه قائمقام الأمانة فسافر بجبخانة ومدفعين وصحبته طوائل ورجال وأمره بأن يطلب شر حبيب وإن قدر على قتله فليفعل‏.‏

وكتـب مكاتبـات للنواحي بأن يكونوا مطيعين للمذكور فلم يزل حتى نزل في غيط برسيم عند ساقية خراب وعمل هناك متراسًا ووضع المدفعين وغطاهما بلباد وأقام رصد خيالة بالطريق وإذا بسالـم بـن حبيـب ركـب فـي عبيـده ورجاله متوجهين إلى الجزيرة فنزل بطريقه بغيط الأوسية فحضر الخيالة الرصد إلى الأمير حسن أبي دفية وأخبروه فركب برجاله وأبقى عند المدافع عشرة من السجمانية وأوصاهم بأنهم إذا انهزموا من القوم فإنهم يرمون بالمدفعين سواء ففعلوا ذلـك بعدمـا لاقاهـم ورمـى منهـم رجالًا ووقع منها أيضًا عند رمي المدافع والرصاص ثلاثة عشر خيـالًا وأخـذوا منهـم نحـو ستـة قلائـع‏.‏

ورجـع سالـم بـن حبيـب بمـن بقـي من طائفته إلى أبيه وعرفه بما وقع له مع الأمير حسن أبي دفية فأرسل إلى عرب الجزيرة فأحضر منهم فرسانًا كثيرة وكذلك من إقليم المنوفية وركب الجميع قاصدين مناوشته‏.‏

ووصلته أخبار ذلك فركب بمن معه وفعل كالأول وركب مبحرًا وانعطف عليهم وحاربهم فرمى منهم فرسانًا فانهزموا أمامه‏.‏

فوقف مكانه فرجعت عليه العرب والعبيد فانهزم أمامهم فرمحوا خلفه طمعًا منهم حتى وصل المدافـع فرموا بهم وأتبعوهم بطلق الرصاص فولوا هاربين وسقط من عرب الجزيرة وغيرها عدة فرسان‏.‏

وأخذوا منهم خيولًا وسلاحًا وحضرت نساؤهم ورفعوا القتلى ورجع سالم إلى أبيه وعرفـه بمـا جـرى عليهـم من حرقهم وقتل فرسانهم فأرسل حبيب إلى قيطاس بك يقول له‏:‏ إنك أغريتنا بابن إيواظ وتولد من ذلك أنه وجه علينا قائمقامه حرقنا بالنار وقتل منا أجاويد‏.‏

فأرسل إليه مكاتبة خطابـًا للقصاصيـن بمعاونتـه ومساعدتـه فحضـر إليـه منهـم عـدة فرسـان ضاربي نار وجمع إليه عربان الجزيرة وخيالة كثيرة من المنوفية وركب حبيب وأولاده وجموعه إلى جسر الناحية ونزل هناك وأرسل أولاده بخيول يطلبون شر أبي دفية‏.‏

وإذا ركب عليهم انهزمـوا أمامـه حتـى يصلـوا إلـى محـل رباطهـم بالجسـر ففعلـوا ذلك إلى أن وصلوا إلى الجسر فضربت القصاصة بنادقهم طلقًا واحدًا فرموا نحو ثلاثين جنديًا من الكبار والذي ما أصيب في بدنه أصيـب حصانـه وردت عليهـم الخيول وانهزم الأمير حسن أبو دفية بمن بقي معه إلى دار الأوسية فأخذت العرب الخيول الشاردة وعروا الغز ورموهم في مقطع من الجسر وأرسل العبيد أتوابًا لجراريـف وجرفوا عليهم التراب من غير غسل ولا تكفين‏.‏

ورجع إلى بلده وخلص ثأره وزيادة وحضـرت الأجنـاد إلـى مصـر وأخبروا الصنجق بما وقع لهم مع حبيب وأولاده فعزل الأمير حسن أبا دفيه من قائمقاميته وولى خلافه وأخذ فرمانًا بضرب حبيب وأولاده وركب عليهم من البر والبحر ووصلت النذيرة إلى حبيب فرمى مدافع أبي دفية البحر ووضع النحاس في أشناف وألقاها أيضًا في البحر‏.‏

وقيل أن حبيب قبل هذه الواقعة بأيام أحضر ستة قناديل وعمرها بعدما عاير فتائلها وزنها بالميزان عيارًا واحدًا وكتب على كل قنديل ورقة باسمه واسم أخيه وأولاده واسم ابن أيواظ وأسرجها دفعة واحد فانطفأ الذي باسمه أولًا ثم انطفأ قنديل ابـن إيـواظ ثـم قناديـل أخيـه وأولـاده شيئـًا بعـد شـيء‏.‏

فقـال‏:‏ أنـا أموت في دولة ابن أيواظ‏.‏

ولما وصل إليـه الخبـر بحركـة ابـن أيـواظ وركوبـه عليه فركب بأخيه وأولاده وخرجوا هاربين ووصل ابن أيواظ إلى دجوة ورمحوا على دواويرهم ورموا الرصاص وكانت المراكب وصلت إلى البر الغربي تجاه دجـوة ورسـوا هناك وموعدهم سماع البنادق‏.‏

فعند ذلك عدوا إلى البر الشرقي وطلعوا إليه‏.‏

فأمـر ابـن أيـواظ بهـدم دواويـر الحابيبـة فهدموهـا بالقـزم والفؤوس وأنشأ كفرًا بعيدًا عن البحر بساقيه وحـوض دواب وجامـع وميضـأة وطاحونيـن وجمع أهل البلد فعمروا مساكنهم في الكفر وسموه كفر الغلبة‏.‏

ورجع الأمير اسمعيل إلى مصر وأخذ الغز والأجناد أبقارًا وعجولًا وأغنامًا وجواميش وأمتعة وفرشًا وأخشابًا شيئًا كثيـرًا ووسقـوه فـي المراكـب وحضـروا بـه مـن البـر أيضـًا إلـى مصر‏.‏

وكتب مكاتبات إلى سائر القبائل من العربان بتحذيرهم من قبولهم حبيبًا وأولاده وأن لا ينجمـع عليـه أحـد ولا يأويـه فلـم يسعهـم إلا أنهـم ذهبـوا عنـد عـرب غزة فأكرموهم ولم يزل بها حتى مـات وحضـر سالـم ابنـه بعـد ذلـك إلـى قليـوب ببيـت الشواربـي شيـخ الناحيـة سـرًا وأخذ له مكاتبة مـن إبراهيـم بـك أبـي شنـب خطابـًا إلـى ابـن وافـي المغربـي بـأن يوطـن أولـاد حبيـب عنـده حتـى يأخذ لهم إجازة من أستاذهم فأرسل أحضر عمه وأخاه سويلمًا وعدوا إلى الجبل الغربي وساروا عند ابن وافي شيخ المغاربة فرحب بهم وضرب لهم بيوت شعر وأقاموا بها إلى سنة 1130 فمات غبراهيم بك أبو شنب وكان يؤاسي أولاد حبيب ويرسل لهم وصولات بغلال يأخذونها مـن بلاده القبلية‏.‏

فلما مات في الفصل ضاقت معيشتهم فحضر سالم بن حبيب من عند ابن وافي خفية وذلك قبل طلوع ابن ايواظ بالحج سنة إحدى وثلاثين ودخل بيت السيد محمد دمرداش وسلم عليه وعرفه بنفسه فرحب به وشكا له حال غربته وبات عنده تلك الليلة وأخذه في الصباح إلى ابن ايواظ فدخل عليه وقبل يده ووقف فقال السيد محمد للصنجق‏:‏ عرفـت هـذا الـذي قبـل يدك‏.‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ هذا الذي جم أذناب خيولك‏.‏

قال‏:‏ سالم‏.‏

قال‏:‏ لبيك‏.‏

قال‏:‏ أتيت بيتي ولم تخف قال له‏:‏ نعم أتيت بكفني إما أن تنتقم وإما أن تعفو فإننا ضقنـا مـن الغربـة وهـا أنـا بين يديك‏.‏

فقال له‏:‏ مرحبًا لك أحضر أهلك وعيالك وعمر في الكفر واتـق اللـه تعالـى وعليكـم الأمـان‏.‏

وأمـر لـه بكسـوة وشال وكتب له أمانًا وأرسل به عبده‏.‏

وركب سالم وذهـب عنـد إبراهيـم الشواربـي بقليـوب فأقـام عنـده حتـى وصـل العبـد بالأمـان إلـى عمـه وأخيـه في بنـي سويـف فحملـوا وركبـوا وسـاروا إلـى قليـوب ونزلـوا بـدار أوسيـة الكفـر حتـى بنـوا لهـم دواويـر وأماكن ومساكن وأتتهم العرنبية ومشايخ البلاد ومقادمها للسلام والهدايـا والتقـادم‏.‏

فأقـام علـى ذلـك حتـى تولـى محمـد بـك ابن اسمعيل بك أمير الحاج فأخذ منه إجازة بعمار البلد الذي على البحـر وشـرع فـي تعميـر الـدور العظيمـة والبساتين والسواقي والمعاصر والجوامع وذلك سنة 1134 واستقـام حـال سالـم وشاتهر ذكره وعظم صيته واستولى على خفارة البرين ونفذت كلمته بالبلاد البحريـة مـن بولـاق إلـى البغازين وصارت المراكب والرؤساء تحت حكمه وضرب عليها الضرائب والعوائـد الشهريـة والسنويـة وأنشـأ الدواويـر الواسعـة والبستـان الكبيـر بشاطـئ النيـل وكان عظيمًا جدًا وعليه عدة سواق وغرس به أصناف النخيل والأشجار المتنوعة فكانت ثماره وفاكهته وعنبه تجتنى بطول السنة وأحضر لها الخولة من الشام ورشيد وغير ذلك‏.‏

ولما وقعت الوقائع بين ذي الفقار بك ومحمد بك وجركس المتقدم ذكرها وحضر جركس بمن معه من اللموم إلى قرب المنشية وخرجت إليه عساكر مصر وأرسلوا إلى سالم بن حبيب فجمع العربان وحضر بفرسانه وعبيده إلى ناحية الشيمي وحارب مع الأجناد المصرية حتـى قتـل سليمان بك في المعركة وولى جركس ورجعت التجريدة وتبعه سالم بن حبيب والأسباهية وذهبـوا خلفـه فعـدى الشـرق فعـدوا خلفـه وطلعـت تجريـدة أخـرى مـن مصر فتلاقوا معهم وتحاربـوا مـع محمد بك جركس فكانت بينهم وقعة عظيمة فكانت الهزيمة على جركس وحصل ما حصل من وقوع جركس في الروبة وموته ودفنوه بناحية شرونه كما تقدم ورجع سالم بن حبيـب بما غنمه في تلك الوقائع إلى بلده واشتهر أمره واشترى السراري البيض ولم يزل حتى توفي سنة 1151 وخلف ولدًا يسمى عليًا اشتهر أيضًا بالفروسية والنجابة والشجاعة ولمـا مات سالم ترأس عوضه أخوه سويلم في مشيخة نصف سعد فسار بشهامة واشتهر ذكره وعظـم صيتـه فـي الإقليـم المصـري زيـادة عـن أخيـه سالـم ووسع الدواوير والمجالس ولما سافر الأمير عثمـان بـك الفقـاري بالحـج ورجـع سنـة إحـدى وخمسيـن المذكـورة فأرسـل هدية إلى سويلم المذكور وأرسل له الآخر التقادم ثم أن الأمير عثمان بك تغير خاطره على سويلم لسبب من الأسباب فركب عليه على حين غفلة ليلًا وتعالى به الدليـل ونـزل علـى دجـوة طلـوع الشمـس وكـان الجاسوس سبق إليهم وعرفهم بركوب الصنجق عليهم فخرجوا من الدور ووقفوا على ظهور خيولهم بالغيط بعيدًا عن البلد فلما حضر الصنجـق ورمـح علـى دورهـم ورمـى الطوائـف بالرصـاص فلـم يجـدوا أحـدًا‏.‏

فلم يتعرض لنهب شيء ومنع الغز والطوائف عن أخذ شيء وبلغ خبـر ركـوب الصنجـق عمر بك رضوان وإبراهيم بك فركبا خلفه حتى وصلا إليه وسلما عليه فعرفهما أنه لم يجدهم بالبلد فركب عمر بك وأخذ صحبته مملوكين فقط وسار نحو الغيط فرآهـم واقفيـن علـى ظهـور الخيـل فلما عاينوه وعرفوه نزلوا عن الخيل وسلموا عليه فقال لهم‏:‏ لأي شـيء تهربـون مـن أستاذكـم وعرفهم أنه أتى بقصد النزهة وأحضر صحبته علي بن سالم فقابل به الأمير وقبل يده ورجع إلى دواره وأحضر أشياء كثيرة من أنواع المآكل حتى اكتفى الجميع‏.‏

وعزمـوا عليهـم تلك الليلة فبات الصنجق وباقي الأمراء وذبح لهم أغنامًا كثيرة وعجلين جاموس وتعشى الجميع وأخرجوا لهم في الصباح شيئًا كثيرًا من أنواع الفطورات ثم قدم لهم خيولًا صافنات وركبوا ورجعوا إلى منازلهم ولما هرب إبراهيم بك قطامش في أيام محمد راغب باشـا وكـان سويلـم مركونـًا عليـه فجمـع سويلـم عرب بلي وضرب ناحية شبرا المعدية فوصل الخبر إلـى إبراهيـم جاويـش القازدغلي فأخذ فرمانًا بضرب ناحية دجوة والخروج من حق أولاد حبيب فعيـن عليهم ثلاثة صناجق فوزعوا دبشهم وحريمهم في البلاد وركبوا خيولهم ونزلوا في الغيط ونزلت لهم التجريدة ومعهم الجبخانة والمحاربون وهجموا على البلد فوجدوها خالية‏.‏

ولما رأى الحبايبة كثرة التجريدة فوسعوا وذهبوا إلى ناحية الجبل الشرقي وأرسل إبراهيم جاويش إلى عثمـان بـك أبـي سيـف أميـر التجريـدة بأنـه ينـادي في البلد عليهم ولم يدع أحدًا منهم ينزل الريف فركب عثمان بك وطاف بالبلاد يتجسس عليهم وظفر لهم بقومانية وذخيرة ذاهبة إليهم من الريف على الجمال فحجزها وأخذها وذلك مرتين ورجع عثمان بـك ومـن معـه إلـى مصـر وصحبتهم ما وجدوه للحبايبة في البلاد من مواش وسكر وعسل وأخشاب وهدموا جانبًا من بيوتهـم وكـان علـي بـن سالـم لـم يذهـب مـع سويلـم إلـى الجبـل بـل أخـذ عيالـه وذهب عند أولاد فودة فلمـا سمـع بالتقريـظ علـى أصحـاب الـدرك فأتـى إلـى مصـر ودخـل إلى بيت إبراهيم جاويش وعرفه بنفسـه وطلـب منـه الأمـان فعفـا عنـه بشرط أن لا يقرب دجوة ويسكن في أي بلد شاء يزرع مثل الناس ثم أن سويلمًا ومن معه أرسلوا إلى حسين بك الخشاب بأن يأخذ لهم أمانًا من إبراهيم جاويش ففعل وقبل شافعة حسين بك بشرط إبطال حماية المراكب وأذية بلاد الناس ويكفيهم الخفارة التي أخذوها بالقوة واستخلص لهم المواشي التي كان جمعها عثمان بك أبو سيف واستقر سويلم كمما كان بدجوة وبنى له دورًا عظيمة ومقاعد مرتفعة شاهقة في العلو يحمل سقوفها عدة أعمدة وعليها بوائك مقصورة ترى من مسافة بعيدة في البر والبحر وبها عدة مجالس ومخادع ولواوين وفسحات علوية وسفلية وجميعه مفروش بالبلاط الكدان وبنى بداخل ذلك الدوار مسجدًا ومصلى وبداخل حوش الدوار مساطب ومنايف لأجناس الناس الآفاقية وغيرهـم وبنى تحت ذلك الدوار بشاطئ النيل رصيفًا متينًا ومساطب يجلس عليها في بعض الأوقات وأنشأ عدة مراكب تسمى الخرجات ولها شرفات وقلوع عظيمة وعليها رجال غلاظ شداد فإذا مرت بهم سفينة صاعدة أو حادرة صرخ عليها أولئك الرجال قائلين البرفان امتثلوا واحضروا وأخذوا مننهم ما أحبوه من حمل السفينة وبضائع التجار وإن تلكئوا في حضـور قاطعوا عليهم بالخرجات في أسرع وقت وأحضرهم صاغرين وأخذوا منهم أضعاف ما كان يؤخذ منهم لو حضروا طائعين من أول الأمر وكان له قواعد وأغراض وركائز وأناس من الأمراء وأعوانهم بمصر يراسلهم ويهاديهم فيذبون عنه ولا يسمعون فيه شكوى ولـه عـدة مـن العبيـد السود التجارية الفرسان ملازمين له مع كل واحد حرمدان مقلديه ملآن بالدنانير الذهب وكان لا يبيت في داره ويأتي في الغالب بعد الثلث الأخير فيدخل إلى حريمه جصة ثم يخرج بعد الفجـر فيعمـل ديوانًا ويحضر بين يديه عدة من الكتبة ويتقدم إليه أرباب الحاجات ما بين مشايخ بلاد وأجناد وملتزمين وعرب وفلاحين وغير ذلك والجميع وقوف بين يديه والكتاب يكتبون الأوراق والمراسلات إلى النواحي وغالب بلاد القليوبية والشرقية تحـت حمايتـه وحمايـة أقاربـه وأولاده ولهم فيها الشركاء والزروع والدواوير الواسعة المعروفة بهم والمميزة عن غيرها بالعظم والضخامة ولا يقدر ملتزم ولا قائمقام على تنفيذ أمر مع فلاحيه إلا بإشارتـه أو بإشـارة مـن البلد في حمايته من أقاربه وكذلك مشايخ البلاد مع أستاذيهم وكان لهم طرائق وأوضاع في الملابـس والمطاعـم فيقـول النـاس سـرج حبايبـي وشـال حبايبي إلى غير ذلك وكان مع شدة مراسه وقوة بأسه يكرم الضيفان ويحب العلماء وأرباب الفضائل ويأنس بهم ويتكلم معهم في المسائل ويؤاسيهم ويهاديهم وخصوصًا أرباب المظاهر وكان إنسانًا حسنًا وجيهًا محتشمًا مقتصرًا على حالـه وشأنـه ملازمـًا علـى قـراءة الـأوراد والمذاكـرة ويحـب أهـل الفضـل والصلـاح ويتبـرك بهـم وبدعائهم وترددنا عليه وتردد إلينا بمصر كثيرًا وبلونا منه خيرًا وحسن عشرة وكان معه أخوه شيـخ العـرب محمـد علـي مثـل حالـه ويزيـد عنـه الانجمـاع عـن النـاس لغيـر ما يعنيه ويعانيه في خاصة نفسـه وكـان أبوهما على نزل بقليوب بدار فيحاء وكان حسن الخلق وله حشم وأتباع كثيرة وله هيبة عندهم وكان طيب السيرة فصيحًا مفوهًا في حفظه أشعار ونوادر ولديه معرفة وكان يفهم المعنى ويحقق الألفاظ ويطالع الكتب ومقامات الحريري ونحو ذلك‏.‏

ومات الأمير المبجل علي كتخدا مستحفظان الخربطلي وهو من مماليك أحمد كتخدا الخبرطلي الذي جدد جامع الفاكهاني الذب بخط العقادين وصرف عليه من ماله مائة كيس وذلك في سنة 1148 وأصله من بناء الفائز بالله الفاطمي وكان إتمامه في حادي عشر شوال من السنة المذكـورة وكان المباشر على عمارته عثمان جلبي شيخ طائفة العقادين الرومي وفي تلك السنة البس مملوكه المترجم على أوده باشه الضلمة وجعله ناظرًا ووصيًا ومات سيده في واقعة محمد بـك الدفتـردار فـي جملـة الأحـد عشـر أميـرًا المتقـدم بيانهـم وعمـل جاويـش فـي البـاب ثـم عمـل كتخدا واشتهر ذكره بعد انقضاء دولة عثمان بك الغفاري واستقلال إبراهيم كتخدا ورضوان كتخدا الجلفـي بإمـارة مصـر وزوج ابنتـه لعلـي بـك الغـزاوي وعمل لها فرحًا عظيمة ببركة الرطلي عدة أيام كانت من مقترحات مصر وبعد انقضاء أيام الفرح زفت العروس في زفة عظيمة اجتمع العالم من الرجال والنساء والصبيان للفرجة عليها ودخل بها علي بك المذكور وولد له منها حسن جلبي المشهور وأنشأ علي كتخدا المترجم داره العظيمة برأس عطفة خشقدم جهة الباطنيـة وداره المطلة على بركة الرطلي والقصر على الخليج الناصري والقباب المعروفة به وغير ذلك ونفـاه علـي بـك إلـى جهـة قبلـي كمـا تقـدم فلمـا ذهـب علـي بـك إلـى قبلي صالحه وانضوى إليه وكان هـو السفيـر بينـه وبيـن صالـح بـك الأسيوطي حتى أتموه على الوجه المتقدم وحضر صحبته علي بـك إلـى مصر وسكن بداره وأقبلت عليه الناس وقصدوه في الدعاوى والشكاوي وأمن جانب علـي بك واعتقد صداقته وظن أنه قلده منته فلم يلبث إلا أيامًا وأخرجه منفيًا إلى رشيد ثم أرسـل مـن خنقـه هنـاك وكـان أميـرًا جليـلًا وجيهـًا جميل الصورة واسع العينين أبيض اللحية ضخمًا مهاب الشكل بهي الطلعة ودفن هناك‏.‏

ومات الأمير محمد بك أبو شنب وهو من مماليك علي بك وقتل في معركة أسيوط كما تقدم ودفن هناك وكان من الشجعان المعروفين‏.‏

فيهـا ورد علـى علـي بـك الشريـف عبـد اللـه مـن أشـراف مكـة وكان من أمره أنه وقع بينه وبين ابن عمه الشريف أحمد أخي الشريف مساعد منازعة في إمارة مكة بعد وفاة الشريف مساعد فتغلب عليه الشريف أحمد واستقل بالإمارة وخرج الشريف عبد الله هاربًا وذهب إلى ملك الـروم واستنجـد به فكتب له مكاتبات لعلي بك بالمعونة والوصية والقيام معه وحضر إلى مصر بتلك المكتبات في السنة الماضية وكان علي بك مشتغلًا بتمهيد القطر المصري ووافق ذلك غرضـه الباطنـي وهـو طمعـه فـي الاستيـلاء علـى الممالك فأنزله في مكان وأكرمه ورتب له كفايته وأقـام بمصـر حتى تمم أغراضه بالقطر وخلص له قبلي وبحري وقتل من قتله وأخرج من أخرجه فالتفت عند ذلك إلى مقاصده البعيدة وأمر بتجهيز الذخائر والإقامات وعمل البقسماط الكثير حتـى ملـأوا منـه المخـازن ببولاق ومصر القديمة والقصور البرانية وبيوت الأمراء النمافي االخالية ثم عبوا ذلك وأرسل مع باقي الاحتياجات واللوازم من الدقيق والسمن والزيت والعسل والسكر والأجبان في البر والبحر واستكتب أصناف العساكر أتراكًا ومغاربة وشوامًا ومتاولة ودروزًا وحضارمـة ويمانيـة وسودانـًا وحبوشـًا ودلاة وغير ذلك وأرسل منهم طوائف في المقدمات والمشاة أنزلوه من القلزم في المراكب وصحبتهم الجبخانات والمدافع وآلات الحرب وخرجت التجريدة في شهر صفر بعد دخول الحجاج في تجمل زائد ومهيأ عظيم وساري عسكرها محمد بك أبو وفي ذ

ثاني عشرين ربيع الأول

وردت الأخبار من القطار الحجازية بوقوع حرابة عظيمة بيـن المصريين وعرب الينبع وخلافهم من قبائل العربان والأشراف ووقعت الهزيمة على المذكورين وقتل وزير الينبع المتولي من طرف شريف مكة وقتل معه خلائق كثيرة‏.‏

وفـي تاسـع شهـر ربيـع الآخـر وصـل نجـاب إلـى مصـر من الديار الحجازية وأخبر بدخول محمد بك ومن معه إلى مكة وانهزام الشريف أحمد وخروجه هاربًا ونهب المصرين دار الشريف ومن يلوذ به وأخذوا منها أشياء كثيرة من أمتعة وجواهر وأموال لها قدر وجلس الشريف عبد الله في إمـارة مكـة ونـزل حسـن بـك إلـى بندرجـدة وتولـى إمارتهـا عوضـًا عـن الباشـا الذي تولاها من طرف ملـك الـروم ولذلك عرف بالجداوي وأقام محمد بك أيامًا بمكة ثم عزم على المسير والرجوع إلى مصر ووصلت الأخبار والبشائر بذلك وأرسلت إليه الملاقاة بالعقبة وخلافها فلما ورد الخبر بوصولـه إلـى العقبـة خرجـت الأمـراء إلـى بركـة الحـاج والـدار الحمـراء لانتظـار قدومـه فوصل في أوائل شهر رجب ودخل إلى مصر في ثامنه في موكب عظيم وأتت إليه العلماء والأعيان للسلام وقصدته الشعراء بالقصائد والتهاني‏.‏

وفي منتصف رجب المذكور عزل علي بك عبد الرحمن أغا مستحفظان وقلد عوضه سليم أغـا الوالـي وقلـد عـوض الوالـي موسـى أغـا مـن أتباعـه وأمـر عبد الرحمن أغا بالسفر إلى ناحية غزة وهـي أول حركاتـه إلـى جهـة الشـام وأمـره بقتل سليط شيخ عربان غزة فلم يزل يتحيل عليه حتى قتله هو وأخوته وأولاده وكان سليط هذا من العصاة العتاة له سير وأخبار‏.‏

وفيه زاد اهتمام علي بك بالتحرك على جهة الشام واستكثر من جمع طوائف العساكر وعمل بالقسماط والبـارود والذخائـر والمـؤن وآلـات الحـرب وأمـر بسفـر تجريـدة وأميرهـا اسمعيـل بـك وصحبتـه علـي بـك الطنطـاوي وعللـي بـك الحبشـي فبـرزوا إلـى جهـة العادلية وخرجوا بما معهم من طوائف العسكر والمماليك والأحمال والخيام والجباخانات والعربات والضوبة وقرب الماء الكثيرة على الجمال والكرارات والمطابخ والطبول والزمور والنقاقير وغير ذلك فلما تكامل خروجهـم أقاموا بالعادلية أيامًا حتى قضوا لوازمهم وارتحلوا وسافروا إلى جهة الشام‏.‏

وفي حادي عشرينه برزت تجريدة أخرى وعليها سليمان بك وعمر كاشف وحملة كثيرة من العساكر فنزلوا من طريق البحر على دمياط‏.‏

وفي عاشر شهر القعدة وردت أخبار من جهة الشام وأشيع وقوع حرابات بينهم وبين حكام الشام وأولاد العظم‏.‏

وفي منتصف خرجت تجريدة أخرى وسافر على طريق البر على النسق‏.‏

وفي سابع عشره طلب علي بك حسن أغا تابع الوكيل والروزنامجي وباش قلفة واسمعيل أغا وفـي أواخـره عمـل علـي بك دراهم على القرى وقرر على كل بلد مائة ريال وثلاثمائة ريال حق طريق فضجت الناس من ذلك وطلب من النصارى القبط مائة ألف ريال ومن اليهود أربعين ألفًا وقبضت جميعها في أسرع وقت‏.‏

من مات في هذه السنة مات الشيخ العمدة الفاضل الكامل الأديب الماهر الناظم الناثر الشيخ عبد الله بن عبد الله بن سلامة الأدكاوي المصري الشافعي الشهير بالمؤذن ولد بادكو وهي قريـة قـرب رشيـد سنـة 104 كما أخبر من لفظه وبها حفـظ القـرآن وورد إلـى مصـر فحضـر دروس علمـاء عصـره وأدرك الطبقـة الأولـى واشتهـر بفـن الـأدب وانضـوى إلـى فخـر الأدباء في عصره السيد علي أفندي برهان زاده نقيب السادة الأشراف فأنزله عنده في إكرام واحتفل به وكفاه المؤنة من كل وجه وصار يعاطيه كؤوس الآداب ويصافيه بمطارحة أشهى من ارتشاف الرضاب وحج بصحبته بيت الله الحـرام وزار قبـر نبيـه عليه الصلاة والسلام وذلك سنة 1147 وعاد إلى مصر وأقبل على تحصيل الفنون الأدبية فنظم ونثر ومهر وبهر ورحل إلى رشيد وفوة والإسكندرية مرارًا واجتمع على أعيـان كـل منهـا وطارحهـم ومدحهـم وفـي سنـة تسـع وثمانيـن رأيـت مـن نظمـه بيتيـن بخطه في جدار جامع بن نصر الله بقوة تاريخ كتابتهما سنة خمس وأربعين وبعد وفاة السيد النقيب تزوج وصـار صاحـب عيـال وتنقلـت بـه الأحوال وصار يتأسف على ما سلف من عيشه الماضي في ظـل ذلـك السيـد قـدس سره فلجأ إلى أستاذ عصره الشيخ الشبراوي ولازمه واعتنى به وصار لا ينفـك عنـه ومدحـه بغرر قصائده وكان يعترف بفضله ويحترمه ولما توفي انتقل إلى شيخ وقته الشمس الحنفي فلازمـه سفـرًا وحضـرًا ومدحـه بغـرر قصائـده فحصلـت لـه العنايـة والإعانـة وواساه بما به حصلت الكفاية والصيانة وله تصانيـف كلهـا غـرر ونظـم نظامـه عقـود الـدرر فمنهـا الـدرة الفريـدة والمنـح الربانيـة فـي تفسير آيات الحكم العرفانية والقصيدة للزدية في مدح خير البرية ألفها لعلي باشا الحكيم ومختصر شرح بانت سعاد للسيوطي والفوائح الجنائية في المدائح الرضوانية جمع فيها أشعار المادحين للمذكور ثم أورد في خاتمتها ماله من الأمداح فيه نظمًا ونثـرًا وهدايـة المتهوميـن في كذب المنجمين والنزهة الزهية بتضمين الرجبية نقلها من الفرائض إلى الغزل وعقود الدرر في أوزان الأبحر الستة عشر التزم في كل بيت منها الاقتباسات الشريفة والدر الثمين في محاسن التضمين وبضاعة الأريب في شعر الغريب وذيلها بذيل يحكي دمية القصر وله المقامة التصحيفية والمقاومة القمذية في المجون وله تخميس بانـت سعـاد صدرهـا بخطبـة بديعة وجعلها تأليفًا مستقلًا وديوانه المشهور على حروف التهجي وغير ذلك وقد كتب بخطه الفائق كثيرًا من الكتب الكبار ودواوين الأشعار وكل عدة أشياء من غرائب الأسفار رأيت من ذلك كثيرًا وقاعدة خطه بين أهل مصر مشهورة لا تخفى ورأيت مما كتب كثيرًا فمن الدواوين ديوان حسان رضي الله عنه رأيته بخطه وقد أبدع في تنميقه وكتب على حواشيه شرح الألفاظ الغريبة ونزهـة الألبـاب الجامـع لفنـون الـآداب ولـه مطارحـات لطيفـة مـع شعـراء عصره والواردين على مصر ولم يزل على حاله حتى صار أوحد زمانه وفريد عصره وأوانه ولمـا توفـي الأستـاذ الحنفـي اضمحـل حالـه ولعـب بلبالـه واعترتـه الأمراض ونصب روض عزه وغاض وتعلل مدة أيام حتى وافاه الحمام في نهار الخميس خامس جمادى الأولى من السنة وأخرج بصباحه وصلى عليه بالأزهر ودفن بالمجاورين فسرب تربة الشيخ الحنفي وفي سنـة ثلـاث وسبعين ومائة وألف لما اختلفت خدام المشهد النفيسي وكبيرهم إذ ذاك الشيخ عبد اللطيف في أمر العنز وذلك أنهم أظهروا عنزًا صغيرة مدرة زعموا أن جماعة من الأسرى ببلاد الإفرنج توسلوا بالسيدة نفيسة وأحضروا تلك العنز وعزموا على ذبحها في ليلة يجتمعون فيها يذكرون ويدعـون ويتوسلـون فـي خلاصهـم ونجاتهـم من الأسر فاطلع عليم الكافر فزجرهم وسبهم ومنعهم من ذبح العنز وبات تلك الليلة فرأى رؤيا حالته فلما أصبح أعتقهم وأطلقهم وأعطاهم دراهم وصرفهـم مكرميـن ونزلـوا فـي مركـب وحضروا إلى مصر وصحبتهم تلك العنز وذهبوا إلى المشهد النفيسـي بتلـك العنـز وذكـروا فـي تلـك العنـز غير ذلك من اختلافهم وخورهم كقولهم أنهم يوم كذا أصبحوا فوجدوها عند المقام أو فوق المنارة وسمعوها تتكلم أو أن السيدة تكلمت وأوصت عليها وسمع الشيخ المذكور كلامها من داخل القبر وأبرزها للناس وأجلسها بجانبه ويقول للناس ما يقوله من الكذب والخرافات التي يستجلب بها الدنيا وتسامع الناس بذلك فأقبل الرجـال والنساء من كل فج لزيارة تلك العنزة وأتوا إليها بالنذور والهدايا وعرفهم أنها لا تأكل إلا قلب اللوز والفستق وتشرب ماء الورد والسكر المكرر ونحو ذلك فأتوه بأصنـاف ذلـك بالقناطيـر وعمل النساء للعنز القلائد الذهب والأطواق والحلي ونحو ذلك وافتتنوا بها وشاع خبرها في بيوت الأمراء وأكابر النساء وأرسلن على قدر مقامهـن مـن النـذور والهدايـا وذهبـن لزيارتهـا ومشاهدتها وازدحمن عليها فأرسل عبد الرحمن كتخـدا إلـى الشيـخ عبـد اللطيـف المذكـور والتمـس منـه حضـوره إليـه بتلـك العنـز ليتبـرك بها هو وحريمه فركب المذكور بغلته وتلك العنز في حجره ومعه طبول وزمور وبيارق ومشايخ وحوله الجم لغفير من الناس ودخل بها بيت الأمير المذكور على تلك الصورة وصعد بها إلى مجلسه وعنده الكثير من الأمراء والأعيان فزارها وتملس بها ثم أمر بإدخالها إلى الحريم ليتبركن بها وقد كان أوصى الكلارجي قبل حضوره بذبحهـا وطبخهـا فلمـا أخذوهـا ليذهبـوا بهـا إلـى جهـة الحريـم أدخلوها إلى المطبخ وذبحوها وطبخها قيمـة وحضـر الغـداء وتلـك العنـز فـي ضمنـه فوضعوهـا بيـن أيديهـم وأكلـوا منهـا والشيخ عبد اللطيف كذلك صار يأكل منها والكتخدا يقول‏:‏ كل يا شيخ عبد اللطيف من هذا الرميس السمين فيأكـل منهـا ويقـول‏:‏ واللـه إنـه أطيـب ومستـو ونفيـس وهـو لا يعلـم أنـه عنـزه وهم يتغامزون ويضحكون فلما فرغوا من الأكل وشربوا القهوة وطلب الشيخ العنز فعرفه الأمير أنها هي التي كانت بين يديه في الصحن وأكلها فبهت فبكته الأمير وربخه وأمره بالانصراف وأن يوضع جلد العنـز علـى عمامتـه ويذهـب به كما جاء بجمعيته وبين يديه الطبول والأشاير ووكل به من أوصله محله على تلك الصورة ولم يزل المترجم حتى تعلعل بالأمراض والأسقام واضمحل منه الجسم والقـوى بالآلـام حتـى وافـاه الحمـام فـي يـوم الخميـس خامـس جمـادى الأولى من السنة رحمه الله وابنه العلامـة السيـد أحمـد المعـروف بكتيكـت مفتـي الشافعيـة بثغـر سكندريـة والسيـد هلـال الكتبـي توفيا بعده بسنين والشيخ صالح الصحاف موجود مع الأحياء أعانه الله على وقته‏.‏

ومات الإمام الفصيح البارع الفقيه الشيخ جعفر بن حسن بن عبد الكريم ابن محمد بن رسول الحسيني البرزنجي المدني مفتي الشافعية بها ولد بالمدينة وأخذ عن والده والشيخ محمد حيوة السنـدي وأجـازه السيـد مصطفـى البكـري وكـان يقـرأ دروس الفقـه داخـل بـاب السلام وكان عجيبًا في حسن الإلقاء والتقرير ومعرفة فروع المذهب تولى الإفتاء والخطابة مدة تزيد على عشريـن سنـة كـان قـوالًا بالحق أمارًا بالمعروف واجتمع به الشيخ سليمان بن يحيى شيخ المشايخ وذكره في رحلته وأثنى عليه وله مؤلفات منها البر العاجل بإجابة الشيخ محمد غافل والقبض اللطيـف بإجابة نائب الشرع الشريف وفتح الرحمن على أجوبة السيد رمضان توفي في شهور هذه السنة قيل مسمومًا والله أعلم‏.‏

ومات الولي العارف أحد المجاذيب الصادقين الأستاذ الشيخ أحمد ابن حسن النشرتي الشهير بالعريان كان من أرباب الأحوال والكرامات ولد في أول القرن وكان أول أمره الصحو ثم غلب عليـه السكـر فأدركـه المحـو وكانت له في بدايته أمور غريبة وكان كل من دخل عليه زائرًا يضربه بالجريد‏.‏

وكان ملازمًا للحج في كل سنة ويذهب إلى موالد سيدي أحمد البدوي المعتادة‏.‏

وكان أميًا لا يقرأ ولا يكتب وإذا قرأ قارئ بين يديـه وغلـط يقـول لـه ق فإنـك غلطـت وكـان رجـلًا جلاليـًا يلبـس الثيـاب الخشنة وهي جبة صوف وعمامة صوف حمراء يعتم بها على لبدة من صوف ويركب بغلة سريعة العدو وملبسه دائمًا على هذه الصفة شتاء وصيفًا وكان شهير الذكـر يعتقد الخاصة والعامة وتأتي الأمراء والأعيان لزيارته والبرك به ويأخذ منهم دراهم كثيرة ينفقها على الفقراء المجتمعين عليه وأنشأ مسجده تجاه الزاهد جوار داره وبنى بجواره صهريجًا وعمل لنفسه مدفنًا وكذلك لأهله وأقاربه وأتباعه واتحد به شيخنا السيد أحمد العروسي واختص به اختصاصًا زائدًا فكان لا يفارقه سفرًا ولا حضرًا وزوجه إحدى بناته وهـي أم أولـاده وبشـره بمشيخة الجامع الأزهر والرئاسة فعادت عليه بركته وتحققت بشارته وكان مشهورًا بالاستشـراف علـى الخواطـر توفـي رحمـه اللـه في منتصف ربيع الأول وصلى عليه بالأزهر ودفن بقبره الذي أعده لنفسه في مسجده نفعنا الله به وبعباده الصالحين‏.‏

ومات الفقيه الصالح الشيخ علي بن أحمد بن عبد اللطيف البشبيشي الشافعي روى عن أبيه عن البابلي توفي في غاية ربيع الثاني من السنة‏.‏

ومات الشيخ المبجل الصالح المفضل الدرويش الشيخ أحمد المولوي شيخ المولوية بتكية المظفر وكان إنسانًا حسنًا لا بأس به مقبلًا على شأنه منجمعًا عن خلطة كثير من الناس إلا بحسب الدواعي توفي في سابع عشرين ربيع الآخر من السنة ولم يخلف بعده مثله‏.‏

ومات المقدام الخير الكريم صاحب الهمة العالية والمروءة التامة شمس الدين حمودة شيخ ناحية برمـه بالمنوفيـة أخـذ عـن الشيـخ الحفنـي وكـان كثير الاعتقاد فيه والإكرام له ولأتباعه وله حب في أهـل الخير واعتقاد في أهل الصلاح ويكرم الوافدين والضيفان‏.‏

وكان جميل الصورة طويلًا مهيبًا حسن الملبس والمركب‏.‏

توفي يوم الخميس حادي عشر رجب من السنة وخلف أولادًا منهم محمد الحفني الذي سماه على اسم الشيخ لمحبته فيه وأحمد وشمس الدين‏.‏

ومات بقية السلف ونتيجة الخلف الشيخ أحمد سبط الأستاذ الشيخ عبد الوهاب الشعراني وشيخ السجادة كان إنسانًا حسنًا وقورًا مالكًا منهج الاحتشـام والكمـال منجمـًا عـن خلطـة الناس إلا بقدر الحاجة‏.‏

توفي يوم السبت ثامن صفر من السنة وخلف ولده سيـدي عبـد الرحمن مراهقًا تولى بعده على السجادة مع مشاركة قريبه الشيخ أحمد الذي تزوج بوالدته‏.‏

ومات الإمامة العلامة الفقيه الصالح الناسك صائم الدهر الشيخ محمد الشوبري الحنفي تفقه على الشيخ الاسقاطي والشيخ سعودي وبعد وفاة المذكورين لازم الشيخ الوالد وتلقى عنه كثيـرًا وكان إنسانًا حسنًا وجيهًا لا يتداخل فيما لا يعنيه مقبلًا على شأنه صائم الدهر وملازمًا لداره بعد حضور درسه وكان بيته بقنطرة الأمير حسين مطلًا على الخليج‏.‏

سنة خمس وثمانين ومائة وألف أخرج علي بك تجريدة عظيمة وسر عسكرها وأميرها محمـد بـك أبـو الذهـب وأيـوب بـك ورضـوان بك وغيرهم كشاف وأرباب مناصب ومماليكهم وطوائفهم وأتباعهم وعساكر كثيرة من المغاربة والترك والهنود واليمانية والمتاولة وخرجوا في تجمل زائد واستعداد عظيم ومهيأ كبير ومعهـم الطبـول والزمـور والذخائـر والأحمـال والخيـام والمطابـخ والكـرارات والمدافـع والجبخانات ومدافع الزنبلـك علـى الجمـال وأجنـاس العالـم ألوفـًا مؤلفـة وكذلـك أنزلـوا الاحتياجـات والأثقـال وشحنوا بها السفن وسافرت من طريق دمياط في البحر‏.‏

فلما وصلوا إلى الديار الشامية فحاصروا يافا وضيقوا عليها حتى ملكوها بعد أيام كثيرة ثم توجهوا إلى باقي المدن والقرى وحاربهم النواب والولاة وهمزموهم وقتلوهم وفروا من وجوههم واستولوا على المماليك الشامية إلى حد حلب ووردت البشائر بذلك فنودي بالزينة فزينت مصر وبولاق ومصر العتيقة زينة عظيمة ثلاثة أيام بلياليها وتفاخروا في ذلك إلى الغاية وعملت وقدات وأحمال قناديل وشموع بالأسـواق وسائـر الجهـات وعملـوا ولائم ومغناي وآلات وطبولًا وسنكًا وحراقات وغير ذلك وذلك في شهـر ربيـع أول مـن السنـة‏.‏

وتعاظـم علـي بـك فـي نفسـه ولـم يكتـف بذلـك فأرسـل إلـى محمـد بـك يأمـره بتقليـد الأمـراء المناصـب والولايات على البلاد التي افتتحوها وملكوها وإن يستمر في سيره ويتعـدى الحـدود ويستولـي علـى المماليـك إلـى حيـث شـاء وهو يتابع إليه إرسال الإمدادات واللوازم والاحتياجـات‏.‏

ولا يثنـون عنانهـم عمـا يأمرهـم بـه‏.‏

فعند ذلك جمع محمد بك أمراءه وخشداشينه الكبـار فـي خلـوة وعـرض عليهـم الأوامـر فضاقت نفوسهم وسئموا الحرب والقتال والغربة وذلك ما فـي نفـس محمـد بـك أيضـًا‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ ما تقولون قالوا‏:‏ وما الذي نقوله والرأي لك فأنت كبيرنا ونحن تحت أمرك وإشارتك ولا نخالفك فيمـا تأمـر بـه‏.‏

فقـال‏:‏ ربمـا يكـون رأيـي مخالفـًا لأمـر أستاذنا‏.‏

قالوا‏:‏ ولو مخالفًا لأمره فنحن جميعًا لا نخرج عن أمرك وإشارتك فقال‏:‏ لا أقول لكم شيئـًا حتـى نتحالـف جميعـًا ونتعاهـد علـى الـرأي الذي يكون بيننا‏.‏

ففعلوا ذلك وتعاهدوا وحلفوا علـى السيـف والكتـاب‏.‏

ثـم أنـه قـال لهـم‏:‏ إن أستاذكـم يريـد أن تقطعـوا أعماركم في الغربة والحرب والأسفـار والبعـد عـن الأوطـان وكلمـا فرغنـا من شيء فتح علينا غيره فرأيي أن نكون على قلب رجل واحد ونرجع إلى مصر ولا نذهب إلى جهة من الجهات وقد فرغنا من خدمتنا وإن كان يريـد غيـر ذلـك مـن المماليـك يولـي أمـراء غيرنـا ويرسلهم إلى ما يريد ونحن يكفينا هذا القدر ونرتاح فـي بيوتنـا وعنـد عيالنـا‏.‏

فقالـوا جميعًا‏:‏ ونحن على رأيك‏.‏

وأصبحوا راحلين وطالبين إلى مصر فحضـروا فـي أواخر شهر رجب على خلاف مراد مخدومهم وبقي الأمر على السكوت‏.‏

ثم أن علي بك قلد أيوب بك إمارة جرجا وقضى أشغاله وسافر إلى الصعيد بطائفته وأتباعه‏.‏

وانقضـى شهـر شعبـان ورمضـان وعلـي بـك مصمـم على رجوع محمد بك إلى جهة الشام‏.‏

وذلك مصمـم علـى خلـاف ذلـك‏.‏

وبـدت بينهما الوحشة الباطنية‏.‏

فلما كان ليلة رابع شهر شوال بيت علي بك مع علي بك الطنطاوي وخلافه واتفق معهم على غدر محمد بك فركبوا عليه ليلًا وأحاطوا بداره ووقفه له العساكر بالأسلحة في الطرق فركب في خاصته وخرج من بينهم وذهب إلى ناحية البساتين وارتحل إلى الصعيد‏.‏

فحضر إليه بعض الأمراء أصحاب المناصب وعلـي كاشـف تابـع سليمـان أفنـدي كاشـف شـرق أولـاد يحيـى وقدموا له ما معهم من الخيام والمال والاحتياجات‏.‏

ولم يـزل فـي سيـره حتـى وصـل إلـى جرجـا واجتمـع عليـه أيـوب بـك خشداشـه وأظهـر له المصافاة والمؤاخاة وقدم له هدايا وخيولًا وخيامًا فلم يلبث إلا وقد أحضر عيون محمد بك يأمره ويستحثه على عمل الحيلة وقتل محمد بك بأي وجه أمكنه ويعده إمارته وبلاده وغير ذلـك‏.‏

فلما قرأ المراسلة وفهم مضمونها أكرم الرجل وقال له‏:‏ تذهب إليه بالكتاب وأثني بجوابه ولك مزيد الإكرام فذهب ذلك الساعي وأوصل الكتاب إلى أيوب بك وطلب منه رد الجواب وأعطـاه الجـواب وذكـر فيـه أنه مجتهد في تتميم الغرض ومترقب حصول الفرصة‏.‏

فحضر به إلى محمد بك‏.‏

فعند ذلك استعد محمد بـك وتحقـق خيانتـه ونفاقـه فاتفـق مـع خاصتـه وأمرائـه بالاستعداد والوثوب وأنه إذا حضر إليه أيوب بك أخذ أربـاب المناصـب نظراءهـم وتحفظـوا عليهـم‏.‏

فلمـا حضـر فـي صبحهـا أيـوب بـك جلـس معـه فـي خلـوة وأخـذ كـل مـن الخازنـدار والكتخدا والجوخـدار والسلحدار نظراءهم من جماعة محمد بك ثم قال محمد بك يخاطب أيوب بك‏:‏ يا هل ترى نحن مستمرون على الأخوة والمصافاة والصداقة والعهد واليمين الذي تعاقدنا عليـه بالشام قال‏:‏ نعم وزيادة‏.‏

قال‏:‏ ومن نكث ذلك وخان اليمين ونقض العهد قال‏:‏ يقطع لسانه الـذي حلـف بـه ويـده التـي وضعهـا على المصحف‏.‏

فعند ذلك قال له‏:‏ بلغني أنه أتاك كتاب من أستاذنـا علـي بـك‏.‏

فجمـد ذلـك فقال‏:‏ لعل ذلك صحيح وكتبت له الجواب أيضًا‏.‏

قال‏:‏ لم يكن أبـدًا ولـو أتانـي منـه جـواب لأطلعتـك عليه ولا يصح أني أكتمه عنك أو أرد له جوابًا‏.‏

فعند ذلك أخـرج لـه الجـواب مـن جيبـه وأحضـر إليـه الرسـول فسقـط فـي يـده وأخـذ يتنصـل ببارد العذر‏.‏

فعند ذلك قال له‏:‏ حينئذ لا تصح مرافقتك معي وقم فاذهب إلى سيدك وأمر بالقبض عليه وأنزلوه إلـى المركـب وأحـاط بوطاقـه وأسبابـه وتفرقـت عنـه جموعـه‏.‏

فلمـا صار وحيدًا في قبضته أحضر عبـد الرحمـن أغـا وكـان إذ ذاك بناحيـة قبلي وانضم إلى محمد بك فقال له‏:‏ اذهب إلى أيوب بك واقطع يده ولسانه كما حكم على نفسه بذلك‏.‏

فأخذ معه المشاعلي وحضر إليه في السفينة وقطعـوا يمينـه ثـم شبكـوا فـي لسانـه سنـارة وجذبـوه ليقطعـوه فتخلـص منهم وألقى بنفسه في البحر فغرق ومات‏.‏

وكان قصد محمد بك أن يفعل به ذلك ويرسله على هذه الصورة إلى سيده بمصر‏.‏

ثم إنهم أخرجوه وغسلوه وكفنوه ودفنوه‏.‏

فعندما وقع ذلك أقبلـت الأمـراء والأجنـاد المتفرقـون بالأقاليـم علـى محمـد بـك وتحققـوا عنـد ذلـك الخلـاف بينـه وبيـن سيده وقد كانوا متجمعين عـن الحضور إليه ويظنون خلاف ذلك‏.‏

وحضر إليه جميع المنافي وأتباع القاسمية والهوارة الذين شردهم علي بك وسلب نعمتهم فأنعم عليهم وأكرمهم وتلقاهم بالبشاشة والمحبة واعتذر لهم وواساهم وقلدهم الخدم والمناصب وهم أيضًا تقيدوا بخدمته وبذلوا جهدهم في طاعته‏.‏

ووصلـت الأخبـار بذلـك إلـى مصـر وحضـر إليـه كثير من مماليك أيوب بك وأتباعه سوى من انضم منهم والتجأ إلى محمد بك وأتباعه فعند ذلك نزل بعلي بك من القهر والغيظ المكظوم ما لا يوصف وشرع في تشهيل تجريدة عظيمة وأميرها وسر عسكرها اسمعيل بـك واحتفـل بهـا احتفـالًا كثيـرًا وأمـر بجمـع أصنـاف العساكـر واجتهـد فـي تنجيـز أمرهـا في أسرع وقت وسافروا برًا وبحـرًا فـي أواخـر ذي العقـدة‏.‏

فلمـا التقـى الجمعـان خامـر اسمعيـل بـك وانضـم بمـن معـه مـن الجموع إلى محمـد بـك وصـاروا حزبـًا واحدًا ورجع الذين لم يميلوا وهم القليل إلى مصر‏.‏

فعند ذلك اشتد الأمـر بعلـي بـك ولاحـت علـى دولته لوائح الزوال وكاد يموت من الغيظ والقهر وقلد سبع صناجق والكل مزلقون وسماهم أهل مصر السبع بنات وهم مصطفى بك وحسن بك ومراد بك وحمزة بك ويحيى بك وخليل بك كوسه ومصطفى بك أود باشه وعمـل لهـم برقـًا وداقمـًا ولـوزام وطبلخانات في يومين وضم إليهم عساكر وطوائف ومماليك وأتباعـًا وبـرز بنفسـه إلـى جهـة البساتيـن وشـرع فـي تشهيـل تجريـدة أخـرى وأميرها علي بك الطنطاوي وأخرج الجبخانات والمدافع الكثيرة وأمر بعمل متاريس من البحر إلى جهة الجبل وانقضت السنة‏.‏

من مات في هذه السنة ممن له ذكر مات الإمام الفقيه الصالح الخير الشيخ علي بن صالح بن موسى بن أحمد بن عمارة الشاوري المالكي مفتي فرشوط قرأ بالأزهر العلوم ولازم العلامة الشيخ علي العدوي وتفقه عليه وسمع الحديـث مـن الشيـخ أحمـد ابـن مصطفـى السكنـدري وغيـره ورجع إلى فرشوط فولي إفتاء المالكية بها فسار فيها سيرًا مقتصدًا ولما ورد عليه الشيخ ابن الطيب راجعًا من الروم تلقى عنه شيئًا من الكتب وأجازه وكان لشيخ العرب همام بن يوسف في حقه عناية شديدة وصحبة أكيـدة وكانـت شفاعـات العلمـاء مقبولـة عنـده بعنايتـه ولذلـك راج أمره واشتهر ذكره وطار صيته‏.‏

وكان حسن المذاكرة والمحاورة محتشمًا في نفسـه مجمـلًا فـي ملابسـه وجيهـًا معتبـرًا فـي الأعيـن‏.‏

وألـف شيخنـا السيـد محمـد مرتضـى باسمـه نشـق الغوالـي مـن الموريـات العوالـي وذلك أيام رحلته إلى فرشوط ونزوله عنده ورفع شأنه عند شيخ العرب وأكرمه إكرامًا كثيرًا ولما تغيـرت أحـوال الصعيد قدم إلى مصر مع ابن مخدومه وما زال بها حتى توجه إلى طندتا وكان يعتريه حصر البـول فيجلـس أيامـا وهـو ملـازم للفـراش فـزار وعـاد‏.‏

توفي يوم دخوله إلى بولاق نهار الثلاثاء ثالث عشر شعبان من السنة وكان يومًا مطير ذا رعد وبرق فوصل خبره إلى الجامع الأزهر فخرج إليه الشيخ علي الصعيدي وكثير من العلماء وتخلف من تخلف لذلك العـذر فجهـزوه هنـاك وكفنـوه وأتـوا به إلى الأزهر وأراد الشيخ الصعيدي دفنه في مدفن عبد الرحمن كتخدا لصعوبة ومات الفقيه الفاضل العلامة الشيخ علي بن عبد الرحمن بن سليمان ابن عيسى بن سليمان الخطيب الجديمي العدوي المالكي الأزهري الشهير بالخرائطي ولد في أول القرن وقدم الجامع الأزهـر فحضـر دروس جماعـة من فضلاء العصر ولازم بلدية الشيخ علي الصعيدي ملازمة كلية ودرس بالأزهر ونفع الطلبة وكان إنسانًا حسنًا منور الشيبة ذا خلـق حسـن وتـودد وبشاشـة ومروءة كاملة وكان له ميل تام في علم الحديث ويتأسف على فوات اشتغاله به ويحب كلام السلف ويتأمـل فـي معانيـه مـع سلامـة الاعتقـاد وكثـرة الإخلـاص‏.‏

توفـي عشيـة يـوم الأربعـاء ثانـي المحـرم افتتاح سنة 1185‏.‏

ومـات الإمـام العلامـة الفاضل المحقق الدراك المتفنن الشيخ محمد بان اسمعيل بن محمد بن اسمعيل بن خضر النقراوي المالكي كان والده من أهل العلم والصلاح والزهد عن جانب عظيم وعمر كثيـرًا حتـى جاوز المائة وانحنى ظهره وتوفي سنة 1178‏.‏

تربى المترجم في حجر أبيه وحفظ القـرآن والمتـون وحضـر دروس الشيـخ سالـم النقـراوي والشيـخ خليـل المالكـي وغيرهمـا وتفقه وحضر المعقول على كثيـر مـن الفضـلاء ومهـر وأنجـب درس وكـان جيـد الحافظـة قـوي الفهـم والغـوص علـى عويصـات المسائـل ودقائـق العلـوم مستحضـرًا للمسائـل الفقهيـة والعقليـة ولمـا بلغ المنتهى في العلوم المشهورة تاقت نفسه للعلوم الحكمية والرياضية فأحضره والده للشيخ الوالد سنة 1171 والتمس منه مطالعته عليه فأجابه إلى ذلك ورحب به وكان عمره إذا ذاك نيفًا وعشريـن سنـة‏.‏

ولمـا رأى مـا فيـه مـن الذكـاء والنجابـة والقوة الاستعدادية والجد في الطلب اغتبط به كثيرًا وصرف إليه همته وأقبل عليه بكليته وأعطاه مفتاح خزانة بالمنزل يضع فيها كتبه ومتاعه واشترى له حمارًا ورتب له مصروفًا وكسوة ولازمه ليلًا ونهارًا ذهابـًا وإيابـًا حتـى اشتهـر بنسبتـه إليـه فكـان يرسلـه فـي مهماتـه وأسـراره إلـى أكابـر مصـر وأعيانها مثل علي بك وعبد الرحمن كتخدا وغيرهما فيحسن الخطاب والجواب مع الحشمة وحسن المخاطبة مع معرفتهم بفضله وعلمه وكانوا يكرمونه‏.‏

ومدحهم بقصائد لم أعثر على شيء منها للإهمال وطول العهد فكان لا يذهـب إلـى داره إلا فـي النـادر بعـد حصـة مـن الليـل ويرجـع فـي الفجـر وينـزل إلـى الجامـع بعـد طلوع النهـار فيقـرأ درسيـن ثـم يعـود فـي الضحـوة الكبـرى فيقيـم إلـى العصـر فيذهـب إلـى الجامـع فيقـرأ درسًا في المعقول ثم يعود‏.‏

وهكذا كان دأبه إلى أن مات‏.‏

تلقى عنه فـن الميقـات والهيئـة والهندسـة وهدايـة الحكمـة وشرحهـا القاضـي زادة والجغمينـي والمبادي والغايات والمقاصد في أقل زمن مع التحقيق والتدقيق وحضر عليه المطول والمواقف والزيلعـي فـي الفقـه برواق الجبرت بالأزهر وغير ذلك كل ذلك بقراءته وعانى علم الأوفاق وتلقاه عن الشيـخ المرحـوم حتـى أدرك أسـراره وأقبلـت عليـه روحانيتـه‏.‏

وأجـازه الملـوي والجوهـري والحفنـي والعفيفـي وغيرهـم ولمـا نفـي علـي بك إلى النوسات إلى الشيخ فطلب منه أشياء يرسلها إليه مع المترجم فأرسله إليه وأقام عنده أيامًا ورجع من غير أن يعلم أحد بذهابه ورجوعه وكـان يكتـب الخـط الجيـد وجـوده علـى الشيـخ أحمـد حجـاج المعـروف بأبـي العـز‏.‏

وكتـب بخطه كثيرًا وألف حاشية على شرح العصام على السمرقندية وأجوبة عن الأسئلة الخمسة التي أوردها الشيـخ أحمـد الدمنهـوري علـى علمـاء العصـر وأعطاهـا إلى علي بك وقال له‏:‏ أعطها للعلماء الذين يترددون عليك يجيبوني عنها إن كانوا يزعمون أنهم علماء فأعطاهـا علـي بـك للشيـخ الوالـد وأخبره بمقابلة الشيخ الدمنهوري فقال له‏:‏ هذه وإن كانت من عويصات المسائـل يجيـب عنهـا ولدنـا الشيـخ محمد النقراوي‏.‏

والخمسة الأسئلة المذكورة‏:‏ الأول في إبطال الجزء الذي لا يتجزأ‏.‏

الثاني في قول ابن سينا ذات الله نفس الوجود المطلق ما معناه‏.‏

الثالث في قول أبي منصور الماتريدي معرفة الله واجبة بالعقل مع أن المجهول من كل وجه يستحيل طلبه‏.‏

الرابع في قول البرجلي إن من مات من المسلمين لسنا نتحقق موته على الإسلام‏.‏

الخامس في الاستثناء في الكلمة المشرقة هل هو متصل أو منفصل‏.‏

فأجاب عنها بأجوبة منطوية على مطار الأنظار دلت على رسوخه وسعة اطلاعه وغوصه ومعرفته بدقائق كلام أذكياء الحكماء والمتكلمين وفضلاء الأشعرية والماتريدية‏.‏

وعانى الرسم فرسم عدة بسائط ومنحرفات وحسب كثيرًا من الأصول والدساتير وتصدى لتعليم الطلبة الذين كانوا يردون مـن الآفـاق لطلـب العلـوم الغريبـة وكتـب شرحـًا علـى متـن نـور الإيضـاح فـي الفقـه الحنفـي باسـم الأميـر عبـد الرحمـن كتخـدا وله رسالة سماهـا الطـراز المذهـب في بيان معنىالمذهب وهي عبارة عن جواب على سؤال ورد من ثغر سكندريـة نظمـًا وكان له سليقة جيدة في النثر والنظم ولما ورد إلى مصر محمد أفندي سعيد قاضيًا في سنـة 1181 امتدحـه بقصيـدة بليغـة لـم أعثـر عليهـا وكـان بـه حـدة طبيعـة وهـي التـي كانـت سببـًا لموتـه وهـو أنـه حصـل بينـه وبيـن الشيـخ البجرمي منافسة فشكاه إلى الشيخ الدمنهوري وهو إذ ذاك الشيخ الجامع فأرسل إليه فلما حضر عنده في مجلسه بالأزهر فتحامل عليه فقام من عنـده وقـد أثـر فيـه القهـر ومـرض أيامـًا وتوفـي فـي شهـر جمـادى الثانيـة مـن السنـة‏.‏

واغتـم عليـه الشيـخ المرحومي غمًا شديدًا وتأثر لفراقه وحزن لموته وتوعك أيامًا بسبب ذلك‏.‏

ومات الإمام الفقيه العلامة المفتي الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد الله الشرقاوي الشافعي تفقه علـى علمـاء عصـره وحضـر دروس الأشيـاخ المتقدمين كالملوي والحفني والبراوي والشيخ أحمد رزة والشيخ عطية الأجهوري وأنجب في الأصول والفروع الفقهية وتصدر ودرس وانقطع والإفتاء والقضاء بين المتخاصمين من أهل القرى للإفادة وأكثرهم من أهل بلاده وكان لا يفـارق محـل درسـه بالأزهـر مـن الشـروق إلـى الغـروب‏.‏

وانفـرد بالإفتـاء مـدة طويلـة علـى مذهبه وقلما يرى فتوى ومـات

أحـد أذكيـاء العصـر ونجبـاء الدهـر

مـن جمـع متفرقـات الفضائـل وحاز أنواع الفواضل الصالح الرحلة الشيخ علي بن محمد الجزائرلي المعروف بابن الترجمان ولد بالجزائر سنة 1100 وكـان ينتمي إلى الشرف وزاحم العلماء بمناكبه في تحصيل أنواع العلومن وأجازه الشيخ سيدي محمد المنور التلمساني رحمه الله ودخل الروم مرارًا وحظي بأرباب الدولة وأتى إلى مصر وابتنى بها دارًا حسنة قرب الأزهر وكان يخبرعن نفسه أنه لا يستغني عن الجماع في كل يوم فلذلـك مـا كـان يخلـو عن امرأة أو اثنتين حتى في أسفاره‏.‏

ولما ورد الأمير أحمد آغا أمينًا على دار الضرب بمصر المحروسة الذي صار فيما بعد باشا كان مختصًا بصحبته لا يفارقه ليلًا ولا نهارًا وله عليه إغداقات جميلة وهو حسن العشرة يعرف في لسانهم قليلًا وتوجـه إلـى دار السلطنة وكانت إذا ذاك حركة السفر إلى الجهاد كتب هذا عرضحالًا إلى السلطان مصطفى صورته‏:‏ إن من قرأ استغاثة أبي مدين الغوت في صف الجهاد حصلت النصرة‏.‏

وقدمه إلى السلطـان فاستحسـن أن يكـون صاحـب هذا العرض هو الذي يتوجه بنفسه ويقرأ هذه الاستغاثة تبركـًا ففاجئـه الأمر من حيث لا يحتسب وأخذ في الحال وكتب مع المجاهدين وتوجه رغمًا عن أنفـه ووصـل إلـى معسكر المسلمين وصار يقرأ فقدر الله الهزيمة على المسلمين لسوء تدبير أمراء العسكـر فأسـر مـع مـن أسر وذهب به إلى بلاد موسقو وبقي أسيرًا مدة ولم يغثه أحد بخلاصه ومات الشيخ الصالح العلامة علي الفيومي المالكي شيخ رواق أهل بلاده حضر دروس الشيخ إبراهيم الفيومي وشيخنا الشي علي الصعيدي ودرس برواقهم وكان سريع الإدراك متين الفهم لـه فـي علـم الكلـام بـاع طويـل‏.‏

وتـزوج ابنـة الشيـخ أحمـد الحماقـي الحنفي وتوفى ثاني شهر رمضان من السنة ودفن بالمجاورين‏.‏

ومات الشيخ الفاضل الصالح علي الشبيني الشافعي نزيل جرجا قرأ على جماعة من مشايخ عصـره وتكمـل فـي العربيـة والفقـه وتوجـه إلـى الصعيـد فخالـط أولـاد تمـام مـن الهوارة في بيج القرمون أحبـوه وسكـن عندهم مدة ثم سكن جرجا‏.‏

وكان يتردد أحيانًا إلى مصر وكان كثير الاجتماع بصهرنا علي أفندي درويش المكتب وكان يحكي لي عنه أشياء كثيرة من مآثره من الصلاح والعلـم وحسـن المعشـرة ومعرفـة التجويـد ووجوه القراءات‏.‏

فلما تغيرت أحوال الصعيد أتى المترجم إلـى مصـر وكان حسن المذاكرة والمرافقة مع مداومة الذكر وتلاوة القرآن غالبًا‏.‏

توفي تاسع عشر رمضان في بيت بعض أحبابه بعلة البطن وصلى عليه الشيخ أحمد بن محمد الراشدي ودفن بالمجاورين‏.‏

ومـات العمـدة الفاضل اللغوي الماهر المنشئ الأديب الشيخ عبد الله بن منصور التلباني الشافعي المعـروف بكاتـب المقاطعـة وهـو بـن أخـت الشيـخ المعمر أحمد بن شعبان الزعبلي ولد سنة 1098 تقريبًا وأدرك الطبقة الأولى من الشيوخ العزيزي والعشماوي والنفراوي‏.‏

وكانت له معرفة تامة بعلم اللغة والقراءة واقتنى كتبًا نفيسة في سائر الفنون وكان سموحًا بإعارتهـا لأهلهـا وكـان يعرف مظنات المسائل في الكتب‏.‏

وكان الأشياخ يجلونه ويعرفونه مقامه ولما دخل الشيخ ابن الطيـب أحبـه واغتبـط بـه وبصحبتـه وحصل حاشيته على القاموس في مجلدين حافلين استكتابًا وقـرظ علـى شـرح البديعـة لعلي بن تاج الدين القلعي ذكر فيه من نوع وسع الاطلاع له‏.‏

ولم يزل حتى فاجأته المنون في ثالث عشرين شعبان من السنة وصلي عليه بالجامع الأزهر ودفـن شرقي مقام سيدي عبد الله المتوفى بالمجاورين رحمه الله‏.‏

ومـات الأميـر الجليـل إبراهيـم أفنـدي الهياتـم جمليان مطعونًا في نهار الأربع ثالث عشرين المحرم من السنة‏.‏

سنة ست وثمانين ومائة وألف فيهـا فـي المحـرم خـرج علـي بـك إلـى جهـة البساتيـن كمـا تقـدم فـي أواخـر العـام الماضـي وعمل متاريس ونصـب عليهـا المدافـع مـن البحـر إلـى الجبـل واجتهـد فـي تشهيل تجريدة وأميرها علي بك الطنطاوي وصحبتـه باقـي الأمـراء الذيـن قلدهـم والعسكر فعدوا في منتصفه لمحاربة محمد بك أبي الذهب واسمعيـل بك ومن معهما‏.‏

وكانوا سائرين يريدون مصر فتلاقوا معهم عند بياضة ووقعت بينهم معركة قوية ظهر فيها فضل القاسمية وخصوصًا أتباع صالح بك وعلي أغا المعمار ووقعت الهزيمـة علـى عسكـر علي بك وساق خلفهم القبالي مسافة فمانعوا عن أنفسهم وعدوا على دير الطين وكان علي بك مقيمًا به فملما حصل ما حصل اشتد القهر بالمذكور وتحير في أمره وأظهـر التجلـد وأمـر بالاستعـداد وترتيب المدافع وأقام إلى آخر النهار وتفرق عنه غالب عساكره مـن المغاربـة وغيرهـم‏.‏

وحضـر محمـد بـك إلى البر المقابل لعلي بك ونصب صيوانه وخيامه تجاهه فتفكـر علـي بـك فـي أمـره وركـب عنـد الغـروب وسـار إلـى جهـة مصـر ودخـل من باب القرافة وطلع إلـى بـاب العـزب فأقـام بـه حصـة مـن الليـل‏.‏

وأشيـع بالمدينـة أن مراده المحاصرة بالقلعة‏.‏

ثم أنه ركب إلى داره وحمل حموله وأمواله وخرج من مصـر وذهـب إلـى جهـة الشـام وذلـك ليلـة الخامـس والعشريـن مـن شهـر المحـرم وصحبتـه علـي بـك الطنطـاوي وباقـي صناجقـه ومماليكـه وأتباعـه وطوائفـه‏.‏

فلمـا أصبح يوم الخميس سادس عشرينه عدى محمد بك إلى بر مصر وأوقدوا النار فـي ذلـك اليـوم فـي الديـر بعد ما نهبوه ودخل محمد بك إلى مصر وصار أميرها ونادى أصحاب الشرطة على أتباعه بأن لا أحد ياؤيهم ولا يتاويهم فكانت مدة غيبته سبعين يومًا‏.‏

وأرسل عبـد الرحمـن أغـا مستحفظـان إلى عبد الله كتخدا الباشا فذهب إليه بداره وقبض عليه وقطع رأسه ونادى بإبطال المعاملة التي ضربها المذكور بيد رزق النصراني وهي قروش مفرد ومجوز وقطـع صغـار تصـرف بعشر أنصاف وخمسة أنصاف ونصف قرش‏.‏

وكان أكثرها نحاسًا وعليها علامة علي بك‏.‏

وأما من مات في هذه السنة من العظماء‏.‏

فمات السيد الإمام العلامة الفقيه المحدث الفهامة الحسيب النسيب السيد علي بن موسى بن مصطفـى بـن محمـد بـن شمس الدين بن محب الدين بن كريم الدين بن بهاء الدين داود بن سليمان بـن شمـس الديـن ابـن بهـاء الديـن داود الكبيـر بـن عبـد الحفيظ بن أبي الوفاء محمد البدرى ابن أبي الحسـن علـي بـن شهـاب الديـن أحمـد بـن بهـاء الديـن داود بن عبد الحافظ ابن محمد بن بدر ساكن وادي النسـور بـن يوسـف بـن بـدران بـن يعقوب بن مطر بنزكي الدين سالم بن محمد بن محمد بن زيد بن حسن بن السيد عريض المرتضى الأكبر بن الإمام زيد الشهيد ابن الإمام علي زين العابدين ابن السيد الشهيد الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب الحسيني المقدسي الأزهري المصري ويعرف بابن النقيب لأن جدوده تولوا النقابة ببيت المقدس ولد تقريبًا سنة 125 ببيـت المقـدس وبهـا نشأ وقرأ القرآن على الشيخ مصطفى الأعرج المصري والشيخ موسى كبيبة علي عود ومحمد بن نسيبة الفضلي المكي وأخذ العلم عن عم أمه صاحب الكرامات حسين العلمـي نزيـل لـد وأبـي بكـر بـن أحمـد العلمـي مفتـي القـدس والشيخ عبد المعطي الخليلي ووصل إلى الشـام فحضـر دروس الشيـخ أحمـد المتيتـي والشيـخ اسمعيـل العجلوني والشيخ عبد الغني النابلسي واجتمع على الشيخ صالح البشيري الآخذ عن الخضر عليه السلام وعامر ابن نعير وأحمـد القطناني ومصطفى بن عمر والدمشقي‏.‏

وكان من الأبدال وأحمد النحلاوي وكان من أرباب الكشف ومحمـد بـن عميـرة الدمشقـي وعمـران الدمشقـي وزيـد اليعبـداوي وخليفـة بـن علـي اليعبداوي ورضوان الزاوي وأحمد الصفدي المجذوب والشيخ مصطفى بن سوار ودخل حماة فأخـذ عن القطب السيد يس القادري وحلب فأخذ بها عن أحمد البني وعبد الرحمن السمان كلاهما من تلاميذ الشيخ أحمد الكتبي وعن الشيخ محمد بن هلال الرامهداني والشيخ عبد الكريم الشرباتي وعاد إلى بيت المقدس فاجتمع بالشيخ عبد الغني النابلسي أيضًا وبالسيد مصطفـى البكـري بحلـب حيـن كـان راجعـًا مـن بغداد فأخذ عنه الطريقة ورغبه في مصر فوردها وحضر على الشمس السجيني ومصطفى العزيزي والسيـد علـي الضريـر الحنفـي وأحمـد بـن مصطفى الصباغ والشهابين الملوى والجوهري والشمس الحنفي وأحمد العماوي وشيخ المذهب سليمان المنصوري وأجازه سيدي يوسف بن ناصر الدرعي وأحمد العربي وأحمد بن عبد اللطيف زروق وسيدي محمد العياشي الأطروش والشيخ ابن الطيب في آخريـن ورأس فـي المذهب وتمهر في الفنون ودرس بالمشهد الحسيني في التفسير والفقه والحديث واشتهر أمره وطـار صيتـه‏.‏

وكـان فقيهـًا فـي المذهـب بارعًا في معرفة فنونه عارفًا بأصوله وفروعه ويستنبط الأحكام بجودة ذهنه وحسن حافظته ويكتب على الفتاوى برائق لفظه‏.‏

وكانت له في النثر طريقـة غريبـة لا يتكلـف فـي الأسجـاع وإذا سئـل عـن مسألة كتب عليها الجواب أحسن من الروض جـاد بـن الغمـام وأغـزر مـن الوبـل ساعـده نـوء النعـام‏.‏

ويكتـب فـي الترسل على سجية بادرة وفكرة علـى السرعـة صـاددة وكـان ذا جـود وسخـاء وكـرم ومروءة ووفاء لا يدخل في يده شيء من متاع الدنيا إلا وبذله لسائليه وأغدق به على معتفيه وكان منزله الذي قرب المشهد الحسيني موردًا للآملين ومحطًا لرجال الوافدين مع رغبته في الخيل المنسوبة وحسن معرفته لأنسابهـا وعـزوه لأربابها‏.‏

وكان اصطبله دائمًا لا يخلو من اثنين أو ثلاثة يركب عليها ويضمرها ويعتني بأحوالها ويرغب في شرائها لمعرفته بالفروسية في رمي السهام واستعمال السلاح واللعب بالرماح وغير ذلـك‏.‏

ولمـا ضـاق عليـه منزلـه لكثـرة الوفـاد عليـه ولكثـرة ميلـه إلـى ربـط الخيول انتقل إلى منزل واسع بالحسينيـة فـي طـرف البلـد بنـاء علـى أن الأطـراف مساكـن الأشـراف فسكنـه وعمـر فيـه وفـي الزاويـة التي قرب بيتـه وصـرف عليهـا مـالًا كثيـرًا‏.‏

وفـي سنـة 1177 استخـار اللـه تعالـى فـي التوجـه إلـى دار السلطنة لأمور أوجبت رحلته إليها منها أنه ركبت عليه الديون وكثر مطالبوها وضاق صدره من عدم مساعدة الوقت له وكان إذ ذاك محل تدريسه بالمشهد الحسيني وعزم عبد الرحمن كتخـدا علـى هدمه وإنشائه على هذه الصورة ورأي أن هذه البطالة تستمر أشهرًا فوجد فرصة وتوجـه إليهـا وقـرأ دروسـًا فـي الحديـث فـي عـدة جوامـع واشتهـر هناك بالمحدث وأقبلت عليه الناس أفواجًا للتلقي وأحبته الأمراء وأرباب الدولة وصارت له هناك وجاهة‏.‏

إلا أنه كان في درسه ينتقل تارة إلى الرد العنيف على أرباب الأموال والأكابر وملـوك الزمـان وينسبهـم إلـى الجـور والعـدوان وانحرافهـم عـن الحـق فوشى به الحاسدون فبرز الأمر بخروجه من البلد وكان قد تزوج هنـاك فعـاد إلـى مصـر‏.‏

فلمـا وصل إلى بولاق ذهب إليه جماعة من الفضلاء واستقبلوه‏.‏

واستقر في منزله وعاد إلى دروسه في المشهد وذلك سنة 1183 ولم يترك عادته المألوفة من إكرام الضيوف وبذل المعروف وكان لا يصبر على الجماع وعنده ثلاث نسوة شامية ومصرية ورومية وإذا خـرج إلـى الخـلاء أو بعض المنتزهات أخذ صحبته من يريدها منهن ونصب لها خيمة وألف الاغتسـال مـدة إقامتـه يومـًا أو يوميـن أو أكثـر‏.‏

واتفـق لـه فـي آخـر أمـره أنه ذهب عند محمد بك أبي الذهب وكان في ضائقة فحادثه الأمير على سبيـل المباسطـة وقـال لـه‏:‏ كيـف رأيـت أهـل اسلامبول فقال‏:‏ لم يبق بإسلامبول ولا بمصر خير ولا يكرمون الأشرار الخلق وأما أهل العلم والأشراف فإنهم يموتـون جوعـًا‏.‏

ففهـم الأميـر تعريضـه وأمـر لـه بمائـة ألـف نصـف فضـة مـن الضربخانة فقضى منها بعض ديونه وأنفق باقيها على الفقراء وعاش بعدها أربعين يومًا وتعلل بخراج أيامًا وأحضروا له رجلًا يهوديًا فقصده بمشتر قيل أنه مسموم فكان سببًا لموته‏.‏

وتوفي عصـر يـوم الأحـد سـادس شهـر شعبـان مـن السنـة وجهـز فـي صبـح يـوم الاثنين وصلى عليه بالأزهر فـي مشهـد حافـل ودفـن بمقبـرة بـاب النصـر علـى أكمـة هنـاك‏.‏

ولمـا مـات أحضـر له الناس من الأعيان عـدة أكفـان وكـل منهـم يريد أن لا يوضع إلا في كفنه فأخذوا من كل كفن قطعة وكفنوه في مجموع ذلـك جبـرًا لخواطرهـم‏.‏

وأعطـى الأميـر محمـد بـك لأخيـه مولانـا السيـد بـدر الديـن عندمـا أخبـره بموته خمسمائة ريال لتجهيزه ولوازمه‏.‏

وجلس مكانه في الدار أخوه السيد بدر المذكور وتصدره مكانه لإملاء درس الحديث النبوي بمسجـد المشهـد الحسينـي وأقبلـت عليـه النـاس والأعيـان ومشى على قدم أخيه وسار سيرًا حسنًا وجرى على نسقه وطبيعته في مكارم الأخلاق وإطعـام الطعـام وإكـرام الضيفان والتردد إلى الأعيان والأمراء والسعي في حوائج الناس والتصدي لأهل حارته وخطته في دعاويهم وفصل خصوماتهم وصلحهم والذب عنهم ومدافعة المتعدى عليهم ولو من الأمراء والحكام في شكاويهم وتشاجرهم وقضاياهم حتى صار مرجعًا وملجأ لهـم فـي أمورهـم ومقاصدهـم وصـار لـه وجاهـة ومنزلـة فـي قلوبهـم ويخشـون جانبه وصولته عليهم‏.‏

ثم إنه هدم الزاوية وما بجانبها وأنشأها مسجدًا نفيسًا لطيفًا وعمل به منبرًا وخطبة ورتب به إمامًا وخطيبًا وخادمًا وجعل بجانبه ميضاه ومصلى لطيفة يسلك إليهما من باب مستقل وبها كراسي راحة وأنشأ بجانب المسجد دارًا نفيسة وانتقل إليهـا بعيالـه وتـرك الـدار التـي كانـت سكنه مع أخيه لأنها كانت بالأجرة وبنى لأخيه ضريحًا بداخل ذلك المسجد ونقله إليه وذلك سنة 1205‏.‏

فلما كانت الحوادث سنة 1213 واستيلاء الفرنسيس على الديار المصرية وقيام سكـان الجهـة الشرقيـة مـن أهل البلد وهي القومة الأولى التي قتل فيها دبوي قائمقام تحركت في السيـد بدر الدين المذكور الحمية وجمع جموعه من أهل الحسينية والجهات البرانية وانتبذ لمحاربة الإفرنـج ومقاتلتهـم وبـذل جهـده فـي ذلـك‏.‏

فلمـا ظهر الإفرنج على المسلمين لم يسع المذكور الإقامة وخرج فارًا إلى جهة البلاد الشامية وبيت المقدس وفحص عنه الإفرنج وبثوا خلفه الجواسيس فلم يدركـوه فعنـد ذلـك نهبـوا داره وهدمـوا منهـا طرفـًا وكـل تخريبهـا أوبـاش الناحيـة وخربـوا المسجـد وصـارت فـي ضمـن الأماكـن التـي خربهـا الفرنسيـس بهـدم مـا حـول السـور مـن الأبنية ثم في الواقعة الكبيرة الثانية عندما حضر الوزير والعساكر الرومية ورجعوا بعد نقض الصلح بدون طائـل كمـا يأتي تفصيل ذلك‏.‏

فلما حضروا ثانيًا بمعونة الانكليز وتم الأمر وسافر الفرنسيس إلى بلادهم ورجع المذكور إلى مصر وشاهد ما حصل لداره ومسجده من التخريب أخذ في أسبـاب تعميرهمـا وتجديدهمـا حتـى أعادهمـا أحسن مما كانا عليه قبل ذلك وسكن بها وهو الآن بتاريـخ كتابـة هذا المجموع سنة 1220 قاطن بها ومحله مجمع شمل المحبين ومحط رحال القاصدين بارك الله فيه‏.‏

ومات الفقيه المفنن العلامة الشيخ علي بن شمي الدين بن محمد بن زهران بن علي الشافعي الرشيـدي الشهير بالخضري ولد بالثغر سنة أربع وعشرين وأمه آمنة بنت الحاج عامر بن أحمد العراقي وأمها صالحة بنت الشريف الحـاج علـي زعيتـر أحـد أعيـان التجـار برشيـد حفـظ المترجـم الزبـد والخلاصـة وسبيـل السعـادة والمنهـج إلى الديات والجزرية والجوهرة وسمع علي الشيخ يوسـف القشاشـي الجزريـة وابـن عقيـل والقطـر وعلـى الشيـخ عبـد اللـه بـن مرعـي الشافعي في شوال سنة إحدى وأربعين جمع الجوامع والمنهج وألقى منه دروسًا بحضرته ومختضر السعد واللقاني على جوهرته وشرح ابنه عبـد السلـام والمنـاوي علـى الشمائـل والبخـاري وابـن حجـر علـى الأربعين والمواهب وعلى الشمس محمد بن عمر الزهيري معظم البخاري دراية والمواهب وابن عقيل والأشموني على الخلاصة وجمع الجوامع والمصنف على أم البراهين ونصف الغفراوي على الرسالة والبيضاوي إلى قوله تعالى وإذا وقع القول فكلمه بعد موته‏.‏

وفي سنـة ثمـان وثلاثيـن وفـد علـى الثغـر الشيـخ عطيـة الأجهـوري فقـرأ عليـه العصـام فـي الاستعـارات مع الحفيد وعلى الشيخ محمـد الأدكـاوي شـرح السيطـوي علـى الخلاصـة والشنشـوري علـى الرحبيـة والتحريـر لشيخ الإسلام ثم قدم الجامع الأزهر سنة ثلاث وأربعين فجاور ثلاث سنوات فسمع علي الشيخ مصطفى العزيزي شرح المنهج مرتين والخطيب والشمائل وأجـازه بالإفتـاء والتدريس في رجب سنة ست وأربعين وكان به بارًا رحيمًا شفوقًا بمنزلة الوالد حتى بعد الوفاة‏:‏ وجرت له معه وقائع كثيرة تدل على حسن توجهه له دون غيره من الطلبة‏:‏ وسمـع علـى السيـد علـي الحنفـي الضريـر الأشمونـي وجمـع الجوامع والمغني وبعض المنفرجة والقسطلاني على البخارى وتصرف العزى وعلى الشمس محمد الدلجي المغني كله قراءة بحث والخطيـب وجمـع الجوامـع وعلى الشيخ علي قايتباي الخطيب فقط وعلى الشيخ الحفني الخطيب والمنهج وجمع الجوامع والأشموني ومختصر السعد وألفية المصطلح ومعراج الغيطي وعلى أخيه الشيـخ يوسـف الأشمونـي والمختصـر ورسالـة الوضـع وعلـى الشيـخ عطية الأجهوري المنهج والمختصر والسلم وعلى أحمد الشبراملسي الشافعي المختصر والتجرير وبعض العصام ومنظومة في أقسام الحديث الضعيف وعلى الشيخ محمد السجيني الشمائل وموضع من المنهج وأجازه الشيـخ الشبـراوي بالكتـب الستـة بعد أن سمع عليه بعضًا منها ورجع عن فتواه مرتين في وقفين وعلى الشيخ أحمد بن سابق الزعبلي النمهج كله مرتين وعلى الشيخ أحمد المكودى كبـرى السنوسي وبعض مختصره دراية وعلى الشيخ محمد المنور التلمساني شيخ المكودى المذكور أم البراهين دراية وعلى الشيخ أحمد العماوى المالكي بعض سنن أبي داود وجمع الجوامع والمغني والأزهريـة‏.‏

ولمـا رجـع إلـى الثغـر لازم الشيخ شمس الدين الغوى خطيب جامع المحلي فسرد عليه معظـم متـن الزبـد والنمهـج وشرحـه والشنشورى ومتن العباب وهو الذي عرفه به وبطريق تركيب الفتاوى أسئلة وأجوبة‏.‏

وكان يقول‏:‏ لا بد للمبتلي بالإفتاء من العباب لوضوحه واستيعابه‏.‏

وأجازه الشيخ شلبي البرلسي والشيخ عبد الدائم بن أحمد المالكي وأحمد بن أحمد بن قاسم الوني‏.‏

ولـه مؤلفـات جليلـة منهـا شـرح لقطـة العجلـان وحاشيـة علـى شـرح الأربعيـن النوويـة للشبشيـرى أجـاد فيهـا كـل الإجـادة وقد رأيت كلًا منهما بالثغر عند ولده السيد أحمد توفي في خامس عشرين شعبان من السنة‏.‏

ومات الشاب الصالح والنجيب الأريب الفالح العلامة المستعد النبيه الذكي الشيخ محمد بن عبد الواحد بن عبد الخالق البناني أبوه وجده وعمه من أعيان التجار والثروة بمصر نشأ في عفـة وصلاح وحفظ القرآن والمتون وحبب إليه طلب العلم فتقشف لذلك وتجرد ولازم الحضور والطلب ودأب واجتهد في التحصيل وسهـر الليـل وكـان لـه حافظـة جيـدة وفهـم حـاد وقـوة استعدادية وقابلية فأدرك في الزمن اليسير ما لم يدركه غيره في الزمن الكثير ولازم شيخنا الشيخ محمد الجناجي المعروف بالشافعي ملازمة كلية وتلقى عنه غالب تحصيله فـي الفقـه والمعقول والمنطق والاستعارات والمعاني والبيان والفرائض والحساب وشبـاك ابـن الهاثـم وغيـر ذلـك وحضـر دروس الشيـخ الصعيـدي والدرديـر وغيرهـم حتـى مهـر وأنجب ودرس واشتهر بالفضـل وعمـل الختـوم وحضـره أشيـاخ العصـر وشهـدوا بفضلـه وغـزارة علمه وانتظم في عداد أكابر المحصلين والمفيدين والمستفيدين ولم يزل هذا حاله حتى وافاه الحمام وانمحق بدره عند التمام ومـات مطعونـًا فـي هـذه السنـة وهـو مقتبـل الشبيبـة لـم يجـاوز الثلاثيـن عوضـه اللـه الجنـة وهو ابن عم الإمام العلامة الشيخ مصطفى بن محمد بن عبد الخالق من أعيان العلماء المشاهير بمصر الآن بارك الله فيه‏.‏

ومات الفقيـه الفاضـل المحقـق الشيـخ أحمـد بـن أحمـد الحمامـي الشافعـي الأزهـري ولـد بمصـر واشتغـل بالعلـم مـن صغـره ومـال بكليتـه إليه وحبب إليه مجالسة أهله فلازم الشيخ عيسى البراوى حتـى مهـر وتفقـه عليه وحضر دروس الشمس الحفني والشيخ علي الصعيدى وغيرهما وأجـازوه وحـج فـي سنة خمس وثمانين مرافقًا لشيخنا الشيخ مصطفى الطائي ورجعا إلى مصر وتصدر للتدريس والإفتاء في حياة شيوخه ودرس وأفاد‏.‏

وكان أكثر ملازمته لزاوية الشيخ الخضرى ويقرأ درسًا بالصرغتمشية وانتفع به جماعة وله حاشيـة علـى الشيـخ عبـد السلـام مفيدة وأخرى على الجامع الصغير للسيوطي لم تتـم وكـان ذا صلـاح وروع وخشيـة مـن اللـه وسكون ووقار‏.‏

توفي يوم الأربعاء تاسع ربيع الأول من السنة ودفن ثاني يوم بمشهد عظيم بالقرب من السادة المالكية‏.‏

ومات الإمام الصوفي العارف المعمر الشيخ علي بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد القدوس ابـن القطـب شمس الدين محمد الشناوى الروحي الأحمدى المعروف ببندق ولد قبل القرن وأخذ عن عميه محمد العالم وعلي المصري وهما عن عمهما الشمس محمد بن عبد القدوس الشهير بالدناطي عن ابن عمه الشهاب الخامي ومسكنهم بمحلة روح وهو شيخ مشايخ الأحمدية في عصره‏.‏

وانتهت إليه الرياسة في زمنه وعاش كثيرًا حتى جاوز المائة ممتعًا بالحواس وكان له خلـوة فـي سطـح منزلـه ولهـا كـوة مستقبلـة طندتـا بيـن يديهـا فضاء واسع يرى منها آثار طندتا وهو مستقبـل القبلـة فـي حـال جلوسـه ونومـه ونظـره إلـى تلـك الكـوة‏.‏

وأخبرنـي أولـاده أنـه هكذا هو مستمر علـى هـذه الطريقـة مـن مـدة طويلـة‏.‏

توفـي فـي أوائـل جمـادى الأولـى مـن السنة واجتمع بمشهده غالب أهل البلاد من المشايخ والأعيان والصلحاء من الآفاق والسيد محمد مجاهد الأحمدي والشيخ محمد الموجه والسيد أحمد تقي الدين وغيرهم ودفن عند أسلافه بمحلة روح‏.‏

ومـات الأميـر خليـل بـك ابـن إبراهيـم بـك بلفيـا تقلـد الإمـارة والصنجقية بعد موت والده وفتح بيتهم وأحيا ما آثرهم وكان أهلًا للإمارة ومحلًا للرئاسة وتقلد إمارة الحج في سنة إحدى وثمانين ورجع في أمن وسخاء وطلع أيضًا في السنة الثانية ومات بالحجاز ورجع بالحج أخوه عبد الرحمن أغا بلفيا‏.‏

ومـات الأجـل المكـرم الرئيـس محمـد تابـع المرحـوم محمـد أوده باشـه طبـال مستحفظان ميسو الجداوي وهو زوج الجدة أم المرحوم الولد تزوج بها بعد موت الجد في سنة 1114 وقطن بها ببندر جدة وأولدها حسينًا ومحمدًا وتوفي سنة أربع وخمسين عن ولديه المذكورين وأخيهما محمـود مـن أبيهمـا وعتقائـه ومنهـم المترجـم قرباه ابن سيدة وهو العم حسين فأنجب وعانى التجارة ورئاسة المراكب الكبار ببحر القلزم حتى صار من أعيان النواخيـد الكبـار واشتهـر صيتـه وذكره وكثر ماله وبنى دارًا بمصر بجوار المدارس الصالحية واشترى المماليك والعبيد والجواري وصـار لـه دار بمصـر وبجـدة ولـم يـزل حتـى توفـي بالشـام وهـو راجـع إلـى مصـر ووصـل نعيـه فـي سابع عشرين ربيع الثاني رحمه الله‏.‏

ومـات الخواجـا الصالـح المعمر الحاج محمد بن عبد العزيز البنداري وكان إنسانًا حسنًا وهو الذي عمر العمارة والمساكن بطندتا واشتهرت به‏.‏

توفي في غرة ربيع أول بعد تعلل رحمه الله تعالى‏.‏

سنة سبع وثمانين ومائة وألف فيها تواترت الأخبار والإرجافـات بمجـيء علـي بـك مـن البلـاد الشاميـة بجنـود الشـام وأولـاد الظاهر عمر فتهيأ محمد بك للقائه وبرز خيامه إلى جهة العادلية ونصب الصيوان الكبير هناك وهـو صيـوان صالـح بـك وهـو في غاية العظم والاتساع والعلو والارتفاع وجميعه بدوائره من جوخ صاية وبطانته بالأطلس الأحمر وطلائعه وعساكره من نحاس أصفر مموه بالذهب‏.‏

فأقام يومين حتى تكامل خروج العسكر ووصل الخبر بوصول علي بك بجنوده إلى الصالحية فارتحل محمد بك في خامس شهر صفر فالتقيا بالصالحية وتحاربا فكانت الهزيمة على علي بك وأصابته جراحـة فـي وجهـه فسقـط عـن جواده فاحتاطوا به وحملوه إلى مخيم محمد بك وخرج إليه وتلقاء وقبل يده وحمله من تحت إبطه حتى أجلسه بصيوانه‏.‏

وقتل علي بك الطنطاوي وسليمان كتخـدا وعمـر جاويـش وغيرهـم وذلـك يـوم الجمعـة ثامـن شهـر صفـر ووصل خبر ذلك إلى مصر في صبـح يـوم السبـت وحضـروا إلـى مصر وأنزل محمد بك أستاذه في منزله الكائن بالأزبكية بدرب عبد الحق وأجرى عليه الأطباء لمداواة جراحاته‏.‏

وفي خامس عشر صفر وصل الحجاج ودخلوا إلى مصر وأمير الحاج إبراهيم بك محمد‏.‏

وفـي تلـك الليلة توفي الأمير علي بك وذلك بعد وصوله بسبعة أيام قيل أنه سم في جراحاته فغسل وكفن ودفنوه عند أسلافه بالقرافة‏.‏

وفي سابع عشر ربيع الأول وصل الوزير خليل باشا والي مصر واطلع إلى القلعة في موكب عظيم وذلك يوم الخميس تاسع عشرة وضربوا له مدافع وشنكا من الأبراج‏.‏

وكان وصوله من طريق دمياط فعمل الديوان وخلع الخلع‏.‏

ومات في هذه السنة الشيخ الإمام الصالح العلامة المفيد الشيخ أحمد ابن الشيخ شهاب الدين أحمد بن الحسن الجوهري الخالدي الشافعي ولد بمصر سنة 1132 وبها نشأ وسمع الكثير من والده ومن شيخ الكل الشهاب الملوى وآخرين‏.‏

وتصدر في حياة أبيه للتدريس وحج معـه وجـاور سنـة وكـان إنسانـًا حسنًا ذا مودة وبر وشهامة ومروءة تامة وأخلاق لطيفة‏.‏

توفي بعد أن تعلـل أيامـًا فـي حـادي عشـرى ربيـع الـأول وصلـي عليـه بالجامـع الأزهر بمشهد حافل ودفن مع والده بالزاوية القادرية بدرب شمس الدولة‏.‏

ومات المبجل المفضل الإمام العارف صاحب المعرف علي بن محمد بن القطب الكامل السيد محمـد مـراد الحسيني البخاري الأصل الدمشقي الحنفي ويعرف بالمرادي نسبة لجده المذكور ولد بدمشق وأخذ عن أبيه وغيره من العلماء كعلي بن صادق الداغستاني وغيره وكـان إنسانـًا عظيم الشأن ساطع البرهان طيب الأعراق كريم الأخلاق منزله مأوى القاصدين ومحط رجال الوارديـن وهـو والـد خليـل أفنـدي المفتي بدمشق نزل عنده السيد العيدروس فأكرمه وبره ولم يزل ومات الماهر الأديب الشاعر الكاتب المنشئ الشيخ إبراهيم بن محمد سعيد بن جعفر الحسني الإدريسـي المنوفـي المكـي الشافعـي ولـد فـي آخـر القـرن الحادي عشر بمكة وأخذ عن كبار العلماء كالبصـري والنخلـي وتـاج الدين القلعي والعجمي ثم من الطقة التي تليه مثل علي السخاوي وابن عقيلـة فـي آخريـن مـن الوارديـن علـى الحرميـن من آفاق البلاد وأعلى ما عنده إجازة الشيخ إبراهيم الكوراني له وله شعر نفيس وقد جمع في ديوان وبينه وبين السيد جعفـر البيثـي والسيـد العيدروس مخاطبات ومحاورات ودخلـل الهنـد بسفـارة صاحـب مكـة فأكـرم وعـاد إلـى مكـة وولي كتابة السر لملكها وكان يكاتب رجال الدولة على لسانه على اختلاف طبقاتهم وكان قلمه كلسانه سيالًا وربما شرع في كتابة سورة من القرآن وهو يتلو سورة أخرى بقدرها فلا يغلط في كتابته ولا في قراءته حتى تتما معًا وهذا من أعجب ما سمعت‏.‏

وكان له مهارة ومعرفـة فـي علـم الطـب وأمـا إنشاءاتـه فإليهـا المنتهـي فـي العذوبـة وتناسـب القوافي‏.‏

وأما في نظمه فهو فريد عصر لا يجاريه فيه مجار ولا يطاوله مطاول‏.‏

ومات البارع المقرئ المجود المحدث الشيخ عبد القادر بن خليل بن عبد الله الرومي الأصـل المدني المعروف بكدك زاده ولـد بالمدينـة سنـة 1140 وبهـا نشـأ وحفـظ القـرآن وجـوده علـى شيخ القراء شمس الدين محمد السجاعي نزيل المدينة تلميذ البقري الكبير وحفظ الشاطبية واشتغل بالعلم على علماء بلده والواردين عليه سمع أكثر كتب الحديث على الشيخين ابن الطيـب ومحمـد حيـاة بقراءته عليهما في الأكثر ولازم الشيخ ابن الطيب ملازمة كلية حتى صار معيدًا لدروسه وكان حسن النغمة طيب الأداء ولي الخطابة والإمامة بالروضة المطهرة وكان ذا تقدم إلى المحراب في الصلوات الجهرية تزدحم عليه الخلق لسماع القرآن منه ثم ورد إلى مصر فأدرك الشيخ المعمر داود بن سليمان الخربتاوي فتلقى منه أشياء وأجـازه وذلـك فـي سنـة 168 وحضـر الشيـخ الملـوي والجوهـري والحنفـي والبليـدي وحمل عنهم الكثير وتزوج ثم توجه إلى الروم ثم عاد إلى المدينة فلم يقر له بها قرار ثم أتى إلى مصر ودار على الشيوخ البقية ثانيًا وأخذ عنهـم وأحبه السيد اسمعيل بن مصطفى الكماخي وصار يجلس عنده أيامًا في منزله الملاصق لجامع قوصون فشرع في أخذ خطابته له فاشترى له الوظيفة فخطب به على طريقة المدينة وازدحمت عليه الناس وراج أمره وتزوج ثم توجه إلى الروم وباع الوظيفة وانخلع عما كان عليه وجلس هناك مدة وسمع السلطان قراءته في بعض المواضع في حالة التبديل فأحب أن يكون إمامـًا لديـه وكـاد أن يتـم ذلك فأحس إمام السلطان بذلك فدعاه إلى منزله وسقاه شيئًا مما يفسد الصـوت حسدًا عليه فلما أحس بذلك خرج فارًا فعاد إلى مصر واشتغل بالحديث وشرع في عمل المعجم لشيوخه الذين أدركهم في بلده وفي رحلاته إلى البلاد‏.‏

ودخل حلب فاجتمع بالشيخ أبي المواهب القادري وقرأ عليه شيئًا من الصحيح وأجازه وأخذ عن السيد المعمر إبراهيم بن محمد الطرابلسي النثيب ومن درويش مصطفى الملقي ودخل طرابلس الشام وأخذ الإجازة منن الشيخ عبد القادر الشكعاوي ودخل خادم ‏"‏ إحدى قرى الروم ‏"‏ فاجتمع بالشيخ المعـروف بمفتي خادم ورام أن يسمع منه الآولية فلم يجد عنده إسنادًا وإنما هو من أهل المعقول فقط ورجع إلى مصر فاجتمع بشيخنا السيد مرتضى وتلقى عنه الحديث واهتم في جمع رجاله وتمهر في الإسناد وجمع من ذلك شيئًا كثيرًا في مسودات بخطه ثم عاد إلى الحرمين ومنهما إلى أرض اليمن فاجتمع بمن بقي من الشيوخ وأخذ عنهم ودخل صنعاء ومدح كلًا من الوزير والإمام بقصيدة فأكرم بها واجتمع على علمائها وتلقى عنهم وصار بينه وبين الشيخ أحمد قاطن أحد علمائها محاورات ثم دخل كوكيان فاجتمع على فريد عصره السيد عبـد القادر بن أحمد الحسني من بيت الأئمة ودخل شبام فاجتمع على السيد إبراهيم بن عيسى الحسني واللحية فاجتمع بها على الشيخ عيسى زريق وذلك في سنة 1185 وعاد إلى مصر بالفوائد الغزار وبما حمل في طول غيبته من النوادر والأسرار وفي هذه الخطرات التي ذكرت دخل الصعيد من طريق القصير واجتمع على مشايخ عربان الهوارة ومدحهم بقصائد طنانة وأكرموه وله ديوان جمع فيه شعره ومدح به الأكابر والأولياء وكان عنده مسودة بخطه وهذا قبل أن يسافر إلى الشام والروم واليمن والصعيد فقد تحصل له في هذه السفرات كلام كثير مفـرق لـم يلحقـه بالديـوان وكـان كلمـا نـزل فـي موضـع ينشـئ فيه قصيدة غريبة في بابها وكان يغوص على المعاني بفكرة الثاقب فيستخرجها ويكسوها حلة الألفاظ ويبرزها أعجوبة تلعب بالعقول وتعمل عمل الشمول فلله دره من بليغ لم يبلغ معاصروه شأوه ولو أقام في موضع كغيره لاطلع ضياه ولكنه ألف الغربة وهانت عنده الكربة فلم ينال بخشن ولا لين ولم يكترث بصعب ولا هيـن وأجـازه الشيـخ محمـد السفارينـي إجـازة طويلـة في خمسة كراريس فيها فوائد جمة‏.‏

وللم يزل تتنقل به الأحوال حتى سافر إلى القدس الشريف فمكث هناك قليلًا وزار المشاهد الكرام ومراقد الأنبياء عليهم السلام ثم ارتحل إلى نابلس فنزل في دار السيد موسى التميمي وهو إذ ذاك قاضـي البلـد فأكرمـه وآواه واحترمـه‏.‏

ومـرض أيامـًا وانتقـل إلـى رحمـة اللـه تعالـى في سلخ جمادى الثانيـة منهـا ووصـل نعيـه إلـى مصر وكانت معه كتبه وما جمعه في سفره من شعره والعجم الذي جمعه في الشيوخ والأجراء والأماني التي حصلها وضاع ذلك جميعه ولله في خلقه ما أراد‏.‏

ومات العمدة الشاب الصالح الشيخ محمد بن حسن الجزايرلي ثم المدني الحنفي الأزهري ولد بمكة إذ كان والده يتجر بالحرمين في حدود الستين وقد به إلى مصر فلازم الشيخ حسن المقدسـي مفتـي الحنفيـة ملازمـة كليـة وانضوى إليه فقرأ عليه المتون الفقهية ودرجه في أدنى زمن إلـى معرفـة طـرق الفتـوى حتـى كان معيدًا لدروسه وكاتبًا لسؤالاته وربما كتب على الفتوى بأذن شيخـه‏.‏

وفـي أثنـاء ذلك حضر في المعقول على الشيخ الصعيدي والشيخ البيلي والشيخ محمد الأمير وغيرهما من مشايخ الوقت وحصـل طرفـًا مـن العلـوم وصـارت لـه الشهـرة فـي الجملـة وأعطاه شيخه تدريس الحديث بالصرغتمشية فكان في كل جمعة يقرأ فيه البخاري وزوجه امـرأة موسـرة لهـا بيـت بالأزبكيـة‏.‏

وبعـد وفـاة شيخـه تصـدر للأقـراء فـي محلـه وصار ممن يشار إليه ولم يزل حتى مات في عنفوان شبابه في هذه السنة ويقال أن زوجته سمته‏.‏ ومـات

الأمير الكبير علي بك الشهير صاحب الوقائع المذكورة

والحوادث المشهورة وهو مملوك إبراهيم كتخدا تابع سليمان جاويش تابع مصطفى كتخدا القازدغلي تقلد الإمارة والصنجقية بعد موت أستاذه في سنة 1168 وكان قوي المراس شديد الشكيمة عظيم الهمة لا يرضى لنفسه بدون السلطنة العظمى والرياسة الكبرى لا يميل لسوى الجد ولا يحب اللهو ولا المزاح ولا الهزل ويحب معالي الأمور من صغره‏.‏

واتفق أن بعض ولاة الأمور تشاوروا في تقليده الإمارة فنقل إليهم مجلسهم وذكر له مساعدة فلان وممانعة فلان فقال‏:‏ أنا لا أتقلد الإمارة إلا بسيفي لا بمعونـة أحـد‏.‏

ولـم يـزل يرقى في مدارج الصعود حتى عظم شأنه وانتشر صيته ونما ذكره وكان يلقـب بجـن علـي ولقب أيضًا ببلوط قبان وانضم إلى عبد الرحمن كتخدا وأظهر له خلوص المحبة وأغثـر هو أيضًا به وظن صحة خلوصه فركن إليه وعضده وساعده ونوه بشأنه ليقوى به على نظرائـه مـن الاختياريـة والمتكلميـن‏.‏

واتفـق أنـه وقـع بيـن أحمـد جاويـش المجنـون تابعه وبين أهل وجاقه حادثة نقموا عليه فيها وأوجبوا عليه النفي بحسب قوانينهم واصطلاحهم وأعرضوا الأمر على عبـد الرحمـن كتخدا أستاذه فعارض في ذلك ولم يسلم لهم في نفي أحمد جاويش ورأى ذلك نقصًا في حقه فتلطف به بعضهم وترجوا في إخراجه ولو إلى ناحية ترسا بالجيزة أيامًا قليلة مراعـاة وحرمـة للوجاق فلم يرض وحنق واحتد‏.‏

فلما كان في اليوم الثاني واجتمع عليه الأمراء والأعيان على عادتهم قال لهم‏:‏ أيها الأمراء من أنا أجابه الجميع بقولهم‏:‏ أستاذنا وابن أستاذنا وصاحب ولائنا‏.‏

قال‏:‏ إذا أمرت فيكم بأمر تنفذوه وتطيعوه قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ علي بك هذا يكون أميرنا وشيخ بلدنا ومن بعد هذا اليوم يكون الديوان والجمعية بداره وأنا أول من أطاعه وآخـر مـن عصـى عليه‏.‏

فلم يسعهم إلا قبول ذلك بالسمع والطاعة وأصبح راكبًا إلى بيت علي بـك وتول الديوان والجمعية إليه من ذلك اليوم واستفحل أمره ولم يمض على ذلك إلا مدة يسيرة حتى أخرج أحمد جاويش المذكور وحسن كتخدا الشعراوي وسليمان بك الشابوري كما تقدم ثم غدر به أيضًا وأخرجه إلى الحجاز من طريق السويس وأرسل معه صالح بك ليوصله إلى ساحـل القلـزم فلمـا شيعه هناك أرسل بنفي صالح بك إلى غزة ثم رد إلى رشيد ومنها ذهب إلـى منيـة ابـن خصيـب وتحصـن بهـا وجـرد عليه المترجم التجاريد ولم يزل ممتنعًا بها حتى تعصب علـى المترجـم خشداشينـه وأخرجـوه منفيـًا إلـى النوسـات ثـم وجهـوه إلـى السويـس بعـد قتـل حسـن بـك الأزبكـاوي ثـم منهـا إلـى الجهـة القبليـة بعـد قتـل عثمـان بـك الجرجـاوي وانضـم إلـى صالح بك وتعاقد معه وحضر معه إلى مصر وقتل الرؤساء من أقرانه ثم غدر بصالح بك أيضًا كما تقدم مجمل ذلـك ثـم نفى باقي الأعيان وفرق جمعهم في القرى والبلدان وتتبعهم خنقًا وقتلًا وأبادهم فرعًا وأصـلًا وأفنـى باقيهـم بالتشريـد وجلـوا عـن أوطانهـم إلـى كـل مكـان بعيـد واستأصـل كبار خشداشينه وقبيلته وأقصى صغارهم عن ساحته وسدته‏.‏

وأخرب البيوت القديمة وأخـرم القوانين الجسيمة والعوائد المرتبة والرواتب التي من سالف الدهر كانت منظمة وقتل الرجال واستصفى الأموال وحارب كبار العربان والبوادي وعرب الجزيرة والهنادي وأعاظم الشجعان ومقادم البلدان وشتت شملهم وفرق جمعهم واستكثر من شراء المماليك وجمع العسكـر مـن سائـر الأجنـاس واستخلـص بلـاد الصعيد وقهر رجالها الصناديد ولم يزل يمهد لنفسه حتى خلص له ولأتباعه الإقليم المصري من الإسكندرية إلى أسوان ثم جرد عساكره إلى البلاد الحجازية ونفذ أغراضه بها ثم التفت إلى البلاد الشامية وتابع إرسال البعوث والسرايا والتجاريد إليها وقتل عظماءها وكبراءها وولاتها واستولت أتباعه على البلاد الشامية حتى أنهم أقاموا في حصار يافا أربعة أشهر حتى ملكوها وعمر قلـاع الإسكندريـة ودميـاط وحصنهـا بعساكـره ومنع ورود الولاة العثمانيين وكان يطلع كتب الأخبار والتواريخ وسير الملوك المصرية ويقول لبعض خاصته‏:‏ إن ملوك مصر مثلنا مماليك الأكراد مثل السلطان بيبرس والسلطان قلـاون وأولادهـم وكذلـك ملـوك الجراكسـة وهـم مماليـك بني قلاون إلى آخرهم كانوا كذلك وهؤلاء العثمانية أخذوها بالتغلب ونفاق أهلها‏.‏

وينوه ويشير بمثل هذا القول بما في ضميره وسريرته ولو لم يخنه مملوكه محمد بك لرد الأمور إلى أصولها وكان لا يجالس إلا أهل الوقار والحشمة والمسنين مثل محمد أفندي باشا الراقم ومرتضى أغا وأحمد أفندي يجالسونه بالنوبة في أوقات مخصوصة مع غاية التحـرز فـي الخطـاب والمسامـرة بوجيـز القـول وكاتـب إنشائه العربي الشيخ محمد الهلباوي الدمنهوري وكاتبه الرومي مصطفى أفندي الأشقر ونعمان أفندي وهو منجمه أيضًا ويجل من العلماء المرحوم الوالد والشيخ أحمد الدمنهوري والشيخ علي العدوي والشيخ أحمد الحماقي وكاتبه القبطي المعلم رزق بلغ في أيامه من العظمة ما لم يبلغه قبطي فيما رأينا ومن مسقاته كرع المعلم إبراهيم الجوهري وأدرك ما أدركه بعده في أيام محمد بك وأتباعه من بعده وتتبع المفسدين والذين يتداخلون في القضايا والدعاوى ويتحيلون على إبطال الحقوق بأخذ الرشوات والجعالـات وعاقبهـم بالضـرب الشديـد والإهانـة والقتـل والنفـي إلى البلاد البعيدة‏.‏

ولم يراع في ذلك أحدًا سواء كان متعممًا أو فقيهًا أو قاضيًا أو كاتبًا أو غير ذلك بمصر أو غيرها من البناذر والقرى وكذلك المفسدون وقطاع الطريق من العرب وأهل الحوف ألزم أرباب الأدراك والمقادم بحفظ نواحيهـم ومـا فـي حوزهـم وحدودهـم وعاقـب الكبـار بجنايـة الصغـار فأمنـت السبـل وانكفت أولاد الحرام وانكمشوا عن قبائحهم وإيذائهم بحيث أن الشخص كان يسافر بمفرده ليلًا راكبـًا أو ماشيـًا ومعـه حمـل الدراهـم والدنانير إلى أي جهة ويبيت في الغيط أو البرية آمنًا مطمئنًا لا يـرى مكروهـًا أبـدًا‏.‏

وكـان عظيـم الهيبـة اتفـق لأناس ماتوا فرقًا من هيبته وكثيرًا من كان تأخذه الرعـدة بمجـرد المثـول بيـن يديـه فيقـول لـه‏:‏ هـون عليـك ويلاطفـه حتى ترجع له نسه ثم يخاطبه فيما طلبـه بصـدده وكـان صحيـح الفراسـة شديـد الحذق يفهم ملخص الدعوى الطويلة بني المتخاصمين ولا يحتاج في التفيهم إلى ترجمان أو من يقرأ له الصكوك والوثائق بل يقرأها ويفهم مضمونها ثم يمضيهـا أو يمزقهـا‏.‏

وألبـس سراجينـه قواويـق فتلـى بالفـاء من جوخ أصفر تمييزًا لهم عن غيرهم من سراجين أمرائه ولم يزل منفردًا في سلطنة مصر لا يشاركه مشارك في رأيه ولا في أحكامه وأمراؤها وحكامها مماليكه وأتباعه فلم يقنع بما أعطاه مولاه وخوله من ملك مصر بحريها وقبليها الذي افتخرت به الملوك والفراعنة على غيرها من الملوك وشرهت نفسه وغرته أمانيه وتطلبت نفسه الزيادة وسعة المملكة وكلف أمراءه الأسفار وفتح البلـاد حتـى ضاقـت أنفسهـم وشمـوا الحروب والغربة والبعد عن الوطن فخالف عليه كبير أمرائه محمد بك ورجع بعد فتح البلاد الشامية بدون استئذان منه واستوحش كل من الآخر فوثب عليه وفر منه إلى الصعيد وكان ما كان من رجوعه بمن انضم إليه وخامر معه وكانت الغلبة له على مخدومه وفر منه إلى الشـام وجنـد الجنود وقصد العود لمملكته ومحل سيادته فوصل إلى الصالحية‏.‏

وخرج إليه محمد بـك وتلاقيـا وأصيـب المترجـم بجراحـة فـي وجهـه وأخـذ أسيـرًا وقتـل مـن قتـل من أمرائه ورجع محمد بك وصحبته مخدومه المذكور محمولًا تخت فأنزلوه في داره بدرب عبد الحق فأقام سبعة أيام ومات والله أعلم بكيفية موته‏.‏

وكان ذلك في منتصف شهر صفر من السنة‏.‏

فغسل وكفن وخرجـوا بجنازتـه وصلـى عليـه بمصلـى المؤمنيـن فـي مشهـد حافـل ودفـن بتربـة أستـاذه إبراهيـم كتخدا بالقرافة الصغرى بجوار الإمام الشافعي ومدفنهم مشهور هناك وبواجهته سبيل يعلوه قصر مفتح الجوانـب‏.‏

ومـن مآثـره العمـارة العظيمـة بطندتـا وهـي المسجد الجامع والقبة على مقام سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه والمكاتب والميضأة الكبيرة والحنفيات وكراسي الراحة المتسعة والمنارتان العظيمتان والسبيل المواجه للقبة والقيسارية العظيمة النافذة من الجهتين وما بها من الحوانيت للتجار وسميت هناك بالغورية لنزول تجار أهل الغورية بمصر في حوانيتها أيام مواسع الموالد المعتادة لبيع الأقمشة والطرابيش والعصائب وكان المشد على تلك العمارة المعلم حسن عبد المعطي وكان من الرجال أصحاب الهمم وولاه سدانة الضريح عوضًا عن أولـاد سعـد الخـادم لسوء سيرتهم وظلمهم فنكبهم المترجم وأخذ ما أمكنه أخذه من مالهم وهو شيء كثير وأنفقه في هذه العمارة ووقـف عليهـا أوقافـًا ورتـب بالمسجـد عـدة مـن الفقهـاء والمدرسيـن والطلبة والمجاورين وجعل لهم خبزًا وجرايات وشوربة فـي كـل يـوم وجـدد أيضـًا قبـة الإمـام الشافعـي رضـي اللـه عنـه وكشف ما عليها من الرصاص القديم من أيام الملك الكامل الأيوبي في القرن الخامس وقد تشعث وصدئ لطول الزمان فجدد ما تحته من خشب القبة البالي بغيره من الخشبالنقي الحديث ثم جعلوا عليـه صفائـح الرصـاص المسبـوك الجديـد المثبـت بالمساميـر العظيمة وهو عمل كثير‏.‏

وجدد نقوش القبة من داخل بالذهب واللازورد والأصباغ وكتب بإفريزها تاريخًا منظومًا صالح أفندي‏.‏

وهدم أيضًا الميضأة التي كانت من عمارة عبد الرحمن كتخدا وكانت صغيرة مثمنة الأركان ووسعها وعمل عوضها هذه الميضأة الكبيرة وهي مربعة مستطيلة متسعة وبجانبها حنفية وبزابيز يصب منها الماء وحول الميضأة كراسي راحة بحيضان متسعـة تجـري مياهها إلى بعضها وماؤها شديد الملوحة‏.‏

ومن إنشائه أيضًا العمارة العظيمة التي أنشأها بشاطئ النيل ببولاق حيث دكك الحطب تحت ربع الخرنوب وهي عبارة عن قيسارية عظيمة ببابين يسلك منها من يجري إلى قبلي وبالعكس وخانًا عظيمًا يعلوه مساكن من الجهتين وبخارجه حوانيت وشونة غلال حيث مجرى النيل ومسجد متوسط فحفروا أساس جميع هذه العمارة حتـى بلغـوا المـاء ثـم بنـوا لهـا خنازيـر مثـل المنـارات مـن الأحجـار والدبـش والمؤمـن وغاصوا بها في ذلك الخندق حتى استقرت على الأرض الصحيحة ثم ردموا ذلك الخندق المحتوي على تلك الخنازير بالمؤن والأحجار واستعلوا عليه بعد ذلك بالبناء المحكم بالحجـر النحيب وعقدوا العقود والقواصر والأعمدة والأخشاب المتينة‏.‏

وكان العمل في سنة خمس وثمانيـن‏.‏

ومـات المترجـم قبـل إتمامها وبناء أعاليها‏.‏

وكانت هذه العمارة من أشام العمائر لأن النيل انحسر بسببها عن ساحل بولاق وبطل تياره واندفع إلى ناحية انبابة ولم تزل الـأرض تعلـو والأتربـة تزيـد فيمـا بيـن زاويـة تلـك العمـارة إلـى شـون الغلـال ويزيـد نومها في كل سنة حتى صار لا يركبها الماء إلا في سنين الغرق‏.‏

ثم فحش الأمر وبنى الناس دورًا وقهاوي في بحرى العمارة وسبحوا إلى جهة قرب الماء مغربين وألقوا أتربة العمائر وما يحفرونه حول ذلك واقتدى بهم الترابة وغيرهم ولم يجدوا مانعًا ولا رادعًا وكلما فعلوا ذلك هرب الماء وضعف جريانه وربت الأرض وعلت وزادت حتى صارت كيمانًا تنقبض النفوس مـن رؤيتهـا‏.‏

وتمتلـئ المنافـس مـن عجاجها وخصوصًا في وقت الهجير بعد أن كانت نزهة للناظرين‏.‏

ولقد أدركنا فيما قبل ذلك تيارًا لنيل يندفع من ناحية بولاق التكرور إلى تلك الجهة ويمر بقوته تحت جدران الدور والوكائل القبلية وساحل الشون ووكالة الأبزار وخضرة البصل وجامع السنانية وربع الخرنوب إلى الجيعانيـة وينعطـف إلى قصر الحلي والشيخ فرج صيفًا وشتاء ولا يعوقه عائق ولا يقدر أحد أن يرمي بساحل النيل شيئًا من التراب فإن اطلع الحاكم على ذلك نكل به أو بخفير تلك الناحية وهـذا شـيء قـد تودع منه ومن أمثاله وآخر من أدركنا فيه هذا الالتفات والتفقد للأمور الجزئية التي يترتب بزيادتها الضرر العام عبد الرحمن أغا مستحفظان فإنه كان يحذو طريق الحكام السالفين إلى أن ضعفت شوكته بتآمر الأصاغر وقيد حكمه بعد الإطلاق وترك هـذا الأمـر ونسي بموته وتقليد الأغاشم وتضاعف الحال حتى أن بعض الطرق الموصلة إلى بولاق سدت بتراكم الأتربـة التـي يلقيهـا أهـل الأطـارف خـارج الـدروب ولا يجـدون مـن يمنعهـم أو يردعهـم وقدرت علو الأرض بسبب هذه العمارة زيـادة عـن أربـع قامـات فإننـا كنـا نعـد درج وكالـة الأبزارييـن مـن ناحيـة البحر عندما كنا ساكنين بها قبل هذه العمارة نيفًا وعشرين درجة وكذلك سلـم قيطـون بيـت الشيخ عبد الله القمري وقد غابت جميعها تحت الأرض وغطتها الأتربة ولله عاقبة الأمور‏.‏

ومن إنشاء المترجم داره المطلة على بركة الأزبكية بدرب عبد الحق التي مات بها والحوض والساقية والطاحون بجوارها وهي الآن مسكن الست نفيسة‏.‏

وبالجملة فأخبار المترجـم ووقائعـه وسيرتـه لو جمعت من مبدأ أمره إلى آخره لكانت مجلدات وقد ذكرنا فيما تقدم لمعًا من ذلك بحسب الاقتضاء مما استحضره الذهن القاصر والفكر المشوش الفاتر بتراكم الهموم وكثرة الغموم وتزايد المحن واخطلاط الفتن واختلال الدول وارتفاع السفل ولعل العود يخضر بعد الذبول ويطلع النجم بعد الأفول أو يبسم الدهر بعد كشارة أنيابه أو يلحظنا منن نظره المتغابي في أيابه‏:‏ زمن كأحلام تقضى بعده زمـن نعلـل فيه بالأحلام ولله في خلقه مـن قديـم الزمـان عـادة وانتظـار الفـرج عبـادة نسألـه انقشـاع المصائـب وحسـن العواقب‏.‏

ومات سلطان الزمان السلطان مصطفى بن أحمد خان تولى السلطنة في سنة 171 فكانت مدة سلطنته ست عشرة سنة وكانت لـه عنايـة ومعرفـة بالعلـوم الرياضيـة والنجوميـة ويكـرم أرباب المعارف‏.‏

وكان يراسل المرحوم الوالد والشيخ أحمد الدمنهوري ويهاديهما ويرسل إليهما الصلات والكتب وأرسل مرة إلى الشيخ الوالـد ثلاثـة كتـب مكلفـة مـن خزانتـه وهـي كتـاب القهستانـي الكبيـر وفتـاوى انقـروي ونور العين في إصلاح جامع الفصولين كلاهما في الفقه الحنفي وله مؤلف في الفن دقيق ينسب إليه‏.‏

وتولى بعده السلطان عبد الحميد خان جعل الله أيامه سعيدة‏.‏

ومات الأمير علي بك الشهير بالطنطاوي وهو من مماليك علي بك المذكور وكان من الشجعان المعروفيـن والفرسـان المشهوريـن ولـم ينافـق علـى سيـده مـع المنافقيـن ولـم يمـرق مـع المارقين ولم يزل مع مخدومه فيما وجهه إليه حتى قتل بالصالحية بين يديه‏.‏

ومات الرئيس المبجل الأمير اسمعيل أفندي الروزنامجي رئيس الكتبة بمصر وكان إنسانًا حسنًا منـور الوجـه والشيبة ضابطًا محررًا خيرًا أصيب بوجع في عينيه فوعده الحاج سليمان الحكاك بشـيء مـن الكحـل وأودعـه فـي ورقـة وضعهـا فـي طـي عمامتـه وكـان بهـا ورقـة أخـرى فـي شـيء مـن السليمانـي لم يتذكرها وهو أبيض والكحل أيضًا أبيض فلما حضر عندما خرج الورقة التي بها السليماني من عمامته وأعطاه له وأمره يكتحل منها وقت النوم يظنها أنـه ورقـة الكحـل ثـم انصـرف إلـى داره‏.‏

فلمـا نـزع عمامته وقت النوم رأى ورقة الكحل وتذكر عند ذلك الأخرى فلم يمكنه الذهاب والتدارك ليلًا لبعد المكان وفوات الوقت والمسكين صلى العشاء واكتحل من الورقة فزال بصره في الحال واستمر مكفوفًا إلى أن مات سحر ليلة الأحد سادس عشر ذي الحجـة مـن آخـر السنـة وصلـي عليـه مـن الغـد بسبيل المؤمنين ودفن بقبره الذي أعده لنفسه بالقرب من بن أبي جمرة عوضه الله الجنة‏.‏

ومات الرجل الصالح الأمير مراد أغا تابع قيطاس بك القطامشي وكـان منجمعـًا عـن النـاس راضيًا بحاله قانعًا بمعيشته ملازمًا على حضور الجماعة والصلوات في المسجد‏.‏

توفي يوم الأربعاء سابع عشرين شوال وصلي عليه بمصلى أيوب بك ودفن بالقرافة عند الطحاوي‏.‏

ومـات الأميـر حسـن كتخـدا مستحفظـان القازدغلي الملقب بقرا وكان من الأمراء الكبار أصحـاب الحـل والعقـد بمصـر فـي الزمـن السابـق وانقطـع فـي بيته عن المقارشة والتداخل في الأمور وكان مريضًا بمرض الأكلة في فمه ولذلك تركه علي بك وأهمله حتى مات يوم الثلاثاء ثالث عشر ذي القعدة من السنة عن ذلك المرض وورم في رجليه أيضًا ودفن في يومه ذلك بالقرافة‏.‏

ومات أيضًا مصطفى أفندي الأشقر كاتب ديوان علي بك خنقه خليل باشا بالقلعة في سابع عشرين جمادى الأولى بموجب مرسوم من الدولة حضر بطلب رأسه ورأس عبد الله كتخدا ونعمـان أفنـدي ومرتضـى أغـا فوجـد محمـد بـك أمضـى الأمـر فـي عبـد الله كتخدا وقطع رأسه في منزلـه بيـد عبـد الرحمـن أغـا ونعمـان أفنـدي ذهـب إلى الحجاز إثر موت علي بك وكذلك مرتضى أغا اختفى وتغيب وذهب من مصر ولم يعلم له مكان واستمر المترجم فطلبه الباشا فلما حضر إليه أمر بخنقه فخنقوه وسلخوا رأسه ودفنوه بالقرافة وأخذ موجوداته الباشا إلى الميرى‏.‏

ومات الأجل المبجل الضابط الماهر اسمعيل بن عبد الرحمن الرومي الأصل ثم المصرب المكتب الملقـب بالوهبـي شيـخ الخطاطيـن بمصـر كتـب الخـط وجوده على شيخ عصره السيد محمد النوري وبرع واجتهد واشتغل قليلًا بالعلم وكتبي بيده المصاحف مرارًا‏.‏

وأما نسخ الدلائل والأحزاب والـأوراد السبعـة فممـا لا يحصـى كثـرة وكـان إنسانـًا حسنـًا بشوشـًا محبـًا للنـاس فيـه مكارم الأخلاق وطيب النفس كتب عليه غلاب من بمصر من أهل الكتابة وكان صاحب نفس وهمة عاليـة‏.‏

وكـان يلـي منصـب سيـده فـي الخدمـة العسكرية وكتب عدة ألواح كبار وتوجه بها بإشارة بعـض أمراء مصر إلى المدينة المنورة‏.‏

فعلقها في المواجهة الشريفة بيده ونال بهذه الزيارة الشريفة والخدمة المنيفة سرورًا وشرفًا‏.‏

ولما كانت سنة 1181 أتى الأمر من صاحب الدولة بتوجيه بعض عساكر مصرية تقوية للمجاهدين‏.‏

فكان هو من جملة المعينين فيهم رئيسًا في طائفتهم فتوجـه إلـى الإسكندريـة وركـب منهـا إلـى الـروم وأبلـى فـي تلـك السفر بلاء حسنًا‏.‏

وبعد مدة أذن لهم بالانصراف فعاد إلى مصر وقد وهنت قواه واعترته الأمراض وزاد شكواه وهو مع ذلك يكتب ويفيد ويجيز ويعيد ويحضر مجالس أهل الخط على عادته‏.‏

وجلس ملازمًا لفراشه مدة حتى وافاه الحمام ليلة الأحد سادس عشر ذي الحجة فجهز وصلي عليه بمشهد حافل في مصلـى المؤمنيـن ودفـن عنـد ابـن أبي جمرة قرب العياشي في قبر كان أعده لنفسه منذ مدة ولم يخلف بعده مثله رحمه الله‏.‏

استهلت ووالي مصر خليل باشا محجور عليه ليس له في الولاية إلا الاسم والعلامـة علـى الأوراق والتصرف الكلي للأمير الكبير محمد بك أبي الذهب والأمراء وأعيان الدولة مماليكه وأشرافاتـه والوقـت فـي هدوء وسكون وأمن والأحكام في الجملة مرضية والأسعار رخية وفي الناس بقية وستائر الحياء عليهم مرخية شعر‏:‏ وما الدهر في حال السكون بساكن ولكنه مستجمع لوثوب ومات في هذه السنة الإمام العلامة والتحرير الفهامة حامل لواء العلوم على كاهل فضله ومحرر دقائق المنطوق والمفهوم بتحريره ونقله من تكحلت بحبره عيون الفتوى وتشنفت المسامع بما عنه يروى وارتفع من حضيـض التقليـد إلـى ذرا الفضائـل وسابـق فـي حلبـة العلـوم فحـاز قصـب الفواضـل الـروض النضير الذي ليس له في سائر العلوم نظير وهو في فقه النعمان الجامع الكبير عمدة الأنام وفيلسوف الإسلام سيدي ووالدي بدر الملة والدين ابي التدائي حسن بن برهان الديـن إبراهيـم ابـن الشيخ العلامة حسن ابن الشيخ نور الدين علي بن الولي الصالح شمس الدين محمد بن الشيخ زين الدين عبد الرحمن الزيلعي الجبرتي العقيلي الحنفي وبلاد الجبرت هي بلاد الزيلع بأراضي الحبشة تحت حكم الخطي ملك الحبشة وهم عدة بلاد معروفة تسكنها هذه الطائفة وهم المسلمون بذلك الإقليم ويتمذهبون بمذهب الحنفي والشافعي لا غير وينسبون إلى سيدنا أسلم بـن عقيـل بـن أبـي طالـب وكـان أميرهـم فـي عهـد النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم النجاشـي المشهور الذي آمن به ولم يره وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغيبة كما هو مشهور في كتب الأحاديث وهم قوم يغلب عليهم التقشف والصلاح ويأتون من بلادهم بقصد الحج والمجاورة في طلب العلم ويحجون مشاة ولهم رواق بالمدينة المنورة ورواق بمكة المشرفة ورواق بالجامع الأزهر بمصر وللحافـظ المقريـزي مؤلـف فـي أخبـار بلادهـم وتفصيـل أحوالهـم ونسبهم‏.‏

ومنهم القطب الكبير والمعتقد الشهير الشيخ اسمعيل بن سودكين الجبرتي تلميذ الشيـخ ابـن العربـي ويسمـى قطـب اليمـن والشيخ عبد الله الذي ترجمه الحافظ السيوطي في حسن المحاضرة وهـو الذي كان يعتقده الملك الظاهر برقوق وأوصى عند موته بأن يدفن تحت قدمه بالصحراء ومنهم الولي العارف الشيخ علي الجبرتي الذي كان يعتقده السلطان الأشرف قايتباي وارتحل إلى بحيرة ادكو فيما بين رشيد والإسكندرية وبنى هناك مسجدًا عظيمًا ووقف عليه عدة أماكن وقيعان وأنوال حياكة وبساتين ونخيل كثيرة وهو موجود إلى الآن عامر بذكر الله والصلاة وهـو تحـت نظـر الفقير إلا أن غالب أماكنه زحفت عليها الرمال وطمستها وغابت تحتها وفيه إلى الآن بقية صالحة‏.‏

وبنى أيضًا مسجدًا شرقي عمارة السلطان قايتباي ودفن به وقد خرب وانطمست معالمه ولم يبق إلا مدفنه وحوله حائط منهدم من غير باب ولا سقف وقبره ظاهر مكشوف يزار وللناس فيه اعتقاد عظيم‏.‏

ومن كراماته التي أكرمه الله بها أنه يرى على قبره في بعض الليالي المظلمة نور مثل القنديل المستنير يري ذلك سكان العمارة وغيرهم وهو أمر مشهور ومنها أن السفار وقوافل الأعراب ينزلون بأحمالهم حول قبره في الحوطة ويتركونها من غير حارس ليالي وأيامًا آمنين فلا يتعدى عليها سارق البتة ويعتقدون العطب للجاني في بدنه أو ماله وهو أمر مشهور أيضًا مقرر في أذهانهم إلى الآن‏.‏

ومنهـم الإمام الحجة المجتهد الفقيه الأصولي الجدلي صاحب التصحيح والترجيح فخر الدين أبي عمر وعثمان الحنفي الزيلعي شارح الكنز المسمى بتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق المدفون بحوطة سيدي عقبة بن عامر الجهني والشيخ الزيلعي الشافعي المدفون بالقرافة الكبرى وغير هؤلاء كثيـر ببلادهـم وبـأرض الحجـاز ومصـر والقصـد بذلـك التعريـف بالنسبـة قـال تعالـى‏:‏ ‏"‏ وجعلناكـم شعوبـًا وقبائـل لتعارفـوا إن أكرمكـم عنـد الله أتقاكم ‏"‏‏.‏

والنجاشي أول من آمن بالنبي صلـى اللـه عليـه وسلم من الملوك ولم يره وأسلم على يد ابن عمه جعفر بن أبي طالب وزوجه أم حبيبة رضي الله عنها وجهزها من عنده وأرسلها للنبي صلى الله عليه وسلم من الحبشة إلى المدينة ومن أراد الإطلاع على أخبار النجاشي رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلـم وهدايـاه إلـى النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم وهدايا النبي إليه وبعض أخبار الحبشة وما ورد فيهـم من الآيات والأحاديث والآثار فلينظر في كتاب الطراز المنقوش في محاسن الحبوش للإمام العلامة علاء الدين محمد بن عبد الله البخاري خطيب المدينة المنورة ورفع شأن الحبشان للعلامة جلال الدين السيوطي وتنوير الغبش في فضائلي السودان والحبش لابن الجوزي وفي تفسير البغوى أخرج أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت لما مات النجاشي كما نحدث أنـه لا يـزال يـرى علـى قبـره نـور وفـي أزهـار العـروش فـي من عرف اسمه من الصحابة الحبوش ومن عبيدة صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومنهم أحد كبار المجاهدين والمهاجرين بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولى أبي بكر الصديق وهو أول من أذن الإسلام وأول من ثوب في الفجر كما في الأوائـل للسيوطـي وكـان خـازن رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم على بيت المال كما في تهذيب الأسماء واللغـات وكـان يبـدل الشين بالسينن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنه‏:‏ شين بلال سيـن عنـدي وعنـد اللـه‏.‏

وكـان عمـر بـن الخطـاب رضـي اللـه عنـه يقـول‏:‏ كـان أبـو بكـر سيدنا وأعتق سيدنـا يعنـي بلـالًا‏.‏

وروى عنـه كثيـر مـن كبار الصحابة ومنهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأسامة بن زيد وجابر وأبو سعيد الخدري وكعب بن عرفجة والبراء ابن عازب وغيرهم وجماعة من التابعين رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

ومنهم شقران بضم الشيـن المعجمـة مولـى رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم وأمـا خدامـه منالحبشة الأحرار فكثيرون وكذلك الصحابيات من إمائه وأهل بيته‏.‏

ومنهم أم أيمن ذات الهجرتين وهي مرضعته وحاضنته وحليمة السعدية وثويبة وبركة جارية أم حبيبـة وبريـرة مولـاة عائشـة رضـي اللـه عنهـا وتبعة جارية أم هانئ بنت أبي طالب وغفرة وسعيرة كذلك عبيد الصحابة‏.‏

ومنهـم مهجع بكسر الميم وفتح الجيم مولى عمر بن الخطاب وهو أول من استشهد ببدر وكان مـن المهاجريـن الأوليـن وعـده النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم مـن سادات أهل الجنة وقال في شأنه يوم قتل سيد الشهداء‏:‏ مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة‏.‏

ومنهـم أسلـم مولـى عمـر بـن الخطاب وأيمن الحبشي المكي والدعبد الواحد ابن أيمن وبسار مولى المغيـرة بـن شعبـة أخـرج الحسـن بـن محمـد الخلـال فـي كرامـات الأوليـاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قـال‏:‏ دخلـت علـى النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم فقـال لـي‏:‏ يـا أبـا هريـرة يدخـل علي الساعة من هذا البـاب رجـل مـن أجـل السبعـة الذيـن يدفع الله عز وجل عن أهل الأرض بهم الأذى‏.‏

فإذا حبشي قـد طلـع مـن ذلـك البـاب أقـرع أجـدع علـى رأسه جره فيها ماء‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا أبا هريرة هو هذا‏.‏

ثم قال مرحبًا بيسار ثلاث مرات وكان يرش المسجد ويكنسه ومات في عهده صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما الصحابة الأحرار من الحبوش الأخيار الذين كانوا يخدمون الرسول وأصحابه وأهل بيته فكثيـرون جـدًا لا يمكـن استيعابهـم فـي هذا الاستطراد ضبطًا وعددًا وكذلك أبناء الحبشات من قريش من الصحابة والتابعين وأهل البيت الطاهرين والخلفاء العباسيين ومن ولد بأرض الحبشة من الصحابة من الحبشان مثل صفوان ابن أمية بن خلف الجمحي وعمرو ابن العاص وغيرهما مثـل عبـد اللـه بـن جعفر بن أبي طالب وهو أول مولود في الإسلام بأرض الحبشة بالاتفاق وكان يسمـى بحـر الجـود وأخباره في السخاء والكرم مشهورة والحرث بن حاطب الصحابي ومحمد بن حاطب وعمرو بن أبي سلمة وفي الحبوش أخلاق لطيفة وشمائل ظريفة وفيهم الحذق والفطانة ولطافة الطباع وصفاء القلوب لكونهم من جنس لقمان الحكيم وهم أجناس منهم السحرتـي والأمحـري وهـم أحسـن أجنـاس الحبـوش الموصوفيـن بالصباحـة والملاحـة والفصاحـة والسماحـة والنعومـة فـي الخـد والرشاقـة فـي القـد وللـه در الشيـخ العلامـة القاضـي عبـد البـر ابـن الشحنة الحنفي حيث يقول‏:‏ فطفقت أسأل عن نعومة ما خفى قالت فما تبغيه جنسي أمحري والأمحرية تفوق على السحرتية باللطف والظف والسحرتية تفوق على الأمحرية بالشدة والعنف فبينهما عموم وخصوص مطلق وقيل أن النجاشي منهم رضي الله عنه ويقال أن بني أرفدة الذين لعبوا بحرابهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفازوا بخطابه أعني قوله لهم دونكم يا بني أرفدة منهم ويقرب من هذين النوعين نوعان آخران نوع الدموات وبلين ونوعان آخران وهما قمو وقتر ونوع آخر يسمى إزاره‏.‏

عود وانعطاف إن الشيـخ عبـد الرحمـن وهـو الجد السابع لجامعه واليه ينتهي علمنا بالأجداد هو الذي ارتحل من بلـاده ووصـل إلينـا خبـره سلفـًا عـن خلـف فقدم من طريق البحر إلى جدة وانتقل إلى مكة فجاور بهـا‏.‏

وحـج مـرارًا وذهب أيضًا إلى المدينة المنورة فجاور بها سنتين ولقي من لقي بالحرمين من الأشياخ وتلقى عنهم ثم رجع إلى جدة وحضر إلى مصر من طريق القلزم فدخل إلى الجامع الأزهر في أوائل العاشر وجاور بالرواق ولازم حضور الأشياخ واجتهد في التحصيل وتولى شيخًا على الرواق والتكلم على طائفته وتزوج وولد له‏.‏

فلما مات خلف ولده الشيخ شمس الدين محمد ونشـأ علـى قـدم الصلـاح والاشتغـال بطلـب العلـم وتولـى مشيخـة الـرواق كوالـده وأنجب وقرأ دروسًا في الفقه والمعقول بالرواق وكان على غاية من الصلاح وملازمة الجماعة والسنن ولا يبيت عند عياله ليلـة أو ليلتيـن فـي الجامعـة وغالـب لياليـه يبيتهـا بالـرواق لأجـل الاشتغال بالمطالعة أول الليل على السهارة والتهجد آخره‏.‏

ومما اتفق له وعـد مـن كراماتـه أن السراج انطفأ في بعض الليالي الشتوية فأيقظ النقيب ليسرج له سراجًا فقام من نومه متكرهًا وأخـذ قنديـلًا وذهـب ليسرجـه فلما عاد به وقرب من الرواق رأى نورًا فستر ذلك القنديل ونظر إليـه مـن بعـد لينظـر مـن أيـن أتـاه الأسـراج فوجـده يطالـع فـي الكـراس وهـو فـي يـده اليسار وسبابة يده اليمن رافعها وهي تضيء مثل الشمعة المستنير ويطالع في نورها‏.‏

ثم دخل النقيب بالقنديل فاختفى ذلك الضوء وعلم الشيخ ذلك من النقيب فعاتبه على التجسس وأشار إليه بكتمان سـره ولـم يغـش الشيـخ بعـد ذلـك إلا قليـلًا‏.‏

وتوفـي إلـى رحمـه اللـه تعالـى‏.‏

وخلف ابنه الشيخ علي فنشأ أيضًا على قد أسلافه في ملازمة العلم والعمل وصار شهرة وثروة وتزوج بزينب بنت الإمـام العلامـة القاضـي عبـد الرحمـن الجوينـي ولـم يـزل مواظبـًا علـى شأنـه وطريقـة أسلافـه حتى توفي وخلف ولديه الإمام العلامة الشيخ حسن الذي تقدم ذكر ترجمته المتوفى سنة 1097 وأخاه الشيخ عبد الرحمن ومات في حياة أخيه سنة 1086 وكان لزينب الجوينية أماكن جارية في ملكهـا وقفتهـا علـى ولـدي زوجهـا المذكوريـن‏.‏

ولمـا توفـي الشيخ حسن أعقب الجد إبراهيم وضيعًا فكفلته والدته الحاجة مريم بنت الشيخ العمدة الضابط محمد بن عمر المنزلي الأنصاري فنشأ أيضـًا نشـوءًا صالحـًا حتـى بلـغ الحلم فزوجوه بستيتة بنت عبد الوهاب أفندي الدلجي فس سنة 108 وبنـى بهـا فـي تلـك السنـة وحملـت بالمترجـم وولدتـه فـي سنـة عشـر ومائـة وألف ومات والده وعمره شهر واحد وسن والده إذ ذاك ست عشرة سنة فربته والدته بكفالة جدته أم أبيه المذكورة وصاية الإمام العلامة الشيخ محمد النشرتي وقرروه في مشيخة الرواق كأسلافه والمتكلم عند الوصي المذكور فتربى في حجورهم حتى ترعرع وحفظ القرآن وعمره عشر سنين واشتغل بحفـظ المتـون فحـظ الألفيـة والجوهـرة ومتـن كنـز الدقائـق فـي الفقـه ومتـن السلم والرحبية ومنظومة ابن الشحنـة فـي الفرائـض وغيـر ذلك‏.‏

واتفق له في أثناء ذلك وهو ابن ثلاث عشرة سنة أنه مر مع خادمـه بطريـق الأزهـر فنظـر إلـى شيخ مقبل منور الوجه والشيبة وعليه جلالة ووقار طاعن في السـن والناس يزدحمون على تقبيل يده ويتبركون به فسأل عنه وعرف أنه ابن الشيخ الشرنبلالي فتقدم إليه ليقبل يده كغيره فنظر إليه الشيخ وتوسمه وقبض على يده وقال‏:‏ من يكون هذا الغلام ومن أبوه فعرفوه عنه فتبسم وقال‏:‏ عرفته بالشبه‏.‏

ثم وقف وقال‏:‏ اسمع يا ولدي أنا قـرأت علـى جـدك وهـو قـرأ على والدي وأحب أن تقرأ علي شيئًا وأجيزك وتتصل ببننا سلسلة الإسناد وتلحق الأحفاد بالأجداد‏.‏

فامتثل إشارته ولازم الحضور عنده في كل يوم وقرأ عليه متـن نـوح الإيضـاح تأليـف والـده في العبادات وكتب له الإجازة ونصها‏:‏ الحمد لله الذي أنعم على عبده بتوفيقه وأرشده إلى سواء طريقه وأذاقه حلاوة التفقه في دينه وتمام تحقيقه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنعم بطائف الأنعام وعظيمه ودقيقه وأشهد أن سيدنا وسيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله الهادي إلى الخير الكامل والجبر الشامل فأصح كل أحـد مغمـورًا فـي بحـر فضلـه وجوده محفوظًا من كيد الشيطان وجنوده وتعويقه وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار‏.‏

وبعد فقد حضر لدي الولد النجيب الموفق اللبيب الفطن الماهر الذكي الباهر سليل العلماء الأعلام نتيجة الفضلاء العظام نور الدين حسن بن برهان الدين إبراهيم بن العلامـة مفتـي المسلمين وإمام المحققين الشيخ حسن الجبرتي الحنفي رحم الله أسلافه وبارك فيه وقـرأ علـى متـن نـور الإيضـاح مـن أولـه إلـى آخـره تأليـف والـدي المندرج إلى رحمة الله تعالى سيدي وسنـدي الإمام العلامة الشيخ حسن بن عمار الشرنبلالي وأجزته أن يروى ذلك عني وجميع ما يجوز لي روايته إجازة عامة كما أجازني به وبفقه أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه كما تلقـى ذلـك هـو عـن الشيـخ علي المقدسي شارح نظم الكنز عن العلامة الشلبي شارح الكز عن القاضي عبد البر بن الحشنة عن المحقق الكمال بن الهمام عن سراج الدين قارش الهداية عن علاء الدين السيرامي عن السيد جلال الدين شارح الهداية عن علاء الدين بن عبد العزيز البخـاري عـن حافـظ الديـن صاحـب الكنـز عـن شمـس الأئمـة الكردري عن برهان الدين صاحب الهداية عن فخر الإسلام البـزدوي عـن شمـس الأئمـة السرخسـي عـن شمـس الأئمـة الحلواني عن القاضي ابن علي النسفي عن الإمام محمد بن الفضل البخـاري عـن عبـد اللـه السندموني عن الأمير عبد الله بن أبي حفص البخاري عن أبيه المذكور عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني عن الإمام أبي يوسف عن الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه عن الإمام حماد بن سليمان عن إبراهيم النخعي عن الإمام علقمة عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أمين الوحي جبريل عليه السلام عـن اللـه عـز وجل‏.‏

وأوصى الولد الأعز بالتقوى ومراقبة الله في السر والنجوى والله تعالى يوفقه وينفع به وبعلومـه ويهدينـا وإيـاه لمـا كـان عليـه السلـف الصالـح فـي أسـاس الديـن ورسومه‏.‏

قال ذلك الفقير إلى الله تعالى حسن بن حسن السرنبلالي الحنفـي فـي ثالـث ربيـع الـأول مـن سنـة 1123 وتوفـي الشيـخ فـي آخـر تلـك السنـة وقد جاوز التسعين‏.‏

واشتغل المترجم واجتهد في طلب العلوم وحضر أشياخ العصـر وتفقـه علـى الإمـام العلامة السيد علي السيواسي الضرير وحضر عليه شرح الكنز للعيني والدر المختار وكتاب الأشياه والنظائر لابن نجيم وشرح المنار لابن نجيم وشرح المنار لابن فرشتة وشرح التحرير للكمال بن الهمام وشرح الجوامع ومختصر السعد وعلى العلامة الشيخ أحمد التونسي المعروف بالدقدوسي الحنفي شرح الكنـز للعلامـة الزيلعـي والـدرر لملاخسـرو والسيد علي السراجية في الفرائض وشرح منظومة بن الشحنة في الفرائض والشنشوري على الرحبيـة والتلخيـص ومتـن الحكـم وشـرح التحفـة وعلـى الشيـخ علـي العقـدي النفي ملا مسكين على الكنز ومتن الهداية والسراجية والمنار والنزهة في علم الغبار والقلصادي ومنظومة ابن الهائم وعلى الفقيه محمد بن عبد العزيز الزيادي الحنفي ملتقى الأبحر وفتح القدير والحكم لابن عطاء الله والقدوري وعقود الجمان فـي المعانـي والبيـان وايساغوجـي وعلـى الشيـخ الفقيـد المحـدث الشهـاب أحمـد بـن مصطفـى الإسكنـدري الشهيـر بالصياغ شرح الكبرى وأم البراهين وشرح العقائد والمواقف وشرح المقاصد للسعد والكشاف والبيضاوي والشمائـل والصحيحيـن روايـة ودرايـة والأربعين النووية والمشارق والقطـب علـى الشمسيـة والمواهـب اللدنيـة وشـرح النخبـة وعلـى الشيخ منصور المنوفي شرح ابن عقيل على الألفية والشيخ خالد على الآجرومية والأزهرية والتوضيح وشرح تصريف العزى وشرح التلمسانية والخبيصي على التهذيـب وشيـخ الإسلـام على الخزرجية وعلى الشيخ عيد النمرمي شرح الورقات والسمقرندية وآداب البحث والعضدية والعصام على السمرقندية وعلم الجبر والمقابلة والعروض وأعمال المناسخات والكسورات والأعداد الصم والغربال والمساحة والحساب وعلى الشيج شلبي البراسي تلخيص المفتاح والمطول والتجويد وعلى الشيخ محمد السجيني الضرير المكودى على الألفية والفاكهي وشرح الشذور وملاجاماي وشرح مختصر ابن الحاجب والمطول وعلى الشيخ أحمد العمادي شرح الجوهرة لعبد السلام والسكتاني على الصغرى وشرح مختصر السنوسي والكافي ونوادر الأصول والجامع الصغير وشرح المقاصد وعلى الشيخ حسن المدابغي الأشموني على الألفيـة وشرح المراح وقواعد الأعراب والمعغنى وعلى الشيخ الملوى شرحه على السلم وشرح معراج الغيطي وأوضح المسالـك وأوائـل الكتـب الستـة والمسلسلـات والمسنـدات وحضـر أيضـًا دروس الشيـخ عبـد الـرؤوف البشبيشـي وأبو العز العجمي وغيرهما وجد في التحصيل حتى فاق أهل عصره وباحث وناضل ودرس بالرواق في الفقه والمعقول وبالسنانية ببولاق‏.‏

وكان لجدته أم أبيه مكان مشرف على النيل بربع الخرنوب عندما كان النيل ملاصقًا لسدته فساكنها مدة فكان يغدو إلى الجامـع ثـم يعـود إلـى بولـاق ولـه حاصـل بربـع الخرنـوب يجلـس فيـه حصـة ثـم يعـود إلـى السنانيـة فيملـي هنـاك درسـًا ثـم احتـرق ذلـك المنـزل بمـا فيـه وتلـف يـه أشيـاء كثيـرة من المتاع والصيني القديم فانتقلـت إلـى مصر وكانوا يذهبون إلى مكان لها بمصر العتيقة في أيام النيل بقصد النزهة وهي التي أعانته على تحصيل العلوم اشتغاله بالعلم كان يعاني التجارة والبيع والشـراء والمشاركـة والمضاربة والمقايضة وكانت جدته ذات غنية وثروة ولها أملاك وعقارات ووقـف عليـه أماكـن ومنها الوكالة بالصنادقية والحوانيت بجوارها وبالغورية ومرجوش ومنزل بجوار المدرسة الأقبغاوية ورتبت في وقفها عدة خيرات ومكتب لإقراء أيتام المسلمين بالحانوت المواجه للوكالة المذكـورة وربعـة تقـرأ فـي كـل يـوم وختمـات فـي ليالي المواسم وقصعتي تريد في كل ليلة من ليالي رمضان وثلاث جواميس تفرق على الفقهاء والأيتام والفقراء في عيد الأضحية‏.‏

وتزج بجدته المذكـورة بعـد مـوت جده الأمير علي أغا باش اختيار متفرقة المعروف بالطورى وتزووج المترجم بابنته وله حكم قلاع الطور والسويس والمويلح وكانت إذ ذاك عامـرة وبهـا المرابطـون ويصـرف عليهم العلوفات والاحتياجات‏.‏

ولما مات لي أغا المذكور سنة سبع وثلاثين تقلد ذلك بعده المترجـم مـدة مـع كونـه فـي عـداد العلمـاء وربـي معتوقيـه عثمـان وعليـا ولم يزالا في كنفه حتى مات بعد مدة طويلة وأرسل خادمًا له يسعى سليمان الحصافي جربجيًا على قلعة المويلح فقتلوه هناك فتكدر لذلك وترك هذا الأمر وأعرض عنه وأقبل علـى شأنـه مـن الاشتغـال وماتـت زوجته بنت الأمير علي أغا المذكور في حياة أبيها فتزوج ببنت رمضان جلبي بن يوسف المعروف بالخشاب تابع كور محمد وهم بيت مجد وثروة ببولاق ولهم أملاك وعقارات وأوقاف ومـن ذلـك وكالـة الكتـان وربـع وحوانيت تجاه جامع الزردكاش وبيت كبير بساحل النيل وآخر تجاه جامع مزره جربجي وهو سكن رمضان جلبي المذكور وكان إنسانًا حسنًا رقيق الحاشية وفيه فضيلة وسليفة جيدة‏.‏ ومات

رمضان جلبي المذكور سنة 1139

واستمرت ابنته في عصمة المترجم حتى ماتت في المحرم سنة 1182 وعمرها ستـون سنـة‏.‏

وكانـت مـن الصالحـات الخيـرات المصونـات وحجـت صحبتـه فـي سنـة إحـدى وخمسين وكانت به بارة وله مطيعة‏.‏

ومن جملة برها له وطاعتها أنها كانت تشتري له من السرارى الحسان من مالها وتنظمهن بالحلي والملابس وتقدمهن له وتعتقد حصـول الأجر والثواب لها بذلك وكان يتزوج عليها كثيرًا من الحرائر ويشتري الجواري فلا تتأثر من ذلك ولا يحصل عندها ما يحصل في النساء من الغيرة‏.‏

ومن الوقائع الغريبة أنه لما حج المترجم في سنـة سـت وخمسيـن‏:‏ واجتمـع بـه الشيـخ عمـر الحلبـي بمكـة الوصـي بـأن يشتـري لـه جاريـة بيضاء تكون بكرًا دون البلوغ وصفتها كذا وكـذا فلمـا عـاد مـن الحـج طلـب مـن اليسرجيـة الجواري لينقي منهن المطلوب فلم يزل حتى وقع على الغرض فاشتراها وأدخلها عند زوجته المذكورة حتى يرسلاه مع من أوصاه بإرسالها صحبته‏.‏

فلما حضر وقت السفر أخبرها بذلك لتعمل لهم ما يجب من الزوادة ونحو ذلك فقالت له‏:‏ إني أحبيت هذه الوصيفة حبًا شديدًا ولا أقدر على فراقها وليس لي أولاد وقد جعلتها مثل ابنتي والجارية بكت أيضًا وقالت لا أفارق سيدتي ولا أذهب من عندها أبدًا‏.‏

فقال‏:‏ وكيف يكون العمل قالت ادفع ثمنها من عندي واشتري أنت غيرها ففعل‏.‏

ثم إنها أعتقتها وعقدت عليها وجهزتها وفرشت لها مكانًا علـى حدتهـا وبنـى بهـا فـي سنـة خمـس وستيـن وكانـت لا تقـدر علـى فراقهـا ساعـة مـع كونهـا صارت ضرتها وولدت له أولادًا‏.‏

فلما كان في سنة اثنتين وثمانين المذكورة مرضت الجارية فمرضت فقامـت الجاريـة فـي ضحـوة النهـار فنظـرت إلى مولاتها وكانت في حالة غطوسها فبكت وزاد بها الحال وماتت تلك الليلـة فأضجعوهـا بجانبهـا فاستيقظـت مولاتهـا آخـر الليـل وجستهـا بيدهـا وصارت تقول‏:‏ إن قلبي يحدثني أنها ماتت ورأيت في منامي ما يدل على ذلك فلما تحققت ذلك قامت وجلس وهي تقول لا حياة لي بعدها وصارت تبكي وتنتحب حتى طلع النهار وشرعوا في تشهيلها وتجهيزها وغسلوها بيـن يديهـا وشالـوا جنازتهـا ورجعـت إلـى فراشهـا ودخلـت فيسكـرات المـوت وماتت آخر النهار وخرجوا بجنازتها أيضًا في اليوم الثاني‏.‏

وهذا من أعجب ما شاهدته ورأيته ووعيته وكان سني إذ ذاك أربع عشرة سنة‏.‏

واشتغل المترجم في أيام اشتغاله بتجويد الخط فكتب على عبد الله أفندي الأنيس وحسن أفندي الضيائي طريقة الثلث والنسخ حتى أحكم ذلك وأجازه الكتبة وأذنوه أن يكتب الإذن على اصطلاحهم ثم جـود فـي التعليـق علـى أحمـد أفنـدي الهنـدي النقـاش لفصـوص الخواتـم حتـى أحكـم ذلـك وغلـب على خطه طريقته ومشى عليها وكتب الديواني والقرمة وحفظ الشاهدى واللسان الفارسي والتركي حتـى أن كثيرًا من الأعاجم والأتراك يعتقدون أن أصله من بلادهم لفصاحته في التكلم بلسانهم ولغتهم‏.‏

وفي سنة أربع وأربعين اشتغل بالرياضيات فقرأ على الشيخ محمد النجاحي رقائق الحقائق للسبط المراديني والمجيب والمقنطر ونتيجة اللادقي والرضوانية والدرلابن المجدى ومنحرفات السبط وإلى هنـا انتهـت معرفـة الشيـخ النجاحـي‏.‏

وعنـد ذلـك انفتـح لـه البـاب وانكشـف عنـه الحجـاب وعـرف السمت والارتفاع والتقاسم والأرباع والميل الثاني والأول والأصل الحقيقي والمعدل وخالط أرباب المعارف وكل من كان من بحر الفن غارف وحل الرموز وفتح الكنوز واستخرج نتائج الدر اليتيم والتعديل والتقويم وحقق أشكال الوسايط في المنحرفات والبسائط والزيج والمحلولـات وحركـات التداويـر والنطاقـات والتسهيـل والتقريـب والحـل والتركيـب والسهام والظلال ودقائق الأعمال وانتهت إليه الرياسة في الصناعـة وأذعنـت لـه أهـل المعرفـة بالطاعة وسلم له عطارد وجمشيد الراصد وناظره المشتري وشهد له الطوسي والأبهري وتبوأ من ذلك العلم مكانًا عليًا وزاحم بمنكبه العيوق والثريا وقدم القدوة العلامة والحكيم الفهامة الشيخ حسام الدين الهندي وكان متضلعـًا مـن العلـوم الرياضيـة والمعـارف الحكميـة والفلسفيـة فنزل بمسجد في مصر القديمة واجتمع عليه بعض الطلبة مثل الشيخ الوسمي والشيخ أحمد الدمنهـوري وتلقـوا عنه أشياء في الهيئة فبلغ خبره المترجم فذهب إليه للأخذ عنه فاغتبط به الشيـخ وأحبـه وأقبل بكليته عليه فلم يزل به حتى نقله إلى داره وأفرد له مكانًا وأكرم نزله وقام بأوده وطالع عليه الجغميني وقاضي زاده عليه والتبصرة والتذكرة وهداية الحكمة لأثير الدين الأبهـري ومـا عليهـا مـن المـواد والشـروح مثـل السيـد والميبـدى قـراءة بحـث وتحقيق وأشكال التأسيس في الهندسة وتحرير إقليدس والمتوسطات والمبادئ والغايات والأكر وعلم الارتماطيقي وجغرافيا وعلم المساحة وغير ذلك‏.‏

ثم أراد أن يلقنه على الصنعة الإلهية وكان من الواصلين فهيـا فغالطه عن ذلك وأبت نفسه الاشتغال بسوى العلوم المهذبة للنفس وكان يحكي عنه أمورًا وعبـارات وإشـارات تشعر بأنه كان من الكمل الواصلي في كل شيء ولم يزل عنده حتى عزم على الرحلة وسافر إلى بلاده‏.‏

وقدم إلى مصر الإمام العلامة الشيخ محمد الغلاني الكشناوي وسكن بدرب الأتراك فاجتمع عليه المترجم وتلقى عنه علم الأوفاق وقرأ عليه شرح منظومة الجزنائية للقوصوني والدر والترياق والمرجانية في خصوص المخمـس الخالـي الوسـط والأصـول والضوابط والوفق المئيني وعلم التكسير للحروف وغير ذلك وسافر الشيخ إلى الحج وجاور هناك فلما رجع أنزله عنده وصحبته زوجته وجواره وعبيده وكمل عنده غالب مؤلفاته ولم يـزل حتـى مـات كمـا تقـدم ذكـر ذلـك فـي ترجمتـه ولقـي المترجـم فـي حجاتـه الشيخ النخلي وعبد الله بن سالم البصري وعمر بن أحمد ابن عقيل المكي والشيخ محمد حياة السندي الكوراني وأبو الحسن السندي والسيد محمد السقاف وغيرهم وتلقى عنهم وأجازوه وتلقوا هم أيضًا عنـه ولقنه الشيخ أبو الحسن السندي طريق السادة النقشبندية والأسماء الإدريسية‏.‏

وهذه صورة إجازة الشيخ عمر بن أحمد بن عقيل ومن خطه نقلت‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى خصوصًا أفضل أنبيائـه وعترتـه الطاهريـن وصحابتـه أجمعيـن‏:‏ وبعـد فـإن مما تطابقت عليه النصوص وتوافقت عليه ألسنة العموم والخصوص أن الباحث عن السنة الغراء لاتباع هدى سيد الأنبياء الموجب لمحبة ذي الآلاء والنعماء هو الفائـز بالقـدح المعلـى والمرفـوع إلـى المقـام الأعلـى ومـن المعلـوم أنه لم يبق في زماننا ما يتداول منها إلا التعلـل برسـوم الإسنـاد بعـد انتقـال أهل الزمان والناد فذو الهمة هو الذي يثابر على تحصيل أعلاه وينافس في فهم متنه ويفحص عن معناه ويناقش في رجاله الذين عليهم مغناه ألا وهو الشيخ الأجل الراقي بعزمه المتين من العلم والعمل إلى أعلى محل سيدنا وأستاذنا الشيخ حسن بن المرحوم إبراهيم بن الشيخ حسن الجبرتي أمده الله بالمدد الإلهي فطلـب مـن هـذا الفقيـر أن أجيـزه فلما لم أجد بدًا من الامتثال قلت سائلًا التوفيق في الأول والفعال‏:‏ أجزت مولانا الشيخ حسـن المذكـور المنـوه بذكره أعلى السطور أجزل الله تعالى له الأجور ما يجوز لي وعني روايته منـن مقـروء ومسمـوع وأصول وفروع بشرطه المعتبر من تقوى الله والصيانة وضبط الألفاظ وسير الرجال والديانة حسبما أجازني بذلك شيوخ أكابر عدة هم في الشدائد عدة ومنهم بل من أجلهـم سيـدي وجـدي لأمـي بعـد أن قـرأت عليـه جانبًا كبيرًا من كتب الحديث وغيره قراءة تحقيق وتدقيق وغيره من الشيوخ أهل التوفيق وقد سمع مولانا الشيخ حسن منـي أوائـل البخـاري ومسلـم وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والموطأ فليروعني المجاز المذكور متى شاء مما اتصلت بي روايته متى أراد رفع سند أو كتاب لمن هو منن أهل الدراية وهو دام أنسه وزكا قدسه في غنية عن ذلك ولكن جرت العادة بأخذ الأكابر عن الأصاغر تكثيرًا لسوادنا فهي سنة الأوائل والأواخر‏.‏

وكذلك أجرت له بالصلاة المشهورة النفع بهذه الصيغة‏:‏ اللهم صل على سيدنا محمد وآله كما لا نهاية لكمالك وعد كمالله حسبما أجازني بها مولانا الشيخ طاهر ابن المـلا إبراهيـم الكوراني عن شيخه حسن المنوفي مفتي الحنفية بالمدينة سابقًا عن شيخه مولانا الشيخ علي الشبراملسي عن بعض أجلاء شيوخه وأمره أن يصلي بها بين المغرب والعشاء بلا عدد معين وبالمواظبة عليها يظهر نتائج فتحها خصوصًا لمبتغي هذا العلم المجد في طلبه من ذويه نفعه الله تعالى بالعلم وجعله من أهليه وقد أجزت الشيخ المذكور ضاعف الله تعالى له الأجور بالأسماء الأربعينية الإدريسية السهروردية بقراءتها وإقرائها لخل صادق إن وجـد كمـا أجازني بذلك جملة من الشيوخ وقد اتصل سندي بها أيضًا عن مولانا وسيدنا الأمجد مولانا الشيخ أحمد بن محمد النخلي أنزل عليه شآبيب الرحمة والغفران الواحد العلي وهو يرويها عن الشيخ حجازي الدير بي عن الشيخ شهاب الدين أحمد بن علي الخامي الشنـاوي وأجـازه شيخه أيضًا بشرحها للشيخ عثمان النحراوي‏:‏ قال الشيخ عثمان‏:‏ أجازني بالأسماء الإدريسية العظام الشيخ كمال الدين السوداني وهو يرويها عن شيخه أبي المواهب أحمد الشناوي عن السييد صبغة الله أحمد عن السيد وجيه الدين العلوي عن الحاج حميد الشهير بالشيخ محمد الغوث عن الحاج حصور عن أبي الفتح هدية الله سيرمست عن الشيخ قاضن الستاري عن الشيخ ركن الدين حينوورى عن الشيخ يابوتاج الدين عن السيد جلـال الديـن البخـاري عـن الشيخ ركن الدين أبي الفتح عن الشيخ صدر الدين أبي الفضل عن الشيخ أبي البركات بهاء الدين زكريا عن شيخ الشيوخ شهاب الديـن السهـروردي عـن سيـدي وجيـه الديـن المعـروف بعمويه عن الشيخ أحمد أسود الدينوري عن الشيخ ممشاد الدينوري عن الشيخ أبي القاسم الجنيـد البغـدادي عـن خالـه سـري السقطـي عـن الشيـخ معـروف الكرخـي عن الشيخ داود الطائـي عـن الشيـخ حبيـب العجمـي عـن سيـد التابعيـن حسـن البصـري عـن إمام المشارق والمغـارب سيدنـا علـي بـن أبـي طالـب عـن سيدنا ومولانا سيد الخلق حبيب الحق عبده ورسوله وحبيبه وصفيه وخليله النبي الرسول الحاوي لجميع الكمالـات الأصليـة والفرعيـة الجامـع لكـل الصفات السنية والمراتب العلية المبعوث لكل الخلق المتخصص بالقرب من العالـم الحـق سيـد الكونيـن والثقليـن والفريقيـن مـن عـرب ومـن عجم محمد صلى الله عليه وسلم قال ذلك بفمه وكتبه بقلمـه أسيـر ذنبـه عمـر بـن أحمـد بـن عقيل السقاف بأعلوى حفيد مولانا الشيخ عبد الله بن سالم البصـري غفـا الله تعالى عنهم أجمعين سائلًا من الشيخ المذكور أن لا ينساني وأصولي ومشايخي فـي الديـن وجميـع أقاربـي من صالح الدعوات في خلواته وجلواته وحركاته وسكناته وأوصيه بما أوصي به نفسي وسائر المسلمين من ملازمة التقوى وكمال الاستعداد واتبـاع سبيـل الهـدى والرشاد وأسأل الله تعالى الكريم المنان أن يوفقني وإياه والمسلمين لصالح القول والعمل ويجنبنا الخطأ والزلل ويجعلنا من العلماء العاملين والهداة الراشدين وأن يميتنا على سنة سيد المرسلين صلـى اللـه عليـه وسلم وعلى آله وصحابته أجمعين في كل وقت وحين‏.‏

وللمترجم أشياخ غير هـؤلاء كثيـرون اجتمـع بهـم وتلقـى عنهم وشاركهم وشاركوه مثل علي أفندي الداغستاني والشيخ عبد ربه سليمان بن أحمد الفشتالي الفاسي والشيخ عبد اللطيف الشامي والجمال يوسف الكلارجـي والشيـخ رمضـان الخوانكـي والشيـخ محمـد النشيلـي والشيخ عمر الحلبي والشيخ حسين عبـد الشكـور المكـي والشيـخ إبراهيـم الزمـزي وحـس أفندي قطعة مسكين وأحمد أفندي الكرتلي والأستـاذ عبـد الخالـق بـن وفـي وكـان خصيصًا به وأجازه بالأحزاب وهو الذي كناه بأبي التداني وألبسه التاج الوفائي والسيد مصطفى العيدروس وولده السيد عبد الرحمن والسيد عبد الله العيدروسـي والشيـخ علـي بنـدق الشناوي الأحمدي وكثير من المشايخ الأزهرية مثل السيد محمد البنوفـري والشيـخ عمـر الإسقاطي والشيخ أحمد الجوهري والشيخ أحمد الدلجي بن خال المترجم والشيخ أحمد الراشدي والشيخ إبراهيم الحلبي صاحب حاشية الدر والسيد سعودي محشي مـلا مسكيـن وغيرهـم مـن الأكابـر والأخيـار وأهـل الأسـرار والأنوار حتى كمل في المعارف والفنون ورمقتـه بالإجلـال العيـون وعـلا شأنـه علـى علمـاء الزمـان وتميز بين الأقران وأذعنت له أهل الأذواق وشاع ذكره في الآفاق ووفدت عليه الطلاب البلدانية والواردون من النواحي الآفاقية وأتوا إليه مـن كـل فـج يسعـون لميقاتـه ولزمـوا الطواف بكعبة فضله والوقوف بعرفاته فمنهم من ينفر بعد إتمام نسكه وبلوغ أمنيته ومنهم من يواظب على الاعتكاف بساحته وكان رحمه الله عذب المورد للطالبين طلق المحيا للواردين يكرم كل من أم حماه ويبلغ الراجي مناه والمقتفي جدواه والراغب أقصى مرماه مع البشاشة والطلاقة وسعـة الصـدر والرياقـة وعـدم رؤيـة المنـة علـى المحتـدى ومسامحة الجاهل والمعتدى مع حسن الأخلاق والصفات التي سجدت لها الخناصر كأنها آيات سجدات وكانت ذاته جامعة للفضائل والفواضل منزهة عـن النقائـص والرذائـل وقـورًا محتشمـًا مهيبـًا فـي الأعيـن معظمـًا فـي النفـوس محبوبـًا للقلـوب لا يعـادي أحـدًا ولا يخاصـم علـى الدنيا فلذلك لا تجد من يكرهه ولا من ينقم عليه في شيء من الأشياء وأما مكارم الأخلاق والحلم والصفح والتواضع والقناعة وشرف النفس وكظم الغيظ والانبساط إلى الجليل والحقير كل ذلك سجيته وطبعـه مـن غيـر تكلـف لذلـك ولا يرى لنفسه مقامًا أصلًا ولا يعرف التصنع في الأمور ولا دعوى علم ولا معرفة ولا مشيخة على التلاميذ والطلبة ولا يرضى التعاظم ولا تقبيل اليد وله منزلة عظيمـة فـي قلـوب الأكابـر والأمـراء والـوزراء والأعيـان ويسعـون إليه ويذهب إليهم لبعض المقتضيات والشفاعات ويرسل إليهم فلا يردون شفاعته ولا يتوانون في حاجة يتكلم فيها وله عندهـم محبـة ومنزلـة فـي قلوبهـم زيـادة عـن نظرائـه مـن الأشيـاخ لمعرفته بلسانهم ولغتهم واصطلاحهم ورغبتهـم فيمـا يعلمونه فيه من المزايا والأسرار والمعارف المختص بها دون غيره وخصوصًا أكابر العثمانييـن والـوزراء وأهـل العلـوم والفضـلاء منهـم مثل علي باشا ابن الحكيم وراغب باشا وأحمد باشا الكور وغيرهم ويأتون إليه أحيانًا في التبديل‏.‏

وأكرموه وهادوه كل ذلك مع العفة والعزة وعدم التطلع لشيء من أسباب الدنيا بوظيفة أو مرتب أو فائظ أو نحو ذلك‏.‏

وكان بينه وبين الأميـر عثمـان بـك ذي الفقـار صحبـة ومحبة وحج في أيام إمارته على الحج مرافقًا له ثلاث مرات من ماله وصلب حاله ولم يصله منه سوى ما كان يرسله إليه على سبيل الهدية وكان منزل سكنـه الـذي بالصنادقيـة ضيقـًا مـن أسفل وكثير الدرج فعالجه إبراهيم كتخدا على أن يشتري له أو يبنـي لـه دارًا واسعـة فلـم يقبل وكذلك عبد الرحمن كتخدا وكان له ثلاثة مساكن أحدها هذا المنزل بالقرب من الأزهر وآخر بالإبزارية بشاطئ النيل ومنزل زوجته القديمة تجاه جامع مرزه‏.‏

وفـي كـل منـزل زوجـة وسـرار وخـدم فكان ينتقل فيها مع أصحابه وتلامذته وكان يقتني المماليك والعبيد والجواري البيض والحبوش والسود ومات له من الأولاد نيف وأربعون ولدًا ذكورًا وإناثًا كلهـم دون البلـوغ ولـم يعـش لـه مـن الأولاد سوى الحقير وكان يرى الاشتغال بغير العلم من العبثيات وإذا أتـاه طالـب فـرح بـه وأقبـل عليـه ورغبـه وأكرمـه وخصوصـًا إذا كـان غريبـًا وربمـا دعاه للمحاورة عنده وصار من جملة عياله ومهم من أقام عشرين عامًا قيامًا ونيامًا لا يتكلف إلى شيء من أمر معاشه حتى غسل ثيابه من غير ملل ولا ضجر‏.‏

وأنجب عليه كثير من علماء وقتـه المحققيـن طبقـة بعـد طبقـة مثـل الشيـخ أحمـد الراشـدي والشيـخ إبراهيـم الحلبـي والشيـخ مصطفـى أبي الإتقان الخياط والسيد قاسم التونسي والشيخ العلامة أحمد العروسي والشيخ إبراهيم الصيحاني المغربي والطبقة الأخيرة التي أدركناها مثل الشيخ أبي الحسن القلعي والشيخ عبد الرحمـن البنانـي‏.‏

وأما الملازمون له فهم الشيخ محمد ابن اسعميل النفراوي والشيخ محمد الصبان والشيخ محمد عرفة الدسوقي والشيخ محمد الأمير والشيخ محمد الشافعي الجناجي المالكي والشيخ مصطفى الريس البولاقي والشيخ محمد الشوبري والشيخ عبد الرحمن العريشي والشيخ محمد الفرماوي وهؤلاء كانوا المختصين به الملازمين عنده ليلًا ونهارًا وخصوصًا الشيخ محمد النفراوي والصبان ومحمد أفندي النيشي والفرماوي والشيخ محمد الأمير والشيخ محمد عرفة‏.‏

فإنهم كانوا بمنزلة أولاده وخصوصًا الأولين فإنهما كانا لا يفارقانه إلا وقت إقراء دروسهما وكان يباسـط أخصـاءه منهـم ويمازحهـم ويروحهـم بالمناسبـات والأدبيـات والنـوادر والأبيـات الشعريـة والمواليات والمجونيات والحكايات اللطيفة والنكـات الظريفـة وينتقلـون صحبتـه فـي منـازل بولـاق ومواطن النزهة فيقطعون الأوقات ويشغلونها حصة في مدارسة العلم وأخرى في مطارحات المسائل وأخرى للمفاكهة والمباسطة والنوادر الأدبية‏.‏

ومن الملازمين على الترداد عليه والأخذ عنه الشيخ محمد الجوهري والشيخ سالم القيرواني ومحمد أفندي مفتي الجزائر والسيد محمد الدمـرداش وولـداه السيـد عثمـان والسيـد محمـد‏.‏

وممـن تلقـى عنـه شيخ الشيوخ الشيخ علي العدوي تلقى شرح الزيلعي على الكنز في الفقه الحنفي وكثيرًا من المسائل الحكمية‏.‏

ولما قرأ كتاب المواقـف فكـان يناقشـه فـي بعـض المسائـل محققـو الطلبة فيتوقف في تصويرها لهم فيقوم من حلقته ويقـول لهـم‏:‏ اصبـروا مكانكـم حتـى أذهـب إلـى مـن هـو أعـرف منـي بذلـك وأعـود إليكم‏.‏

ويأتي إلى المترجم فيصورها له بأسهل عبارة ويقوم في الحال فيرجع إلى درسه ويحققها لهم وهذا من أعظـم الديانـة والإنصـاف‏.‏

وقـد تكـرر منـه ذلـك غيـر مـرة وكـان يقـول عنـه لم نر ولم نسمع من توغل فـي علـم الحكمـة والفلسفـة وزاد إيمانـه إلا هو رحم الله الجميع‏.‏

وممن تلقى عنه من أشياخ العصر العلامة الشيخ محمد المصيلحي والعلامة الشيخ حسن الجداوي والشيخ محمد المسودي والشيخ أحمـد بـن يونـس والشيـخ محمـد الهلبـاوي والشيـخ أحمـد السجاعـي لازمـه كثيـرًا وأخـذ عنه في الهيئة والفلكيات والهداية وألف في ذلك متونًا وشروحًا وحواشي‏.‏

وأما من تلقى عنه من الآفاقيين وأهالي بلاد الروم والشام وداغستان والمغاربة والحجازيين فلا يحصون وأجل الحجازيين الشيخ إبراهيم الزمزي‏.‏

وأما ما اجتمع عنده وما اقتناع من الكتب في سائر العلوم فكير جدًا قلما اجتمع ما يقاربها في الكثرة عند غيره من العلماء أو غيرهم‏.‏

وكان سموحًا بإعارتها وتغييرها للطلبـة وذلـك كـان السبـب فـي إتلـاف أكثرهـا وتخريمهـا وضياعهـا حتى أنه كان أعد محلًا في المنزل ووضع فيه نسخًا من الكتب المستعملة التي يتداول علماء الأزهر قراءتها للطلبة مثل الأشموني وابن عقيل والشيخ خالد وشروحه والأزهرية وشروحها والشذور وكذلك من كتب التوحيد مثل شروح الجوهرة والهدهدى وشرح السنوسية والكبرى والصغـرى وكتـب المنطـق والاستعارات والمعاني وكذلك كتب الحديث والتفسير والفقه في المذاهب وغير ذلك فكانوا يأتـون إلـى ذلك المكان ويأخذون ويغيرون وينقلون من غير استئذان فمنهم من يأخذ الكتاب ولا يرده ومنهم من يهمل التغيير فتضيع الكراريس ومنهم من يسافر ويتركها عند غيره ومنهم من يهمـل آخـر الكتـاب ويتفـق أن الاثنيـن والثلاثـة يشتركـون فـي الكتاب الواحد والنسخة الواحدة ولا بد من حصول التلف من أحدهم ولا بد من حصول الضياع والتلف في كل سنة وخصوصًا في أواخر الكتب عندما تفتر هممهم‏.‏

وأكثر الناس منحرفو الطباع معوجو الأوضاع واقتنى أيضًا كتبًا نفيسة خلاف المتداولة وأرسل إليه السلطان مصطفى نسخـًا مـن خزائنـه وكذلـك أكابـر الدولة بالروم ومصر وباشـة تونـس والجزائـر واجتمـع لديـه مـن كتـب الأعاجـم مثـل الكلستـان ويدوان حافظ وشاه نامه وتواريخ العجم وكليلة ودمنة ويوسف زليخا وغير ذلك وبها من التشاويه والتصاوير البديعة الصنعة الغريبة الشكل وكذلك الآلات الفلكية من الكرات النحـاس التي كان اعتني بوضعها حسن أفندي الروزنامجي بيد رضوان أفندي الفلكي كما تقدم في ترجمتها‏.‏

ولما مات حسن أفندي المذكور اشترى جميعها من تركت وكذلك غيرها من الآلات الارتفاعية والميالات وحلق الأرصاد والاسطرلابات والأربـاع والعـدد الهندسيـة وأدوات غالـب الصنائع مثل التجاريـن والخراطيـن والحداديـن والسمكريـة والملجديـن والنقاشيـن والصـواغ وآلـات الرسم والتقاسيم ويجتمع به كل متقن وعارف في صناعته مثل حسن أفندي الساعاتي وكان ساكنـًا عنـده وعابديـن أفنـدي الساعاتي وعلي أفندي رضوان وكان من أرباب المعارف في كل شيء ومحمد أفندي الإسكندراني والشيخ محمد الأقفالي وإبراهيم السكاكيني والشيخ محمد الزبداني وكان فريدًا في صناعة التراكيب والتقاطير واستخراج المياه والأدهان وغير هؤلاء ممن رأيت ومن لم أر وحضر إليه طلاب من الإفرنج وقرأوا عليه علم الهندسة وذلك سنة تسع وخمسيـن وأهـدوا لـه مـن صنائعهـم وآلاتهـم أشيـاء نفيسـة وذهبـوا إلى بلادهم ونشروا بها ذلك العلم مـن ذلـك الوقـت وأخرجـوه من القوة إلى الفعل واستخرجوا به الصنائع البديعة مثل طواحين الهواء وجر الأثقال واستنباط المياه وغير ذلك‏.‏

وفي أيام اشتغاله بالرسم رسم ما لا يحصى من المنحرفات والمزاول على الرخامات والبلاط الكذان ونصبها في أماكن كثيرة ومساجد شهيرة مثل الأزهر والأشرفية وقوصون ومشهد الإمام الشافعي والسادات‏.‏

وفي الآثـار منـاه ثلاثـة واحدة بأعلى القصر وأخرى على البوابة وأخرى عظيمة بسطح الجامع بقي منها قطعة وكسر باقيها فراشو الأمراء الذين كانوا ينزلـون هنـاك للنزاهـة ليمسحـوا بهـا صوانـي الأطعمـة السفـر وكذلك بورد أن بالتماس مصطفى أغا الورداني وكذلك بحوش مدفن الرزازين بالتماس رضوان جربجي الرزاز رحمه الله ولما تمهر الآخذون عنه والملازمون عنده ترك الاشتغال بذلك وأحال الطلاب عليهم فإذا كان الطالـب مـن أبنـاء العـرب تتقيـد بتلميـذه الشيـخ محمـد ابـن اسمعيـل النفراوي وإن كان من الأعاجم والأتراك تقيد بمحمود أفندي النيشي‏.‏

واشتغل هو بمدارسة الفقه وإقرائه ومراجعة الفتاوى والتحري في الفروع الفقهية والمسائل الخلاقية وانكب عليه الناس يستفتونه في وقائعهم ودعاويهم‏.‏

وتقرر في أذهانهم تحريه الحق والنصوص حتى أن القضاة لا يثقون إلا بفتواه دون غيره وتقيد للمراجعة عنده الشيخ عبد الرحمن العريشي فانفتحت قريحته وراج أمـره وترشح بعده للإفتاء‏.‏

وكان المترجم لا يعتني بالتأليف إلا في بعض التحقيقات المهمة منهـا نزعـة العينيـن فـي زكـاة المعدنيـن ورفـع الأشكال بظهور العشر في العشر في غالب الأشكال والأقوال المعربة عن أحوال الأشربة وكشف اللثام عن وجوه مخدرات النصف الأول من ذوي الأرحام والوشي المجمل في النسب المحمل والقول الصائب في الحكم على الغائب وبلوغ الآمال في كيفية الاستقبال والجداول البهية برياض الخزرجية في علم العروض وإصلاح الأسفار عن وجـوه بعـض مخـدرات الدر المختار ومآخذ الضبط في اعتراض الشرط على الشرط والنسمات الفيحية على الرسالة الفتحية والعجالة على أعدل آلة وحقائـق الدقائـق علـى دقائـق الحقائـق وأخصر المختصرات على ربع المقنطرات والثمرات المجنية من أبواب الفتحية والمفصحة فيمـا يتعلـق بالأسطحـة والـدر الثميـن فـي علـم الموازيـن وحاشيـة على شرح قاضي يزادة على الجغميني لم تكمل وحاشية على الدر المختار لم تكمل ومناسك الحج وغير ذلك جواش وتقييدات على العصام والحفيد والمطول والمواقف والهداية في الحكمة والبرزنجي على قاضي زاده وأمثله وبراهين هندسية شتى‏.‏

وما له من الرسومات المخترعة والآلات النافعة المبتدعة ومنها الآلة المربعـة لمعرفـة الجهـات والسمـت والانحرافـات بأسهـل مأخـذ وأقـرب طريق والدائرة التاريخية وبركـار الدرجـة‏.‏

واتفـق أنه في سنة اثنتين وسبعين وقع الخلل في الموازين والقبابين وجهل أمر وضعهـا ورسمهـا وبعـد تحديدها وريحها ومشيلها واستخراج رمامينها وظهر فيها الخطأ واختلفت مقادير الموزونات وترتب على ذلك ضياع الحقوق وتلاف الأموال وفسد على الصناع تقليدهم الذي درجوا عليه فعند ذلك تحركت همة المترجم لتصحيح ذلك وأحضر الصناع لذلك من الحدادين والسباكين وحرر المثاقيل والصنج الكبار والصغار والقرسطونات ورسمهـا بطريـق الاستخـراج علـى أصـل العلـم العملـي والوضع الهندسي وصرف على ذلك أموالًا من عنده ابتغاء لوجه الله ثم أحضر كبار القبانية والوزانين مثـل الشيـخ علـي خليـل والسيـد منصـور والشيـخ علـي حسـن والشيـخ حسـن ربيـع وغيرهـم وبيـن لهـم ما هم عليه من الخطأ وعرفهم طريق الصواب في ذلك وأطلعهم على سر الوضع والصنعة ومكنونها وأحضروا العدد وأصلحوا منها مـا يمكـن إصلاحـه وأبطلـوا مـا تقـادم وضعـه وفسـدت لقمه ومراكزه وقديوا بصناعة ذلك الأسطى مراد الحداد ومحمد ابن عثمان حتى تحررت الموازين وانضبط أمرها وانصلح شأنها‏.‏

وسرت في الناس العدالة الشرعية المأمورين بإقامتها واستمر العمل في ذلك أشهرًا وهذا هو السبب الحامل له على تصنيف الكتاب المذكور وهذا هو ثمرة العلم ونتيجة المعرفة والحكمة المشار إليها بقوله تعالى‏:‏ يؤتي الحكمة من يشاء‏.‏

ولما وصل إلى مصر الشيخ إبراهيم بن أبي البركات العباسي البغدادي الشهير بابن السويدي في سنة 1175 وكان إمامًا فاضلًا فصيحًا مفوهًا ينظم الشعر بالإملاء ارتجالًا في أي قافية من أي بحر من غير تكلف فأنزلـه المترجـم وأكرمـه واغتبـط بـه وصار يتنقل صحبته مع الجماعة بمنازل بولاق والمنتزهات‏.‏

واتفق أنه تمرض أيامًا فأقام بمنزل بولاق المشرف على النيل فقيد به من يعوله ويخدمه ويعلل مزاجه فكان كلما اختلى بنفسه وهبت عليه النسمات الشمالية والنفحات البحرية أخذ القلم ببنانه ونقش على أخشابه وحيطانه فكتب نحو العشرين قصيدة على مواقف عديدة كلها مدائح فـي المذكـور والرياض والزهور والكوثر والسلسبيل وجريان النيل وتركت بحالها وذهبت كغيرها‏.‏

وفي سنة تسـع وسبعيـن توفـي ولـده أخـي لأبـي أبـو الفلـاح علـي وقـد بلـغ مـن العمر اثنتي عشرة سنة‏.‏

فحزن عليه وانقبض خاطره وانحرف مزاجه وتوالت عليه النوازل وأوجاع المفاصل وترك الذهاب إلى بولاق وغيرها ونقل العيال من هناك ولازم البيت الذي بالصنادقية واقتصـر عليـه وفتـر عـن الحركـة إلا فـي النـادر‏.‏

وصـار يملـي الـدروس بالمنـزل ويكتب على الفتاوى ويراجع المسائل الشرعية والقضايا الحكمية مع الديانة والتحري والمراجعة والاستنباط والقياس الصحيح ومراعاة الأصول والقواعد ومطارحات لتحقيقات والفوائد‏.‏

وتلقي الوافدين وإكرام الواردين وإطعام الطعام وتبليغ االقاصد المرام ومراعاة الأقارب والأجانب مع البشاشة وليـن الجانـب وسعـة الصـدر وحسـن الأخلاق مع الخلان والأصحاب والرفاق ويخدم بنفسه جلاسه ولا يمل معهم إيناسه ولا يبخل بالموجود ولا يتكلف المفقود ولا يتصنع في أحواله ولا يتمشدق في أقواله ويلاحظ السنة في أفعاله‏.‏

ومن أخلاقه أنه كان يجلس بآخر المجلس على أي هيئة كان بعمامة وبدونها ويلبس أي شيء كان ويتحزم ولو بكنار الجوخ أو قطعة خرقة أو شال كشميري أو محزم ولا ينام علـى فراش ممهد بل ينام كيفما اتفق وكان أكثر نومه وهو جالس وله مع الله جانب كبير كثير الذكر دائم المراقبة والفكر ينام أول الليل ويقوم آخره فيصلي ما تيسر من النوافل والوتر ثم يشتغـل بالذكر حتى يطلع الفجر فيصلي الصبح ويجلس كذلك إلى طلوع الشمس فيضطجع قليلًا أو ينام وهو جالس مستندًا وهذا دأبه على الدوام‏.‏

ويحاذر الرياء ما أمكن وكان يصوم رجب وشعبـان ورمضـان ولا يقـول إني صائم وربما ذهب بعض الأعيان أو دعي إلى وليمة فيأتون إليه بالقهوة والشربات فلا يرد ذلك بل يأخذها ويوهم الشرب وكذلك الأكل ويضايع ذلك بالمؤانسة والمباسطـة مـع صاحـب المكـان والجالسيـن‏.‏

وكـان مع مسايرته للناس وبشاشته ومخاطبته لهم على قدر عقولهم عظيمة الهيبة في نفوسهم وقورًا محتشمًا ذا جلال وجمال‏.‏

وسمعت مرة شيخنا سيدي محمودًا الكردي يقول‏:‏ أنا عندما كنت أراه داخلًا في دهليز الجامع يداخلني منه هيبة عظيمة وأدخل إلى رواقنا وأنظر إليه من داخل وأسأل المجاورين عنه فيقولون لي هذا الشيخ الجبرتي فأتعجب لما يداخلني من هيبته دون غيره من الأشياخ فلما تكرر علي ذلك أخبرت الأستاذ الحنفي فتبسم وقال لي نعم إنه صاحب أسرار‏.‏

وكان مربوع القامة ضخم الكراديس أبيـض اللـون عظيـم اللحيـة منـور الشيبة واسع العينين غزير شعر الحاجبين وجيه الطلعة يهابه كل مـن يـراه ويـود أنـه لا يصـرف نظـره عـن جميـل محيـاه‏.‏

ولـم يـزل علـى طريقته المفيدة وأفعاله الحميدة إلى أن آذنـت شمسـه بالـزوال وغربـت بعدما طلعت من مشرق الإقبال وتعلل اثني عشر يومًا بالهيضة الصفراوية فكان كلما تناول شيئًا قذفته معدته عندما يريد الاضطجاع إلى أن اقتصر على المشروبـات فقـط وهـو مع ذلك لا يصلي إلا من قيام‏.‏

ولم يغب عن حواسه وكان ذكره في هذه المـدة يقـرأ الصمديـة مـرة ثـم يصلـي على النبي صلى الله عليه وسلم بالصيغة السنوسية كذلك ثم الاسم العشرين من الأسماء الإدريسية وهو‏:‏ يا رحيـم كـل صريـخ ومكـروب وغياثـه ومعـاذه هكـذا كان دأبه ليلًا نهارًا حتى توفي يوم الثلاثاء قبيل الزوال غرة شهر صفر من السنة وجهز في صبحة يوم الأربعاء وصلي عليه بالأزهر بمشهد حافل جدًا ودفن عند أسلافه بتربة الصحراء بجوار الشمس البابلي والخطيب الشربيني ومات وله من العمر سبع وسبعون سنة‏.‏ ومات

الإمام العلامة الفقيه المعمر الشيخ أحمد بن محمد الحماقي الحنفي

كان أبوه مـن كبـار علماء الشافعية فتحنف هذا بأذن الإمام الشافعي والشيخ أحمد البنوفري والشيخ سليمـان المنصوري وغيرهم وتصدر رضي الله عنه لرؤيا رآها وكان يخبر بها من لفظه وتلقى عن أئمة عصره كالشيخ أحمد الدقدوسي والشيخ علي العقدي ومحمد عبد العزيز الزيادي والشيخ أحمد البنوفري والشيخ سليمان المنصوري وغيرهم وتصدر للإقراء والتدريس بالجامع الأزهر مـدة سنيـن ثـم تولـى مشيخـة إفتـاء الحنفيـة بعد موت الشيخ حسن المقدسي‏.‏

وكان إنسانًا حسنًا دمـث الأخلـاق حسـن العشـرة صافـي الطوية عارفًا بفروع المذهب لين الجانب لا يتحاشى الجلوس فـي الأسـواق والقهـاوي وكـان إخوانـه مـن أهـل العلـم ينقمـون عليـه في ذلك فلا يبالي باعتراضهم ولم يزل حتى توفي في سحر ليلة الجمعة خامس عشرى صفر من السنة رحمه الله‏.‏

ومـات الإمـام الفقيه العلامة المحدث الفرضي الأصولي الورع الزاهد الصالح الشيخ أحمد بن محمد بن محمد بن شاهين الراشدي الشافعي الأزهري ولد بالراشدية قرية بالغربية سنة 1118 وبها نشأ وحفظ القرآن وجوده وقدم الأزهر فتفقه على الشيخ مصطفى العزيزي والشيخ مصطفى العشماوي وأخذ الحساب والفرائض عن الشيخ محمد الغمري وسمع الكتب الستة على الشيخ عيـد النمرسـي بطرفيهـا وبعضهـا علـى الشيخ عبد الوهاب الطندتاوي وسيدي محمد الصغير وله شيوخ كثيرون‏.‏

ورافق الشيخ الوالد وعاشره مدة طويلة وتلقى عنه وهو أحد أصحابه من الطبقة الأولى ولم يزل محافظًا على وده وتردده ومؤانسته ويتذكر الأزمان السالفة والأيام الماضية ولـه شيـوخ كثيـرون‏.‏

وكـان مـن جملـة محفوظاتـه البهجـة الوردية وقد انفرد في عصره بذلك واعتني بالكتب الستة كتابة ومقابلة وتصحيحًا وكان حسن التلاوة للقرآن حلو الأداء مع معرفته بأصول الموسيقـى ولذلـك ناطـت بـه رغبـة الأمـراء فصلـى إمامـًا بالأمير محمد بك ابن اسمعيل بك مع كمال العفة والوقار والانجماع عن الناس حتى أن كثيرًا منهم يود أن يسمع منه خربًا من القرآن فلا يمكنه ذلك ثم أقلع عن ذلك وأقبل على إفادة الناس فقرأ المنهج مرارًا وابن حجر على المنهاج مرارًا وكان يتقنه ويحل مشكلاته بكمال التؤدة والسكينة فاستمر مدة يقرأ دروسه بمدرسة السنانيـة قـرب الأزهـر ثـم انتقـل إلـى زاويـة قـرب المشهـد الحسيني وكان تقرير مثل سلاسل الذهب فـي حسـن السبـك وقـد انتفـع به كثير من الأعلام ولما بنى المرحوم محمد بك أو الذهب المدرسة تجـاه الجامـع الأزهر في هذه السنة راوده أن يكون خطيبًا بها فامتنع فألح عليه وأرسل له صرة فيها دنانير لها صورة فأبى أن يقبل ذلك ورده فألح عليه فلما أكثر عليه خطب بها أول جمعة وألبسه فروة سمور وأعطاه صرة فيها دنانير فقبلها كرهًا ورجع إلى منزله محمومًا يقال فيما بلغنـي أنـه طلـب مـن اللـه أن لا يخطـب بعـد ذلـك فانقطـع في منزله مريضًا إلى أن توفي ليلة الثلاثاء ثاني شوال من السنة وجهز ثاني يوم وصلى عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بالقرافة الصغرى تجاه قبة أبي جعفر الطمحاوي ولم يخلف بعده في جمع الفضائل مثله‏.‏

وكان صفته نحيف البدن منور الوجه والشيبة ناتئ الجبهة ولا يلبس زي الفقهاء ولا العمامة الكبيرة بل يلبس قاووقـًا لطيفـًا فتلـي ويركـب بغلـة وعليهـا سلـخ شـاة أزرق‏.‏

وأخـذ كتبـه الأميـر محمد بك ووقفها في كتبخانته التي جعلها بمدرسته وكان لها جرم وكلها صحيحة مخدومة وسرق غالبها‏.‏

ومات الشيخ الصالح سعد بن محمد بن عبد الله الشنواني حصل في مباديه شيئًا كثيرًا من العلوم ومال إلى فن الأدب فمهر فيه وتنزل قاضيًا في محكمة باب الشعرية بمصر وكان إنسانًا حسنًا بينه وبين الفضلاء مخاطبات ومحاورات وشعره حسن مقبول وله قصائد ومدائح فـي الأوليـاء وغيرهـم أحسن فيها ولم أعثر على شيء منها وجدد له شيخنا السيد مرتضى نسبة إلـى الشيـخ شهـاب الديـن العراقـي دفيـن شنـوان‏.‏

توفـي يـوم السبـت خامس جمادى الثانية من السنة وقد جاوز السبعين رحمه الله‏.‏

ومـات العلامـة الفقيه الصالح الدين الشيخ علي بن حسن المالكي الأزهري قرأ على الشيخ علي العـدوي وبـه تخـرج وحضر غيره من الأشياخ ومهر في الفقه والمعقول وألقى دروسًا بالأزهر ونفع الطلبـة وكان ملازمًا على قراءة الكتب النافعة للمبتدئين مثل أبي الحسن وابن تركي والعشماوية في الفقه وفي النحو الشيخ خالد والأزهرية والشذور وحلقة درسه عظيمة جدًا وكان لسانه أبدًا متحركًا بذكرى الله‏.‏

توفي ليلة الخميس منتصف ربيع الأول من السنة ودفن بالمجاورين‏.‏

ومـات الشيـخ الإمـام المحـدث البـارع الزاهـد الصوفـي محمـد بـن أحمـد ابـن سالـم أبـو عبد الله السفريتي النابلسـي الحنبلبـي ولـد كما وجد بخطه سنة 1114 تقريبًا بسفارين وقرأ القرآن في سنة إحدى وثلاثيـن فـي نابلـس واشتغـل بالعلم قليلًا وارتحل إلى دمشق سنة ثلاث وثلاثين ومكث بها قدر خمـس سنوات فقرأ بها على الشيخ عبد القادر التغلبي دليل الطالب للشيخ مرعي الحنبلي من أولـه إلـى آخـر قراءة تحقيق والإقناع للشيخ موسى الحجازة وحضره في الجامع الصغير للسيوطي بيـن العشائيـن وغيـره مما كان يقرأ عليه في سائر أنواع العلوم وذاكره في عدة مباحث من شرحه على الدليل فمنها ما رجع عنها ومنها ما لم يرجع لوجود الأصول التي نقل منها وكان يكرمه ويقدمـه علـى غيـره وأجـازه بمـا فـي ضمـن ثبتـه الـذي خرجه له الشيخ محمد بن عبد الرحمن الغزى في سنة خمس وثلاثين وعلى الشيخ عبد الغني النابلسي الأربعين النووية وثلاثيات البخاري والإمـام أحمـد وحضـر دروسـه فـي تفسيـر القاضـي وتفسيـره الذي صنفه في علم التصوف وأجازه عمومًا بسائر ما يجوز له وبمصنفاته كلها وكتب له إجازة مطولة وذكر فيها مصنفاته وعلـى الشيخ عبد الرحمن المجلد ثلاثيات البخاري وحضر دروسه العامة وأجازه وعلى الشيخ عبد السلـام ابن محمد الكاملي بعض كتب الحديث وشيئًا من رسائل أخوان الصفا وعلى ملا الياس الكوراتي كتب المعقول وعلى الشيخ اسمعيل بن محمد العجلوني الصحيح بطرفيه مع مراجعة شروحه الموجودة في كل رجب وشعبان ورمضان من كل سنة مدة إقامته بدمشق وثلاثيات البخاري وبعض ثلاثيات أحمد وشيئًا من الجامع الصغير مع مراجعة شرحه للمناوي والعلقمي وشيئًا من الجامع الكبير وبعضًا من كتاب الإحياء مع مراجعة تخريج أحاديثه للزيـن العراقـي والأندلسية في العروض مع مطالعة بعض شروحها وبعضًا من شرح شذور الذهب وشرح رسالة الوضع مع حاشيته التي ألفها وحاشية ملا الياس وأجـازه بكـل ذلـك وبمـا يجـوز لـه روايتـه وعلـى الشيـخ أحمـد بـن علـي المنيني شرح جمع الجوامع للمحلى وشرح الكافية لملا جامي وشـرح القطـر للفاكهـي وحضـر دروسـه للصحيـح وشرحـه علـى منظومـة الخصائـص الصغرى للسيوطي وقد أجازه بكل ذلك إجازة مطولة كتبها بخطه وعلى الشيخ محمد بن عبد الرحمن الغزي بعضًا من شرح ألفية لعراقي لزكريا وأول سنن أبي داود وعلى قريبه الشيخ أحمد الغزي غالب الصحيح بالجامع الأموي بحضرة جملة من كبار شيوخ المذاهب الأربعة وعلى الشيـخ مصطفـى بـن سـوار أول صحيـح مسلـم وعلـى حامـد أفنـدي مفتـي الشـام المسلسـل بالأوليـة وثلاثيات البخاري وبعض ثلاثيات أحمد وحج سنة ثمان وأربعين فسمع بالمدينة على الشيخ محمد حياة المسلسل بالأولية وأوائل الكتب الستة وتفقه على شيخ المذهب مصطفى بن عبد الحـق اللبـدي وطـه بن أحمد اللبدي ومصطفى بن يوسف الكرمي وعبد الرحيم الكرمي والشيخ المعمـر السيـد هاشـم الحنبلي والشيخ محمد السلقيني وغيرهم ومن شيوخه الشيخ محمد الخليلي سمـع عليـه أشيـاء والشيـخ عبـد اللـه البصـروي سمـع عليـه ثلاثيـات أحمـد مع المقابلة بالأصل المصحح والشيـخ محمد الدقاق أدركه بالمدينة وقرأ عليه أشياء واجتمع بالسيد مصطفى البكري فلازمه وقرأ عليه مصنفاته وأجازه بما له وكتب له بذلك وله شيوخ أخر غير من ذكرت وله مؤلفات منهـا شـرح عمـدة الأحكـام للحافـظ عبـد الغنـي فـي مجلدين وشرح ثلاثيات أحمد في مجلد ضخم وشـرح نونيـة الصرصـري الحنبلـي سمـاه معـارج الأنـوار فـي سيـرة النبي المختار وبحر الوفا في سيرة النبي المصطفى وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب والبحور الزاخرة في علوم الآخـرة وشـرح الـدرة المضيـة فـي اعتقـاد الفرقـة الأثريـة ولوائـح الأنـوار السنيـة فـي شرح منظومة أبي بكر بن أبي داود الحائية وكان المترجم شيخًا ذا شيبة منورة مهيبًا جميل الشكل ناصرًا للسنة قامعًا للبدعـة قـوالًا بالحـق مقبـلًا علـى شأنـه مداومـًا على قيام الليل في المسجد ملازمًا على نشر علوم الحديث محبًا في أهلـه ولا زال يملـي ويفيـد ويجيـز مـن سنـة ثمـان وأربعيـن إلـى أن توفـي يـوم الاثنيـن ثامـن شوال من هذه السنة بنابلس وجهز وصلي عليه بالجامع الكبير ودفن بالمقبرة الزاركنية وكثر ومات العمدة المبجل الفاضل الشيخ أحمد بن محمد بن عبد السلام الشرفي المغـرب الأصـل المصري المولد وكان والده شيخًا على رواق المغاربة بالجامع الأزهر ومن شيوخ الشيخ أحمد الدمنهوري وولده هذا كان له معرفة بعلم الميقات ومشاركة حسنة وفيه صداقة ود وحسن عشرة مع الإخوان ومكارم أخلاق ويدعو الناس والعلماء في المولد النبوي إلى بيته بالأزبكية ويقدم لهم الموائد والحلوى وشراب السكر وكان لديه فوائد وآثر حسنة توفي سابع عشر ربيع الأول من السنة وقد جاوز السبعين رحمه الله‏.‏

ومـات العمـدة الفاضـل الشيـخ زيـن الديـن قاسـم العبـادي الحنفـي تفقه على الشيخ سلمان المنصـوري والشيـخ أحمـد بـن عمـر الاسقاطـي إلـى أن صـار يقـرأ درسـًا فـي المذهـب ولم يزل ملازمًا شأنه حتى توفي ثالث عشر الحجة من السنة وقد ناهز الثمانين رحمه الله‏.‏

ومات العمدة المعمر الشيخ عبد الله الموقت بجامع قوصون وكان يعرف بالطويل وكان إنسانًا صالحًا ناسكًا ورعًا توفي فجأة في الحمام ثاني عشر الحجة عن سبع وثمانين سنة‏.‏

ومات العمدة الفاضل الأديب الماهر الشيخ علي بن أحمد بن عبد الرحمن ابن محمد بن عامر العطشي الفيومي الشافعي وهو أخو الشيخ أحمد العطشي وكان له مذاكرة حسنـة وحضـر على الشيخ الحنفي وغيره وكان نعم الرجل توفي في جمادى الآخرة‏.‏

ومات السيد الشريف المعمر محمد بن حسن بن محمد الحسني الوفائي باش جاويش السادة الأشراف أخـذ عـن الشيـخ المعمـر يوسـف الطولونـي وكـان يحكـي عنـه حكايـات مستحسنـة وغرائـب وكـان متقيـدًا بالسيـد محمـد أبـي هـادي الوفائـي فـي أيـام نقابتـه على الأشراف ولديه فضيلة وفوائد توفي هذه السنة عن نحو ثمانين سنة‏.‏

ومات الشيخ الصالح سليمان بن داود بن سليمان بن أحمد الخربتاوي وكان من أهل المروءة والدين توفي ثامن عشرى المحرم من السنة في عشر الثمانين‏.‏

ومات الجناب المكرم الأمير أحمد أغا البارودي وهو مـن مماليـك إبراهيـم كتخـدا القازدغلـي وتـزوج بابنتـه التـي مـن بنـت البـارودي وسكـن معها في بيتهم المشهور خارج باب سعادة والخرق وولد له منها أولاد ذكور وإناث ومنهم صاحبنا إبراهيم جلبي وعلي ومصطفى وهو أستاذ محمـد أغـا الآتـي ذكـره‏.‏

تقلـد المترجـم فـي أيـام علـي بـك مناصـب جليلـة مثـل أغاوية المتفرقة وكتخدا الجاويشية وكان إنسانًا حسنًا صافي الباطن لا يميل ضبعه لسوى عمل الخير ويحب أهل العلم وممارستهـم وكـان لـه ميـل عظيـم واعتقـاد حسـن فـي المرحـوم الشيخ الوالد ويزوره في كل جمعةة مع غاية الأدب والامتثال ومما شاهدته من كمال أدبه وشدة اعتقاه وحبه أنه صادفه مرة بالطريق وهو إذ ذاك كتخدا الجاويشية وهو راكب في أبهته وأتباعه والشيخ راكب على بغلته فعندما رآه ترجل ونزل عن جواده وقبل يده فأنكر عليه فعله واستعظمه واستحى منه والتمس منه أن يقيد به بعض الكلبة ليقرئه شيئًا من الفقه والدين فقيد به الشيخ عبد الرحمن العريشي فكان يذهب إليه ويطالع له القدوري وغيره وكان يكرمه ويواسيه ولم يزل على حسن حالته حتى توفي في سابـع جمـادى الأولـى مـن السنـة وكـان لـه فـي منزلـه خلـوة ينفـرد فيهـا بنفسـه ويخلـع ثيـاب الأبهـة ويلبس كساء صوف أحمر على بدنه ويأخذ سبحة كبيرة يذكر ربه عليها‏.‏

ومات الأمير الصالح خليل أغا مملوك الأمير عثمان بك الكبير تابع ذي الفقار وهو أستاذ الأمير علـي خليل توفي ببلد له بالفيوم وجيء به ميتًا في عشية نهار السبت حادي عشرين جمادى الثانية من السنة فغسل وكفن ودفن بالقرافة وكان إنسانًا دينًا خيرًا محبًا للعلماء والصلحاء‏.‏

ومات الأمير اسمعيل أفندي تابع المرحوم الشريف محمد أغا كاتب البيورلدي وكان إنسانًا خيرًا صالحًا توفي يوم الأحد ثاني عشرين جمادى الثانية‏.‏

ومات السيد المعمر الشريف عبد اللطيف أفندي نقيب الأشراف بالقـدس وابـن نقبائهـا عـن تسعين سنة تقريبًا وولى بعده أكبر أولاده السيد عبد الله أفندي رحمه الله‏.‏

ومات الأمير المبجل محمد أفندي جاوجان ميسو وكان حافظ لكتاب الله موفقًا وفيه فضيلة وفصاحة ويحب العلماء والأشراف ويحسن إليهم‏.‏

توفي ليلة الاثنين عشرين ربيع الأول وصلى ومات الأمير مصطفى بك الصيداوي تابع الأمير علي بك القازدغلي‏.‏

وكان سبب موته أنه خـرج إلـى الخـلاء جهـة قصـر العينـي وركـض جـواده فسقـط عنـه ومـات لوقتـه وحمـل إلـى منزله بدرب الحجر وجهز وكفن ودفن بالقرافة وذلك في منتصف ربيع الأول من السنة‏.‏

ومات الأمير علي أغا أبو قوره من جماعة الوكيل سادس عشر ربيع الأول سنة تاريخه‏.‏

ومات الأمير محمد أفندي الزاملي كاتب قلم الغربيـة وكـان صاحـب بشاشـة وتـودد وحسـن أخلـاق‏.‏

توفـي رابـع عشريـن صفـر مـن السنـة وخلـف ولـده حسـن أفنـدي قلفـة الغربيـة الآتـي ذكره في سنة 1202‏.‏

ومات الخواجا المكرم الحاج محمد عرفات الغزاوي التاجر وهو والد عبد الله ومصطفى‏.‏

توفي يوم الثلاثاء ثامن صفر من السنة والله تعالى أعلى‏.‏

سنة تسع وثمانين ومائة وألف فيها عزم محمد بك أبو الذهب على السفر والتوجه إلى البلاد الشامية بقصد محاربة الظاهر عمر واستخلاص ما بيده من البلاد فبرز حاميه إلى العادلية وفـرق الأمـوال والتراحيـل علـى الأمراء والعساكر والمماليك واستعد لذلك استعدادًا عظيمًا في البحر والبـر وأنـزل بالمراكـب الذخيـرة والجبخانـة والمدافع والقنابل والمدفع الكبير المسمى بأبو مايلة الذي كان سبكه في العام الماضـي‏.‏

وسافـر بجموعـه وعساكـره في أوائل المحرم وأخذ صحبته مراد بك وإبراهيم بك طنان واسمعيـل بـك تابـع اسمعيـل بـك الكبيـر لا غيـر وتـرك بمصـر إبراهيـم بـك وجعلـه عوضـًا عنـه فـي إمارة مصـر واسمعيـل بـك وباقـي الأمراء والباشا بالقلعة وهو مصطفى باشا النابلسي وأرباب العكاكيز والخـدم والوجاقليـة‏.‏

ولـم يـزل فـي سيـره حتـى وصـل إلـى جهـة غزة وارتجت البلاد لوروده ولم يقف أحد في وجهه وتحصن أهل يافا بها وكذلك الظاهر عمر تحصن بعكا فلما وصل إلى يافا حاصرها وضيق على أهلها وامتنعوا عم أيضًا عليه وحاربوه من داخل وحاربهم من خارج ورمى عليهم بالمدافع والمكاحل والقنابر عدة أيام وليالي فكانوا يصعـدون إلـى أعلـى السـور ويسبون المصريين وأميرهم سبًا قبيحًا‏.‏

فلم يزالوا بالحرب عليها حتى نقبوا أسوارها وهجموا عليها من كل ناحية وملكوها عنوة ونهبوها وقبضوا على أهلها وربطوهم في الحبال والجنازير وسبـوا النسـاء والصبيـان وقتلـوا منهـم مقتلة عظيمة‏.‏

ثم جمعوا الأسرى خارج البلد ودوروا فيهم السيـف وقتلوهـم عـن آخرهـم ولـم يميـزوا بيـن الشريـف والنصرانـي واليهـودي والعالم والجاهل والعامي والسوقي ولا بين الظالم والمظلوم وربما عوقب من لا جنى وبنوا من رؤوس القتلى عدة صوامع ووجوههـا بـارزة تنسـف عليهـا الأتربـة والرياح والزوابع ثم ارتحل عنها طالبًا عكا فلما بلغ الظاهر عمر ما وقع بيافا اشتد خوفه وخرج من عكا هاربًا وتركها وحصونها فوصل إليها محمد بك ودخلها من غير مانع وأذعنت له باقي البلاد ودخلوا تحت طاعته وخافـوا سطوتـه وداخـل محمـد بـك مـن الغـرور والفرح ما لا مزيد عليه وما آل به إلى الموت والهلاك‏.‏

وأرسل بالبشائر إلى مصر والأمراء بالزينة فنودي بذلك وزينت مصر وبولاق القاهرة وخارجها زينة عظيمة وعمل بها وقدات وشنكات وحراقات وأفراح ثلاثة أيام بلياليها وذلك في أوائل ربيع الثاني‏.‏

فعند انقضاء ذلك ورد الخبر بموت محمد بك واستمر في كل يوم يفشو الخبر وينمو ويزيد ويتناقل ويتأكـد حتـى وردت السعـاة بتصحيـح ذلـك وشـاع فـي النـاس وصـاروا يتعجبون ويتلون قوله تعالى‏:‏ حتـى إذا فرحـوا بمـا أوتـوا أخذناهـم بغتـة فـإذا هم مبلسون‏.‏

وذلك أنه لما تم له الأمر وملك البلاد المصريـة والشاميـة وأذعـن الجميـع لطاعتـه وقـد كان أرسل اسمعيل أغا أخا علي بيك الغزاوي إلى إسلامبول يطلب أمرية مصر والشام وأرسل صحبته أموالًا وهدايا فأجيب إلى ذلك وأعطوه التقاليد والخلع والبرق والداقم وأرسل له المراسلات والبشائر بتمام الأمر فوافاه ذلك يوم دخوله عكا فامتلأ فرحًا وحم بدنه في الحال فأقام محمومًا ثلاثة أيام ومات ليلة الرابع ثامن ربيع الثاني‏.‏

ووافى خبر موته اسمعيل أغا عندما تهيأ نزل في المراكب يريد المسير إلى مخدومه فانتقض الأمر وردت التقاليد وباقي الأشياء‏.‏

ولما تم له أمر يافا وعكا وباقي البلاد والثغور فـرح الأمـراء والأجنـاد الذيـن بصحبته برجوعهم إلى مصر وصاروا متشوقين للرحيل والرجوع إلى الأوطـان‏.‏

فاجتمعـوا إليـه فـي اليوم الذي نزل به ما نزل في ليته فتبين لهم من كلامه عدم العود وأنـه يريد تقليدهم المناصب والأحكام بالديار الشامية وبلاد السواحل وأمرهم بإرسال المكاتبـات إلـى بيوتهم وعيالهم بالبشارات بما فتح الله عليهم وما سيفتح لهم ويطمنوهم ويطلبوا احتياجاتهم ولوازمهم المحتاجين إليها من مصر‏.‏

فعند ذلك اغتموا وعلموا أنهم لا براح لهم وإن أملـه غيـر هـذا وذهـب كل إلى مخيمة يفكر في أمره قال الناقل‏:‏ وأقمنا على ذلك الثلاة أيام التي تمرض فيها وأكثرنا لا يعلم بمرضه ولا يدخل إليه إلا بعض خواصه ولا يذكرون ذلك إلا بقولهم في اليـوم الثالـث أنـه منحـرف المـزاج‏.‏

فلمـا كـان فـي صبـح الليلـة التـي مـات بهـا نظرنـا إلـى صيوانـه وقـد انهدم ركنه وأولاد الخزنة في حركة ثم زاد الحال وجردوا على بعضهم السلاح بسبب المـال وظهر أمر موته وارتبك العرضي وحضر مراد بيك فصدهم وكفهم عن بعضهم وجمع كبراءهم وتشاوروا في أمرهم وأرضى خواطرهم خوفًا من وقوع الفشل فيهم وتشتتهم في بلاد الغربة وطمـع الشامييـن وشماتتهم فيهم‏.‏

واتفق رأيهم على الرحيل وأخذوا رمة سيدهم صحبتهم ولما تحقـق عندهـم أنهم إن دفنوه هناك في بعض المواضع أخرجه أهل البلاد ونبشوه وأحرقوه فغسلوه وكفنوه ولفوه في المشمعات ووضعوه في عربة وارتحلوا به طالبين الديار المصرية‏.‏

فوصلوا في ستة عشر يومًا ليلة الرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني أواخر النهار فأرادوا دفنه بالقرافة‏.‏

وحضر الشيخ الصعيدي فأشار بدفنه في مدرسته تجاه الأزهر فحفروا له قبرًا في الليوان الصغير الشرقي وبنوه ليلًا ولما أصبح النهار عملوا له مشهدًا وخرجوا بجنازته من بيته الذي بقوصون ومشـى أمامـه المشايـخ والعلمـاء والأمـراء وجميـع الأحـزاب والـأوراد وأطفـال المكاتـب وأمام نعشه مجامر العنبر والعود سترًا على رائحته ونتنه حتى وصلوا به إلى مدفنه وعملوا عنده ختمات وقراءات وصدقـات عـدة ليـال وأيـام نحـو أربعيـن يومـًا‏.‏

واستقـرأ تباعـه أمـراء ورئيسهم إبراهيم بيك ومراد بيك وباقيهم الذين أمرهم في حياته ومات عنهم يوسف بيك وأحمد بيك الكلارجي ومصطفى بيك الكبير وأيوب بيك الكبير وذو الفقار بيك ومحمد بيك طبـال ورضـوان بيـك والذين تأمروا بعده أيوب بك الدفتردار وسليمان بيك الأغا وإبراهيم بيك الوالـي وأيـوب بيـك الصغيـر وقاسـم بيـك الموسقـو وعثمـان بيـك الشرقـاوي ومـراد بيـك الصغيـر وسليم بيك أبو دياب ولاجين بيك وسيأتي ذكر أخبارهم‏.‏

من مات في هذه السنة من الأعيان مات الإمام الهمام شيخ مشايخ الإسلام عالم العلماء الأعلام إمام المحققين وعمدة المدققين الشيخ علـي بـن أحمـد بـن مكـرم اللـه الصعيـدي العـدوي المالكـي ولـد ببني عدى كما أخبر عن نفسه سنة 112 ويقال له أيضًا المنفيسي لأن أصوله منها وقدم إلى مصر وحضر دروس المشايخ كالشيخ عبد الوهاب الملوى والشيخ شلبي البرلسي والشيخ سالم النفراوي والشيخ عبد الله المغربي والسيد محمد السلموني ثلاثتهم عن الخرشي وأقرانه وكسيدي محمد الصغير والشيخ إبراهيم الفيومي ومحمـد بن زكريا والشيخ محمد السجبيني والشيخ إبراهيم شعيب المالكي والشيخ أحمد الملوى والشيـخ أحمـد الديربـي والشيخ عيد النمرسي والشيخ مصطفى العزيزي والشيخ محمد العشماوي والشيخ محمد ابن يوسف والشيخ أحمد الأسقاطي والبقرى والعماوي والسيد علي السيواسي والمدابغي والدفري والبليدي والحفني وآخرين وبآخرة تلقن الطريقة الأحمدية عن الشيخ علي بن محمد الشناوي ودرس بالأزهر وغيره‏.‏

وقد بارك الله في أصحابه طبقة بعد طبقة كما هو مشاهد وكان يحكي عن نفسه أنه طالما كان يبيت بالجوع في مبدأ اشتغاله بالعلم وكان لا يقدر على ثمن الورق ومع ذلك إن وجد شيئًا تصدق به‏.‏

وقد تكررت له بشارات حسنة منامـًا ويقظـة ولـه مؤلفـات دالـة علـى فضلـه منهـا حاشيـة على ابن تركي وأخرى على الزرقاني على العزية وأخرى على شرح أبي الحسن على الرسالة في مجلدين ضخمين وأخرى على الخرشي وأخرى على شرح الزرقاني على المختصر وأخرى على الهدهدي على الصغرى وحاشيتان علـى عبـد السلـام على الجوهرة كبرى وصغرى وأخرى على الأخضري على السلم وأخرى على بن عبد الحق على بسملة شيخ الإسلام وأخرى على شرح شيخ الإسلام على الفية المصطلح للعراقي وغير ذلك‏.‏

وكان قبل ظهوره لم تكن المالكية تعرف الحواشي على شروح كتبهم الفقهية فهو أول من خدم تلك الكتب بها وله شرح على خطبة كتاب إمداد الفتاح على نور الإيضـاح فـي مذهـب الحنفيـة للشيـخ السرنبلالـي وكان رحمه الله شديد الشكيمة في الدين يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وإقامة الشريعة ويحب الاجتهاد في طلب العلم ويكره سفاسف الأمور وينهـى عـن شـرب الدخـان ويمنـع مـن شربـه بحضرتـه وبحضـرة أهـل العلـم تعظيمًا لهم‏.‏

وإذا دخل إلى منزل من منازل الأمراء ورأى من يشرب الدخان شنع عليه وكسر آلته ولو كانت في يد كبير الأمراء‏.‏

وشاع عنه ذلك وعرف في جمع الخاص والعام وتركوه بحضرته فكانوا عندما يرونه مقبـلًا مـن بعيـد نبه بعضهم بعضًا ورفعوا شبكاتهم وأقصابهم وأخفوها عنه وإن رأى شيئًا منها أنكـر عليهـم ووبخهـم وعنفهم وزجرهم حتى أن علي بك في أيام إمارته كان إذا دخل عليه في حاجة أو شفاعة أخبروه قبل وصوله إلى مجلسه فيرفع الشبك من يده ويخفوه من وجهه وذلك مع عتوه وتجبره وتكبره‏.‏

واتفق أنه دخل عليه في بعض الأوقات فتلقاه على عادته وقبل يده وجلـس فسكت الأمير مفكرًا في أمر من الأمور فظن الشيخ إعراضه عنه فأخذته الحدة وقال يـا ميـن يا مين يا من هو غضبك ورضاك على حد سواء بل غضبك خير من رضاك‏.‏

وكرر ذلك وقام قائمًا وهو يأخذ بخاطره ويقول‏:‏ أنا لم أغضب من شيء ويستعطفه‏.‏

فلم يجبه ولم يجلـس ثانيـًا وخـرج ذاهبـًا‏.‏

ثـم سـأل علـي بـك عـن القضيـة التـي أتـى بسببهـا فأخبـروه فأمر بقضائها‏.‏

واستمر الشيخ منقطعًا عن الدخول إليه مدة حتى ركب في ليلة من ليالي رمضان مع الشيخ الوالـد فـي حاجة عند بعض الأمراء ومرا ببيت علي بك فقال له ادخل بنا نسلم عليه فقال يا شيخنـا أنـا لا أدخـل فقـال لا بـد مـن دخولك معي‏.‏

فلم تسعه مخالفته وانسر بذلك علي بك تلك الليلـة سـرورًا كثيـرًا‏.‏

ولمـا مـات علـي بـك واستقل محمد بك أبو الذهب بإمارة مصر كان يجل من شأنـه ويحبـه ولا يـرد شفاعتـه فـي شـيء أبـدًا وكل من تعسر عليه قضاء حاجة ذهب إلى الشيخ وأنهى إليه قصته فيكتبها مع غيرهـا فـي قائمـة حتـى تمتلـئ الورقـة ثـم يذهـب إلـى الأميـر بعـد يوميـن أو ثلاثة فعند ما يستقر في الجلوس يخرج القائمة من جيبه ويقص ما فيها من القصص والدعاوى واحدة بعد واحدة ويأمره بقضاء كل منها والأمير لا يخالفه ولا ينقبض خاطره في شيء من ذلـك‏.‏

ولمـا بنـى الأميـر المذكـور مدرستـه كـان المترجـم هـو المتعيـن فـي التدريـس بهـا داخـل القبـة على الكرسـي وابتـدأ بهـا البخـاري وحضـره كبار المدرسين فيها وغيرهم ولم يترك درسه بالأزهر ولا بالبرديكيـة‏.‏

وكـان يقـرأ قبـل ذلـك بمسجـد الغريـب عنـد بـاب البرقيـة فـي وظيفـة جعلهـا لـه الأمير عبد الرحمن كتخدا وكذلك وظيفة بعد الجمعة بجامع مرزه ببولاق‏.‏

وكان على قدم السلف في الاشتغال والقناعة وشرف النفس وعدم التصنع والتقـوى ولا يركـب إلا الحمـار ويؤاسـي أهلـه وأقاربه ويرسل إلى فقرائهم ببلده الصلات والأكسية والبز والطرح للناس والعصائب والمداسات وغير ذلك‏.‏

ولم يـزل مواظبـًا علـى الإقـراء والإفـادة حتـى تمـرض بخـراج فـي ظهـره أيامـًا قليلـة وتوفـي فـي عاشر رجب من السنة وصلي عليه بالأزهر بمشهد عظيم ودفن بالبستان بالقرافة الكبرى رحمه الله ولم يخلف بعده مثله ولم أعثر على شيء من مراثيه‏.‏

ومـات الإمـام العلامـة الفقيـه الصالـح الشيـخ أحمـد بـن عيسى بن أحمد ابن عيسى بن محمد الزبيري البراوي الشافعي ولد بمصر وبها نشأ وحفظ القرآن والمتون وتفقه على والده وغيره وحضر المعقـول وتمهـر وأنجـب ودرس فـي حيـاة والده وبعد وفاته تصدر للتدريس في محله وحضره طلبة أبيه واتسعت حلقة درسه مثل أبيه واشتهر ذكره وانتظم في عداد العلماء‏.‏

وكان نعم الرجل شهامـة وصرامـة وفيـه صداقـة وحـب للإخـوان‏.‏

توفي بطندتا ليلة الأربعاء ثالث شهر ربيع الأول فجـأة إذ كـان ذهـب للزيـارة المعتـادة وجـيء بـه إلـى مصـر فغسـل في بيته وكفن وصلي عليه بالجامع الأزهر ودفن بتربة والده بالمجاورين‏.‏

ومات الإمام الفاضل المسن الشيخ أحمد بن رجب بن محمد البقري الشافعـي المقـري حضـر دروس كل من الشيخ المدابغي والحفني ولازم الأول كثيرًا فمسمع منه البخاري بطرفيه والسيرة الشامية كلها وكتب بخطه الكثير من الكتب الكبار وكان سريع الفهم وافر العلم كثير التلاوة للقرآن مواظبًا على قيام الليل سفرًا وحضرًا ويحفظ أورادًا كثيرة وأحزابًا ويجيز بها وكان يحفظ غالـب السيـرة ويسردهـا مـن حفظـه ونعـم الرجـل كـان متانـة ومهابـة‏.‏

توفـي وهو متوجه إلى الحج في منزلة النخل آخر يوم من شوال من السنة ودفن هناك‏.‏

ومات عالم المدينة ورئيسها الشيخ محمد بن عبد الكريم السمان ولد بالمدينة ونشأ في حجر والده واشتغل يسيرًا بالعلم وأرسله والده إلى مصر في سنة 1174 فتلقته تلامذة أبيه بالإكرام وعقـد حلقـة الذكـر بالمشهد الحسيني وأقبلت علي الناس ثم توجه إلى المدينة‏.‏

ولما توفي والده أقيم شيخًا في محله ولم يزل على طريقته حتى مات في رابع الحجة من السنة عن ثمانين سنة‏.‏ ومات

العلامة المعمر الصالح الشيخ أحمد الخليلي الشامي

أحد المدرسين بالأزهر تلقى عن أشياخ عصره ودرس وأفاد وكان به انتفاع للطلبة تام عام وألف أعراب الآجروميـة وغيـره‏.‏

توفي في عاشر صفر من السنة‏.‏

ومـات الأميـر الكبير محمد بك أبو الذهب تابع علي بك الشهير اشتراه أستاذه في سنة خمس وسبعين فأقام مع أولاد الخزنة أيامًا قليلة وكان إذ ذاك اسمعيل بك خازندار فلما أمر اسمعيل بـك قلـده الخازنداريـة مكانـه وطلـع مـع مخدومـه إلـى الحـج ورجـع أوائل سنة ثمان وسبعين وتأمر في تلـك السنـة وتقلـد الصنجقيـة وعـرف بأبـي الذهـب‏.‏

وسبـب تلقبـه بذلك أنه لما لبس الخلعة بالقلعة صار يفرق البقاشيش ذهبًا وفي حال ركوبه ومروره جعل ينثر الذهب على الفقراء والجعيدية حتـى دخـل إلـى منزلـه فعـرف بذلـك لأنـه لـم يتقدم نظيره لغيره ممن تقلد الأمريات واشتهر عنه هذا اللقب وشاع وسمع عن نفسه شهرته بذلك فكان لا يضع في جيبه إلا الذهب ولا يعطي إلا الذهـب ويقـول‏:‏ أنـا أبو الذهب فلا أمسك إلا الذهب‏.‏

وعظم شأنه في زمن قليل ونوه مخدومه بذكـره وعينـه فـي المهمـات الكبيـرة والوقائـع الشهيـرة وكـان سعيـد الحركـات مؤيـد العزمـات لـم يعهـد عليه الخذلـان فـي مصـاف قـط وقـد تقدمـت أخبـاره ووقائعه في أيام أستاذه علي بك وبعده واستكثر مـن شـراء المماليـك والعبيد حتى اجتمع عنده في الزمن القليل ما لا يتفق لغيره في الزمن الكثير وتقلدوا المناصب والأمريات‏.‏

فلما تمهدت البلاد بسعده المقرون ببأس أستاذ خالف عليه وضم المشردين وغمرهم بالإحسان واستمال بواقي أركان الدولة واستلين الجميع جانبه وجنحوا إليه وأحبـوه وأعانوه وتعصبوا له وقاتلوا بين يديه حتى أراحوا علي بك وخرج هاربًا من مصر إلى الشام واستقر المترجـم بمصـر وسـاس الأمـور وقلـد المناصـب وجبـى الأمـوال والغلـال وراسـل الدولة العثمانية وأظهر لهم الطاعة وقلد مملوكه إبراهيم بك إمارة الحج تلك السنـة وصـرف العلائف وعوائد العربان وأرسل الغلال للحرمين والصرر وتحرك علي بك للرجـوع إلـى مصـر وجيـش الجيـوش فلـم يهتم المترجم لذلك وكاد له كيدًا بأن جمع القرانصة والذين يظن فيهم النفاق وأسـر إليهـم أن يراسلـوا علـي بـك ويستعجلـوه في الحضور ويثقوا مساوئ للمترجم ومنفرات ويعدوه بالمخامرة معه والقيام بنصرته متى حضر وأرسلوها إليه بالشريطة السرية‏.‏

فراج عليه ذلـك واعتقد صحته وأرسل إليهم بالجوابات وأعادوا له الرسالة كذلك باطلاع مخدومهم وإشارته فعند ذلك قوي عزم علي بك على الحضور وأقبل بجنوده إلى جهة الديار المصرية فخرج إليه المترجم ولاقاه بالصالحية وأحضره أسيرًا كما تقدم‏.‏

ومات بعد أيام قليلة وانقضى أمره وارتاح المترجـم مـن قبلـه وجمـع باقـي الأمـراء المطروديـن والمشرديـن وأكرمهم واستخدمهم وواساهم واستوزرهم وقلدهم المناصب ورد إليهم بلادهم وعوائدهم واستعبدهم بالإحسان والعطايا واستبدلهم العز بعد الذل والهوان وراحة الأوطان بعد الغربة والتشريد والهجاج في البلدان‏.‏

فثبتت دولته وارتاحت النواحي من الشرور والتجاريد وهابته العربان وقطاع الطريق وأولاد الحرام وأمنت السبل وسلكت الطرق بالقوافل والبضائع ووصلت المجلوبات من الجهـات القبليـة والبحرية بالتجارات والمبيعات‏.‏

وحضر والي مصر خليل باشا وطلع إلى القلعة على العادة القديمة وحضر للمترجم من الدولة المرسومات والخطابات ووصل إليه سيف وخلعة فلبس ذلك فـي الديـوان ونـزل فـي أبهـة عظيمـة وعظـم شأنـه وانفـرد بإمـارة مصـر‏.‏

واستقـام أمره وأهمل أمر اتباع أستـاذه علـي بـك وأقـام أكثرهـم بمصـر بطـالًا‏.‏

وحضر إلى مصر مصطفى باشا النابلسي من أولاد العضم والتجأ إليه فأكرم نزله ورتب له الرواتب وكاتب الدولة وصالح عليه وطلب له ولاية مصـر فأجيـب إلـى ذلـك ووصلت إليه التقاليد والداقم في ربيع الثاني سنة ثمان وثمانين‏.‏

ووجه خليـل باشـا إلـى ولايـة جـدة وسافـر مـن القلـزم فـي جمـادى الثانيـة وتوفـي هنـاك وفـي أواخـر سنـة سبع وثمانيـن‏.‏

شـرع فـي بنـاء مدرستـه التـي تجاه الجامع الأزهر وكان محلها رباع متخربة فاشتراها من أربابها وهدمها وأمر ببنائها على هذه الصفة وهي على أرنيك جامع السنانية الكائن بشاطئ النيل ببولاق‏.‏

فرتب لنقل الأتربة وحمل الجير والرماد والطين عدة كبيرة من قطارات البغـال وكذلـك الجمـال لشيل الأحجار العظيمة كل حجر واحد على جمل وطحنوا لها الجبس الحلواني المصيـص ورمـوا أساسها في أوائل شهر الحجة ختام السنة المذكورة ولما تم عقد قبتها العظيمة وما حولها من القباب المعقودة على اللواوين وبيضوها ونقشوا داخـل القبـة بالألـوان والأصبـاغ وعمل لها شبابيك عظيمة كلها من النحاس الأصفر المصنوع وعمل بظاهرها فسحة مفروشة بالرخام المرمر وبوسطها حنفية وحولها مساكن لمتصوفة الأتراك وبداخلها عدة كراسي راحة وكذلـك بدورهـا العلـوي وبأسفـل مـن ذلـك ميضـأة عظيمـة تمتلئ بالماء من نوفرة بوسطها تصب في صحن كبير من الرخام المصنوع نقلوه إليها من بعض الأماكن القديمة ويفيض منه فيملأ الميضأة وحول الميضأة عدة كراسي راحة وأنشأ ساقية لذلك فحفروها وخرج ماؤها حلوًا فعد ذلك أيضًا من سعده مع أن جميع الآبار والسواقي التي بتلك الخطة ماؤها في غاية الملوحة وأنشأ سفـل ذلـك صهريجـًا عظيمـًا يمـلأ فـي كـل سنة من ماء النيل وحوضًا عظيمًا لسقي الدواب وعمل بأعلـى الميضـأة ثلاثـة أماكـن برسـم جلوس المفتين الثلاثة يجلسون بها حصة من النهار لإفادة الناس بعد إملاء الدروس وقرر فيها الشيخ أحمد الدردير مفتي المالكية والشيخ عبد الرمن العريشي مفتـي الحنفيـة والشيـخ حسـن الكفـراوي مفتـي الشافعيـة‏.‏

ولمـا تـم البنـاء فرشـت جميعها بالحصر ومن فوقها الأبسطة الرومي من داخل وخارج حتى فرجات الشبابيك ومساكن الطباق‏.‏

ولما استقر جلوس المفتين المذكورين بالثلاثة أماكن التي أعدت لهم أضر بهم الرائحة الصاعدة إليهم من المراحيـض التـي مـن أسفـل وأعلمـوا الأميـر بذلـك فأمر بإبطالها وبنوا خلافها بعيدًا عنها وتقرر في خطابتها الشيخ أحمد الراشدي وغالب المدرسين بالأزهر مثل الشيخ علي الصعيدي مدرس البخاري والشيخ أحمد الدردير والشيخ محمد الأمير والشيخ عبد الرحمـن العريشـي والشيـخ حسن الكفراوي والشيخ أحمد يونس والشيخ أحمد السمنودي والشيخ علي الشنويهي والشيخ عبـد اللـه اللبـان والشيـخ محمد الحفناوي والشيخ محمد الطحلاوي والشيخ حسن الجداوي والشيخ أب الحسـن القلعـي والشيـخ البيلـي والشيـخ محمد الحريري والشيخ منصور المنصوري والشيخ أحمد جاد الله والشيخ محمد المصيلحي ودرسا ليحيى أفندي شيخ الأتراك‏.‏

وتقرر السيد عباس إمامـًا راتبـًا بها وفي وظيفة التوقيت الشيخ محمد الصبان وجعل بها خزانة كتب عظيمة وجعل خازنها محمد أفندي حافظ وينوب عنه الشيخ محمد الشافعي الجناجـي ورتـب للمدرسيـن الكبـار فـي كـل يـوم مائـة وخمسيـن نصفـًا فضـة ولمن دونهم خمسون نصفًا وكذلك للطلبة منهم من له عشرة أنصاف في كل يوم ومنهم من له أكثر وأقل ويقدر عدد الدراهم أرادب من البرفي كل سنـة‏.‏

ولمـا انتهـى أمرهـا وصلـى بهـا الجمعـة فـي شهـر شعبـان سنـة ثمـان وثمانيـن حضـر الأميـر المذكـور واجتمع المشايه والطلبة وأرباب الوظائف وصلوا بها الجمعة وبعد انقضاء الصلاة جلس الشيخ الصعيدي علـى الكرسـي وأملـى حديـث مـن بنـى للـه مسجـدًا ولـو كفحـص قطـاة بنـى اللـه لـه بيـت فـي الجنة‏.‏

فلما انقضى ذلك أحضرت الخلع والفراوي فألبس الشيخ الصعيدي والشيخ الراشدي الخطيـب والمفتيـن الثلاثـة فـراوي سمـور وباقـي المدرسيـن فـراوي نافـا بيضـا وأنعـم فـي ذلـك اليـوم علـى الخدمة والمؤذنين وفرق عليهم الذهب والبقاشيش وتنافس الفقهاء والأشياخ والطلبة وتحاسدوا وتفاتنـوا ووقـف علـى ذلـك أمانـة قويسنا وغيرها والحوانيت التي أسفل المدرسة ولم يصرف ذلك إلا سنـة واحـدة فـإن المترجـم سافـر فـي أوائـل سنـة تسع وثمانين إلى البلاد الشامية كما تقدم ومات عناك ورجعوا برمته وتآمر أتباعه وتقاسموا البلاد فيما بينهم ومن جملتها أمانة قويسنا الموقوفة فبـرد أمـر المدرسة وعوضوا عن ذلك الوكالة التي أنشأها علي بك ببولاق لمصرف أجرة وعليق الأثوار بعدما أضعفوا المعاليم ونقصوها ووزعوا عليهم ذلك الإيراد القليل ولم يزل الحال يتناقص ويضعـف حتـى بطـل منهـا غالـب الوظائـف والخـدم إلـى أن بطـل التوقيـت والـآذان بـل والصلـاة في أكثر الأوقات وأخلق فرشها وبسطها وعتقت وبليت وسرق بعضها وأغلق أحد أبوابها المواجه للقبوة الموصـل للمشهد الحسيني بل أغلقت جميعها شهورًا مع كون الأمراء أصحاب الحل والعقد أتباع الواقـف ومماليكـه لكـن لمـا فقـدت منهم القابلية واستولى عليهم الطمع والتفاخر والتنافس والتغاضـي خـوف الفشـل وتفـرق الكلمـة مـن الانحـراف عـن الأوضاع ظهر الخلل في كل شيء حتى في الأمور الموجبة لنظام دولتهم وإقامة ناموسهم كما يتضح ذلك فيما بعد‏.‏

وبالجملـة فـإن المترجـم كان آخر من أدركنا من الأمراء المصريين شهامة وصرامة وسعدًا وحزمًا وعزمًا وحكمًا وسماحة وحلمًا وكان قريبًا للخير يحب العلمـاء والصلحـاء ويميـل بطبعـه إليهـم ويعتقـد فيهـم ويعظمهم وينصت لكلامهم ويعطيهم العطايا الجزيلة ويكره المخالفين للدين ولم يشتهر عنه شيء من الموبقات والمحرمات ولا ما يشينه في دينه أو يخل بمروءته بهي الطلعة جميل الصورة أبيض اللون معتدل القامة والبدن مسترسل اللحية مهاب الشكل وقورًا محتشمًا قليل الكلام والالتفات ليـس بمهـدأ ولا خـوار ولا عجـول مبجلًا في ركوبه وجلوسه يباشر الأحكام بنفسه ولولا ما فعله آخـرًا مـن الإسـراف فـي قتل أهل يافا بإشارة وزرائه لكانت حسناته أكثر من سيآته‏.‏

ولم يتفق لأميـر مثلـه فـي كثـرة المماليـك وظهـور شأنهـم فـي المـدة اليسيـرة وعظـم أمرهـم بعـده وانحرفـت طباعهم عن قبول العدالة ومالوا إلى طرق الجهالة واشتروا المماليك فنشئوا على طرائقهم وزادوا عن سوابقهـم وألفـوا المظالـم وظنوها مغانم وتمادوا على الجور وتلاحقوا في البغي على الفور إلى أن حصل ما حصل ونزل بهم وبالناس ما نزل‏.‏

وسيتلى عليك من ذلك أنباء وأخبار وما حل بالإقليم بسببهم من الخراب والدمار والله تعالى أعلم‏.‏

سنة تسعين ومائة وألف كـان سلطـان العصـر فيها السلطان عبد الحميد بن أحمد خان العثماني ووالي مصر الوزير محمد باشـا عـزت الكبيـر وأمراؤهـا إبراهيـم بـك ومـراد بيـك مملوكـًا محمـد بيك أبي الذهب وخشداشينهما أيـوب بيـك الكبيـر ويوسـف بيـك أميـر الحـاج ومصطفى بيك الكبير وأحمد بيك الكلارجي وأيوب بيـك الصغيـر ومحمـد بيـك طبـل وحسـن بيـك سـوق السلـاح وذو الفقـار بيك ولاجين بيك ومصطفى بيك الصغير وعثمان بيك الشرقاوي وخليل بيك الإبراهيمي ومن البيوت القديمة حسن بيك قصبة رضوان ورضوان بيك بلفيا وإبراهيم بيك طبان وعبد الرحمن بيك عثمان الجرجاوي وسليمـان بيـك الشابـوري وبقايـا اختياريـة الوجاقات مثل أحمد باشجاويش أرنؤد وأحمد جاويـش المجنـون واسمعيـل أفنـدي الخلوتـي وسليمـان البرديسـي وحسن أفندي درب الشمسي وعبد الرحمن أغا مجرم ومحمد أغا محرم وأحمد كتخدا المعروف بوزير وأحمد كتخدا الفلاح وباقي جماعة الفلاح وإبراهيم كتخدا مناو وغيرهم والأمراء والنهي للأمراء المحمديـة المتقـدم ذكرهـم وكبيرهم وشيخ البد إبراهيم بيك ولا ينفذ أمر بدون اطلاع قسيمة مراد بيك واسمعيل بيك الكبير متنزه ومنعكف في بيته وقانع بإيراده وبلاده ومنزو عن التداخل فيهم من موت سيدهم وعمر داره التي بالأزبكية وأقام بها‏.‏

وفيهـا فـي يـوم الخميـس سابـع شهـر صفر وصل الحج إلى مصر ودخل الركب وأمير الحاج يوسف بيك‏.‏

وفـي ليلـة الجمعـة تاسع صفر وقع حريق بالأزبكية وذلك في نصف الليل بخطة الساكت احترق فيها عدة بيوت عظام وكان شيئًا مهولًا ثم إنها عمرت في أقرب وقت والذي لم يقدر على العمارة باع أرضه فاشتراها القـادر وعمرهـا فعمـر رضـوان بيـك بلفيـا دارًا عظيمـة وكذلـك الخواجـا السيـد عمـر غـراب والسيـد أحمـد عبد السلام والحاج محمود محرم بحيث أنه لم يأت النيل وفيها سقط برع بسوق الغورية ومات فيه عدة كثيرة من الناس تحت الردم ثم إن عبد الرحمن أغا مستحفظان أخذ تلك الأماكن من أربابهـا شـراء وأنشـأ الحوانيـت والربـع علوهـا والوكالـة المعروفة الآن بوكالة الزيت والبوابة التي يسلك منها من السوق‏.‏

وفيهـا حضـر جماعة من الهنود ومعهم فيل صغير ذهبوا به إلى قصر العيني وأدخلوه بالإسطبل الكبيـر وهـرع الناس للفرجة عليه ووقف الخدم على أبواب القصر يأخذون من المتفرجين دراهم وكذلك سواسة الهنود جمعوا بسببه دراهم كثيرة وصار الناس يأتون إليه بالكعك وقصـب السكر ويتفرجون على مصه في القصب وتناوله بخرطومه وكان الهنود يخاطبونه بلسانهم ويفهم كلامهم وإذا أحضروه بين يدي كبير كلموه فيبرك على يديه ويشير بالسلام بخرطومه‏.‏

وفيهـا فـي شهـر رمضـان تعصـب مـراد بيـك وتغيـر خاطـره على إبراهيم بيك طنان ونفاه إلى المحلة الكبيرة وفرق بلاده على من أحب ولم يبق له إلا القليل‏.‏

وفيها شرع الأمير اسمعيل بك في عمل مهم لزواج ابنه وهي من زوجته هانم بنت سيدهم إبراهيـم كتخـدا الـذي كـان تزوجهـا في سنة أربع وسبعين بالمهم المذكور في حوادث تلك السنة وكـان ذلـك المهـم فـي أوائـل شهـر ذي الحجـة وكـان قبـل هـذا المهـم حصـل بينـه وبين مراد بك منازعة ومخاصمة وسببها أن مراد بك أراد أن يأخذ من اسمعيل بك السر ورأس الخليج فوقع بينهما مشاحنـة ومخاصمـة كـاد يتولـد منهـا فتنـة فسعـى فـي الصلـح بينهمـا إبراهيـم بك فاصطلحا على غل وشـرع فـي أثـر ذلـك اسمعيـل بـك فـي عمـل الفـرح فاجتمعـوا يـوم العقـد فـي وليمـة عظيمـة ووقـف مراد بك وفرق المحارم والمناديل على الحاضرين وهو يطوف بنفسه على أقدامه وعمل المهم أيامًا كثيـرة ونـزل محمـد باشـا عزت باستدعاء إلى بيت اسمعيل بك وعندما وصل إلى حارة قوصول نزل الأمراء بأسرهم مشاة على أقدامهم لملاقاته فمشوا جميعًا أمامه على أقدامهـم وبأيديهـم المباخر والقماقم ولم يزالوا كذلك حتى طلع إلى المجلس ووقفوا في خدمته مثل المماليك حتى انقضى الطعام والشربات وقدموا له الهدايا والتقادم والخيول الكثيرة المسمومة ولما انقضت أيام الولائم زفوا العروس إلى زوجها إبراهيم أغا الذي صنجقه اسمعيل بك وهو خازنداره ومملوكه ويسمونـه قشطة وكانت هذه الزفة من المواكب الجليلة ومشى فيها الفيل وعليه خلعة جوخ أحمر فكان ذلك من النوادر‏.‏

ومـات فـي هـذه السنـة الفقيه المتفنن العلامة الشيخ أحمد بن محمد ابن محمد السجاعي الشافعي الأزهـري ولـد بالسجاعيـة قـرب المحلة وقدم الأزهر صغيرًا فحضر دروس الشيخ العزيزي والشيخ محمد السجيني والشيخ عبده الديوي والسيد علي الضرير فقهـر ودرس وأفتـى وألـف وكـان ملازمـًا علـى زيـارة قبور الأولياء ويحيي الليالي بقراءة القرآن مع صلاح وديانة وولاية وجذب وله مع الله حال غريب وهو والد الشيخ الأوحد أحمد الآتي ذكره في تاريخ موته‏.‏

توفي المترجم رحمه الله تعالى في عصر يوم الأربعاء ثامن عشرين ذي القعدة‏.‏

ومات الشيخ الإمام الفقيه العلامة الشيخ عطية بن عطية الأجهوري الشافعي البرهاني الضرير ولد بأجهور الورد إحدى قرى مصر وقـدم مصـر فحضـر دروس الشيـخ العشمـاوي والشيـخ مصطفـى العزيـزي وتفقه عليهما وعلى غيرهما وأتقن في الأصول وسمع الحديث ومهر في الآلات وأنجب ودرس المنهج والتحرير مرارًا وكذا جمع الجوامع بمسجد الشيخ مطهر وله في أسباب النزول مؤلف حسن في بابه جامع لما تشتت من أبوابه وحاشية على الجلالين مفيدة وكذلك حاشية على شرح الزرفاني على البيقونية في مصطلح الحديث وغير ذلك وقد حضر عليه غالـب علمـاء مصر الموجودين واعترفوا بفضله وأنجبوا ببركته وكان يتأنى في تقريره ويكرر الإلقاء مـرارًا مراعاة للمستملين الذين يكتبون ما يقوله ولما بنى المرحوم عبد الرحمن كتخدا هذا الجامع المعروف الآن بالشيخ مطهر الذي كان أصله مدرسة للحنفية وكانت يعرف بالسيوفيين بنى للمترجم بيتًا بدهليزها وسكن فيه بعياله وأولاده‏.‏

توفي في أواخر رمضان‏.‏

ومات الشيخ الفاضل النجيب احمد بن محمد بن العجمي الشافعي كان شابًا فهيمًا داركًا ذا حفظ جيد حضر على علماء العصر وحصل المعقول والمنقول وأدرك جانبًا من العلوم والمعارف ودرس وأملى ولـو عـاش لانتظـم فـي سلـك أعاظـم العلمـاء ولكـن اخترمتـه المنيـة فـي يـوم الاثنيـن حـادي عشرين جمادى الآخرة‏.‏

ومات الشيخ الصالح الورع الناسك أحمد بن نور الدين المقدسي الحنفي إمام جامع قجماس وخطيبه بالدرب الأحمر وهو أخو الشيخ حسن المقدسي مفتي السادة الحنفية شارك أخاه الشيخ حسنًا المذكور في شيوخه واشتغل بالعلم وكان شيخًا وقورًا بهي الشكل مقبلًا على شأنه منجمعًا عن الناس‏.‏

توفي ليلة الاثنين سادس عشر ربيع الأول‏.‏

ومات الفقيه الفاضل الشيخ إبراهيم بن خليل الصيحاني الغزي الحنفي ولد بغزة وبها نشأ وقرأ بعـض المتـون علـى فضـلاء بلده وورد الجامع الأ‏.‏

هر فحضر الدروس ولازم المرحوم الوالد حسنًا الجبرتـي وتلقـى عنـه الفقـه وبعـض العلـوم الغريبـة ثـم عـاد إلـى غـزة وتولـى الإفتـاء بالمذهب وكان يرسل إلى الوالـد فـي كـل سنـة جانبـًا مـن المـوز المـر فـي غلـق مقـدار عشريـن رطـلًا فنخـرج دهنـه ونرفعـه فـي الزجاج لنفع الناس في الدهن ومعالجات بعض الأمراض والجروحات ولم يزل على ذلك حتى ارتحل إلى دمشق وتولى أمانة الفتوى بعد الشيخ عبد الشافي فـي فسـار أحسـن سيـر‏.‏

وتوفـي بهـا فـي هذه السنة في عشر التسعين رحمه الله‏.‏

ومات الفقيه الفاضل الصالح الشيخ علي بن محمد بن نصر بن هيكل ابن جامع الشنويهي تفقه على جماعة من فضلاء العصر وكان يحضر درس الحديث في كل جمعة على السيد البليدي ودرس بالأزهـر وانتفـع بـه الطلبـة وكـان مشهورًا بمعرفة الفروع الفقهية وكان درسه حافلًا جدًا وله حـظ فـي كثـرة الطلبـة وكـان الأشيـاخ يتضايقـون مـن حلقـة درسـه فيطردونه من المقصورة فيخرج إلى الصحن فتملأ حلقة درسه صحن الجامع وفـي بعـض الأحيـان ينتقـل إلـى مدرسـة السنانيـة بجماعته وكان يخطب بجامع الأشرفية بالوراقين وخطبته لطيفة مختصرة وقرأ المنهج مرارًا وكان شديـد الشكيمـة علـى نهـج السلـف الـأول لا يعـرف التصنع وكان يخبر عن نفسه أنه كان كثير الرؤيا للنبـي صلـى اللـه عليه وسلم إنه لما تنزل مدرسًا في المحمدية من جملة الجماعة انقطع عنه ذلك وكان يبكي ويتأسف لذلك‏.‏

توفـي فـي ثامـن عشـر شعبـان وأملـى نسبـه علـى الدكـة إلـى سيدنـا علـي رضي الله عنه‏.‏

ومـات الأميـر الكبيـر الشهيـر عثمـان بـك الفقـاري بإسلامبـول فـي هـذه السنـة وكان مدة غربته ببرصا واسلامبول نيفًا وأربعًا وثلاثين سنة وقد تقدم ذكره وذكر مبدأ أمره وظهوره وسبب خروجه مـن مصـر مـا يغنـي عـن إعـادة بعضـه وهـو أمـر مشهـور وإلـى الـآن بيـن النـاس مذكور حتى أنهم جعلوا سنة خروجه تاريخًا يؤرخون به وفياتهم ومواليدهم فيقولون ولد فلان سنة خروج عثمان بك ومات فلان بعد خروج عثمان بك بسنة أو شهر مثلًا‏.‏

ومات الأمير عبد الرحمن كتخدا وهو بن حسن جاويش القزدغلي أستاذ سليمـان جاويـش أستـاذ ابراهيـم كتخـدا مولـى جميـع الأمـراء المصرييـن الموجوديـن الـآن‏.‏

وخبـره ومبـدأ إقبال الدنيا عليه أنـه لمـا مـات عثمـان كتخـدا القازدغلـي واستولـى سليمـان جاويـش الجوخـدار على موجوده ولم يعط المترجم الذي هو ابن سيد أستاذه شيئًا ولم يجد من ينصفه في إيصال حقه من طائفة باب الينكجريـة حسـدًا منهـم وميـلًا لأهوائهـم وأغراضهـم فحنـق منهم وخرج من بابهم وانتقل إلى وجاق العـزب وحلـف أنـه لا يرجـع إلى وجاق الينكجرية ما دام سليمان جاويش الجوخدار حيًا وبر في قسمه فإنه لما مات سليمان جاويش ببركة الحاج سنة 1152 كما تقدم بادر سليمان كتخدا الجاويشية زوج أم عبد الرحمن كتخدا واستأذن عثمان بك في تقليد عبد الرحمـن جاويـش السردارية عوضًا عن سليمان جاويش لأنه وارثه ومولاه وأحضروه ليلًا وقلدوه ذلك وأحضر الكاتب والدفاتر وتسلـم مفاتيـح الخشخانـات والتركـة بأجمعهـا وكـان شيئـًا يجـل عـن الوصـف وكذلك تقاسيط البلاد ولم تطمع نفس عثمان بك لشيء من ذلك وأخذ المترجم غرضه من بـاب العـزب ورجع إلى باب الينكجرية ونما أمره من حينئذ وحج صحبة عثمان بك في سنة خمس وخمسين وأقام هناك إلى سنة إحدى وستين فحضر مع الحجاج وتولى كتخدا الوقت سنتيـن وشـرع فـي بنـاء المساجـد وعمـل الخيـرات وإبطـال المنكـرات فأبطـل خمامير حارة اليهود فأول عماراتـه بعد رجوعه السبيل والكتاب الذي يعلوه بين القصرين وجاء في غاية الظرف وأحسن المباني وأنشأ جامع المغاربة وعمل عند بابه سبيـلًا بمنـارة وصهريـج وكتـاب ومدفـن السيـد السطوحية وأنشأ بالقرب من تربة الأزبكية سقاية وحوضًا لسقي الدواب ويعلوه كتاب وفي الحطابة كذلك وعند جامع الدشطوطي كذلك وأنشأ وزاد في مقصور الجامع الأزهر مقدار النصف طولًا وعرضًا يشتمل على خمسين عامودًا من الرخام تحمل مثلها من البوائك المقوصرة المرتفعـة المتسعـة مـن الحجـر المنحـوت وسقـف أعلاهـا بالخشـب النفـي وبنـى به محرابًا جديدًا ومنبرًا وأنشـأ لـه بابـًا عظيمـًا جهة حارة كتامة وبنى بأعلاه مكتبًا بقناطر معقودة على أعمدة من الرخام لتعليم الأيتام من أطفال المسلمين القرآن وبداخله رحبة متسعة وصهريج عظيم وسقاية لشرب العطاش المارين وعمل لنفسه مدفنًا بتلك الرحبة وعليه قبة معقودة وتركيبة من رخام بديعة الصنعة وبها أيضًا رواق مخصوص بمجاوري الصعائدة المنقطعين لطلب العلم يسلك إليه من تلك الرحبة بدرج يصعد منه إلى الرواق وبه مرافق ومنافع ومطبخ ومخادع وخزائن كتـب وبنـى بجانب ذلك الباب منارة وأنشأ بابًا آخر جهة مطبخ الجامع وعليه منارة أيضًا‏.‏

وبنى المدرسة الطيبرسية وأنشأها نشوأ جديدًا وجعلها مع مدرسة الآقبغاوية المقابلة لهـا مـن داخـل البـاب الكبيـر الـذي أنشـأه خارجهمـا جهـة القبـو الموصـل للمشهـد الحسينـي وخان الجراكسة وهو عبارة عن بابين عظيمين كل باب بمصراعين وعلى يمينهما منارة وفوقه مكتب أيضًا وبداخله على يمين السالك بظاهر الطيبرسية ميضأة وأنشأ لها ساقية لخصوص إجراء المال إليهـا وبداخـل بـاب الميضأة درج يصعد منه للمنارة ورواق البغداديين والهنود فجاء هذا الباب ومـا بداخلـه مـن الطيبرسيـة والآقبغاويـة والأورقـة مـن أحسـن المبانـي فـي العظم والوجاهة والفخامة وعمل عند باب القبـة الصهريـج والمقصـورة الكبيـرة التـي بهـا ضريح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري فيما بين المسجد ودهليـز القبـة وفـرش طريـق القبـة بالرخـام الملـون يسلـك إليـه بدهليـز طويـل متسـع وعليـه بوابـة كبيرة من داخـل الدهليـز البرانـي وعلـى الدهليـز البرانـي مـن كلتا الجهتين بوابتان‏.‏

وعمر أيضًا لمشهد النفيسي ومسجده وبنى الصهريج على هذه الهيئة الموجودة وجعل لزيارة النساء طريقًا بخلاف طريق الرجال‏.‏

وبنى أيضًا مشهد السيد زينب بقناطر السباع ومشهد السيدة سكينة بخط الخليفة والمشهـد المعـروف بالسيـدة عائشـة بالقـرب مـن بـاب القرافـة والسيـدة فاطمـة والسيـدة رقية والجامـع والرباط بحارة عابدين وكذلك مشهد أبي السعود الجارحي على الصفة التي هو عليها الآن ومسجد شرف الدين الكردي بالحسينية‏.‏

ومسجدًا بخط الموسكي وبنى للشيخ الحنفي دارًا بجـوار ذلك المسجد وينفذ إليه من داخل‏.‏

وعمر المدرسة السيوفية المعروفة بالشيخ مطهر بخطبات الزهومة وبنى لوالدته بها مدفنًا‏.‏

وأنشأ خارج باب القرافة حوضًا وسقاية وصهريجًا وجدد المارستان المنصوري وهـدم أعلـى القبـة الكبيـرة المنصوريـة والقبـة التـي كانـت بأعلـى الفسحـة مـن خـارج ولـم يعـد عمارتهما بل سقف قبة المدفن فقط وترك الأخرى مكشوفة ورتب له خيرات وأخبازًا زيادة على البقايا القديمة ولما عزم على ترميمه وعمارتـه أراد أن يحتـاط بجهات وقفه فلم يجد له كتاب وقفف ولا دفترًا وكانت كتب أوقافه ودفاتره في داخل خزانة المكتب فاحترقت بما فيها من كتب العلم والمصاحف ونسخ الوقفيات والدفاتر ووقفه يشتمل على وقف الملك المنصور قلاون الكبير الأصلي ووقف ولده الملك الناصر محمد ووقف بن الناصر أبي الفدا اسمعيل بل وغير ذلك من مرتبات الملوك من أولادهم ثم إنه وجد دفترًا من دفاتر الشطب المستجدة عند بعض المباشرين وذلك بعد الفحص والتفتيش فاستدل به على بعض الجهات المحتكرة‏.‏

وللمترجم عمائر كثيرة وقناطر وجسور في بلاد الأرياف وبلاد الحجاز حيـن كـان مجـاورًا هنـا‏.‏

وبنـى القناطـر بطندتـا فـي الطريـق الموصلـة إلـى محلـة مرحـوم والقنطـرة الجديدة الموصلـة إلـى حـارة عابديـن مـن انحيـة الخلوتـي علـى الخليج وقنطرة بناحية الموسكي ورتب للعميان الفقـراء الأكسيـة الصوف المسماة بالزعابيط فيفرق عليهم جملة كثيرة من ذلك عند دخول الشتاء فـي كـل سنة فيأتون إلى داره أفواجًا في أيام معلومة ويعودون مسرورين بتلك الكساوي وكذلك المؤذنون يفرق عليهم جملة من الإجرامات الطولونية يرتدون بها وقت التسبيح في ليالي الشتاء وكذلك يفرق جملة من الحبر المحلاوي والبر الصعيدي والملايات والأخلاف والبوابيج القيصرلي علـى النسـاء الفقيـرات والأرامـل ويخـرج عنـد بيتـه فـي ليالـي رمضـان وقت الإفطار عدة من القصاع الكبـار المملـوءة بالثريـد المسقـي بمـرق اللحـم والسمـن للفقـراء المجتمعيـن ويفرق عليهم النقيب هبر اللهم النضيج فيعطى لكل فقير جعله وحصته في يده وعندما يفرغون من الأكل يعطى لكل واحد منهـم رغيفيـن ونصفـي فضـة برسـم سحـوره إلـى غيـر ذلـك‏.‏

ومن عمائره القصر الكبير المعروف به بشاطـئ النيـل فيمـا بيـن بولـاق ومصـر القديمـة وكـان قصـرًا عظيمًا من الأبنية الملوكية وقد هدم في سنة 1205 بيد الشيخ علي بن حسن مباشرًا لوقف وبيعت أنقاضه وأخشابه ومات المباشر المذكور بعد ذلك بنحو ثلاثة أشهر‏.‏

ومن عمائره أيضًا دار سكنه بحارة عابدين وكانت من الدور العظيمة المحكمة الوضع والاتقان لا يماثلها دار بمصر في حسنها وزخرفة مجالسها وما بها من النقوش والرخام والقيشاني والذهب المموه واللازورد وأنواع الأصباغ وبديع الصنعة والتأنق والبهجة وغرس بها بستانًا بديعًا بداخله قاعة متسعة مربعة الأركان بوسطها فسقية مفروشة بالرخام البديع الصنعة وأركانها مركبة على أعمدة من الرخام الأبيض وغير ذلك من العمارات حتى اشتهر ذكره بذلك وسمي بصاحـب الخيـرات والعمائـر فـي مصـر والشـام والـروم وعـدة المساجـد التـي أنشأهـا وجدهـا وأقيمـت فيهـا الخطبـة والجمعة والجماعة ثمانية عشر مسجدًا وذلك خلـاف الزوايـا والأسبلـة والسقايـات والمكاتـب والأحـواض والقناطـر والمربـوط للنسـاء الفقيرات والمنقطعـات‏.‏

وكـان لـه فـي هندسـة الأبنيـة وحسـن وضـع العمائـر ملكـة يقتـدر بهـا علـى ما يروعه من الوضع من غير مباشرة ولا مشاهدة‏.‏

ولو لم يكن له من المآثر إلا ما أنشأ بالجامع الأزهر من الزيـادة والعمـارة التـي تقصـر عنهـا همـم الملوك لكفاه ذلك وأيضًا المشهد الحسيني ومسجده والزيني والنفيسـي وضـم لوقفـه ثلاث قرى من بلاد الأرز بناحية رشيد وهي تفينة وديبي وحصة كتامة وجعـل إيرادهـا ومـا يتحصـل من غلة أرزها لمصارف الخيرات وطعام الفقراء والمنقطعين وزاد في طعـام المجاوريـن بالأزهـر ومطبخهـم الهريسـة فـي يومـي الاثنيـن والخميـس وقد تعطل غالب ذلك في هذا التاريخ الذي نحن فيه لغاية سنة 1220 بسبب استيـلاء الخـراب وتوالـي المحـن وتعطـل الأسبـاب‏.‏

ولـم يـزل هـذا شأنـه إلـى أن استفحـل أمـر علـي بـك وأخرجـه منفيـًا إلـى الحجـاز وذلـك فـي أوائـل شهـر القعـدة 1178 فأقـام بالحجـاز اثنتـي عشـرة سنـة فلمـا سافـر يوسـف بـك أميرًا بالحاج في السنـة الماضيـة صمـم علـى إحضـاره صحبتـه إلـى مصـر فأحضـره فـي تختـروان وذلـك فـي سابع شهر صفـر سنـة 1190 وقـد استولـى عليـه العـي والهـرم وكـرب الغربـة فدخـل إلى بيته مريضًا فأقام أحد عشر يومًا ومات فغسلوه وكفنوه وخرجوا بجنازته في مشهد حافـل حضـره العلمـاء والأمـراء والتجـار ومؤذنـو المساجـد وأولـاد المكاتـب التـي أنشأهـا ورتب لهم فيها الكساوي والمعاليم في كل سنة وصلوا عليه بالأزهر ودفن بمدفنه الذي أعده لنفسه بالأزهر عند الباب القبلي‏.‏

ولم يخلـف بعـده مثلـه رحمـه اللـه‏.‏

ومن مساويه قبول الرشا والتحيل على مصادرة بعض الأغنياء في أموالهـم واقتـدى بـه فـي ذلـك غيـره حتـى صـارت سنـة مقـررة وطريقـة مسلوكـة ليست منكرة وكذلك المصالحـة علـى تركـات الأغنياء التي لها وارث ومن سيآته العظيمة التي طار شررها وتضاعف ضررهـا وعم الإقليم خرابها وتعدى إلى جميع الدنيا هبابها معاضدته لعلي بك ليقوى به على أرباب الرئاسة فلم يزل يلقي بينهم الفتن ويغري بعضهم على بعض ويسلط عليهم علي بك المذكور حتى أضعف شوكات الأقوياء وأكد العداوة بين الأصفياء واشتد ساعد علي بك فعنـد ذلـك التفـت إليـه وكلـب بنابـه عليـه وأخرجه من مصر وأبعده عن وطنه فلم يجد عند ذلك مـن يدافـع عنـه وأقـام هـذه المـدة فـي مكـة غريبـًا وحيـدًا وأخـرج أيضـًا فـي اليـوم الـذي أخرجـه فيه نيفًا وعشرين أميرًا من الاختيارية كما تقدم‏.‏

فعند ذلك خلا لعلي بك وخشداشينه الجو فباضوا وأفرخـوا وامتد شرهم إلى الآن الذي نحن فيه كما سيتلى عليك بعضه فهو الذي كان السبب بتقديـر اللـه تعالـى فـي ظهـور أمرهـم فلـو لـم يكـن لـه مـن المسـاوئ إلا هـذه لكفـاه ولمـا رجع من الحجاز متمرضـًا ذهـب إليـه إبراهيـم بـك ومـراد بـك وباقـي خشداشينهم ليعودوه ولم يكن رآهم قبل ذلك فكـان مـن وصيتـه لهـم‏:‏ كونـوا مـع بعضكـم واضبطـوا أمركـم ولا تداخلـوا الأعـادي بينكـم‏.‏

وهذا بدل عن قوله أوصيكم بتقوى الله تعالى وتجنبوا الظلم وافعلوا الخير فإن الدنيا زائلة وانظروا حالي ومالـي أو نحـو ذلك هكذا أخبرني من كان حاضرًا في ذلك الوقت وكان سليط اللسان ويتصنع الحماقة فغفر الله لنا وله رأيته مرة وأنا إذ ذاك في سن التمييز قبل أن ينفى إلى الحجاز وهو مـاش فـي جنـازة مربـوع القامـة أبيـض اللـون مسترسـل اللحية ويغلب عليها البياض مترفهًا في ملبسه معجبًا بنفسه يشار إليه بالبنان‏.‏

سنة إحدى وتسعين ومائة وألف

فيها في أوائل شهر ربيع الأول ورد أغا من الديار الرومية بطلب عساكر لسفر العجم فاجتمع الأمـراء وتشـاوروا في ذلك فاتفق رأيهم على إحضار إبراهيم طنان فأحضروه من المحلة وقلدوه إمارة ذلك‏.‏

وفيها في أوائل شهر جمادى الأولى وقعت حادثة في طائفة المغاربة المجاورين بالجامع الأزهر وذلـك أنـه آل إليهـم مكان موقوف وحجد واضع اليد ذلك والتجأ إلى بعض الأمراء وكتبوا فتوى فـي شـأن ذلـك واختلفوا في ثبوت الوقف بالإشاعة ثم أقاموا الدعاوى في المحكمة وثبت الحق للمغاربة ووقع بينهم منازعات وعزلوا شيخهم وولوا آخر وكان المندفع في الخصومة واللسانة شيخـًا منهـم يسمـى الشيـخ عبـاس والأميـر الملتجـئ إليـه الخصـم يوسـف بـك فلمـا ترافعوا وظهر الحق علـى خلـاف غـرض الأميـر حنـق لذلك ونسبهم إلى ارتكاب الباطل فأرسل من طرفه منن يقبض على الشيخ عباس المذكور من بين المجاورين فطردوا المعينين وشتموهم وأخبروا الشيخ أحمد الدرديـر فكتـب مراسلـة إلـى يوسـف بـك تتضمـن عدم تعرضه لأهل العلم ومعاندة الحكم الشرعي وأرسلها صحبة الشيخ عبد الرحمن الفرنوي وآخرين فندما وصلوا إليه وأعطوه التذكرة نهرهم وأمر بالقبض عليهم وسجنهـم بالحبـس‏.‏

ووصـل الخبـر إلـى الشيـخ الدرديـر وأهـل الجامـع فاجتمعـوا فـي صبحها وأبطوا الدروس والآذان والصلوات وقفلوا أبواب الجامع وجلس المشايخ بالقبلة القديمة وطلـع الصغـار على المنارات يكثرون الصياح والدعاء على الأمراء‏.‏

وأغلق أهل الأسواق القريبة الحوانيت وبلغ الأمراء ذلك فأرسلوا إلى يوسف بك فأطلق المسجونين وأرسل إبراهيم بك من طرفـه إبراهيـم أغـا بيـت المـال فلـم يأخـذ جوابـًا وحضـر الأغا إلى الغورية ونزل هناك ونادى بالأمان وأمر بفتح الحوانيت فبلغ مجاوري المغاربة ذلك فذهب إليه طائفة منهم وتبعهم بعض العوام وبأيديهم العصي والمسلوق وضربوا أتباع الآغا ورجموه بالأحجار فركب عليهم وأشهر فيهـم السلاح هو ومماليكه فقتل من مجاوري المغاربة ثلاثة أنفار وانجرح منهم كذلـك ومـن العامـة‏.‏

وذهـب الآغـا ورجـع الفريـق الآخـر وبقـي الهرج إلى ثاني يوم فحضر اسمعيل بك والشيخ السادات وعلي أغا كتخدا الجاويشية ووفـي أوائلـه أيضـًا أحضـر مراد بك شخصًا يقال له سليمان كاشف من أتباع يوسف بك وضربه علقة بالنبابيت لسبب من الأسباب فحقدها عليه يوسف بك واستوحش من طرفه‏.‏

وفي ثاني عشر جمادى الثانية قبض الآغا على إنسان شريف من أولاد البلد يسمى حسن المدابغـي وضربـه حتـى مـات وسبـب ذلـك أنـه كـان فـي جملـة مـن خرج على الآغا بالغورية يوم فتنة الجامع وكان إنسانًا لا بأس به‏.‏

وفي ليلة الجمعة رابع عشر جمادى الثانية خرج اسمعيل بك جهة العادلية مغضبًا وسبب ذلك أن مراد بك زاد فـي العسـف والتعـدي خصوصـًا فـي طـرف اسمعيـل بـك وإبراهيـم بـك يسعـى بينهمـا فـي الصلـح واجتمعـوا فـي آخـر مجلـس عنـد إبراهيـم بـك فتكلـم اسمعيـل بك كلامًا مفحمًا وقال‏:‏ أنا تارك لكم مصر وإمارتها وجاعلكـم مثـل أولـادي ولا أريـد إلا المعيشـة وراحـة السـر وأنتـم لا تراعون لي حقًا وأمثال ذلك من الكلام‏.‏

فحضر في هذه الأيام إلى اسمعيل بك مركب غلال فأرسل مراد بك وأخذ ما فيها وعلم أن اسمعيل بك يغتاظ لذلك ثم اتفق مع بعض أغراضه أنهم يركبون من الغد إلى اسمعيل بك ويدخلون عليه في بيته ويقتلونه فعلم اسمعيل بك بذلك فركـب فـي الصباح وخرج إلى العادلية بعد أن عزل بيته وحريمه ليلًا وجلس بالأشبكية وركب مـراد بـك ذاهبـًا إلـى اسمعيـل بـك فوجـده قـد خـرج إلـى الأشبكيـة وكـان إبراهيم بك طلع إلى قصر حسـن أغـا فنزلـوا الأشرفيـة وأرسلـوا إلـى أهـل الجامـع تذكـرة بانفضاض الجمع وتمام المطلوب‏.‏

وكان ذلك عند الغروب فلـم يرضـوا بمجـرد الوعـد وطلبـوا الجامكية والجراية فركبوا ورجعوا وأصبح يوم الأربعاء والحال على ما هو عليه واسمعيل بك مظهر الاهتمام لنصرة أهل الأزهر فحضر مع الشيخ السادات وجلسوا بالجامع المؤيدي وأرسلوا للمشايخ تذكرة صحبة الشيخ إبراهيم السندوبي ملخصها أن اسمعيل بك تكفل بقضاء أشغال المشايـخ وقضـاء حوايجهـم وقبـول فتواهـم وصـرف جماكيهـم وجراياتهـم وذلـك بضمـان الشيخ السـادات لـه فلمـا حضر الشيخ إبراهيم بالتذكرة وقرأها الشيخ عبد الرحمن العريشي جهارًا وهو قائـم علـى أقدامـه‏.‏

فلمـا سمعوها أكثروا من الهرج واللغط وترددت الإرساليات والذهاب والمجيء بطـول النهـار ثـم اصطلحـوا وفتحـوا الجامـع فـي آخـر النهار وأرسلوا لهم في يوم الخميس جانبًا من دراهـم الجامكيـة‏.‏

ومـن جملـة مـا اشترطـوه فـي الصلـح عـدم مـرور الآغـا والوالـي والمحتسب من حارة الأزهـر وغيـر ذلـك شـروط لـم ينفـذ منهـا شـيء‏.‏

وعمـل إبراهيـم بـك ناظرًا على الجامع عوضًا عن الآغا وأرسل من طرفه جنديًا للمطبخ وسكن الاضطراب‏.‏

وبعد مضي أربعة أيام من هذه الحادثـة مـر الآغـا وبعـده الوالـي كذلـك فأرسـل المشايخ إلى إبراهيم بك يخبروه فقال‏:‏ إن الطريق يمر بها البر والفاجر ولا يستغني الحكام عن المرور‏.‏

وفـي أوائلـه أيضـًا أحضـر مراد بك شخصًا يقال له سليمان كاشف من أتباع يوسف بك وضربه بانفضاض الجمع وتمام المطلوب‏.‏

وكان ذلك عند الغروب فلـم يرضـوا بمجـرد الوعـد وطلبـوا الجامكية والجراية فركبوا ورجعوا وأصبح يوم الأربعاء والحال على ما هو عليه واسمعيل بك مظهر الاهتمام لنصرة أهل الأزهر فحضر مع الشيخ السادات وجلسوا بالجامع المؤيدي وأرسلوا للمشايخ تذكرة صحبة الشيخ إبراهيم السندوبي ملخصها أن اسمعيل بك تكفل بقضاء أشغال المشايـخ وقضـاء حوايجهـم وقبـول فتواهـم وصـرف جماكيهـم وجراياتهـم وذلـك بضمـان الشيخ السـادات لـه فلمـا حضر الشيخ إبراهيم بالتذكرة وقرأها الشيخ عبد الرحمن العريشي جهارًا وهو قائـم علـى أقدامـه‏.‏

فلمـا سمعوها أكثروا من الهرج واللغط وترددت الإرساليات والذهاب والمجيء بطـول النهـار ثـم اصطلحـوا وفتحـوا الجامـع فـي آخـر النهار وأرسلوا لهم في يوم الخميس جانبًا من دراهـم الجامكيـة‏.‏

ومـن جملـة مـا اشترطـوه فـي الصلـح عـدم مـرور الآغـا والوالـي والمحتسب من حارة الأزهـر وغيـر ذلـك شـروط لـم ينفـذ منهـا شـيء‏.‏

وعمـل إبراهيـم بـك ناظرًا على الجامع عوضًا عن الآغا وأرسل من طرفه جنديًا للمطبخ وسكن الاضطراب‏.‏

وبعد مضي أربعة أيام من هذه الحادثـة مـر الآغـا وبعـده الوالـي كذلـك فأرسـل المشايخ إلى إبراهيم بك يخبروه فقال‏:‏ إن الطريق يمر بها البر والفاجر ولا يستغني الحكام عن المرور‏.‏

العينـي فذهـب إلـى مـراد بـك ولمـا أشيـع خروج اسمعيل بك ركب يوسف بك وخرج غليه وتبعه محمد بك طبـل وحسـن بـك وإبراهيـم بـك طنـان وذو الفقـار بـك وغيرهـم‏.‏

ووصـل الخبـر إلـى إبراهيـم بك ومراد بك ومن انضم إليهم فركبوا وحضروا إلى القلعة وملكوا الأبـواب وامتلـأت الرميلـة والميـدان بعساكرهـم وصحبتهـم أحمـد بـك الكلارجـي ولاجيـن بـك وأيـوب بـك ورضوان بك وخليل بك ومصطفى بك واضطربت المدينة وأغلق الناس الدكاكين واستمروا على ذلك يوم السبت ويوم الأحد ويوم الاثنين ويوم الثلاثاء وتسحب من أهل القلعة جماعة خرجوا إلى اسمعيل بك ويوسـف بـك ومـن معهمـا وهـم اسمعيـل أغـا أخـو علي بك الغزاوي وأخوه سليم أغا وعبد الرحمن أغا أغات الينكجرية سابقًا فأرسل أهل القلعة إبراهيم أغا الوالي فجلس بباب النصر وأغلق البـاب ونـزل الباشـا إلـى بـاب العـزب‏.‏

فحضـر قاسـم كتخـدا عزبـان أمين البحرين وعبد الرحمن أغا وصحبتهم جماعة إلى باب النصر فأرسلوا إليهم طائفة من عسكر المغاربـة فضربـوا عليهـم بالرصاص وحمل عليهم الآخرون فشتتوهم ورجعوا إلى خلف وقتل من المغاربة أنفار وانجرح منهـم كذلـك وانتشـر البرانيـون حوالـي جهـات مصر وذهب منهم طائفة إلى جهة بولاق وفيهم محمد بك طبل فوجدوا طائفة من الكشاف والأجناد حضروا إلى بولاق لأجل العليق والتبن فوقعت بينهـم وقعـة فانهزموا إلى قصر عبد الرحمن كتخدا وأخذ أولئك العليق والتبن وطلع منهم طائفة إلى الجبل واشتد الحال وعظمت الفتنة فأراد الباشا إجراء الصلح فأرسل أيوب أغا ورجع بجواب عدم رضاهم بالصلح ثم أرسل إليهم أحمد جاويش المجنون فذهب ولم يرجع والتف عليهم فأرسل الباشا ولده وكتخداه سعيد بك مرارًا‏.‏

ثم دخل في يوم الأربعاء عبد الرحمن أغـا من باب النصر وشق من وسط المدينة وأمامه المنادي ينادي على الناس برفع بضائعهم من الحوانيـت فرفـع النـاس بواقـي بضائعهـم مـن الدكاكيـن ولـم يـزل سائـرًا حتـى وصل إلى باب زويلة ونزل بجامـع المؤيد وجلس به مقدار ساعتين ورتب عسكرًا هناك على السقائف والأسبلة ثم ركب راجعـًا وعـاد وصحبتـه إبراهيـم بك الطناني ومعهم عدة أجناد وعساكر وخرجوا من باب زويلة إلـى الـدرب الأحمـر إلـى جامـع المردانـي فجلسـوا عنـده إلـى بعـد الظهـر ثـم زحفـوا إلـى التبانـة إلـى قـرب المحجر وعملوا هناك متاريس ورتبوا بها جماعة وكذلك ناحية سويقة العزى فنزل إليهم جماعة من القلعة وتراموا بالرصاص وقطعوا الطرق على من بالقلعة إلى بعد العصر فنزل إليهم خيالة مدرعيـن فحمـل عليهـم عسكـر المغاربـة فوقـع منهـم أربعـة خيالـة وانجـرح لاجيـن بـك فحملـوه إلـى بيته في شنف وقتل أنفار من عسكر المغاربة وولى القلعاوية إلى جهة القلعة وبعد الغروب انفصل عنهم عسكر المغاربة ونكسوا أعلامهم وحضروا عند أجناسهم والتفوا عليهم ولاحت لوائح الخذلـان علـى مـن بالقلعـة ودخل عليهم الليل وانكف الفريقان‏.‏

وأصبح يوم الخميس فدخل الكثير من البرانيين إلـى المدينـة شيئـًا فشيئـًا وربطـوا فـي جميـع الجهـات حتـى انحصـروا بالقلعـة وأخـذوا ينقبـون عليهـم فلمـا شاهـدوا الغلـب فيهـم نزلـوا مـن بـاب الميـدان وذهبـوا جهـة البساتيـن إلى الصعيد فتخلف عنهم أحمد بك الكلارجي وأيوب بك وإبراهيم بك أوده باشه ولاجيـن بـك مجـروح وخـرج المتخلفـون إلـى اسمعيـل بـك ويوسـف بك وطلبوا منهما الأمان وانضموا إليهم‏.‏

وعندما أشيع نزول إبراهيم بك ومراد بك من القلعة هجم المراطبون بالمحجر وسوق السلاح على الرميلة ونهبوا خيامهم وعازقهم الذي بها وبالميدان حتى جمال الباشا وخيول الدلاة وذلك يوم الخميس قبل العصر بنصف ساعة فدخل اسمعيل بك ويوسف بك بعد العصر من ذلك اليوم من باب النصر وتوجهوا إلى بيوتهم وأصبح يوم الجمعة فشق عبد الرحمن أغا ونـادى بالأمـان والبيـع والشراء وراق الحال‏.‏

ولمـا كـان يـوم الأحـد ثاني عشرين جمادى الثانية طلعوا إلى الديون فخلع الباشا على اسمعيل بك ويوسف بك خلعتي سمور واستقر اسمعيل بك شيخ البلد ومدبر الدولة وقلدوا حسن بك الجداوي صنجقًا كما كان وكانت الصنجقية مرفوعة عنه من موت سيده علي بك وكذلك رضـوان بـك قرابـة علـي بـك قلـدوه صنجقيـة وقلدوا اسمعيل أغا أخا علي بك الغزاوي صنجقية أيضـًا وسكـن ببيـت إبراهيـم بك الكبير وقلدوا سليمان كاشف من أتباع يوسف بك وهو الذي كـان ضربه علقة مراد بك بالنبوت كما تقدم صنجقية ولقبه الناس أبا نبوت وقلدوا أيضًا سليم كاشف من أتباع اسمعيل بك صنجقية وقلدوا عبد الرحمن أغا أغاوية مستحفظان كما كان ومحمـد كاشف والي الشرطة‏.‏

وفي عشية ذلك اليوم أنزلوا سليمان أغا مستحفظان إلى بولاق وأنزلوه في مركب منفيًاإلى دمياط بعدما صودر في نحو أربعين ألف ريال‏.‏

وفي يوم الثلاثاء خامس عشرينه أنزلوا أيضًا سليمان كتخدا مستحفظان وعثمان كتخدا باش اختيـار مستحفظـان المعـروف بأبـي مسـاوق والأمير عبد الله أغا وأنزلوهم إلى المراكب ثم حصل عنهم العفو فردوهم إلى بيوتهم‏.‏

وفي ذلك اليوم طلعوا إلى الديوان فقلدوا ذا الفقار بك دفتردار عوضًا عن رضوان بك بلفيا وذلك بإشارة يوسف بك لكونه كان مع مراد بك وإبراهيم بك حتى أنه أراد أن يسلب نعمته فمنعه عنه اسمعيل بك‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثاني شهر رجب حضر عند يوسف بك حسن بك الجداوي وصحبتـه اسمعيـل بـك الصغيـر وهـو أخـو علـي بك الغزاوي وسليم بك الاسمعيلي وعبد الرحمن بك العلوي فجلسـوا معـه ساعة لطيفة بالمقعد المطل على البركة فجلس حسن بك أمامه وكان جالسًا على الدكـة المرتفعـة عـن المرتبـة وجلـس تحت شماله على المرتبة اسمعيل بك الصغير وسليم بك وعبد الرحمن بك استمر واقفًا وحادثوه في شيء وتناجوا مع بعضهم وتأخـر عنهـم الواقفـون مـن المماليـك والأجناد فسحب عبد الرحمن بك النمشاة وضرب بها يوسف بك فأراد أن يهم قائمًا فـداس علـى ملوطـة اسمعيـل بـك فوقـع علـى ظهـره فنزلـوه عليـه بالسيوف وضربوا في وجوه الواقفين طلـق بـارود فهربـوا إلـى خلـف ونـزل الضاربـون من القيطون وركبوا وذهبوا إلى اسمعيل بك فركب فـي تلـك الساعة وطلع إلى القلعة وأرسل اسمعيل كتخدا عزبان إلى الباشا وكان بقصر العيني بقصـد التنـزه فركـب مـن هنـاك وطلع إلى القلعة وجلس بباب العزب صحبة اسمعيل بك فلما بلغ الأمـراء الذيـن هـم خشداشيـن يوسـف بـك ركبـوا وخرجـوا مـن المدينة وذهبوا إلى قبلي وهم أحمد بك الكلارجي وذو الفقار بك ورضوان بك الجرجاوي فركـب خلفهـم طائفـة فلـم يدركوهـم وأرسلـوا إلـى محمد بك طبل فكرنك في بيته ونصب له مدافع وأبى من الخروج لأنه صار من المذبذبيـن‏.‏

فلمـا وقـع منـه ذلـك ذهـب إليـه حسـن بـك سـوق السلـاح وأخـذه بالأمان إلى اسمعيل بك بعدمـا نـزل إلـى بيتـه فأمـره أن يأخـذه عنـده فـي بيته فلما أصبح استأذنه في زيارة الإمام الشافعي فأذن له فركب إلى جهة القرافة وذهب إلى جهة الصعيد‏.‏

وانقضت الفتنة ودفن يوسف بك‏.‏

وفـي يـوم الخميـس طلعـوا إلـى الديـوان فخلـع الباشـا علـى اسمعيـل بـك الكبير فروة سمور وأقره على مشيخـة ابلـد وقلدوا حسن بك قصبة رضوان إمارة الحج عوضًا عن يوسف بك وقلدوا عبد الرحمن بك العلوي صنجقًا كما كان وقلدوا إبراهيم أغا خازندار واسمعيل بك الذي زوجه ابنتـه صنجقيـة وتلقـب بإبراهيـم بـك قشطـة وسكـن ببيت محمد بك وقلدوا حسين أغا خازندار اسمعيل بك سابقًا صنجقية أيضًا وسكن ببيت أحمد بك الكلارجي وقلدوا كاشفين أيضًا لاسمعيـل بـك يسمـى كـل واحـد منهمـا بعثمـان صنجقيـن وسكن أحدهما ببيت مصطفى بك الذي كـان سكـن محمد بك طبل وهو على بركة الفيل حيث جامع أزبك اليوسفي وهو الذي يسمى بعثمـان بـك طبـل وعثمـان الثانـي وهو الذي لقب بقفا الثور وسكن ببيت ذي الفقار المقابل لبيت بلفيـا وقلـدوا علـي أغـا جوخـدار اسمعيـل بـك صنجقيـة أيضـًا وسكن ببيت مراد بك عند الكبش وهـو ببيـت صالـح بـك الكبيـر وكـان يسكنـه سليمـان بـك أبـو نبـوت اليوسفـي‏.‏

وأمـا بيـت يوسـف بك فسكـن بـه سليـم بـك وقلـدوا يوسـف أغـا مـن أتبـاع اسمعيـل بـك واليًا ونفوا أيوب بك وسليمان بك إلى المنصورة‏.‏

وفي صبحها يوم الجمعة رابع شهر رجب الفرد الموافق لرابع مسرى القبطي نودي بوفاء النيل ونـزل الباشـا صبـح يوم السبت وكسر السد على العادة وجرى الماء إلى الخليج وعاد الباشا إلى القلعة‏.‏

وفـي سابعـه اتفقـوا على إرسال تجريدة إلى الصعيد وسر عسكرها اسمعيل بك الصغير وعينوا للتوجه صحبته حسن بك الجداوي وإبراهيم بـك الطنانـي وسليـم بـك الطنانـي وسلـم بـك الاسمعيلـي وإبراهيـم بـك أوده باشا وحسن بك الشرقاوي المعروف بسوق السلاح وقاسم كتخدا عزبـان وعلـي أغـا المعمـار وكـان غائبـًا بالمنيـة فلما قبل الجماعة تخلص وترك أحواله وغلاله وحضر إلى مصر وصحبته طائفة من الهوارة والعربان فلما حضر أرادوا أن يقلدوه صنجقية فامتنع من ذلك وشرعوا في تشهيل التجريدة وطلبوا طلبًا عظيمًا وصرف الباشا ألف كيس من الخزينة لنفقـة العسكـر وخلعـوا على الهوارة ومشايخ العربان ووعدوهم بالخير‏.‏

وفيه جاءت الأخبار بأن علـي بـك السروجـي ساق خلف محمد بك طبل فلحقه عند مكان تجاه البدرشين واحتاط به العربان وقتلوا مماليكه وشرد من نجا منهم وتفرق ونهبوا ما معه وعروه وسلموه لكاشف هناك مـن أتبـاع اسمعيـل بـك فوقـع فـي عرضـه وعـرض مشايـخ البلـد فألبسـوه حوائـج وهربـوه وصحبته اثنان من الأجناد فلما حضر علي بك السروجي أخبره العرب بما حصـل فأخـذ ذلـك الكاشـف وحضر صحبته إلى اسمعيل بك فضرب الكاشف علقة ونفاه‏.‏

وفيه ورد الخبر أيضًا عن ذي الفقار بك بأن العرب عروه أيضـًا فهـرب فلحقـوه وأرادوا قتلـه فألقى نفسه في البحر بفرسه وغرق ومات‏.‏

وفي يوم الاثنين رابع عشر رجب برزت عساكر التجريدة إلى جهة البساتين‏.‏

وفي يوم الجمعة ثامن عشر رجب سافرت التجريدة برًا وبحرًا‏.‏

وفـي يـوم السبـت سادس عشرين رجب وصلت الأخبار بأن التجريدة تلاقت مع الأمراء القبالي ووقع بينهم معركة قوية فكانت الهزيمة على التجريدة‏.‏

فلما وصلت هذه الأخبار اضطرب اسمعيـل بك وتخبل غزله وكذلك أمراؤه ودخل في يومها الأجناد مشتتين مهزومين وكانت الوقعة يـوم الجمعـة فـي بياضـة مـن أعمـال الشـرق فكبسوهـم علـى حين غفلة وقت الفجر فركب علي أغا المعمار وقاسم كتخدا عزبان وإبراهيم بك طنان فحاربوا جهدهم فأصيب علي أغا وقاسم كتخـدا ووقعـت خيولهمـا وذلـك بعـد أن سـاق علـي أغا وصحبته رضوان أغا طنان وقصد مراد بك وضربه رضوان في وجهه بالسيف فلمحه خليل بك كوسه الإبراهيمي وضرب علي أغا بالقرابينـة فأصابتـه فـي عنقـه ووقـع فرسـه وسقـط ميتـًا‏.‏

فلمـا قتـل هذان الأميران ولي إبراهيم بك طنان فانهزم بقية الأمراء لأنه لم يكـن فيهـم أشجـع مـن هـؤلاء الثلاثـة وباقيهـم ليـس لـه دربـة فـي الحـرب وسر عسكر مقصوب ومريض واحتاط الأمراء القبليون بخيامهم وحملاتهم ومراكبهم بمـا فيهـا وكانـت نيفـًا وخمسمائـة مركـب وكان كبير العسكر في قنجة صغيرة فلما عاين الكسرة أسرع في الانحدار وكذلك بعض الأمراء انحدروا معه وباقيهم وصلوا في البر على هيئة شنيعة وكان اسمعيـل بـك بمصـر القديمـة ينتظـر أمـراء التجريـدة‏.‏

فلمـا حصـل ذلـك نـزل البـاش فـي يوم الأحد وخرج إلى الآثار وجلس مع الصنجق ونادوا بالنفير العام فخرج القاضي والمشايخ والتجار وأرباب الصنائـع والمغاربـة وأهل الحارات والعصب وغلقت الأسواق‏.‏

وخرج الناس في يوم الاثنين حتى ملأوا الفضاء فلما عاين ذلك اسمعيل بك وعلم أنك يحتاجون إلى مصروف ومأكل وأكثرهم فقراء وذلك غاية لا تدرك أشار على تجار المغاربة والأضاشات بالمكث ورجع بقية العامة وأرباب الحرف ومشايخ الأشاير والفقراء من أهل الزوايا والبيوت ووصل القبليون إلى حلوان وطمعوا في أخذ مصر بعد الكسرة قبل الاستعداد ثانيًا‏.‏

وفـي يـوم الاثنيـن أرسـل اسمعيل بك عدة من الأجناد وأصحبهم عسكر المغاربة ومعهم الجبخانة والمدافع فنصبوا المتاريس ما بين التبين وحلوان تجاه الأخصام وركب في ليلتها اسمعيل بك وأمراؤه وأجناده وأحضر الباشا قليون رومي من دمياط ورئيسه يسمى حسن الغاوي مشهور بمعرفة الحرب في البحر يشتمل ذلك القليون على خمسة وعشرين مدفعًا فأقلع به ليلًا تجاه العسكـر وارتفع حتى تجاوز مراكبهم وضرب بالمدافع على وطاقهم في البر وعلى مراكبهم في البحـر وسـاق جميع المراكب بما فيها ووقع المصاف واشتد الجلاد بين الفريقين فكان بينهم وقعة قوية وقتل فيها من أولئك رضوان بك الجرجاوي وخليل بك كوسه الإبراهيمـي وخازنـداره وكشاف وأجناد ووقعت على القبالي الهزيمة ولم يظهر مـراد بـك فـي هـذه المعركـة بسبـب جراحته‏.‏

ثـم هجمـوا علـى وطاقهـم وخيامهـم ونهبوهـا ونـزل محمـد بـك طبـل بفرسـه إلـى البحـر وغـرق ومـات‏.‏

ورجـع إبراهيـم بـك ومـراد بـك وهـو مجـروح ومصطفـى بـك وأحمد بك الكلارجي وأتباعهم وذهبـوا إلـى قبلـي وساقـوا خلفهم فلم يدركوهم‏.‏

ودخل اسمعيل بك والأمراء والأجناد والعسكر إلى مصر منصورين مؤيدين وكانت هذه النصرة بخلاف المظنون وكان رجوعهم يـوم الأربعـاء غرة شهر شعبان‏.‏

وفي ليلة السبت رابع شعبان حضر كاشف وصحبته جملة من المماليك وكان هذا الكاشف مأسورًا عند القبالي فلما انهزموا أذنوا له بالرجوع إلى بيته وانضـم إليـه عـدة مماليـك ماتـت أسيادهم فلما حضروا عند اسمعيل بك فرقهم على الأمراء‏.‏

وفـي سابعـه أحضـروا رمـة علـي أغـا المعمـار إلـى بيتـه فغسلـوه وكفنـوه وصلـوا عليـه فـي مشهد حافل ودفنوه بالقرافة‏.‏

وفيه تقلد حسن بك الجداوي ولاية جرجا وجاءت الأخبار بأن القبليين استقروا بشرق أولاد يحيى‏.‏

وفي أخر شعبان سافر حسن بك الجداوي إلى جرجا وصحبتـه كشـاف الولايـات وحكـام الأقاليم فضج لنزولهم ساحل البحر بسبب أخذهم المراكب‏.‏

وفي منتصف شهر رمضان ولدت امرأة مولودًا يشبه خلقة الفيل مثل وجهه وآذانه وله نابان خارجان من فمه وأبوه رجل جمال وامرأته لما رأت الفيل وكانت في أشهر وحامها نقلت شبهه في ولدها وأخذه الناس يفترجون عليه في البيوت والأزقة‏.‏

وفي يوم الجمعة تاسع عشرين شهر رمضان ركب أمراء اسمعيل بك وصناجقه وعساكره في آخـر الليـل واحتاطـوا ببيـت اسمعيـل بـك الصغيـر أخـي علـي بـك الغـزاوي فركـب فـي مماليكـه وخاصتـه وخرج من البيت فوجدوا الطرق كلها مسدودة بالعسكر والأجناد فدخل من عطفة الفرن يريد الفرار وخرج على جهة قنطرة عمر شاه فوجد العسكر والأجناد أماه وخلفه فصار يقاتلهم ويتخلـص منهـم مـن عطفـة إلـى عطفة حتى وصل إلى عطفة البيدق وأصيب بسيف على عاتقه وسقطت عمامته وصار مكشوف الرأس إلى أن وصل إلى تجاه درب عبد الحق بالأزبكيـة فلاقـاه عثمـان بـك أحـد صناجـق اسمعيـل بـك فـرده وسقـط واحتاطـوا بـه فنـزل علـى دكـان في أسوأ حال مكشوف الرأس والدم خارج من كركه فعصبوا رأسه بعمامة رجل جمال وأخذه عثمان بـك إلـى بيتـه وتركـه وذهـب إلـى سيـده فأخبـره فخلـع عليـه فروة وفرسًا مرختًا وأرسلوا إليه الوالي فخنقه ووضعوه في تابوت وأرسلوه إلى بيته الصغير فبات به ميتًا وأخرجوه في صبحها في مشهـد ودفنـوه‏.‏

وكـان اسمعيـل بـك قـد استوحش منه وظهر عليه في أحكامه وأوامره وكلما أبرم شيئًاعارضـه فيـه‏.‏

وازدحـم النـاس علـى بيتـه وأقبلـت إليه أرباب الخصومات والدعاوى وصار له عزوة كبيرة وانضم إليه كشاف واختيارية وحدثته نفسه بالانفراد وتخيل منه اسمعيل بك فتركه وما يفعله وأظهـر أنـه مرمـود فـي عينيـه وانقطـع بالحريـم مـن أول شهـر رمضـان ثـم سافـر فـي أواخـره فـي النيـل لزيـارة سيـدي أحمـد البدوي ثم رجع وبيت مع أتباعه ومن يثق به وقاموا عليه وقتلوا كما ذكر‏.‏

ولما انقضى أمره شرع اسمعيل بك في إبعاد ونفي من كان يلوذ به وينتمي إليه فأنزلوا إبراهيم بك بلفيا ومحمد أغا الترجمان وعلي كتخدا الفلاح وبعض كشاف إلى بولاق وأراد قتل أخيه سليم آغا المعروف بتمرلنك فاقتدى نفسه بثلاثين ألف ريال ثم نفوه ثالث شوال ونفي إبراهيم بك بلفيا إلى المحلة‏.‏

وفي تلك الأيام قرر اسمعيل بك على كل بلد من القرى ثلثمائة ريال وهي أول سيآته‏.‏

وفي يوم الأحد ثاني عشرين شوال عملوا موكب المحم وأمير الحاج حسن بك رضوان‏.‏

وفي يوم الخميس رابع ذي القعدة تقلد عبد الرحمن بك عثمان صنجقية وكانت مرفوعة عنه وكذلك علي بك‏.‏

وفي يوم الاثنين ثامنه سافرت تجريدة لجهة الصعية للأمراء القبالي لأنهم تقووا واستولوا على البلـاد وقبضـوا الخـراج وملكـوا مـن جرجـا إلـى فـوق وحسـن بك أمير الصعيد مقيم وليس فيه قدرة على مقاومتهم ومنعوا ورود الغلال حتى غلا سعرهـا فعينـوا لهـم التجريـدة وسـر عسكرهـا رضوان بك وعلي الجوخدار وسليم بك وإبراهيم بك طنان وحسن بك سوق السلاح‏.‏

وفـي يـوم الأحـد حـادي عشريـن القعدة خرج اسمعيل بك إلى ناحية دير الطين وعزم على التوجه إلى قبلي بنفسه وأرسل الباشا فرمانات لسائر الأمراء والجاقلية وأمرهم جميعًا بالسفر فخرجوا جميعًا ونصبوا وطاقاتهم عند المعادي ونزل الباشا وجلس بقصر العيني وطلبوا طلبًا عظيمًا‏.‏

وفي يوم الجمعة عدى اسمعيل بك إلى البر الثاني وترك بمصر عبد الرحمن أغا مستحفظان كتخدا ورضوان بك بلفيا وعثمان بك طبل وإبراهيم بك قشطة صهره وحسين بك ومقادم الأبـواب لحفـظ البلد فكان المقادم يدورون بالطوف في الجهات ليلًا ونهارًا مع هدوء سر الناس وسكون الحال في مدة غياب الجميع‏.‏

وفي سادس شهر الحجة وصلت مكاتبات من اسمعيل بك ومن الأمراء الذين بصحبته بأنهم وصلـوا إلـى المنيـة فلـم يجـدوا بهـا أحـدًا من القبليين وأنهم في أسيوط ومعهم اسمعيل أبو علي من كبار الهوارة‏.‏

وفي سابع عشره حضر الوجاقلية الذين كانوا بالتجريدة وحضر أيضًا أيوب أغا وكان عنـد القبالـي فحضـر عنـد اسمعيـل بـك بأمـان واستأذنـه فـي التوجـه إلـى بيتـه ليـرى عيالـه فأذن له وأرسله صحبة الوجاقلية وسبب رجوع الوجاقلية لما رأى اسمعيل بك بعد الأمـراء وأراد أن يذهـب خلفهم فأمرهم بالرجوع للتخفيف وانقضت هذه السنة‏.‏

من مات في هذه السنة من الأعيان مـات الشريـف الصالـح المرشـد الواصـل السيـد محمـد هاشم الأسيوطي ولد بأسيوط وبيتهم يعرف ببيت فاضل نشأ ببلده على قدم الخير والصلاح وحضر دروس الشيخ حسن الجديري ثم ورد إلى مصر فحضر دروس كل من الشيخ محمد البليدي والشيخ محمد الشماوي والشيخ عطية الأجهوري وأخذ الطريق على الشيخ عبد الوهاب العفيفـي وكـان منقطعـاص للعبـادة متقشفـًا متواضعًا وكان غالب جلوسـه بالأشرفيـة ومسجـد الشيـخ مطهـر‏.‏

وكـان لا يزاحـم النـاس ولا يداخلهم في أحوال دنياهم ولهم فيه اعتقاد عظيم ويذهبون لزيارته ويقتبسون مـن إشارتـه واستخارتـه ويتبركـون بأجازتـه فـي الـأوراد والأسمـاء‏.‏

ويسافـر لزيـارة سيـدي أحمد البدوي ثم يعود إلى خلوته وربما مكث عند بعـض اصدقائـه أيامـًا بقصـد البعـد عـن النـاس عندمـا يعلمـون استقراره بالخلوة ويزدحمون في بيته بالأزبكية وصلوا عليه بالأزهر ودفن بالمجاورين رحمه الله‏.‏

ومات الشيخ الإمام الأديب الفاضل الفقيه أحد العلماء الأعلام الشيخ محمد بن إبراهيم العوفي المالكي لازم الشمس الحفني وأخاه الشيخ يوسف وحضر دروس الشيخ علي العدوي والشيخ عيسى البراوي وأفتى ودرس‏.‏

وكان شافعي المذهب فسعى فيه جماعة عند الشيخ الحفني فأحضره وأثبت عليه بخطه ما نقل عنه فتوعده فلحق بالشيخ علي العدوي وانتقل لمذهب مالك وكان رحمه الله عالمًا محصلًا بحاثًا متفننًا غير عسر البديهة شاعرًا ماجنًا خليعًا ومع ذلك كانت حلقة درسه تزيد على الثلثمائة في الأزهر‏.‏

مات رحمه الله مفلوجًا وحين أصابه المرض رجع إلى مذهب الشافعي وقرأ ابن قاسم بمسجد قريب من منزله ويحمله الطلبة إلى المسجد فيقرأ وهو يتلعثم لتعقد لسانه بالفالج مع ما كان فيه من الفصاحة أولًا ثم برئ يسيرًا ولم يلبث أن عاوده المرض وتوفي إلى رحمة الله تعالى‏.‏ ومات

الأديب الماهر الشيخ رمضان بن محمد المنصوري الأحمدي

الشهير بالحمامي سبط آل الباز ولد بالمنصورة وقرأ المتون على مشايخ بلده وانزوى إلى شيخ الأدب محمد المنصوري الشاعر فرقاه في الشعر وهذبه وبه تخرج وورد إلى مصر مرارًا وسمعنا من قصائده وكلامه الكثيـر ولـه قصائـد سنيـة فـي المدائـح الأحمديـة تنشـد فـي الجمـوع‏.‏

وبينـه وبيـن الأديب قاسم وعبد القادر المدني محاورات ومداعبات وأخبر أنه ورد الحرمين مـن مـدة ومـدح كـلًا مـن الشريـف والوزيـر وأكابـر الأعيـان بقصائـد طنانـة كـان ينشـد منهـا جملة مستكثرة مما يدل على سعة باعه في الفصاحـة‏.‏

ولـم يـزل فقيـرًا مملقـًا يشكـو الزمـان وأهليـه ويـذم جنـي بنيـه وبآخـرة تـزوج امـرأة موسـرة بمصر وتوجه بها إلى مكة فأتاه الحمام وهو في ثغر جدة في سنة تاريخه‏.‏

ومات الأمير يوسف بك الكبير وهو من أمراء محمد بك الذهب أقره في سنة ست وثمانين وزوجه بأخته وشرع في بناء ولده على بركة الفيل داخل درب الحمام تجاه جامع الماس وكان يسلك إليها من هذا الدب ومن طرق الشيخ الظلام وكان هذا الدرب كثير العطف ضيـق المسالك فأخذ بيوته بعضهًا شراء وبعضها غصبًا وجعلها طريقًا واسعة وعليها بوابة عظيمة‏.‏

وأراد أن يجعل إمام باب داره رحبة متسعة فعارضه جامع خير بك حديد فعزم على هدمه ونقلـه إلـى آخـر الرحبـة واستمـر يعمـر فـي تلـك الـدار نحـو خمـس سنـوات‏.‏

وأخـذ بيت الداودية الذي بجـواره وهدمه جميعه وأدخله فيها وصرف في تلك الدار أموالًا عظيمة فكان يبني الجهة مناه حتى يتمها بعد تبليطها وترخيمها بالرخام الدقي الخردة المحكم الصنعة السقوف والأخشاب والرواشـن لـه شيطانـه فيهدمهـا إلى آخرها ويبنيها ثانيًا على وضع آخر‏.‏

وهكذا كان دأبه واتفق أنـه ورد إليـه مـن بلـاده القبليـة ثمانـون ألـف أردب غلـال فوزعهـا بأسرها على الموازنة في ثمن الجبس والجير والأحجار والأخشاب والحديد وغير ذلك‏.‏

وكان فيه حدة زائدة وتخليط في الأمور والحركـات ولا يستقـر بالمجلـس بـل يقـوم يقعـد ويصـرخ ويـروق حالـه فـي بعـض الأوقـات فيظهـر فيه بعض إنسانيـة ثـم يتغيـر ويتعكـر مـن أدنـى شـيء‏.‏

ولمـا مـات سيـده محمـد بـك وتولـى إمارة الحج ازداد عتوًا وعسفًا وانحرافًا خصوصًا مع طائفة الفقهاء والمتعممين لأمور نقمها عليهم منها أن شيخًا يسمى الشيخ أحمد صادومة وكان رجلًا مسنًا ذا شبية وهيبة وأصله من سمنود وله شهرة عظيمة وبـاع طويل في الروحانيات وتحريك الجمادات والسميات ويكلم الجن ويخاطبهم مشافهة ويظهرهم للعيان كما أخبرني عنه من شاهده وللناس اختلاف في شانه وكان للشيخ الكفراوي به التئام وعشرة ومحبة أكيدة واعتقاد عظيم ويخبر عنه أنه من الأولياء وأرباب الأحوال والمكاشفات بل يقول أنه هو الفرد الجامع ونوه بشأنه عند الأمراء وخصوصًا محمد بك أبا الذهب فراج حال كـل منهمـا بالآخـر‏.‏

فاتفـق أن الأمير المذكور اختلى بمحظيته فرأى على سوأتها كتابة فسألها عن ذلك وتهددها بالقتل فأخبرته أن المرأة الفلانية ذهبت بها إلى هذا الشيخ وهو الذي كتب لها ذلـك ليحببهـا إلـى سيدهـا فنـزل فـي الحـال وأرسـل فقبـض على الشيخ صادومة المذكور وأمر بقتله وإلقائه في البحر ففعلوا به ذلك وأرسل إلى داره فاحتاط بما فيها فأخرجوا منها أشياء كثيرة وتماثيـل ومنهـا تمثـال من قطيفة على هيئة الذكر فأحضروا له تلك الأشياء فصار يريها للجالسين عنده والمترددين عليه من الأمراء وغيرهم ووضع ذلك التمثال بجانبه على الوسادة فيأخذه بيده ويشير لمن يجلس معه ويتعجبون ويضحكون وعزل الشيخ حسن الكفراوي من إفتاء الشافعية ورفع عنه وظيفة المحمدية وأحضر الشيخ أحمد بن يوسف الخليفي وخلع عليه وألبسه فروة وقـرره فـي ذلـك عوضـًا عـن الشيـخ الكفـراوي‏.‏

واتفـق أيضًا أن الشيخ عبد الباقي ابن الشيخ عبد الوهاب العفيفـي طلـق علـى زوج بنـت أخيـه فـي غيابـه علـى يـد الشيـخ حسـن الجـداوي المالكـي علـى قاعدة مذهبه وزوجها من آخر وحضر زوجها من الفيوم وذهب إلى ذلك الأمير وشكا له الشيـخ عبـد الباقـي فطلبـه فوجده غائبًا في منية عفيف فأرسل إليه أعوانًا أهانوه وقبضوا عليه ووضعـوا الحديـد فـي رقبتـه ورجليـه وأحضـره فـي صـورة منكـرة وحبسـه فـي حاصـل أرباب الجرائم مـن الفلاحيـن‏.‏

فركـب الشيـخ علـي الصعيـدي العـدوى والشيـخ الحـداوي وجماعة كثيرة من المتعممين وذهبـوا إليـه وخاطبـه الشيـخ الصعيـدي فقـال لـه‏:‏ هـذا قـول فـي مذهـب المالكيـة معمول به فقال‏:‏ من يقول أن المرأة تطلق زوجها إذا غاب عنها وعندها ما تنفقه ومـا تصرفـه ووكيلـه يعطيهـا مـا تطلبـه ثـم يأتـي من غيبته فيجدها مع غيره‏.‏

فقالوا له‏:‏ نحن أعلم بالأحكام الشرعية‏.‏

فقال‏:‏ لو رأيت الشيخ الذي فسخ النكاح‏.‏

فقال الشيخ الجداوي‏:‏ أنا الذي فسخت النكاح على قاعدة مذهبـي‏.‏

فقـام علـى أقدامـه وصـرخ وقـال‏:‏ واللـه أكسـر رأسـك‏.‏

فصـرخ عليـه الشيـخ علـي الصعيدي وسبه وقال له‏:‏ لعنك الله ولعن اليسرجي الذي جاء بك ومن باعك ومن اشتراك ومن جعلك أميرًا‏.‏

فتوسط بينهم الحاضرون من الأمراء يسكنون حدته وحدتهم وأحضروا الشيخ عبد الباقي من الحبس فأخذوه وخرجوا وهم يسبونه وهو يسمعهم‏.‏

واتفق أيضًا أن الشيخ عبد الرحمـن العريشـي لمـا توفـي صهـره الشيـخ أحمد المعروف بالسقط وجعله القاضي وصيًا على أولاده وتركته وكان عليه ديون كثيرة أثبتها أربابها بالمحكمة واستوفوها وأخذ عليهم صكوكًا بذلك ذهبـت زوجـة المتوفـى إلى يوسف بك بعد ذلك بنحو ست سنوات وذكرت له أن الشيخ عبد الرحمن انتهب ميراث زوجها وتواطأ مع أرباب الديون وقاسمهم فيما أخذوه فأحضر الشيخ عبد الرحمن وكان إذ ذاك مفتي الحنفية وطالبه بإحضار المخلفات أو قيمتها فعرفه أنه وزعها على أرباب الديون وقسم الباقي بين الورثة وانقضى أمرها وأبرزله الصكوك والحجج ودفتر القسام فلم يقبل وفاتحه في عدة مجالس وهو مصر على قوله وطلبه للتركة‏.‏

ثم أحضره يومًا وحبسـه عنـد الخازنـدار فركب شيخ السادات إليه وكلمه في أمره وطلبه من محبسه‏.‏

فلما علم الشيخ عبد الرحمن حضور شيخ السادات هناك رمى عمامته وفراجته وتطور وصرخ وخرج يعدو مسرعًا ونزل إلى الحوش صارخًا بأعلى صوته وهو مكشوف الرأس فلما عاينه يوسف بك وهو يفعل ذلك احتد الآخر وكان جالسًا مع شيخ السادات في المقعد المطل على الحوش فقام على أقدامه وصار يصرخ على خدمه ويقول‏:‏ امسكوه اقتلوه ونحو ذلك وشيخ السادات يقـول لـه‏:‏ أي شـيء هـذا الفعـل اجلـس يا مبارك وأرسل إليه تابعة الشيخ إبراهيم السندوبي فنزل إليـه وألبسـه عمامتـه وفراجتـه ونـزل الشيـخ فركـب وأخـذ صحبتـه إلـى داره وتلافـوا القضيـة وسكتوهـا ثـم حصـل منـه مـا حصل في الدعوى المتقدمة وما ترتب عليها من الفتنة وقفل الجامع وقتـل الأنفـس وثقـل أمـره علـى مـراد بـك وأضمـر لـه السـوء فلمـا سافـر أميرًا بالحج في السنة الماضية قصد مراد بك اغتياله أو نفيه عند رجوعه بالحج واتفق مع أمرائه وضايع القضية وسافر إلى جهـة الغربيـة والمنوفيـة وعسـف فـي البلاد ويريد أن يجعل عوده على نصف الشهر في أوان رجوع الحج‏.‏

ووصل الخبـر إلـى يوسـف بـك فاستعجـل الحضـور فصـار يجعـل كـل مرحلتيـن فـي مرحلـة حتـى وصـل محترسـًا فـي سابـع صفـر قبل حضور مراد بك من سرحته وعندما قرب وصول مراد بك إلى دخول مصر ركب يوسف بك في مماليكه وطوائفه وعدده وخرج إلى خارج البلد فسعى إبراهيـم بـك بينهمـا وصالحهمـا واستمـرت بينهمـا المنافرة القلبية من حينئذ إلى أن حصل ما حصل وانضم إلى اسمعيل بك ثم قتله اسمعيل بك بيد حسن بك واسمعيل بك الصغير كما تقدم‏.‏

ومات الأمير علي أغا المعمار وهو من مماليك مصطفى بك المعروف بالقرد وخشداش صالح بك الكبيـر وكـان مـن الأبطـال المعروفيـن والشجعـان المعدوديـن فلمـا قتـل كبيرهـم صالـح بـك استمـر فـي بلـاد قبلي على ما يتعلق به من الالتزام ويدفع ما عليه من المال والغلال إلى أن استوحش محمد بك أبو الذهب من سيده علي بك وخرج إلى الصعيد وقتل خشداشة أيوب بك وتحقـق الأجانب بذلك صحة العداوة فأقبلوا على محمد بك من كل جانب برجالهم وأموالهم ومنهم علي أغا المذكور وكان ضخمًا عظيم الخلقة جهوري الصوت شهمًا يصدع بالكلام فأنس به محمد بك وأكرمه واجتهـد هـو فـي نصرتـه ومناصحتـه وجمـع إليـه الأمـراء والأجنـاد المنفييـن والمطرودين الذين شتتهم علي بك وقتل أسيادهم وكبار الهوارة الذين قهرهم علي بك أيضًا واستولـى علـى بلادهـم مثـل أولادهـم وأولـاد نصيـر وأولـاد وافي واسمعيل أبي علي وأبي عبد الله وغيرهـم وحضـر معـه الجميـع إلـى جهـة مصـر كمـا تقـدم‏.‏

ولمـا وصـولا إلـى تجـاه التبيـن وأبرج لهم علي بـك التجريـدة وأميرهـا علـي بـك الطنطـاوي خـرج علي أغا هذا إلى الحرب هو ومن معه وبأيديهم مساوق غلاظ قصيرة ولها جلب حديد وفي طفها أزيد من قبضة بها مسامير متينة محددة الـرؤوس إلـى خـارج يضربـون بهـا خـودة الفـارس ضربـة واحـد فتنخسـف في دماغه وكانت هذه من مبتكرات المترجم حتى أنه سمي بأبي الجلب‏.‏

ولما خلصت إمارة مصر إلى محمد بك جعل كتخداه اسمعيل أغا أخا علي بك الغزاوي المذكور فنقم عليه أمورًا فأهمله وأحضر علي أغا هـذا وخلـع عليـه وجعلـه كتخـداه فسـار فـي النـاس سيـرًا حسنـًا ويقضـي حوائـج النـاس من غير تطلع إلـى شـيء ويقـول الحـق ولو على مخدومه وكان مخدومه أيضًا يحبه ويرجع إلى رأيه في الأمور لما تحققه فيه من المناصحة وعدم الميل إلى هوى النفس وعرض الدنيا وكان يحب أهـل العلـم والفضل والقرآن ويميل بكليته إليهم مع لين الجانب والتواضع وعدم الأنفة‏.‏

ولما أنشأ محمد بك مدرستـه المحمدية تجاه الأزهر وقرر فيها الدروس كان يحضر معنا المترجم على شيخنا الشيخ علي العدوي في صحيح البخاري مع الملازمة واتخذ لنفسه خلوة بالمدرسة المذكورة يستريح فيها وتأتيه أرباب الحوائج فيقضي لهم أشغالهم وكان يلم بحضرة الشيخ محمد حفيد الأستاذ الحنفـي ويحبـه وأخـذ عنه طريق السادة الخلوتية وحضر دروسه مع المودة وحسن العشرة ويحضر ختوم دروس المشايخ ويقرأ عشرًا من القرآن بأعلى صوته عند تمام المجلس ومملوكه حسن أغا الـذي زوجـه ابنتـه واشتهر بعده وحج المترجم في السنة الماضية في هيئة جليلة وآثار جميلة‏.‏

وتوفي في وقعة بياضة قتيلًا كما تقدم‏.‏

ومات الأمير اسمعيل بك الصغير وهو أخو علي بك الغزاوي وهم خمسة أخوة‏:‏ علي بك واسمعيل بك هذا وسليم أغا المعروف بتمرلنك وعثمان وأحمد ولما تأمر علي بك كان أخوته الأربعيـة باسلامبـول مماليـك عند بشير أغا القزلار وأعتقهم وتسامعوا بإمارة أخيهم بمصر فحضر إليـه اسمعيـل وأحمـد وسليم واستمر عثمان باسلامبول وأقام اسمعيل وسليم وأحمد بمصر وعمل اسمعيـل كتخـدا عنـد أخيـه علي بك وعمل سليم خازندار عند إبراهيم كتخدا أيامًا ثم قامت عليـه مماليكـه وعزلـوه لكونـه أجنبيـًا مننهـم وصـار لهـم أمـرة وبيوت والتزام‏.‏

وتزوج اسمعيل بهانم ابنة رضـوان كتخدا الجلفي وهي المسماة بفاطمة هانم وذلك أن رضوان كتخدا كان عقد لها على مملوكـه علـي أغـا الذي قلده الصنجقية ولم يدخل بها ولما خرج رضوان كتخدا وخرج معه علي المذكور فيمن خرج كما تقدم وذهب إلى بغداد أرسل يطلبها إليه من مصر وأرسل لها مع وكيلـه عشـرة آلـاف دينـار وأشيـاء فلـم يسلمـوا فـي إرسالها وكتبوا فتوى بفسخ النكاح على قاعدة مذهب مالك وتزوجها اسمعيل أغا هذا وظهر ذكره بها وسكن بها فـي دار أبيهـا العظيمـة بالأزبكيـة وصـار من أرباب الوجاهة‏.‏

فلما استقل محمد بك أو الذهب بملك مصر بعد سيده استوزره وجعله كتخداه مدة وأراد أن يتزوج بالست سلن محظية رضوان كتخدا وكان تزوج بها أخوه علي بك ومات عنها فصرفه مخدومه محمد بك أبو الذهب وعرفه أنها ربما امتنعت عليـه مراعـاة لهـا ثـم ابنـة سيدهـا فركب محمد بك وأتى عند علي أغا كتخدا الجاويشية المجاور لسكنها بدرب السادات وأرسل إليها علي أغا فلم يمكنها الامتناع فعقد عليها وماتت هانم بعد ذلك وباع بيت الأزبكية لمخدومه محمد بك وبنى داره المجاورة لبيت الصابونجي وصرف عليها أموالها كثيرة وأضاف إليها البيت الذي عند باب الهواء المعـروف ببيـت المرحـوم مـن الشرايبيـة‏.‏

وسكنهـا مـدة وزوجـه محمـد بـك سرية من سراريه أيضًا ثم باع تلك الدار لأيوب بك الكبيـر وسكنهـا‏.‏

ولمـا سافـر محمـد بـك إلـى الشـام ومحاربـة الظاهـر عمـر أرسـل المترجـم مـن هاك إلى اسلامبـول بهدايـا وأمـوال للدولـة ومكاتبات بطلب ولاية مصر والشام وأجيب إلى ذلك‏.‏

وكتب له التقليـد وأعطـوه رقـم الـوزارة وتـم الأمر وأراد المسير بذلك إلى محمد بك فورد الخبر بموته فبطل ذلـك ورجـع المترجـم إلـى مصـر وأقـام بهـا فـي ثـروة إلـى أن حصلـت الوحشـة بيـن اسمعيـل بـك ويوسـف بك والجماعة المحمدية وكانت الغلبة عليهم فقلده اسمعيل بك الصنجقية وقدمه في الأمور ونوه بشأنه وأوهمه أنه يريد تفويض الأمور إليه لما يعلمه فيه من العقل والرئاسة فاغتر بذلك وباشر قتـل يوسـف بـك هـو وحسـن بـك الجـداوي كمـا تقـدم وظن أن الوقت صفا له‏.‏

فاندفع في الرئاسة وازدحمت الرؤوس عليه وأخذ في النقض والإبرام فعاجله اسمعيل بك وأحاطوا به وقتلوا كما ذكر وكان ذا دهاء ومعرفة وفيه صلابة وقوة جنان وخرم مع التواضع وتهذيب الأخلاق وكان يحب أهل العلم ويكره النصارى كراهـة شديـدة وتصـدى لأذيتهـم أيـام كتخدائيتـه لمحمـد بـك وكتـب فـي حقهـم فتـاوى بنقضهـم العهـد وخروجهـم عـن طرائفهـم التـي أخـذ عليهـم بهـا مـن أيـام سيدنا عمر رضي الله عنه ونادى عليهم ومنعهم من ركوب الحمير ولبسهم الملابس الفاخرة وشرائهم الجواري والعبيد واستخدامهم المسلمين وتقنع نسائهم بالبراقع البيض ونحو ذلك‏.‏

وكذلك فعل معهـم مثـل ذلـك عندمـا تلبـس بالصنجقيـة وكـان لـه اعتقـاد عظيـم فـي الشيـخ محمـد الجوهري ويسعى بكليته في قضاء أشغاله وحوايجه وكان لا بأس به‏.‏

ومـات الأميـر قاسـم كتخـدا عزبـان وكـان مـن مماليك محمد بك أبي الذهب وتقلد كتخدائية العزب وأمين البحرين وكان بطلًا شجاعًا موصوفًا ومال عن خشداشيته كراهة منه لأفعالهم حتى خرج إلى محاربتهم وقتل غفر الله له‏.‏

سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف فـي يـوم الخميـس سابـع المحـرم حضر اسمعيل كتخدا عزبان وبعض صناجق اسمعيل بك وفي يوم السبـت تاسعـه وصل اسمعيل بك وعدى من معادي الخبيري ودخل إلى مصر وذهب إلى بيته وكثر الهرج في الناس بسبب حضوره ومن وصل قبله على هذه الصورة‏.‏

ثم تبين الأمر بأن حسـن بك الجداوي وخشداشينه وهم رضوان بك وعبد الرحمن بك وسليمان كتخدا وتبعهم حسن بك سوق السلاح وأحمد بك شنن وجماعة الفلاح بأسرهم وكشاف ومماليـك وأجنـاد ومغاربة خامر الجميع على اسمعيل بك والتفوا على إبراهيم بك ومراد بك ومن معهم فعند ذلـك ركب اسمعيل بك بمن معه وطلب مصر حتى وصلها في أسرع وقت وهو في أشد ما يكون من القهر والغيظ‏.‏

وأصبح يوم الأربعاء فأرسل اسمعيل بك ومنع المعادي من التعدية‏.‏

وفي يوم الاثنين طلعوا إلى القلعة وعملـوا ديوانـًا عنـد الباشـا وحضـر الموجوديـن مـن الأمـراء والوجاقلية والمشايخ وتشاوروا في هذا الشأن فلم يستقر الرأي على شيء ونزلوا إلى بيوتهم وشرعوا في توزيع أمتعتهم وتعزيل بيوتهم واضطربت أحوالهم وطلب اسمعيل بك تجار إليها والمباشريـن وطلب منهم دراهم سلفة فدخل عليه الخبيري وأخبره بأن الجماعة القبليين وصلت أوائلها إلى البساتين وبعضهم وصل إلى بر الجيزة بالبر الآخر‏.‏

فلما تحقق ذلك أمر بالتحميل وخرجوا من مصر شيئًا فشيئًا من بعد العصر إلى رابع ساعة من الليل ونزلوا بالعادلية وذلك ليلـة الثلاثـاء رابـع عشـر المحـرم وهـم اسمعيـل بـك وصناجقـة إبراهيـم بـك قشطـة وحسيـن بـك وعثمـان بك طبل وعثمـان بـك قفـا الثـور وعلـي بـك الجوخـدار وسليـم بـك وإبراهيـم بـك طنـان وإبراهيـم أوده باشـه وعبـد الرحمـن أغـا مستحفظـان واسمعيل كتخدا عزبان ويوسف أغا الوالي وغيرهم وباتت النـاس فـي وجـل‏.‏

وأصبـح يـوم الثلاثـاء وأشيـع خروجهـم ووقع النهب في بيوتهم وركبوا في صبح ذلـك اليـوم وذهبـوا إلـى جهـة الشـام فكانـت مـدة إمـارة اسمعيـل بـك وأتباعـه علـى مصر في هذه المرة ستة أشهر وأيامًا بما فيها من أيام سفره إلى قبلي وجوعه‏.‏

وعدى مراد بك ومصطفى بك وآخـرون فـي ذلـك اليـوم وكذلـك إبراهيـم أغـا الوالـي الـذي كـان فـي أيامهـم وشـق المدينـة ونـادى بالأمان وأرسل إبراهيم بك يطلب من الباشا فرمانًا بالإذن بالدخول فكتب لهم الباشا فرمانًا وأرسله صحبة ولده وكتخدائه وهو سعيد بك‏.‏

فدخل بقية الأمراء يوم الأربعاء ما عدا إبراهيم بك فإنه بات بقصر العيني ودخل يوم الخميس إلى داره وصحبته اسمعيل أبو علي كبي من كبار الهوارة‏.‏

وفي يوم الأحد ثامن عشرة طلعوا إلى الديوان وقابلوا الباشا وخلع عليهم خلع القدوم ونزلوا إلى بيوتهم‏.‏

وفـي يـوم الخميـس حـادي عشرينـه طلعـوا أيضـًا إلى الديوان فخلع الباشا على إبراهيم بك واستقر في مشيخة البلد كما واستقر أحمد بك شنن صنجقًا كما كان وتقلد عثمان أغا خازندار إبراهيـم بـك صنجقيـة وهـو الـذي عرف بالأشقر وقلدوا مصطفى كاشف المنوفية صنجقية أيضًا وعلي كاشف أغات مستحفظان وموسى أغا من جماعة علي بك واليًا كما كان أيام سيده‏.‏

وفي أواخره وردت أخبار بأن اسمعيل بك ومن معه وصلوا إلى غزة واستقر المذكورين بمصر علوية ومحمدية والعلوية شامخة على المحمدية ويرون المنة لأنفسهم عليهم والفضيلة لهم بمخامرتهم معهم ولولا ذلك ما دخلوا إلى مصر ولا يمكن المحمدية التصرف في شيء إلا بإذنهم ورأيهم بحيث صاروا كالمحجوز عليهم لا يأكلون إلا ما فضل عنهم‏.‏

وفـي يـوم الخميس ثامن شهر من جمادى الأولى حضر إلى مصر إبراهيم بك أوده باشه من غزة مفارقـًا لاسمعيـل بـك وقـد كان أرسل قبل وصوله يستأذن في الحضور فأذنوا له وحضر وجلس في بيته وتخيل منه رضوان بك وقصد نفيه فالتجأ إلى مراد بك وانضم إليه‏.‏

فلما كان يوم السبت سابع عشر جمادى الأولى ركب مراد بك وخرج إلى مرمى النشاب منتفخًا من القهر مفكرًا في أمره مع العلوية فحضر إليه عبد الرحمن بك وعلي بك الحبشي من العلوية فعندما أراد عبـد الرحمـن بـك القيـام عاجلـه مـراد بـك ومـن معـه وقتلـوه وفـر علـي بـك الحبشي وغطى رأسه بفوقانيتـه وانـزوى فـي شجر الجميز فلم يروه‏.‏

فلما ذهبوا ركب وسار مسرعًا حتى دخل على حسـن بـك الجـداوي فـي بيتـه وركـب مـراد بـك وذهـب إلـى بيتـه‏.‏

واجتمـع علـى حسـن بك أغراضه وعشيرتـه وأحمـد بك شنن وسليمان كتخدا وموسى أغا الوالي وحسن بك رضوان أمير الحاج وحسن بك سوق السلاح وإبراهيم بك بلفيا وكرنكوا في بيت حسن بك الجداوي بالداودية وعملوا متاريس ي ناحية باب زويلة وناحية باب الخرق والسروجية والقنطرة الجديدة‏.‏

واجتمع علـى مـراد بـك خشداشينـه وعشيرتـه وهـم مصطفـى بـك الكبيـر ومصطفـى بك الصغير وأحمد بك الكلارجي وركب إبراهيم بك من قبة العزب وطلع إلى القلعة وملك الأبواب وضرب المدافع علـى بيـت حسـن بـك الجـداوي بالداوديـة وعملـوا متاريـس فـي ناحيـة بـاب زويلـة وناحية باب الخرق والسروجية والقنطرة الجديدة‏.‏

واجتمع على مراد بك خشداشينه وعشيرته وهم مصطفى بك الكبيـر ومصطفـى بـك الصغيـر وأحمـد بـك الكلارجـي وركـب إبراهيـم بـك مـن قبـة العزب وطلع إلى القلعـة وملـك الأبـواب وضـرب المدافـع علـى بيـت حسـن بـك الجـداوي ووقع الحرب بينهم بطول نهار يوم السبت وغلقت الأسواق والحوانيت وباتوا على ذلك ليلة الأحد ويوم الأحد والضرب من الفريقيـن فـي الأزقـة والحـارات رصـاص ومدافـع وقرابيـن ويزحفـون علـى بعضهـم تـارة ويتأخـرون أخرى وينقبون البيوت على بعضهم‏.‏

فحصل الضرر للبيوت الواقعة في حيزهم من النهب والحرق والقتـل‏.‏

ثـم أن المحمديـة تسلـق منهـم طائفـة مـن الخليـج وطلعـوا مـن عنـد جامـع الحيـن مـن بين المتاريس وفتحوا بيت عبد الرحمن أغا من ظاهره وملكوه وركبوا عليـه المدافـع وضربـوا علـى بيـت للجـداوى فعنـد ذلـك عايـن العلويـة الغلـب فركبوا وخرجوا من باب زويلة إلى باب النصر والمحمدية خلفهم شاهرين السيوف يخجون بالخيل فلما خرجوا إلى الخلاء التقوا معهم فقتل حسن بك رضـوان أميـر الحـاج وأحمـد بـك شنـن وإبراهيم بك بلفيا المعروف بشلاق وغيرهم أجناد وكشاف ومماليك وفر حسن بك الجداوي ورضوان بك وكان ذلك وقت القائلة من يوم الأحد وكـان يومـًا شديـد الحر‏.‏

ولم يقتل أحد من المحمديين سوى مصطفى بك الكبير أصابته رصاصة في كتفه انقطع بسببها أيامًا ثم شفي‏.‏

وأما حسن بك ورضوان بك فهربا في طائفة قليلة وخرج عليهما العربان فقاتلوهما قتالًا شديدًا وتفرقا من بعضهما وتخلص رضوان بـك وذهـب فـي خاصتـه إلـى شيبيـن الكـوم‏.‏

وأمـا حسـن بـك الجـداوي فلـم تزل العرب تحاوره حتى أضعفوه وتفرق مـن حوله وشيخ العرب سعد صحصاح يتبعه ثم حلق عليه رتعة شيخ عرب بلي فتقنطر به الحصان في مبلة كتان فقبضوا عليه وأخذوا سلاحه وعروه وكتفوه وصفعه رتيمة على قفاه ووجه ثم سحبوه بينهم ماشيًا على أقدامه وهو حاف وأرسلوا إلى الأمراء بمصر يخبرونهم بالقبض عليه وكان السيد إبراهيم شيخ بلقس لما بلغه ذلك ركب إليه وخلصه من تلك الحالة وفـك كتافـه وألبسـه ثيابـًا وأعطـاه دراهـم ودنانيـر‏.‏

فلمـا بلـغ الخبـر إبراهيم بك ومراد بك أرسلوا له كاشفـًا فلمـا حضـر إليـه وواجهـه لاطفـه ثـم دخـل إلـى مصـر وسـار إلـى بولـاق ودخل إلى بيت الشيخ أحمـد الدمنهوري فركب جماعة كثيرة من المحمدية وذهبوا إلى بولاق وطلبوه فامتنع منن إجابتهم فلـم يجسـروا علـى أخـذه قهـرًا مـن بيـت الشيـخ فداخلـه الوهـم وطلـع إلـى السطـح ونـط إلـى سطـح آخـر ولـم يـزل حتـى نـزل بالقرب من وكالة الكتان فصادف بعض المماليك فضربه وأخذ حصانه وركبه وذهب رامحًا بمفرده وأشيع هروبه فركبت الأجناد وحلقوا عليه الطرق فصار يقاتل من يدركه ولـم يجـد طريقـًا مسلوكـًا إلـى الخـلاء فدخـل المدينـة وذهـب إلـى بيت إبراهيم بك فوجده جالسًا مع مـراد بـك فاستجـار بإبراهيـم بـك فأجـاره وأمنـه ومكـث فـي بيتـه خمسـة أيـام وهـو كالمختـل فـي عقله ممـا قاسـاه مـن معاينـة المـوت مـرارًا‏.‏

ثـم رسمـوا لـه أن يذهـب إلـى جـدة وأرسلـوه إلى السويس في يوم الأربعاء ثامن عشرين جمادى الأولى في محفة‏.‏

فلما أنزل بالمركب أمر الريس أن يذهب به إلى القصير فامتنع فأراد قتله فذهب بالمركب إلى القصير فطلـع إلـى الصعيـد وأمـا حسـن بـك سوق السلاح فإنه التجأ إلـى حريـم إبراهيـم بـك وعلـي بـك الحبشـي وسليمـان كتخـدا دخـلا إلـى مقـام سيدي عبد الوهاب الشعراني وحمزة بك ذهب إلى بيته لكونه كان بطالًا فلم يداخله الرعب كغيـره وهـرب موسـى أغـا الوالـي إلى شبرا‏.‏

ثم أنهم رسموا بنفي علي بك الحبشي وحسن بك وسليمـان كتخـدا إلـى رشيـد وأحضـروا موسـى أغـا الوالـي إلـى بيته بشفاعة علي أغا مستحفظان وأرسلوا لرضوان بك الإذن بالإقامة في شيبين وبنى له بها قصرًا على البحر وجلس فيه وانقضت هذه الحادثة الشنيعة‏.‏

وفـي يـوم الخميـس غايـة جمـادى الأولـى عملـوا ديوانـًا بالقلعة وقلدوا أيوب بك الكبير صنجقية وكان اسمعيـل بـك رفعهـا عنـه ونفـاه إلـى دميـاط ثـم نقلـه إلـى طندتـا فلمـا رجـع خداشينه مع العلوية طلبوه إلى مصر وأرادوا رد صنجقيته فلم يرض حسن بك الجداوي فأقام بمصر معزولًا حتى وقعت هذه الحادثة فرجع كما كان‏.‏

وقلدوا أيوب بك كاشف خازندار محمد بك أبي الذهب كما كـان صنجقيـة أيضـًا وعرف بأيوب بك الصغير وقلدوا سليمان بك أبا نبوت صنجقية أيضًا كما كان وقلدوا إبراهيم أغا الوالي سابقًا صنجقية وركبوا في مواكبهم إلى بيوتهم وضربت لهم الطبلخانات‏.‏

وفـي يـوم الخميـس سابـع جمادى الثانية طلعوا إلى الديوان وقلدوا سليمان أغا مستحفظان سابقًا صنجقية وقلدوا يحيى أغا خازندار مراد بـك صنجقيـة أيضـًا وقلـدوا علـي أغـا خازنـدار إبراهيم بك صنجقية أيضًا وهو الذي عرف بعلي بك أباظة‏.‏

وفيـه حضـر إلـى مصـر سليمـان كتخـدا الشرايبـي كتخـدا اسمعيـل بـك وعلـى يده مكاتبة من اسمعيل بـك مضمونهـا يريـد الـإذن بالتوجـه إلـى أخميم أو إلى السرور رأس الخليج يقيم هناك ويبقى إبراهيم بك قشطة بمصر رهينة ويكون وكيله في تعلقاته وقبض فائظه والصلح أحسن وأولى فعملوا ديوانـًا وأحضـروا المشايـخ والقاضي وعرضوا عليهم تلك المكاتبة وتشاوروا في ذلك فانحط الرأي بـأن يرسلـوا له جوابًا بالسفر إلى جدة من السويس ويطلقوا له في كل سنة اربعين كيسًا وستة آلاف أردب غلال وحبوب وأن يرسل إبراهيم بك صهره كما قال إلى مصر ويكون كيلًا عنه ومن بصحبته من الأمراء يحضرون إلى مصر بالأمان ويقيمون برشيد ودمياط والمنصورة ونحو ذلك وأرسلوا المكاتبة صحبة سليم كاشف تمرلنك أخي اسمعيل بك المقتول وآخرين‏.‏

وفيـه رسمـوا بنفـي إبراهيـم بـك أوده باشـه وسليمـان كتخـدا الشرايبـي وكـان أشيـع تقليـد إبراهيـم بك الصنجقيـة فـي ذلـك اليـوم وتهيـأ لذلـك وحضـر في الصباح عند إبراهيم بك فلما دخل رأى عنده مـراد بـك فاختليـا معـه فأخـرج إبراهيـم بـك من جيبه مكتوبًا مسكوه عليه من اسمعيل بك خطابًا لـه مضمونـه أنـه بلغنـا مـا صنعت في إيقاع الفتنة بين الجماعة وهلاك الطائفة الخائنة وفيه أن يأخذ مـن الرجـل المعهـود كـذا مـن النقـود يوزعهـا علـى جهـات كناهـا لـه وربنـا يجمعنا في خير‏.‏

فلما تناوله مـن إبراهيـم بـك وقـرأه قـال فـي الجـواب‏:‏ كـل منكـم لا يجهـل مكايـد اسمعيـل بك وأنكر ذلك بالكلية‏.‏

فلـم يقبلـوا عـذره ولـم يصدقوه وقام وذهب إلى بيته‏.‏

فأرسلوا خلفه محمد كتخدا أباظة فأخذه وصحبتـه مملوكيـن فقـط ونـزل بـه إلـى بولاق ونفوه إلى رشيد وكذلك نفوا سليمان كتخدا الشرايبي واحتاطوا بموجود إبراهيم بك‏.‏

وفـي يوم الاثنين حادي عشر جمادى الثانية وصل إبراهيم باشا والي جدة وذهب إلى العادلية وجلس هناك بالقصر حتى شهلوه وسفروه إلى السويس بعدما ذهبوا إليه وودعوه وكان سفره يـوم الأحـد سابـع عشـر جمـادى الثانيـة‏.‏

وفـي ذلـك اليـوم حضـر جماعـة مـن الأجنـاد مـن ناحيـة غزة من الذين كانوا بصحبة اسمعيل بك‏.‏

وفي يوم الثلاثاء تاسع عشرة ركب الأمراء وطلعوا إلى باب الينكجرية والعزب وأرسلوا إلى الباشا كتخدا الجاويشبة وآغـات المتفرقـة والترجمـان وكاتـب حوالـة وبعـض الاختياريـة يأمرونـه بالنزول إلى بيت حسن بك الجداوي وهو بيت الداودية‏.‏

فلما قالوا له ذلك طلعوا إلى حوش الديـوان واجتمعـوا بـه حتـى امتـلأ منهـم فارتعـب الباشـا منهـم فركـب من ساعته ونزل من القلعة إلى بيت الداودية وأحضروا الجمال وعزلوا متاعه في ذلك اليوم فكانت مدة ولايته سنتين وثلاثة‏.‏ وفي

يوم الجمعة حادي عشرين شهر رجب الموافق لعاشر مسـري القبطـي

كـان وفـاء النيـل المبارك‏.‏

وفي يوم الاثنين ثاني عشرين شهر شعبان حضر من أخبر أن جماعة من الأجناد حضروا من ناحية غزو وصحبتهم عبد الرحمن أغا مستحفظان على الهجن ومروا من خلف الجرة وذهبوا إلىقبلـي وتخلـف عنهـم عبـد الرحمـن أغـا فـي حلـوان لغـرض مـن الأغـراض ينتظـره فـي مصـر فركب من ساعتـه مـراد بـك فـي عـدة وذهبـوا إلـى حلـوان ليلًا على حين غفلة واحتاطوا بها وبدار الأوسية وقبضوا على عبد الرحمن أغا وقطعوا رأسه ورجع مراد بك وشق المدينة والرأس أمامه على رمـح ثـم أحضـروا جثتـه إلـى بيتـه الصغيـر بالكعكييـن وغسلـوه وكفنـوه وخرجوا بجنازته وصلوا عليه بالماردانـي‏.‏

ثـم ألحقـوا بـه الـرأس فـي الرميلـة ودفنـوه بالقرافـة‏.‏

ومضـى أمـره وزاد النيـل فـي هـذه السنة زيادة مفرطة حتى انقطعت الطرقات من كل ناحية واستمر إلى آخر توت‏.‏

وفـي أواخـر رمضـان هـرب رضوان بك على من شيبين الكوم وذهب إلى قبلي فلما فعل ذلك عينـوا إبراهيـم بـك الوالـي فنـزل إلـى رشيـد وقبـض علـى علـي بـك الحبشـي وسليمـان كتخـدا وقتلهمـا وأما إبراهيم بك أوده باشه فهرب إلى القبطان واستجار به‏.‏

وفي تاسع عشر شوال خرج المحمل والحجاج صحبة أمير الحاج رضوان بك بلفيا وسافر من وفيه جاءت الأخبار بورود اسمعيل باشا والي مصر إلى الإسكندرية‏.‏

وفي يوم الخميس تاسع عشرين شوال ركب محمد باشا عزت منن الداودية وذهب إلى قصر العيني ليسافر‏.‏

وفي يوم الاثنين ثالث ذي القعدة نزل الباشا في المراكب وسافر إلى بحري‏.‏

وفـي منتصـف شهر القعدة المذكور نزل أرباب العكاكيز وهم علي أغا كتخدا جاوجان وآغات المتفرقة والترجمان وكاتب حوالة وأرباب الخدم وسافروا لملاقاة الباشا الجديد‏.‏

من مات في هذه السنة من أعيان العلماء والمشاهير مـات الشيـخ الإمـام العلامـة المتفنـن أوحد الزمان وفريد الأوان أحمد ابن عبد المنعم بن يوسف بن صيـام الدمنهـوري المذاهبي الأزهري ولد بدمنهور الغربية سنة 1101 وقدم الأزهر وهو صغير يتيـم لـم يكفلـه أحـد فاشتغـل بالعلـم وجـال فـي تحصيلـه واجتهـد فـي تكميله وأجازه علماء المذاهب الأربعـة وكانـت لـه حافظـة ومعرفـة فـي فنـون غريبـة وتآليـف وأفتى على المذاهب الأربعة ولكن لم ينتفع بعمله ولا بتصانيفه لبخله في بذله لأهله ولغير أهله وربما يبيح في بعض الأحيان لبعض الغربـاء فوائـد نافعـة وكـان لـه دروس في المشهد الحسيني في رمضان يخلطها بالحكايات وبما وقع له حتـى يذهـب الوقـت‏.‏

وولـي مشيخـة الجامـع الأزهـر بعـد وفـاة الشيـخ الحفنـي وهابتـه الأمـراء لكونـه كـان قـوالًا للحـق أمـارًا بالمعـروف سمحـًا بمـا عنده من الدنيا‏.‏

وقصدته الملوك من الأطراف وهادته بهدايا فاخرة وسائر ولاة مصر من طرف الدولـة كانـوا يحترمونـه وكـان شهيـر الصيـت عظيـم الهيبة منجمعًا عن المجالس والجمعيات‏.‏

وحج سنة 1177 مع الركب المصري وأتى رئيس مكة وعلماؤها لزيارته وعاد إلى مصر‏.‏

وتوفي يوم الأحد عاشر شهر رجب من السنة المذكورة وكـان مسكنـه ببولاق وصلي عليه بالأزهر بمشهد حافل جدًا وقرئ نسبه إلى أبي محمد البطل الغازي ودفن بالبستان وكان آخر من أدركنا من المتقدمين‏.‏

ومات الإمام العلامة المحقق والفهامة المدقق شيخنا الشيخ مصطفى ابن محمد بن يونس الطائي الحنفـي ولـد بمصـر سنة 1138 وتفقه على والده وبه تخرج وبعد وفاة والده تصدر في مواضعه ودرس وأفتى وكان إمامًا ثبتًا متقنًا مستحضرًا مشاركًا في العلوم والرياضيات فرضيًا حيسوبًا ولـه مؤلفـات كثيـرة فـي فنـون شتى تدل على رسوخه وكتب شرحًا على الشمائل وحاشية على الأشموني أجاد فيها وكان رأسًا في العلوم والمعارف توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى‏.‏

ومات سيدي أبو مفلح أحمد بن أبي الفوز بن الشهاب أحمد بن أبي العز محمد بن العجمي ويعرف بالشيشيني وكان كاتب الكني بمنزل السادات الوقائية وكان إنسانًا حسنًا بهيًا ذا تودد ومروءة وعنده كتب جيدة يعير منها لمن يثق له للمطالعة والمراجعة‏.‏

توفي يوم السبت آخر المحرم‏.‏

ومات شيخنا الإمام القطب وجيه الدين أبو المراحم عبد الرحمن الحسيني العلوي العيدروسي التريمي نزيل مصر ولد بعد الغروب ليلة الثلاثاء تاسع صفر سنة 1125 ووالده مصطفى بن شيخ مصطفى بن علي زين العابدين ابن عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن القطب الأكبـر عبـد اللـه العيـدروس بـن أبـي بكـر السكـران بـن القطـب عبـد الرحمن السقاف ابن محمد مولى الدويلـة بـن علـي بـن علـوي بـن محمـد مقـدم التربـة بتريـم ابـن علـي بـن محمـد بـن علـي بـن علـوي بـن محمـد بـن علـوي بـن عبـد اللـه بـن أحمـد العراقـي بـن عيسـى النقيـب بـن محمـد بـن علـي بـن جعفـر الصـادق بن محمد ابن علي بن الحسيـن بـن علـي بـن أبـي طالـب وأمـه فاطنـة ابنـة عبـد اللـه الباهـر ابـن مصطفـى بـن زين العابدين العيدروس نشأ على عفة وصلاح في حجر والده وجده وأجازه والده وجده وألبساه الخرقة وصافحاه وتفقه على السيـد وجيـه الديـن عبـد الرحمـن بـن عبـد اللـه بلفقيـه وأجازه بمروياته‏.‏

وفي سنة 1153 توجه صحبة والده إلى الهند فنزلا بندر الشحر واجتمع بالسيـد عبـد اللـه بن عمر المحضار العيدروس فتلقن منه الذكر وصافحه وشابكه والبسه الخرقة وأجازه إجازة مطلقة مع والده ووصلا بندر سورت واجتمع بأخيه السيد عبد الله الباصر وزارا مـن بهـا مـن القرابـة والأوليـاء ودخـلا مدينة بروج فزارا محضار الهند السيد أحمد بن الشيخ العيـدروس وذلـك ليلـة النصـف مـن شعبـان سنـة واحـد وستيـن‏.‏

ثـم رجعـا إلى سورة وتوجه والده إلـى تريـم وتـرك المترجـم عنـد أخيـه وخالـه زيـن العابديـن ابن العيدروس‏.‏

وفي أثناء ذلك رجع إلى بلـاد جـادة وظهـرت لـه فـي هـذه السفـرة كرامـات عـدة ثم رجع إلى سورت وأخذ إذ ذاك من السيد مصطفـى ابـن عمـر العيـدروس والحسيـن بن عبد الرحمن بن محمد العيدروس والسيد محمد فضل الله العيدروس إجازة السلاسل والطرق وألبسه الخرقة ومحمد فاخر العباسـي والسيـد غلـام علي الحسيني والسيد غلام حيدر الحسيني والبارع المحدث حافظ يوسف السورتي والعلامة عزيز الله الهندي والعلامة غياث الدين الكوكبي وغيرهم وركب من سورت إلى اليمن فدخل تريم وجدد العهد بذوي رحمه وتوجه منها إلى مكة للحج وكانت الوقفة نهار الجمعة‏.‏

ثم زار جده صلى الله عليه وسلم وأخذ هناك عن الشيخ محمد حياة السندي وأبي الحسن السندي وغبراهيم بن قيض الله السندي والسيد جعفر بن محمد البيتي ومحمد الداغستاني ورجع إلى مكـة فأخـذ عـن الشيـخ السنـد السيد عمر بن أحمد وابن الطيب وعبد الله ابن سهل وعبد الله بن سليمان ما جرمي وعبد الله بن جعفر مدهور ومحمد باقشير ثم ذهب إلى الطائف وزار الحبر بن عباس ومدحه بقصائد واجتمع إذ ذاك بالشيخ السيد عبد الله ميرغني وصار بينهما الـود الـذي لا يوصـف‏.‏

وفـي سنـة ثمان وخمسين أذن له بالتوجه إلى مصر فنزل إلى جدة وركب منها إلى السويس ومصر هرعت إليه أكابر مصر من العلماء والصلحاء وأربـاب السجاجيـد والأمـراء وصـارت لـه معهم المطارحات والمذاكرات ما هو مذكور في رحلته وجمع حواسه لنشر الفضائل وأخلاها عن السوي وهرعت إليه الفضلاء للأخذ والتلقي وتلقـى هـو عـن كـل مـن الشيخ الملوي والجوهري والحفني وأخيه يوسف وهم تلقوا عنه تبركًا وصار أوحد وقته حالًا وقالًا مع تنويه الفضلاء به وخضعت له أكابر الأمراء على اختلـاف طبقاتهـم وصـار مقبـول الشفاعـة عندهـم لا تـرد رسائلـه ولا يـرد سائلـه وطـار صيتـه فـي المشـرق والمغـرب‏.‏

وفي أثناء هذه المـدة تعـددت لـه رحلـات إلـى الصعيـد الأعلـى وإلـى طندتـا وإلى دمياط وغلى رشيد وإسكندرية وفوة وديروط واجتمع بالسيـد علـي الشاذلـي وكـل منهمـا أخـذ عـن صاحبـه‏.‏

وزار سيـدي إبراهيـم الدسوقـي ولـه فـي كـل هـؤلاء قصائـد طنانـة‏.‏

ثـم سافر إلى الشام فتوجه إلى غزة ونابلس ونـزل بدمشـق ببيـت الجناب حسين أفندي المرادي وهرعت إليه علماء الشام وأدباؤها وخاطبوه بمدائح واجتمع بالوزير عثمان باشـا فـي ليلـة مولـد النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم فـي بيـت السيـد علـي أفنـدي المـرادي ثـم رجـع إلـى بيـت المقدس وزار وعاد إلى مصر وتوجه إلى الصعيد ثم عاد إلى مصـر وزار السيـد البـدوي ثـم ذهـب إلـى دميـاط‏.‏

كعادتـه فـي كـل مـرة ثـم رجـع إلى مصر ثم توجه إلى رشيد ثم الإسكندرية ومنها إلى اسلامبول فحصل له بهـا غايـة الحـظ والقبـول ومـدح بقصائـد هرعـت إليه الناس أفواجًا ورتب له في حوالي مصر كل يوم قرشان ولم يمكث بها إلا نحـو أربعيـن يومـًا وركـب منهـا إلـى بيـروت ثـم إلـى صيدا ثم إلى قبرص ثم إلى دمياط وذلك غاية شعبـان سنـة تسعيـن‏.‏

ثـم دخـل المنصـورة وبـات بهـا ليلـة ثم دخل مصر في سابع عشر رمضان‏.‏

وكان مدة مكثه في الهند عشرة أعوام وحج سبع عشرة مرة منها ثلاث بالجمعة وسفره من الحجـاز إلـى مصـر ثلـاث مـرات وللصعيـد سـت مـرات ولدميـاط ثمـان مـرات‏.‏

ولـم يـزل يعلو ويرقى إلى أن توفـي ليلـة الثلاثـاء ثانـي عشر محرم من هذه السنة وخرجوا بجنازته من بيته الذي تحت قلعة الكبش بمشهد حافل وصلي عليه بالجامع الأزهر وقرئ نسبه على الدكة وصلي عليه إمامًا الشيخ أحمد الدردير ودفن بمقام ولي الله العتريس تجاه مشهد السيدة زينب ورثي بمراث كثيرة ربما يأتي ذكرها في تراجم العصريين ولم يخلف بعده مثله رحمه الله‏.‏

ومات الوجيه المبجل عبـد السلـام أفنـدي بـن أحمـد الأزرجانـي مـدرس المحموديـة كـان إمامـًا فاضلًا محققًا له معرفة بالأصول قرأ العلوم ببلاده وأتقن في المعقول والمنقول وقدم مصر ومكث بها مدة ولما كمل بناء المدرسة المحمودية بالحبانية تقرر مدرسًا فيها وكان يقرأ فيها الدرر لمنلاخسرو وتفسير البيضاوي ويورد أبحاثًا نفيسة‏.‏

وكان في لسانه جبسة وفي تقرير عسر وبأخرة تولى تولى إمامتها وتكلف في حفظ بعض القرآن وجوده على الشيخ عبـد الرحمـن الأجهوري المقرئ وابتنى منزلًا نفيسًا بالقرب من الخلوتي وكان له تعلق بالرياضيات وقرأ على المرحوم الوالد أشياء من ذلك واقتني آلات فكلية نفيسة بيعت في تركته‏.‏

مات بعد أن تعلل بالحصبـة أيامـًا فـي يـوم الثلاثـاء سـادس جمـادى الأولـى من السنة ولم يخلف بعده في المحمودية مثله وجاهة وصرامة واحتشامًا وفضيلة رحمه الله‏.‏

ومـات الإمـام العلامـة والحبـر الفهامـة الشيـخ أحمـد بـن عيسـى بن أحمد ابن عيسى بن محمد الزبيري الشافعي البراوي ولد بمصر وبها نشأ وقرأ الكثير على والده وبه تفقه وحضر دروس مشايخ الوقـت فـي المعقـول والمنقـول وتمهـروا نجـب وعـد من أرباب الفضائل‏.‏

ولما توفي والده أجلس مكانه بالجامـع الأزهـر واجتمـع علي طلبة أبيه وغيرهم واستمرت حلقة درس والده على ما هي عليها مـن العظـم والجلالـة والرونـق وإفـادة الطلبـة وكـان نعـم الرجـل صلاحـًا وصرامـة‏.‏

توفـي بطندتـا في ليلة الأربعـاء ثالـث شهـر ربيع الأول فجأة وجيء به إلى مصر فغسل في بيته وصلي عليه بالأزهر ودفن عند والده بتربة المجاورين رحمه الله‏.‏

ومـات الوجيـه المبجـل بقيـة السلـف سيـدي عامـر بـن الشيـخ عبـد الله الشبراوي تربى في عز ودلال وسيادة ورفاهية وكان نبيلًا إلا أنه لم يلتفت إلى تحصيل المعارف والعلوم ومع ذلك كان يقتني الكتـب النفيسـة ويبـذل فيهـا الرغائب واستكتب عدة كتب بخط المرحوم الشيخ حسن الشغراوي المكتب وهو فـي غايـة الحسـن والنورانيـة‏.‏

ومـن ذلـك مقامـات الحريـري وشروحهـا للزمزمي وغيره وجلدها وذهبها ونقشوا اسمه في البصمات المطبوعة في نقش الجلود بالذهب وعندي بعض على هذه الصورة ورسم باسمه الشيخ محمد النشيلي عدة آلات فلكية وأرباع وبسائـط وغيـر ذلـك واعتنى بتحريرها وإتقانها وأعطاه في نظير ذلك فوق مأموله وحوى من كل شـيء أظرفـه وأحسنـه مـع أن الـذي يـرى ذاتـه يظنـه غليـظ الطبـع‏.‏

توفـي رحمـه الله يوم الجمعة تاسع عشرين المحرم من السنة‏.‏

ومـات العلامـة الفقيـه الفاضـل الشيـخ محمـد سعيـد بـن محمد صفر ابن محمد بن أمين المدني الحنفي نزيل مكة والمدرس بحرمها تفقه على جماعة من فضلاء مكة وسمع الحديث على الشيخ محمد بن عقيلة والشيخ تاج الدين القلعي وطبقتهما وبالمدينة على الشيخ أبي الحسن السندي الكبير وغيـره وكـان حسـن التقريـر لمـا يمليـه فـي دروسـه حضـره السيـد العيـدروس في بعض دروسه وأثنى عليـه‏.‏

وفـي آخـر عمـره كـف بصـره حزنـًا علـى فقـد ولـده‏.‏

وكان من نجباء عصره أرسله إلى الروم وكـان زوجـًا لابنـة الشيـخ ابـن الطيـب فغـرق فـي البحـر‏.‏

وفـي أثنـاء سنـة 1174 ورد مصـر ثـم توجه إلـى الـروم علـى طريق حلب فقرأ هناك شيئًا من الحديث وحضره علماؤها ومنهم الشيخ السيد أحمد بن محمد الحلوى وذكره في جملة شيوخه وأثنى عليه ورجع إلى الحرمين وقطن بالمدينة المنـورة‏.‏

ومـن مؤلفاتـه الأربعـة أنهـار فـي مـدح النبـي المختـار صلـى اللـه عليـه وسلـم وله قصيدة مدح بهـا الشيـخ العيـدروس‏.‏

ولما حج الشيخ أحمد الحلوي في سنة تسعين اجتمع به بالمدينة المنورة وذاكـره بالعهد القديم فهش له وبش واستجاز منه ثانيًا فأجازه ولم يزل على حاله المرضية من عبادة وإفادة حتى توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الأمير عبد الرحمن أغا أغات مستحفظان وهو من مماليك إبراهيم كتخدا وتقلد الأغاوية في سنـة سبعيـن كمـا تقـدم واستمـر فيهـا إلـى سنـة تسـع وسبعيـن‏.‏

فلمـا نفـي علـي بـك النفيـة الأخيـرة عزلـه خليـل بـك وحسيـن بـك وقلـدوا عوضـه قاسـم أغـا فلمـا رجـع علـي بك ولاه ثانيًا وتقلد قاسم أغا صنجقًا فاستمر فيها إلى سنة ثلاث وثمانين فعزله وقلد عوضه سليم أغا الوالي وقلد موسـى أغـا واليـًا عوضـًا عـن سليـم المذكـور وكلاهمـا من مماليكه‏.‏

وأرسل المترجم إلى غزة حاكمًا وأمـره أن يتحيـل علـى سليـط‏.‏

ويقتلـه‏.‏

وكـان رجـلًا ذا سطوة عظيمة وفجور فلم يزل يعمل الحيلة عليـه حتـى قتلـه فـي داره وأرسـل برأسـه إلـى علـي بـك بمصـر وهـي أول نكتـة تمـت لعلي بك بالشام وبهـا طمـع فـي استخلـاص الشـام فلمـا حصلـت الوحشـة بيـن محمـد بـك وسيـده علـي بك انضوى إلى محمد بك‏.‏

فلما استبد بالأمر قلده أيضًا الأغاوية فاستمر فيها مدته‏.‏

ولما مات محمد بك انحـرف عليـه مـراد بـك وعزلـه وولـى عوضـه سليمـان أغـا وذلـك فـي سنـة تسعيـن ولما وقعت المنافرة بيـن اسمعيـل بـك والمحمديـة انضم إلى اسمعيل بك ويوسف بك واجتهد في نصرتهما وصار يكر ويفر ويجمع الناس ويعمل المتاريس ويعضد المتاريس ويعمل الحيل والمخادعات ويذهب ويجيء الليل والنهار حتى تم الأمر وهرب إبراهيم بك ومراد بك واستقر اسمعيل بك ويوسف بك فقلداه الأغاوية أيضًا فاستمر فيها مدته فلما خرج اسمعيل بك إلى الصعيد محاربًا للمحمديين تركه بمصر فاستقل بأحكامها وكذلك مدة غياب محمد بك بالشام‏.‏

فلما خان العلوية اسمعيل بـك وانضمـوا إلـى المحمديـة ورجـع اسمعيـل بـك علـى تلـك الصـورة كما ذكر خرج معه إلى الشام إلى أن تفـرق أمرهـم فـأراد التحـول إلـى جهـة قبلـي فانضم معه كثير من الأجناد والمماليك وساروا إلى أن وصلوا قريبًا من العادلية فأرسل مملوكًا له أسود ليأتيه بلوازم من داره ويأتيـه بحلـوان فإنـه ينتظـره هنـاك وحلوان كانت في التزامه وعدى مع الجماعة من خلف الجبل ونزلوا بحلوان وركبوا وساروا وتخلف هو عنهم للقضاء المقدر ينتظر خادمه فبات هنـاك‏.‏

وحضـر بعـض العـرب وأخبـر مـراد بـك فأرسـل الرصـد لذلـك العبـد وركب هو في الحال وأتاه الرصد بالعبد في طريق ذهابه فاستخبره فأعلمه بالحقيقة بعد التنكر فسار مستعجلًا إلى أن أتى حلوان واحتاط بها وهجمت طوائفه على دوار الأوسية وأخذوه قبضًا باليد وعروه ثيابه حتى السراويل سحبوه بينهـم عريانـًا مكشـوف الـرأس والسوأتين وأحضروه بين يدي مراد بك فلما وقعت عينه عليه أمر بقطع يديه وسلموه لسواس الخيل يصفعونه ويضربونه على وجهه ثم قطعوا رقبته حزًا بسكين ويقولون له‏:‏ انظر قرص البرغوث يذكرونه قوله لمن كان يقتله‏:‏ لا تخف يا ولدي إنما هي كقرصة البرغوث ليسكن روع المقتول على سبيل الملاطفة‏.‏

فكانوا يقولون ذلك على سبيل التبكيت‏.‏

ودخـل مـراد بـك فـي صبحهـا برأسـه أمامـه علـى رمـح ودفـن كمـا ذكـر ولـم يأت بعده في منصبه من يدانيـه فـي سياسـة الأحكـام والقضايـا والتحيلـات على المتهومين حتى يقروا بذنوبهم وكان نقمة الله على المعاكيس وخصوصًا الخدم الأتراك المعروفين بالمسراجين‏.‏

واتفق له في مبادئ ولايته أنه تكرر منه أذيتهـم فشكـوا منـه إلـى حسيـن بـك المقتـول فخاطبـه فـي شأنهـم فقـال لـه‏:‏ هـؤلاء أقبـح خلـق اللـه وأضرهـم علـى المسلميـن وأكثرهـم نصـارى ويعملـون أنفسهـم مسلمين ويخدمونكم ليتوصلوا بذلك إلـى إيـذاء المسلميـن وإن شككـت فـي قولـي أعطنـي إذنـًا بالكشـف عليهم لأمير المختون من غيره‏.‏

فقـال لـه الصنجـق‏.‏

افعـل مـا بـدا لـك‏.‏

فلمـا كان في ثاني يوم هرب معظم سراجين الصنجق ولم يتخلف منهم إلا من كان مسلمًا ومختونًا وهو القليل فتعجب حسين بك من فطانته ومن ذلك الوقت لم يعارضه في شيء يفعله وكذلك علي بك ومحمد بك‏.‏

ولما خالف محمد بك على سيده وانفصل عنه وذهب إلى قبلي وانضم إليه خشداشه أيوب بك وتعاقدا وتحالفا على المصحـف والسيـف ونكث أيوب بك العهد وقضى محمد بك عليه بقطع يده ولسانه أرسل إليه عبـد الرحمـن أغـا هـذا ففعـل به ذلك ولما حضر إليه ليمثل به ودخل إليه وصحبته الجلاد وصار يقول للجلاد‏:‏ ارفق بسيدي ولا تؤلمه ونحو ذلك‏.‏

ولما ملك محمد بك ودخل مصر أرسله إلى عبـد اللـه بـك كتخـدا الباشـا الـذي خامـر علـى سيـده وانضـم إلـى علـي بـك فذهـب إليـه وقبـض عليه ورمى عنقه في وسط بيته ورجع برأسه إلى مخدومه وباشر الحسبة مدة مع الأغاوية‏.‏

وكان السوقة يحبونه وتولى ناظرًا على الجامع الأزهر مدة وكان يحب العلماء ويتأدب مع أهل العلم ويقبـل شفاعتهـم ولـه دهقنـة وتبصـر فـي الأمور وعنده قوة فراسة وشدة حزم حتى غلب القضاء على حزمه عفا الله عنه‏.‏

ومات الأمير عبد الرحمن بك وهو من مماليك علي بك وصناجقه الذين أمرهم ورقاهم فهو خشـداش محمـد بـك أبـي الذهب وحسن بك الجداوي وأيوب بك ورضوان بك وغيرهم‏.‏

وكان موصوفًا بالشجاعة والإقدام فلما انقضت أيام علي بك وظهر أمر محمد بك خمل ذكره مـع خشدشينه إلى أن حصلت الحادثة بين المحمدين واسمعيل بك فرد لهم أمرياتهم إلا عبد الرحمن هـذا فبقـي علـى حالـه مـع كونـه ظاهـر الذكـر‏.‏

فلمـا كـان يوم قتل يوسف بك وكان هو أول ضارب فيه‏.‏

وهرب في ذلـك اليـوم مـن بقـي مـن المحمـد وأخـرج باقيهـم منفييـن ردوا لـه صنجقيتـه كمـا كـان ثـم طلع مع خشداشينه لمحاربتهم بقبلي ثم والسوا على اسمعيل بك وانضموا إليهم ودخلوا معهم إلى مصر كما ذكر‏.‏

ثم وقع بينهم التحاقد والتزاحم على إنفاذ الأمر والنهي‏.‏

وكان أعظم المتحاقدين عليهم مراد بك وهم له كذلك وخيل الفريقان من بعضهم البعض وداخل المحمدية الخوف الشديد من العلوية إلى أن صاروا لا يستقرون في بيوتهم فلازموا الخروج إلى خارج المدينة والمبيت بالقصور‏.‏

وخرج إبراهيم بك وأتباعه إلى جهة العادلية ومراد بك وأتباعه إلى جهة مصر القديمة‏.‏

فلما كان يوم السبت سابع عشر جمادى الأولى أصبح مراد بك منتفخ الـأوداج مـن القهـر فاختلـى مـع مـن يركـن إليهـم من خاصته وقال لهم‏:‏ إني عازم في هذا اليوم على طلب الشر مع الجماعة‏.‏

قالوا‏:‏ وكيف نفعل‏.‏

قال‏:‏ نذهب إلى مرمى النشاب ولا بد أن يأتينا منهم من يأتي فكل من حضر عندنا منهم قتلناه ويكون ما يكون بعد ذلك‏.‏

ثم ركب ونزل بمصاطب النشاب وجلس ساعة فحضر إليه عبد الرحمن بك المذكور وعلي بك الحبشـي فجلسا معه حصة ومراد بك يكـرر لأتباعـه الإشـارة بضربهمـا وهـم يهابـون ذلـك ففطـن لـه سلحدار عبد الرحمن بك فغمز سيده برجله فهم بالقيام فابتدره مراد بك وسحـب بالتـه وضربه في رأسه فسحب الآخر بالته وأراد أن يضربه فألقى بنفسه من فوق المصطبة إلى أسفل وعاجل أتباع مراد بك عبد الرحمن بك وقتلوه‏.‏

وفي وقت الكبكبة غطى علي بك الحبشي رأسه بجوخته واختفى في شجر الجميز وركب في الحال مراد بك وجمع عشيرته وأرسـل إلـى إبراهيـم بـك فحضـر مـن القبـة إلـى القلعـة وكـان ما ذكر واستمر عبد الرحمن بك مرميًا بالمصطبة حتى حضر إليه أتباعه وشالوه ودفنوه بالقرافة‏.‏

ومـات الأميـر أحمد بك شنن وأصله مملوك الشيخ محمد شنن المالكي شيخ الأزهر فحصل بينه وبيـن ابـن سيـده وحشـة ففارقـه ودخـل فـي سلـك الجنديـة وخدم علي بك وأحبه ورقاه وأمره إلى أن قلده كتخدا االجاويشية فلم يزل منسوبًا إليه ومنضمًا إلى أتباعه‏.‏

وتقلد الصنجقية وصاهره حسن بك الجداوي وتزوج بابنته وبنى لها البيت بدرب سعادة ولم يزل حتى قتل في هذه الواقعة وكان فيه لين جانب ظاهري ويعظم أهل العلم ويظهر لهم المحبة والتواضع‏.‏

ومات الأمير إبراهيم بك طنان وهو من مماليك حسن أفندي مملوك إبراهيم أفندي المسلماني وكانوا عدة وعزوة معروفيـن ومشهوريـن فـي البيـوت القديمـة ومنهـم مصطفـى جربجـي وأحمـد جربجـي‏.‏

ثـم لمـا ظهـر أمـر علـي بـك انتسبـوا إليـه وخرجـوا مـع محمـد بك عندما ذهب لمحاربة خليل بك وحسين بك كشكش ومن معهم بناحية المنصورة فوقع في المقتلة أحمد جربجي المذكور وأعجب بهم محمـد بـك فـي تلـك الواقعـة فأحبهـم وضمهـم إليـه ولازمـوه فـي الأسفـار والحروبـات‏.‏

ولمـا خالف علي سيده علي بك وهرب إلى الصعيد خرجوا معه كذلك ومات مصطفى جربجي علـى فراشه بمصر أيام علي بك وصار كبيرهم والمشار إليه فيهم إبراهيم جربجي‏.‏

فلما رجع محمـد بـك وتعيـن فـي رياسة مصر قلده صنجقًا ونوه بشأنه وأنعم عليه وأعطاه بلادًا مضافة إلى بلاده منها سندبيس ومنية حلفة وباقي الأمانة‏.‏

وكان عسوفًا ظالمًا الفلاحين لا يرحمهم وله مقدم من أقبح خليقة اللـه مـن منيـة حلفـة فيغـري بالفلاحيـن ويسجنهـم ويعذبهـم ويستخلـص لمخدومـه منهـم الأمـوال ظلمـًا وعدوانـًا‏.‏

فلما حصلت تلك الحادثة وهرب إبراهيم بك المذكور مع اسمعيل بك اجتمع الفلاحون على ذلك المقدم وقتلوه وحرقوه بالنار‏.‏

وكان إبراهيم بك هذا ملازمـًا علـى زيـارة ضرائـح الأوليـاء فـي كـل جمعـة يركب بعد صلاة الصبح إلى القرافة ويزور قبور البستان وقبور أسلافه ثم يذهب إلى زيارة الشافعي ويخرج منه ماشيًا فيزور الليث ومـا جاوزهما من المشاهد المعروفة كيحيى الشييه والسادات الثعالبة والعز وابن حجر وابن جماعة وابـن أبـي جمـرة وغيـر ذلـك وكـان هذا دأبه في كل جمعة‏.‏

ولما وقعت الحوادث خرج مع اسمعيل بـك إلـى غـزة فلمـا سافر اسمعيل بك ونزل البحر تخلف عنه ومات ببعض ضياع الشام وظهر له بمصر ودائع أموال لها صورة‏.‏

ومـات الأميـر إبراهيـم بـك بلفيا المعروف بشلاق وهو مملوك عبد الرحمن أغا بلفيا بن إبراهيم بك وعبـد الرحمـن أغـا هذا هو أخو خليل بك‏.‏

وكان علي بك ضمه إليه وأعجبه شجاعته فقلده صنجقًا وصار من جملة صناجقه وأمرائه ومحسوبًا منهم‏.‏

فلما حصلت هذه الحادثة كان فيهم وقتل معهم‏.‏

ومـات الأميـر الكبير حسن بك رضوان أمير الحاج وهو مملوك عمر بك بن حسين رضوان تقلد الصنجقيـة بعـد مـوت سيـده وجلـس فـي بيتـه وطلـع أميـرًا بالحـج سنة ثمان وسبعين وتسع وسبعين وعمـل دفتـردار مصـر ثـم عـزل عنهـا وطلـع بالحـج فـي سنـة إحـدى وثمانيـن وسنـة اثنتيـن وثمانين وقلد رضوان بك مملوكه صنجقًا‏.‏

فلما تملك علي بك نفى رضوان بك هذا فيمن نفاهم في سنة واحـد وثمانيـن ثـم رده ثـم نفـاه مـع سيـده بعـد رجوعه من الحج في سنة ثلاث وثمانين إلى مسجد وصيـف ثم نقل إلى المحلة الكبرى فأقام بها إلى سنة إحدى وتسعين فكانت مدة إقامته بالمحلة نحـو ثمـان سنيـن‏.‏

فلمـا تملـك اسمعيـل بـك أحضـره إلـى مصر وقلده إمارة الحج سنة واحد وتسعين كمـا ذكـر فلمـا انضـم العلويـة إلـى المحمديـة ورجعـوا إلـى مصر وهرب اسمعيل بك بمن معه إلى الشام لـم يخـرج معه وبقي بمصر لكونه ليس من قبيلتهم وانضوى إلى العلوية كغيره لظنهم نجاحهم فوقع لهـم مـا وقـع وقتـل مـع أحمـد بـك شنـن بشيـر أو أوتـوا بهمـا إلـى بيوتهما وكل منهما ملفوف في قطعة خيمة ودفن حسن بك المذكور عليه رحمة الله وكان أميرًا جليلًا مهذبًا كريم الأخلـاق ليـن الجانب يحب أهل الصلاح والعلم وعاشر بالمحلة صاحبنا الفاضل اللبيب الأديب الشيخ شمس الديـن السمربائـي الفراغلـي وأحبـه واغتبط به كثيرًا وأكرمه وحجزه عنده مدة إقامته بالمحلة ومنعه عن الذهاب إلى بلده إلا لزيارة عياله فقط في بعض الأحيان ثم يعود إليه سريعًا ويستوحش لغيابه عنه فكان لا يأتنس إلا به‏.‏

وللشيخ شمس الدين فيه مدائح ومقامات وقصائد‏.‏

سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف في يوم السب خامس المحرم وصل إلى مصر اسمعيل باشا والي مصر وبات ببر انبابة ليلة السبت المذكور وركب الأمراء في صبحها وقابلوه ورجعوا وعدى الآخر وركب إلى العادلية وجلس بالقصر وتولى أمر السماط مصطفى بك الصغير‏.‏

وفـي يـوم الثلاثاء من المحرم ركب الباشا بالموكب ودخل من باب النصر وشق القاهرة وطلع إلى القلعـة وعملـوا لـه شنكـًا ومدافع ووصل الخبر بنزول اسمعيل بك إلى البحر وسفره من الشام إلى الروم وغاب أمره‏.‏

وفـي أواخر شهر ربيع الأول وقعت حادثة بالجامع الأزهر بين طائفة الشوام وطائفة الأتراك بين المغـرب والعشـاء فهجـم الشـوام على الأتراك وضربوهم فقتلوا منهم شخصًا وجرحوا منهم جماعة فلمـا أصبحـوا ذهـب الأتـراك إلى إبراهيم بك وأخبروه بذلك فطلب الشيخ عبد الرحمن العريشي مفتـي الحنفيـة والمتكلـم على طائفة الشوام وسأله عن ذلك فأخبره عن أسماء جماعة وكتبهم في ورقة وعرفه أن القاتلين تغيبوا وهربوا ومتى ظهروا أحضرهم إليه ولما توجه من عنده تفحص إبراهيـم بـك عـن مسميـات الأسمـاء فلـم يجد لهم حقيقة فأرسل إلى الشيخ أحمد العروسي شيخ الأزهـر وأحضـر بقيـة المشايـخ وطلـب الشيـخ عبـد الرحمن فتغيب وللم يجدوه فاغتاظ إبراهيم بك ومـراد بـك وعزلـوه عـن الإفتاء وأحضروا الشيخ محمد الحريري وألبسوه خلعة ليكون مفتي الحنفية عوضًا عن الشيخ عبد الرحمن وحثوا خلفه بالطلب ليخرجوه من البلدة منفيًا فشفع فيه شيخ السادات وهرب طائفة الشوام بأجمعهم وسمر الأغا رواقهم ونادوا عليهم‏.‏

واستمر الأمر على ذلك أيامًا ثم منعوا المجادلة والطبرية من دخول الرواق ويقطع من خبزهم مائة رغيف تعطى للأتراك دية المقتول وكتب بذلك محضر باتفاق المشايخ والأمراء وفتحوا الرواق ومرض الشيخ العريشي من قهره وتوفي رابع جمادى الأولى‏.‏

وفي أواخر شهر جمادى الثانية توفي الشيخ محمد عبادة المالكي‏.‏

وفيه جاءت الأخبار بأن حسن بك ورضوان بك قوي أمرهم وجمعوا جموعًا وحضروا إلى دجرجـا والتـف عليهـم أولـاد همـام والجعافـرة واسمعيـل أبو علي فتجهز مراد بك وسافر قبله أيوب بـك الصغيـر ثـم سافـر هـو أيضـًا فلمـا قربوا من دجرجا ولى القبالي وصعدوا إلى فوق فأقام مراد بـك فـي دجرجـا إلـى أوائـل رجـب وقبـض على اسمعيل أبي علي وقتله ونهب ماله وعبيده وفرق بلاده على كشافه وجماعته‏.‏ وفي

منتصف شهر رجب

ظهر بمصر وضواحيها مرض سموه بأبي الركب وفشا في الناس قاطبة حتى الأطفال وهو عبارة عن حمى ومقدار شدته ثلاثة أيام وقـد يزيـد علـى ذلـك وينقص بحسب اختلاف الأمزجة ويحدث وجعًا في المفاصل والركب والأطراف ويوقف حركة الأصابـع وبعـض ورم ويبقـى أثـره أكثر من شهر ويأتي الشخص على غفلة فيسخن البدن ويضرب على الإنسان دماغه وركبه ويذهب بالعرق والحمام وهو من الحوادث الغريبة‏.‏

وفي عشرين رجب وصل مراد بك من ناحية قبلي وصحبته منهوبات وأبقار وأغنام كثيرة‏.‏

وفي يوم الجمعة ثاني عشرينه الموافق لثاني شهر مسرى القبطي وفا النيل المبارك ثم زاد في ليلتها زيادة كثيرة حتى علا على السد وجرى الماء في الخليج بنفسه وأصبح الناس فوجدوا الخليج جاريًا وفيه المراكب فلم تحصل الجمعية ولم ينزل الباشا على العادة‏.‏

وفـي أواخـر شهـر شعبـان وصـل إلـى مصـر قابجي باشا وبيده أوامر بعزل اسمعيل باشا عن مصر ويتوجه إلى جدة وأن إبراهيم باشا والي جدة يأتي إلى مصر وفرمان آخر بطلب الخزينة‏.‏

وفي شهر شوال وصلت الأخبار بموت علي بك السروجي وحسن بك سوق السلاح بغزة‏.‏

وفي يوم الخميس ثامن عشر شوال عمل موكب المحمل وخرج الحجاج وأمير الحاج مراد بك وخـرج فـي موكـب عظيـم وطلـب كثيـر وتفاخـر وماجـت مصـر وهاجـت فـي أيـام خروج الحج بسبب الأطلاب وجمع الأموال وطلب الجمال والبغال والحمير وغصبوا بغال الناس ومن وجوده راكبًا على بغلة أنزلوه عنها وأخذوها منه قهرًا فإن كان من الناس المعتبرين أعطـوه ثمنهـا وإلا فـلا وغلـت أسعارهـا جـدًا ولـم يعهـد حـج مثـل هـذه السنـة فـي كـل شـيء‏.‏

وسافـر فيـه خلائـق كثيرة من سائـر الأجنـاس وسافـر صحبـة مـراد بـك أربـع صناجـق وهـم عبـد الرحمـن بـك عثمان وسليمان بك الشابوري وعلي بك المالطي وذو الفقار بك وأمراء وأغوات وغير ذلك أكابـر كثيـرة وأعيـان وتجار‏.‏

وفيه حضر واحد أغا وعلى يده تقرير لاسمعيل باشا على مصر كما كان وكان لما أتاه العزل نـزل مـن القلعـة فـي غرة رمضان وصام رمضان في مصر العتيقة‏.‏

ولما انقضى رمضان تحول إلى العادلية ليتوجه إلى السويس ويذهب إلى جدة حسب الأوامر السابقة فقدر الله بموت إبراهيم باشـا وحضـر التقريـر لـه بالولايـة ثانيـًا فركـب فـي يـوم الاثنيـن سـادس القعدة وطلع إلى القلعة من باب الجبل‏.‏

مات الشيخ الفقيه الإمام الفاضل شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن عمر العريشي الحنفي الأزهري ولد بقلعة العريش من أعمال غزة وبها نشأ وحفظ بعض المتون ولما مر عليه الشيخ العارف السيـد منصـور السرمينـي فـي بلـده وجه متيقظًا نبيهًا وفيه قوة استعدادية وحافظة جيدة فأخذه صحبته في صورة معين فـي الخدمـة وورد معـه مصـر فكـان ملازمـًا لـه لا يفارقـه وأذن لـه بالحضور في الأزهـر فكـان يحضـر دروس الشيـخ أحمـد البيلـي وغيـره فـي النحـو والمعقـول‏.‏

ولمـا توجـه السيد المشار إليه إلى البلاد تركه ليشتغل بالعلم فلازم الشيخ أحمد السليماني ملازمة جيدة وحضر عليه غالب الكتب المستعلمة في المذهب وحضر دروس الشيـخ الصعيـدي والشيـخ الحنفي ولقنه الذكر وأجازه وألبسه التاج الخلوتي‏.‏

ثم اجتمع بالمرحوم الوالد حسـن الجبرتـي ولازمه ملازمة كلية ودرجه في الفتوى ومراجعة الأصول والفروع وأعانه على ذلك وجد أن الكتب الغريبة عند المرحوم فترونق ونوه بشأنه وعرفه الناس وتولى مشيخة رواق الشوام وبه تخـرج الحقيـر فـي الفقـه‏.‏

فـأول مـا حضـرت عليـه متن نور الإيضاح للعلامة الشرنبلالي ثم متن الكنز وشرحه لملا مسكين والدر المختار شرح تنور الأبصار ومقدار النصف من الدرر وشرح السيد علي السراجية في الفرائض‏.‏

وكان له قوة حافظة وجودة فهم وحسن ناطقة فيقرر ما يطالعـه منـن المـواد عـن ظهـر قلبـه مـن حفظـه بفصاحـة مـن غيـر تلعثـم ولا تركيـز‏.‏

وحـج فـي سنة تسع وسبعيـن مـن القلـزم منفـردًا متقشفـًا وأدرك بالحرميـن الأخيـار وعـاد إلـى مصـر وحصلت له جذبة في سنـة سـت وثمانيـن وتـرك عيالـه وانسلـخ عـن حالـه وصار يأوي إلى الزوايا والمساجد ويلقي دروسًا مـن الشفـاء وطـرق القـوم وكلـام سيـدي محـي الديـن والغزالـي‏.‏

ثـم تراجـع قليـلًا وعـاد إلى حالته الأولى ولمـا توفـي مفتـي الحنفيـة الشيـخ أحمد الحماقي تعين المترجم في الإفتاء وعظم صيته وتميز على أقرانـه واشتـرى دارًا حسنـة بالقرب من الجامع الأزهر وهي التي كانت سكن الشيخ الحفني في السابق وتعرف بدار القطرسي‏.‏

وتردد الأكابر والأعيان إليه وانكبت عليه أصحاب الدعاوى والمستفتـون وصـار لـه خـدم وأتباع وفراشون وغير ذلك‏.‏

وسافر إلى اسلامبول بعد موت الأمير محمد بك لقضاء بعض الأغراض وقرأ هناك كتاب الشفاء ورجع إلى مصر وكان كريم النفس سمحًا بما في يده يحب إطعام الطعام ويعمل عزائم للأمراء ويخلع عليهم الخلع ولما زاد انحطاط الشيـخ أحمـد الدمنهـوري وتبيـن قـرب وفاتـه وفـراغ أجلـه ناقـت نفس المترجم لمشيخة الأزهر إذ هي أعظم مناصب العلماء فأحب الاستيلاء عليها والتوصل إليها بكيفية وطريقة فحضر مع شيخ البلد إبراهيم بك إلى الجامع الأزهر وجمع الفقهاء والمشايخ وعرفهم أن الشيخ أحمد الدمنهوري أقامه وكيلًا عنه وبعد أيام توفي الشيخ الدمنهوري فتعين هو للمشيخة بتلك الطريقة وساعده استمالـة الأمراء وكبار الأشياخ والشيخ أبو الأنوار السادات وما مهده معهم في تلك الأيام وكاد يتم الأمر فانتدب لنقـض ذلـك بعـض الشافعيـة الخامليـن وذهبـوا إلـى الشيـخ محمـد الجوهـري وساعدهم وركب معهم إلى بيت الشيخ البكري وجمعوا عليهم جملة من أكابر الشافعية مثل الشيـخ أحمـد العروسـي والشيـخ أحمـد السمنـودي والشيـخ حسـن الكفـراوي وغيرهم وكتبوا عرضحـال إلـى الأمـراء مضمونـه أن مشيخـة الأزهـر مـن مناصـب الشافعية وليس للحنفية فيها قديم عهد أبدًا وخصوصًا إذا كان آفاقيًا وليس من أهل البلدة‏.‏

فإن الشيخ عبد الرحمـن كذلـك وموجـود فـي العلمـاء الشافعيـة مـن هـو أهـل لذلـك فـي العلـم والسـن وأنهـم اتفقـوا علـى أن يكـون المتعين لذلك الشيخ أحمد العروسي وختم الحاضرون على ذلك العرضحال وأرسلوه إلى إبراهيم بك ومراد بم فتوقفوا وأبوا وثارت فيهم العصبية وشددوا في عدم النقض ورجع الجواب للمشايخ بذلك فقاموا على ساق وشدد الشيخ محمد الجوهري في ذلك وركبوا بأجمعهم وخرجوا إلى القرافة وجلسوا بجامع الإمام الشافعي وباتوا به‏.‏

وكان ذلك ليلة الجمعة واجتماع الناس للزيارة فهرعت الناس واجتمع الكثير من العامة ينظرون فيما يؤول إليه هذا الأمر وكان للأمراء اعتقاد وميـل للشيـخ محمـد بـن الجوهـري وكذلـك نساؤهـم وأغواتهـم بسبـب تعففـه عنهم وعدم دخول بيوتهم ورد صلاتهم وتميزه بذلـك عـن جميـع المتعمميـن‏.‏

فسعـى أكثرهـم فـي أنفـذا غرضـه وراجعـوا مـراد بـك وأوهموه حصول العطب له ولهم أو ثوران فتنـة فـي البلـاد وحضـر إليهـم علـي أغـا كتخـدا الجاويشة وحاججهم وحاججوه ثم قال وتوجه وحضر مراد بك أيضًا للزيـارة فكلمـه الشيـخ محمـد وقـال‏:‏ لا بـد مـن فـروة تلبسهـا للشيـخ العروسـي وهـو يكـون شيخـًا على الشافعية وذاك شيخًا على الحنفية كما أن الشيخ أحمد الدردير شيخ المالكية والبلد بلد الإمام الشافعي وقد جئنا إليـه وهو يأمرك بذلك وإن خالفت يخشى عليك‏.‏

فما وسعه إلا أنه أحضر فروة وألبسها للشيخ العروسي عند باب المقصورة وركب مراد بك متوجهًا وركب المشايخ وبينهم الشيخ العروسي وذهبوا إلى إبراهيم بك ولم يكن الأمراء رأوا الشيخ العروسي ولا عرفوه قبل ذلك فجلسوا مقدار مسافة شرب القهوة وقاموا متوجهين ولم يتكلم إبراهيم بك بكلمـة‏.‏

فذهـب الشيـخ العروسي إلى بيته وهو بيت نسيبه الشيخ أحمد العريان واجتمع عليه الناس وأخذ شأنه في الظهور‏.‏

واحتد العريشي وذهب إلى الشيخ السادات والأمراء فألبسوه فروة أيضًا فتفاقم الأمر وصاروا حزبين وتعصب للمترجم طائفـة الشـوام للجنسيـة وطائفـة المغاربـة لانضمـام شيخهـم الشيخ أبي الحسن القلعي معه من أول الأمر وتوعدوا منن كان مع الفرقة الأخرى وحذروهم ووقفوا لمنعهم من دخول الجامع وابن الجوهري يسوس القضية ويستميل الأمراء وكبار المشايخ الذين كانوا مع العريشي مثل الشيخ الدردير والشيخ أحمد يونس وغيرهم واستمر الأمر على ذلك نحو سبعة أشهر إلى أن أسعفت العروسي العناية ووقعت الحادثة المذكورة بين الشوام والأتراك واحتد الأمراء الأتراك للجنسية وأكدوا في طلب المحاققة وتصدى العريشـي للشـوام المـذب عنهم وحصل منهم ما حصل لأجل خلاصهم‏.‏

فعند ذلك انطلقت عليه الألسن وأصبح الصديـق عـدوًا وانحـرف عنـه الأمـراء وطلبـوه فاختفـى وعيـن لطلبه الوالي وأتباع الشرطة وعزلوه من الإفتاء أيضًا‏.‏

وحضر الأغا وصحبته الشيخ العروسي إلى الجامع للقبض على الشوام فاختفوا وفروا وغابوا عن الأعين فأغلقوا رواقهم وسمروه أيامًا ثم اصطلحوا على الكيفية المذكورة آنفًا وظهر العروسي من ذلك اليوم وثبتت مشيخته ورياسته وخمل العريشي وأمروه بلزوم بيته ولا يقـارش فـي شـيء ولا يتداخـل فـي أمـر فعنـد ذلـك اختلى بنفسه وأقبل على العبادة والذكر وقراءة القـرآن ونزلـت لـه نزلـة فـي أنثييـه من القهر فأشاروا عليه بالفصد وفصدوه فازداد تألمه وتوفي في ليلة الخميس سابع جمادى الأولى من السنة وجهز بصباحه وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل وحضره مراد بك وكثير من الأمراء وعلي أغا كتخدا الجاويشية ودفن برحاب السادة الوقائيـة وذلـك بعـد الحادثـة بتسعـة وثلاثيـن يومـًا رحمه الله تعالى‏.‏

ومن آثاره رسالة ألفها في سر الكنـى باسـم السيـد أبـي الأنـوار بـن وفـي أجـاد فيها ووصلت إلى زبيد وكتب عليها الشيخ عبد الخالق بن الزين حاشية وقرظ عليها الشيخ العروسي والشيخ الصبان وله غير ذلك‏.‏

ومات الشريف السيد قاسم بن محمد التونسي كان إمامًا في الفنون وله يد طولى في العلوم الخارجة مثل الطب والحرف وكان معه وظيفة تدريس الطب بالبيمارستان المنصور وتولـى مشيخـة رواق المغاربـة مرتيـن والأولـى استمـر فيهـا مـدة وفـي تلـك المـدة حصلـت الفتن ثم عزل عنها وأعاد الدروس في مدرسة السيوفيين المعروفة الآن بالشيخ مطهر ولـه تقريـظ علـى المدائـح الرضوانية جمع الشيخ الأكاوي أحسن فيا وكان ذا شهامة وصرامة في الدين صعبًا في خلقه وربمـا أهـان بعـض طائفـة النصارى عند معارضتهم له في الطريق وأهين بسبب ذلك من طرف بعض الأمراء وتحزبت له العلماء وكادت أن تكون فتنة عظيمة ولكن الله سلم‏.‏

توفي بعد أن تعلل كثيرًا وهو متولي مشيخة رواقهم وهي المرة الثانية وكان له باع في النظم والنثر فمنها مدائحه في الأمير رضوان كتخدا الجلفي له فيه عدة قصائد فرائد مذكورة في الفوائح الجنانية‏.‏

ومات الإمام الفهامة الألمعي الأديب واللوذعي النجيب الشيخ محمد لهلباوي الشهير بالدمنهوري اشتغـل بالعلـم حتـى صـار إمامـًا يقتدى به ثم اشتغل بالطريق وتلقن الأسماء وأخذت عليه العهود وصار خليفة مجازًا بالتلقين والتسليك وحصل به النفع‏.‏

وكان فقيهًا دراكًا فصيحًا مفوهًا أديبًا شاعـرًا لـه بـاع طويـل فـي النظـم والنثـر والإنشـاء ولمـا تملـك علـي بك بعد موت شيخه الحفني طلبه إليـه وجعلـه كاتـب إنشائـه ومراسلاتـه وأكرمـه إكرامـًا كثيرًا ومدحه بقصائد ولم يزل منضويًا إليه مدة دولته‏.‏

ومـات السيـد قاسـم بـن محمـد بـن محمد علي بن أحمد بن عامر بن عبد الله ابن جبريل بن كامل بـن حسـن بـن عبد الرحمن بن عثمان بن رمضان بن شعبان ابن أحمد بن رمضان بن محمد بن القطب أبي الحسن علي بن محمد ابـن أبـي تـراب علـي بـن أبـي عبـد اللـه الحسيـن بـن إبراهيـم بـن محمـد بن أحمد ابن محمد بن محمد بن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الحسن بن اسمعيل الديباج بن إبراهيـم بن الحسن المثني بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب أحد الأشراف الصحيحي النسـب بمصـر فجـده أبـو جعفـر يعـرف بالثـج لثجثجـة فـي لسانه وحفيده الحسين بن إبراهيم يعرف بابـن بنـت الروبـدي وحفيـده علـي بـن محمـد مدفـون بالصعيـد في بلد يقال له دمشاوباشم والمترجم هو والد السيدين الجليلين اسمعيل وإبراهيم المتقدم ذكرهما صحح هذا النسب شيخنا السيد محمد مرتضى كما ترى وكان حمام البابا في ملكه مما خلفه له سلقه فكان يجلس فيه وكان شيخًا مهيبًا معمرًا منور الشيبة كريم الأخلاق متعففًا مقبلًا على شأنه رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الإمام العارف الصوفي الزاهد أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ابن سعيد بن حم الكتانـي السوسـي ثـم التونسـي ولـد بتونس ونشأ في حجر والده في عفة وصلاح وعفاف وديانة وقـرأ عليـه وعلـى شيـخ الجماعـة سيـدي محمد الغرباوي وعلى آخرين وتكمل في العلوم والمعارف مـع صفـاء ذهنه وسرعة إدراكه وتوقد خاطره وكمال حافظته وكان والده يحبه ويعتمد على ما يقولـه فـي تحريـر نقلـه ويصـرح بذلـك فـي أثنـاء درسـه‏.‏

وقـد بلـغ المترجـم مـن الصلـاح والتقـوى إلـى الغاية واشتهر أمره في بلاد أفريقية اشتهارًا كليًا حتى أحبه الصغير والكبير وكان منفردًا عن الناس منقبضـًا عن مجالسهم فلا يخرج من محله إلا لزيارة ولي أو في العيدين لزيارة والده وكان للمرحوم علي باشا والي تونس فيه اعتقاد عظيم وعرض عليه الدنيا مرارًا فلم يقبلها وعرضت عليه توليـة المـدارس التـي كانـت بيـد والده فأعرض عنها وتركها لمن يتولاها وعكف نفسه على مذاكرة العلوم مع خواص أصحابه ومطالعة الكتب الغريبة واجتمع عنده منها شيء كثير وكان يرسل في كل سنة قائمة إلى شيخنا السيد مرتض فيشتري له مطلوبه وكان يكاتبه ويراسله كثيرًا‏.‏

ومـات الفقيـه الأديـب الماهر أحمد بن عبد الله بن سلامة الأدكاوي نزيل الإسكندرية وأمه شريفة من ذرية السيد عيسى بن نجم خفير بحر البرلس كان حسن المحاورة ولديه فضل ويحفظ كثيرًا من الأشياء منها المقامات الحريرية وغيرها من دواوين الشعر‏.‏

وناب عن القضاء في الثغر مدة وكـان يتـردد إلـى مصـر أحيانـًا وجمـع عـدة دواوين شعرية من المتقدمين والمتأخرين نحو المائتين وطالع كثيرًا منها مما لم يملكه‏.‏

ولم يزل على حالة مرضية حتى توفي بالثغر سنة تاريخه‏.‏

ومات الشيخ الصالح المعمر خالد أفندي بن يوسف الديار بكرلي الواعظ كان يعظ الأتراك بمكة على الكرسي ثم ورد مصر ولازم حضور الأشياخ بمصر والوعظ للأتراك وحضر معنا كثيرًا علـى شيخنـا السيـد محمـد مرتضـى فـي دروس الصحيـح بجامـع شيجـون فـي سنـة 1190 وفـي الأمالي والشمائل في جامع أبي محمود الحنفي وأخبر أنه دخل دمشق وحضر دروس الشيخ اسمعيل الجعلوني وأجازه وأدرك جلة الأشياخ بديار بكر والرها وأزروم‏.‏

وكان رجلًا صالحًا منكسـرًا ولـه مـرأى حسنـة ولا زال على طريقته في الحب والملازمة حتى مرض أيامًا وانقطع في بيته ومات في رابع جمادى الأولى‏.‏

ومات الشيخ الفقيه الكامل والنجيب الفاضل أحد العلماء الأعلام وأوحد فضلاء الأنام الشيخ محمـد بـن عبـادة بـن بـري العـدوي ينتهي نسبه إلى علي أبي صالح المدفون بالعلوة في بني عدي قدم إلى مصـر سنـة 1164 وجـاور بالأزهـر وحفـظ المتـون ثـم حضـر شيـوخ الوقـت ولـازم دروس علماء العصر ومهر في الفنون وتفقه على علماء مذهبه من المالكية مثل الشيخ علي العدوي والشيخ عمر الطحلاوي والشيخ خليل والشيخ الدردير والبيلي وأخذ المعقولـات عـن شيخه الشيخ علي العدوي الصعيدي وغيره ولازمه ملازمة كليه وانتسب إليه حسًا ومعنى وصار من نجباء تلامذته ودرس الكتب الكبار في الفقـه والمعقـول ونـوه الشيـخ بفضلـه وأمـر الطلبة بالأخذ عنه وصار له باع طويل وذهن وقاد وقلم سيال وفصاحة في اللسان والتقرير وصواب في التحرير وقوة استعداد واستحضار وسليقة‏.‏

ومن تآليفه حاشية على شذور الذهـب لابـن هشـام متداولـة بأيـدي الطلبة نافعة وحاشية على مولد النبي صلى الله عليه وسلم للغيطي وابن حجر والهدهدي وحاشية على شرح بن جماعة في مصطلح الحديث وحاشية عجيبـة علـى جمـع الجوامـع وعلـى السعـد والقطـب وعلـى أبي الحسن وحاشية على شرح الخرشي وعلـى فضائـل رمضـان وكتابـة محـررة علـى الورقـات والرسالـة العضديـة وعلـى آداب البحث والاستعـارات‏.‏

ولـم يـزل يملـي ويقـرئ ويفيـد ويحـرر ويجيـد حتـى وافـاه الحمـام وتوفـي في أواخر شهر جمـادى الثانيـة مـن السنـة بعد أن تعلل بعلة الاستسقاء سنين وكان يقرأ ليالي المواسم مثل نصف شعبان والمعراج وفضائل رمضان وغير ذلك نيابة عن شيخه الشيخ علي الصعيدي العدوي ويجتمع بدرسه الجم الكثير من طلبة العلم والعامة رحمه الله‏.‏

ومـات الأميـر علـي بـك السروجـي وهو من مماليك إبراهيم كتخدا وإشرافات علي بك أمره وقلده الصنجقية بعد موت سيدهم ولقب بالسروجي لكونه كان سكنًا بخط السروجية‏.‏

ولما أمره علـي بـك هـو وأيـوب بـك مملوكـه ركـب معمهـا إلـى بيـت خليـل بـك بلفيـا وخطـب لعلـي بـك هـذا أخـت خليـل بـك وهـي ابنـة إبراهيـم بلفيـا الكبيـر وعقـد عقـده عليهـا ثم خطب لأيوب بك ابنة خليل بك وعقـد للأخـرى علـى أيـوب بـك فـي ذلـك المجلـس وشربـوا الشربـات وفرقـوا المحـارم والهدايـا وانصرفـوا وعملـوا العـرس بعـد أن جهزهما بما يليق بأمثالهما وزفوا واحدة بعد أخرى إلى الزوج‏.‏

ولمـا حصلـت الوحشـة بيـن المحمديـة واسمعيـل بـك انضـم إلـى اسمعيـل بـك لكونـه خشداشـه وخـرج إلى الشام صحبته فلما سافر اسمعيل بك إلى الديار الرومية تخلفه المترجم مع من تخلف ومات ببعض ضياع الشام كما ذكر‏.‏

ومـات أيضـًا الأميـر حسـن بـك المعـروف بسـوق السلـاح لسكنه في تلك الخطة ببيت الست البدوية وأصله مملوك صفية جارية الشيخ أبي المواهب البكري وكان بن أخيها فاشترته واستمر في خدمـة الشيـخ أبـي المواهـب إلـى أن مات فسلك في طريق الأجناد وخدم علي بك إلى أن جعله كاشفًا في جهة من الجهات القبلية فأقام بها إلى أن خالف محمد بك على سيده علي بك وذهـب إلى قبلي واجتمعت عليه الكشاف والأجناد وكان حسن هذا من جملة من حضر إليه بمالـه ونوالـه وخيامـه وحضـر محمـد بـك إلـى مصـر وملكهـا مـن سيده علي بك‏.‏

ولم يزل حسن هذا فـي خدمـة محمـد بـك أبـي الذهـب فرقاه في الخدم والمناصب وصنجقه ولم يزل في الإمارة مدة محمـد بـك وأتباعـه إلـى أن خـرج مـع من خرج صحبة اسمعيل بك ومات ببعض ضياع الشام والله الموفق‏.‏

سنة أربع وتسعين ومائة وألف فيهـا فـي يـوم الخميـس حـادي عشـر صفـر دخـل الحجـاج إلـى مصـر وأميـر الحـاج مراد بك ووقف لهم العربان في الصفرة والجديدة وحصروا الحجاج بين الجبال وحاربوهم نحو عشر ساعات ومات كثير من الناس والغزو الأجناد ونهبت بضائع وأحمال كثيرة وكذلك من الجمال والدواب والعرب بأعلى الجبال والحج أسفل كل ذلك والحج سائر‏.‏

وفي يوم الخميس ثالث شهر رجب اجتمع الأمراء وأرسلوا إلى الباشا أرباب العكاكيز وأمروه بالنـزول مـن القلعـة معـزولًا فركـب فـي الحـال ونـزل إلـى مصـر العتيقـة ونقلـوا عزالـه ومتاعـه فـي ذلـك اليوم واستلموا منه الضربخانة وعمل إبراهيم بك قائمقام مصر‏.‏

فكانت مدة ولاية اسمعيل باشا في هـذه المـرة ثمانيـة أشهـر تنقص ثلاثة أيام وكان أصله رئيس الكتاب باسلامبول من أرباب الأقلام‏.‏

وكـان مـراد بـك هـذا أصهـل مـن مماليكـه فباعـه لبعـض التجـار فـي معارضـة وحضـر إلـى مصـر ولـم يزل حتى صار أميرها‏.‏

وحضر سيده هذا في أيام إمارته وهو الذي عزله من ولايته ولكن كان يتأدب معه ويهابه كثيرًا ويذكر سيادته عليهن وكان هذا الباشا أعوج العنق للغاية وكان قد خـرج لـه خـراج فعالجـه بالقطع فعجزت العروق وقصرت فاعوج عنقه وصارت لحيته عند سدره ولا يقدر على الالتفات إلا بكليته إلا أنه كان رئيسـًا عاقـلًا صاحـب طبيعـة ويجـب المؤانسـة والمسامرة‏.‏

ولما حضر إلى مصر وسمع بأوصاف شيخنا الشيخ محمود الكردي أحبه واعتقده وأرسل له هدية وأخذ عليه العهد بواسطة صديقنا نعمان أفندي وكان به آنسًا وقلده أمين الضربخانة‏.‏

ولما أخذ العهد على الشيخ أقلـع عـن استعمـال البـرش وألقـاه بظروفـه وقلـل مـن استعمال الدخان‏.‏

وكان عنـده أصنـاف الطيـور المليحـة الأصـوات وعمـل بستانـًا لطيفـًا فـي الفسحة التي كانت بداخل السراية وزرع بها أصناف الزهور والغرس والورد والياسمين والفل وبوسطه قبة على أعمدة لطيفة من الرخام وحولها حاجز من السلك النحاس الرفيع الأصفر وبداخلها كثير من عصافير القنارية وعمل لهم أوكارًا يأوون إليها ويطيرون صاعدين هابطين بداخـل القبة ويطرب لأصواتهم اللطيفة وأنغامهم العذبة وذلك خلاف ما في الأقفاص المعلقة في المجالس وتلك الأقفاص كلها بديعة الشكل والصنعة‏.‏

ولما أنزله على هذه الصورة انتهب الخدم تلك الطيور والأقفاص وصاروا يبيعونها في أسواق المدينة على الناس‏.‏

وفـي يـوم الجمعـة عاشـر شعبـان الموافـق لسابع مسرى القبطي أوفى النيل المبارك وكسر السد في صبحها يوم السب بحضرة إبراهيم بك قائمقام مصر والأمراء‏.‏

وفـي أواخـر شعبـان شـرع الأمـراء فـي تجهيز تجريدة وسفرها إلى جهة قبلي لاستفحال أمر حسن بك ورضوان بك فإنه انضم إليهم كثير من الأجناد وغيرهم وذهب إليهم جماعة اسمعيل بك وهـم إبراهيـم بـك قشطـة وعلـي بك الجوخدار وحسين بك وسليم بك من خلف الجبل فعندما تحققـوا ذلـك أخـذوا فـي تجهيـز تجريـدة وأميرهـا مـراد بـك وصحبتـه سليمـان بـك أبـو نبـوت وعثمـان بـك الأشقر ولاجين بك ويحيى بك وطلبوا الاحتياجات واللوازم وحصل منهم الضرر وطلب مراد بك الأموال من التجار وغيرهم مصادرة وجمعوا المراكب وعطلوا الأسباب وبرزوا بخيامهم إلى جهة البساتين‏.‏

وفيه حضر من الديار الرومية أمير أخور وعلى يده تقرير لاسمعيل باشا على السنة الجديدة فوجده معزولًا وأنزلوه في بيت بسويقة العزى‏.‏

وفي يوم الخميس عشرين شوال وكان خروج المحمل والحجاج صحبة أمير الحج مصطفى بك الصغير‏.‏

من مات في هذه السنة مـات السيـد الأجـل الوجيـه الفاضـل السيـد محمـد بـن عثمان بن محمد بن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيم بن مصطفى بن القطب الكبير سيدي محمد دمرداش الخلوتي ولد بزاوية جده ونشـأ بهـا ولمـا توفـي والـده السيـد عثمان جلس مكانه في خلافتهم وسار سيرًا حسنًا مع الأبهة والوقار وتردد الأفاضل إليه على عادة أسلافه‏.‏

وكان يعاني طلب العلم مع الرفاهية وبعض الخلاعة ولازم المرحوم الوالد هو وأولاده السيد عثمان والسيد محمد المتولي إلا آن في مطالعة الفقه الحنفي وغيره في كل يوم بالمنزل ويحضرون أيضًا بالأزهر وعلى الأشياخ المترددين عليهم بالزاوية مثل الشيخ محمد الأمير والشيخ محمد العروسي والشيخ محمد بن اسمعيـل النفـراوي والشيـخ محمـد عرفـة الدسوقـي وغيرهم وكان إنسانًا حسن العشرة والمودة‏.‏

توفي في رابع عشر رمضان من السنة ودفن بزاويتهم عند أسلافهم‏.‏

ومات الفقيه النبيه المتقن المتفنن الأصولي النحوي المعقولي الجدلي الشيخ مصطفـى المعـروف بالريـس البولاقـي الحنفـي كـان فـي الأصـل شافعـي المذهـب ثـم تحنف وتفقه على الشيخ الاسقاطي والسيد سعودي والدلجي وحضر المعقولات على الشيخ علي الصعيدي والشيخ علي قايتباي والإسكندراني وكان ملازمًا للسيد سعودي فلما توفي لازم ولده السيد إبراهيم ولـم تطـل أيامه فلما مات لازم الشيخ الوالد حسن الجبرتي ملازمة كلية في المدينة وبولاق وكان يحبه لنجابته واستحضاره ونوه بشأنه ولاحظه بأنظـاره وأخـذ لـه تدريـس الحنفيـة بجامـع السنانيـة وجامـع الواسطـي وعاونـه في أمور من الأحكام العامة ببولاق حتى اشتهر ذكره بها وعظم شأنه عند أهلها وصار بيته مثل المحكمة في القضايا والدعاوى والمناكحات والخصومات وكان فيه شهامة وقوة جنان وصلابة رحمه الله تعالى وعفا عنه‏.‏

ومات الولي الصالح الفاضل الشيخ عبد الله بن محمد بن حسين السندي نزيل المدينة المنورة المشهور بجمعة حضر دروس الشيخ محمد حياة السندي وغيره من الواردين وجـاور بالمدينـة نحـوًا مـن أربعيـن سنـة وانتفـع به طلبة المدينة واشتهرت بركنه‏.‏

فكل من قرأ عليه شيئًا فتح الله عليه وصار من العلماء وكان ذا كرم ومروءة وحياء وشفقة توفي في هذه السنة‏.‏

ومات الشيخ الصالح الوجيه أحمد بن عبد الله الرومي الأصل المصري المكتب الخطاط الملقب بالشكـري جـود الخـط علـى جماعـة من المشاهير ومهر فيه حتى برع وأجيز وأجاز على طريقتهم ونسخ بيده عدة مصاحف ودلائل الخيرات وغير ذلك وانتفع به الناس انتفاعًا عامًا واشتهر خطه في الآفاق وأجاز لجماعة وكان وجيهًا منور الشيبة يلوح عليه سيما الصلاح والتقوى نظيـف الثيـاب حسـن الأخلـاق مهذبـًا متواضعـًا‏.‏

توفـي عشية يوم الأربعاء ثالث جمادى الأولى من السنة وصلي عليه بالأزهر ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى‏.‏

سنة خمس وتسعين ومائة وألف في منتصف المحرم قبض إبراهيم بك على إبراهيم أغا بيت المال المعروف بالمسلماني وضربه بالنبابيت حتى مات وأمر بإلقائه في بحر النيل فألقوه وأخرجه عياله بعد أيام من عند شبر وفي يوم السبت سادس عشر صفر نزل الحجاج ودخلوا إلى مصر صحبة المحمل وأمير الحاج مصطفى بك في يوم الثلاثاء تاسع عشرة‏.‏

وفيه جاءت الإخباريات اسمعيل بك وصل من الديار الرومية إلى ادرنه وطلع من هناك ويمل يزل يتحيل حتى خلص إلى الصعيد وانضم إلى حسن بك ورضوان بك وباقي الجماعة‏.‏

وفـي أواخـر شهـر صفـر وصلـت الأخبـار مـن ناحيـة قبلـي بـأن مـراد بـك خنـق إبراهيم بك أوده باشا قيل أنه اتهمه بمكاتبات إلى اسمعيل بك وحبس جماعة آخرين خلافه‏.‏

وفيه وصلت الأخبار بورود باشا إلى ثغر سكندرية واليًا على مصر وهو محمد باشا ملك‏.‏

وفـي سـادس جمـادى الأولـى وصـل مـراد بـك ومـن معـه إلـى مصـر وصحبنـه إبراهيـم بـك قشطـة صهر اسمعيـل بـك وسليـم بـك أحـد صناجـق اسمعيـل بـك بعدمـا عقـد الصلـح بينه وبينهم وأحضر هؤلاء صحبتـه رهائـن وأعطى لاسمعيل بك اخميم وأعمالها وحسن بك قنا وقوص وأعمالها ورضوان بـك اسنـا ولـم تـم الصلـح بينـه وبينهـم علـى ذلـك أرسـل لهـم هدايـا وتقادم وأحضر صحبته من ذكر فكانـت مـدة غيابـه ثمانيـة أشهـر وأيامـًا ولم يقع بينهم مناوشات ولا حرب بل كانوا يتقدمون بتقدمه ويتأخرون بتأخره حتى تم ما تم‏.‏

وفي منتصف شهر جمادى الأولى سافر علي أغا كتخدا الجاويشية وأغات المتفرقة والترجمان وفـي غـرة شهـر رجـب وصـل الباشـا إلى بر انبابة وبات هناك وعدت الأمراء في صبحها للسلام عليه ثم ركب إلى العادلية‏.‏

وفـي يـوم الاثنيـن ركـب الباشـا بالموكـب مـن العادلية ودخل من باب النصر وشق من وسط المدينة وطلع إلى القلعة وضربوا له المدافع من باب الينكرجية وكان وجيهًا جليلًا منور الوجه والشيبة‏.‏

وفي يوم الخميس عملوا الديوان وحضر الأمراء والمشايخ وقرئ التقليد بحضرتهم وخلع على الجميع الخلع المعتادة‏.‏

وفي يوم الأحد المبارك ليلة النصف من شعبان الموافق لأول مسرى القبطي كان وفاء النيل المبارك ونزل الباشا وكسروا السد بحضرته على العادة صبح يوم الاثنين‏.

من مات في هذه السنة من الأئمة والأعيان

توفـي شيخنـا الإمـام العـارف كعبة كل ناسك عمدة الواصلين وقدوة السالكين صاحب الكرامات الظاهرة والإشارات الباهرة شخينا وأستاذنا الشيخ محمود الكردي الخلوتي حضر إلى مصر متجردًا مجاهدًا مجتهدًا في الوصول إلى مولاه زاهدًا كل ما سوأه فأخذ العهد وتلقن الذكر من الأستاذ شمس الدين الحفني وقطع الأسماء وتنزلت عليه الأسرار وسطعت على غرته الأنوار وأفيـض علـى نفسه القدسية أنواع العلوم المدنية‏.‏

وله رسالة في الحكم ذكر أن سبب تأليفه لها أنـه رأى الشيـخ محـي الديـن العربـي رضـي اللـه عنـه فـي المنـام أعطاه مفتاحًا وقال له‏:‏ افتح الخزانة‏.‏

فاستيقـظ وهـي تدور على لسانه ويرد على قلبه أنه يكتبها‏.‏

قال‏:‏ فكنت كلما صرفت الوارد عنـي عـاد إلـي فعلمـت أنـه أمـر إلهي فكتبتها في لمحة يسيرة من غير تكلف كأنما هي تملي على لسانـي مـن قلبـي وقـد شرحهـا خليفته شيخ الإسلام والمسلمين سيدي الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر شرحًا لطيفًا جامعًا مانعًا استخرج به من كنوز معانيها ما أخفاها فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وشرحها أيضًا أحد خلفائه الأستاذ العلامة السيد عبد القـادر بـن عبـد اللطيف الرافعي البياري العمري الحنفي الطرابلسي شكر الله صنيعهما ذكر في أولها ترجمة الأستاذ كما سمعه من لفظه أن مولده ببلدة صاقص من بلاد كـوران ونشـأ فـي المجاهـدة وهـو ابـن خمـس عشـرة سنـة صائـم الدهـر محيـي الليـل كلـه فـي مسجـد ببلدتـه معـروف حتى اشتهـر أمره وقصده الناس بالزيارة فهجر ذلك المكان وصار يأوى الخراب خارج بلدته بحيث لا يشعـر بـه أحـد‏.‏

وأخبرني غير مرة أنه كان لا يغمه بالليل إلا سماع صوت الديكة لإنذارها بطلوع النهـار لمـا يجده في ليله من المواهب والأسرار‏.‏

وكان جل نومه في النهار وكثيرًا ما كان يجتمع بالخضـر عليـه السلـام فيـراه بمجـرد مـا ينـام فيذكـر اللـه معـه حتـى يستيقـظ‏.‏

وكـان لا يفتر عن ذكر الله لا نومـًا ولا يقظـة‏.‏

وقـال مـرة‏:‏ جميـع مـا فـي كتـب إحيـاء العلـوم للغزالـي عملـت به قبل أن أطالعه فلما طالعتـه حمـدت اللـه تعالـى علـى توقيفـه إيـاي وتوليتـه تعليمـي مـن غيـر معلـم‏.‏

وكان كثير التقشف من الدنيا يأكل خبز الشعير وفي بيته يصنع خاص دقيق البر وكثيرًا ما كان يلومه أخوه على ذلك وكان أخوه الكبير كثير اللوم له على ما يفعله من مجاهداته وتقشفاته‏.‏

ولما مات والده ترك ما يخصـه مـن إرثـه لهـم وكـان والـده كثيـر المـال والخير وعليق دوابه في كل ليلة أكثر من نصف غرارة من الشعير‏.‏

ولما صار عمره ثمان عشرة سنة رأى في منامه الشيخ محمد الحفناوي فقيل له‏:‏ هذا شيخك فتعلق قلبه به وقصده بالرحلة حتى قدم مصر واجتمع به وأخذ عنه الطريق الخلوتيـة وسلـك علـى يديـه بعـد أن كـان على طريقة القصيري رضي الله عنه‏.‏

وقال له في مبدأ أمـره‏:‏ يـا سيـدي إنـي أسلـك علـى يديـك ولكـن لا أقـدر على ترك أوراد الشيخ علي القصيري فأقرأ أوراده وأسلـك طريقتـك‏.‏

فأجابـه الشيـخ إلـى ذلـك ولـم يشدد عليه في ترك أوراد الشيخ القصيري لما عرفه من صدقه مع المذكور فلازمه مدة طويلـة ولقنـه أسمـاء الطريقـة السبعـة فـي قطـع مقاماتها وكتب له إجازة عظيمة شهد له فيها بالكمال والترقي في مقامات الرجال وأذن لـه بالإرشـاد وتربية المريدين‏.‏

فكان الشيخ في آخر أمره إذا أراد أحد أن يأخذ عنه الطريق يرسله إلى الشيخ محمود ويقول لغالب جماعته‏:‏ عليكم بالشيخ محمود فإني لولا أعلم من نفوسكم ما أعلم لأمرتكم كلكم بالأخذ عنه والانقياد له‏.‏

ولما قدم شيخ شيخه السيد مصطفى البكري لازمه وأخذ عنه كثيرًا من علم الحقائق وكان كثير الحب فيه فلما رآه لا يقرأ أوراد الطريقـة الخلوتية ويقتصر على أوراد القصيري عاتبه في ذلك وقال له‏:‏ أيليق بك أن تسلك على أيدينا وتقرأ أوراد غيرنا إما أن تقرأ أورادنا أو أن تتركنا‏.‏

فقال‏:‏ يا سيدي أنتم جعلكـم اللـه رحمـة للعالمين وأنا أخاف من الشيخ القصيري إن تركت أوراده وشيء لازمته في صغري لا أحب أن أتركـه فـي كبـري‏.‏

فقال له السيد البكري‏:‏ استخر الله وانظر ماذا ترى لعل الله يشرح صدرك‏.‏

قال‏:‏ فاستخرت الله العظيم ونمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم والقصيري عن يمينه والسيد البكري عن يساره وأنا تجاههم فقال القصيري للرسول صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أليست طريقتي على طريقتك أليست أورادي مقتبسة من أنوارك فلم يأمر السيد البكري هذا بترك أورادي فاقل السيد البكري يا رسول الله رجل سلك على أيدينا وتولينا تربيته أيحسن منه أن يقرأ أوراد غيرنا ويهجر أورادنا فقال الرسول عليه السلام لهما اعملا فيه القرعة واستيقظ الشيخ من منامه فأخبر السيد البكري فقال له السيد معنى القرعة انشراح صدرك انظـره واعمل به قال الشيخ رضي الله عنه‏:‏ ثم بعد ليلة وأكثر رأيت سيدي أبا بكر الصديق رضي الله عنه في المنام وهو يقول لي يا محمود خليك مع ولدي السيد مصطفى ورأى ورد سحر الذي ألفه المذكور مكتوبًا بين السماء والأرض بالنور المجسم كل حرف منه مثل الجبل فشرح الله بعد ذلك صدره ولازم أوراد السيد البكري وأخذ من أوراد القصيري ما استطاع‏.‏

وأخبـر رضـي اللـه عنـه أنـه رأى حضـرة الرسـول صلـى اللـه عليه وسلم في بعض المرائي وكان جمع الفقـراء فـي ليلـة مباركـة وذكـر اللـه تعالـى بهـم إلـى الفجـر وكـان معـه شـيء قليـل مـن الدنيا فورده على قلبـه وارد زهـد ففـرق مـا كـان معـه علـى المذكورين وفي أثناء ذلك صرخ من بيان الجاعة صارخ يقول الله بحال قوي فلما فرغوا قال للشيخ يا سيدي سمعت هاتفًا يقول يا شيخ محمود ليلتك قبلـت عند الله تعالى قال ثم إني بعدما صليت الفجر نمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلـم قـال لـي يـا شيـخ محمـود ليلتـك قبلـت عنـد اللـه تعالـى وهات يدك حتى أجازيم فأخذ صلى الله عليه وسلم بيد الشيخ والسيد البكري حاضر بالمجلس فأخذ يده ووضع يده الشريفة بين يديهما وقال أريد أن أخاوي بينك وبين السيد البكري وأتخاوى معكما الناجي منا يأخذ بيد أخيـه فاستيقـظ فرحـًا بذلـك فلـم يلبـث إلا يسيـرًا ورسـول السيد البكري يطلبه فتوضأ وذهب إلى زيارته وكان من عادته أنه يزوره كل يوم ولا يدخل عليه إلا على طهارة فلما رآه قال له ما أبطـاك اليـوم عن زيارتنا فقال له يا سيدي سهرنا البارحة الليل كله فنمت وتأخرت عنكم فقال له السيد هل من بشارة أو إشارة فقلت يا سيدي البشارة عندكم فقال قل ما رأيت قال فتعجبت من ذلك وقلت يا سيدي رأيت كذا وكذا فقال يا ملا محمود منامك حق وهذه مبشـرة لنـا ولـك فإنـه صلـى اللـه عليـه وسلـم ناج قطعًا ونحن ببركته ناجون ومناقبه رضي الله عنه كثيـرة لا تحصـر‏.‏

وكـان كثيـر المـرأى لرسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم قـل مـا تمـر بـه ليلـة إلا ويراه فيها وكثيـرًا مـا يـرى رب العـزة في المنام ورآه مرة يقول له يا محمود إني أحبك وأحب من يحبك فكان رضـي اللـه عنـه يقـول مـن أحبنـي دخـل الجنة‏.‏

وقد أذن لي أن أتكلم بذلك وأما مجاهداته فالديمة المـدرار كمـا قالـت عائشـة رضـي اللـه عنهـا فـي جنابـه صلـى اللـه عليـه وسلـم كان عمله ديمة وأيكم يستطيـع عمـل رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم‏.‏

وبلـغ مـن مجاهداتـه رضـي اللـه عنـه أنه لما ضعف عـن القيـام فـي الصلـاة لعـدم تماسكـه بنفسـه صنـع لـه خشبـة قائمة يستند عليها ولم يدع صلاة النقل قائمًا فضلًا عن الفرض ولم يدع صلاة الليل والوظائف التي عليه مرتبة في حال من الأحوال وكـان لا ينـام مـن الليـل إلا قليلًا وكان ربما بمضي عليه الليل وهو يبكي وربما تمر عليه الليلة كلها وهـو يـرد آيـة مـن كتـاب اللـه تعالـى‏.‏

وكثيـرًا مـا كـان يقتصـر علـى الخبـز والزيـت ويؤكـل في بيته خواص الأطعمة وكان غالب أكله الرز بالزيت وتارة بالسمن البقري وقـل مـا تـراه فـي خلوتـه أو مـع أصحابه إلا وهو مشغول فـي وظائـف أوراد‏.‏

وقـال لـي مـرة ربمـا أكـون مـع أولـادي ألاعبهـم وأضاحكهـم وقلبـي فـي العالـم العلـوي فـي السمـاء الدنيـا أو الثانية أو الثالثة أو العرش وكثيرًا ما كان تفيض على قلبه معرفة الحق سبحانه وتعالى فيجعل يبكي ولا يشعر به جليسه‏.‏

وقلت يومًا للعـارف باللـه تعالـى خليفتـه سيـدي محمـد يديـر القدسـي من كرامات الأستاذ أنه لا يسمع شيئًا من العلم إلا حفظه ولا يزول من ذهنه ولو بعد حين فقال لي رضي الله عنه بل الذي يعد من كرامات الشيخ أنه لا يسمع شيئًا من العلم النافع إلا ويعمل به في نفسه ويداوم عليه‏.‏

فقلت صدقـت هـذا واللـه حاله وكنت مرة أسمعته رياض الرياحين لليافعي فلما أكملته قال لي بمحضر من أصحابه هل يوجد الآن مثل هؤلاء الرجال المذكورين في هذا الكتاب تكون لهم الكرامات فقـال لـه بعـض الحاضريـن الخيـر موجـود يا سيدي في أمة الرسول عليه الصلاة والسلام فقال الشيخ وقد وقع لي في الطريق أبلغ من ذلـك وأحكـي لكـم عمـا وقـع لـي فـي ليلتـي هـذه‏:‏ كنـت قاعـدًا أقـرأ فـي أورادي فعطشت وكان الزمن مصيفًا والوقت حارًا وأم الأولاد نائمة فكرهت أن أوقظها شفقة عليهـا فمـا استتـم هـذا الخاطـر حتـى رأيـت الهـواء قـد تجسم لي ماء حتى صرت كأني في غدير مـن المـاء ومـا زال يعلـو حتـى وصـل إلـى فمـي فشربـت مـاء لـم أشـرب مثلـه ثـم أنـه هبـط حتـى لم يبق قطرة ماء ولم يبتـل منـي شـيء‏.‏

وبـردت ليلـة فـي ليالـي الشتـاء بـردًا شديـدًا وأنـا قاعـد أقـرأ فـي وردي وقـد سقـط عنـي حرامـي الـذي أتغطـى به وكان إذا سقط عنه غطاؤه لا يستطيع أني رفعه بيده لضعف يده قال فأردت أن أوقظ أم الأولاد فأخذتني الشفقة عليها فما تم هذا الخاطر حتى رأيـت كانونًا عظيمًا ملآنًا من الجمر وضع بين يدي وبقي عندي حتى دفئ بدني وغلب وهج النـار علـي فقلـت فـي سـري هـذه النـار حسيـة أم هـي خيـال فقربـت إصبعـي منها فلذعتني فعلمت أنهـا كرامـة من الله تعالى ثم رفعت‏.‏

والحاصل أن مناقبه رضي الله عنه لا تكاد تنحصر وكان لكلامـه وقـع فـي النفـوس عظيـم إذا تكلم كأنما كلماته خرزات نظمن في جيد حسناء لا ينطق إلا بحكمة أو موعظة أو مسائل دينية أو حكاية تتضمن جوابًا عن سـؤال يسألـه بعـض الحاضريـن بقلبه ولا تكاد تسمع في مجلسه ذكر أحد بسوء وكان كثير الشفقة والرحمة على خلق الله لا سيما أرباب الذنوب والمعاصي كثير التواضع كثير الإحسان للفقراء والمساكين لا يمسـك مـن الدنيا شيئًا جميع ما يأتيه ينفقه في طاعة الله‏.‏

ما أمسك بيده درهمًا ولا ينارًا قط آخذًا بالـورع فـي جميـع أمـوره ليـس له هم إلا أمور الآخرة لا يهتم لشأن الدنيا أقبلت أو أدبرت كفاه الله مؤنة الدنيا عنده خادم يقبض ما يأتي له من الدنيا ويصرف عليه فلا يزيد ذلك على حاجته ولا ينقص شيئًا قال السيد شارح الرسالة خدمته نحو عشر سنوات ما رأيته ارتكب صغيرة قط وللأستاذ رضي الله عنه رسالة سماها السلوك لأبناء الملوك وهي صورة مكتوب من إملائه أرسله إلى رجل من أعيان المغرب يقال له ابن الظريف وكان الشيخ رضي الله عنه أرسـل لـه جوابـًا عن مكاتبة أرسلها فأرسل مراسلة أخرى والتمس الجواب يكون متضمنًا بعض النصائح فأملى تلك المراسلة فبلغت نحو ستة كراريس وصارت كتابًا عظيم النفع سارت به الركبان وانتفع به القاصي والداني وكتب عليه كثير من العلماء وكانت وفاة الأستاذ رضي الله عنه ثالث المحرم من هذه السنة وتولى غسله الشيخ سليمان الجمل وصلي عليه بالأزهر ودفن بالصحراء بجوار السيد مصطفى البكرى رضي الله عنهما‏.‏

ومات الأديب الماهر واللبيب الشاعر الشيخ علي بن عنتـر الرشيـدي كـان متضلعـًا فصيحـًا مفوهًا له موشحات ومقاطيع كثيرة ونظم البحور الستة عشر كلها بالاقتباس منها قوله فـي الطويل‏:‏ أطلت الجفا فأسمح بوصلك يا رشا ولا تبدلن وعد الكئيب بضده فعولن مفاعيلن فعولـن مفاعلـن ولا تحسبـن اللـه مخلـف وعده وقال في المديد ومنه الاكتفاء‏:‏ في مديـد الهجـر قـال اللواحـي دع هواه فالغرام جنون فاعلاتن فاعلن فاعلاتن واصطبر عن حبه قلـت كونـوا وقال في الرجز‏:‏ كملت محاسن منيتي فهديت في روض غدا في وجنتيـه نضيـرا وقال في الرجز‏:‏ ارجزفاني في هوى حلو اللما مسى الورى أضحيت صبا هائما مستفعلـن مستفعلـن مستفعلن إن قل صبري قال صبر قل وما وقال في الوافر‏:‏ بوافـر لوعتـي صل يا غزالي فكل متيم فإن وبالي مفاعلتن مفاعلتن فعولن ويبقـى وجه ربك ذو الجلال وقال في البسيط‏:‏ بسطت في شادن حلو اللما غزلي وقلت جدلي بوصل منك يا أملي مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن فقال لي خلق الإنسان من عجل وقال في الرمل‏:‏ قد رملت الوصف فيـه قائـلًا مذبـدًا الهنـدى من أهدا به فاعلاتن فاعلاتن فاعلن قـل هـو الرحمـن آمنـا بـه وقال في الخفيف‏:‏ خفـف الهجـر عـن فـؤاد كليم وامل كاس الوصال لي يا نديمي وله ديوان شعر مشهور ولم يزل حتى مات بالثغر في ربيع الأول من السنة‏.‏

ومـات الشيـخ الصالـح الديـن بقيـة السلـف ونتيجة الحلف الشيخ أحمد ابن محمد بن أحمد بن عبد المنعم بن أبي السرور البكري الشافعي شيخ سجادة البكرية بمصر كان صاحب همة ومروءة وديانـة وعفـاف ومحبـة وإنصاف وتولى بعد موت أبيه فسار سيرًا وسطًا مع صفاء الباطن وكان الغالـب عليه الجذب والصلاح والسلوك على طريق أهل الفلاح مع أوراد وأذكار يشتغل بها توفي يوم السبت ثاني عشر ربيع الثاني من السنة وصلي عليه بالجامع الأزهر بمشهد حافل ودفن عند أسلافه قرب مقام الإمام الشافعي رضي الله عنه‏.‏

ومات الإمام الفصيح المعتقد الشهير الذكر الشيخ إبراهيم بن محمد بـن عبـد السلـام الرئيـس الزمزمي المكي الشافعي مؤقت حرم الله الأمين ولد بمكة سنة 1110 وسمع من ابن عقيلـة وعمـر بـن أحمـد بـن عقيل والشيخ سالم البصري والشيخ عطاء الله المصري وابن الطيب وحضر على الشيخ أحمد الأشبولي الجامع الصغير وغيره وأخذ عن السيد عبد الله ميرغني ومن الورادين من أطراف البلاد كالشيخ عبد الله الشبراوي والشيخ عمر الدعوجي والشيخ أحمد الجوهري وأجازه شيخنا السيد عبد الرحمن العيدروس بالذكر على طريقة السادة النقشبندية وألف باسمه رسالة سماها البيان والتعليم لمتبع ملة إبراهيم ذكر فيها سنده وأجازه السيد مصطفـى البكـري فـي الخلوتيـة وجعلـه خليفتـه فـي فتـح مجالـس الذكـر وفـي ورد سحر ولازم المرحوم الوالـد حسـن الجبرتـي سنـة مجاورتـه بمكـة وهـي سنـة خمـس وخمسين ملازمة كلية وأخذ عنه علم الفلـك والأوفـاق والاستخراجـات والرسم وغير ذلك ومهر في ذلك واقتنى كتبًا نفيسة في سائر العلوم بددها أولاده من بعده وباعوها بأبخس الأثمان‏.‏

وكان عنده من جملة كتبه زيج الراصد الغيبـك السمقرنـدي نسخة شريفة بخط العجم في غاية الجودة والصحة والإتقان وعليها تقييدات وتحريرات وفوائد شريفة لا يسمح الدهر بمثل تلك النسخة وكنت كثيرًا ما أسمع من المرحوم الوالـد ذكرهـا ومدحتهـا ونسخـة الوالد مكتوب عليها بخط رستم شاه ما نصه‏:‏ قد اشترينا هذا الكتـاب فـي دار سلطنـة هـراة باثنـي عشـر ألف دينار‏.‏

وتحت ذلك اسمه وختمه‏.‏

فلما كان في سنـة سـت وتسعيـن ورد علينـا بعـض الحجـاج الجزائرية وسألني عن كتب يشتريها من جملتها الزيج المذكـور وأرغبني في زيادة الثمن فلم تسمح نفسي بشيء من ذلك ثم سافر إلى الحج ورجع وأتاني ومع خادمه رزمة كبيرة فوضعها بين أيدينا وفتحها وأخرج منها نسخة الزيج المذكورة وفرجنـي عليهـا وقـال‏:‏ أيهمـا أحسـن نسختك التي ضننت بها أو هذه‏.‏

وكنت لم أرها قبل ذلك فرأيتها شقيقتها وتزيد عنها في الحسن بصغر حجمها وكثرة التقييدات بهامشها وطيارات كثيرة بداخلها في المسائل المعضلة مثل التسييرات والانتهاءات والنمودارات وغير ذلك وجميعها بحسن الخط والوضع فرأيتها المخدرة التي كشف عنها القناع وإنما هي المعشوقة بالسماع فقلت له‏:‏ كيـف وصلـت إلـى هـذه اليتيمـة ومـا مقدار ما دفعته فيها من المهر والقيمة‏.‏

فأخبرني أنه اشتراها مـن ابـن الشيخ بعشرين ريالًا وكتاب المجسطي وكتاب التبصرة وشرح التذكرة ونسخة البارع في غايـة الجودة وزيج ابن الشاطر وغير ذلك من الكتب التي لا توجد في خزائن الملوك وكلها بمثل ذلك الثمن البخس‏.‏

فقضيت أسفًا وأخذ الجميع مع ما أخذ وذهب إلى بلاده‏.‏

وهكذا حال الدنيا ولم يزل المترجم على حالة حميدة واشتهر أمره في الآفاق وعرف بالصلاح والفضل وأتته الهدايـا والمراسلـات من جميع الأطراف والجهات حتى لحق بربه عز وجل سابع عشر ربيع الأول من السنة‏.‏

ومات الشيخ الفاضل الصالح أحمد بن محمد الباقاني الشافعي النابلسي سمع الأولية من محمد بن محمد الخليلي ورافق الشيخ السفاريني في بعض شيوخه من أهل البلد وأجازه السيـد مصطفـى البكـري فـي الورد والطريقة ورد مصر أيام توليه المرحوم مصطفى باشا طوقان وكان له مذاكـرة حسنـة وورع وصلـاح وعبـادة وانتفـع بـه الطلبـة فـي بلاده ثم عاد إلى بلاده فتوفي في ثالث جمادى الثانية‏.‏

ومات الأجل المفوه الشريف الفاضل السيد حسين بن شرف الدين ابن زين العابدين بن علاء الديـن بـن شـرف الديـن بـن موسـى بـن يعقـوب ابـن شـرف الديـن بـن يوسف بن شرف الدين بن عبد اللـه بـن أحمـد أبـي ثـور ابـن عبـد اللـه بـن محمـد بـن عبـد الجبـار الثـوري المقدسـي الحنفـي جـده الأعلـى أحمـد بـن عبـد اللـه دخـل حيـن فتح بيت المقدس راكبًا على ثور فعرف بأبي ثور وأقطعه الملك العزيز عثمان بن يوسف بن أيوب ديرمار يقوص وبه دفن وذلك في سنة خمسمائة وأربعـة وتسعين وجده الأدنى زين العابدين أمه الشريفة راضية بنت السيد محب الدين محمد بن كريم الديـن عبـد الكريـم ابـن داود بـن سليمـان بـن محمـد بـن داود بـن عبـد الحافـظ بن أبي الوفاء محمد بن يوسف بن بدران بن يعقوب بن مطر بن السيد زكي الدين سالم الحسيني الوفائي البدري المقدسي ومن هنا جاء لحفيده المترجم الشرف وهي أخت الجد الرابع للسيد علي المقدسي ويعـرف المترجـم أيضـًا بالعسيلي وكأنه من طرف الأمهات ولد ببيت المقدس وبها نشأ وقرأ شيئًا من المبـادئ ثـم ارتحـل إلـى دمشـق فحضـر دروس الشيـخ اسمعيـل العجلونـي ولازمـه وأجـازه بمروياته وجود الخط على مستعد زاده فمهر فيه وكتب بخطه أشياء ودخل مصر ونزل في رواق الشوام بالأزهر وأقبل على تحصيل العلم والمعارف فحضر دروس مشايخ الوقت كالشبراوي والحفني والجوهري ولازم السيد البليدي واستكتب حاشية على البيضاوي وسافر إلـى الحرميـن وجـاور بهمـا وأخـذ عن الشيخ محمد حياة والشيخ ابن الطيب ثم قدم مصر وتوجه منها لدار ملك الورم وأدرك بها بعض ما يروم وعاشر الأكابر وعرف اللسان وصار منظورًا إليـه عنـد الأعيـان ثـم قـدم مصـر مع بعض أمراء الدولة في أثناء سنة 1172 وانضوى إلى الشيخ السيـد محمـد أبـي هـادي بـن وفـا وكان صغير السن فألفه وأحبه وأدبه وصار يذاكره بالعلم واتحد معـه حتـى صـار مشـارًا إليـه فـي الأمـور معـولًا عليـه في المهمات‏.‏

ولما تولى نقابة السادة الأشراف مضافـة إلـى خلافـة الوفائيـة كـان هـو كالكتخـدا لـه فـي أحواله معتمدًا عليه في أفعاله وأقواله وداوم علـى ذلـك برهـة مـن الزمـان وهو نافذ الكلمة مسموع المقال حسن الحركات والأحوال إلى أن توفي الشيخ المشار إليه فضاقت مصر عليه فتوجه إلى دار السلطة وقطنها واتخذها دارًا وسكنها وأقبـل علـى الإفـادة ونشـر العلـوم بالإعـادة‏.‏

وبلغنـي أنـه كتـب فـي تلـك الأيام شرحًا على بعض متون الفقـه في مذهب الإمام وصار مرجع الخواض والعوام مقبولًا بالشفاعة عند أرباب الدولة حتى وافاه الحمام في هذه السنة رحمه الله وكان أودع جملة من كتبه بمصر فأرسل بوقفها برواق الشوام فوضعوها في خزانة لنفع الطلبة‏.‏

ومات الفقيه العلامة الصالح المعمر الشيخ عبد الله بن خزام أبو الطوع الفيومي وغيره وقدم الجامـع الأزهـر فأخـذ عـن فضـلاء عصره وهو أحد من يشار إليه في بلده بالفضل وتولى الإفتاء فسـار بغايـة التحـري وبلغني من تواضعه أنه كانيأتي إليه أحد العوام فيقول له‏:‏ حاجتي في بلد كذا فقم معي حتى تقضيها‏.‏

فيطيعه ويذهب معه الميلين والثلاثة ويقضيها وقد تكرر ذلك منه وكان له في كل يوم صدقات الخبز على الفقراء والمساكين يفرقها عليهم بيده ولا يشمئز وكانت له معرفة تامة في علم المذهب وغيره من الفنون الغريبة كالفلك والهيئة والميقات وعند آلات لذلك‏.‏

وكان إنسانًا حسنًا جامعًا لأدوات الفضائل‏.‏

توفي يوم الجمعة حادي عشر ربيع الثاني من السنة ولم يخلف بعده مثله‏.‏

ومات الفاضل الصالح الشيخ علي بن محمد الحباك الشافعي الشاذلي تفقه على الشيخ عيسى البراوي وبه تخرج وأخذ الطريقة الشاذلية عن الشيخ محمد كشك وإليه انتسب ولما توفي جعل شيخـًا علـى المريديـن وسـار فيهـم سيـرًا مليحـًا‏.‏

وكـان يصلي إمامًا بزاوية بقلعة الجبل وكان شيخًا حسن العشرة لطيف المجاورة طارحًا للنكات متواضعًا وقد صارت له مريدون وأتباع خاصة غير أتباع شيخه توفي في يوم الاثنين ثالث عشرين شعبان من السنة‏.‏

ومات من الأمراء الأمير إبراهيم بك أوده باشه خنقه مراد بك عفا الله عنه والمسلمين‏.‏

سنة ست وتسعين ومائة وألف فيها في صفر نزل مراد بك وسرح بالأقاليم البحرية وطاف البلاد الشرقية وطلب منهم أموالًا وفـرض عليهـم مقاديـر من المال عظيمة وكلفًا وحق طرق معينين وغير ذلك ما لا يوصف ثم نزل إلى الغربية وفعل بها كذلك ثم إلى المنوفية‏.‏

وفي منتصف شعبان ورد أغا بطلب محمد باشا ملك إلى الباب ليتولى الصدارة فنزل من القلعة إلى قصر العيني وأقام بقية شهر شعبان ونزل في غرة رمضان وسافر إلى سكندرية‏.‏

فكانـت مـدة ولايتـه ثلاثـة عشـر شهـرًا ونصفـًا‏.‏

وهاداه الأمراء ولم يحاسبوه على شيء‏.‏

ونزل في غايـة الإعـزاز والإكـرام وكـان مـن أفاضـل العلماء متضلعًا من سائر الفنون ويحب المذاكرة والمباحثة والمسامرة وأخبار التواريخ وحكايات الصالحين وكلام القـوم وكـان طاعنـًا فـي السـن منور الشيبة متواضعًا وحضر الباشا الجديد في أواسط رمضان ونزل إليه الملاقاة وحضر إلى مصـر فـي عاشـر شـوال وطلعـوه قصر العيني فبات به وركب بالموكب في صبحها ومر من جهة الصليبة وطلع إلى القلعة وذلك على خلاف العادة‏.‏

وفيه جاءت الأخبار على أيدي السفار الواصلين من اسلامبول بأنه وقع بها حريق عظيم لم يسمـع بمثلـه واحتـرق منهـا نحو الثلاثة أرباع واحترق خلق كثير في ضمن الحريق وكان أمرًا مهولًا وبعد ذلك حصل بها فتنة أيضًا ونفوا الوزير عزت محمد باشا وبعض رجال الدولة‏.‏

وفـي ليلـة السبت ثامن عشر القعدة هرب سليم بيك وإبراهيم بك قشطة وتبعهم جماعة كثيرة نحو الثمانين فخرجوا ليلًا على الهجن وجرائد الخيل وذهبوا إلى الصعيد وأصبح الخبر شائعًا بذلك فارتبك إبراهيم بك ومراد بك ونادى الأغا والوالي بترك الناس المشي من بعد العشاء‏.‏

من توفي في هذه السنة من الأعيان توفي الأستاذ الوجيه العظيم السيد محمد أفندي البكري الصديقـي نقيـب السـادة الأشـراف بالديار المصرية كان وجيهًا مبجلًا محشتمًا سار في نقابة الأشراف سيرًا حسنًا مع الإمارة وسلوك الإنصاف وعدم الاعتساف ولما توفي ابن عمه الشيخ أحمد شيخ السجادة البكرية تولاهـا بعـده بإجمـاع الخـاص والعـام مضافـة لنقابـة الأشراف فحاز المنصبين وكمل له الشرفان‏.‏

ولم يقـم فـي ذلـك إلا نحـو سنـة ونصـف‏.‏

وتوفـي يـوم السبـت عاشـر شعبان فحضر مراد بك إلى منزله وخلع على ولده السيد محمد أفندي ما كان على والده من مشيخة السجادة البكرية ونقابة الأشراف وجهز وكفن وخرجوا بجنازته من بيتهم بالأزبكية وصلوا عليه بالجامع الأزهر في مشهد حافل ودفن بمشهد أجداده بالقرافة‏.‏

ومـات الشريـف العفيـف الوفي الصديق محمد بن زين بأحسن جمل الليل الحسيني باعلوى التريمي الأصل نزيل الحرمين سكـن بهمـا مـدة واتصـل بخدمـة الشيـخ القطيـب السمـد الشيـخ باعبـود فلوحظ بأنظاره وكان يحترمه ويعترف بمقامه ويحكي عن بعض مكاشفاته ووارداته وصحب كلًا من القطب السيد عبد الله مدهر وعارفة وقتها الشريفة فاطمة العلوية والشيخ محمد ابن عبـد الكريـم السمـان والشيخ عبد الله ميرغني وجماعة كثيرين من السادة والواردين على الحرمين مـن الأفاضـل وله محاورة لطيفة ولديه محفوظة ومعرفة بدقائق علم الطب وسليقة في التصوف‏.‏

ورد إلى مصر سنة 1181 هو عائد من الروم واجتمع بأفاضلها وعاشر شيخنا السيد محمد مرتضى وأفاده وأرشده إلى أمور مهمة وسافر صحبته لزيارة الشهداء بدمياط ولاقاه أهلها بالاحتـرام‏.‏

ثـم توجـه إلـى الحرميـن الشريفيـن وأقـام هنـاك واجتمـع بـه الشيـخ محمـد الجوهـري وآخـاه في الصحبة وكان مع ما أعطي من الفضائل يتجر بالبضائع الهندية ويتعلل بما يتحصل منها وبآخره سافر إلى الديار الهندية وبها توفي في هذه السنة‏.‏

ومات العمدة الفاضل واللوذعي الكامل الرحلة الدراكة بقية السلف الورع الصالح الزاهدالشيخ موسى بن داود الشيخوني الحنفي إمام جامع شيبون وخطيبه وخازن كتبه وكان إنسانًا حسنًا عظيم النفس منور الشيبة ضخم البدن فقيهًا مستحضرًا المناسبات مهذب النفس لين الجانب تقيًا معتقدًا ولما وقف الأمير أحمد باشجاويش كتبه التي جمعها وضعها بخزانة كتب الوقف تحت يد المترجم لاعتقاده فيه الديانة والصيانة رحمهما الله تعالى‏.‏

فيها تسحب أيضًا جماعة من الكشاف والمماليك وذهبوا إلى قبلي فشرعوا في تجهيز جريدة وعـزم مـراد بـك علـى السفـر وأخـذ فـي تجهيز اللوازم فطلب الأموال فقبضوا على كثير من مساتير الناس والتجار والمتسببين وحبسوهم وصادروهم في أموالهم وسلبوا ما بأيديهم‏.‏

فجمعوا من المال ما جاوز الحد ولا يدخل تحت العد‏.‏

وفـي منتصـف ربيـع الآخـر بـرز مراد بك للسفر وأخرج خيامه إلى جهة البساتين وخرج صحبته الأمير لاجين بك وعثمان بك الشرقاوي وعثمان بك الأشقر وسليمان بك أبو نبوت وكشافهم ومماليكهم وطوائفهم وسافروا بعد أيام‏.‏

وفـي أواخـر جمـادى الثانية وردت الأخبار بأن رضوان بكم قرابة علي بك حضر إلى مراد بك وانضم إليه فلما فعل ذلك انكسرت قلوب الآخرين وانخذلوا ورجعوا القهقرى ورجع مراد بك أيضًا إلى مصر في منتصف شهر رجب وترك هناك مصطفى بك وعثمان بك الشرقاوي وعثمان بك الأشقر‏.‏

وفي يوم الخميس سادس عشرين رجب اتفق مراد بك وإبراهيم بك على نفي جماعة من خشادشينهم وهـم إبراهيـم بـك الوالـي وأيـوب بـك الصغيـر وسليمـان بـك الأغـا ورسمـوا لأيـوب بـك أن يذهـب إلـى المنصـورة فأبـى وامتنـع مـن الخـروج فذهـب إليه حسن كتخدا الجربان كتخدا مراد بك واحتال عليه فركب وخرج إلى غيط مهمشة ثم سافر إلى المنصورة‏.‏

وأما إبراهيم بك الوالي فركـب بطوائفـه ومماليكـه وعدى إلى بر الجيزة فركب خلفه علي بك أباظة ولاجين بك وحجزوا هجنه وجماله عند المعادي وعدوا خلفه فأدركوه عند الأهرام فاحتالوا عليه وردوه إلى قصر العينـي ثـم سفـروه إلـى ناحيـة السـرو ورأس الخليـج‏.‏

وأمـا سليمـان بك فإنه كان غائبًا بإقليم الغربية والمنوفية يجمع من الفلاحين فردًا وأموالًا ومظالم فلما بلغه الخبر رجع إلى منوف فحضر إليه المعينون لنفيه وأمروه بالذهاب إلى المحلة الكبرى فركب بجماعته وأتباعه فوصل إلى مسجد الخضر فاجتمع بأخيه إبراهيم بك الوالي هناك فأخذه صحبته وذهبا إلى جهة البحيرة‏.‏

وفي يوم الأحد غاية شهر رجب طلع الأمراء إلى الديوان وقلدوا خمسة من أغوات الكشاف صناجق وهم عبد الرحمن خازندار إبراهيم بك سابقًا وقاسم أغا كاشف المنوفية سابقًا وعـرف بالموسقـو وهـو مـن مماليـك محمـد بـك وأشـراف إبراهيـم بـك وحسيـن كاشـف وعـرف بالشفت بمعنى اليهودي وعثمان كاشف ومصطفى كاشف السلحدار وهؤلاء الثلاثة من طرف مراد بك‏.‏ وفي

شهـر شعبان وردت الأخبار من ثغر سكندرية بوصول باشا إلى الثغر

واسمه محمد باشا السلحدار واليًا على مصر فنزل الباشا القديم من القلعة إلى القصر بشاطئ النيل‏.‏

وفيـه وصلـت الأخبـار بـأن سليمـان بـك وإبراهيـم بـك رجعـوا مـن ناحيـة البحيرة إلى كندتا وجلسوا هناك وأرسلوا جوابات إلى الأمراء بمصر بذلك وأنهم يطلبون أن يعينون لهم ما يتعيشون به‏.‏

وفيه أرسلوا خلعة إلى عثمان بك الشرقاوي بأن يستقر حاكمًا بجرجا وطلبوا مصطفى بك وسليمان بك أبا نبوت وعثمان بك الأشقر للحضور إلى مصر فحضروا واستقر عثمان بك الشرقاوي بجرجا‏.‏

وفي غرة رمضان هرب سليمان بك الأغا وإبراهيم بك الوالي من طندتا وعدوا إلى شرقية بلبيس ومروا من خلف الجبل وذهبوا إلى جهة الصعيد ورجع علي كتخدا ويحيى كتخدا سليمان بك إلى مصر بالحملة والجمال وبعض مماليك وأجناد‏.‏

وفي أواخر رمضان هرب أيضًا أيوب بك من المنصورة وذهب إلى الصعيد أيضًا وتواترات الأخبـار بأنهـم اجتمعـوا مـع بعضهـم واتفقـوا على العصيان فأرسلوا لهم محمد كتخدا أباظة وأحمد أغا جمليان وطلبوهم إلى الصلح ويعينون لهم أماكن يقيمون بها ويرسلون لهم احتياجاتهم فأتوا ذلك فطلبوا عثمان بك الشرقاوي ومصطفى بك للحضور فامتنعا أيضًا وقالا‏:‏ لا نحضر ولا نصلح إلا أن رجع إخواننا رجعنـا معهـم ويـردون لهـم أمرياتهـم وبلادهـم وبيوتهـم ويعطلـوا مـن صنجقوه وأمروه عوضهم‏.‏

فلما حضر الجواب بذلك شرعوا في تجهيز تجريدة وأخذوا يفتشون أماكن الأمراء المذكورين فأخذوا ما وجدوه بمنزل مصطفى بك واتهموا أناسًا بأمانات وودائـع لمصطفـى بـك وعثمـان بـك الشرقـاوي منهـم الدالي إبراهيم وغيره فجمعوا بهذه النكتة أموالًا كثيرة حقًا وباطلًا‏.‏

وفي يوم الخميس عشرين شهر شوال كان خروج المحمل والحجاج وأمير الحاج مصطفى بك الكبير ولمـا انقضـى أمـر الحـج بـرزوا للتجريـدة وأميرهـا إبراهيـم بـك الكبيـر وجمعـوا المراكـب وحجزوهـا مـن أربابهـا وعطلـوا أسباب التجار والمسافرين وجمعوا الأموال كما تقدم من المصادرات والمتلزمين والفلاحين وغير ذلك وكان أمرًا مهولًا أيضًا وبعد أيام وصل الخبر بأن إبراهيم بك ضمهم للصلح واصطلح معهم وأنه واصل صحبتهم جميعًا‏.‏

وفـي سـادس عشـر ذي القعـدة حضـر إبراهيـم بـك ووصـل بعـده الجماعـة ودخلوا إلى مصر وسكنوا فـي بيـوت صغـار مـا عـدا عثمـان بـك ومصطفـى بـك فإنهـم نزلـوا في بيوتهم وحضر صحبتهم أيضًا علـي بـك وحسيـن بـك الاسمعيليـة فلـم يعجـب مـراد بـك مـا فعلـه إبراهيـم بك ولكن أسره في نفسه ولم يظهره وركب للسلام على إبراهيم بك فقط في الخلاء ولم يذهب إلى أحد من القادمين وسكـن الحـال علـى ذلـك أيامـًا وشـرع إبراهيـم بـك فـي إجـراء الصلـح وصفاء الخاطر بينهم بين مراد بك وأمرهم بالذهاب إليه فذهبوا إليه وسلموا عليه ثم ركب هم الآخر إليهم ما عدا الثلاثة المعزوليـن وكـل ذلـك وهـو ينقـل فـي متـاع بيتـه وتعزيـل مـا فيـه ثـم إنـه ركـب فـي يـوم الجمعة وعدى إلى جزيرة الذهب وتبعه كشافـه وطوائفـه وأرسـل إلـى بولـاق وأخـذ منهـا الـأرز والغلـة والشعيـر والبقسمـاط وغيـر ذلـك فأرسـل لـه إبراهيـم بك الجين بك وسليمان بك أبا نبوت ليردوه عن ذلك فنهرهـم وطردهـم فرجعـوا ثـم إنـه عـدى إلـى ناحيـة الشـرق وذهـب إلـى قبلـي وتبعـه أغراضه وأتباعه وحملته من البر والبحر‏.‏

وفـي هـذه السنة قصر مد النيل وانهبط قبل الصليبة بسرعة فشرقت الأراضي القبلية والبحرية وعزت الغلال بسبب ذلك وبسبب نهب الأمراء وانقطاع الوارد من الجهة القبلية وشطح سعر القمح إلى عشرة ريالات الأردب واشتد جوع الفقراء‏.‏

ووصل مراد بك إلى بني سويف وأقام هناك وقطع الطريق على المسافرين ونهبوا كل ما مر بهم في المراكب الصاعدة والهابطة‏.‏

من مات في هذه السنة من الأعيان توفي الفقيه النبيه العمدة الفاضل حاوي أنواع الفضائل الشيخ أحمد ابن الشيخ الصالح شهاب الدين أحمد بن محمد السجاعي الشافعي الأزهري ولد بمصر ونشأ بها وقرأ على والده وعلى كثيـر مـن مشايـخ الوقـت وتصـدر للتدريـس فـي حياة أبيه وبعدموته في مواضعه وصار من أعيان العلماء وشارك في كل علم وتميز بالعلوم الغريبة ولازم الوالد وأخذ عنه علم الحكمة والهداية وشرحها للقاضي زاده قراءة بحث وتحقيق والجغميني ولقط الجواهر والمجيب والمقنطر وشرح أشكال التأسيس وغير ذلك وله في تلك الفنون تعاليق ورسائل مفيدة وله براعة في التأليف ومعرفة باللغة وحافظة في الفقه‏.‏

ومن تآليفه شرح على دلائل الخيرات كالحاشية مفيد وشرح على أسماء الله الحسنى قرظ عليه الشيخ عبد الله الأدكاوي رحمه الله تعالى هذا وكان ممن منحه الله أسرارها وأظهر أنوارها فأوضح من معانيها ما خفي ومنح طلابها كنزًا يتنافس في مثله أنبل الفضلاء وأفضل النبلاء أحمد الاسم محمود الصفات على الفعل حسن القول والذات نجل العالم العلامة العمدة الفهامة كعبة الأفضال وقبلة الإجلال من تقصر عن تعداد محاسنه ولو طولت باعي مولانا الشيخ أحمد السجاعي حفظ الله عليه نجله الرشيد وأراه منه ما يسـر القريـب والبعيـد وحيـن لمحت عيني ما كتب مما حقه أن يرقم بدل الحبر بالذهب عوذته بالله من عين كل حسود وعلمت أنه إن شاء الله تعالى سيسود وتطأ أخمصه أعناق الأسود‏.‏

وسمع المترجم معنا كثيرًا على شيخنا السيد محمد مرتضى من الأمالي وعدة مجالس من البخاري وجـزء بـن شاهـد الجيـش والعوالـي المرويـة عـن أحمـد عـن الشافعـي عن مالك عن نافع عن ابن عمر المسمـاة بسلسلـة الذهـب وغيـر ذلـك‏.‏

ومـن فوائـد المترجم أنه رأى في المنام قائلًا يقول له‏:‏ من قال كـل يـوم يا الله الجبار يا قهار يا شديد البطش ثلثمائة وستين مرة أمن من الطاعون‏.‏

توفي ليلة الاثنين سادس عشر صفر من السنة بعد أن تعلـل بالاستسقـاء وصلـي عليـه بالغـد بالجامـع الأزهر ودفن عند أبيه بالبستان رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الشيخ الصالح الناسك الصوفي الزاهد سيدي أحمد بن علي ابن جميل الجعفري الجولي السوسـي مـن ولـد جعفـر الطيار ولد بالسوس واشتغل بالعلم قليلًا على علماء بلاده ثم ورد إلى مصر في 1182 فحج ورجع وقرأ معنا على الشيخ الوالد كثيرًا من الرياضيات مع مشاركة سيدي محمد وسيدي أبـي بكـر ولـدي الشيـخ التـاودي بـن سـودة حيـن وردا مـع أبيهمـا فـي تلـك السنـة للحج والشيخ سالم القيرواني ثم غلب عليه الجذب فساح وذهب إلى الروم مجاهدًا وأصيب بجارحـات فـي بدنـه وعولـج حتى برأ وتعلم اللغة التركية وعرضت عليه الدنيا فلم يقبلها والغالب عليـه إخفـاء الحـال‏.‏

وورد إلـى مصـر فـي سنـة إحـدى وتسعيـن وتـزوج بمصـر وأقـام بهـا مـع كمال العفة والديانة سلامة الباطن والانجماع عن الناس مع صفاء الخاطر والذوق المتين والميل إلى كتب الشيـخ الأكبـر والشعرانـي وزيـارة القرافتيـن فـي كـل جمعـة علـى قدميـه‏.‏

أحببـت لقـاء الله تعالى توفي في ثالث ربيع الأول من السنة ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى‏.‏

ومـات العمـدة العلامـة والحبـر الفهامة قدوة المتصدرين ونخبة المفهمين النبيه المتفنن الشيخ محمد بن إبراهيـم بـن يوسف الهيتمي السجيني الشافعي الأزهري الشهير بأبي الإرشاد ولد سنة 1154 وحفظ القرآن وتفقه على الشيخ المدابغي والبراوي والشيخ عبد الله السجيني وحضر دروس الشيخ الصعيدي وغيـره وأجـازه أشيـاخ العصـر وأفتـى ودرس وتولـى مشيخـة رواق الشراقـوة بالأزهـر بعـد وفـاة خالـه الشيـخ عبـد الـرؤوف واشتهـر ذكره وانتظم في عداد المشايخ المشار إليهم بالأزهـر وفـي الجمعيـات والمجالـس عنـد الأمـراء ونظـار الأزهر وفي الأخبار وله مؤلفات في الفنون وكتـب حاشيـة علـى الخطيـب علـى أبـي شجـاع إلا أنهـا لم تكمل ورسائل في مستصعبات المسائل بالمنهج وصنف رسالة تتعلق بنداء المؤمنين بعضهم بعضًا في الجنة‏.‏

توفي في أواخر القعدة‏.‏

ومات الإمام الهمام والعلامة المقدام المتقن المتفنن المفيد الشيخ يوسف الشهير برزة الشافعـي الأزهري أحد العلماء المحصلين والأجلاء المفيدين تفقه على الشيخ العلامة الشيخ أحمد رزة وإليه انتسب وبه اشتهر وحضر على كل من الشيخ الحفناوي والشيخ أحمد البجيرمي والشيخ عيسى البرواي ودرس الفقه والمعقول بالأزهر وأفاد وأفتى وصار في عداد المتصدرين المشار إليهـم مـن الانجمـاع والحشمـة والكمـال والرئاسـة وحسن الحال ولم يتداخل كغيره في الأمور المخلة‏.‏

ولم يزل مقبلًا على شأنه حتى توفي في عاشر جمادى الأولى من السنة‏.‏

ومـات الشيخ الصالح الورع علي بن عبد الله مولى الأمير بشير جلبه مولاه من بلاد الروم وأدبه وحبب إليه السلوك فلازم الشيخ الحفني ملازمة كلية وأخذ عنه الطريق وحضر دروسه وسمع الصحيـح علـى السيـد مرتضى بتمامة في منزله بدرب الميضأة بالصليبة وكذلك مسلم وأبو داود وغير ذلك من الأجزاء الحديثة ومسلسلات بن عقيلة بشروطها وغالبها بقراءة السيد حسين الشيخونـي‏.‏

وكـان إنسانـًا حسنـًا حلو المعاشرة كثير التودد لطيف الصحبة مكرمًا محسنًا خيرًا له بر وصدقات خفية توفي في يوم الأحد تاسع عشرين رجب بعد أن تعلل بالفتق عن كبر وصلي عليه بسبيل المؤمنين ودفن بالقرب من شيخنا محمود الكردي بالصحراء‏.‏

وكان منور الوجه والشيبة وعليه جلالة ووقار وهيبة يلوح عليه سيما الصلاح والتقوى رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الشيخ الصالح عيسى بن أحمد القهاوي الوقاد بالمشهد الحسيني وخادم النعال بالموضع المذكور كان رجلًا مسنًا سخيًا بما يملك مطعامًا للواردين من الغرباء المنقطعين وأدرك جماعة من الصالحين وكان يحكي لنا عليهم أمورًا غريبة وله مع الله حال وفي فهم كلام القوم ذوق حسن وللناس فيـه اعتقـاد عظيـم‏.‏

وفـي أخـرة أعجـزة الهـرم والقعـود فتوجـه إلـى طندتـا فـي آخـر ربيـع الثانـي ومكث هناك برحاب سيدي أحمد البدوي إلى أن توفي يوم الأربعاء ثاني عشر جمادى الثانيـة ودفـن عند مقام الولي الصالح سيدي عز الدين خارج البلد في موضع كان أعده السيد محمد مجاهد لنفسه فلم يتفق دفنه فيه‏.‏

ومات العلامة الفاضل المحدث الصوفي الشيخ أحمد بن أحمد بن أحمد ابن جمعة البجيرمـي الشافعـي قـرأ علـى أبيـه وحضـر درس العشمـاوي والعزيـزي والجوهـري والشيـخ أحمـد سابق والحفني وآخرين ودرس واكب على إقراء الحديث وألف في الفن وانتفع به الناس وكان يسكن في خانقاه سعيد السعداء مع سكون الأخلاق والانجماع عن الناس وملازمة محله ولا زال يفيد ويسمع حتى وافاه الحمام في يوم الجمعة ثاني رمضان وكانت جنازته خفيفة لاشتغال الناس بالصيام وكان يخبر والده أن جنازته كانت خفيفة رحمه الله‏.‏

ومـات الفاضـل المبجل سيدي عيسى جلبي بن محمود بن عثمان ابن مرتضى القفطانجي الحنفي المصري ولد بمصر ونشأ صالحًا في عفاف وصلاح وديانة وملازمة لحضـور دروس الأشيـاخ وتفقه على فضلاء وقته مثل الشيخ الوالد والشيخ حسن المقدسي وأخذ العربية والكلام عن الشيخ محمـد الأميـر والشيـخ أحمـد البيلـي وغيرهمـا واقتنـى كتبـًا نفيسـة وكـان منزلـه مـوردًا للفضـلاء وكـان يعـزم عليهـم ويعمل لهم الضيافات في كل عام ببستان خارج مصر يعرف ببستان القفطانجي ورثه عن آبائه وكان نعم الرجل مودة وصيانة رحمه الله تعالى وسامحه‏.‏

سنة ثمان وتسعين ومائة وألف فيهـا فـي المحـرم سافـر مـراد بـك إلـى منيـة بـن خصيـب مغضبـًا وجلـس هنـاك‏.‏

وفيـه حضر إلى مصر محمـد باشـا والـي مصـر فأنزولـه بقصـر عبـد الرحمـن كتخـدا بشاطـئ النيـل فأقـام بـه يوميـن ثـم عملـوا له موكبًا وطلع إلى القلعة من تحت الربع على الدرب الأحمر‏.‏

وفي منتصفه اتفق رأي إبراهيم بك والأمراء الذين معه علـى إرسـال محمـد أفنـدي البكـري والشيـخ أبـي الأنوار شيخ السادات والشيخ أحمد العروسي شيخ الأزهر إلى مراد بك ليأخذوا خاطره ويطلبوه للصلح مع خشادشينه ويرجع إليهم ويقبلوا شروطه ما عدا إخراج أحد من خشداشينهـم‏.‏

فلمـا سافـروا إليـه وواجهـوه وكلمـوه في الصلح تعلل بأعذار وأخبر أنه لم يخرج من مصر إلا هروبًا خوفًا على نفسه فإنه تحقق عنده توافقهم على غدره فإن ضمنتم وحلفتم لي بالأيمـان أنـه لا يحصل لي منهم ضرر وافقتكم على الصلح وإلا فدعوني بعيدًا عنهم‏.‏

فقالوا له‏:‏ لسنا نطلع على القلوب حتى نحلف ونضمن ولكن الذي نظنه ونعتقده عدم وقوع ذلك بينكم لأنكم أخوة ومقصودنا الراحة فيكم وبراحتكم ترتاح الناس وتأمن السبل فأظهر الامتثال ووعد بالحضـور بعـد أيـام وقـال لهـم‏:‏ إذا وصلتـم إلـى بنـي سويـف ترسلـون لـي عثمـان بـك الشرقـاوي وأيوب بك الدفتردار لأشترك عليهم شروطي فإن قبلوها توجهت معهم وإلا عرفت خلاصي معهم‏.‏

وانفصلـوا عنـه علـى ذلـك وودعـوه وسافـروا وحضـروا إلـى مصر في ليلة الجمعة ثالث عشرين شهر وفي ذلك اليوم وصل الحجاج إلى مصر ودخل أمير الحج مصطفى بك بالمحمل في يوم الأحد‏.‏

وفـي يـوم السـب مستهـل ربيـع الـأول خـرج الأمـراء إلـى ناحيـة معادي الخبير وحضر مراد بك إلى بر الجيـزة وصحبتـه جمـع كبيـر مـن الغز والأجناد والعربان والغوغاء من أهل الصعيد والهواراة ونصبوا خيامهم ووطاقهم قبالتهم في البر الآخر فأرسل إليه إبراهيم بك عبد الرحمـن بـك عثمـان وسليمـان بـك الشابـوري وآخريـن فـي مركـب فلمـا عـدوا إليـه لـم يـأذن لهـم في مقابلته وطردهم ونزل أيضـًا كتخـدا الباشـا وصحبتـه اسمعيـل أفنـدي الخلوتـي فـي مراكـب أخـرى ليتوجهـوا إليه أيضًا لجريان الصلح فلما توسطوا البحر ووافق رجوع الأوليـن ضربـوا عليهـم بالمدافـع فكـادت تغـرق بهـم السفن ورجعوا وهم لا يصدقون بالنجاة‏.‏

فلما رأى ذلك إبراهيم بك ونظر امتناعه عن الصلح وضربـه بالمدافـع أمـر هو الآخر بضرب المدافع عليهم نظير فعلهم‏.‏

وكثر الرمي بينهم من الجهتين على بعضهم البعض وامتنع كل من الفريقين عن التعدية إلى الجهة الأخرى وحجزوا المعادي من الطرفيـن‏.‏

واستمـر الحـال بينهـم علـى ذلك من أول الشهر إلى عشرين منه واشتد الكرب والضنك على الناس وأهـل البلـاد وانقطعـت الطـرق القبليـة والبحريـة بـرًا وبحـرًا وكثـر تعـدي المفسديـن وغلت الأسعار وشح وجود الغلال وزادت أسعارها‏.‏

وفي تلك المـدة كثـر عبـث المفسديـن وأفشـح جماعـة مـراد بـك فـي النهـب والسلـب في بر الجيزة وأكلوا الزروعات ولم يتركوا على وجه الأرض عودًا أخضر وعين لقبض الأموال من الجهات وغرامات الفلاحين وظن الناس حصول الظفـر لمـراد بـك واشتـد خوف الأمراء بمصر منه‏.‏

وتحدث الناس بعزم إبراهيم بك على الهروب فلما كان ليلة الخميس المذكور أرسل إبراهيم بك المذكور خمسة من الصناجق وهم سليمان بـك الأغـا وسليمـان أبـو نبـوت وعثمـان بـك الأشقر وإبراهيم بك الوالي وأيوب بك فعدوا إلى البر الآخـر بالقـرب من انبابة ليلًاوساروا مشاة فصادفوا طابورًا فضربوا عليهم بالبندق فانهزموا منهم وملكوا مكانهم وذلك بالقرب من بولاق التكرور كل ذلك والرمي بالمدافع متصل من عرضي إبراهيـم بـك‏.‏

ثـم عـدى خلفهـم جماعـة أخرى ومعهم مدفعان وتقدموا قليلًا من عرضي مراد بك وضربوا على العرضي بالمدفعين فلم يجبهم أحدًا فباتوا على ذلك وهم على غاية من الحذر والخـوف‏.‏

وتتابـع بهـم طوائفـه وخيولهم فلما ظهر نور النهار نظروا فوجدوا العرضي خاليًا وليس به أحد وارتحل مراد بك ليلًا وترك بعض أثقاله ومدافعه فذهبوا إلى العرضي وأخذوا ما وجدوه وجلسوا مكانه ونهب أوباشه المراكب التي كانت محجوزة للناس‏.‏

وعدى إبراهيم بك وتتابعوا في التعدية وركبوا خلفهم إلى الشيمي فلم يجدوا أحدًا فأقاموا هناك السبت والأحد والاثنين والثلاثاء ورجع إبراهيم بك وبقية الأمراء إلى مصر ودخلوا بيوتهم‏.‏

وانقضت هذه الفتنـة الكذابـة علـى غيـر طائـل ولـم يقع بينهم مصاف ولا مقاتلة وهرب مراد بك وذهب بمن معه وفي أواخر شهر جمادى الأولى اتفق رأي إبراهيم بك على طلب الصلح مع مراد بك فسافر لذلـك لاجيـن بـك وعلـي أغا كتخدا جاووجان وسبب ذلك أن عثمان بك الشرقاوي وأيوب بك ومصطفـى بـك وسليمـان بـك وإبراهيـم بـك الوالـي تحزبـوا مـع بعضهم وأخذوا ينقضون على إبراهيم بك الكبير واستخفوا بشأنه وقعدوا له كل مرصد وتخيل منهم وتحرز وجرت مشاجرة بين أيوب بك وعلي أغا كتخدا جاوجان بحضرة إبراهيم بك وسبه وشتمه وأمشك عمامته وحل قولانـه وقـال لـه‏:‏ ليـس هـذا المنصـب مخلـدًا عليـك فاغتـاظ إبراهيـم بك لذلك وكتمه في نفسه وعز علـي علـي أغا لأنه كان بينه وبين مراد بك فاجتمع إليه الأمراء وتكلموا معه فقال‏:‏ نصطلح مع أخينـا أولـى مـن التشاحـن ونزيل الغل من بيننا لأجل راحتنا وراحة الناس ويكون كواحد منا وإن حصـل منـه خلـل أكـون أنـا وأنتـم عليـه‏.‏

وتحالفـوا علـى ذلك وسافر لاجين بك وعلي أغا وبعد أيام حضـر حسـن كتخـدا الجريـان كتخـدا مـراد بـك إلـى مصـر واجتمع بإبراهيم بك ورجع ثانيًا وأرسل إبراهيـم بـك صحبتـه ولـده مـرزوق بك طفلًا صغيرًا ومعه الدادة والمرضعة فلما وصلوا إلى مراد بك أجاب بالصلح وقدم لمرزوق بك هدية وتقادم ومن جملتها بقرة ولابنتها رأسان‏.‏

وفـي عاشر رجب حضر مرزوق بك وصحبته حسن كتخدا الجربان فأوصله إلى أبيه ورجع ثانيًا إلى مراد بك وشاع الخبر بقدوم مراد بك وعمل مصطفى بك وليمة وعزم من بصحبته وفـي ثانـي يـوم اجتمعوا عند إبراهيم بك وقالوا له‏:‏ كيف يكون قدوم مراد بك ولعله لا يستقيم حاله معنا فقال لهم‏:‏ حتى يأتي فإن استقام معنا فيها وإلا أكون أنا وأنتم عليه‏.‏

فتحالفـوا وتعاهدوا وأكدوا المواثيق‏.‏

فلما كان يوم الجمعة وصل مراد بك إلى غمازة فركب إبراهيم بك علـى حيـن غفلـة وقـت القائلـة فـي جماعتـه وطائفتـه وخـرج إلـى ناحيـة البساتيـن ورجـع من الليل وطلع إلـى القلعـة وملك الأبواب ومدرسة السلطان حسن والرميلة والصليبة والتبانة وأرسل إلى الأمراء الخمسة يأمرهم بالخروج من مصر وعين لهم أماكن يذهبون إليها فمنهم من يذهب إلى دمياط ومنهم من يذهب إلى المنصورة وفارسكور فامتنعوا من الخروج واتفقوا على الكرنكة والخلاف ثـم لـم يجـدوا لهـم خلاصـًا بسبـب أن إبراهيـم بـك ملـك القلعـة وجهاتها ومراد بك واصل يوم تاريخه وصحبته السواد الأعظم من العساكر والعربان ثم إنهم ركبوا وخرجوا بجمعيتهـم إلـى ناحيـة القليوبية ووصل مراد بك لزيارة الإمام الشافعي فعندما بلغه خبر خروجهم ذهب من فوره من خلـف القلعـة ونـزل علـى الصحـراء وأسـرع فـي السيـر حتـى وصـل إلـى قناطر أبي المنجا ونزل هناك وأرسل خلفهم جماعة فلحقوهم عند شبراشهاب وأدركهم مراد بك والتطموا معهم فتقنطـر مراد بك بفرسه فلحقوه وأركبوه غيره فعند ذلـك ولـى راجعـًا وانجـرح بينهـم جماعـة قلائـل وأصيـب سليمـان بـك برصاصـة نفـذت مـن كتفـه ولـم يمـت ورجـع مـراد بـك ومـن معه إلى مصر على غير طائل وذهب الأمراء الخمسة المذكورون وعدوا على وردان وكان بصحبتهم رجـل مـن كبـار العـرب يقـال لـه طرهونـه يدلهـم علـى الطريـق الموصلـة إلـى جهـة قبلـي فسـار بهـم في طريق مقفرة ليس بها ماء ولا حشيش يومًا وليلة حتى كادوا يهلكون من العطش وتأخر عنهم أناس من طوائفهم وانقطعوا عنهم شيئًا فشيئًا إلى أن وصلوا إلى ناحية سقارة فرأوا أنفسهم بالقرب من الأهرام فضاق خناقهم وظنوا الوقوع فأحضروا الهجن وأرادوا الركوب عليها والهروب ويتركوا أثقالهـم فقامـت عليهم طوائفهم وقالوا لهم‏:‏ كيف تذهبون وتتركونا مشتتين‏.‏

وصار كل من قدر علـى خطـف شـيء أخـذه وهـرب فسكنـوا عن الركوب وانتقلوا من مكانهم إلى مكان آخر‏.‏

وفي وقت الكبكبة ركب مملوك من مماليكهم وحضر إلى مـراد بـك وكـان بالروضـة فأعلمـه الخبـر فأرسـل جماعـة إلـى الموضـع الـذي ذكـره لـه فلـم يجـدوا أحدًا فرجعوا واغتم أهل مصر لذهابهم إلى جهـة قبلـي لمـا يترتـب علـى ذلك من التعب وقطع الجالب مع وجود القحط والغلاء‏.‏

وبات الناس في غم شديد‏.‏

فلما طلع نهار يوم الأربعاء حادي عشرين رجب شاع الخبر بالقبض عليهم وكـان مـن أمرهم أنهم لما وصلوا إلى ناحية الأهرام ووجدوا أنفسهم مقابلين البلد أحضروا الدليل وقالوا له‏:‏ انظر لنا طريقًا تسلك منه فركب لينظر في الطريق وذهب إلى مراد بك وأخبره بمكانهم فأرسل لهم جماعة فلمـا نظروهـم مقبليـن عليهـم ركبـوا الهجـن وتركـوا أثقالهـم وولـوا هاربين وكانوا كمنوا لهم كمينًا فخرج عليهم ذلك الكمين ومسكوا بزمامهم من غير رفع سلاح ولا قتال وحضروا بهم إلى مراد بك بجزيرة الذهب فباتوا عنده ولما أصبح النهار أحضر لهم مراد بك بجزيرة الذهب فباتوا عنده ولما أصبح النهار أحضر لهم مراد بك مراكب وأنزل كل أمير في مركب وصحبته خمسة مماليك وبعض خدام وسافروا إلى جهة بحري فذهبوا بعثمان بـك وأيـوب بـك إلـى المنصـورة ومصطفى بك إلى فارسكور وإبراهيم بك الوالي إلى طندتا وأما سليمان بك فاستمر ببولاق التكرور حتى برأ جرحه‏.‏

وفي منتصف شهر رمضان اتفق الأمراء المنفيون على الهروب إلى قبلي فأرسلوا إلى إبراهيم بك الوالي ليأتي إليهم من طندتا وكذلك إلى مصطفى بك من فارسكور وتواعدوا على يوم معلـوم بينهـم فحضـر إبراهيـم بـك إلـى عثمـان بـك وأيـوب بـك خفيـة فـي المنصورة وأما مصطفى بك فإنه نزل في المراكب وعدى إلى البر الشرقي بعد الغروب وركب وسافر فركب خلفه رجل يسمى طه شيخ فارسكور وكان بينه وبين مصطفى بك خرازة وأخذ صحبته رجلًا يسمى الأشقر في نحو ثلثمائة فارس وعدوا خلفه فحلقوه آخر الليل والطريق ضيقة بين البحر والأرز المزروع فلم يمكنهم الهروب ولا القتال‏.‏

فأراد الصنجـق أن يذهـب بمفـرده فدخـل فـي الـأرز بفرسه فانغرز في الطين فقبضوا عليه هو وجماعته فعروهم وأخذوا ما كان معهم وساقوهم مشـاة إلـى البحـر وأنزلوهـم المراكـب وردوهـم إلـى مكانهـم محتفظيـن عليهم‏.‏

وأرسلوا الخبر إلى مصر بذلـك‏.‏

وأمـا الجماعـة الذيـن فـي المنصـورة فإنهـم انتظـروا مصطفـى بـك فـي الميعـاد فلـم يأتهم ووصلهم الخبـر بمـا وقـع لـه فركب عثمان بك وإبراهيم بك وساروا وتخلف أيوب بك المنصورة فلما قربوا من مصر سبقتهم الرسل إلى سليمان بك فركب من الجيزة وذهب إليهما وذهبوا إلى قبلي وأرسل مراد بك محمد كاشف الألفي وأيوب كاشف فأخـذا مصطفـى بـك مـن فارسكـور وتوجها به إلى ثغر سكندرية وسجنوه بالبرج الكبير‏.‏

وعرف من أجل ذلك بالإسكندراني‏.‏

وأحضـروا أيـوب بـك إلـى مصـر وأسكنـوه فـي بيـت صغيـر وبعـد أيـام ردوه إلى بيته الكبير وردوا له الصنجقية أيضًا في منتصف شوال‏.‏

وفـي يـوم الاثنين سادس شهر شوال الموافق التاسع عشر مسرى القبطي كان وفاء النيل المبارك ونزل الباشا يوم الثلاثاء في عربة وكسر السد على العادة‏.‏

وفي يـوم الاثنيـن حـادي عشريـن شـوال كـان خـروج المحمـل صحبـة أميـر الحـاج مصطفـى بـك الكبيـر فـي موكـب حقيـر جـدًا بالنسبـة للمواكـب المتقدمـة ثـم ذهـب إلى البركة في يوم الخميس وقد كان تأخر له مبلغ من مال الصرة وخلافها فطلب ذلك من إبراهيم بك فأحاله على مراد بك من الميري الذي طرفه وطرف أتباعه وأحال عليه أمير الحاج وركب من البركة راجعًا إلى مصر وتركه وإياه فلم يسع مراد بك غلا الدفع وتشهيل الحج وعاد إلى مصر وخرج إلى قصره بالروضة وأرسل إلى الجماعة الذين بالوجه القبلي فلما علم إبراهيم بك بذلك أرسل إليه يستعطفـه وترددت بينهما الرسل من العصر إلى بعد العشاء ونظر إبراهيم بك فلم يجد عنده أحدًا من خشداشينـه‏.‏

واجتمـه وأكلهـم علـى مـراد بك فضاق صدره وركب إلى الرميلة فوقف بها ساعة حتى أرسل الحملة صحبة عثمان بك الأشقر وعلي بك أباظة وصبر حتى ساروا وتقدموا عليـه مسافـة ثـم سـار نحـو الجبـل وذهـب إلـى قبلـي وصحبتـه علـي أغـا كتخـدا الجاويشيـة وعلـي أغا مستحفظان والمحتسب وصناجقه الأربعة فلما بلغ مراد بك ركوبه وذهابه ركب خلفهم حصة من الليل ثم رجع إلى مصر وأصبح منفردًا بها وقلد قائد أغا أغات مستحفظان وصالح أغا الوالي القديم وجعله كتخدا الجاويشية وحسن أغا كتخدا ومصطفى بك محتسب وأرسل إلى محمد كاشف الألفي ليحضر مصطفى بك من محبسه بغثر إسكندرية ونادى بالأمان في البلد وزيادة وزن الخبز وأمر بإخراج الغلال المخزونة لتباع على الناس‏.‏

وفـي ليلـة الثلاثـاء خامـس القعـدة حضـر مصطفـى بـك ونـزل فـي بيتـه أميـرًا وصنجقـًا علـى عادته كما كان‏.‏

وفيه قلد مراد بك مملوكه محمد كاشف الألفي صنجقًا وكذلك مصطفى كاشـف الإخميمـي وفـي يـوم الأحـد سابـع عشـر القعـدة حضـر عثمـان بك الشرقاوي وسليمان بك الأغا وإبراهيم بك الوالي وسليمان بك أبو نبوت وكان مراد بك أرسل يستدعيهم كما تقدم‏.‏

فلما حضروا إلى مصر سطنوا بيوتهم كما كانوا على إمارتهم‏.‏

وفي أواخره وصل واحد أغا من الدولة وبيده مقرر للباشا على السنة الجديدة فطلب الباشا الأمراء لقراءاته عليهم فلمع يطلع منهم أحد وأهمل ذلك مراد بك ولم يلتفت إليه‏.‏

وفي يوم الجمعة رابع عشر الحجة رسم مراد بك بنفي رضوان رضوان بك قرابة علي بك الكبير الذي كان خامر على اسمعيل بك وحسن بك الجداوي وحضر مصر صحبة مراد بك كمـا تقـدم وانضـم إليـه وصار من خاصته فلما خرج إبراهيم بك من مصر أشيع أنه يريد صلحه مع اسمعيل بك وحسن بك فصار رضوان بك كالجملة المعترضة فرسم مراد بك بنفيه فسافر من ليلته إلى الإسكندرية‏.‏

وفـي يـوم السبـت خامـس عشـرة أرسـل مـراد بـك إلى الباشا وأمره بالنزول فأنزلوه إلى قصر العيني معـزولًا وتولى مراد بك قائم مقام وعلق الستور على بابه فكانت ولاية هذا الباشا أحد عشر شهرًا سوى الخمسة أشهر التي أقامها بغثر سكندرية وكانت أيامه كلها شدائد ومحنًا وغلاء‏.‏

وفي أواخـر شهـر الحجـة شـرع مـراد بـك فـي إجـراء الصلـح بينـه وبيـن إبراهيـم بـك فأرسـل لـه سليمـان بك الأغا والشيخ أحمد الدردير ومرزوق بك ولده فتهيئوا وسافـروا فـي يـوم السبـت ثامـن عشرينه‏.‏

وانقضت هذه السنـة كالتـي قبلهـا فـي الشـدة والغـلاء وقصـور النيـل والفتـن المستمـرة وتواتـر المصادرات والمظالم من الأمراء وانتشار أتباعهم في النواحي لجبي الأموال من القرى والبلدان وإحداث أنواع المظالم ويسمونها مال الجهات ودفع المظالم والفردة حتى أهلكوا الفلاحين وضاق ذرعهـم واشتـد كربهـم وطفشـوا من بلادهم فحولوا الطلب على الملتزمين وبعثوا لهم المعينين في بيوتهم فاحتاج مساتير الناس لبيع أمتعتهم ودورهم ومواشيهم بسبب ذلك مع ما هم فيه من المصادرات الخارجة عن ذلك وتتبع من يشم فيه رائحة الغنى فيؤخذ ويحبس ويكلف بطلب أضعاف ما يقدر عليه وتوالى طلب السلف من تجار البن والبهار عن المكوسات المستقيلة‏.‏

ولما تحقق التجار عدم الرد استعوضوا خساراتهم من زيادة الأسعـار ثـم مـدوا أيديهـم إلـى المواريث فإذا مات الميت أحاطوا بموجوده سواء كان له وارث أو لا‏.‏

وصار بيت المـال مـن جملـة المناصـب التـي يتولاهـا شـرار النـاس بجملـة مـن المـال يقـوم بدفعـه في كل شهر ولا يعارض فيما يفعـل في الجزئيات وأما الكليات فيختص بها الأمير‏.‏

فحل بالناس ما لا يوصف من أنواع البلاء إلا مـن تداركـه الله برحمته أو اختلس شيئًا من حقه فإن اشتهروا عليه عوقب على استخراجه‏.‏

وفسدت النيات وتغيرت القلوب ونفرت الطباع وكثر الحسد والحقد فـي النـاس لبعضهـم البعـض‏.‏

فيتتبـع الشخـص عـورات أخيـه ويدلـي بـه إلـى الظلـم حتـى خـرب الإقليم وانقطعت الطرق وعربدت أولاد الحـرام وفقـد الأمـن ومنعـت السبـل إلا بالخفـارة وركـوب الغـرر وجلـت الفلاحون من بلادهم من الشراقي والظلم وانتشروا في المدينة بنسائهم وأولادهم يصيحون من الجـوع ويأكلـون مـا يتساقـط فـي الطرقـات مـن قشـور البطيخ وغيره فلا يجد الزبال شيئًا يكنسه من ذلك واشتد بهم الحال حتى أكلوا الميتات من الخيل والحمير والجمال فإذا خرج حمار ميت تزاحموا عليه وقطعوه وأخذوه ومنهم من يأكله نيئًا من شدة الجوع ومات الكثير مـن الفقـراء بالجوع‏.‏

هذا والغلاء مستمر والأسعار في الشدة وعز الدرهم والدينار من أيدي الناس وقل التعامـل إلا فيمـا يؤكـل وصـار سمـر النـاس وحديثهم في المجال ذكر المآكل والقمح والسمن ونحو ذلك لا غير ولولا لطف الله تعالى ومجيء الغلال من نواحي الشام والروم لهلكت أهـل مصـر مـن الجـوع‏.‏

وبلـغ الـأردب من القمح ألفًا وثلثمائة نصف فضة والفول والشعير قريبًا من ذلك وأما بقية الحبوب والأبزار فقل أن توجد‏.‏

واستمر ساحل الغلة خاليًا من الغلال بطول السنـة والشـون كذلك مقفولـة وأرزاق النـاس وعلائفهـم مقطوعـة وضـاع النـاس بيـن صلحهـم وغبنهـم وخـروج طائفـة ورجـوع الأخرى ومن خرج إلى جهة قبض أموالها وغلالها‏.‏

وإذا سئل المستقر في شيء تعلل بما ذكر‏.‏

ومحصل هذه الأفاعيل بحسب الظن الغالب أنها حيل على سلب الأموال والبلاد وفخاخ ينصبونها ليصيدوا بها اسمعيل بك‏.‏

وفي أواخره وصلت مكاتبة من الديار الحجازية عن الشريف سرور ووكلاء التجار خطابًا للأمـراء والعلمـاء بسبـب منـع غلـال الحرميـن وغلـال المتجـر وحضـور المراكـب مصبـرة بالأتربـة والشكوى من زيادة المكوسات عن الحد فلما حضرت قرئ بعضها وتغوفل عنها وبقي الأمر على ذلك‏.‏

رجع لخبر العجلة التي لها رأسان وهو أنه لما أرسل إبراهيم بك ولده مرزوق بك غلامًا صغيرًا لمصالحة الأمير مراد بك أعطاه هدية ومن جملتها بقرة وخلفها عجلة برأسين وحضر بهما إلى مصر وشاع خبرها فذهبت بصحبة أخينا وصديقنا مولانا السيد اسمعيل الوهبي الشهير بالخشاب فوصلنا إلى بيـت أم مرزوق بك الذي بحارة عابدين ودخلنا إلى اسطيل بعض السواس فرأينا بقرة مصفرة اللـون مبيـاض وابنتها خلفها سواد ولها رأسان كاملتا الأعضاء وهي تأكل بفم إحدى الرأسين وتشتر بفم الرأس الثانية فتعجبنا من عجيب صنع الله وبديع خلقتـه فكانـت مـن العجائـب الغريبـة من مات في هذه السنة من أعيان الناس مـات الشيـخ الفقيه الصالح المشارك الشيخ درويش بن محمد بن محمد ابن عبد السلام البوتيجي الحنفي نزيل مصر حضر دروس كل من الشيخ محمد أبي السعود والشيخ سليمان المنصوري والشيخ محمد الدلجي وغيرهم وتميز في معرفة فروع الفقه وأفتى ودرس وكان إنسانًا حسنًا لا بأس به توفي في هذه السنة‏.‏ ومات

العمدة العلامة والرحلة الفهامة المفوه المتكلم المتفقه

النحوي الأصولي الشيخ عبد الله بن أحمد المعروف باللبان الشافعي الأزهري أحد المتصدرين في العلماء الأزهرية حضر أشياخ الوقت كالملوى والجوهري والحفني والصعيدي والشعماوي والدفري وتمهر في الفقه والمعقول وقرأ الـدروس وختـم الختـوم وتنـزل أيامـًا عند الأمير إبراهيم كتخدا القازدغلي واشتهر ذكره في الناس وعنـد الأمـراء بسبـب ذلـك وتحمـل حالـه وكـان فصيحـًا ملسانًا مفوهًا يخشى من سلاطة لسانه في المجالس العلمية والعرفيـة‏.‏

وسافـر مـرة إلـى اسلامبـول فـي بعـض الإرساليـات وذلـك سنـة سـت وثمانيـن عندما خرج علي بك من مصر ودخل محمد بك وكان بصحبة أحمد باشجاويش أرنؤد‏.‏

ومات العلامة الشيخ عبد الرحمن جاد الله البناني المغربي وبنانة قرية من قرى منستير بأفريقية ورد إلى مصر وجاور بالجامع الأزهر وحضر دروس الشيخ الصعيدي والشيخ يوسف الحفني والسيد محمد البليدي وغيرهم من أشياخ العصر ومهر في المعقول وألف حاشية على جمع الجوامع اختصر فيها سياق بن قاسم وانتفع بها الطلبة ودرس برواق المغاربة وأخذ الحديث عن الشيخ أحمد الإسكندري وغيره وتولى مشيخة رواقهم مرارًا بعد عـزل السيـد قاسـم التونسـي وبعـد عـزل الشيـخ أبـي الحسن القلعي فسار فيها سيرًا حسنًا‏.‏

ولم يتزوج حتى مات‏.‏

ومن آثاره ما كتبه على المقامة التصحيفية للشيخ عبد الله الأدكاوي‏.‏

ولم يزل مواظبًا على التدريس ونفع الطلبة حتى تعلل أيامًا وتوفي ليلة الثلاثاء ختام شهر صفر‏.‏

ومات الشيخ الفاضل العلامة عبد الرحمن بن عمر الأجهـوري المالكـي المقـرى سبـط القطـب الخضيري أخذ علم الأداء عن كل من الشيخ محمد بن علي السراجي إجازة في سنة 1156 وعن الشيخ عبد ربه ابن محمد السجاعي إجازة في سنة أربع وخمسين وعن شمس الدين السجاعي في سنـة ثلـاث وخمسيـن وعـن عبـد اللـه بـن محمـد بـن يوسـف القسطمطينـي جـود عليـه إلـى قوله المفلحون بطريقة الشاطبية والتيسير بقلعة الجبل حين ورد مصر حاجًا في سنـة ثلـاث وخمسين وعلى الشيخ أحمد بن السماح البقري والشهاب الإسقاطي وآخرين وأخذ العلوم عن الشبـراوي والعمـاوي والسجينـي والشهـاب النفـراوي والشمس الحفني وأخيه الشيخ يوسف والشيخ الملوي وسمع الحديث من الشيخ محمد الدفري والشيخ أحمد الإسكندراني محمـد بـن محمـد الدقاق وأجازه الجوهري في الأحزاب الشاذلية وكذا يوسف بن ناصر وأجازه السيد مصطفى البكري في الخلوتية والأوراد السرية ودخل الشام فسمع الأولية على الشيخ مصطفى الخليجي ومكث هناك مدة ودخل حلب فسمع من جماعة وعاد إلى مصر فحضر على السيد البليدي فـي تفسيـر البيضـاوي بالأزهـر وبالأشرافيـة وكـان السيد يعتني به ويعرف مقامه‏.‏

وله سليقة تامة فـي الشعـر ولـه مؤلفـات منهـا الملتـاذ فـي الأربعة الشواذ ورسالة في وصف أعضاء المحجوب نظمًا ونثـرًا وشـرح تشنيـف السمـع ببعـض لطائـف الوضع للشيخ العيدروس شرحين كاملين قرظ عليهما علماء عصره‏.‏

ولا زال يملي ويفيد ويدرس ويجيد ودرس بالأزهر مدة في أنواع الفنون وأتقن العربية والأصول والقراءات وشارك في غيرها وعين للتدريس في السنانية ببولاق فكان يقرأ فيها الجامع الصغير ويكتب على أطراف النسخة من تقاريره المبتكرة ما لو جمع لكان شرحًا حسنًا‏.‏

وتوفي المترجم رحمه الله تعالى في سابع عشرين رجب‏.‏

ومات الأجل المبجل والعمدة المفضل الحسيب النسيب السيد محمد بن أحمد بن عبد اللطيف بن محمـد بـن تـاج العارفيـن بـن أحمـد بـن عمـر ابـن أبـي بكـر بـن محمـد بـن أحمـد بـن علـي بـن حسيـن بـن محمـد بـن شرشيـق بـن محمـد ابـن عبـد العزيـز بـن عبـد القادر الحسيني الجيلي المصري ويعرف بابن بنت الجيزي من بيت العز والسيادة والكرامة والمجادة جدهم تاج العارفين تولى الكتابة بباب النقابـة ولا زالـت فـي ولـده مضافـة لمشيخـة السـادة القدريـة ومنزلهـم بالسبع قاعات ظاهر الموسكي مشهور بالثروة والعز وكان المترجم اشتغل بالعلم حتى أدرك منه حظًا وافرًا وصار له ملكة يقتدر بها على استحضار النكات والمسائل والفروع وكان ذا وجاهة وهيبة واحتشام وانجمـاع عـن النـاس ولهـم منـزل ببركـة جنـاق يذهبـون إليـه فـي أيـام النيـل وبعـض الأحيان للنزاعة توفي رحمه الله تعالى في هذه السنة وتولى منصبه أخوه السيد عبد الخالق‏.‏

ومـات السيـد الفاضـل السالـك علـى بـن عمـر بـن محمـد بـن علـي بـن أحمد بن عبد الله بن حسن بن أحمـد بـن يوسـف بن إبراهيم بن أحمد ابن أبي بكر بن سليمان بن يعقوب بن محمد بن القطب سيدي عبد الرحيم القناوي الشريف الحسيني ولد بقنا وقدم مصر وتلقن الطريقة عن الأستاذ الحفني ثم حبب إليه السياحة فورد الحرمين وركب من جدة إلى سورت ومنها إلى البصرة وبغداد وزار من بهما من المشاهد الكرام ثم دخل المشهد فزار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم دخل جراسان ومنها إلى غزنين وكابل وقندهار واجتمع بالسلطان أحمد شاه فأكرمه وأجزل له العطاء ثم عاد إلى الحرمين وركب من هناك إلى بحر سيلان فوصل إلى بنارس واجتمع بسلطانها وذهب إلى بلاد جاوة ثم رجع إلى الحرمين ثم سار إلى اليمن ودخل صنعاء واجتمع بإمامها ودخل زبيد واجتمع بمشايخها وأخذ عنهم واستأنسوا به وصـار يعقـد لهـم حلـق الذكـر على طريقته وأكرموه ثم عاد إلى الحرمين ثم إلى مصر وذلك سنة اثنتيـن وثمانيـن وكانت مدة غيبته نحو عشرين سنة‏.‏

ثم توجه في آخر هذه السنة إلى الصعيد واجتمع بشيخ العرب همام رحمه الله تعالى فأكرمه إكرامًا زائدًا ودخل قنا فزار جده ووصل رحمة ومكث هناك شهورًا ثم رجع إلى مصر وتوجه إلى الحرمين من القلزم وسافر إلى اليمن وطلع إلى صنعاء ثم عاد إلى كوكبان وكان إمامها إذ ذاك العلامة السيد إبراهيـم بـن أحمـد الحسينـي وانتظـم حالـه وراج أمـره وشـاع ذكره وتلقن منه الطريقة جماعة من أهل زبيد واستمال بحسن مذاكرته ومداراته طائفة من الزيدية ببلدة تسمى زمرمر‏.‏

وهي بلدة باليمـن بالجبال وهم لا يعرفون الذكر ولا يقولون بطرق الصوفية فلم يزل بهم حتى أحبوه وأقام حلقة الذكـر عندهـم وأكرمـوه ثـم رجـع مـن هنـاك إلى جدة وركب من القلزم إلى السويس‏.‏

ووصل مصر سنة أربع وتسعين فنزل بالجمالية فذهبت إليه بصحبته شيخنا السيد مرتضى وسلمنا عليه وكنت أسمع به ولم أره قبل ذلك اليوم فرأيت منه كمال المودة وحسن المعاشرة وتمام المروءة وطيـب المفاكهـة وسمعـت منـه أخبـار رحلتـه الأخيـرة وترددنـا عليـه وتـردد علينـا كثيرًا وكان ينزل في بعض الأحيان إلى بولاق ويقيم أيامًا بزاوية علي بك بصحبة العلامة الشيخ مصطفى الصاوي والشيخ بدوي الهيتمي وحضر إلى منزلي ببولاق مرارًا باستدعاء وبدون استدعاء ثم تزوج بمصر وأتى إليه ولده السيد مصطفى من البلاد زائرًا وما زال على حاله في عبادة وحسن توجه إلى الله مع طيب معاشرة وملازمة الأذكار وصحبة العلماء الأخيار حتى تمرض بعلة الاستسقـاء مـدة حتـى توفـي ليلـة الثلاثـاء غـرة جمـادى الأولـى من السنة وصلي عليه بالأزهر ودفن بالقرافـة بيـن يـدي شيخـه الحفنـي‏.‏

وكـان ابنـه غائبـًا فحضـر بعـد مـدة مـن موتـه فلم يحصل من ميراثه إلا شيئًا نزرًا وذهب ما جمعه من سفر الله حيث ذهب‏.‏

ومات الوجيه النبيل والجليل الأصيل السيد حسين باشيجاويش الأشراف بن إبراهيم كتخدا تفكجيـان بـن مصطفـى أفنـدي الخطـاط كـان إنسانـًا حسنـًا جامعـًا للفضائـل واللطـف والمزايا واقتنى كتبًا كثيرة في الفنون وخصوصًا في التاريخ وكان مألوف الطباع ودودًا شريف النفس مهذب الأخلاق فلم يخلف بعده مثله رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الأمير محمد كتخدا أباظة وأصله من مماليك محمد جربجي الصابونجي ولما مات سيده كمـا تقـدم تركـه صغيـرًا فخـدم ببيتهم ثم عند حسين بك المقتول ولم يزل ينمو ويترقى في الخدم حتـى تقلـد كتخدائيـة محمـد بـك أبـي الذهـب فسـار فيهـا بشهامـة وصرامـة ولـم يزل مبجلًا بعده في أيام مماليكه معدودًا من الأمراء وله عزوة مماليك وأتباع حتى تعلل ومات في هذه السنة‏.‏

ومات التاجر الخير الصدوق الصالح الحاج عمر بن عبد الوهاب الطرابلسي الأصل الدمياطي سكن دمياط مدة وهو يتجر واختص بالشيخ الحفني فكان يأتي غليه في كل عام يـزوره ويراسله بالهدايا ويكرم مـن يأتـي مـن طرفـه وكـان منزلـه مـأوى الوافديـن مـن كـل جهـة ويقـوم بواجب إكرامهم وكان من عادته أنه لا يأكل مع الضيوف قط إنما يخدم عليهم ما داموا يأكلون ثـم يأكـل مـع الخـدم وهـذا مـن كمـال التواضع والمروءة‏.‏

وإذا قرب شهر رمضان وفد عليه كثيرة من مجاوري رواق الشوام بالأزهر وغيره فيقيمون عنده حتى ينقضي شهر الصوم في الإكرام ثم يصلهـم بعـد ذلـك بنفقـة وكسـاوي ويعـودون مـن عنده مجبورين‏.‏

وفي سنة ثلاث وثمانين حصلت له قضية مع بعض أهل الذمة التجار بالثغر فتطاول عليه الذمي وسبه فحضر إلى مصر وأخبر الشيخ الحفني فكتبوا له سؤالًا في فتوى وكتب عليه الشيخ جوابًا وأرسله إلى الشيخ الوالد فكتـب علـي جوابـًا وأطنـب فيـه ونقل من الفتاوى الخيرية جوابًا عن سؤال رفع للشيخ خير الدين الرملـي فـي مثـل هـذه الحادثـة بحـرق الذمـي ونحـو ذلـك وحضـر ذلك النصراني في أثر حضور الحاج عمـر خوفـًا علـى نفسـه وكـان إذ ذاك شوكـة الإسلـام قويـة فاشتغـل مع جماعة بمعونة كبار النصارى بمصر بعد أن تحققوا حصول الانتقام وفتنوهم بالمال فأدخلوا على شكوكا وسبكوا الدعوى في قالب آخر وذلك أنه لم يسبه بالألفاظ التي ادعاها الحاج عمر وأنه بعد التسابب صالحه وسامحه وغيروا صورة السؤال الأول بذلك وأحضروه إلى الوالد فامتنع من الكتابة عليه فعاد به الشيخ حسن الكفراوي فحلف لا يكتب عليه ثانيًا أبدًا وتغير خاطر الحاج عمر من طـرف الشيـخ واختل اعتقاده فيه وسافر إلى دمياط ولم يبلغ قصده من النصراني ومات الشيخ بعد هذه الحادثة بقليل‏.‏

وانتهت رياسة مصر إلى علي بك وارتفع شأن النصارى في أيامه بكاتبه المعلم رزق والمعلم إبراهيم الجوهري فعملوا على نفي المترجم من دمياط فأرسلوا له من قبض عليه في شهر رمضان ونهبوا أمواله من حواصله وداره ووضعوا في رقبته ورجليه القيد وأنزلوه مهانًا عريانًا مع نسائه وأولاده في مركب وأرسلوه إلى طرابلس الشام فاستمر بها إلـى أن زالـت دولـة علـي بـك واستقـل بإمارة مصر محمد بك وأظهر الميل إلى نصرة الإسلام فكلم السيد نجم الدين الغزي محمد بك في شأن رجوعه إلى دمياط فكان أن يجيب لذلك وكنت حاضـرًا فـي ذلـك المجلـس والمعلـم ميخاييـل الجمـل والمعلـم يوسـف بيطـار وقـوف أسفل السدلة يغمزان الأمير بالإشارة في عدم الإجابة لأنه من المفسدين بالثغر ويكون السبب في تعطيل الجمارك فسوف السيد نجم الدين بعد أن كان قرب من الإجابة‏.‏

فلما تغيرت الدولة وتنوسيت القضية وصـار الحـاج عمـر كأنه لم يكن شيئًا مذكورًا رجع إلى الثغر وورد علينا مصر وقد تقهقر حاله وذهبـت نضارتـه وصـار شيخـًا هرمـًا ثـم رجـع إلـى الثغـر واستمـر بـه حتـى توفـي فـي السنـة وكـان لـه مع الله حال يداوم على الإذكار ويكثر من صلـاة التطـوع ولا يشتغـل إلا بمـا يهمـه رحمـه اللـه تعالى‏.‏

ومات الأمير الجليل إبراهيم كتخدا البركاوي وأصله مملوك يوسف كتخدا عزبان البركاوي نشأ في سيـادة سيـده وتولـى فـي مناصـب وجاقهـم وقـرأ القـرآن فـي صغـره وجـود الخـط وحبـب إليـه العلـم وأهله‏.‏

ولما مات سيده كان هو المتعين في رئاسة بيتهم دون خشداشينه لرئاسته وشهامته ففتـح بيـت سيده وانضم إليه خشداشينه وأتباعه واشترى المماليك ودربهم في الآداب والقراءة وتجويد الخط وأدرك محاسن الزمن الماضي‏.‏

وكان بيته مأوى الفضلاء وأهل المعارف والمزايا والخطاطيـن واقتنـى كتبـًا كثيـرة جدًا في كل فن وعلم حتى أن الكتاب المعدوم إذا احتيج إليه لا يوجد إلا عنده ويعير للناس ما يرومونه من الكتب للانتفاع في المطالعة والنقل وبآخره اعتكف فـي بتـه ولـازم حاله وقطع أوقاته في تلاوة القرآن والمطالعة وصلاة النوافل إلى أن توفي في هذه السنة وتبددت كتبه وذخائره رحمه الله تعالى‏.‏

سنة تسع وتسعين ومائة وألف استهل العام بيوم الاثنين فكان الفال بالمنطق وأخذت الأشياء في الانحلال قليلًا‏.‏

وفي سابعه جاءت الأخبار بأن الجماعة المتوجهين لإبراعيم بك في شأن الصلح وهم الشيخ الدردير وسليمان بك الآغ ومرزوق جلبي اجتمعوا بإبراهيم بك فتكلموا معه في شأن ذلك فأجاب بشروط منها أن يكون هو على عادته أمير البلد وعلي أغا كتخدا الجاويشيه على منصبه‏.‏

فلما وصل الرسول بالمكاتبة جمـع مـراد بـك الأمـراء وعرفهـم ذلـك فأجابـوا بالسمـع والطاعة وكتبوا جواب الرسالة وأرسلوها صحبة الذي حضر بها‏.‏

وسافر أيضًا أحمد بك الكلارجي أغا أمين البحرين في حادي عشرة‏.‏

وفي عشرينه وصلت الأخبار بأن إبراهيم بك نقض الصلح الذي حصل وقيل أن صلحه كان مداهنة لأغراض لا تتم له بدون ذلك فلما تمت احتج بأشياء أخر ونقض ذلك‏.‏

وفي سادس صفر حضر الشيخ الدردير وأخبر بما ذكر وأن سليمان بك وسليم أغا استمروا معه‏.‏

وفـي منتصفـه وصـل الحجاج من أمير الحاج مصطفى بك وحصل الحجاج في هذه السنة مشقة عظيمـة مـن الغـلاء وقيـام العربـان بسبـب عوائدهـم القديمة والجديدة ولم يزوروا المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام لمنع السبل وهلك عالم كثير من الناس والبهائم من الجوع وانقطـع منهـم جانـب عظيـم‏.‏

ومنهـم مـن نـزل فـي المراكـب إلـى القلـزم وحضر من السويس إلى القصير ولـم يبـق إلا أميـر الحـج وأتباعـه ووقفـت العربـان لحجـاج المغاربـة في سطح العقبة وحصروهم هناك ونهبوهـم وقتلوهـم عـن آخرهـم ولـم ينـج منهـم غـلا نحـو عشرة أنفار‏.‏

وفي أثناء نزول الحج وخروج الأمـراء لملاقـاة أميـر الحـج هـرب إبراهيـم بك الوالي وهو أخو سليمان بك الأغا وذهب إلى أخيه بالمنية وذهب صحبته من كان بمصر من أتباع أخيه وسكن الحال أيامًا‏.‏

وفي أواخر شهر صفر سافر أيوب بك الكبير وأيوب بك الصغير بسبب تجديد الصلح فلما وصلـوا إلـى بنـي سويف حضر إليهم سليمان بك الأغا وعثمان بك الأشقر باستدعاء منهم ثم أجاب إبراهيم بك إلى الصلح ورجعوا جميعًا إلى المنية‏.‏

وفـي أوائـل ربيـع الـأول حضـر حسـن أغـا بيـت المـال بمكاتبـات بذلك وفي أثر ذلك حضر أيوب بك الصغيـر وعثمـان بـك الأشقـر فقابـلا مـراد بكوقـدم مـراد بـك لعثمـان بـك تقـادم ثـم رجـع أيـوب بـك إلى المنية ثانيًا‏.‏

وفي يوم الاثنين رابع ربيع الثاني وصل إبراهيم بك الكبير ومن معه من الأمراء إلى معادي الخبيري بالبر الغربي فعدى إليه مراد بك وباقي الأمـراء والوجاقليـة والمشايـخ وسلمـوا عليـه ورجعـوا إلـى مصـر وعـدى فـي أثرهـم إبراهيـم بـك ثـم حضـر إبراهيـم بـك فـي يـوم الثلاثاء إلى مصر ودخل إلى بيته وحضر إليه في عصريتها مراد بك في بيته وجلس معه حصة طويلة‏.‏

وفـي يـوم الأحـد عاشـره عمـل الديـوان وحضرت لإبراهيم بك الخلع من الباشا فلبسها بحضرة مراد بك والأمراء والمشايخ وعند ذلك قام مراد بك وقبل يده وكذلك بقية الأمراء وتقلد علي أغاء كتخـدا الجاويشية كما كان وتقلد علي أغا أغات مستحفظان كما كان فاغتاظ لذلك قائد أغا الـذي كـان ولـاه مـراد بـك وحصـل لـه قلـق عظيم وصار يترامى على الأمراء ويقع عليهم في رجوع منصبـه وصـار يقـول‏:‏ إن لـم يـردوا إلـي منصبـي وإلا قتلـت علـي أغـا‏.‏

وصمـم إبراهيـم بـك علـى عدم عـزل علـي أغـا واستوحـش علـي أغـا وخـاف على نفسه من قائد أغا ثم أن أبراهيم بك قال‏:‏ إن عـزل علـي أغـا لا يتولاها قائد أغا أبدًا‏.‏

ثم إنهم لبسوا سليم أغا أمين البحرين وقطع منها أمل قائد أغا وما وسعه إلا السكوت‏.‏

وفي منتصف جمادى الآخرة خرج عثمان بك المذكور بمماليكه وأجناده مسافرًا إلى الصعيد بنفسه ولم يسمع لقولهم ولم يلبس تقليدًا لذلك على العادة فأرسلوا له جماعة ليردوه فأبى من الرجوع‏.‏

وفيه كثر الموت بالطاعون وكذلك الحميات ونسي الناس أمر الغلاء‏.‏

وفي يوم الخميس مات علي بك أباظة الإبراهيمي فانزعج عليه إبراهيم بـك وكـان الأمـراء خرجـوا بأجمعهـم إلـى ناحيـة قصـر العينـي ومصـر القديمـة خوفـًا مـن ذلـك‏.‏

فلما مات علي بك وكثير من مماليكهم داخلهم الرعب ورجعوا إلى بيوتهم‏.‏

وفي يوم الأحد طلعوا إلى القلعة وخلعوا علي لاجين بك وجعلوه حاكم جرجًا ورجع إبراهيم بك إلى بيته أيضًا وكان إبراهيم بك إذ ذاك قائمقام‏.‏

وفيه مات أيضًا سليمان بك أبو نبوت بالطاعون‏.‏

وفي منتصف رجب خف أمر الطاعون‏.‏

وفـي منتصـف شعبـان ورد لخبـر بوصـول بـاش مصـر الجديـد إلى ثغر سكندرية وكذلك باش جدة ووقـع قبـل ورودهمـا بأيام فتنة بالإسكندرية بين أهل البلد وأغات القلعة والسردار بسبب قتيل من أهل البلد قتله بعض أتباع السردار فثار العامة وقبضوا على السردار وأهانوه وجرسوه على حمار وحلقوا نصف لحيته وطافوا به البلد وهو مكشوف الرأس وهم يضربونه ويصفعونه بالنعالات‏.‏

وفيـه أيضـًا وقعـت فتنـة بيـن عربـان البحيـرة وحضـر منهـم جماعـة إلـى إبراهيـم بـك وطلبـوا منـه الإعانـة على أخصامهم فكلم مراد بك في ذلك فركب مراد بك وأخذهم صحبته ونزل إلى البحيرة فتواطـأ معـه الأخصـام ورشـوه سـرًا فركـب ليـلًا وهجـم علـى المستعينيـن بـه وهـم في غفلة مطمئنين فقتل منهم جماعة كثيرة ونهب مواشيهم وإبلهم وأغنامهم ثم رجع إلى مصر بالغنائم‏.‏

وفـي غايـة شعبـان حضـر باشـة جـدة إلـى ساحـل بولـاق فركـب علـي أغا كتخدا الجاويشية وأرباب وفي غرة رمضان ثارت فقراء المجاورين والقاطنين بالأزهر وقفلوا أبواب الجامع ومنعـوا منـه الصلوات‏.‏

وكان ذلك يوم الجمعة فلم يصل فيه ذلك اليوم وكذلك أغلقوا مدرسة محمد بك المجاورة له ومسجد المشهد الحسيني وخرج العميان والمجاورون يرمحون بالأسواق ويخطفون ما يجدونه من الخبز وغيره وتبعهم في ذلك الجعدية وأرذال السوقة‏.‏

وسبب ذلك قطع رواتبهم وأخبازهم المعتادة واستمروا على ذلك إلى بعد العشاء فحضر سليم أغا أغات مستحفظان إلى مدرسة الأشرفية وأرسل إلى مشايخ الأروقة والمشار إليهم في السفاهة وتكلـم معهـم ووعدهم والتزم لهم بإجراء رواتبهم فقبلوا منه ذلك وفتحوا المساجد‏.‏

وفي يوم الأحد ثامن شهر شوال الموافق لتاسع مسرى القبطي كان وفاء النيل المبارك وكانت زيادتـه كلها في هذه التسعة أيام فقط ولم يزد قبل ذلك شيئًا واستمر بطول شهر أبيب وماؤه أخضر فلما كان أول شهر مسرى زاد في ليلة واحدة أكثر من ثلاثة أذرع واستمرت دفعات الزيادة حتى أوفى أذرع الوفاء يوم التاسع وفيه وقع جسر بحر أبي المنجا بالقلوبية فيعينوا له أميـرًا فأخـذ معـه جملة أخشاب ونزل وصحبته ابن أبي الشوارب شيخ قليوب وجمعوا الفلاحين ودقوا له أوتادًا عظيمة وغرقوا به نحو خمسة مراكب واستمروا في معالجة سده مدة أيام فلم ينجع من ذلك شيء وكذلك وقع ببحر مويس‏.‏

وفـي يـوم الاثنيـن ثامـن عشـر القعـدة سافـر كتخـدا الجاويشيـة وصحبتـه أربـاب الخدم إلى الإسكندرية لملاقاة الباشا والله تعالى أعلم‏.‏

من مات في هذه السنة ممن له ذكر مات الشيخ الإمام العارف المتفنن المقرئ المجود الضابط الماهر المعمر الشيخ محمد بن حسن بن محمد بن أحمد جمال الدين بن بدر الدين الشافعي الأحمدي ثم الخلوتي السمنودي الأزهري المعروف بالمنير ولد بسمنود سنـة 1099 وحفـظ القـرآن وبعـض المتـون وقـدم الجامـع الأزهـر وعمره عشرون سنة فجود القرآن على الإمام المقرئ علي بن محسن الرملي وتفقه على جماعة منهـم الشيـخ شمـس الديـن محمـد السجيمي والشيخ علي أبي الصفا الشنواني وسمع الحديث على أبي حامد البديري وأبي عبد الله محمد بن محمد الخليلي وأجازه في سنة 1132 وأجازه كذلـك الشيـخ محمد عقيلة في آخرين وأخذ الطريقة ببلده على سيدي علي زنفل الأحمدي ولما ورد مصـر اجتمـع بالسيـد مصطفـى البكري فلقنه طريقة الخلوتية وانضوى إلى الشيخ شمس الدين محمد الحفني فقصر نظره عليه واستقام به عهده فأحياه ونور قلبه واستفاض منه فلم يكن ينتسـب فـي التصوف إلا إليه‏.‏

وحصل جملة من الفنون الغريبة كالزايرجة والأوفاق على عدة من الرجال وكان ينزل وفق المائة في المائة وهو المعروف بالمئيني ويتنافس الأمراء والملوك لأخذه منـه وأحـدث فيهـا طرقـًا غريبة غير ما ذكره أهل الفن وقد أقرأ القرآن مدة وانتفع به الطلبة وقرأ الحديـث‏.‏

وكـان سنـده عاليـًا فتنبـه بعـض الطلبـة فـي الأواخـر فأكثـروا الأخـذ عنـه‏.‏

وكان صعبًا في الإجازة لا يجيز أحدًا إلا إذا قرأ عليه الكتاب الذي يطلب الإجازة فيه بثمامه ولا يرى الإجازة المطلقة ولا المراسلة حتى أن جماعة من أهالي البلاد البعيدة أرسلوا يطلبون منه الإجازة فلم يرض بذلك وهذه الطريقة في مثل هذه الأزمان عسرة جدًا‏.‏

وفي أواخره انتهى إليه الشأن وأشيـر إليـه بالبنـان وذهبـت شهرتـه في الآفاق وأتته الهدايا من الروم والشام والعراق وكف بصره وانقطـع إلـى الذكـر والتدريـس فـي منزلـه بالقـرب مـن قنطـرة لموسكـي داخـل العطفـة بسويقـة الصاحب ولازم الصوم نحو ستين عامًا ووفدت عليه الناس من كل جهة وعمر حتى ألحق الأحفاد بالأجداد وأجاز وخلف وربما كتـب الإجـازات نظمـًا علـى هيئـة إجـازات الصوفيـة لتلامذتهـم فـي الطريـق ولـم يـزل يبـدي ويعيـد ويعقـد حلـق الذكـر ويفيـد إلـى أن وافاه الأجل المحتوم في هـذه السنـة وجهـز وكفـن وصلـي عليـه بالأزهر في مشهد حافل وأعيد إلى الزاوية الملاصقة لمنزله وكثر عليه الأسف‏.‏

ومـات الشيـخ الإمام الفاضل الصالح علي بن علي بن علي بن علي بن مطاوع العزيزي الشافعي الأزهري أدرك الطبقة الأولى من المشايخ كالشيخ مصطفى العزيـزي والشيـخ محمـد السحيمـي والدفري والملوي وأضرابهم وتفقه عليهم ودرس بالجامع الأزهر وانتفع به الطلبة وقرأ دروسًا بمشهـد شمـس الديـن الحنفـي وكـان يسكـن فـي بولـاق ويأتـي كـل يوم إلى مصر لإلقاء الدروس‏.‏

وكان إنسانـًا حسنـًا صبـورًا محتسبـًا فصيحـًا مفوهـًا لـه اعتقـاد فـي أهـل اللـه‏.‏

توفـي تاسـع ربيـع الثانـي سنة تسع وتسعين هذه‏.‏ ومات

الإمام الصالح الناسك المجود السيد علي بن محمد العوضي البدري

الرفاعي المعروف بالقراء وهو والد صاحبنا العلامة السيد حسن البدري ولد بمصر وحفظ القرآن وجوده على شيـخ القـراء شهـاب الدين أحمد بن عمر الاسقاطي وبه تخرج وأقرأ القرآن بالسبعة كثيرًا بالجامع الأزهر وبرواق الأروام وانتفع به الطلبة طبقة بعد طبقـة‏.‏

وكـان لـه معرفـة ببعـض الأسـرار والروحانيات وغير ذلك‏.‏

ومـات الاختيـار المفضـل المبجـل علـي بن عبد الله الرومي الأصل مولى درويش أغا المعروف الآن بمحرم أفندي باش اختيار وجاق الجاويشية كان لكونه خدم عنده وهو صغير اشتغل بالخط وجوده على المرحوم حسن الضيائي وعبد الله الانبس وأدرك الطبقة منهم ومهر فيه وأنجب ولم يكونا أجازاه فعمل له مجلسًا في منزل المرحوم علي أغا وكيل دار السعادة واجتمع فيه أرباب الفن من الخطاطين وأجازه حسن أفندي الرشدي مولى علي أغا المشار إليه وكان يومًا مشهودًا‏.‏

ولقب بدرويش وكتب بخطه كثيرًا وحج سنة 1171 واجتمع بالحرمين على الأفاضل وتلقى منهم أشياء وعاد إلى مصر واجتمع بأديب عصره محمد بن عمر الخوانكي أحد تلامذة الشهاب الخفاجي فتعلق بعنايته بالأدب وصار في محفوظيته جملة من أشعاره وقصائده وجملة من قصائد الأرجاني وجملة من المقامات الحريرية وعني بحفظ القرآن فحفظه على كبره وتعب فيـه وحفـظ أسمـاء أهـل بـدر وكـان دائمـًا يتلوهـا‏.‏

ولأجله ألف شيخنًا السيد محمد مرتضى شرح الصـدر فـي شـرح أسمـاء أهـل البـدر فـي عشريـن كراسـًا والتفتيـش فـي معنـى لفظ درويش كراسًا‏.‏

ولازم المذكور منذ قدم مصر وسمع عليه مجالس من الصحيح والمسلسل بالأسودين وبالعيد والشمائـل والأمالـي وجـود عليـه شيخنـا المذكـور فـي الخط وقد صاهرت المترجم وتزوجت بربيبته في أواخر سنة خمس وتسعين برغبة منه وهي أم الولد خليل فتح الله عليه ولما حصلت النسابـة والمصاهـرة حولته بعياله إلى منزلي لتعب الوقت وتعطيل أسباب المعايش‏.‏

ولما عاشرته بلـوت منـه خيـرًا ودينـًا وصلاحـًا وكان لا ينام من الليل إلا قليلًا ويتبتل إلى مولاه تبتيلًا فيصلي ما تيسر من النوافل ثم يكمل بتلاوة القرآن المرتلـة مـع التدبـر لمعانـي الآيـات المنزلـة وكـان حسـن السمـت نظيـف الثيـاب عظيـم الشيبـة منـور الوجـه وجيه الطلعة مهيب الشكل سليم الطويلة مقبول الروحانية ملازمًا على حضور الجماعة حريصًا على إدراك الفضائل‏.‏

توفي جمادى الأولى عن نيف وتسعين سنة ولم تهن قواه ولم يسقط له سن ويكسر اللوز بأسنانه ودفناه بجوار الإمام أبي جعفر الطحاوي لأنه كان ناظرًا عليه رحمه الله‏.‏

ومات الأستاذ الفاضل والمستعد الكامل ذو النفحات والإشارات السيد علي بن عبد الله بن أحمد العلوي الحنفي سبط آل عمر صاحبنا ومرشدنا ووالده أصله من توقاد وولد هو في مصر سنة 1173 وعاني الفنون ومهر وأنجب في كل شيء عاناه في أقل زمن بحيث أنه إذا توجهت همته لعلم من العلوم الصعبة وطالع فيه أدركه وأظهر مخبئاته وثمراته وألف فيه وأظهر عجائب أسراره ومعانيه في زمن قليل وكان حاد الذهن جدًا دراكًا قوي الحافظة يحفظ كل شيء سمعه أو مر عليه ببصره ولازم في مبتدأ أمره شيخنا السيد محمد مرتضى كثيرًا وقرأ عليه الفصيح لثعلب وفقه اللغة للثعالبي وأدب الكاتب لابن قتيبة في مجالس دراية وسمع منه كثيـرًا مـن شرحـه علـى القامـوس وكتـب عنـه بيده أجزاء كثيرة وقرأ عليه الصحيح في اثني عشر مجلسًا في رمضان سنة ثمان وثمانين وسمع عليه أيضًا الصحيح مرة ثانية مشاركًا مع الجماعة مناوبة في القراءة في أربع مجالس ومدة القراءة من طلوع الشمس إلى بعد كل عصر وصحيح مسلـم فـي ستـة مجالـس مناوبـة بمنـزل الشيـخ بخـان الصاغـة‏.‏

وكتـب الأمالـي والطبـاق وضبط الأسماء وقلد خط الصلاح الصفدي في وضعه فأدركه وقرأ عليه أيضًا المقامات الحريرية ورسائل في التصريـف وغيـر ذلـك مما لا يدخل تحت الضبط لكثرته‏.‏

وسمع المسلسل بالعيد وبالأسودين التمر والماء‏.‏

وسمع عليه أوائل الكتب الستة والمعاجم والمسانيد في سنة تسعين بمنهل شيخه مع الجماعة وجزء نبيط بن شريط الأشجعي وبلدانيات السلفي وبلدانيات بن عساكر وأحاديث عاشـوراء تخريـج المنـذري وأحاديـث يـوم عرفة تخريج بن فهد وعوالي بن مالك وثلاثيات البخاري والدارمي وجزأ فيه أخبار الصبيان والخلعيات بتماماها وهي عشرون جزءًا وعرف المترجم العالي من النازل واجتمع بشخينا السيد العيدروس وقربه وأدناه ولازمه وقرأ عليه أشياء من كتب الصوفية ومال إليـه وصـار ينطـق بالشعـر وأقبـل علـى الـأدب والتصـوف ولا زال كذلـك حتى صـار يتكلـم بكلـام عـال‏.‏

وألـف كتابـًا فـي علـم الأوفـاق فـي كراريـس لطيفـة علـى نسـق عجيـب مفيـد وامتـزج بالروحانيـة حتـى أنـي رأيته ينزل الوفق في الكاغد ويضعه على راحة كفه فيرتعش ويلتف ببعضه ثم ينبسط بنفسه كما كان وإذا أخذه غيره ووضعه على مثل وضعه لا يتحرك أبـدًا‏.‏

ومـارس فـي علـم الرمـل أيامـًا فـأدرك منتهـاه واستخـرج منـه مـا لا يستخـرج الممارس فيه سنين مـن الضميـر والمـدة وغيـر ذلـك فـي أسـرع وقـت وألـف فيـه كتابًا لخص فيه قواعده من غير مشقة‏.‏

ومـارس فـي الفلكيـات مـع سليمـان أفنـدي كنيـاذ وصنـف فيـه وفـي غيره‏.‏

وبآخره انجمع عن خلطة الناس وأقبل على ربه وكان قد تزوج بامرأة وكانت تؤذيه وتشتمه وربما كانت تضربه وهو صابر عليها مقبل على شأنه وألف أورادًا وأحزابًا وأسماء على طريقة الأسماء السهر وردية عجيبة المشرب بنفس عال غريب وصار يتكلم بكلام لا يطرق الأسماع نظيره ولم يزل على ذلـك حتـى تعلـل ولحق بربه وتوفي في سادس ربيع الأول من السنة وأعقب ولدًا من تلك المرأة التي كان تزوج بها وبالجملة والإنصاف أنه كان من آيات الله الباهرة‏.‏

ودفن بالقرافة بتربة علي أغا صالح رضي الله عنا وعنه ورحمنا أجمعين‏.‏

ومات الشيخ الفقيه الدراكة العلامة السيد سليمان بن طه بن أبي العباس الحريثي الشافعي المقري الشهير بالأكراشي وهي قرية شرقي مصر وحفظ القرآن على الشيخ مصطفى العزيزي خادم النعال بمشهد السيدة سكينة وأعاده بالعشر على الشيخ عبد الرحمن الأجهوزي المقري وأجازه في محفل عظيم في جامع ألماس وسمع وحضر دروس فضلاء وقته ومهر فـي فقـه المذهب ودرس في جامع الماس وغيره وسمع مـن شيخنـا السيـد مرتضـى المسلسـل بالأوليـة بشرطه والمسلسل بالعيد وبالمحبة وبالقسم وبقراءة الفاتحة في نفس واحد وبالالباس والتحكيم وسمـع الصيحيـن بطرفيهمـا فـي جماعـة بجامـع شيخـون بالصليبـة وسمـع أجـزاء البلدانيـات للحافظ أبي طاهر السلفي وجزء النيل وجزء يوم عرفة ويوم عاشوراء وغير ذلك‏.‏

وله تآليف وجميعات ورسائـل فـي علـوم شتـى‏.‏

ولمـا اجتمع بشيخنا المذكور ورأى ملازمة السيد علي المترجم آنفًا به في أكثر أوقاته ونظر نجابته وما فيه من قوة الفهم والاستعـداد لامـه علـى ملازمتـه للسيـد وانقطاعه عن بقية العلوم وقال له‏:‏ هذا شيء سهل يمكن تحصيله في زمن قليل وقد قرأت وحصلت ما فيه الكفاية والأولى أن تشغل بعض الزمن بتحصيل المعقولات وغيرها فإن مثلك لا يقتصـر علـى فـن مـن الفنـون والاقتصـار ضيـاع‏.‏

فقبـل منـه واشتغل عليه وعلى غيره وانقطع بسبب الاشتغال عن كثرة الترداد على الشيخ كعادته وعلم ذلك فانحراف على كل منهما وبالخصوص على السيد علي وصعب عليه جدًا وأدى ذلك إلى الانقطاع الكلي‏.‏

ولما مات الشيخ العزيزي تنزل المترجم في مشيخة القراء بمقام السيدة نفيسة رضي الله عنها وكان إنسانًا حسنًا جامعًا للفضائل وحضر معنا الهداية في فقه الحنفية على شيخنا المرحوم العلامـة الشيـخ مصطفـى الطائـي الحنفـي وكـان يناقـش فـي بعـض المسائـل المخالفـة لمذهبه إلى أن وافاه الحمام في هذه السنة رحمه الله‏.‏

ومـات أوحـد الفضـلاء وأعظـم النبـلاء العلامـة المحقـق والفهامـة المدقـق الفقيـه النبيـه الأصولـي المعقولـي المنطقي الشيخ أبو الحسن بن عمر القلعي ابن علي المغرب المالكي قدم إلى مصر في سنة 1154 وكان لديه استعداد وقابلية وحضر أشياخ الوقت مثل البليدي والملوى والجوهري والحفنـي والضيـخ الصعيـدي واتحد بالشيخ الوالد وزوجه زوجة مملوكه مصطفى بعد وفاته وهي خديجـة معتوقـة المرحـوم الخواجا المعروف بمدينة وأقامت معه نحو الأربعين سنة حتى كبر سنها وهرمت وتسرى عليها مرتين ولما حضر المرحوم محمد باشا راغب واليًا على مصر اجتمع به ومارسـه وأحبـه وشـرح رسالتـه التـي ألفهـا فـي علـم العـروض والقوافـي ولمـا عزل راغب وذهب إلى دار السلطنة وتولى الصدارة سافر إليه المترجم فأجله وأكرمه ورتب له جامكيـة بالضربخانـة بمصر ورجع إلـى مصـر وتولـى مشيخـة رواق المغاربـة ثلـاث مـرات بشهامـة وصرامـة زائـدة‏.‏

وسبب عزله في المرة الوسطى أن بعض المغاربة تشاجر مع الشيخ علي الشنويهي وانتصر هو للمغاربة لحمية الجنسية ونهر الشيخ علي فذهب الشيخ علي واشتكاه إلى علي بك في أيام إمارته أحضره علي بك فتطاول على الشيخ علي بحضرة الأمير وادعى الشيخ علي أنه لطمه على وجهه في الجامع فكذبه المترجم فحلف الشيخ علي بالله على ذلك فقال له المترجم‏:‏ احلف بالطلاق فاغتاظ منه الأمير علي بك وصرفهما وأرسل في الحال وأحضر الشيخ عبد الرحمن البناني وولاه مشيخة الرواق وعزل الشيخ أبا الحسن وانكسف باله لذلك ثم أعيد بعد مـدة إلى المشيخة وكان وافر الحرمة نافذ الكلمة معدودًا من المشايخ الكبار مهاب الشكل منور الشيبة مترفهًا في ملبسه ومأكله يعلوه حشمة وجلالة ووقار إذا مر راكبًا أو ماشيًا قام الناس إليه وبادروا إلى تقبيل يده حتى صار ذلك لهم عادة وطبيعة لازمة يرون وجوبها عليهم‏.‏

وللمترجم تأليفات وتقييدات وحواش نافعة منها حاشية علي الأخضري على سلمه وحاشية علـى رسالـة العلامـة محمـد أفنـدي الكرمانـي فـي علـم الكلـام فـي غايـة الدقـة تدل على رسوخه في علم المنطق والجدل والمعاني والبيان والمعقولات وشرح على ديباجة شرح العقيدة المسماة بأم البراهين للإمام السنوسي وله كتـاب ذيـل الفوائـد وفرائـد الزوائـد علـى كتـاب الفوائـد والصلـاة والعوائد وخواص الآيات والمجربات التي تلقاها من أفواه الأشياه وكتاب في خواص سورة يس وغير ذلك‏.‏

وأخذ عن المرحوم الوالد كثيرًا من الحكميات والمواقف والهداية للأبهري والهيئة والهندسـة‏.‏

ولـم يـزل مواظبـًا علـى تردده عليه وزيارته في الجمعة مرتين أو ثلاثة ويراعي له حق المشيخـة والصحبـة فـي حياتـه وبعدهـا وكـان سليم الباطن مع ما فيه من الحدة إلى أن توفي في ربيع الأول من هذه السنة رحمه الله‏.‏

ومات الشيخ المعتقد عبد الله بن إبراهيم بن أخي الشيخ الكبير المعروف بالموافي الشافعي السندوبي الرفاعي نزيل المنصورة ولد ببلده منية سندوب سنة 1140 وحفظ القرآن وبعض المتون وقدم المنصورة فمكث تحت حيازة عمه في عفة وصلاح وحضر دروس الشيخ أحمد الجالـي وأخيـه محمـد الجالـي وانتفـع بهمـا فـي فقـه المذهب فلما توفي عمه في سنة إحدى وستين أجلس مكانه في زاويتـه التـي أنشأهـا عمـه فـي مؤخـر الجامـع الكبيـر بالمنصـورة وسلـك علـى نهجـه فـي أحياء الليالي بالذكر وتلاوة القرآن وكان يختم في كل يوم وليلة مرة وربى التلاميذ وصارت له شهرة زائدة مع الانجماع عن الناس لا يقوم لأحد ولا يدخل دار أحد وفيه الاستئناس وعند فوائـد يذاكر بها ويشتغل دائمًا بالمطالعة والمذاكرة واعتقده الخاص والعام‏.‏

ولما سافرنا إلى دمياك سنـة تسـع وثمانيـن وجزنا بالمنصورة وطلعناها ذهبنا إلى جامعها الكبير ودخلنا إليه في حجرته فوجدته جالسًا على فراش عال بمفرده بجانب ضريح عمه وهو رجل نير بشوش فرحب بنا وفـرح بقدومنـا وأحضـر لنـا طبقـًا فيـه قراقيـش وكعـك وشريـك وخبـز يابـس ولبـن وبوسطـه دقـة وجبـن فأكلنا ما تيسر وسقانا قهوة في فنجان كبير وتحدث معنا ساعة ودعـا لنـا بخيـر وودعنـاه وسافرنا في الوقـت‏.‏

ولـم أره غيـر هـذه المـرة‏.‏

وهـو إنسـان حسـن جامـع للفضائـل توفـي فـي السنـة ولـم يخلف بعده مثله‏.‏

ومات السيد الإمام العلامة الفقيه النبيه السيد مصطفى بن أحمد ابن محمد البنوفري الحنفي أخذ الفقه عن والده وعن السيد محمد أبي السعود والشيخ محمد الدلجـي والشيـخ الزيـادي وغيرهـم وحضـر المعقول على علماء العصر كالشيخ عيسى البراوي وغيره ودرس في محل والده بالقرب من رواق الشوام إلا أنه لم يكن له حظ في الطلبة فكان يأتي كل يوم الجامع ويجلس وحـده ساعـة ثم يقوم ويذهب إلى بيته بسويقة العزى وكان لا يعرف التصنع وفيه جذب ويعود المرضي كثير الأغنياء والفقراء توفي في السنة رحمه الله‏.‏

ومـات العلامـة المتقـن والفهامـة المتفنـن أحـد الأعلـام الرواسخ وشيخ المشايخ الفقيه النحوي الأصولي المعقولي المنطقي ذو المعاني والبيان وحلال المشكلات بإتقان الصالح لقانع الورع الزاهد الشيـخ محمـد بـن محمـد بـن محمـد بـن مصطفى بن خاطر الفرماوي الأزهري الشافعي البهوتي نسبة إلى قبيلة البهتة جهة الشرق ولد بمصر رباه والده وحفظ القرآن والمتون وحضر على أشياخ العصـر الملـوي والجوهري والطحلاوي والبراوي والبليدي والصعيدي والشيخ علي قايتباي والمدابغي والأجهوري وأنجب فق الفقه والمعقول ودرس وأفاد الطلبة واشتهر بالفتوح على كل من أخذ عنه حتى صار له المشيخة على غالب أهل العلم من الطبقة الثانية‏.‏

وكان مذهب النفس جدًا لين الجانب متواضعًا منكسر النفس لا يرى لنفسه مقامًا يجلس حيث ينتهي به المجلس ولا يتداخل فيما لا يعنيه مقبلًا على شأنه ملازمًا على الاشتغال والإفادة والمطالعة‏.‏

وممـا اتفـق لـه أنـه قـرأ البخـاري والمنهـج صبية النهار والقطب على الشمسية في الضحوة والاشوني وقـت الظهـر وابـن عقيـل بعـد العصـر والشنشوري بعد المغرب كل ذلك في آن واحد ويحضره في ذلـك جـل الأفاضـل وهـذا لـم يتفـق لغيـره مـن أقرانـه ولـم يـزل علـى حالتـه حتى توفي في آخر يوم من رجب من السنة وخلف ولده العمدة الفاضل الصالح الشيخ مصطفى على قدم والده وأسلافه من الإفادة وملازمة الإقراء أعانه الله على وقته ونفع به‏.‏

ومات الشيخ الإمام العلامة والنحرير الفهامة محمد بن عبد ربه ابن علي العزيزي الشهير بابن السـت ولدسنـة 1118 بمصر وسبب تسميته بابن الست أن والدته كانت سرية رومية اشتراها أبوه وأولدها إياه وكان قد تزوج بحرائر كثيرة فلم يلدن إلا الإناث حتى قيل أنه ولد له نحو ثمانين بنتًا فاشترى أم ولده هذا فولدته ذكرًا ولم تلد غيره ففرح به كثيرًا ورباه في عز ورفاهية وقرأ القرآن مع الشيخ علي العدوي في مكتب واحد فلذلك اعتشر بالمالكية وصار مالكي المذهب‏.‏

ولما ترعرع أراد الانتقال إلى مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه فرأى الشافعي في المنام وأشار عليه بعدم الانتقال فاستمر مالكي المذهب وتفقه على الشيخ سالم النفراوي واللقاني والشبراملسي وسمع على الشيخ عبد ابن علي النمرسي المسلسـل بالأوليـة وأوائل الكتب الستة وسنن النسائي الصغرى المسماة بالمجتبي والمسلسل بالمصافحة والمشابكة والسبحـة وغيـر ذلـك وأخـذ عليه أيضًا ملا عصام على السمرقندية وشرح رسالة الوضع وشرح الجزرية لشيخ الإسلام وأوائل تفسير القاضي البيضاوي مع البحث والتدقيق وأجازه بما يجوز له وعنه روايته بشرطه وأخذ المعقول عن الشيخ أحمد الملوي والشيخ عبده الديوى والشيخ الاطفيحي والخليفي وأخذ طريق الشاذليـة عـن الشيـخ أحمـد لجوهـري والشيـخ الملـوي وهمـا أخذاها عن سيدي عبد الله بن محمد المغرب القصري الكنكسي‏.‏

وكان المترجم على قدم السلـف لا يتداخل في أمور الدنيا ولا يتفاخر في ملبس ولا يركب دابة ولا يدخل بيت أمير ولا يشتغل بغير العلم ومدارسته ويشهد له معاصروه بالفضل وإتقان العلوم والديانة‏.‏

وسمعت منه المسلسل بالأولية وأجازني بمسموعاته ومروياته وتلقيت عنه دائرة الشاذلي وأجازني بوضعهـا ورسمها ونقطة مركزها كل ذلك في مجلس واحد بمنزلي ببولاق بشاطئ النيل سنة 1190‏.‏

وكان يجيئني ويودني ويقول لي‏:‏ أنت ابن خالتي لكون والدتي ووالدته من السراري‏.‏

وصنف حاشيـة علـي الزرقانـي علـى العزيـة وهـي مستعملـة بأيدي الطلبة وديباجة وخاتمة على أبي الحسن على الرسالة وخاتمة على شرح الخرشي وديباجة على أيساغوجي في المنطق وحاشية علي الحفيد على العصام وتكملة على العشماوية وشرحًا على آية الكرسي وشرحًا على الحوضية فـي التوحيـد ولـم يـزل مقبـلًا على شأنه وحاله حتى توفي في هذه السنة عن أربع وثمانين سنة رحمه الله تعالى‏.‏

ومـات السيـد الأجـل المبجـل السيـد أحمـد بـن عبـد الفتـاح بن طه بن عبد الرزاق الحسيني الحموي القـادري ولد أبوه السيد عبد المفتاح بحماه وارتحل بكريميه رقية وفاطمة ابنة السيد طه فزوج الأولى بأحد أعيان مصر بن حسين الشمسي وهي أم أولاده حسن وحسين وعثمان ومحمود ورضوان وتزوجت السيدة فاطمة بعلي أفندي البكري أخي سيدي بكري الصديقي فأولدها محمد أفندي نقيب السادة الأشراف وهو والد محمد أفندي الأخير وأقام والده السيد عبد الفتـاح بمصـر مـدة وتنـزل فـي بعـض المناصـب ثـم توجـه إلـى ملك الروم فأكرمه ووجه له بعناية بعض الأعيان نقابة الأشراف بمصر وحضر إلى مصر وقرئ المرسوم الوارد بذلك وكاد أن يتم لـه الأمـر فلـم يمكـن مـن ذلـك بتوقيـة بعـض الأمراء وحنقوا عليه حيث توجه من مصر إلى الروم خفية ولم يأخذ منهم عرضًا وجعل له شيء معلوم من بيت النقابة وبقي ممنوعًا عنها‏.‏

وكان سيدًا محتشمًا فصيح اللسان بهي الشكل وتزوج ببنت سيدي مكي الوارثي وولد له منها السيد أحمـد المترجـم وتربى ببنت سيدي مكي الوارثي وولد له منها السيد أحمد المترجم وتربى في العـز والرفاهيـة ببيتهم المعروف بهم بالأزبكية بخط الساكت وكان إنسانًا حسنًا مترفهًا في مأكله وملبسه منجمعًا عن الناس إلا لمقتضيات لا بد له منها‏.‏

توفي رحمه الله في هذه السنة ولم يعقب‏.‏

ومات الشيخ الصالح الماهر الموفق علي بن خليل شيخ القبان بمصر وكـان ماهـرًا فـي علـم الحسـاب ومعرفة الموازين والقرسطون المعروف بالقبان ودقائقه وصناعته ولما عني المرحوم الوالد أمـر الموازيـن وتصحيحها وتحريرها في سنة اثنتين وسبعين وصنف في ذلك العقد الثمين فيما يتعلق بالموازين طالعه عليه وتلقاه عنه مع مشاركة الشيخ حسن بن ربيع البولاقي وأتقنا ذلك وتميـزا بـه دون أهـل فنهمـا‏.‏

وكـان المترجـم إنسانـًا بشوشـًا منـور الشيبـة ولديه آداب ونوادر ومناسبات وحج مرارًا أو أثرى وتمول ثم تقهقر حاله ولزم بيته إلى أن توفي في هذا العام ولم يخلف بعده مثله‏.‏

ومـات الشريـف الحسيب النسيب السيد مصطفى بن السيد عبد الرحمن العيدروس وهو مقتبل الشيبية وصلي عليه بالأزهر ودفن عند والده بمقام العتريس تجاه مشهد السيد زينب وكانت وفاته رابع عشرين ربيع الأول من السنة رحمه الله‏.‏

سنة مائتين وألف كان أول المحرم يوم الجمعة وفي ذلك اليوم وصل الباشا الجيد إلى برانبابة واسمه محمد باشا يكـن فبـات ليلـة الجمعـة هنـاك وفـي الصباح ذهب إليه الأمراء وسلموا عليه على العادة وعدوا به إلـى قصـر العينـي فجلـس هنـاك إلـى يـوم الاثنيـن رابعـه وركـب بالموكـب وشق من الصليبة وطلع إلى وفـي يـوم الخميـس ثانـي عشـر صفـر حضـر مبشـر الحـاج بمكاتيـب العقبـة وأخبـر أن الحجـاج لم يزوروا المدينة أيضًا في هذه السنة مثل العام الماضي بسبب طمع أمير الحاج في عدم دفع العوائد للعربـان وصـرة المدينـة وأن أحمـد باشـا أميـر الحـاج الشامـي أكـد عليه في الذهاب وأنعم عليه بجملة مـن المـال والعليـق والذخيـرة فاعتـل بـأن الأمـراء بمصـر لـم يوفوا له العوائد ولا الصرة في العام الماضي وهذا العام واستمر على امتناعه‏.‏

وحضر الشريف سرور شريف مكة وكلمه بحضرة أحمد باشا وقال‏:‏ إذا كان كذلك فنكتب عرض محضر ونخبر السلطان بتقصير الأمراء وتضع عليه خطـك وختمـك وللسلطـان النظـر بعـد ذلك‏.‏

فأجاب إلى ذلك ووضع خطه وختمه وحضر إليهم الجاويـش فـي صبحهـا فخلعـوا عليـه كالعـادة ورجع بالملاقاة وخرج الأمراء في ثاني يوم إلى خارج بأجمعهم ونصبوا خيامهم‏.‏

وفـي يـوم الاثنيـن وصـل الحجـاج ودخلـوا إلـى مصـر ونـزل أميـر الحـج بالجنبلاطيـة ببـاب النصـر ولـم ينزل بالحصـورة أولًا علـى العـادة وركب في يوم الثلاثاء ودخل بالمحمل بموكب دون المعتاد وسلم المحمل إلى الباشا‏.‏

وفي يوم الأربعاء اجتمع الأمراء ببيت إبراهيم بك وأحضروا مصطفى بك أمير الحج وتشاجر معه إبراهيم بك ومراد بك بسبب هذه الفعلة وكتابة العرضحال وادعوا عليه أنه تسلم جميع الحمائـل وطلبـوا منـه حسـاب ذلـك واستمـروا علـى ذلـك إلـى قـرب المسـاء‏.‏

ثـم أن مـراد بـك أخـذ أميـر الحـاج إلـى بيتـه فبـات عنـده وفـي صبحهـا حضـر إبراهيـم بـك عنـد مراد بك وأخذ أمير الحاج إلى بيتـه ووضعـه فـي مكـان محجـوزًا عليـه وأمـر الكتـاب بحسابـه فحاسبـوه فاستقـر في طرفه مائة ألف ريال وثلاثة آلاف وذلك خلاف ما على طرفه من الميرى‏.‏

وفـي يـوم الجمعـة طلـع إبراهيم بك إلى القلعة وأخبر الباشا بما حصل وأنه حبسه حتى يوفي ما استقر بذمته فاستمر أيامًا وصالح وذهب إلى بيته مكرمًا‏.‏

وفي ذلك اليوم بعد صلاة الجمعة ضج مجاور والأزهر بسبب أخبازهم وقفلوا أبواب الجامع فحضـر إليهـم سليـم أغـا والتـزم لهـم بإجـراء رواتبهـم بكـرة تاريخـه فسكنـوا وفتحـوا الجامـع وانتظـروا ثاني يوم فلم يأتهم شيء فأغلقوه ثانيًا وصعدوا على المنارات يصيحون فحضر سليم أغا بعد العصر ونجز لهم بعض المطلوبات وأجرى لهم الجراية أنامًا ثم انقطع ذلك‏.‏

وتكرر الغلق والفتح مرارًا‏.‏

وفي ليلة خروج الأمـراء إلـى ملاقـاة الحجـاج ركـب مصطفـى بـك الإسكنـدري وأحمـد بـك الكلارجي وذهبا إلى جهة الصعيد والتفا على عثمان بك الشرقاوي ولاجين بك وتقاسموا الجهات والبلاد وأفحشوا في ظلم العباد‏.‏

وفـي منتصف ربيع الأول شرع مراد بك في السفر إلى جهة بحري بقصد القبض على رسلان والنجار قطاع الطريق فسافر وسمع بحضوره المذكوران فهربا فأحضر بن حبيب وابن حمـد وابن فودة وألزمهم بإحضارهما فاعتـذروا إليـه فحبسهـم ثـم أطلقهـم علـى مـال وذلـك بيـت القصيد وأخذ منهم رهائن ثم سار إلى طملوها وطالب أهلها برسلان ثم نهب وسلب أموال أهلهـا وسبى نساءهم وأولادهم ثم أمر بهدمها وحرقها عن آخرها ولم يزل ناصبًا وطاقه عليها حتى أتى على آخرها هدمًا وحرقًا وجرفها بالجراريف حتى محوا أثرها وسووها بالأرض وفـرق كشافـه فـي مـدة إقامتـه عليهـا فـي البلـاد والجهـات لجبـي الأمـوال وقـرر علـى القرى ما سولته له نفسه ومنع من الشفاعة وبث المعينين لطلب الكلف الخارجة عن المعقول فإذا استوفوها طلبوا حق طرقهم فإذا استوفوها طلبوا المقرر وكل ذلك طلبًا حثيثًا وإلا أحرقوا البلدة ونهبوها عن آخرهـا ولـم يـزل فـي سيـره علـى هـذا النسق حتى وصل إلى رشيد فقرر على أهلها جملة كبيرة من المال وعلى التجار وبياعي الأرز فهرب غالب أهلها وعين على إسكندرية صالح أغا كتخدا الجاويشية سابقًا وقرر له حق طريقه خمسة آلاف ريال وطلب من أهل البلد مائة ألف ريال وأمر بهدم الكنائس فلما وصل إلى إسكندرية هربت تجارها إلى المراكب وكذلك غالب النصارى فلم يجد إلا قنصل الموسقو فقال‏:‏ أنا أدفع لكم المطلوب بشـرط أن يكـون بموجـب فرمان من الباشا أحاسب به سلطانكم فانكف عن ذلك وصالحوه على كراء طريقه ورجع وارتحل مراد بك من رشيد‏.‏

ولما وصل إلى جميجون هدمها عن آخرها وهدم أيضًا كفرد سوق واستمر هو ومن معه يعبثون بالأقاليم والبلاد حتى أخربوها وأتلفوا الزروعات إلى غرة جمـادى الأولـى‏.‏

فوصلـت الأخبـار بقدومـه إلـى زنكلـون ثـم ثنـى عنانـه وعـرج علـى جهـة الشرق يفعل بهـا فعلـه بالمنوفية والغربية وأما صناجقه الذين تركهم بمصر فإنهم تسلطوا على مصادرات الناس فـي أموالهـم وخصوصـًا حسين بك المعروف بشفت بمعنى يهودي فإنه تسلط على هجم البيوت ونهبها بأدنى شبهة‏.‏

وفـي عصريـة يـوم الخميـس المذكـور ركـب حسيـن بك المذكور بجنوده وذهب إلى الحسينية وهجم على دار شخص يسمى أحمد سالم الجزار متولي رياسة دراويش الشيخ البيومي ونهبه حتى مصاغ النساء والفراش ورجع والناس تنظر إليه‏.‏

وفي عصريتها أرسل جماعة من سراجينه بطلب الخواجا محمود ابـن حسـن محـرم فلاطفهـم وأرضاهم بدراهم وركب إلى إبراهيم بك فأرسل له كتخداه وكتخدا الجاويشية فتلطفوا به وأخذوا خاطره وصرفوه عنه وعبى له الخواجا هدية بعد ذلك وقدمها إليه‏.‏

وفـي صبحهـا يـوم الجمعـة ثـارت جماعـة مـن أهالـي الحسينيـة بسبـب مـا حصـل في أمسه من حسين بك وحضروا إلى الجامع الأزهر ومعهم طبول والتف عليهم جماعة كثيرة من أوبـاش العامـة والجعيدية وبأيديهم نبابيت ومساوق وذهبوا إلى الشيـخ الدرديـر فوافقهـم وساعدهـم بالكلـام وقال لهم‏:‏ أنا معكم‏.‏

فخرجوا من نواحي الجامع وقفلوا أبوابه وطلع منهم طائفة على أعلى المنارات يصيحون ويضربون بالطبول وانتشروا بالأسواق في حالة منكـرة وأغلقـوا الحوانيـت‏.‏

وقـال لهـم الشيـخ الدرديـر‏:‏ فـي غـد نجمع أهالي الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة وأركب معكـم وننهـب بيوتهـم كمـا ينهبـون بيوتنـا ونمـوت شهـداء أو ينصرنـا اللـه عليهـم‏.‏

فلما كان بعد المغرب حضـر سليـم أغـا مستحفظـان ومحمـد كتخـدا أنـؤد الجلفـي كتخدا إبراهيم بك وجلسوا في الغورية ثم ذهبوا إلى الشيخ الدردير وتكلموا معه وخافوا من تضاعف الحال وقالوا للشيخ‏:‏ اكتب لنا قائمـة بالمنهوبات ونأتي بها من محل ما تكون‏.‏

واتفقوا على ذلك وقرأوا الفاتحة وانصرفوا وركب الشيـخ فـي صبحهـا إلـى إبراهيـم بـك وأرسـل إلـى حسيـن بـك فأحضـره بالمجلـس وكلمـه فـي ذلـك فقـال في الجواب‏:‏ كلنا نهابون أنت تنهب مراد بك ينهب وأنا أنهب كذلك‏.‏

وانفض المجلس وبردت القضية‏.‏

وفـي عقبهـا بأيـام قليلـة حضـر مـن انحية قبلي سفينة وبها تمر وسمن وخلافه فأرسل سليمان بك الأغـا وأخـذ مـا فيهـا جميعـه وادعـى أن لـه عنـد أولـاد وافـي مـالًا منكسـرًا ولـم يكـن ذلك لأولاد وافي وإنمـا هو لجماعة يتسببون فيه من مجاوري الصعايدة وغيرهم فتعصب مجاورو الصعايدة وأبطلوا دروس المدرسين وركب الشيخ الدردير والشيخ العروسي والشيخ محمد المصيلحي وآخرون وذهبوا إلى بيت إبراهيم بك وتكلموا معه بحضرة سليمان بك كلامًا كثيرًا مفحمًا‏.‏

فاحتج سليمـان بـك بـأن ذلـك متاع أولاد وافي وأنا أخذته بقيمته من أصل مالي عندهم فقالوا هذا لم يكـن لهـم وإنمـا هـؤلاء ربابـه نـاس فقـراء فـإن كـان لـك عنـد أولـاد وافـي شـيء فخـذه منهم فرد بعضه وذهب بعضه‏.‏وفي

يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى

قدم مراد بك من ناحية الشرق ودخل في ليلتها من المنهوبات من لجمال والأغنام والأبقار والحواميس وغير ذلك شيء كثير يجل عن الحصر‏.‏

وفيه سافر أيوب بك إلى ناحية قبلي لمصالحة الأمراء الغضاب وهم مصطفى بك وأحمد بك الكلارجي وعثمان بك الشرقاوي ولاجين بك لأنهم بلغوا قصدهم من البلاد وظلم العباد‏.‏

وفي منتصف جمادى الثانية حضر عثمان بك الشرقاوي من ناحية قبلي‏.‏

وفيه أنعم مراد بك على بعض كشافه بفردة دراهم على بلاد المنوفية كل بلد مائة وخمسون ريالًا‏.‏

وفيه اجتمع الناس بطندتا لعمل مولد سيدي أحمد البدوي المعتاد المعروف بمولد الشرنبابلية وحضـر كاشـف الغربيـة والمنوفيـة علـى جـاري العـادة وكاشـف الغربيـة من طرف إبراهيم بك الوالي المولى أمير الحاج فحصل منه عسف وجعل على كل جمل يباع في السوق المولد نصف ريال فرانسة فأغار أعوان الكاشف على بعض الأشراف وأخذوا جمالهم وكان ذلك في آخر أيام المولد فذهبوا إلى الشيخ الدردير وكان هناك بقصد الزيارة وشكوا إليه مـا حـل بهـم فأمـر الشيخ بعض أتباعه بالذهاب إليه فامتنع الجماعة من مخاطبة ذلك الكاشـف فركـب الشيـخ بنفسـه وتبعـه جماعـة كثيرة من العامة‏.‏

فلما وصل إلى خيمة كتخدا الكاشف دعاه فحضر إليه والشيـخ راكـب علـى بغلتـه فكلمـه ووبخـه وقـال لـه‏:‏ أنتم ما تخافون من الله‏.‏

ففي أثناء كلام الشيخ لكتخدا الكاشف هجم على الكتخدا رجل من عامة الناس وضربه بنبوت فلما عاين خدامه ضـرب سيدهم هجموا على العامة بنبابيتهم وعصيهم وقبضوا على السيد أحمد الصافي تابع الشيخ وضربوه عدة نبابيت‏.‏

وهاجـت النـاس علـى بعضهـم ووقـع النهـب فـي الخيـم وفـي البلـد ونهبـت عـدة دكاكيـن وأسـرع الشيـخ فـي الرجـوع إلـى محلـه وراق الحـال بعـد ذلـك وركـب كاشـف المنوفيـة وهـو مـن جماعـة إبراهيـم بـك الكبير وحضر إلى كشاف الغربية وأخذه وحضر به إلى الشيخ وأخذوا بخاطـره وصالحـوه ونـادوا بالأمـان‏.‏

وانفـض المولـد ورجـع النـاس إلـى أوطانهـم وكذلك الشيخ الدرديـر فلمـا استقـر بمنزلـه حضـر إليه إبراهيم بك الوالي وأخذ بخاطره أيضًا وكذلك إبراهيم بك وفـي سابـع عشـرة ركـب حسيـن بـك الشفـت وقـت القائلة وحضر إلى بيت صغير بسوق الماطيين وصحبتـه امـرأة فصعـد إليـه ونقـب فـي حائط وأخرج منه برمة مملوءة ذهبًا فأخذها وذهب وخبر أن هـذا البيـت كـان لرجـل زيـات فـي السنيـن الخاليـة فاجتمـع لديـه هـذه الدنانيـر فوضعهـا في برمة من الفخـار وأفـرج لهـا نقبـًا فـي كتـف الحائـط ووضعهـا فيه وبنى عليها وسواها بالجبس‏.‏

وكانت هذه المرأة ابنة صغيرة تنظر إليه ومات ذلك الرجل وبيعت الدار بعد مدة ووقفها الذي اشتراها وتداولـت الأعـوام وآل البيـت إلـى وقـف المشهـد الحسينـي وسكنه الناس بالأجرة ومضى على ذلك نحـو الأربعيـن عامـًا وتلـك المـرأة تتخيـل ذلـك فـي ذهنها وتكتمه ولا يمكنها الوصول إلى ذلك المكان بنفسها وقلت ذات يدها واحتاجت فذهبت إلى حريم حسين بك المذكور وعرفتهن القضية وأخبـر الأمير بذلك فقال لعل بعض الساكنين أخذها فقالت لا يعرفها أحد غيري‏.‏

فأرسل إلى ساكن الدار وأحضره وقال له أخل دارك في غد وانتظرني ولا تفزع من شيء ففعل الرجل وحضـر الصنجـق وصحبته المرأة فأرته الموضع فنقبوه وأخرجوا منه تلك البرمة وأعطي صاحب المكان إحسانًا وركب وصاحب المكان يتعجـب وركـب أيضـًا قبـل ذلـك وذهـب إلـى بيـت رجـل يقـال لـه الشيـخ عبـد الباقـي أبـو قليطـة ليلًا وأخذ منه صندوقًا مودعًا عنده أمانة لنصر ابن شديد البدوي شيخ عرب الحويطات يقال أن فيه شيئًا كثيرًا من الذهب العين وغيره وهجم أيضـًا علـى بيـت بالقرب من المشهد الحسيني في وقت القائلة وكان ذلك البيت مقفولًا وصاحبه غائـب فخلـع الباب وطلع إليه وأخذ منه عشرة أكياس مملوءة ذهبًا وخرج وأغلق الباب كما كان وركـب هـو ومماليكـه والأكيـاس فـي أحضانهم على قرابيس سروج الخيل وهو بجملتهم يحمل كيسًا أمامه والناس تنظرهم‏.‏

وفـي هـذا الشهـر ثقـب الشطـار حاصـلًا فـي وكالـة المسايـرة التـي ببـاب الشعريـة وكـان بظاهر الحاصل المذكـور قهـوة متخربـة فتسلـق إليهـا بعض الحرامية ونقبوا الحاصل وأخذوا منه صندوقًا في داخله اثنـا عشـر ألـف بندقـي عنهـا ثلاثـون ألـف ريـال فـي ذلـك الوقـت وفيـه مـن غير جنس البندقي أيضًا ذهـب ودراهم وثياب حرير وطرح النساء المحلاوي التي يقال لها الحبر‏.‏

وبعد أيام قبضوا على رجليـن أحدهمـا فطاطـري والآخـر مخللاتـي بتعريـف الخفراء بعد حبسهم ومعاقبتهم فأخذوا منهما شيئًا واستمرا محبوسين‏.‏

وفـي عشرينـه حضـر أيـوب بك ولاجين بك وأحمد بك من ناحية قبلي ودخلوا بيوتهم بالمنهوبات والمواشي وتأخر مصطفى بك‏.‏

وفـي يوم الثلاثاء سابع عشرينه هبت رياح عاصفة جنوبية نسفت رمالًا وأتربة مع غيم مطبق وأظلم منها الجو واستمرت من الظهر إلى الغروب‏.‏

وفـي غـرة شهـر رجـب عـزم مـراد بـك علـى التوجـه إلـى سـد خليـج منوف المعروف بالفرعونية وكان منـذ سنيـن لـم يحبـس واندفع إليه الشرقي حتى تهور وشرق بسببه بحر دمياط وتعطلت مزارع الأرز‏.‏

وفيه وصلت الأخبار من ثغر الإسكندرية بأنه ورد إليها مركب البيليك وذلك على خلاف العادة وذلك أن مراكب البيليكات لا تخرج إلا بعد روز خضر ثم حضـره عقيبـه أيضـًا قليـون آخـر وفيـه أحمـد باشـا والـي جـدة ثـم تعقبهمـا آخـر وفيـه وغلال كثيرة نقلوها إلى الثغر وشرعوا في عملها بقسماطًا فكثر اللغط بمصر بسبب ذلك‏.‏

وفـي عاشـره ورد ططـري مـن البـر وقابجي من البحر ومعهما مكاتبات قرئت بالديوان يوم الخميس ثاني عشرة مضمونها طلب الخزائن المنكسرة وتشهيل مرتبات الحرمين من الغلال والصرر في السنين الماضية واللوم على عدم زيارة المدينة‏.‏

وفيه الحث والوعد والوعيد والأمر بصرف العلوفات وغلال الأنبار‏.‏

وفيه المهلة ثلاثون يومًا‏.‏

فكثر لغط الناس والقال والقيل وأشيع ورود مراكب أخر إلى ثغر سكندرية وأن حسن باشا القبطان واصل أيضًا في أثر ذلك وصحبته عساكر محاربون‏.‏

وفيـه حضـر معلـم ديـوان الإسكندريـة قيل أنه هرب ليلًا ثم أن إبراهيم بك أرسل يستحث مراد بك في الحضور من سد الفرعونية ثم بعث إليه علي أغا كتخدا جاووجان والمعلم إبراهيم الجوهـري وسليمـان أغـا الحنفـي وحسـن كتخـدا الجربـان وحسـن أفندي شقبون كاتب الحوالة سابقًا وأفنـدي الديـوان حـالًا فأحضـروه إلـى مصـر فـي يوم الثلاثاء ولم يتم سد الترعة بعد أن غرق فيها عدة مراكب ومراسي حديد وأخشاب أخذوها من أربابها من غيـر ثمـن وفـرد علـى البلـاد الأموال وقبض أكثرها وذهب ذلك جميعه من غير فائدة‏.‏

ثم أن الأمراء عملوا جمعيات وديوانًا ببيـت إبراهيـم بـك وتشـاوروا في تنجيز الأوامر‏.‏

وفي أثناء ذلك تشحطت الغلال وارتفع القمح من السواحل والعرصات وغلا سعره وقل وجوده حتى امتنع بعي الخبز من الأسواق وأغلقت الطوابيـن‏.‏

فنـزل سليـم أغـا وهجـم المخـازن وأخـرج الغلـال وضرب القماحين والمتسببين ومنعهم من زيادة الأسعار فظهر القمح والخبز بالأسواق وراق الحال وسكنت الأقاويل‏.‏

وفي هذا الشهر أعني شهر رجب حصلت عدة حريقات منها حريقتان في ليلـة واحـدة‏.‏

إحداهما بالأزبكية وأخرى بخطتنا بالصنادقية‏.‏

وظهرت النار من دكان رجل صناديقي وهي مشحونة بالأخشاب والصناديق المدهونة عند خان الجلاية فرعت النار في الأخشاب ووجت في ساعة واحدة وتعلقت بشبابيك الدور وذلك بعد حصة من الليل وهاج الناس والسكان وأسرعوا بالهدم وصب المياه وأحضر الوالي القصارين حتى طفئت‏.‏

وفيه أيضًا من الحوادث المستهجنة أن امرأة تعلقت برجـل مـن المجاذيـب يقـال لـه الشيـخ علـي البكري مشهور ومعتقد عند العوام وهو رجل طويل حليق اللحية يمشي عريانًا وأحيانًا يلبس قميصًا وطاقية‏.‏

ويمشي حافيًا فصارت هذه المرأة تمشي خلفه أينما توجـه وهـي بإزارهـا وتخلـط فـي ألفاظهـا وتدخـل معـه إلـى البيوت وتطلع الحريمات واعتقدها النساء وهادوها بالدراهم والملابـس وأشاعـوا أن الشيخ لحظها وجذبها وصارت من الأولياء ثم ارتقت في درجات الذب وثقلت عليها الشربة فكشفت وجهها ولبست ملابس كالرجال ولازمته أينمـا توجـه ويتبعهمـا الأطفال والصغار وهوام العوام ومنهم من اقتدى بهما أيضًا ونزع ثيابه وتخجل في مشيه وقالوا أنه اعترض على الشيخ والمرأة فجذبه الشيخ أيضًا وأن الشيخ لمسه فصار من الأولياء‏.‏

وزاد الحال وكثر خلفهم أوباش الناس والصغار وصاروا يخطفون أشياء من الأسواق ويصير لهم في مرورهم ضجة عظيمة وإذا جلس الشيخ في مكان وقف الجميع وازدحم الناس للفرجة عليه وتصعد المرأة على دكان أو علوة وتتكلم بفاحش القول ساعة بالعربي ومرة بالتركـي والنـاس تنصت لها ويقبلون يدها ويتبركون بها وبعضهم يضحك ومنهم من يقول الله الله وبعضهم يقول دستـور يـا أسيـادي وبعضهـم يقـول لا تعتـرض بشـيء‏.‏

فمـر الشيـخ فـي بعـض الأوقـات علـى مثـل هذه الصورة والضجة ودخلوا من باب بيت القاضي الذي من ناحية بين القصرين وبتلك العكفة سكن بعض الأجناد يقال له جعفر كاشف فقبض على الشيخ وأدخله إلى داره ومعه المـرأة وباقي المجاذيب فأجلسـه وأحضـر لـه شيئـًا يأكلـه وطـرد النـاس عنـه وأدخـل المـرأة والمجاذيـب فضربهـم وعزرهـم ثـم أرسـل المـرأة إلـى المارستان وربطها عند المجانين وأطلق باقي المجاذيب بعد أن استغاثـوا وتابـوا ولبسـوا ثيابهـم وطـارت الشربـة من رؤوسهم وأصبح الناس يتحدثون بقصتهم‏.‏

واستمرت المرأة محبوسة بالمارستان حتى حدثت الحوادث فخرجت وصـارت شيخـة علـى انفرادها ويعتقدها الناس والنساء وجمعت عليها الجمعيات وموالد وأشباه ذلك‏.‏

وفيه ورد الخبر من الديار الشامية بحصول طاعون عظيم في بلادهم حصل عندهم أيضًا قحط وغلاء في الأسعار‏.‏

وفـي يـوم الثلاثـي ثاني شهر شعبان ركب سليم أغا في عصريته إلى جامع السلطان حسن بن قالون الذي بسوق السلاح وأحضر معه فعلة وفتح باب المسجد المسدود وهو الباب الكبير الذي من ناحية سوق السلاح فهدموا الدكاكين التي حدثت أسفله والبناء الذي بصدر الباب وكـان مـدة سـده فـي هـذه المـرة إحـدى وخمسيـن سنـة وكـان سببهـا المقتلـة التـي قتل بها الأحد عشر أميـرًا ببيـت محمـد بك الدفتردار في سنة تسع وأربعين وتقدم ذكرها في أول التاريخ‏.‏

وسبب فتحه أن بعـض أهـل الخطـة تذاكـر مـع الأغـا فـي شأنـه وأعلمـه بحصـول المشقـة علـى النـاس المصليـن فـي الدخـول إليـه مـن بـاب الرمليـة وربمـا فاتهم حضور الجماعة في مسافة الذهاب وأن الأسباب التي سـد البـاب مـن أجلهـا قـد زالـت وانقضـت ونسيـت فاستـأذن سليـم أغا إبراهيم بك ومراد بك في فتحه فأذنا له ففتحه وصنع له بابًا جديدًا عظيمًا وبنى له سلالم ومصاطب وأحضر نظاره وأمرهـم بالصـرف عليـه ويأتـي هو في كل يوم يباشر العمل بنفسه وعمروا ما تشعث منه ونظفوا حيطانه ورخامه وظهر بعد الخفاء وازدحم الناس للصلاة فيه وأتوا إليه من الأماكن البعيدة‏.‏

وفي يوم الجمعة خامسه توفي مصطفى بك المرادي المجنون‏.‏

وفي عشرين شعبان كثر الأرجاف بمجيء مراكب الإسكندرية وعساكر وغير ذلك‏.‏

وفي يوم السب خامس رمضان حضر واحد أغا من الديار الرومية وعلى يده مكاتبة بالحث علـى المطلوبـات المتقدم ذكرها فطلع الأمراء إلى القلعة ليلًا واجتمعوا بالباشا وتكلموا مع بعضهم كلامًا كثيرًا وقال مراد بك للباشا‏:‏ ليس لكـم عندمـا إلا حسـاب أمهلونـا إلـى بعـد رمضـان وحاسبنا على جميع ما هو في طرفنا نورده وأرسل إلى من وصل الإسكندرية يرجعون إلى حيث كانوا وإلا فلا نشهل حجًا ولا صرة ولا ندفع شيئًا‏.‏

وهذا آخر الكلام كل ذلك وإبراهيم بك يلاطف كلًا منهما ثم اتفقوا على كتابة عرضحال من الوجاقلية والمشايخ ويذكر فيه أنهم أقلعوا وتابوا ورجعوا عن المخالفة والظلم والطريق التي ارتكبوها وعليهم القيام باللوازم وقرروا علـى أنفسهـم مصلحـة يقومون بدفعها لقبطان باشا والوزير وباشة جدة وقدرها ثلثمائة وخمسون كيسًا وقاموا على ذلك ونزلوا إلى بيوتهم‏.‏

وفـي ليلـة الاثنيـن جمـع إبراهيـم بـك المشايـخ وأخبرهـم بذلـك الاتفـاق وشرعـوا فـي كتابة العرضحالات أحدها للدولة وآخر لقبطان باشا بالمهلـة حتـى يأتـي الحـواب وآخـر لباشـة جـدة الـذي فـي الإسكندرية‏.‏

وفي صبحها وردت مكاتبة من أحمد باشا الجزاء يخبر فيها بالحركة والتحذير وأخبار بورود مراكب أخرى بإسكندرية ومراكب وصلت إلى دمياط فزار اللغط والقال والقيل‏.‏

وفيه ركب سليم أغا مستحفظان ونادى في الأسواق على الأروام والقليونجية والأتراك بأنهم يسافرون إلى بلادهم ومن وجد منهم بعد ثلاثة أيام قتل‏.‏

وفيه اتفق رأي إبراهيم بك ومراد بك أنهم يرسلون لاجين بك ومصطفى بك السلحدار إلى رشيـد لأجـل المحافظـة والاتفـاق مـع عـرب الهانـدي ويطلبون أحمد باشا والي جدة ليأتي إلى مصر ويذهب إلى منصبه‏.‏

فسافروا فـي ليلـة الخميـس عاشـر رمضـان‏.‏

وفـي تلـك الليلـة ركـب إبراهيـم بـك بعد الإفطار وذهب إلى مراد بك وجلس معه ساعة ثم ركبا جميعًا وطلعا إلى القلعة وطلع أيضًا المشايخ باستدعاء من الأمراء وهم الشيخ البكري والشيخ السادات والشيخ العروسـي والشيـخ الدرديـر والشيـخ الحريـر وقابلـوا الباشـا وعرضـوا عليـه العرضحالـات‏.‏

وكـان المنشـئ لبعضها الشيخ مصطفى الصاوي وغيره فأعجبهم إنشاء الشيخ مصطفى وأمروا بتغيير ما كان مـن إنشـاء غيـره‏.‏

وانخضع مراد بك في تلك الليلة للباشا جدًا وقبل أتكه وركبتيه ويقول له‏:‏ يا سلطانـم نحـن فـي عرضـك فـي تسكيـن هـذا الأمـر ودفعـه عنـا ونقوم بما علينا ونرتب الأمور وننظم الأحوال على القوانين القديمة‏.‏

فقال الباشا‏:‏ ومن يضمنكم ويتكفل بكم قال‏:‏ أنا الضامن لذلك ثم ضماني على المشايخ والاختيارية‏.‏

وفـي ليلـة الأحـد ثالـث عشرة وصلت الأخبار بوصول حسن باشا القبطان إلى ثغر الإسكندرية وكان وصوله يوم الخميس عاشره قبل العصر وصحبته عدة مراكب فـزاد الاضطـراب وكثـر اللغط‏.‏

فتمموا أمر العرضحالات وأرسلوها صحبة سلحـدار الباشـا والططـري وواحـد أغـا ودفعوا لكل فرد منهم ألف ريال وسافروا من يومهم‏.‏

وفيه وردت الأخبار بأن مشايخ عرب الهنادي والبحيرة ذهبوا إلى الإسكندرية وقابلوا أحمد باشا الجداوي فألبسهم خلعًا وأعطاهم دراهم وكذلك أهل دمنهور‏.‏

وفيه حضر صدقات من مولاي محمد صاحب المغرب ففرقـت علـى فقـراء الأزهـر وخدمـة الأضرحة والمشايخ المفتين والشيخ البكري والشيخ السادات والعمريين على يد الباشا بموجب وفي يوم الثلاثاء حضر مصطفى جربجي باش سراجين مراد بك سابقًا وسردر ثغر رشيد حـالًا وكـان السبـب في حضوره أنه حضرت إلى رشيد أحد القباطين وصحبته عدة وافرة من العسكر فطلع إلى بيت السردار المذكور وأعطاه مكاتبة من حسن باشا خطابًا للأمراء بمصر وأمره بالتوجه بها فحضر بتلك المكاتبة مضمونها التطمين ببعض ألفاظ‏.‏

وفيه اتفق رأي الأمراء على إرسال جماعة من العلماء والوجاقلية إلى حسن باشا فتعين لذلك الشيـخ أحمـد العروسـي والشيخ محمد الأمير والشيخ محمد الحريري ومن الواجقلية اسمعيل أفندي الخلوتـي وإبراهيـم أغـا الوردانـي وذهب صحبتهم أيضًا سليمان بك الشابوري وأرسلوا صحبتهم مائة فرد بن ومائة قنطار سكر وعشر بقج ثياب هندية وتفاصيل وعودًا وعنبرًا وغير ذلك فسافروا في يوم الجمعة ثامن عشر رمضان على أنهم يجتمعون به ويكلمونه ويسألونه عن مراده ومقصده ويذكرون له امتثالهم وطاعتهم وعدم مخالفتهم ورجوعهم عمـا سلـف مـن أفاعيلهـم ويذكرونه حال الرعية وما توجبه الفتن من الضرر والتلف‏.‏

وفـي يـوم السـب حضـر تفكجـي باشـا مـن طـرف حسن باشا وذهب إلى إبراهيم بك وأفطر معه وخلـع عليـه خلعـة سمور وأعطاه مكاتبات وكان صحبته محمد أفندي حافظ من طرف إبراهيم بـك أرسلـه الأمـراء قبـل بأيام عندما بلغهم خبر القادمين ليستوعب الأحوال ثم أن ذلك التفكجي جلـس مـع إبراهيـم بـك حصـة مـن الليـل وذهـب إلـى محلـه وحضـر علي أغا كتخدا الجاويشية فركب مع إبراهيم بك وطلعا إلى الباشا في سادس ساعة من الليل ثم نزلا وسافر التفكجي في صبحهـا وصحبتـه الحافـظ‏.‏

وكـان فيمـا جـاء بـه ذلك التفكجي طلب إبراهيم بك أمير الحاج فلم يرض بالذهاب وكان لا جين بك ومصطفى بك لما سافرا للمحافظة بعد التوبة بيومين فعلوا أفاعيلهم بالبلاد وطلبوا الكلف وحرقوا وردان فضجت أهالي البلاد وذهبوا إلى عرضي حسن باشا وشكوا ما نزل بهم فأخذ بخواطرهم وكتب لهم فرمانًا برفع الخراج عنهم سنتين وأرسل مع ذلك التفكجي العتاب واللوم في شأن ذلك‏.‏

وفـي تلـك الليلـة ذهـب سليـم أغـا إلـى ناحيـة بـاب الشعريـة وقبـض علـى الحافـظ اسحـق وأخذه على صـورة أربـاب الجرائم من أسافل الناس وذهب به إلى بولاق فلحقه مصطفى بك الإسكندراني ورده‏.‏

وفـي يـوم الاثنيـن وصلـت الأخبار بورود حسن باشا إلى ثغر رشيد يوم الأربعاء سادس عشرة وأنه كتب عدة فرمانات بالعربي وأرسلها إلى مشايخ البلاد وأكابر العربان والمقادم وحق طريق المعينيـن بالفرمانات ثلاثون نصفًا فضة لا غير وذلك من نوع الخداع والتحيل وجذب القلوب مثل قولهم أنهم يقرروا مال الفدان سبعة أنصاف ونصف نصف حتى كادت الناس تطير من الفرح وخصوصـًا الفلاحيـن لمـا سمعوا ذلك‏.‏

وأنه يرفع الظلم ويمشي على قانون دفتر السلطان سليمان وغير ذلك‏.‏

وكان الناس يجهلون أحكامهم فمالت جميـع القلـوب إليهـم وانحرفـت عـن الأمـراء المصريـة وتمنـوا سرعـة زوالهـم‏.‏

وصـورة ذلـك الفرمان وهو الذي أرسل إلى أولاد حبيب من جملة ما أرسل‏:‏ ‏"‏ صدر هذا الفرمان الشريف الواجب القبول والتشريف من ديوان حضرة الوزير المعظم والدستور المكرم عالي الهمم وناصر المظلوم على من ظلم مولانا العزيز غازي حسن باشـا ساري عسكر السفر البحري المنصور حالًا ودونانمة همايون أيدت سيادته السنية وزادت رتبتـه العليـة إلـى مشايـخ العـرب أولـاد حبيـب بناحيـة دجـوة وفقهـم الله تعالى نعرفكم أنه بلغ حضرة مولانا السلطان نصره الله ما هو واقع بالقطر المصري من الجور والظلم للفقراء وكافة الناس وأن سبـب هـذا خائنـون الديـن إبراهيم بك ومراد بك وأتباعهم فتعينا بخط شريف من حضرة مولانا السلطان أيده الله بعساكر منصورة بحرًا لدفع الظلم ولإيقاع الانتقام من المذكورين وتعين عليهم عساكـر منصـورة بـرًا بسـاري عسكر عليهم من حضرة مولانا السلطان نصره الله وقد وصلنا إلى ثغر إسكندرية ثم إلى رشيد في سادس عشر رمضان فحررنا لكم هذا الفرمان لتحضروا تقابلونا وترجعوا إلى أوطانكم مجبورين مسرورين إن شاء الله تعالى فحين وصوله إليكم تعملوا بـه وتعتمـدوه والحـذر ثـم الحذر المخالفة وقد عرفناكم ‏"‏‏.‏

ثم أن الأمراء زاد قلقهم واجتمعوا في ليلتهـا ببيـت إبراهيـم بك وعملوا بينهم مشورة في هذا الأمر الذي دهمهم وتحققوا اتساع الخرق والنيل آخذة في الزيادة فعند ذلك تجاهروا بالمخالفة وعزموا على المحاربة واتفق الرأي على تشهيـل تجريـدة وأميرهـا مـراد بـك فيذهبـون إلـى جهـة فـوة ويمنعون الطريق ويرسلون إلى حسن باشا مكاتبـات بتحريـر الحسـاب والقيـام بغلـاق المطلـوب ويرجـع مـن حيث أتى‏.‏

فإن امتثل وإلا حاربناه وهذا آخر الكلام‏.‏

ثم جمعوا المراكب وعبوا الذخيرة والبقسماط وذلك كله في يوم الثلاثاء والأربعاء ونقلوا عزالهم ومتاعهم من البيوت الكبار إلى أماكن لهم صغار جهة المشهد الحسيني والشنواني والأزهر وعطلوا القناديل والتعاليق المعدة لمهرجان رمضان وزاد الإرجاف وكثر اللغط ولاحت عليهم لوائح الخذلان ورخص أسعار الغلال بسبب بيعهم الغلال المخزونة عندهم‏.‏

وفـي يوم الخميس رابع عشرينه خرج مراد بك والأمراء المسافرون معه إلى ناحية بولاق وبرزوا خيامهم وعدوا في ليلتها إلى برانبابة ونصبوا وطاقهم هناك‏.‏

وتعين للسفر صحبة مراد بك مصطفـى بـك الداووديـة الـذي عـرف بالإسكندرانـي ومحمـد بـك الألفـي وحسين بك الشفت ويحيى بك وسليمان بك الأغا وعثمان بك الشرقاوي وعثمان بك الأشقر وركب إبراهيم بك بعد المغـرب وذهب إليهم وأخذ بخاطرهم ورجع فأقاموا في برانبابة يوم الجمعة حتى تكامل خروج العسكـر وأخـذ مـراد بـك مـا احتاجـه مـن ملائـل الحج جمالًا وبقسماطًا وغيره حتى الذي قبض من مـال الصـرة وأرسلـوا فـي ليلتهـا علـى أغـا كتخـدا الجاويشيـة وسليمـان أغـا الحنفي إلى الباشا وطلبوا منـه الدراهـم التـي كانـوا استخلصوهـا مـن مصطفى بك أمير الحاج وأودعوها عند الباشا فدفعها لهم بتمامها‏.‏

وفي يوم السب سادس عشرينه سافر مراد بك من برانبابة وأصحب ليكون سفيرًا بينه وبين قبطان باشا‏.‏

وفي ليلة الاثنين ثامن عشرينه سافر مصطفى بك الكبير أيضًا ولحق بمراد بك‏.‏

وفـي ليلـة الثلاثـاء حضـر المشايـخ ومـن معهم من ثغر رشيد فوصولا إلى بولاق بعد العشاء وباتوا هنـاك وذهبـوا إلـى بيوتهـم فـي الصبـاح‏.‏

فأخبـروا أنهـم اجتمعـوا علـى حسـن باشا ثلاث مرات الأولى للسلام فقابلهم بالإجلال والتعظيم وأمر لهم بمكان نزلوا فيه ورتب لهم ما يكفيهم من الطعام المهيـأ فـي الإفطـار والسحـور ودعاهـم فـي ثانـي يـوم وكلمهـم كلمات قليلة وقال له الشيخ العروسي‏:‏ يـا مولانـا رعيـة مصـر قـوم ضعـاف وبيـوت الأمـراء مختلطة ببيوت الناس‏.‏

فقال‏:‏ لا تخشوا من شيء فإن أول ما أوصاني مولانا السلطان أوصاني بالرعية وقال إن الرعية وداعة اللـه عنـدي وأنـا استودعتك ما أودعنيه الله تعالى‏.‏

فدعوا له بخير ثم قال‏:‏ كيف ترضون أن يملككم مملوكان كافران وترضونهم حكامًا عليكم يسومونكم العذاب والظلم لماذا لم تجتمعوا عليهم وتخرجوهم من بينكم‏.‏

فأجابه اسمعيل أفندي الخلوتي بقوله يا سلطانم هؤلاء عصبة شديدو البأس ويد واحـدة‏.‏

فغضـب مـن قولـه ونهره وقال‏:‏ تخوفني ببأسهم فاستدرك وقال‏:‏ إنما أعني بذلك أنفسنا لأنهـم بظلمهـم أضعفـوا النـاس‏.‏

ثم أمرهم بالانصراف‏.‏

واجتمعوا عليه مرة ثالثة بعد صلاة الجمعة فاستأذنوه في السفر ثم تركهم يومين وكتب لهم مكاتبات وسلمها ليد سليمان بك الشابوري وأمرهم بالانصراف فودعوه وساروا وأخفيت تلك المكاتبات‏.‏

وفي غاية رمضان أرسل الباشا عدة أوراق إلى أفراد المشايخ وذكر أنهـا وردت مـن صـدر الدولـة وأمـا العرضحالـات التـي أرسلوهـا صحبـة السلحـدار والططـري فإنهما لما وصلا إلا إسكندرية واطلع عليها حسن باشا حجزها ومنه المراسلة إلى اسلامبول وقال‏:‏ أنا دستور مكـرم والأمـر مفـوض إلـي فـي أمـر مصـر‏.‏

وسـأل السلحـدار عن الأوراق التي من صدر الدولة هل أرسلهـا الباشـا إلـى أربابهـا فأخبـره أنـه خـاف مـن أظارهـا فاشتد غضبه على الباشا وسبه بقوله‏:‏ خائن منافق‏.‏

فلما رجع السلحدار في تاريخه وأخبر الباشا فعند ذلك أرسلها كما تقدم‏.‏

وفي ثاني شوال أشيع مرد بك ملك مدينة فوة وهرب من بها من العسكر ووقع بينهم مقتلة عظيمة وأنه أخذ المراكب التي وجدها على ساحلها ثم ظهر عدم صحة ذلك‏.‏

وفي يوم السبت نزلت الكسوة من القلعة على العادة إلى المشهد الحسيني وركب إبراهيم بك الكبير وإبراهيـم بـك أميـر الحـاج إلـى قراميـدان ونـزل الباشـا كذلـك وأكـد علـى أميـر الحـاج فـي التشهيـل فاعتذر إليه بتعطيل الأسباب فوعده بالمساعدة‏.‏

وفي يوم الأحد أشاعوا إشاعة مثل الأولى مصطنعة وأظهروا البشر والسرور وركب إبراهيم بـك فـي ذلـك اليـوم وذهـب إلـى الشيـخ البكـري وعيـد عليـه ثـم إلـى الشيـخ العروسـي والشيـخ الدرديـر وصـار يحكـي لهـم‏.‏

وتصاغـر فـي نفسـه جـدًا وأوصاهـم علـى المحافظـة وكـف الرعيـة عـن أمر يحدثوه أو قومة أو حركة في مثل هذا الوقت فإنه كأنه يخاف ذلك جدًا وخصوصًا لمـا أشيـع أمـر الفرمانات التي أرسلها الباشا للمشايخ وتسامع بها الناس‏.‏

وفي وقت ركوب إبراهيم بك من بيت الشيخ البكري حصلت زعجة عظيمة ببركة الأزبكية وسببها أن مملوكًا أسود ضرب رجلًا من زراع المقاتي فجرحه فوقع الصياح من رفقائه واجتمع عليه خلق كثير من الأوباش وزاد الحال حتى امتلأت البركة من المخلوقات وكل منهم يسأل عن الخبـر من الآخر ويختلقون أنواعًا من الأكاذيب‏.‏

فلما رجع إبراهيم بك إلى داره أرسل من طرد الناس وفحصوا عن أصل القضية وفتشوا على الضارب فلم يجدوه فأخذوا المضروب فطيبوا خاطره وأعطوه دراهم‏.‏

وفيـه أرسـل مـراد بـك بطلـب ذخيـرة وبقسمـاط وركـب أيـوب بك الصغير وذهب إلى مصر العتيقة وعثمان بك الطنيرجي إلى بولاق ونزلوا جملة مدافع ومناه الغضبان وأبو مايلة وكان أيوب بك هذا متمرضًا مدة شهور ومنقطعًا في الحريم فغرق وشفي في ساعة واحدة‏.‏

وفي يوم الاثنين كان مولد السيد أحمد البدوي ببولاق وكراء مشايخ الأشاير المراكب ليسافروا فيها فأخذوها بأجمعها لأجل الذخيرة والمدافع ووسقوها وأرسلوا منها جملة‏.‏

وفي ليلة الثلاثاء حضرت مراكب من مراكب الغائبين وفيها مماليك ومجاريح وأجناد وأخبروا بكسـرة مـراد بـك ومـن معـه وأصبـح الخبـر شائعًا في المدينة وثبت ذلك ورجعت المراكب بما فيها وأخبـروا عمـا وقـع وهـو أنـه لمـا وصـل مـراد بـك إلى الرحمانية عدى سليمان بك الأغا وعثمان بك الشرقـاوي والألفـي إلـى البـر الشرقـي فحصل بينهم اختلاف وغضب بعضهم ورجع القهقرى فكان ذلـك أول الفشـل‏.‏

ثـم تقدمـوا إلـى محلة العلويين فأخلوا منها الأروام فدخلوا إليها وملكوها وأرسلوا إلـى مـراد بـك يطلبـون منـه الإمـداد فأمـر بعض الأمراء بالتعدين إليهم فامتنعوا وقالوا نحن لا نفارقك ونموت تحت أقدامك فحنق منهم وأرسل عوضهم جماعة من العرب ثم ركبوا وقصـدوا أن يتقدموا إلى فوة فوجدوا أمامهم طائفة من العسكر ناصبين متاريس فلم يمكنهم التقدم لوعر الطريق وضيق الجسر وكثرة القنى ومزارع الأرز فتراموا بالبنادق فرمح سليمان بك فعثر بقناة وسقـط فحصلـت فيهـم ضجـة وظنوهـا كسـرة فرجعـوا القهقـرى ودخـل الرعب في قلوبهم ورجعـت عليهـم العـرب ينهبونهـم‏.‏

فعـدوا إلى البر الآخر وكان مراد بك مستقرًا في مكان توصل إليه من طريق ضيقة لا تسع إلا الفارس بمفرده فأشاروا عليه بالانتقال من ذلك المكان وداخلهم الخوف وتخيلوا تخيلات‏.‏

وما زالوا في نقض وإبرام إلى الليل ثم أمر بالارتحال فحملوا حملاتهم ورجعوا القهقرى وما زالوا في سيرهم وأشيع فيهم الانهزام وتطايرت الأخبار بالكسرة وتيقن الناس أن هذا أمر إلهي ليس بفعل فاعل‏.‏

وفي ذلك اليوم حصلت كرشة من ناحية الصاغة وسببها عدب مملوك أراد الركوب على حمار بعض المكارية فازدحموا عليه الحمارة ورمحوا خلفه فصارت كرشة ورمحت الصغار فأغلقوا الدكاكين بالأشرفية والغورية والعقادين وغير ذلك ثم تبين أن لا شيء ففتح الناس الدكاكين‏.‏

وفي ذلك اليوم حضر أنا من المماليك مجاريح وزاد الأرجاف فنزل الباشا وقت الغروب إلى بـاب العـزب وأراد إبراهيـم بـك أن يملـك أبواب القلعة فلم يتمكن من ذلك‏.‏

وأرسل الباشا فطلب القاضـي والمشايـخ فطلـع البعـض وتأخـر البعـض إلـى الصباح وباب السيد البكري عند الباشا بباب العزب وكان له بها مندوحة ذكرها بعد ذلك الباشا لحسن باشا وشكره عليها وأحبه وذهب للسلام عليه عند قدومه دون غيره من بقية المشايخ فلما أصبح نهار الأربعاء طلعوا بأجمعهم وكذلك جماعة الوجاقلية ونصب الباشا البيرق على باب العـزب ونـزل جاويـش مستحفظـان وجاويش العزب وأمامهم القابجية والمناداة على الألضاشات وغيرهم وكل من كـان طائعـًا للـه وللسلطان يأتي تحت البيرق فطلع عليه جميع الألضاشات والتجار وأهل خان الخليلي وعامة الناس وظهرت الناس المخفيون والمستضعفون والذين أنحلهم الدهر والذي لم يجد ثيـاب زيـه استعـار ثيابًا وسلاحًا حتى امتلأت الرميلة وقراميدان من الخلائق وأرسل محمد باشا يستحث حسن باشا في سرعة القدوم ويخبره بما حصل وكان قصد حسن باشا التأخر حتى يسافر الحاج وتأتي العساكر البرية فاقتضى الحال ولزم الأمر في عدم التأخر‏.‏

وأما إبراهيم بك فإنه اشتغل في نقل عزاله ومتاعه بطول الليل في بيوته الصغار فلم يترك إلا فرش مجلسه الذي هو جالـس فيـه ثـم إنـه جلـس ساعـة وركـب إلـى قصـر العينـي وجلـس به‏.‏

وأما إبراهيم بك أمير الحج فإنع طلع إلى باب العزب وطلب الأمان فأرسل له الباشا فرمانًا بالأمان وأذن له في الدخول وكذلك حضر أيوب بك الكبير وأيوب بك الصغير وكتخدا الجاويشية وسليمان بك الشابوري وعبد الرحمن بك عثمان وأحمد جاويش المجنون ومحمد كتخدا أزنور ومحمد كتخدا أباظة وجماعة كثيرة من الغز والأجناد وكذلك رضوان بك بلفيا فكان كل من حضر لطلب الأمان فـإن كـان مـن الأمـراء الكبـار فإنـه يقـف عنـد البـاب ويطرقه ويطلب الأمان ويستمر واقفًا حتى يأتيه فرمان الأمان ويؤذن له في الدخول من غير سلاح وإن كان من الأصاغر فإنه يستمر بالرميلة أو قراميدان أو يجلس على المساطب‏.‏

فلما تكامل حضور الجميع أبرز الباشا خطًا شريفًا وقرأه عليهم وفيه المأمورات المتقدم ذكرها وطلب إبراهيم بك ومراد بك فقط وتأمين كل من يطلب الأمان‏.‏

واستمـر أمير الحج على منصبه ثم إنه خلع على حسن كاشف تابع حسن بك قصبة رضوان وقلده أغاة مستحفظان وخلع على محمد كتخدا أزثـور وقلـده الزعامـة وقلـد محمـد كتخـدا أباظة أمين احتساب ونزلوا إلى المدينة ونادوا بالأمان والبيع والشراء وكذلك نزل الأمراء إلى دورهـم مـا عـدا إبراهيم بك أمير الحاج فإن الباشا عوقه عنده ذلك اليوم‏.‏

وكذلك أذنوا للناس بالتوجه إلى أماكنهم بشرط الاستعداد والإجابة وقت الطلب ولم يتأخـر إلا المحافظـون علـى الأبـواب‏.‏

وأمـا مـراد بـك فإنـه حضـر إلـى برانبابة واستمر هناك ذلك اليوم ثم ذهب في الليل إلى جزيرة الذهب وركب إبراهيم بك ليلًا وذهب إلى الآثار‏.‏

وفي عصر ذلك اليوم نزل الآغا ونبه على الناس بالطلوع إلى الأبواب‏.‏

وفيـه حضـر سليمـان بك الأغا وطلب الأمان فأعطوه فرمان الأمان وذهب إلى بيته وأصبح يوم الخميس فنزلت القابجية ونبهت على الناس بالطلوع فطلعوا واجتمعت الخلائق زيادة على اليوم

وفـي ذلك اليوم قبل العصر ركب عثمان خزاندار مراد بك سابقًا وذهب إلى سيده وكان من جملة من أخذ فرمانًا بالأمان فلما نزل إلى داره أخذ ما يحتاجه وذهب فلما بلغ الباشا هروبه اغتـاظ مـن فعلـه‏.‏

ثـم إن الباشـا تخيـل مـن إبراهيـم بك أمير الحاج فأمره بالنزول إلى بيته فنزل إلى جامع السلطان حسن وجلس به فأرسل له الباشا بالذهاب إلى منزله فذهب‏.‏

وفـي صبـح ثانـي يـوم ركـب سليمـان بـك وأيـوب بـك الكبير والصغير وخرجوا إلى مضرب النشاب وركـب إبراهيـم بـك أميـر الحـاج وذهـب إلـى بولـاق وأحـب أن يأخذ الجمال من المناخ فمنعه عسكر المغاربة ثم ذهب عند رفقائه بمضرب النشاب فلما بلغ الباشا ذلك أرسل لهم فرمانًا بالعودة فطردوا الرسول ومزقوا الفرمان وأقاموا بالمصاطب حتى اجتمعت عليهم طوائفهم وركبوا لحقوا بإخوانهـم فلما حصل ذلك اضطربت البلد وتوهموا صعودهم على الجبل بالمدافع ويضربوا على القلعة وغير ذلك من التوهمات وركب قائد أغا بعد صلاة الجمعة وعلي أغا خازندار مراد بك سابقًا وصحبتهم جملة من المماليك والعسكر وهم بالطرابيش وبيدهـم مكاحـل البنـدق والقرابينـات وفتائلهـا موقـودة فوصلـوا إلـى الرميلة فضربوا عليهم مدفعين فرجعوا إلى ناحية الصليبة ونزلـوا إلـى بـاب زويلـة ومـروا علـى الغوريـة والأشرفية وبين القصرين وطلعوا من باب انصر وأمامهم المناداة أمان واطمئنان حكم ما رسم إبراهيم بك ومراد بك وحكم الباشا بطال فلما سمع النـاس ذلـك ورأوه علـى تلـك الصـورة انزعجـوا وأغلقوا الدكاكين المفتوحة وهاجت النفوس وحاصوا حيصة عظيمة وكثر فيـه اللغـط‏.‏

ولمـا بلـغ الباشـا هـروب المذكوريـن حصـن القلعـة والمحمودية والسلطان حسن وأرسل الأغا فنادى على الألضاشات بالطلوع إلى القلعة‏.‏

وفي تلك الليلة ضرب المنسر كفـر الطماعيـن ونهبـوا منـه عـدة أماكـن وقتـل بينهـم أشخـاص وانقطعت الطرق حتى إلى بولاق ومصر القديمة وصارت التعرية من عند رصيف الخشاب‏.‏وفي

يـوم السـبت ركـب إبراهيـم بـك وحسيـن بـك وأتـوا إلـى المناخ

أيضًا وأرادوا أخذ الجمال فمنعهم المغاربة وقيل أخذوا منهم جملة وعربدوا في ذلك اليوم عربدة عظيمة من كل ناحية وأرسل الباشـا قبـل المغرب فطلب تجار المغاربة فاجتمعوا وطلعوا بعد العشاء وباتوا بالسبيل الذي في رأي الرميلة وشدد الباشا في اجتماع الألضاشات ومن ينتسب للوجاقات فقيل له أن منهم من لا يملك قوت يومه وسبب تفرقهم الجوع وعدم النفقة فطلب أغات مستحفظان وأعطاه أربعة آلاف ريال لينفقها فيهم‏.‏

وفيـه عدى مراد بك من جزيرة الذهب إلى الآثار وكان إبراهيم بك ركب إلى حلوان وضربها وأحرقها بسبب أن أهل حلوان نهبوا مركبًا من مراكبه ولما عدى مراد بك إلى البر الشرقي أرسـل إلـى إبراهيـم بـك فحضـر إليـه واصطلـح معـه لـأن إبراهيـم بـك كـان مغتاظـًا منه بسبب سفرته وكسرته فـإن ذلـك كـان علـى غيـر مـراد إبراهيـم بـك وكـان قصـده أنهـم يستمـرون مجتمعيـن ومنضمين وإذا وصل القبطان أخلوا من وجهه إن لم يقدروا على دفعه أو مصالحته وتركوا له البلد ومصيره الرجوع إلى بلاده فيعودون بعد ذلك بأي طريق كان‏.‏

وكان ذلك هو الرأي فلم يمتثل مراد بك وأخذ في أسباب الخروج والمحاربة ولم يحصل من ذلك الأضياع المال والفشل والانهزام الذي لا حقيقة له وكان الكائن‏.‏

ولما اصطلحا تفرقت طوائفهما يعبثون فـي الجهـات ويخطفون ما يجدونه في طريقهم من جمال السقائين وحمير الفلاحين وبعضهم جلس في مرمى النشـاب وبعضهـم جهة بولاق ونهبوا نحو عشرين مركبًا كانت راسية عند الشيخ عثمان وأخذوا ما كان فيها من الغلال والسمن والأغنام والتمر والعسل والزيت‏.‏

وفـي يـوم الأحـد حادي عشرة زاد تنطيطهم وهجومهم على البلد من كل ناحية ويدخلون أحزابًا ومتفرقيـن ودخل قائد أغا وأتى إلى بيته الذي كان سكن فيه وسكنه بعده حسن أغا المتولي وهو بيت قصبة رضوان فوجد باباه مغلوقًا فأراد كسره بالبلط فأعياه وخاف مـن طـارق فذهب إلى باب آخر من ناحية القريبة فضرب عليه الحراس بنادق فرجع بقهره يخطف كل ما صادفه ولم يزالوا على هذه الفعال إلى بعد الظهر من ذلك اليوم‏.‏

واشتد الكرب وضاق خناق الناس وتعطلت أسبابهم ووقع الصياح في أطراف الحارات من الحراميـة والسـراق والمناسر نهارًا والأغا والوألي والمحتسب مقيمون بالقلعة لا يجسرون على النزول منها إلى المدينة وتوقع كل الناس نهب البلد من أوباشها‏.‏

وكل ذلك والمآكل موجودة والغلال معرمة كثيرة بالرقع ورخصت أسعارها والأخباز كثيرة وكذلك أنواع الكعك والفطير وأشيـع وصول مراكب القبطان إلى شلقان ففرح الناس وطلعوا المنارات والأسطحة العالية ينظرون إلى البحـر فلـم يـروا شيئـًا‏.‏

فاشتـد الانتظـار وزاغـت الأبصـار فلمـا كـان بعد العصر سمع صوت مدافع علـى بعـد ومدافـع ضربـت من القلعة ففرحوا واستبشروا وحصل بعض الاطمئنان وصعدوا أيضًا علـى المنـارات فـرأوا عـدة مراكـب ونقايـر وصلـت إلى قرب ساحل بولاق ففرح الناس وحصل فيهم ضجيج وكان مراد بك وجماعة من صناجقه وأمرائه قد ذهبوا إلى بولاق وشرعوا في عمل متاريس جهة السبتية وأحضروا جملة مدافع علـى عجـل وجمعـوا الأخشـاب وحطـب الـذرة وأفرادا وغيرهـا فـوردت مراكـب الـأروام قبـل إتمامهـم ذلـك فتركـوا العمـل وركبـوا فـي الوقـت ورجعوا‏.‏

وضجت الناس وصرخت الصبيان وزغرتت النساء وكسروا عجل المدافع‏.‏

وفـي هـذا اليـوم أرسـل الأمـراء مكاتبـة إلـى المشايـخ والوجاقـات يتوسلـون بهـم فـي الصلـح وأنهم يتوبون ويعودون إلى الطاعة فقرئت تلك المكاتبات بحضرة الباشا فقال الباشا‏:‏ يا سبحـان اللـه كـم يتوبون ويعودون ولكن اكتبوا لهم جوابًا معلقًا على حضور قبطان باشا‏.‏

فكتبوه وأرسلوه‏.‏

وفي وقت العشاء من ليلة الاثنين وصل حسن باشا القبطان إلى ساحل بولاق وضربوا مدافع لقدومـه واستبشـر النـاس وفرحـوا وظنـوا أنـه مهـدي الزمان فبات في مراكبه إلى الصباح يوم الاثنين ثانـي عشـر شـوال وطلـع بعـض أتباعـه إلـى القلعة وقابلوا الباشا ثم أن حسن باشا ركب من بولاق وحضـر إلـى مصـر مـن ناحيـة بـاب الخـرق ودخـل إلـى بيـت إبراهيـم بـك وجلـس فيه وصحبته أتباعه وعسكـره وخلفـه الشيخ الأترم المغربي ومعه طائفة من المغاربة فدخل بهم إلى بيت يحيى بك‏.‏

وراق الحـال وفتحـت أبـواب القلعـة واطمـأن النـاس ونـزل مـن بالقلعـة إلـى دورهم وشاع الخبر بذهاب الأمراء المصرية إلى جهة قبلي من خلف الجبل فسافر خلفهم عدة مراكب وفيها طائفة من العسكـر واستولـوا علـى مراكـب مـن مراكبهـم وأرسلوهـا إلـى ساحل بولاق وأنقذ حسن باشا رسلًا إلى اسمعيل بك وحسن بك الجداوي يطلبهما للحضور إلى مصر‏.‏

وفيـه خرجـت جماعة من العسكر ففتحوا عدة بيوت من بيوت الأمراء ونهبوها وتبعهم في ذلك الجعيديـة وغيرهـم فلمـا بلـغ القبطـان ذلـك أرسـل إلـى الوالـي والآغـا وأمرهم بمنع ذلك وقتل من يفعله ولو من أتباعه‏.‏

ثم ركب بنفسه وطاف البلد وقتل نحو ستة أشخاص من العسكر وغيرهم وجد معهم منهوبات فانكفوا عن النهب‏.‏

ثم نزل على بابا زويلة وشق من الغورية ودخل من عطفـة الخراطيـن علـى بـاب الأزهـر وذهـب إلـى المشهـد الحسينـي فـزاره ونظـر إلى الكسوة ثم ركب وذهـب إلى بيت الشيخ البكري بالأزبكية فجلس عنده ساعة وأمر بتسمير بيت إبراهيم بك الـذي بالأزبكيـة وبيـت مـراد بـك‏.‏

ثـم ذهـب إلـى بولـاق ورجـع بعـد الغـروب إلـى المنـزل وحضـر عنده محمد باشا مخفيًا واختلى معه ساعة‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ذهب إليه مشايخ الأزهر وسلموا عليه وكذلك التجار وشكـوا إليـه ظلـم الأمراء فوعدهم بخير واعتذر إليهم باشتغاله بمهمات الحج وضيق الوقت وتعطل أسبابه‏.‏

وفيه عمل الباشا الديوان وقلد حسن أغا مستحفظان صنجقية وخلع على علي بك جركس الاسمعيلـي صنجقيـة كمـا كـان فـي أيـام سيـده اسمعيل بك وخلع على غيطاس كاشف تابع صالح بك صنجقية وخلع على قاسم كاشف تابع أبي صنجقية أيضًا وخلع على مراد كاشف تابع حسن بك الأزبكاوي صنجقية وخلع على محمد كاشف تابع حسين بك كشكش صنجقية وقلـد محمـد أغـا أونـؤد الوالـي أغـات الجمليـان وقلـد موسـى أغا الوالي تابع علي بك أغات تفكجية وخلع على باكير أغا تابع محمود بك وجعله أغات مستحفظان وخلع على عثمان أغا الجلفي وقلده الزعامة عوضًا عن محمد أغا ولما تكامل لبسهم التفت إليهم الباشا ونصحهم وحذرهم وقـال للوجاقليـة‏:‏ الزموا طرائقكم وقوانينكم القديمة ولا تدخلوا بيوت الأمراء الصناجق إلا لمقتضى واكتبوا قوائمكم بتعلقاتكم وعوائدكم أمضيها لكم‏.‏

ثم قاموا وانصرفوا إلى بيوتهم ونزل الأغا وأمامه المناداة بالتركي والعربي بالأمان على أتباع الأمراء المتوارين والمخفيين وكل ذلك تدبير وترتيب الاختيارية وقلدوا من كل بيت أميرًا لئلًا يتعصبوا لأنفسهم ولا تتحد أغراضهم‏.‏

وفيه أرسل حسن باشا إلى نواب القضاء وأمرهم أن يذهبوا إلى بيوت الأمراء ويكتبوا مـا يجدونه من متروكاتهم ويودعوه في مكان من البيت ويختمون عليه ففعلوا ذلك‏.‏

وفي تلك الليلة وردت خمس مراكب رومية وضربوا مدافع وأجيبوا بمثلها من القلعة‏.‏

وفـي يـوم الأربعـاء ركـب حسن باشا وذهب إلى بولاق وهو بزي الدلاة وعلى رأسه هيئة قلبق من جلد السمور ولابس عباءة بطراز ذهب وكان قبل ذلك يركب بيهئته المعتادة وهي هيئة القباطيـن وهـي فوقانيـة جـوخ صايـة بدلايـة حريـر علـى صـدره وعلـى رأسـه طربـوش كبيـر يعمـم بشال أحمـر وفـي وسطـه سكينـة كبيـرة وبيـده مخصـرة لطيفـة هيئـة حربـة بطرفهـا مشعـب حديـد علـى رسـم الجلالة‏.‏

وفيه نادى الأغا على كل من كان سراجًا بطالًا أو فلاحًا أو قواسًا بطالًا يسافر إلى بلده ومن وجد بعد ثلاثة أيام يستحق العقوبة‏.‏

وفيه أيضًا نودي على طائفة النصارى بأن لا يركبوا الدواب ولا يستخدموا المسلمين ولا يشتروا الجـواري والعبيـد ومـن كـان عنده شيء من ذلك باعه أو أعتقه وأن يلزموا زيهم الأصلي من شد وفيـه أرسـل حسـن باشـا إلـى القاضـي وأمره بالكشف عن جميع ما أوقفه المعلم إبراهيم الجوهري على الديور والكنائس من أطيان ورزق وأملاك والمقصـود مـن ذلـك كلـه استجلـاب الدراهـم والمصالح‏.‏

وفـي يوم الخميس نودي على طائفة النصارى بالأمان وعدم التعرض لهم بالإيذاء وسببه تسلط العامة والصغار عليهم‏.‏

وفيه كثر تعدي العساكر على أهل الحرف كالقهوجية والحمامية والمزينين والخياطين وغيرهم فيأتـي أحدهـم إلـى الحمامـي أو القهوجـي أو الخيـاط ويقلـع سلاحـه ويعلقـه ويرسم ركنه في ورقة أو على بابا دكان وكأنه صير شريكه وفي حمايته ويذهب حيث شاء أو يجلس متى شاء ثم يحاسبـه ويقاسمـه فـي المكسـب وهـذه عادتهـم إذا ملكوا بلدة ذهب كل ذي حرفة إلى حرفته التي كان يحترفها في بلده ويشارك البلدي فيها فثقل على أهل البلدة هذه الفعلة لتكلفهم مالًا ألفوه ولا عرفوه‏.‏

وفيه أجلسوا على أبواب المدينة رجلًا أوده باشا ومعـه طائفـة مـن العسكـر نحـو الثلاثيـن أو العشرين‏.‏

وفيـه أعنـي يـوم الخميـس الموافـق لسـادس مسـرى القبطـي نـودي بوفاء النيل فأرسل حسن باشا في صبـح يـوم الجمعـة كتخـداه والوالـي فكسـر السـد علـى حيـن غفلـة وجـرى المـاء فـي الخليـج ولـم يعمـل له موسم ولا مهرجان مثل العادة بسبب القلقة وعدم انتظام الأحوال والخوف من هجوم الأمراء المصرية فإنهم لم يزالوا مقيمين جهة حلوان‏.‏

وفيـه نـودي بتوقيـر الأشـراف واحترامهـم ورفـع شكواهـم إلـى نقيـب الأشراف وكذلك المنسوبون إلى الأبواب ترفع إلى وجاقه وإن كان من أولاد البلد فإلى الشرع الشريف‏.‏

وفيه مرت جماعة من العسكر على سوق الورية فخطفوا من الدكاكين أمتعة وأقمشة فهاجت أهل الدكاكين والناس المارون وأغلقوا الحوانيت وثارت كرشة إلى بابا زويلة وصادف مرور الوالـي فقبـض علـى ثلاثـة أنفـار منهم واستخلص ما بأيديهم وهرب الباقون وكان الوالي والأغا كل منهما صحبته ضابطان من جنس العسكر‏.‏

وفيه نودي بمنع القواسة وأسافل الناس من لبس الشيلان الكشميري والتختم أيضًا‏.‏

وفيـه وصلـت مراكـب القباطين الواردين من جهة دمياط إلى ساحل بولاق وفيهم اسمعيل كتخدا حسن باشا فضربت لهم مدافع من القلعة‏.‏

وفيـه قبضـوا علـى ثلاثـة مـن العسكـر أفسدوا بالنساء بناحية الرميلة فرفعوا أمرهم وأمر الخطافين إلى القبطان فأمر يقتلهم فضربوا أعناق ثلاثة منهم بالرميلة وثلاثة في جهات متفرقة‏.‏

وفيه نودي بأبطال العسكر لأهل الحرف ومن أتاه عسكري يشاركه أو أخذ شيئًا بغير حق فليمسـك ويضـرب وتوثـق أكتافـه ويؤتـى بـه إلـى الحاكـم وحضـر الوالـي وصحبتـه الجاويـش وقبـض على مـن وجده منهم بالحمامات والقهاوي وطردهم وزجرهم وذلك بسبب تشكي الناس فلما حصل ذلك اطمأنوا وارتاحوا منهم‏.‏

وفيه عدى الأمراء إلى البر الغربي‏.‏

وفي يوم السبت خلعوا على محمد بك تابع الجرف وجعلوه كاشفًا على البحيرة‏.‏

وفيه جاء الخبر عن الأمراء أن جماعة من العرب نحو الألف اتفقوا أنهم يكبسون عليهم ليلًا ويقتلونهم وينهبونهم فذهب رجل من العرب وأخبرهم بذلك الاتفاق فأخلوا من خيامهم وركبوا خيولهم وكمنوا بمرأى من وطاقهم فلما جاءت العربان وجدوا الخيام خالية فاشتغلوا بالنهب فكبس عليهم الأمراء من كمينهم فلم ينج من العرب إلا من طال عمره‏.‏

وفيه نودي على طائفة النساء أن لا يجلسن على حوانيت الصياغ ولا في الأسـواق إلا بقـدر الحاجة‏.‏

وفـي يـوم الأحد عملوا الديوان وقلدوا مراد بك أمير الحاج وسماه حسن باشا محمدًا كراهة في اسـم مراد بك فصار يكتب في الإمضاء محمد بك حسن وكان هذا اليوم هو ثاني يوم ميعاد وفـي يـوم الثلاثـاء كتبـت فرمانـات لشيـخ العرب أحمد بن حبيب بخفر البرين والموارد من بولاق إلى حد دمياط ورشيد على عادة أسلافه وكل ذلك مرفوعًا عنهم من أيام علي بك ونودي له بذلك على ساحل بولاق‏.‏

وفيه أخرجت خبايا وودائع للأمراء من بيوتهم الصغار لهم ولأتباعهم وختم أيضًا على أماكن وتركـت على ما فيها ووقع التفتيش والفحص على غيرها وطلبوا الخفراء فجمعوهم وحبسوهم ليدلوا على الأماكن التي في العطف والحارات وطلبت زوجة إبراهيم بك وحبست في بيت كتخدا الجاويشية هي وضرتها أم مرزق بك حتى صالحا بجملة من المال والمصاغ خلاف ما أخذ من المستودعات عند الناس وطولبت زليخا زوجة إبراهيم بك بالتـاج الجوهـر وغيـره وطلبت زوجة مراد بك فاختفت وطلب من السيد البكري ودائع مراد بك فسلمها‏.‏

وفي يوم الخميس عمل الباشا ديوانًا وخلع على علي أغا كتخدا الجاويشية وقلده صنجقيًا ودفتـردار وشيخ البلد ومشير الدولة فصار صاحب الحل والعقد وإليه المرجع في جميع الأمور الكلية والجزئية وقلد محمد أغا الترجمان وجعله كتخدا الجاويشية عوضًا عن المذكور وخلع علـى سليمـان بـك الشابوري وقلده صنجقًا كما كان أيضًا في الدهور السالفة وخلع على محمد كتخدا بن أباظة المحتسب وجعله ترجمانا عوضًا عن محمد أغا الترجمان وخلع على أحمد أغا وفي يوم الجمعة ركب المشايخ إلى حسن باشا وتشفعوا عنده في زوجة إبراهيم بك وذلك بإشارة علي بك الدفتردار فأجابهم بقوله تدفع ما على زوجها للسلطان وتخلص أزواجهن لهم مدة سنين ينهبون البلاد ويأكلون أموال السلطان والرعية وقد خرجوا من مصر على خيولهم وتركوا الأموال عند النساء فإن دفعن ما على أزواجهن تركت سبيلهن إلا أذقناهن العذاب‏.‏

وانفض المجلس وأقاموا وذهبوا‏.‏

وفيه ورد الخبر عن الأمراء أنهم ذهبوا إلى أسيوط وأقاموا بها‏.‏

وفـي يـوم السبـت حصـل التشديـد والتفتيـش والفحـص عـن الودائـع‏.‏

ونودي في الأسواق بأن كل من كـان عنـده وديعـة أو شـيء مـن متـاع الأمـراء الخارجيـن ولا يظهـره ولا يقـر عليـه فـي مـدة ثلاثـة أيام قتل من غير معاودة إن ظهر بعد ذلك‏.‏

وفيـه طلـب حسـن باشـا من التجار المسلمين والإفرنج والأقباط دراهم سلفة لتشهيل لوازم الحج وكتب لهم وثائق وأجلهم ثلاثين يومًا ففردوها على أفرادهم بحسب حال كل تاجر وجمعوها‏.‏

وفيه حصلت كائنة على بن عياد المغربي ببولاق وقتله اسمعيل كتخدا حسن باشا‏.‏

وفيه نادوا على النساء بالمنع من النزول في مراكب الخليج والأزبكية وبركة الرطلي‏.‏

وفيه كتبوا مكاتبات من حسن باشا ومحمد باشا الوالي والمشايخ والوجاقات خطابًا لاسمعيل وفـي يـوم الأحـد خامـس عشرينه نودي على النساء أن لا يخرجن إلى الأسواق ومن خرجت بعد اليوم شنقت فلم ينتهين‏.‏

وفيه حضر حسن باشا المطربازية واليسرجية وأخرج جواري إبراهيم بك وباقي الأمراء بيضًا وسـودًا وحبوشـًا ونـودي عليهـن بالبيـع والمـزاد فـي حـوش البيت فبيعوا بأبخس الأثمان على العثمانية وعسكرهم وفي ذلك عبرة لمن يعتبر‏.‏

وفي يوم الاثنين أحضروا أيضًا عدة جوار من بيوت الأمراء ومن مستودعات كن مودعات فيها وأخـذوا جـواري عثمـان بـك الشرقـاوي مـن بيتـه ومحظيتـه التـي فـي بيتـه الـذي عنـد حيضان المصلى فأخرجوهـا بيـد القليونجيـة وكذلـك جـواري أيـوب بـك الصغـر ومـا فـي بيوت سليمان أغا الحنفي من جـوار وأمتعـة وكذلـك بيـوت غيـره مـن الأمـراء وأحاطـوا بعـدة بيـوت بدرب الميضأة بالصليبة وطليون ودرب الحمام وحارا المغاربة وغيرهم في عدة أخطاط فيهـا ودائـع وأغلـال فاخـذوا بعضهـا وختمـوا علـى باقيهـا وأحضـروا الجواري بين يدي حسن باشا فأمر ببيعهن وكذلك أمر ببيع أولاد إبراهيم بك مرزوق وعديله والتشديد على زوجاته ثم إن شيخ السادات ركب إلى الشيخ أحمـد الدرديـر وأرسلـوا إلـى الشيـخ أحمـد العروسـي والشيـخ محمـد الحريري فحضروا وتشاوروا في هـذا الأمـر ثـم ركبوا وطلعوا إلى القلعة وكلموا محمد باشا وطلبوا منه أن يتكلم مع قبطان باشا فقـال لهم‏:‏ ليس لي قدرة على منعه ولكن اذهبوا إليه واشفعوا عنده‏.‏

فالتمسوا منه المساعدة فأجابهـم واقـل‏:‏ اسبقونـي وأنا أكون في أثركم فلما دخلوا على القبطان وحضر أيضًا محمد باشا وخاطبـوه فـي شـأن ذلـك وكـان المخاطـب لـه شيـخ السـادات فقـال لـه‏:‏ إنا سررنا بقدومك إلى مصر لما ظنناه فيك من الإنصاف والعدل وأن مولانا السلطان أرسلك إلى مصر لإقامة الشريعة ومنع الظلم وهذا الفعل لا يجوز ولا يحل بيع الأحرار وأمهات الأولاد ونحو ذلك من الكلام فاغتاظ وأحضر أفندي ديوانه وقال اكتب أسماء هؤلاء لأرسل إلى السلطان وأخبره بمعارضتهم لأوامره ثـم التفـت إليهـم وقـال‏:‏ أنـا أسافـر مـن عندكـم والسلطـان يرسـل لكـم خلافي فتنظروا فعله أما كفاكم أنـي فـي كـل يـوم أقتـل مـن عساكري طائفة على أيسر شيء مراعاة وشفقة ولو كان غيري لنظرتم فعـل العسكـر فـي البيـوت والأسـواق والنـاس‏.‏

فاقلـوا لـه إنمـا نحـن شافعـون والواجـب علينـا قـول الحـق‏.‏

وقاموا من عنده وخرجوا وتغير خاطره من ذلك الوقت على شيخ السادات‏.‏

وفيه قبض اسمعيل كتخدا حسن باشا على الحاج سليمان بن ساسي التاجر وجماعة منن طليون وألزمه بخمسمائة كيس فولول واعتذر بعجزه عن ذلك فلم يقبـل ولطمـه علـى وجهـه وشدد عليه فراجعوه وتشفعوا فيه إلى أن قررها مائة كيس فحلف أنه لا يملك إلا ثلثمائة فرق بـن وليـس لـه غيرهـا فأرسـل وختـم عليهـا فـي حواصلهـا واستمـر فـي الاعتقـال حتـى غلـق المائـة كيس وفـي يـوم الثلاثاء سابع عشرينه كان خروج المحمل صحبة أمير الحاج محمد بك المبدول بالموكب على العادة ما عدا طائفة الينكرجية والعزب خوفًا من اختلاط العثمانية بهم وحضر حسن باشا القبطان إلى مدرسة الغورية لأجل الفرجة والمشاهدة ولم يزل جالسًا حتى مر الموكب والمحمـل‏.‏

ولمـا مـرت عليه طوائف الأشاير فكانت تقف الطائفة منهم تحت الشباك ويقرأون الفاتحة فيرسل لهم ألف نصف فضة في قرطاس ولما انقضى أمر ذلك ركب بجماعة قليلة وازدحمت النـاس للفرجـة عليـه وكـان لابسـًا علـى هيئـة ملـوك العجـم وعلى رأسه تاج من ذهب مزرد مخروط الشكل وعليه عصابة لطيفة من حرير مرصعة بالجوهر ولها ذوائب على آذانه وحواجبه وعليه عباءة لطخ قصب أصفر‏.‏

وفي يوم الأربعاء نودي على النصارى واليهود بأن يغيروا أسماءهم التي على أسماء الأنبياء كإبراهيـم وموسـى وعيسـى ويوسـف واسحـق وأن يحضـروا جميـع مـا عندهم من الجواري والعبيد وإن لم يفعلوا وقع التفتيش على ذلك في دورهم وأماكنهم فصالحوا على ذلك بمال فحصـل العفـو وأذنـوا لهـم فـي أن يبيعـوا مـا عندهـم مـن الجـواري والعبيد ويقبضوا أثمانهم لأنفسهم ولا يستخدموا المسلمين فأخرجوا ما عندهم وباعوا بعضه وأودعوه عند معارفهم من المسلمين‏.‏

وفيه حضر مبشر بتقرير الباشا على السنة الجديدة‏.‏

وفي يوم الخميس أرسل حسن باشا القبطان جملة من العسكر البحرية وصحبتهـم اسمعيـل كتخـدا إلـى عـرب البحيـرة لكونهـم خامـروا مـع المصرليـة ووقـع الخلـف بينهـم وبين قبليتهم ثم حضروا مع أخصامهم بين يدي القبطان واصطلحوا ثم نكثوا وتحاربوا مع بعضهم فحضر الفرقة الأولى واستنجدوا بحسن باشا فأرسل لهم اسمعيل كتخدا بطائفة من العسكر في المراكب فهربوا ورجع اسمعيل كتخدا ومن معه على الفور‏.‏

وفـي يـوم الجمعـة غايـة شـوال وصلـت العساكـر البرية صحبة عابدي باشا ودرويش باشا إلى بركة الحج وكان أمير الحاج مقيمًا بالحجاج بالعادلية ولم يذهبوا إلى البركة على العادة بسبب قدوم هؤلاء‏.‏

وفـي يـوم السب غرة القعدة ارتحل الحجاج من العادلية وحضر عابدي باشا ودرويش باشا إلى العادلية وخرج حسن باشا إلى ملاقاتهم ودخلت طوائف عساكرهما إلى المدينة وهم بهيئات مختلفة وأشكال منكرة وراكبون خيولًا وأكاديش كأمثال دواب الطواحين وعلى ظهورها لبابيد شبه البراذع متصلة بكفل الاكديش وبعضهم بطراطير سود طوال شبه الدلاة والبعض معمم ببوشيـة ملونـة مفشولـة علـى طربـوش واسـع كبيـر مخيط عليه قطعة قماش لابسها دماغه والطربوش مقلوب على قفاء مثل حزمة البراطيش وهم لابسون زنوط وبشوت محزمين عليها وصورهم بشعـة وعقائدهـم مختلفـة وأشكالهـم شتـى وأجناسهـم متفرقـة ما بين أكراد ولاوند ودروز وشوام‏.‏

ولكن لم يحصل منهم إيذاء لأحد وإذا اشتروا شيئًا أخذوه بالمصلحة فباتوا بالخيام عند سبيل قيماز تلك الليلة‏.‏

وفـي يـوم الأحـد ركب عابدي باشا ودرويش باشا وذهبوا إلى البساتين من خارج البلد فمروا بالصحراء وباب الوزير وأجروا عليهم الرواتب من الخبز واللحم والأرز والسمن وغيره‏.‏

وفيه نودي على النصارى بإحضار ما عندهم من الجواري والعبيد ساعة تاريخه ثم نزلت العساكـر وهجمـت علـى بيوت النصارى واستخرجوا ما فيها فكان شيئًا كثيرًا وأحضروهم إلى القبطان فأخرجوهم إلى المزاد وباعوهم واشترى غالبهم العسكر وصاروا يبيعونهم على الناس بالمرابحة فإذا أراد إنسان أن يشتري جارية ذهب إلى بيت الباشا وطلب مطلوبه فيعرض عليه الجواري من مكان عند باب الحريم فإذا أعجبته جارية أو أكثر حضر صاحبها الذي اشتراها فيخبره برأس ماله ويقوله له‏:‏ وأنا آخذ مكسي كذا فلا يزيد ولا ينقص فإن أعجبه الثمن دفعه وإلا تركها وذهب‏.‏

ثم وقع التشديد على ذلك وأحضروا الدلالين والنخاسين القدم والجـدد واستدلوا منهم على المبيوعات‏.‏

وفيه حضر القبطان المهندسين ليستخبر منهم عن الخبايا والدفائن التي صنعوها في البيوت وفي يوم الاثنين أمر القبطان الأمراء والصناجق والوجاقلية أن يذهبوا للسلام على عابدي باشا ودرويـش باشـا فذهـب الصناجـق أولًا بسائر أتباعهم وطوائفهم وتلاهم الوجاقلية فسلموا ورجعوا من البساتين وكلاهما في جمع كثير‏.‏

وفـي يـوم الثلاثاء رابعه حضر عابدي باشا عند القبطان وسلم عليه ثم طلع إلى القلعة وسلم على محمد باشا المتولي ثم نزل وخرج إلى مخيمه بالبساتين‏.‏

وفيـه قـرر علـى بيـوت النصارى الذين خرجوا بصحبة الأمراء المصرية مبلغ دراهم مجموع متفرقها خمسة وسبعون ألف ريال‏.‏

وفيه أمر أيضًا بإحصاء بيوت جميع النصارى ودورهم وما هو في ملكهم وأن يكتب جميع ذلـك فـي قوائـم ويقـرر عليها أجرة مثلها في العام وأن يكشف في السجل على ما هو جار في أملاكهم‏.‏

ثم قرر عليهم أيضًا خمسمائة كيس فوزعوها على أفرادهم فحصل لفقرائهم الضرر الزائـد وقيـل أنهـم حسبـوا لهم الجواري المأخوذة منهم من أصل ذلك على كل رأس أربعون ريالًا‏.‏

وقرر أيضًا على كل شخـص دينـارًا جزيـة العـال كالـدون وذلـك خـارج عـن الجزيـة الديوانيـة المقررة‏.‏

وفي يوم الخميس عمل محمد باشا ديوانًا وخلع على مصطفى أغا تابع حسن أغا تابع عثمان وكيل دار السعادة سابقًا وقلده وكيل دار السعادة كأستاذ أستاذه وكانت شاغرة من أيام علي بك‏.‏

وفيه أيضًا سمحوا في جمرك البهار والسلخانة لباب الينكجريـة كمـا كـان قديمـًا وكـان ذلـك مرفوعًا عنهم من أيام ظهور علي بك‏.‏

وفيه انتقل عابدي باشا ودرويش باشا من ناحية البساتين إلى قصر العيني بشاطئ النيل وجلسوا هناك‏.‏

وفيه دفع قبطان باشا بعض دراهم السلفة التي كان اقترضها من التجار فدفع ما للإفرنج وجانبًا لتجار المغاربة ووعدهم بغلاق الباقي‏.‏

وفيه قبض القبطان على راهب مـن رهبـان النصـارى واستخلـص منـه صندوقـًا مـن ودائـع النصارى‏.‏

وفيـه ايضـًا قبـض علـى شخـص مـن الأجنـاد مـن بيتـه بخشقدم وأخرجوا من داره زلعتين مسدودتين كل واحدة منهما يرفعها ثمانية من الرجال العتالين بالآلة لا يعلم ما فيها‏.‏

وفي يوم الجمعة عمل شيخ السادات عزومة لحسن باشا عند تربة أجداده بالقرافة‏.‏

وفيـه حضـر قاصـد من طرف اسمعيل بك وعلى يده مكاتبات من المذكور يخبر فيها بأنه وصل إلـى دجرجـا وقصـده الإقامـة هناك لأجل المحافظة في تلك الجهة حتى تسافر العسكر فإذا التقوا مع الأمراء وكسروهم وهزموهم يكون هو ومن معه في أقفيتهم وقت الحرب ومانعًا عند الهزيمة‏.‏

وفي يوم السبت قبض القبطان على المعلم واصف وحبسه وضربه وطالبه بالأموال وواصف هـذا أحـد الكتـاب المباشريـن المشهوريـن ويعـرف الإيـراد والمصاريـف وعنـده نسـخ مـن دفاتـر الروزنامة ويحفظ الكليات والجزئيات ولا يخفى عن ذهنه شيء من ذلك ويعرف التركي‏.‏

وفي يوم الأحد تاسعه قبض على بعض نساء المعلم إبراهيم الجوهري من بيت حسن أغا كتخدا علي بك أمين احتساب سابقًا فأقرب على خبايا أخرجوا منها أمتعة وأواني ذهب وفضة وسروجًا وغير ذلك‏.‏

وفي يوم الاثنين حصلت جمعية بالمحكمة بسبب جمرك البهار وذلك أن إبراهيم بك شيخ البلد أخذ من التجار في العام الماضي مبلغًا كبيرًا من حساب الباشا وذلك قبل حضوره من ثغر سكندرية فلما حضر دفعوا له البواقي وحاسبهم وطالبهم بذلك المبلغ فمطالوا ووعدوه إلى حضور المراكـب فلمـا حضـرت المراكـب فـي أوائـل شهـر رمضـان مـن هـذه السنـة أحضرهـم وطالبهم فلم يزالوا يستوفونه ويعتذرون له وذلك خوفًا من إبراهيم بك ويعيدون القول على إبراهيم بك فيقول لهم لا تفضحوني ويلاطفهم ويداهنهم كما هي عادته والباشا يطالبهم‏:‏ فلما ضـاق خناقهـم أخبـروه أن إبراهيـم بك يطلب ذلك ويقول أنا محتاج لذلك في هذا الوقت ووالدي الباشا يمهل وأنا أحاسبه بعد ذلك ولم يخبروه أنه أخذه فلم يرض ولم يقبل وصار يرسل إلى إبراهيم بك يشكو له من التجار ومطلهم فيرسل إبراهيم بك مع رسوله معينين من سراجينه يقولون للتجار ادفعوا مطلوبات الباشا فإذا حضر إليه التجار تملق لهم ويقول اشتروا لحيتي واشترونـي فلـم يـزل التجـار فـي حيـرة بينهمـا وقصـد إبراهيـم بـك أن التجـار يدفعـون ذلـك القدر ثانيًا إلـى الباشـا وهـم يثاقلونـه خوفًا من أن يقهرهم في الدفع‏.‏

ثم حصلت الحركات المذكورة وحضور القبطـان وخـروج إبراهيـم بـك وإخوانه فبقي الأمر على السكوت‏.‏

فلما راق الحال واطمأن الباشا أرسـل يطالـب التجـار بالمبلـغ وهـو أربعة وأربعون ألف ريال فرانسة‏.‏

فعند ذلك أفصحوا له عن حقيقة الأمر وأنهم دفعوا ذلك لإبراهيم بك قبل حضوره إلى مصر فاشتد غيظه وقال‏:‏ ومن أمركـم بذلـك ولا يلزموني ولا بد من أخذ عوائدي على الكامل‏.‏

ثم أنهم ذهبوا إلى حسن باشا واستجاروا به فأمرهم أن يترافعوا إلى الشرع فاجتمعوا يوم الأحد في المحكمة وأقام الباشا من جهته وكيلًا وأرسله صحبة أنفار من الوجاقلية واجتمعت التجار حتى ملأوا المحكمة وطلبوا حضور العلماء فلم يحضروا‏.‏

وانفض المجلس بغير تمام ثم حضر التجار في ثاني يوم وحضر العلمـاء ولـم يحضـر وكيـل الباشـا ثـم أبـرز التجـار رجعـة بختـم إبراهيـم بـك وتسلمه المبلغ مؤرخة في ثاني عشـر شعبـان أيـام قائمقاميتـه ووكالتـه عـن الباشـا وأبـرزوا فتـاوى أيضـًا وسئـل العلمـاء فأجابوهم بقولهم حيث أن الباشا أرسل فرمانًا لإبراهيم بك أن يكون قائمًا مقامه ووكيلًا عنه إلى حين حضوره فيكون فعل الوكيل كالأصيل وتخلص ذمة التجار وليـس للباشـا مطالبتهـم ومطالبته على إبراهيم بك على أن ذلك ليس حقًا شرعيًا‏.‏

وكتب القاضـي إعلامـًا بذلـك وأرسله إلى الباشا وانفض المجلس على دماغ الباشا‏.‏

وفي يوم الخميس تعين للسفر عدة من العساكر البحرية في المراكب ولحقت بالمراكب السابقة‏.‏

وفـي يـوم الجمعـة حضر أحمد باشا والي جدة الذي كان مقيمًا بثغر الإسكندرية إلى ثغر بولاق فذهب لملاقاته علي بك الدفتردار وكتخدا الجاويشية وأرباب الخدم فركب صحبتهم وتوجه إلى ناحية العادلية وجلس هناك بالقصر‏.‏

وفي يوم السبت حضر حسن باشا وعابدي باشا ودرويش باشا إلى بيت الشيخ البكري بالأزبكيـة باستدعـاء وجلسـوا هنـاك إلـى العصـر وقـدم لهـم تقادم وهدايا وحضروا إليه في مراكب من الخليج‏.‏

وفـي يـوم الأحـد أحضروا عند حسن باشا رجلًا من الأجناد يسمى رشوان كاشف من مماليك محمـد بـك أبـي الذهـب فأمـر برمي عنقه ففعلوا به ذلك وعلقوا رأسه قبالة باب البيت‏.‏

قيل أن سبـب ذلـك أنـه كـان بجرجـا أيـام الحركـة فلمـا خـرج رفقـاؤه حضـر إلـى مصـر وطلب الأمان فأمنوه ولم يزل بمصر إلى هذا الوقت فحدثته نفسه بالهروب إلى قبلي فركب جواده وخرج فقبض عليه المحافظون وأحضروه إلى حسن باشا فأمر برمي عنقه وقيل أن السبب غير ذلك‏.‏

وفيـه وصلـت مراسلـة مـن كبيـر العساكـر البحريـة وأخبروا أنهم وقع بينهم وبين الأمراء القبالي لطمة ورموا على بعضهم مدافع وقنابر من المراكب فانتقل المصريون من مكانهم وترافعوا جهة الجبانة وصار البلد حائلًا بين الفريقين وساحل أسيوط طرد لا يحمل المراكب ومن الناحية الأخرى جزيرة تعوقهم عن التقرب إليهم‏.‏

وصوروا صـورة ذلـك وهيئتـه فـي كاغـد لأجـل المشاهـدة وأرسلوها مع الرسول‏.‏

وفيه عمل الديوان بالقلعة وتقلد قاسم بك أبو سيف ولاية جرجا وسارى عسكر التجريدة المعينة صحبة عابدي باشـا ودرويـش باشـا ومعهـم مـن الصناجـق أيضـًا علـي بـك جركـس الاسمعيلـي وغياطـس بـك المصالحـي ومحمـد بـك كشكش ومن الوجاقلية خمسمائة نفر وأخذوا في التجهيز والسفر‏.‏

وفي يوم الاثنين سابع عشر حضر إلى ساحل بولاق أغا من الديار الرومية وهو أمير اخور وعلـى يـده مثالـات وخلع وهو جواب عن الرسالة بالأخبار الحاصلة وخروج الأمراء فركب أغات مستحفظان ومن له عادة بالكروب لملاقاته وطلع حسن باشـا وعابـدي باشـا وأحمـد باشـا الجداوي ودرويش باشا والأمراء والصناجق والوجاقـات والقاضـي والمشايـخ واجتمعـوا بالقلعـة وحضر الأغا من بولاق بالموكب والنوبة خلفه وبقية الأغوات وهم يحملون بقجًا على أيديهم والمكاتبـات فـي أكيـاس حريـر علـى صدورهـم ولما دخلوا باب الديوان قام الباشوات والأمراء على أقدامهم وتلقوهم ثم بدأوا بقراءة المرسوم المخاطب به حسن باشا فقرأوه ومضمونه التبجيل والتعظيم لحسن باشا وحسن الثناء عليه بما فعله من حسن السياسة والوصية على الرعية وصرف العلائف والغلال‏.‏

وفيه ذكر اسمعيل بك وحسن بك والتحريض والتأكيد على القتـل والانتقـام مـن العصـاة ولمـا فرغوا من قراءة ذلك أخرجوا الخلعة المخصوصة به فلبسها وهي فروة سمور وقفطان أصفر مقصب مفرق الأكمام فلبسه من فوق وسيف مجوهر تقلد به ثم قرأوا المرسوم الثاني وهو خطـاب لمحمـد باشـا يكن المتولي ومعه الخطاب للقاضي والعلماء والأمراء والوجاقلية والثناء على الجميـع والنسـق المتقـدم فـي المرسـوم السابـق‏.‏

ثـم لبس الخلعة المخصومة به وهي فروة وقفطان ثم قرأوا المرسوم الثالث وهو خطاب لأحمد باشا والي جده بمثل ذلك ولبس خلعته أيضًا وهي فـروة وقفطـان‏.‏

ثـم قـرئ المرسـوم الرابـع وفيه الخطاب لعابدي باشا ومضمونه ما تقدم ولبس أيضًا خلعتـه وفروتـه‏.‏

ثـم قـرئ المرسـوم الخامس ومضمونه الخطاب لدرويش باشا وذكر ما تقدم ولبس خلعته وهي فروة على بنش لأنه بطوخين ثم مرسوم بالخطاب لعلي بك الدفتردار ومضمونه الثناء علهي من عدم التأخر عن الإجابة والنسق‏.‏

ثم فرمان ثان وهو خطاب لأمير الحاج والوصية بتعلقات الحج‏.‏

فما فرغوا من ذلك إلا بعد الظهر ثم ضربوا مدافع كثيرة ودخلوا إلى داخـل وجلسـوا مـع بعضهـم ساعـة ثـم ركبوا ونزلوا إلى أماكنهم‏.‏

وكان ديوانًا عظيمًا وجمعية كبيرة لم تعهد قبل ذلك ولم يتفق أنه اجتمع في ديوان خمسة باشوات في آن واحد‏.‏

وفي يوم الأربعاء تاسع عشره عمل الباشا ديوانًا وخلع على باكيـر أغـا مستحفظـان وقلـده صنجقًا وخلع عثمان أغا الوالي وقلده أغات مستحفظان عوضًا عن باكير أغا‏.‏

وفي يوم الخميس خلع الباشا على اسمعيل كاشف منن أتباع كشكش وقلده واليًا عوضًا عن عثمـان أغـا المذكـور وأقـر أحمد أفندي الصفائي في وظيفته روزنامجي أفندي على عادته وكانوا عزموا على عزله وأرادوا نصب غيره فلم يتهيأ ذلك‏.‏

وفيـه وصـل إبراهيـم كاشـف مـن طـرف اسمعيـل بـك وحسـن بـك وأخبـر بقدومهما وأنهما وصلا إلى شـرق أولـاد يحيـى وأرسـلا يستأذنـان فـي المقام هناك بالجمعية حتى تصل العساكر المعينة فيكونوا معهـم فلـم يجبه حسن باشا إلى ذلك وحثه على الحضور فيقابله ثم يتوجه من مصر ثانيًا‏.‏

ثم أجيب إلى المقام حتى تأتيهم العساكر وأخبر أيضًا أن الأمراء القبليين لم يزالوا مقيمين بساحل أسيوط على رأس المجرور وبنوا هناك متاريس ونصبوا مدافع وأن المراكب راسية تجاههم ولا تستطيع السير في ذلك المجرور إلا باللبان لقوة التيار ومواجهة الريح للمراكب‏.‏

وفيـه استعفـى علـي بك جركس الاسمعيلي من السفر فأعفي وعين وعوضه حسن بك رضوان وأنفق حسن باشا على العسكر فأعطى لكل أمير خمسة عشر ألف ريال وللوجاقلية سبعة عشـر ألـف ريـال وأنفـق عابـدي باشـا فـي عسكره النفقة أيضًا فأعطى لكل عسكري خمسة عشر قرشـًا فغضبـت طائفـة الدلاة واجتمعوا بأسرهم وخرجوا إلى العادلية يريدون الرجوع إلى بلادهم وحصل في وقـت خروجهـم زعجـة فـي النـاس وأغلقـت الحوانيـت ولـم يعرفـوا مـا الخبـر‏.‏

ولمـا بلـغ حسـن باشا خبرهم ركب بعسكره وخرج يريد قتلهم وخرج معهم المصرين وركب عابدي باشا أيضًا ولحق بعد عند قصر قايماز وكان هناك أحمد باشا الجداوي فنزل إليه أيضًا واجتمعوا إليه واستعطفـوا خاطـره وسكنـوا غضبـه وأرسلـوا إلـى جماعـة الدلـاة فاسترضوهـم وزادوا لهـم في نفقتهم وجعلوا لكل نفر أربعين قرشًا وردوهم إلى الطاعة‏.‏

ورجع حسن باشا وعابدي باشا إلى أماكنهم قبيل الغروب‏.‏

وفي صبح ذلك اليوم سافر اسمعيل كتخدا بطائفة من العسكر في البحر إلى جهة قبلي‏.‏

وفيه أعني يوم الخميس أخرجوا جملةغلال من حواصل بيوت الأمراء الخارجين فأخرجوا من بيت أيوب بك الكبير وبيت أحمد أغا الجملية وسليمان بك الأغا وغيرهم‏.‏

وفيه أيضًا أخذت عدة ودائع من عدة أماكن وتشاجر رجل جندي مع خادمه وضربه وطرجه ولم يدفع له أجرته فذهب ذلك الخادم إلى حسن باشا ورفع إليه قصته وذكر له أن عنده صندوقًا مملوءًا من الذهب من ودائع الغائبين فأرسل صحبته طائفة من العسكر فدلهم على مكانه فأخرجوه وحملوه إلى حسن باشا وأمثال ذلك‏.‏

وفي يوم الجمعة فتحوا بيت المعلم إبراهيم الجوهري وباعوا ما فيه وكان شيئًا كثيرًا من فرش ومصاغ وأوان وغير ذلك‏.‏

وفي يوم السبت برز عابدي باشا ودرويش باشا وأخرجوا خيامهما إلى البساتين قاصدين السفر‏.‏

وفيه ركب علي بك الدفتردار وذهب إلى بولاق وفتح الحواصل وأخرج منها الغلال لأجـل البقسماط والعليق‏.‏

وفي يوم الأحد نودي على الغز والأجناد والأتباع البطالين أن يخدموا عند الأمراء‏.‏

وفـي يـوم الاثنيـن سافـر عابـدي باشـا ودرويـش باشـا وأخرجـوا خيامهمـا إلـى البساتيـن وأخـرج الأمراء وفيه حضر باشا من ناحية الشام وهو أمير كبير من أمراء شين أغالي وصحبته نحو ألف عسكري فنزل بهم بالعادلية يومه ذلك‏.‏

وفـي يـوم الثلاثـاء دخلـت عساكـر المذكـور إلـى القاهـرة وأميرهـم توجـه إلـى ناحية البساتين من نواحي بابا الوزير‏.‏

وفي يوم الخميس سافر أمير شين أغلي بعساكره إلى جهة قبلي‏.‏

وفي يوم السبت ثامن عشرين القعدة نودي بفرمان بمنع زفاف الأطفال للختان في يوم الجمعة بالطبـول وسبـب ذلـك أن حسـن باشا صلى بجامع المؤيد الذي ببات زويلة فعندما شرع الخطيب فـي الخطبـة وإذا بضجـة عظيمـة وطبـول مزعجـة فقـال الباشـا مـا هـذا فأخبـروه بذلـك فأمر بمنع ذلك في مثل هذا الوقت‏.‏

وفـي غـرة الحجـة أشيعـت أخبـار وروايـات ووقائـع بـن الفريقين وأن جماعة من القبالي حضروا بأمان عند اسمعيل بك‏.‏

وفـي يـوم الثلاثـاء ثانـي شهر الحجة حضر إلى مصر فيض الله أفندي رئيس الكتاب فتوجه إلى حسـن باشـا فتلقـاه بالإجلال والتعظيم وقابله من أول المجلس ثم طلع إلى القلعة وقابل محمد باشا أيضًا ثم نزل إلى دار أعدت له ثم انتقل إلى دار بالقلعة عند قصر يوسف‏.‏

وفـي يـوم الخميـس حضـر أغـا وعلـى يـده تقريـر لمحمـد باشـا علـى السنـة الجديـدة فركب من بولاق إلى العادلية وخرج إليه أربـاب الخـدم والدفتـردار وأغـات مستحفظـان وأغـات العـزب والوجاقليـة ودخل بموكب عظيم من باب النصر وشق القاهرة وطلع إلى القلعة‏.‏

وفي يوم السبت نودي بأن من كانت له دعوة وانقضت حكومتها في الأيام السابقة لا تعاد ولا تسمع ثانيًا وسبب ذلك تسلط الناس على بعضهم في التداعي‏.‏

وفيه ردت السلفة التي كانت أخذت من تجار المغاربة وهي آخر السلف المدفوعة‏.‏

وفـي يـوم الأربعـاء عاشـر الحجـة كان عيد النحر وفيه وردت أخبار من الجهة القبلية بوقوع مقتلة عظيمة بين الفريقين وقتل من المصرية عمر كاشف الشرقية وحسن كاشف وسليمان كاشف ثم انحازت العسكر إلى المراكب ورجع الأمراء إلى وطاقهم فأغنم حسن باشا لتمادي أمرهم وكـان يرجـو انقضـاءه قبـل دخـول الشتـاء ويأخذ رؤوسهم ويرجع بهم إلى سلطانه قبل هبوط النيل لسيـر المراكـب الروميـة حتـى أنـه منـع من فتح الترع التي من عادتها الفتح بعد الصليب كبحر أبي المنجاوميس والقريفين خوفًا من نقص الماء فتتعوق المراكب الكبار‏.‏

وفيه حضر واحد ططري وعلى يده مرسوم فطلب حسن باشا محمد باشا المتولي فنزل إليه وجمع الديوان عنده فقرأ عليهم ذلك المرسوم وحاصله الحث والتشديـد والاجتهـاد فـي قتـل العصاة والفحص عن أموالهم وموجوداتهم والانتقام ممن تكـون عنـده وديعـة ولا يظهرهـا وعـدم التفريط في ذلك وطلب حلوان عن البلاد فائظ ثلاث سنوات‏.‏

وفـي أواخر الحجة أرسل عابدي باشا مكاتبة حضرت له من الأمراء القبالي وهي جواب عن رسالتهم وهي باللغة التركية وحاصل مـا فهمتـه مـن ذلـك أنكـم تخاطبونـا بالكفـرة والمشركيـن والظلمة والعصاة وأننا بحمد الله تعالى موحدون وإسلامنها صحيح وحججنا بيت الله الحرام وتكفيـر المؤمـن كفر ولسنا عصاة ولا مخالفين وما خرجنا من مصر عجزًا ولا جبنا عن الحرب إلا طاعـة للسلطان ونائبه فإنه أمرنا بالخروج حتى تسكن الفتن وحقنًا للدماء ووعدنا أنه يسعى لنا فـي الصلـح فخرجنـا لأجـل ذلـك ولـم نـرض بإشهـار السلـاح فـي وجوهكـم وتركنا بيوتنا وحريمنا في عرض السلطان ففعلتم بهم ما فعلتم ونهبتم أموالنا وبيوتنا وهتكتم أعراضنا وبعتـم أولادنـا وأحرارنا وأمهات أولادنا وهذا الفعل ما سمعنا به ولا في بلاد الكفر وما كفاكم ذلك حتى أرسلتم خلفنا العساكر يخرجونا عن بلاد الله وتهددونا بكثرتكم وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله وأن عساكر مصر أمرها في الحرب والشجاعة مشهور في سائر الأقاليم والأيام بيننا‏.‏

وكـان الأولـى لكـم الاجتهـاد والهمـة فـي خلـاص البلـد التـي غصبـا منكـم الكفـار واستولـوا عليهـا مثـل بلـاد القـرم والـودن واسمعيـل وغير ذلك‏.‏

وأمثال هذا القول وتخشين الكلام تارة وتليينه أخرى وفـي ضمـن ذلك آيات وأحاديث وضرب أمثال وغير ذلك‏.‏

فأجابهم عابدي باشا ونقض عليهم ونسب كاتبهم إلى الجهل بصناعة الإنشاء وغير ذلك مما يطول شرحه وانقضت هذه السنة وما وقع بها من الحوادث الغريبة‏.‏

من مات في هذه السنة توفي الشيخ العلامة المحقق والفهامة المدقق شيخنا الشيخ محمد ابن موسى الجناجي المعروف بالشافعي وهو مالكي المذهب أحد العلماء المعدودين والجهابذة المشهورين تلقى عن مشايـخ عصره ولازم الشيخ الصعيدي ملازمة كلية وصار مقرئه ومعيدًا لدروسه وأخذ عن الشيخ خليل المغربي والسيد البليدي وحضر على الشيخ يوسف الحفني والملوي وتمهر في المعقول والمنقول ودرس الكتب المشهورة الدقيقة مثل المغني لابن هشام والاشموني والفاكهـي والسعـد وغيـر ذلـك وأخـذ علـم الصـرف عـن بعـض علمـاء الـأروام وعلم الحساب والجبر والمقابلة وشباك بن الهائـم عـن الشيـخ حسيـن المحلـاوي واشتهـر فضلـه فـي ذلك وألف فيها رسائل وله في تحويل النقود بعضهـا إلـى بعـض رسالـة نفيسـة تـدل علـى براعتـه وغوصـه فـي علـم الحسـاب وكـان لـه دقائق وجودة استحضار في استخراج المجهولات وأعمال الكسورات والقسمـة والجـذورات وغيـر ذلـك مـن قسمة المواريث والمناسخات والأعداد الصم والحل والموازين ما انفرد به نظائره‏.‏

وكتب على نسخـة الخرشـي التـي فـي حـوزه حواشـي وهوامـش ممـا تلقـاه ولخصـه مـن التقاريـر التـي سمعهـا مـن أفـواه أشياخـه مـا لـو جـرد لكـان حاشيـة ضخمـة فـي غايـة الدقـة وكذلـك باقـي كتبه وله عدة رسائل في فنون شتى وكتب حاشية على شرح العقائد ومات قبل إتمامها كتب مناه نيفًا وثمانين كراسًا‏.‏

وتلقى عنه كثير من أعيان علماء العصر ولازموا المطالعة عليه مثل العلامة الشيخ محمد الأمير والعلامـة الشيـخ محمد عرفة الدسوقي والمرحم الشيخ محمد البناني واجتمع بالمرحوم الوالد سنة سـت وسبعيـن واستمـر مواظبـًا لنـا فـي كـل يـوم وواظـب الفقيـر في إقرائي القرآن وحفظة فأحفظني مـن شـورى إلـى مريـم وينسـخ للوالـد ما يريد من الكتب الصغيرة الحجم‏.‏

ولم يزل على حاله معنا فـي الحـب والمـودة وحسـن العشـرة إلـى آخـر يـوم مـن عمره وحضرت عليه في مبادئ الحضور الملوي على السلم وشرح السمرقندية في الاستعارات والفاكهي على القطر في دروس حافلة بالأزهر والسخاوي والنزهة في الحساب خاصة بالمنزل وكان مهذب الأخلاق جدًا متواضعًا لا يعرف الكبر ولا التصنع أصلًا ويلبس أي شيء كـان مـن الثيـاب الناعمـة والخشنـة ويذهـب بحمـاره إلىجهة بولاق ويشتري البرسيم ويحمله عليه ويركب فوقه ويحمل طبق العجين إلى الفرن على رأسـه ويذهـب فـي حوائـج إخوانـه‏.‏

ولمـا بنـى محمـد بـك أبـو الذهـب مسجده تجاه الأزهر تقرر في وظيفة خزن الكتب نيابة عن محمد أفندي حافظ مضافة إلى وظيفة تدريـس مـع المشايـخ المقررين فلازم التقييد بها وينوب عنه أخوه الشيخ حسن في غيابه وكان أخوه هذا ينسخ أجـزاء القـرآن بخـط حسـن فـي غايـة السرعة ويتحدث مع الناس وهو يكتب من حفظه ولا يغلط‏.‏

ولم يزل المترجـم يملـي ويفيـد ويبـدي ويعيـد مقبـلًا علـى شأنـه ملحوظـًا بيـن أقرانـه حتـى وافـاه الحمـام فـي سابـع عشريـن جمـادى الثانيـة مـن السنـة مطعونًا وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بتربة المجاورين‏.‏

ومات الإمام الفاضل المحدث الفقيه البارع السيد محمد بن أحمد بـن مصطفـى أفضـل صفـي الدين أبو الفضل الحسيني الشهير بالبخاري ولد تقريبًا سنة 1160 وقرأ على فضلاء عصره وتكمـل فـي المعقـول والمنقـول وورد إلـى اليمـن حاجـًا فـي سنـة ثلاث وسبعين فسمع بالنجائي السيد عبـد الرحمـن ابـن أحمـد باعيديـد وذاكـر معـه فـي الفقـه والحديـث ثـم ورد زبيـد فأدرك الشيخ المسند محمـد بـن عـلاء الديـن المزجاجي فسمع منه أشياء وكذلك من السيد سليمان بن يحيى وغيرهما ثـم حـج وزار واجتمـع بالشيـخ محمد ابن عبد الكريم السمان فأحب طريقته ولازمه ملازمة كلية وأجـازه فيهـا وورد الينبـع فجلـس فيـه مـدة وأحبـه أهلـه‏.‏

وورد مصر سنة 1182 واجتمع بعلمائهـا وذاكـر بأنصـاف وتـؤدة وكمـال معرفة ولم يصف له الوقت فتوجه إلى الصعيد فمكث في نواحـي جرجـا مـدة وقـرأ عليـه هنـاك بعـض الأفـراد فـي أشيـاء ثـم رجـع إلى مصر سنة سبع وثمانين وسافـر منهـا إلـى بيـت المقـدس فأكـرم بهـا وزار الخليـل وأحبـه أهل بلده فزوجوه‏.‏

ثم أتى إلى مصر سنـة ثمـان وثمانيـن واجتمعت حواسه في الجملة ثم ذهب إلى نابلس واجتمع بالشيخ السفاريني فسمـع عليـه أشيـاء وأجـازه وأحبه وكان المترجم قد أقتن معتقد الحنابلة فكان يلقيه لهم بأحسن تقرير مع التأييد ودفع ما يرد على أقوالهم من الإشكالات بحسن بيان والبلد أكثر أهله حنابلة فرفعـوا شأنـه وعظـم عندهـم مقـداره‏.‏

ثـم ورد مصـر سنـة تسعيـن واجتمع بشيخنا السيد مرتضى لمعرفة سابقة بينهما وكان ذلك في مبادئ طنطة شيخنا المذكور فنوه بشأنه وكان يأتي إلى درسه بشيخون فيجلسه بجانبه ويأمر الحاضرين بالأخذ عنه ويجله ويعظمه فراج أمره بذلك فأقام بمصر سنة في وكالة بالجمالية واشتهر ذكره عند كثير من الأعيان بسبب مدح شيخنا المذكـور فيـه وحثهـم على إكرامه فهادوه بالملابس وغيرها ثم عزم على السفر إلى نابلس فهرعوا إليه وزودوه بالدراهم واللوازم وأدوات السفر وشيعوه بالإكرام وسافر إلى نابلس ثم إلى دمشق وأخـذ عنـه علماؤهـا واحترمـوه واعترفـوا بفضله‏.‏

وكان إنسانًا حسنًا مجموع الفضائل رأسًا في فن الحديث يعرف فيه معرفة جيدة لا نعلم من يدانيه في هذا العصر بعد شيخنا المذكور واسع الاطلاع على متعلقاته مع ما عنده من جودة الحفظ والفهم السريع وإدراك المعاني الغريبة وحسن الإيـراد للمسائـل الفقهيـة والحديثيـة‏.‏

ثـم عـاد إلـى نابلـس وسافـر بأهلـه إلى الخليل فأراد أن يسكن بها فلـم يصـف لـه الوقـت ولـم ينتظـم لـه حـال لضيـق معـاش أهـل البلد فعاد إلى نابلس في شعبان وبها توفي سحر ليلة الأحد سابع عشرين رمضان من السنة مطعونًا بعد أن تعلل يومًا وليلة ودفن بالزاركية قرب الشيخ السفاريني وتأسف عليه الناس وحزنوا عليه جدًا وانقطع الفن من تلك البلاد بموته رحمه الله وعوض في شبابه الجنة ولم يخلف إلا ابنة صغيرة وله مؤلفات في فن الحديث‏.‏

ومـات العمـدة المبجـل الفقيـه الوجيـه والحبـر اللوذعي النبيه السيد نجم الدين بن صالح بن أحمد بن محمـد بـن صالـح بـن محمـد بـن عبـد اللـه التمرتاشـي الغـزي الحنفـي قـدم إلى مصر في حدود الستين وحضر على مشايخ الوقت وفقته وقرأ في المعقولات والمنقولات وتضلع ببعض العلوم ثم شغف بأسبـاب الدنيـا وتعاطـى بعـض التجـارات وسافـر إلى اسلامبول وتداخل في سلك القضاء ورجع إلـى مصـر ومعـه نيابـة قضـاء أبيـار بالمنوفية ومرسومات بنظارات أوقاف فأقام بأبيار قاضيًا بضع وعشـر سنيـن وهـو يشتري نيابتها كل دور وابتدع فيها الكشف على الأوقاف القديمة والمساجد الخربـة التـي بالولايـة وحسـاب الواضعيـن أيديهـم علـى أزراقها وأطيانه حتى جمع من ذلك أموالًا ثم رجع إلى مصر واشترى دارًا عظيمـة بـدرب قرمـز بيـن القصريـن واشتـرى المماليـك والعبيـد والجـواري وترونق حاله واشتهر أمره وركب الخيول المسومة وصار في عداد الوجها وكان يحمل معـه دائمـًا متـن تنويـر الأبصـار يراجـع فيه المسائل ويكتب على هامشه الوقائع والنوادر الفقهية‏.‏

ثم تولـى نيابـة القضـاء بمصـر فـي سنـة سـت وثمانيـن فـازدادت وجاهتـه وانتشـر صيتـه وابتكر في نيابته أمـورًا منهـا تحليـف الشهـود وغيـر ذلـك ثـم سافـر إلـى اسلامبـول فـي سنـة اثنتيـن وتسعين وعاد‏.‏

ثم سافـر فـي سنة تسع وتسعين واجتمع هناك بحسن باشا ووشى إليه أمر مصر وسهل له أمرها وأمراءها حتى جسره على القدوم إليها وحضر صحبته إلى ثغر إسكندرية وكان بينه وبين نعمان أفندي قاضي الثغر كراهة باطنية فوشى به عند حسن باشا حتى عزله من وظيفة القضـاء وقلدهـا للمترجـم وكاد أن يبطش بنعمان أفندي فهرب منه إلى رشيد ولم يلبث المترجم أن أصابـه الفالـج ومـات سابـع عشريـن رمضـان عـن نيـف وتسعيـن سنـة‏.‏

ونقـم عليـه بعد ذلك حسن باشـا أمورًا وعلم براءة نعمان أفندي مما نسبه إليه وأحضر نعمان أفندي وأكرمه ورد له منصبه وأجلـه وأكرمـه وصاحبـه مـدة إقامته بمصر ورجع معه إلى اسلامبول وجعله منجم باشا‏.‏

وكانت لـه يـد طولـى فـي علـم النجامـة ثـم نفـاه بعـد ذلـك إلـى أماصيـه بسبـب توسطه مع صالح أغا للأمراء المصرييـن كمـا ذكـر فـي موضعـه‏.‏

وخلـف المترجـم ابنـه صالـح جلبـي الموجـود الـآن ومملوكـه علـى أفندي الذي كان يتولى نيابات القضاء في المحلة ومنوف وغيرهما‏.‏

ومات الشيخ الصالح أحمد بن عيسى بن عبد الصمد بن أحمد بن فتيح ابن حجازب بن القطـب السيـد علـي تقـي الديـن دفيـن رأس الخليـح بـن فتـح ابـن عبـد العزيـز بـن عيسى بن نجم خفير بحر البرلس الحسيني الخليجي الأحمدي البرهاني الشريف الشهير بأبي حامد ولد برأس الخليج وحفـظ القـرآن وبعـض المتـون ثم حبب إليه السلوك في طريق الله تعالى فترك العلائق وانجمع عن الناس واختار السياحة مع ملازمته لزيارة المشاهد والأولياء والحضور في موالدهم المعتادة‏.‏

وكان الأغلب في سياحته سواحل بحر البرلس ما بين رشيد ودمياط على قدم التجريد‏.‏

ووقعـت لـه في أثناء ذلك إشارات واجتمع فيها بأكابر أهل الله تعالى وكان يحكي عنهم أمورًا غريبة من خوارق العادات وأقام مدة يطوى الصيام ويلازم القيام واجتمع في سياحتـه ببلـاد الشـرق علـى صلحـاء ذلـك العصـر ورافـق السيـد محمد ابن مجاهد في غالب حالاته فكانا كالروح في جسد وله مكارم أخلاق ينفق في موالد كل من القطبين السيد البدوي والسيد الدسوقي أموالًا هائلة ويفرق في تلك الأيام على الواردين على ما يحتاجون إليه من المآكل والمشارب‏.‏

وكان كلما ورد إلى مصر يزور السادة العلماء ويتلقى عنهم وهم يحبونه ويعتقدون فيه منهم الشيـخ الدمياطـي وشمـس الديـن الحفنـي وغيرهمـا‏.‏

وكـان لـه شيخنـا السيـد مرتضـى مزيـد اختصـاص وألـف باسمـه رسالـة المناشـي والصفيـن وشرح له خطبة الشيخ محمد البحيري البرهاني على تفسير سورة يونس وباسمه أيضًا كتب له تفسيرًا مستقلًا على سورة يونس على لسان القوم وصل فيه إلى قوله تعالى‏:‏ واجعلوا بيتكم قبلة وذلك في أيام سياحته معه وكمله بعد ذلـك‏.‏

وفي سنة 1199 ورد إلى مصر لأمر اقتصى فنزل في المشهد الحسيني وفرش له على الدكـة وجلس معه مدة وتمرض أشهرًا بورم في رجليه حتى كان في أول المحرم من هذه السنة زاد بـه الحـال فعـزم علـى الذهـاب إلـى فـوة‏.‏

فلمـا نـزل إلـى بولـاق وركـب السفينـة وافاه الحمام وأجاب مولـاه بسلام وذلك في يوم عاشوراء وذهب به أتباعه إلى فوة بوصية منه وغسل هناك وفدن بزاوية قرب بيته وعمل عليه مقام يزار‏.‏

ومات الشيخ الفاضل النبيه اللوذعي الذكي المفوه الناظم الناثر الشاعـر اللبيـب الشيـخ محمـد المعروف بشبانه كان من نوادر الوقـت اشتغـل بالمعقـول وحضـر علـى أشيـاخ العصـر فأنجـب وعانـى علـم العـروض ونظـم الشعـر وأجـاد القوافـي وداعـب أهـل عصـره مـن الشعراء وغيرهم واشتهر بينهم وأذعنوا لفضله إلا أن سليقته في الهجو أجود من المدح‏.‏

ومـات الأجـل المكـرم أحمـد بـن عياد المغربي الجربي كان من أعيان أهل تونس وتولى بها الدواوين وأثرى فوقع بينه وبين اسمعيل كتخدا حمودة باشة تونس أمور أوجبت جلاءه عنها فنزل في مركب بأهله وأولاده وماله وحضر إلى إسكندرية فلما علم به القبطان أراد القبض عليه وأخذ أمواله فشفع فيه نعمان أفندي قاضي الثغر وكان له محبة مع القبطان فأفرج عنه فأهدى بن عيـاد لنعمـان أفنـدي ألـف دينار في نظير شفاعته كما أخبرني بذلك نعمان أفندي المذكور‏.‏

ثم حضر إلى مصر وسكن بولاق بشاطئ النيل بجوار دارنا التي كانت لنا هناك وذلك في سنة اثنتين وتسعيـن ومعـه ابنـه صغيـرًا ونحـو اثنتـي عشـرة سريـة مـن السـراري الحسـان طـوال الأجسـام وهـن لابسات ملابس الجزائر بهيئة بديعة تفتن الناسك وكذلك عدة من الغلمان المماليك كأنما أفرغ الجميـع فـي قالـب الجمـال وهم الجميع بذلك الزي‏.‏

وصحبته أيضًا صناديق كثيرة وتحائف وأمتعة فأقـام بذلـك المكـان منجمعـًا عـن الناس لا يخرج من البيت قط ولا يخالط أحدًا من أهل البلدة ولا يعاشـر إلا بعـض أفـراد مـن أبنـاء جنسـه يأتونـه فـي النـادر فأقـام نحو ثمان سنوات ومات أكثر جواريه ومماليكه وعبيده وخرج بعده من تونس اسمعيل كتخدا أيضًا فارًا من حمودة باشا ابن علي باشا وحضر إلى مصر وحج ورجع إلى اسلامبول واتصل بحسـن باشـا ولازمـه فاستـوزره وجعله كتخدا‏.‏

فلما حضر حسن باشا إلى مصر أرسل إليه بن عياد تقدمة وهدية فقبلها وحضـر أيضـًا فـي أثـره اسمعيـل كتخـداه المذكـور فأغـراه بـه لمـا فـي نفسـه منـه مـن سابـق العـداوة والظلـم كميـن في النفس القوة نظهره والضعف يخفيه فأرسل حسن باشا يطلب ابن عياد للحضور إليه بأمان فاعتذر وامتنع فسكت عنه أيامًا ثم أرسل يستقرض منه مالًا فأبى أن يدفع شيئًا ورد الرسل أقبح رد فرجعوا وأخبروا اسمعيل كتخـدا وكـان بخـان الشرايبـي بسبـب المطلـوب مـن التجار فحنق لذلك وتحرك كامن قلبه من العداوة السابقة وركب في الحال وذهب إلى بولاق ودخـل إلـى بيته وناداه فأجابه بأحسن الجواب وأبى أن ينزل إليه وامتنع في حريمه وقال له‏:‏ أما كفـاك أنـي تركـت لـك تونـس حتـى أتيتنـي إلـى هنـا‏.‏

وضرب عليه بنادق الرصاص فقتل من أتباعه شخصين فهجم عليه اسمعيل كتخدا وطلعوا عليه وقتلوه وقطع رأسه وأراد قتل ولده أيضًا فوقعت عليه أمه فتركوه وأخرجوا جثته خارج الزقاق فألقوها في طريق المارة وأخرجوا نساءه وخدمه واحتاطوا بالبيت وختموا عليه‏ 

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ط اخري مجلد 3. عجائب الآثار في التراجم والأخبار (المجلد الثالث) عبد الرحمن الجبرتي

  مجلد 3. عجائب الآثار في التراجم والأخبار (المجلد الثالث) عبد الرحمن الجبرتي   خطف العرب جراية العسكر من عند الزاوية الحمراء ...