الجمعة، 19 أغسطس 2022

ط اخري مجلد 3. عجائب الآثار في التراجم والأخبار (المجلد الثالث) عبد الرحمن الجبرتي

 

مجلد 3. عجائب الآثار في التراجم والأخبار

(المجلد الثالث)

عبد الرحمن الجبرتي

 

خطف العرب جراية العسكر من عند الزاوية الحمراء

ليلة الثلاثاء المذكورة حضر محمد على الباشا

وفي يوم الأربعاء عاشره وصل من بحري ثلاث شلنبات

شهر شعبان سنة 1219

يوم الخميس نزل كتخدا الباشا وصالح آغاقوش وخرجوا إلى جهة العادلية

شهر صفر الخير سنة 1220

ليلة الثلاثاء أشيع وصول القابجي إلى بولاق ليلًا

تابع

يوم السبت رجع القرابة المشاة

شهر ذي الحجة الحرام سنة 1220

تابع

يوم السبت الذي هو غايته وصلت عساكر الدلاة

ثاني عشرة ورد الخبر بوصول موسى باشا

من مات بها من العلماء والأمراء ممن له ذكر

تابع

الأمير عثمان بك البرديسي المرادي

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف

ليلة الخميس سادس عشرة

يوم الجمعة خامس عشرة

تابع

وفي الثلاثاء ثالث عشرة

يوم الخميس ثالث عشرة

سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف

الأجل المبجل والمحترم المفضل السيد خليل البكري الصديقي

موت الأمير شاهين بك المرادي

تابع

شهر رجب بيوم الأحد سنة 1224

شهر ذي الحجة بيوم الأحد سنة 1224

شهر ربيع الأول بيوم الخميس سنة 1225

شهر جمادى الثانية بيوم الثلاثاء سنة 1225

سنة ست وعشرين ومائتين وألف

شهر شعبان سنة 1226

انتقل السيد عمر مكرم النقيب من دمياط إلى طندتا

شهر ربيع الآخر سنة 1227

في سابعه يوم الخميس سافر الباشا هجانا إلى السويس

ليلة الثلاثاء عدى الباشا إلى بر الجزيرة

تابع

الأستاذ المكرم بقية السلف الصالحين ونتيجة الخلف المعتقد الشيخ محمد

تابع

وصل الخبر بنكبة إبراهيم بك لقاسم أفندي

حادي عشره عدى الباشا إلى بر الجيزة بقصد السفر إلى بلاد الفيوم

ثاني يوم وهو يوم الأربعاء ثاني عشرينه

شهر شوال من السنة التي توفي فيها أحضر ابن أخيه سيدي أحمد

شهر صفر بيوم الأحد سنة 1229

شهر رجب سنة 1229

شهر جمادى الأول بيوم الثلاثاء سنة 1230

شهر شوال بيوم الثلاثاء سنة 1230

شهر ربيع الثاني سنة 1231

من مات في هذه السنة ممن له ذكر

سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف

شهر شعبان بيوم الاثنين سنة 1232

سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف

سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف

سنة خمس وثلاثين ومائتين وألف

شهر ذي الحجة سنة 1235

شهر رمضان بيوم الأحد 1236


الجزء الثالث

وفيه

خطف العرب جراية العسكر من عند الزاوية الحمراء

وفيه وصل سليمان بك الخازندار وعدى إلى جهة طرا فخرج عدة من العسكر خلاف المرابطين هناك قبل ذلك من العسكر والمغاربة فقصد المرور من خلف الجبل واللحوق بجماعته جهة المشرق في آخر الليل فوقف له العسكر وضربوا عليه بالمدافع الكثيرة واستمر الضرب من الفجر إلى عصر يوم الجمعة ونفذ بمن معه على حماية وقتلوا منه مملوكًا واحدًا وحضروا برأسه إلى تحت القلعة‏.‏

وفيه رجع الكثير من عسكر الأرنؤد وغيرهم ودخلوا إلى المدينة يطلبون العلوفة واستمر من بقي منهم ببهتيم وبلقس ومسطرد وقد أخرجوا أهاليها منها ونهبوها واستولوا على ما فيها من غلال وأتبان وغير ذلك وكرنكوا فيها ونقبوا الحيطان برمي بنادق الرصاص من الثقوب وهم مستترون من داخلها ونصبوا خيامهم في أسطحة الدور وجعلوا المتاريس من خارج البلدة وعليها المدافع فلا يخرجون إلى خارج ولا يبرزون إلى ميدان الحرب وكل من قرب منهم من الخيالة المقاتلين رموا عليه بالمدافع والرصاص ومنعوا عن أنفسهم واستمروا على ذلك‏.‏

وفيه وردت مكاتبات إلى التجار من الحجاز وأخبروا بأن الحجاج أدركوا الحج والوقوف بعرفة ودخلوا قبل الوقوف بيومين وأخبروا أيضًا بوفاة شريف باشا إلى رحمة الله تعالى وكان من خيار الدولة العثمانيين ووردت أخبار أيضًا من البلاد الشامية بوفاة أحمد باشا الجزار في سادس عشرين المحرم‏.‏

وفي يوم السبت سادس عشره أرسلوا تنابيه إلى أرباب الحرف والصنائع بطلب دراهم وزعت عليهم مجموعها خمسمائة كيس فضج الناس وتكدروا مع ما هم فيه من وقف الحال وغلاء الأسعار في كل شيء وأصبحوا على ذلك يوم الأحد فلم يفتحوا الحوانيت وانتظروا ما يفعل بهم محضر منهم طائفة إلى الجامع الأزهر ومر الآغا والوالي ينادون بالأمان وفتح الدكاكين فلم يفتح منهم إلا القليل‏.‏

وفيه سرح سليم كاشف المحرمجي إلى جهة بحرى وأشيع وصول الألفي الصغير إلى المنية وأصبح يوم الاثنين اجتمع الكثير من غوغاء العامة والأطفال بالجامع الأزهر ومعهم طبول وصعدوا إلى المنارات يصرخون ويطلبون وتحلقوا بمقصورة الجامع يدعون ويتضرعون ويقولون يا لطيف وأغلقوا الأسواق والدكاكين ووصل الخبر إلى الباشا بل سمعهم من القلعة فأرسل قاصدًا إلى السيد عمر النقيب يقول أننا دافعنا عن الفقراء فقال له أن هؤلاء الناس وأرباب الحرف والصنائع كلهم فقراء وما كفاهم ما هم فيه من القحط والكساد ووقف الحال حتى تطلبوا منهم مغارم لجوامك العسكر وما علاقتهم بذلك فرجع الرسول بذلك وحضر الآغا ومعه عدة من العسكر وجلس بالغورية وهو يأمر الناس بفتح الحوانيت ويتوعد من يتخلف فلم يحضر أحد ولم يسمعوا لقوله وفي وقت العصر رجع القاصد ومعه فرمان برفع الغرامة عن المذكورين ونادى المنادي بذلك فاطمأن الناس وتفرقوا وذهبوا إلى بيتهم وخرج الأطفال يرمحون ويصرخون ويفرحون‏.‏

وفي ذلك اليوم عدى محمد علي وجمع كثير من العسكر والمغاربة إلى بر الجيزة وبرزوا إلى خارج فنزل عليهم جملة من العرب فحاربوهم فقتل بينهم أنفار وانجرح منهم كذلك ثم ترفعوا عنهم فرجعوا ومعهم رأس من العرب ومع المغاربة قتيل منهم في تابوت وهم يقولون طردناهم وخطفوا بعض مواش وأغنام في طريقهم من الرعيان فقتلوهم وأخذوها منهم‏.‏

وفي تاسع عشره حضر كتخدا الباشا كاتب البهار وأمره بإحضار ستمائة فرق بن فاعتذر إليه بعدم وجود ذلك فقال إنما نأخذها بأثمانها فقال له ليس علي إلا التعريف وقد عرفتك أن هذا القدر لا يوجد وإن أردت فأرسل معي من تريد وتكشف على حواصل التجار والخانات فطافوا على الخانات وفتحوا الحواصل فلم يجدوا إلا سبعين فرقًا وأكثرها عليه نشانات كبار العسكر من مشترواتهم فرجعوا من غير شيء ثم نودي في إثر ذلك بالأمان‏.‏

وفيه وقعت معركة بسوق الصاغة بين بعض العسكر الذين يتحشرون في أيام الأسواق في الدلالين والباعة ويعطلون عليهم دلالتهم وصناعتهم ومعايشهم وضربوا على بعضهم بالرصاص ففزع الناس وحصلت كرشة وظن من لا يعلم الحقيقة من العسكر أنها قومة فهربوا يمينًا وشمالًا وطلبوا النجاة والتواري ووافق مرور آغات الإنكشارية في ذلك الوقت فانزعج هو ومن معه وطلب الهرب ثم انكشف الغبار وظهر شخص عسكري مطروح وبه رمق وآخر مجروح فرجع الآغا وأمر بحمله في تابوت ونادى بالأمان‏.‏

وفي يوم الجمعة ثاني عشرينه قبل المغرب ضربوا مدافع كثيرة من القلعة وكذلك في صبحها يوم السبت ولم يظهر لذلك سبب سوى ما يقولونه من التمويهات من وصول الأطواخ وعساكر ودلاة برية تارة بحرية أخرى‏.‏

وفيه أشيع وقوع معركة بين المصرلية والعثمانية وأخذوا منهم متاريس بلقس ومدافع ووصل منهم جرحى دخلوا ليلًا وحضر من المصرلية طائفة ناحية شلقان وقطعوا الطريق على السفار في البحر وأخذوا مركبين وأحرقوا مراكب وامتنع الواصلون والذاهبون وارتفعت الغلال من الرقع والعرصات وغلا سعرها فخرج إليهم مراكب يقال لها الشلنبات وضربوا عليهم بالمدافع وأجلوهم عن ذلك الموضع ووصل بعض مراكب من المعوقين‏.‏

وفي يوم الثلاثاء سادس عشره أرسل الباشا إلى المشايخ فذهبوا إليه فاستشارهم في خروجه إلى الحرب وخروجهم صحبته مع الرعية فلم يصوبوا رأيه في ذلك وقالوا له إذا انهزم العسكر تأمر غيرهم بالخروج وإذا كانت الهزيمة علينا وأنت معنا من يخرج بعد ذلك وانفض المجلس على غير طائل‏.‏

وفي أواخره يوم الأربعاء ويوم الخميس وقع بينهم مساجلات ومحاربات ومغالبات واحترقت جبخانة العثمانيين وقيل أخذ باقيها رجع منهم قتلى ومجارح وانجرح عابدي بك أخو طاهر باشا واحترق أشخاص من الطبجية ودخل سلحدار الباشا والوالي وأمامهما رأس واحدة بشوارب كأنه من المماليك‏.‏

وفي عصرية ذلك اليوم وأخرجوا عساكر ومعهم مدافع وجبخانة أيضًا محملة على نيف وثلاثين جملًا‏.‏

وفيه ضيقوا على نساء الأمراء في طلب الغرامة وألزموا بقبضها وتحصيلها الست نفيسة وعديلة هانم ابنة إبراهيم بك فوزعتاها بمعرفتهما على باقي النساء وأرسلوا عساكر يلازمون بيتهن حتى يدفعن ما التزمن به فاضطر أكثرهن لبيع متاعهن فلم يجدن من يشتري لعموم المضايقة والكساد وانقضى هذا الشهر والحال على ما هو عليه من استمرار الحروب والمحاصرات بين الفريقين وانقطاع الطرق برًا وبحرًا وتسلط العربان واستغنامهم تفاشل الحكام وانفكاك الأحكام وكذلك تسلط الفلاحين المقاومين من سعد وحرام على بعضهم البعض بحسب المقدرة والقوة والضعف وجهل القائمين المتآمرين بطرائق سياسة الإقليم ولا يعرفون من الأحكام إلا أخذ الدراهم بأي وجه كان وتمادى قبائح العسكر بما لا تحيط به الأوراق والدفاتر بحيث أنه لا يخلو يوم من زعجان ورجفات وكرشات في غالب الجهات إما لأجل امرأة أو أمرد أو خطف شيء أو تنازع وطلب شر بأدنى سبب مع العامة والباعة أو مشاحنه مع السوقة والمتسببين بسبب إبدال دنانير ذهب ناقص بدراهم فضة كاملة المصارفة من صيارف أو باعة أو غير ذلك وتعطل أسباب المعايش وغلو الأسعار في كل شيء وقلة المجلوب ومنع السبل ووصل سعر الأردب القمح ستة عشر ريالًا والفول والشعير أكثر من ذلك لقلته وعزته وإذا حضر منه شيء أخذوه لاحتياج العليق قهرًا بأبخس الثمن عند وصوله المأمن وأجرة طحين الويبة من القمح ستة وأربعون نصفًا مع ما يسرقه الطحانون منها ويخلطونه فيها وأجرة خبيزها عشرون نصفًا بحيث حسب ثمن الأردب بع غربلته وأجرته ومكسه وكلفته وطحينه وخبيزه إلى أن يصير خبزًا أربعة وعشرون ريالًا فسبحان اللطيف الخبير المدبر ومن خفي لطفه كثرة الخبز وأصناف الكعك والفطير في الأسواق وسعر الرطل من اللحم الجفط بما فيه من العظم والكبد تسعة أنصاف والجاموسي سبعة أنصاف الرطل والراوية الماء ثلاثون نصفًا والسمن القنطار بألفين وأربعمائة نصف وشح الأرز وقل وجوده وغلا ثمنه ووصل سعر الأردب إلى خمسة وعشرين ريالًا والجبن القريش بثمانية عشر نصفًا للرطل وأما الخضات فعز وجودها وغلا ثمنها بحيث أن الرطل من البامية بما فيها من الخشب الذي يرمى من وقت طلوعها إلى أن بلغت حد الكثرة بثمانية أنصاف كل رطل والرطل قباني اثنتا عشرة أوقية وعز وجود البن وغلا سعره حتى بلغ في هذا الشهر الرطل سبعين ونصفًا والسكر العادة الصعيدي خمسة وأربعون نصفًا الرطل الواحد والعسل الأبيض الغير الجيد ثلاثون نصفًا والعسل الأسود خمسة عشر نصفًا والعسل القطر عشرون نصفًا الرطل والصابون أربعة وعشرون نصفًا كل ذلك بالرطل القباني الذي عمله محمد باشا فلا جزاه الله خيرًا والشيرج بألفين فضة القنطار وورد الكثير من الحطب الرومي ورخص سعره إلى مائة وعشرين نصفًا الحملة بعد ثلاثمائة نصف وأما أنواع البطيخ والعبدلاوي فلم يشتره أكثر الناس لقلته وغلو ثمنه فإنه بيعت الواحدة بعشرين نصفًا فأقل فأكثر والخيار بخمسة أنصاف الرطل من وقت طلوعه إلى أن بلغ حد الكثرة وبقي بحال لا تقبله الطبيعة البشرية فعند ذلك بيع بنصفين وأما الفاكهة فلا يشتريها إلا أفراد الأغنياء أو مريض يشتهيها أو امرأة وحمى لغلوها فإن رطل الخوخ بخمسة عشر نصفًا والتفاح الأخضر كذلك وقس على وذلك لقلة المجلوب وخراب البساتين وغلو علف البهائم وحوز المتسببين وأخذ الرشوات منهم وتركهم وما يدينون وأما الإتيان فإنها كثرت انحل سعرها عما كانت‏.‏

شهر ربيع الأول سنة 1219 استهل بيوم السبت فيه وقع هرج ومرج وإشاعات ثم تبين أن طائفة من العربان والمماليك وصلوا إلى خارج باب النصر وظاهر الحسينية وناحية الزاوية الحمراء وجزيرة بدران جهة الحلى ورمحوا على من صادفوه بتلك النواحي وحالوا بين العسكر الخارجين وبين عرضيهم وأخذوا ما معهم من الجراية والعليق والجبخانة فنزل الباشا ومعه عساكر وذهب إلى جهة بولاق ثم إلى ناحية الزاوية الحمراء وأغلقوا أبواب المدينة ثم رجع الباشا بعد العصر ودخل من باب العدوي وطلع إلى القلعة وهو لابس برنسًا ثم تكرر بينهم وقائع وخروج عساكر ودخول خلافهم ونزول الباشا وطلوعه‏.‏

وفي رابعه حضر الشيخ عبد الله الشرقاوي من غيبته بالقرين بعد ذهابه إلى المحلة من طندتا‏.‏

وفي يوم الخميس سادسه حضر هجانة بمكاتبة من عند الألفي الكبير للباشا وفيها الأخبار بعزمه على الحضور إلى مصر هو وعثمان بك حسن ويلتمس أن يخلوا له الجيزة وقصر العيني لينظر في هذا الأمر والفساد الواقع بمصر فكتب له الباشا جوابًا ملخصه على ما نقل إلينا أنك في السابق عرفتنا أنك مذعن للطاعة وأرسلنا لك بالإذن والإقامة بجرجا وما عرفنا موجب هذا الحضور فإن كنت طائعًا وممتثلًا ما كنت ولك الولاية والحكم بالإقليم القبلي وأرسل المال والغلال ونحو ذلك من الكلام وسافروا بالجواب يوم السبت ثامنه‏.‏

وفيه ترفع الأمراء المصرلية إلى ناحية مشتهروينها وانتقلوا من منزلتهم وأشاع العسكر ذهابهم وهروبهم‏.‏

وفيه وردت مكاتبات من الحجاز وأخبروا فيها بموت محمود جاويش الذي سافر بالمحمل وكذلك الحاج يوسف صير في الصرة وأن طائفة من الوهابيين حاصروا جدة ولم يملكوها وأن ببلاد الحجاز غلاء شديدًا لمنع الوارد عنهم والأردب القمح بثلاثين ريالًا فرانس عنها من الفضة العددية خمسة آلاف وأربعمائة‏.‏

وفي يوم السبت ثامنه أرسلوا فعلة وعمالًا لعمل متاريس وأبنية بناحية طرا وكذلك بالجيزة وأرسلوا هناك مراكب حربية يسمونها الشلنبات‏.‏

وفي يوم الثلاثاء خرج محمد علي وحسن بك أخو طاهر باشا إلى جهة القليوبية وصحبتهم عساكر كثيرة وأدوات وعدى طائفة من الأمراء إلى بر المنوفية وهرب حاكم المنوفية من منوف‏.‏

وفي ثالث عشره ورد الخبر بوصول مراكب داوات من القلزم إلى السويس وفيها حجاج والمحمل وأخبروا بمحاصرة الوهابيين لمكة والمدينة وجدة وأن أكثر أهل المدينة ماتوا جوعًا لعزة الأقوات والأردب القمح بخمسين فرانسًا إن وجد والأردب الأرز بمائة فرانسًا وقس على ذلك‏.‏

وفي خامس عشره يوم السبت وصلت مراكب وفيها طائفة من العسكر وهم الذين يسمونهم النظام الجديد الذين يقلدون محاربة الإفرنج وأشاعوا أنهم خمسة آلاف وعشرة آلاف ووصل صحبتهم الآغا الذي كان حضر بالمجدة والبشارة للباشا بالتقليد والأطواخ ورجع إلى إسكندرية فحضر أيضًا وضربوا لوصوله مدافع وشنكا جهة بولاق وأرسلوا له خيولًا ويرقًا وطبلخانات وأركبوه من بولاق وشق من وسط المدينة وأمامه وخلفه أتباع الباشا والوالي والجنبيات وعسكر النظام الجديد وهم دون المائة شخص والآغا المذكور ومعه أوراق في أكياس حرير ملون وخلفه آخر راكب ومعه بقجة يقال أن بداخلها خلعة برسم الباشا وآخر معه صندوق صغير وعليه دواة كتابة منقوشة بالفضة وخلفهم الطبلخانات فلما وصولا إلى القلعة ضربوا لوصولهم مدافع كثيرة من القلعة وعمل الباشا ديوانًا في ذلك الوقت بعد العصر وقرؤوا التقليد المذكور‏.‏

وفي ذلك اليوم وصلت طائفة من العربان إلى جهة بولاق وجزيرة بدران وناحية المذبح وخطفوا ما خطفوه وذهبوا بما أخذوه‏.‏

وفيه ورد الخبر بوصول الألفي الكبير إلى ناحية بني سويف وعثمان بك حسن في مقابلته بالبر وفي يوم الاثنين وصل قاصد من الألفي بمكتوب خطابًا للمشايخ العلماء مضمونه أنه لا يخفاكم أننا كنا سافرنا سابقًا لقصد راحتنا وراحة البلاد ورجعنا بأوامر وحصل لنا ما حصل ثم توجهنا إلى جهة قبلي واستقرينا بأسيوط بعد حصول الحادث بين إخواننا الأمراء والعسكر وخروجهم من مصر وأرسلنا إلى أفندينا الباشا بذلك فأنعم علينا بولاية جرجا ونكون تحت الطاعة فامتثلنا ذلك وعزمنا على التوجه حسب الأمر فبلغنا مصادرة الحريم والتعرض لهم بما لا يليق من الغرائم وتسليط العساكر عليهم ولزومهم لهم فثنينا العزم واستخرنا الله تعالى في الحضور إلى مصر لننظر في هذه الأحوال فإن التعرض للحريم والعرض لا تهضمه النفوس وكلام كثير من هذا المعنى فلما وصلتهم المكاتبة أخذوها إلى الباشا وأطلعوه عليها فقال في الجواب أنه تقدم تركوا نساءهم للفرنسيس وأخذوا منهم أموالًا وأني كنت أعطيت جرجا ولعثمان بك قنًا وما فوق ذلك من البلاد وكان في عزمي أن أكاتب الدولة وأطلب لهم أوامر ومراسيم بما فعلته لهم وبراحتهم فحيث أنهم لم يرضوا بفعلي وغرتهم أمانيهم فليأخذوا على نواصيهم‏.‏

وفيه شرعوا في حفر خندق قبلي الإمام الليث بن سعد ومتاريس‏.‏

وفي ذلك اليوم أرسل محمد علي إلى مصطفى آغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي فلما حضرا إليه عوقهما إلى الليل ثم أرسلهما إلى القلعة بعد العشاء ماشيين ومعهما عدة من العسكر وفي يوم الخميس عشرينه عمل الباشا ديوانًا وحضر المشايخ والوجاقلية وأظهر زينته وتفاخره في ذلك الديوان وأوقف خيوله المسومة بالحوش وخيول شجر الدر واصطفت العساكر بالأبواب والحوش والديوان ووقفت أصناف الديوان باختلاف أشكالهم والسعاة بالطاسات المذهبة على رؤوسهم وخرج الباشا بالشعار والهيبة وعلى رأسه الطلخان بالطراز إلى الديوان الكبير المعروف بديوان الغورى وقد أعدوا له كرسيًا بغاشية جوخ أحمر وبساط مفروشًا خلاف الموضع القديم فجلس عليه وزعقت الجاويشية وأحضر التقليد فقرأه ديوان أفندي بحضور الجمع الكبير ثم قرأ فرمانين آخرين مضمون أحدهما أكثر كلامًا من الثاني ملخصه الولاية وحكاية الحال الماضية من ولاية علي باشا وشفاعته في الأمراء المصرية بشرط توبتهم ورجوعهم ثم عودهم إلى البغي والفجور وغدر علي باشا المذكور وظلمهم الرعية بمعونة العسكر ثم قيام الرعية والعسكر عليهم حتى قتلوهم وأخرجوهم من مصر فعند ذلك صفحنا عن العسكر وعفونا عما تقدم منهم وأمرناهم بأن يلازموا الطاعة ويكونوا مع أحمد باشا خورشيد بالحفظ والصيانة والرعاية لكافة الرعية والعلماء وإبعاد أهل الفساد والمعتدين وطردهم وتشهيل لوازم الحج والحرمين من الصرة والغلال ونحو ذلك من الكلام المحفوظ المعتاد المنمق ولما انقضى أمر قراءة الأوراق قام الباشا إلى مجلسه الداخل وخل إليه المشايخ فخلع عليهم فراوى سمور وكذلك الوجاقية والكتبة والسيد أحمد المحروقي ثم عملوا شنكًا ومدافع كثيرة وطبولًا وأحضر في ذلك الوقت المعلم جرجس وكبار الكتبة وعدتهم اثنان وعشرون قبطيًا ولم تجر عادة بإحضارهم فخلع عليه أيضًا ثم نزلوا إلى بيت المحروقي فتغدوا عنده ثم عوقهم إلى العصر ثم طلبهم الباشا إلى القلعة فحبسهم تلك الليلة واستمروا في الترسيم وطلب منهم ألف كيس‏.‏

وفي يوم السبت ثاني عشرينه أفرجوا عن مصطفى آغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي على ثلاثمائة كيس‏.‏

وفيه حضر محمد علي وحسن بك أخو طاهر باشا وطلعا إلى القلعة فخلع عليهما الباشا وهنأه بالولاية واستقر بمحمد علي والي جرجا وحسن بك والي الغربية وضربوا لذلك مدافع كثيرة وشنكًا وعملوا تلك الليلة حراقة وسواريخ من الأزبكية وجهة الموسكي والحال أنهم لا يقدرون أن يتعدوا بر الجيزة ولا شلقان فإن طوائف عسكر الألفي وصلوا إلى بر الجيزة وأخذوا منها الكلف والأمراء البحرية منتشرون ببر الغربية والمنوفية‏.‏

وفيه هرب شخص من كبار الأرنؤد يقال له إدريس آغا كان بجماعته جهة برشوم التين فركب إلى المصرلية ولحق بهم وتبعه جماعته وهم نحو المائة وخمسين شخصًا‏.‏

وفيه أرسل الباشا آغاة الإنكشارية ليقبض على علي كاشف من أتباع الألفي من بيته بسوق الأنماطيين فأرسل إلى الأرنؤد فأرسلوا له جماعة منعوا الآغا من أخذه وجلسوا عنده فأرسل الباشا من طرفه جماعة أقاموا محافظين عليه في بيته ثم أن سليمان آغا كبير الأرنؤد الذي التجأ إليهم المذكور حضر إليه وأخذه إلى داره بالأزبكية وصحبته الأمير مصطفى البردقجي الألفي أيضًا‏.‏

وفي يوم الاثنين وصل شخص رومي بمراسلة من عند الألفي إلى الباشا فعندما قرأ الباشا المراسلة أمر بقتله حالًا فرموا عنقه برحبة القلعة وحضر أيضًا مملوك بمراسلة من عند عثمان بك حسن يذكر فيها حضوره مع الألفي وأنه غتر بكلامه وتمويهاته عليه وأن بيده أوامر شريفة من الدولة ومن حضرة الباشا بالحضور وأمثال ذلك فكتب له جوابًا وخلع على ذلك المملوك ورجع سالمًا‏.‏

وفي يوم الأربعاء سادس عشرينه أفرجوا عن النصارى الأقباط بعد ما قرروا عليهم ألف كيس خلاف البراني وقدره مائتان وخمسون كيسًا ونزلوا إلى بيوتهم بعد العشاء الأخيرة في الفوانيس‏.‏

وفيه وصل الألفي الصغير وانتشرت خيوله إلى بر أنبابة فرموا عليهم مدافع من المراكب وبولاق ورفعوا الغلة من الرقع وأشيع أن الألفي الكبير وصل إلى الشوبك وعثمان بك حسن وصل إلى حلوان ورجع إبراهيم بك والبرديسي وباقي الأمراء إلى ناحية بنها بعدما طافوا المنوفية والغربية وقبضوا الكلف والفرد وخرج كثير من العسكر إلى معسكرهم ناحية شلقان وما وازاها إلى الشرق وخرج أيضًا عدة من العسكر إلى ناحية طر والجيزة‏.‏

وفيه أرسل الألفي الصغير ورقة لشخص من كبار العسكر مقطوع الأنف كان من أتباعه حين كان بمصر يطلبه للحضور إليه ويعده بالإكرام ولن يكون كما كان في منزلته عنده فأخذ الورقة والرسول إلى الباشا فأمر بقتل المرسال وهو رجل فلاح فقطعوا رأسه بالرميلة وأنعم على مقطوع الأنف بعشرين ألف نصف فضة وشكره وقبل ذلك بأيام وصلت هجانة من العريش وأخبروا بورود عساكر من الدلاة وغيرهم معونة لمن بمصر واختلفت الروايات في عدتهم فالمكثر من كذابي العثمانية يقولون عشرة آلاف والمقل من غيرهم يقولون ألفان أو ثلاثة‏.‏

وفي يوم الأربعاء تواترت الأخبار بقربهم من الصالحية وانتقل الأمراء البحرية إلى بلبيس وركب منهم عدة وافرة لملاقاة العسكر الواردين وخرج كثير من العسكر الخيالة والرجالة إلى جهة الشرقية ببلبيس ونقلوا عرضيهم من ناحية البحر وردوا الكثير من أثقالهم إلى المدينة‏.‏

وفي يوم الخميس أحضر الباشا طائفة من اليهود وحبسهم وطلب منهم ألف كيس واستمروا في الحبس‏.‏

وفيه رجع الألفي الصغير من ناحية أنبابة إلى جهة الشيمي باستدعاء سيده وأشاع العثمانية أنهم ذهبوا ورجعوا من حيث أتوا لعجزهم وعدم قدرتهم عليهم وكان في ظنهم أمور لا تتم لهم كما ظنوا ولحقتهم جميع العساكر من الجهة الشامية‏.‏

وفيه أرسلوا ملاقاة للعساكر الواردين وفيها قومانية وجبخانة ولوازم على ستين جملًا ومعهم هجانة فعندما توسطوا البرية أحاط بهم العربان وأخذوهم‏.‏

وفيه تسحب أشخاص من كبار العسكر بأتباعهم وذهبوا إلى المصريين وانضموا إليهم فمنهم من ذهب إلى قبلي ومنهم من ذهب إلى بحري‏.‏

وفيه عدي الألفي الكبير والصغير إلى البر الشرقي عند عثمان بك وترفعت مراكبهم إلى قبلي‏.‏

وفيه حضر عابدي بك وحسن بك من البحر إلى بولاق وانتقل محمد علي إلى طنط جهة براشيم التين بعد مقتلة وقعت بينهم وبين المصرلية وانهزموا وذهبوا إلى تلك الجهة‏.‏

وفي يوم الأحد غايته أفرجوا عن طائفة اليهود بعد أن قرروا عليهم مائتي كيس خلاف البراني‏.‏

وفيه حضر خازندار الباشا من الديار الرومية إلى ساحل بولاق وصحبته أمتعة ولوازم للباشا وأشياء في صناديق‏.‏

استهل شهر ربيع الثاني بيوم الاثنين سنة 1219 فيه ركب الخازندار المذكور وطلع إلى القلعة من وسط المدينة ونزل لملاقاته أغوات الباشا والجاويشية والشفاسية وحضر صحبته نحو خمسين عسكريًا مشوا أمامه وخلفه والصناديق التي حضرت معه خلفه محملة على الجمال والجاويشية أمامه يضربون على طبلات حكم العادة في ركوباتهم ومعه عدة كبيرة من أتباع الباشا وأمامه الجنبيات والخيول‏.‏

وفيه وصلت مراكب من الديار الحجازية إلى السويس وفيها حجاج ومغاربة ولم يصل منهم إلا القليل وأكثرهم قتله العسكر الذي بقي بمكة بعد موت شريف باشا ومن انضم إليهم من أجناسهم وقد حصل منهم غاية الضرر والفساد والقتل حتى في داخل الحرم لأن الشريف غالبًا ضمهم إليه ورتب لهم جامكية واستمروا معه على هذا الحال الفظيع‏.‏

وفيه أنبهم أمر العسكر الدلاة القادمين من الجهة الشامية واضطربت الروايات عن أخبارهم فمنهم من قال أن المصرلية وقفوا لهم بالطرق وقاتلوهم ورجع من نجا منهم بنفسه ومنهم من قال أنهم لما بلغهم قطع الطريق عليهم رجعوا من حيث أتوا وبعضهم طلب الأمان وانضم إليهم ومنهم من قال أن فرقة منهم ذهبت من فم الرمانة من طريق دمياط وقيل أنهم حضروا بثمانين رأسًا منهم إلى بلبيس‏.‏

وفي يوم الأربعاء خرج الوالي بعدة من العسكر وصحبته مدافع وجبخانة واستقر بزاوية وفي يوم الخميس رابعه هجم الأمراء القبالي وهم الألفي وأتباعه وعثمان بك حسن ومن انضم إليهم من طرا وملكوا منها البرج الذي من ناحية الجبل بعد ما ضربوا عليه من أعلى الجبل وتعدوا إلى ناحية البساتين وتركوا ومن فيها خلف ظهورهم وتحاربوا من طوابير العسكر وكانوا أنفارًا قليلة ونظرهم الباشا من قلعته فزعق على السلحدار فركب في عدة من الشفاسية وخرج إليهم فعندما واجهوهم لم يثبتوا وولوا بعدما سقط منهم أنفار‏.‏

وفيه وصل جواب من الأمراء القبالي إلى المشايخ يذكرون فيه أنهم يخاطبون الباشا في إخماد الحرب وصلحه معهم فإن ذلك أصلح له ويكونون معه على ما يحب وما يأمر به ويرتاح من علوفة العسكر التي أوجبت له المصادرات وسلب الأموال وخراب الإقليم وأن يختار من العسكر طائفة معلومة معدودة يقيمون بمصر ويأمر الباقي بالسفر إلى بلادهم فلما خاطبوه بذلك وأطلعوه على المكاتبة أبي وقال ليس لهم عندي إلا الحرب‏.‏

وفي يوم الجمعة حصلت أيضًا بينهم محاربة وأصيب من المراكب الحربية التي يسمونها الشلنبات اثنتان غرقت إحداهما وأحرقت الثانية واتهم الباشا الطبجية فقتل منهم خمسة اثنان بالقلعة وثلاثة بالرميلة‏.‏

وفي يوم السبت حضر محمد علي من بحري وذهب إلى جهة القرافة فأقام بمقام عقبة بن عامر وفي يوم الأحد أشيع حضور الأمراء القبالي إلى ناحية بهتيم وأنهم أرسلوا إلى المطرية بالجلاء عنها ورمحت العرب نواحي بولاق والجهات البرانية وضربوا عليهم مدافع وفي ذلك اليوم نظر الباشا وكبار العسكر إلى جهة البساتين فلم يروا أحدًا من المصرلية فركب محمد علي وأخذ معه عدة وافرة ودخلوا تلك الجهة فلم يروا أمامهم أحدًا فلم يزالوا سائرين وإذا بكمين خرج عليهم من جانب الجبل فأوقع معهم وقعة قوية حتى أصخنوهم وقتل منهم من قتل حتى لحقوا بالمشاة الرجالة فضربوا عليهم طلقًا وولوا مدبرين فصار محمد علي يستحثهم ويردهم ويحرضهم فلم يسمعوا له ورجعوا وفيهم جرحى كثيرة طلعوا بطائفة منهم إلى القلعة ودخل الباقون إلى المدينة وطلبوا طائفة المزينين لمداواة الجرحى بالقلعة وأخذوا في ذلك اليوم برج الدير الذي كان بأيدي العسكر جهة البحر بطرا وقتلوا من به من العسكر وأعطوا لمن بقي الأمان وهم نحو الثلاثين شخصًا‏.‏

وفي يوم الاثنين ثامنه وصل المصرلية الذين كانوا جهة المشرق ووصلت مقدماتهم إلى جهة العادلية وناحية الشيخ قمر بل وعند الكيمان خارج باب النصر فأغلقوا باب النصر وباب الفتوح والعدوى وهربت سكان الحسينية وحصلت كرشة بالجمالية ولم يخرج إليهم أحد من العسكر بل أخذوا يضربون المدافع من أعلى السور ودخل محمد بك المنفوخ إلى الحسينية وجلس بمسجد البيومي وانتشر المماليك والأتباع على الدكاكين والقهاوى واستمر ضرب المدافع إلى بعد الظهر ثم أن المصرلية ترفعوا عن الحسينية إلى اليشبكية فبطل الرمي ودخل الوالي وأمامه ثلاثة رؤوس تبين أنها رؤوس مغاربة من مقاطيع الحجاج المرضى كانوا مطروحين خارج القاهرة‏.‏

وفيه طلب جماعة المماليك السيد بدرا المقدسي فخرج إليهم من داره خارج باب الفتوح فأخذوه عند البرديسي وإبراهيم بك فأسر إليه إبراهيم بك بأن يكون سفيرًا بينهم وبين الباشا في الصلح معهم وأنه لا يستقيم حاله مع العسكر ولا يرتاح معهم وليعتبر بما فعلوه مع محمد باشا وأما نحن فنكون معه على ما ينبغي من الطاعة والخدمة وحضر في أواخر النهار فلما أصبح يوم الثلاثاء ركب وطلع إلى الباشا وبلغه ذلك فقال له الباشا على سبيل الاختبار والمسايرة قولك صحيح ومن يرجع إليهم بالجواب فقال أنا فحقدها عليه ثم قام من عنده فأرسل خلفه وعوقه عند الخازندار فذهب إليه في ثاني يوم شيخ السادات والسيد عمر النقيب وترجوا في إطلاقه فامتنع وقال أخاف عليه أن يقتله العسكر ولا بأس عليه ولا يصلح إطلاقه في هذا الوقت وبعد خمسة أيام يكون خيرًا فإنه مقيم عند الخازندار في إكرام وفي مكان أحسن من داره وهذا رجل اختيار يفعل هذه الفعال يخرج إلى المخالفين متنكرًا ويرجع من عندهم بكلام ثم يطلب العود إليهم ثانيًا‏.‏ وفي

ليلة الثلاثاء المذكورة حضر محمد على الباشا

بعد الغروب وقبض منه خمسين كيسًا وقيل ثمانين ورجع إلى معسكره فجمع العسكر وتكلم معهم وفرق عليهم الدراهم واتفق معهم على الركوب والهجوم علي من بطرا في تلك الليلة على حين غفلة وكان كاتبهم قبل ذلك يلاطفهم ويظهر العجز ويطلب معهم الصلح وأمثال ذلك وفي ظن أولئك صدقه وعدم قدرتهم على مقاومتهم وملاقاتهم فلما مضى نحو خمس ساعات من الليل ركب محمد علي في نحو أربعة آلاف فراسانًا ورجالًا فلما قربوا من الحرس في آخر السادسة ترجلوا وقسموا أنفسهم ثلاثة طوابير ذهب قسم منهم جهة الدير والثاني جهة المتاريس والثالث جهة الخيل والجماعة وهم صالح بك الألفي ومن معه في غفلتهم ونومهم مطمئنين وكذلك حرسهم فلم يشعروا إلا وقد صدموهم فاستيقظ القوم وبادروا إلى الهرب والنجاة فملكوا منهم الدير وأبراج طرا وكان بها عسكر العثمانيين إلى هذا الوقت محصورين وقد أشرفوا على طلب الأمان وأخذوا مدفعين كانا بالمتراس وبعض أمتعة وثمان هجن وثلاثة عشر فرسًا وقتل بينهم بعض أشخاص وانجرح كذلك ورجع محمد علي والعسكر على الفور من آخر الليل ومعه خمسة رؤوس فيها رأس واحدة لم يعلم رأس من هي والباقي رؤوس عربان أو سياس أو غير ذلك وزعموا أن تلك الرأس هي رأس صالح بك وأرسلوا المبشرين آخر الليل إلى الأعيان ليأخذوا البقاشيش وأشاعوا أنهم قبضوا على الألفي الصغير وأحضروه معهم حيًا والباقي رموا بأنفسهم إلى البحر ولما طلع محمد علي إلى الباشا خلع عليه الفروة التي حضرت هل من الدولة وعلقوا تلك الرؤوس على السبيل بالرميلة وضربوا شنكا من القلعة ومدافع وأظهروا السرور وداروا بالأسواق يضربون بالطنابير وشمخ المغرضون بآنافهم على المغرضين للمصرلية ثم تبين عدم صحة تلك الإشاعة وأن تلك الرأس رأس بعض الأجناد ولم يمسك الألفي كما قالوا‏.‏

وفي يوم الأربعاء عاشره وصل من بحري ثلاث شلنبات

كان الباشا أرسل بطلبها عوضًا عما تلف فعندما وصلوا إلى جهة باسوس وهناك مركز للمصرلية على جرف عال أقعدوا به ليمنعوا من يمر بالمراكب فضربوا عليهم وضرب من في المراكب الحربية أيضًا على من في البر فكان ضرب من في البر يصيب من في البحر وضربهم لا يصيبهم لعلو الجرف عليهم فاحترقت جبخانة إحدى الشلنبات واحترق ما فيها بها وغرقت الثانية ويقال أن الثالثة لم تكن من المراكب الحربية بل هي مكب معاش وكان حضر في خفارتهم عدة من المراكب المسافرين فخافوا ورجعوا وقبضوا على بعض قواويس بها غلال فأخذوا ما فيها فلما شاع ذلك بالمدينة رفعوا ما كان موجودًا من الغلة بالعرصات وشحت الغلال وعدم الفول والشعير وبيع ربع الويبة من الفول بتسعين نصفًا وقل وجود الخبز من الأسواق وخطف بعض العسكر ما وجدوه من الخبز ببعض الأفران وأخذوا الدقيق من الطواحين وصار بعض العسكر يدخل بعض البيوت ويطلبون منهم الأكل والعليق لدوابهم‏.‏

وفي يوم الخميس والجمعة اشتد الحال وبيع ربع الويبة من القمح بسبعين نصفًا وثمانين نصفًا وعدم الفول واشترى بعض من وجده ربعًا بمائة نصف فضة فيكون الأردب على ذلك الحساب بألفين وأربعمائة نصف وخرج عساكر كثيرة ووقعت حروب بين الفريقين ورع القبليون إلى طرا وحاربوا عليها وكانوا شرعوا في عمارة ما تهدم من أبراجها ونقلوا إليها الذخيرة والقومانية والجبخانة والعسكر وأخذوا جمال السقائين لنقل الماء إلى الصهريج الذي ببرج طرا ودار الآغا والوالي على المخازن ببولاق ومصر وأخذوا منها ما وجدوه من الغلة وأمروا ببيعه على الناس بخمسين نصفًا الربع وأخذوا لأنفسهم ما وجدوه من الشعير والفول‏.‏

وفي يوم السبت قلدوا حسن آغانجاتي الحسبة فخافته السوقة واجتهدوا في تكثير العيش والكعك والمأكولات بقدر إمكانهم واجتهد هو أيضًا في الفحص على الغلال المخزونة وبيعها للخبازين وأما اللحم الضاني فإنه انعدم بالكلية لعدم ورود الأغنام‏.‏

وفيه شح ورود الغلة في العرصات وذهب أناس إلى برانبابة فاشتروا الربع بثمانين نصفًا وأزيد من ذلك والقول بمائة وعشرين وعلق أكثر الناس على بهائمهم ما وجدوه من أصناف الحبوب مثل الحمص والعدس وهم المياسير من الناس وأما غيرهم فاقتصروا على التبن وأما العنب والتين في وقت وفرتهما فلم يظهر منهما إلا القليل وبيع الرطل من العنب بأربعة عشر نصفًا والتين بسبعة أنصاف وذلك بعد سلوك الطريق ومشي السفن‏.‏

وفي يوم الأحد رابع عشره اجتمعت العساكر الكثيرة للحرب عند شبرا ورموا على بعضهم بالمدافع والقرابين والبنادق من ضحوة النهار ثم التحم الحرب بين الفريقين واشتد الجلاد بينهما إلى بعد منتصف النهار وصبر الفريقان وقتل بينهما عدة كبيرة من العسكر الأرنؤد وطائفة المماليك والعربان فقتل من أكابر العسكر أربعة أو خمسة ودخلوا بهم المدينة وانكف الفئتان وانحاز إلى معسكرهما وبعد هجمة من الليل اجتمع العسكر من الإنكشارية والأرنؤدية وغيرهم وكبسوا على متاريس شبرا وبها حسين بك المعروف بالإفرنجي وعلي بك أيوب ومعهما عسكر من الأرنؤد الذين انضموا إليهما ومنهم الرماة والطبجية فأجلوهم عن المتاريس وملكوها منهم ووقع بينهم قتلى كثيرة وقتل من عسكر حسين بك المذكور نحو مائة وستين نفرًا وعدة من مماليك علي بك أيوب خلاف الجرحى وزحفوا على باقي المتاريس فملكوا منهم متاريس شلقان وباسوس وانهزم المصرلية إلى جهة الشرق بالخانكة وأبي زعبل وقيل أن العسكر المنضمين إليهم المتقيدين بالمتاريس هم الذين خامروا عليهم وانهزموا عن المتاريس حتى كانوا هم السبب في هزيمتهم فلما أصبح النهار حضروا بسبعة رؤوس فيها ثلاثة من الأجناد الملتحين وثلاثة بشوارب ورأس أسود فعلقوها بباب زويلة ومن الثلاثة أجناد رأس له لحية طويلة شائبة شبيهة بلحية إبراهيم بك الكبير فقال بعض الناس هذه رأس إبراهيم بك بلا شك وأشيع ذلك بينهم فاجتمع الناس من كل ناحية للنظر إليه ووصل الخبر إلى الباشا فأحضر عبد الرحمن بك والمزين الذي كان يحلق له لمعرفتهما به وآخرين وطلب الرأس فأحضروها وتأملوها فمنهم من اشتبهت عليه ومنهم من أنكرها لعلامات يعرفها به وهي الصلع وسقوط الأسنان ثم أعيدت إلى مكانها على ذلك الاشتباه ثم أنهم عملوا شنكا ومدافع لذلك ثم طلبها محمد علي أيضًا وفعل مثل ذلك وردها أيضًا ثم رفعوها في الليل واستمر الفرح والشنك يومين والناس بين ناف ومثبت ومسلم ومنكر ومعاند مكابر حتى وردت خدم من معسكرهم وأخبروا بحياة إبراهيم بك وأنه بوطاقه جهة الشرق فزال الشك وأرسل المصريون إلى بيوتهم أوراقًا‏.‏

وفي ليلة الاثنين المذكور وقع خسوف قمري وطلع من المشرق منخسفًا آخذًا في الانجلاء ومقدار المنخسف منه عشرة أصابع وتم انجلاؤه في ثاني ساعة من الليل وكان بأول برج الدلو‏.‏

وفي ليلة الخميس وصل أمير أخور الصغير من الديار الرومية وطلع إلى بولاق في صبحها وركب إلى القلعة فأنزله الباشا ببيت رضوان كتخدا إبراهيم بك بدرب الجماميز ولم يعلم ما بيده من الأوامر ثم تبين أن من الأوامر التي معه إخراج خمسمائة من العسكر إلى بندر ينبع البحر يقيمون بها محافظين لها من الوهابيين ويدفع لهم جامكية سنة كاملة وذخيرتها وما يحتاجون إليه من مؤونة وغلال وجبخانة‏.‏

وفي يوم الثلاثاء قرؤوا تلك الأوامر وفيها أنه تعين محمد باشا أبو مرق بعساكر الشام إلى الحجاز فأحضر الباشا كبار العسكر وعرض عليهم ذلك الأمر وقال لهم أنه ورد لي إذن عام في تقليد من أقلده فمن أحب منكم قلدته أمرية طوخ أو طوخين فامتنعوا من ذلك وقالوا نحن لا نخرج من مصر ولا نتقلد منصبًا خارجًا عنها ووصلت الأخبار في هذه الأيام أن الوهابيين ملكوا الينبع‏.‏

وفيه وردت الأخبار بأن الألفي عدى إلى البر الشرقي وكان قبل ذلك عدى إلى البر الغربي وانتشرت عساكره إلى الجسر الأسود ثم رجعوا وعدوا إلى البر الشرقي‏.‏

وفي يوم الأربعاء سابع عشره ركب الأمراء المصرلية وانتقلوا من الخانكة ومروا من خلف الجبل بحملاتهم وأثقالهم وذهبوا إلى جهة قبلي وخاب سعيهم ولم ينالوا غرضهم وكان في ظنهم أنهم إذا حصلوا بالقرب من المدينة خرج إليهم الكثير من العسكر وانضم إليهم لمقدمات سبقت منهم مراسلات وكلام وقع بينهم وبين أتباعهم ومماليكهم المجتمعين عند أكابرهم وذبهم عنهم وعن بيوتهم وحريمهم بل وإخراج بعض الأتباع والمماليك بمطلوبات إلى أسيادهم خفية وليلًا حتى استقر في أذهان كثير من العقلاء ممالآت كثير من البنباشايات ورؤساء العسكر مع المصرلية وعندما تحقق العسكر ذهابهم دخلوا إلى المدينة بأثقالهم وحمولهم وانتشروا بها حتى ملؤا الأزقة والطرق والبيوت وقدمت السفن المعوقة وتواجدت الغلال بالرقع وتخلف عنهم أناس كانوا منضمين إليهم طلبوا أمانًا بعد ذلك وحضروا بعد ذلك إلى مصر وقدمت عساكر ودلاة في المراكب ودخلوا البيوت بمصر وبولاق وأخرجوا منها أهلها وسكنوها وإذا سكنوا دارًا أخربوها وكسروا أخشابها وأحرقوها لوقودهم فإذا صارت خرابًا تركوها وطلبوا غيرها ففعلوا بها كذلك وهذا دأبهم من حين قدومهم إلى مصر حتى عم الخراب سائر النواحي وخصوصًا بيوت الأمراء والأعيان وبواقي دور بركة الفيل وما حولها من بيوت الأكابر والقصور التي كانت يضرب بأدناها المثل وفي ذلك يقول صاحبنا العلامة الشيخ حسن العطار وأما بركة الفيل فقد رميت بكل خطب جليل وأورثت العين بوحشتها بكاء وعويلًا والقلب بذكر ما سلف من مباهجها حزنًا طويلًا‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثالث عشرينه طلع المشايخ عند الباشا وشفعوا في السيد بدر المقدسي فأطلقه ونزل إلى داره‏.‏

وفي يوم الخميس خامس عشرينه قلدوا علي آغا الوالي على العسكر المعين إلى الينبع أميرًا وضربوا له مدافع وفرح الناس بعزله من الولاية فإن كان أخبث من تقلد الولاية من العثمنية وكان الباشا يراعي خاطره ولا يقبل فيه شكوى وتعين للسفر معه عدة من العسكر من أخلاط مصر البطالين أروام وخلافهم‏.‏

وفيه قلدوا مناصب كشوفية الأقاليم لأشخاص من العثمانية‏.‏

وفي ثامن عشرينه تشاجر شخص من العسكر مع شخص حكيم فرنساوي عند حارة الإفرنج بالموسكي فأراد العسكري قتل الفرنساوي فعاجله الفرنساوي فضربه فقتله وفر هاربًا فاجتمع العسكر وأرادوا نهب الحارة فوصل الخبر إلى محمد علي فركب في الوقت ومنع العسكر من النهب وأغلق باب الحارة وقبض على وكيل قنصل الفرنساوية وأخذه معه وحبسه عنده حتى سكن العسكر‏.‏

وفي تلك الليلة مر جماعة من العسكر بخط الدرب الأحمر فأرادوا أخذ قنديل من قناديل السوق فقام عليهم الخفير يريد منعهم فذبحوه وأخذوا القنديل فأصبح الناس فرأوا الخفير مذبوحًا وسمعوا القصة من سكان الدور بالخطة ووجدوا أيضًا عسكريًا مقتولًا جهة الموسكي وغير ذلك حوادث كثيرة في كل يوم من أخذ النساء والمردان والأمتعة والمبيعات من غير ثمن وانقضى الشهر‏.‏

وفيه استقر الأمراء المصرلية جهة صول والبرنبل وما قابلهما من البر الغربي واستمر عثمان بك حسن والبرديسي وأتباعهما بالبر الشرقي وشرعوا في بناء متاريس وقلاع بساحل البحر من الجهتين وأرسل الباشا إلى جهة دمياط ورشيد يطلب عدة مراكب وشلنبات لاستعداد الحروب واجتهد في ملء صهاريج القلعة وطلبوا السقائين وألزموهم بذلك فشح الماء بالمدينة وغلا سعره لذلك ولغلو العليق حتى بلغ ثمن الراوية أربعين نصفًا بعد المشقة في تحصيله لأنه لم يبق إلا الروايا الملاكي لأكابر الناس فيمنعها العطاش عند مرورها قهرًا ويدفعون ثمنها بالزيادة واتفق شدة الحر وتوالى هبوب الرياح الحارة وجفاف الجو وتأخير زيادة النيل‏.‏

شهر جمادى الأولى سنة 1219 استهل بيوم الثلاثاء في ذلك اليوم كان مولد المشهد الحسيني ونزل الباشا وزار المشهد ودخل عند شيخ السادات باستدعاء وتغدى عنده ثم ركب راجعًا قبل الظهر إلى القلعة ولم يقع في ليالي المولد حظ للناس ولا انشراح صدور كالعادة بسبب أذية العسكر واختلاطهم بهم وتكديرهم عليهم في الحوانيت والأسواق حتى أنهم في آخر الليلة التي كان من عادتهم يسهرونها مع ليال قبلها إلى الصباح أغلقوا الحوانيت وأطفؤا القناديل من بعد أذان العشاء وذهبوا إلى وفيه قرروا فردة غلال على البلاد قمح وشعير وتين أعلى وأوسط وأدنى الأعلى خمسة عشر أردبًا وخمسة عشر حمل تين والأوسط عشرة والأدنى خمسة على أن إقليم القليوبية لم يبق به إلا خمسة وعشرون قرية فيها بعض سكان والباقي خراب ليس فيها ديار ولا نافخ نار ومجموع المطلوب ثمانية آلاف أردب خلاف التين وذلك برسم ترحيلة علي باشا إلى الينبع ثم قرروا فردة كذلك أيضًا وقدرها ألف وخمسمائة كيس رومية‏.‏

وفي يوم الجمعة رابعه جمع الباشا المشايخ في ديوان خاص بسبب مكتوب حضر من الأمراء المصريين خطابًا للمشايخ مضمونه أنهم يسعون بينهم وبين الباشا فيما يكون فيه الراحة للبلاد والعباد وأنه يخرج هذه العساكر فإنهم إن داموا بالإقليم كملوا خرابه وهتكوه بأفاعيلهم وظلمهم وفسقهم وطلب العلوفات التي لا يفي ببعضها خراج الإقليم وأما نحن فإننا مطيعون السلطنة وخدامون بلا جامكية ولا علوفة وإن لم يفعل ذلك يعطينا جهة قبلي تتعيش فيها وإن أرادوا الرحب فليخرجوا الناس بعيدًا عن الأبنية ويحاربونا في الميدان والله يعطي النصر لمن يشاء إلى آخر ما قالوه فقال الباشا للمشايخ اكتبوا لهم يأخذوا جهة أسنا ومقبلًا فقالوا نحن لا نكتب شيئًا اكتبوا لهم مثل ما تعوفون وانفض المجلس‏.‏

وفيه عزم جماعة من أكابر العسكر على السفر إلى بلادهم م أحمد بك رفيق محمد علي وصادق آغا وخلافهما وأخذوا في تشهيل أنفسهم وبيع متاعهم ونزلوا إلى بولاق عند عمر آغا ونزل محمد علي لوداعهم ببيت عمر آغا فاجتمع العسكر وأحاطوا بهم ومنعوهم من السفر قائلين لهم أعطونا علوفاتنا المنكسرة وإلا عطلناكم ولا ندعكم تسافرون بأموال مصر ومنهوباتها فأخذوا خواطرهم ووعدوهم على أيام وامتنعوا من السفر‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثامنه تقلد شخص من العثمانيين الزعامة عوضًا عن علي آغا الذي تولى باشة السفر للينبع‏.‏

وفي عاشره اجتمع العسكر وطلبوا علوفاتهم من الباشا فدفعوا للأرنؤد جامكية شهر‏.‏

وفي ليلة الجمعة حادي عشر جمادى الأولى الموافق لثاني عشر مسرى القبطي أوفى النيل المبارك سبعة عشر ذراعًا وكسر سد الخليج في صبح يوم السبت يحضر الباشا والقاضي ومحمد علي وباقي كبار العسكر وجميع العسكر وكان جمعًا مهولًا وضرب الجميع بنادقهم وجرى الماء بالخليج وركبوا القوارب والمراكب ودخلوا فيه وهم يضربون بالبنادق وكذلك من كان منهم بالقواطين والبيوت وكان الموسم خاصًا بهم دون أولاد البلد وخلافهم وكذلك سكنوا بيوت الخليج مع قحابهم من النساء ومات في ذلك اليوم عدة أشخاص نساء ورجالًا أصيبوا من بنادقهم ومما وقع أنه أصيب شخص من أولاد البلد برصاصة منهم ومات وحضر أهله يصرخون وأرادوا أخذه ليواروه فمنعهم الوالي وطلب منهم ثلاثة آلاف درهم فضة ولم يمكنهم من شيله حتى صالحوه على ألف وخمسمائة وكذلك من كان منهم بالقواطين والبيوت أذن لهم في أخذه ومواراته ونظر بعضهم إلى أعلى بيوت الخليج فرأى امرأة جالسة في الطاقة فضربها برصاصة فأصابتها في دماغها وماتت من ساعتها وغير ذلك مما لم تتحقق أخباره‏.‏

وفي يوم الأحد ثالث عشره خرج علي باشا الوالي المسافر إلى الينبع خارج البلد وأقام جهة العادلية وارتحل يوم السبت تاسع عشره ومعه مائة عسكري لا غير وذهب إلى جهة السويس‏.‏

وفيه أرسل الباشا إلى المشايخ والوجاقلية وتكلم معهم في توزيع فردة على أهل مصر لغلاق جامكية العسكر فدافعوا بما أمكنهم من المدافعة فقال هذا الذي نطلبه إنما نأخذه على سبيل القرض ثم نرده إليهم فقالوا له لم يبق بأيدي الناس ما يقرضونه ويكفي الناس ما هم فيه من الغلاء ووقف الحال وغير ذلك فالتفت إلى الوجاقلية وقال كيف يكون العمل فقال أيوب كتخدا نعمل جمعية مع السيد أحمد المحروقي ويحصل خير فركن الباشا على ذلك ثم اجتمعوا مع المذكور واتفقوا أنهم يطلبونها بكيفية ليس فيها شناعة ولا بشاعة وهي أنهم قرروا على الوجاقلية قدرًا من الأكياس وكتبوا بها تنابيه بأسماء أشخاص منها ما جعلوا عليه عشرين كيسًا وعشرة وخمسة وأقل وأكثر وكذلك وزعوا على أشخاص من تجار البن وخان الخليلي ومغاربة أغراب وأهل الغورية وخلافهم من تراخي في الدفع قبضوا عليه وأودعوه في أضيق الحبوس ووضعوا الحديد في يديه ورجليه ورقبته ومنهم من يوقفونه على قدميه والجنزير مربوط بالسقف وأرسلوا العسكر إلى بيوتهم فجلسوا بها يأكلون ويسكرون ويطلبون من النساء المصروف خلاف الأكل الذي يطلبونه ويشتهونه وهو ثمن الشراب والدخان والفاكهة بل ويأتون بالقحاب معهم ويضربون بالبندق والرصاص بطول الليل والنهار وأمثال ذلك‏.‏

وفي يوم الخميس رابع عشرينه أرسل الباشا عسكرًا فقبض على الأمير علي المدني صهر ابن الشيخ الجوهري وحبسه فركب إليه المشايخ وكلموه في شأنه وقالوا أنه رجل وجاقلي من خيار الناس وما السبب في القبض عليه وما ذنبه الموجب لذلك فقال أنه رجل قبيح ولي عليه دعوة شرعية وإذا كان من خيار الناس ومن الوجاقلية لأي شيء يعمل كتخدا عند صالح بك الألافي وأنه عند هروب مخدومه من الشرقية أخذ ما كان معه من المال على أربعة جمال ودخل بها إلى داره وعندي بينة تشهد عليه بذلك فأنا أطالبه بالمال الذي عنده وقاموا ونزلوا من غير طائل‏.‏

وفي يوم السبت سادس عشرينه توفي الشيخ موسى الشرقاوي الشافعي وكان من أعيان العلماء الشافعية‏.‏

وفي يوم الاثنين ثامن وعشرينه أحضروا المحمل من السويس فنزل كتخدا الباشا والآغا والوالي وأكابر العسكر وعدة كبيرة من العسكر وعملوا له الموكب وشقوا به البلد وخلفه الطبل والزمر‏.‏

وفي أواخره وصلت قوافل البن من السويس فحجزها الباشا وأخذها وأعطى أصحاب البن وثائق بثمن البن لأجل ووكل في بيعه وحول به العسكر يأخذونه من أصل علوفاتهم قلبغ ثمن المحجوز تسعمائة كيس وانهمك المشترون على الشراء ومنعوا القبانية من الوزن إلا بحضور المقيدين بذلك وانقضى هذا الشهر وحوادثه وما وقع فيه من عكوسات العسكر من الخطف والقتل والدعواوى الكذب وشهاداتهم الزور لبعضهم فيما يدعونه وتواطئهم على ذلك فيكتب له عرضحال ويشكو أنه غصبه في مدة سابقة قبل ذلك طلق منه زوجته قهرًا بعد أن كان صرف عليها مبلغ دراهم كثيرة في المهر والنفقة والكسوة ويكتبون له عليه علامة الباشا ويأخذ صحبته أشخاصًا معينين من أقرانه فيسحبون المدعي عليه إلى المحكمة فلا يثبت عليه ذلك فيكتب له القاضي إعلامًا بعدم صحة الدعوى بدراهم يدفعها على ذلك الإعلام فيذهبون إلى ديوان الباشا ويخبرون الكتخدا ببطلان الدعوى ويطلعون على الإعلام بحضرة الخصم وهو يظن البراح والخلاص من تلك الدعوة الباطلة فيقول الكتخدا للخصم أعط المباشرين خدمتهم خمسة أكياس واذهب وأمثال ذلك فإن وجد شافعًا أو مغيثًا توسط له أو تشفع في تخفيف ذلك قليلًا أو ضمنه أو دفع عنه وأنقذه وإلا حبس كغيره وذاق في الحبس أنواع العذاب حتى يدفع ما قرره عليه الكتخدا واتفق أن جماعة من سكان المحجر شكو أنظار جامع وسبيل ومدرسة متخربة من أيام الفرنسيس ومعطلة الشعائر والإيراد فأمر الكتخدا بإحضار النظار وهم ناس فقراء وعواجز وسألهم فأخبروا بتعطيل الإيراد فأحضروا مباشرين الأوقاف فحاسبوهم فلم يطلع عليهم شيء فقال الكتخدا أعطوا المباشرين خدمتهم فلما فرغوا من ذلك بعد مشقة عظيمة قالوا هاتوا محصول الخزينة فقالوا وما يكون محصول الخزينة قالوا ثلاثون كيسًا من كل ناظر عشرة أكياس فبهت الجماعة وتحيروا في أمرهم ولم يعلموا ما يقولون وفي الحال جذبوهم إلى الحبس وفيهم رجل من جماعة المشهدية عاجز لا يقدر على القيام فسعى عليه حريمة وخشداشينه وصالحوا عليه بكيسين وخلصوه وأما الاثنان الآخران فاستمرا في الحبس والحديد مدة طويلة وأمثال ذلك‏.‏

وفي أواخره أفرجوا عن السيد علي المدني بعدما قرروا عليه أربعة آلاف ريال خلاف البراني وأمثال ذلك كثير‏.‏

شهر جمادى الثانية سنة 1219 استهل بيوم الخميس فيه حضر القاضي الجديد إلى جهة بولاق وركب في يوم الجمعة فطلع إلى القلعة وسلم على الباشا ورجع إلى المحكمة وكان عندما وصل إلى رشيد أرسل إلى الباشا ليأمر له بعمارة المحكمة فأمر الباشا أصحابها بالعمارة وأمرهم بالاجتهاد في ذلك‏.‏

وفيه فقد اللحم وشح وجوده وكذلك السكر والعسل وأما العسل الأبيض فبلغ الرطل خمسين نصفًا إن وجد لعدم الوارد من ناحية قبلي وقلة المرعى بالجهة البحرية واستقر الألفي الكبير جهة اللاهون وبقية الجماعة جهة المنية وأسيوط وعثمان بك حسن بجبل الطير بالبر الشرقي‏.‏

وفي خامسه أشيع سفر محمد علي إلى بلاده وكذلك أحمد بك وغيرهم من أكابرهم وشرعوا في بيع جمالهم وبلادهم ومتاعهم وكثر لغط الناس بسبب ذلك وكثر إفساد العساكر وخطفهم وأغلق أهل الأسواق الدكاكين وخاف الناس المرور وتطيروا منهم وخصوصًا الإنكشارية‏.‏

وفي يوم الثلاثاء سادسه مر محمد علي وخلفه عدة كبيرة من العسكر وهو ماش على أقدامه وكذلك حسن بك أخو طاهر باشا وعابدي بك وآغات الإنكشارية والوالي وجلس منهم جماعة جهة الغورية وخان الخليلي ساعة ثم ذهبوا وكأنهم يطمنون الناس وأمام بعضهم المناداة بالتركي بالأمن والأمان وفتح الدكاكين وكل من تعرض لكم اقتلوه وفي أثر مرورهم وقع الخطف والتعرية‏.‏

وفي ذلك اليوم أواخر النهار مت مركبان فيهما عسكر أرنؤد بالخليج المرخم ومعهم امرأة وبتلك الجهة عسكر إنكشارية ساكنون ببيت المجنون فضربوا عليهم رصاصًا من الشبابيك فقتل منهم جماعة وهرب من نجا أو عرف العوم فتحزب الأرنؤد وجاء منهم طائفة لذلم البيت فلم يجدوا به أحدًا فأرسل محمد علي إلى حسن بك وتكلم معه في شأن ذلك‏.‏

وفي صبحها يوم الأربعاء قتلوا ثلاثة وقيل خمسة ناحية الموسكي يقال أنه بسبب تلك الحادثة وقيل بسبب آخر‏.‏

وفيه سافر جماعة من العسكر وأخذوا المراكب وأرسلوا إلى سكندرية ودمياط ورشيد وغيرها بطلب المراكب فشحت المراكب ووقف حال المسافرين وتعطلوا عن الرواح والمجيء وغلا سعر القمح والسمن وعدم اللحم وكذلك باقي الأسباب والمأكولات زيادة عن الواقع وإذا وصلت مراكب نزل في المراكب الكبيرة الخمسة أنفار أو العشرة والحال أنها تسع المائة وساروا ينهبون في طريقهم ما يصادفونه من المسافرين ويقتلونهم ويطلبون من البلاد الكلف والمأكل وغير ذلك‏.‏

وفي يوم السبت سابع عشره سافر أحمد بك وعلي بك أخو طاهر باشا‏.‏

وفيه قلد الباشا سلحداره ولاية جرجا وبرز خيامه جهة دير العدوية‏.‏

وفي يوم الخميس ثاني عشرينه وصلت مراكب من الشلنبات الحربية فضربوا لها مدافع من وفي يوم الأحد تعدى جماعة من العسكر وخطفوا عمائم الناس واتفق أن الشيخ إبراهيم السجيني مر من جهة الداودية وهو راكب بهيئته فأخذوا طيلسانه من على كتفه وعمامة تابعه وقتلوا من بعضهم أنفارًا‏.‏

وفي يوم الاثنين نزل الآغا ونادى على العسكر بالخروج والسفر إلى التجريدة وكل من كان مسافر إلى بلاده فليسافر‏.‏

وفيه هربت زوجة عثمان بك البرديسي مع العرب إلى زوجها بقبلي فلما بلغ الخبر الباشا أحضر أخاها والمحروقي وسألهما عنها فقالا لم نعلم بهروبها فعوق أخاها عنده ثم أطلقه بشفاعة المحروقي‏.‏

شهر رجب الفرد سنة 1219 استهل بيوم السبت فيه انتقل العسكر المسافرون من دير العدوية إلى ناحية طرا وسافر قبل ذلك بأيام كاشف بني سويف ويقال له محمد أفندي‏.‏

وفي يومي الاثنين والثلاثاء نادى الآغاوات التبديل بخروج العسكر المسافرين وكثر أذى العسكر للناس وخطفوا الحمير وتعطلت أشغال الناس في السعي إلى مصالحهم ونقل بضائعهم‏.‏

وفي يوم الأربعاء سافرت التجريدة برًا وبحرًا وتأخر محمد علي عن السفر إلى بلاده كما كان أشيع ذلك واشتهر أنه مسافر إلى جهة قبلي وورد الخبر باستقرار كاشف بني سويف بها ولم يكن بها أحد من المصرلية‏.‏

وفي يوم الأحد تاسعه نزل الباشا إلى وليمة عرس مدعوًا ببيت السيد محمد بن الدواخلي بحارة الجعيدية وكفر الطماعين ونزل في حال مروره ببيت السيد عمر أفندي نقيب الأشراف فجلس عنده ساعة وقدم له حصانين‏.‏

وفي حادي عشره نزل الباشا في التبديل ومر من سوق السمكرية فرأى عسكريًا يشتري كوز صفيح فأعطاه خمسة أنصاف فأبى السمكري إلا بعشرة فأبى ولم يدفع له إلا خمسة فرآه الباشا فقال له أعطه ثمنه فقال له وإيش علاقتك وهو لم يعرفه فقال له أما تخاف من الباشا فقال الباشا على زبي فضربه الباشا وقتله ومضى‏.‏

وفي يوم الاثنين سابع عشره أحضروا أربعة رؤس وضعوها تجاه باب زويلة وأشاعوا أنهم من مقتلة وقعت بينهم وبين القبالى وأشاعوا أنه بعد يومين تصل رؤس كثيرة ووصل أيضًا جملة أسرى طلعوا بهم إلى القلعة‏.‏

وفي يوم الأربعاء طلع محمد علي إلى القلعة فخلع عليه الباشا فروة سمور على سفره إلى قبلي وفي يوم الأربعاء سادس عشرينه اتهموا قادري آغا بأنه يكاتب الأمراء المصرلية القبالى ومنعوه من السفر إلى قبلي وأمروه بأن يسافر إلى بلاده فركب في عسكره وذهب إلى بولاق وفتح وكالة علي بك الجديدة ودخل فيها بعسكره وامتنع بها وانضم إليه كثير من العسكر فحضر إليه محمد علي وكلمهم وكذلك حضر إليهم الباشا ببولاق فلم يمتثلوا وقالوا لا نسافر ولا نذهب إلا بمرادنا وأعطونا المنكسر من علوفاتنا فتركوهم ونادوا على خبازين بولاق لا يبيعون عليهم الخبز ولا المأكولات فأرسل قادري آغا إلى المحتسب وقال له نحن نأخذ العيش بثمنه فإن منعتموه من الأسواق طلعنا إلى البيوت وأخذنا ما فيها من الخبز ويترتب على ذلك ما يترتب من الإفساد فأخبروا الباشا بذلك فأطلقوا لهم بيع الخبز وغيره واستمر على ذلك أيامًا‏.‏

وفيه شرعوا في تحرير فردة على البلاد وكتبوا دفاترها إلا على ثمانون ألف فضة ودون ذلك ويتبعها على كل بلد جملان وسمن وأغنام وقمح وتبن وشعير‏.‏

وفي أواخره حصلت نوة وتتابع مرور الغيوم وحصل رعد هائل ودخل الليل فكثر الرعد والبرق وتبعه المطر ثم حضر أناس بعد أيام من جهة شرقية بلبيس وأخبروا أنه نزل بناحية مشتول صواعق أهلكت نحو العشرين من بني آدم وأبقارًا وأغنامًا وعميت أعين أشخاص من الناس‏.‏

وفي هذا الشهر شرعوا في عمل كسوة الكعبة بيد السيد أحمد المحروقي فقيد بها وكيله بذلك

شهر شعبان سنة 1219

استهل بيوم الأحد في رابعه حضر لحسن بك طوخان وطلع إلى القلعة ونزل إلى الباشا ولبس خلعة من خلع الباشا وقاووقًا وركب ونزل من القلعة وأمامه الجاويشية والسعاة والملازمون وضربت له النوبة بمعنى أنه صار عوضًا عن أخيه‏.‏

وفي يوم الخميس نزل قادري آغا ومن معه من العسكر في المراكب وسافر جهة بحري وسافر خلفهم عدة من الدلاة‏.‏

وفيه أشيع إبطال الفردة في هذا الوقت ثم قرروا مطلوبات دون ذلك‏.‏

وفي يوم الخميس ثاني عشره نودي بخروج العسكر إلى السفر لجهة قبلي ولا يتأخر منهم من كان مسافرًا فشرعوا في الخروج وقضاء حوائجهم وصاروا يخطفون حمير الناس والجمال‏.‏

وفي يوم الجمعة وصل قاصد من الديار الرومية وعلى يده فرمان جواب على مراسلة للباشا بإرسال باشة الينبع لمحافظتها من الوهابيين وأنه أعطاه ذخيرة شهرين وبأن يرسل إليه ما يحتاجه من الذخيرة وكذلك محمد باشا والي جدة يعطي له ما يحتاجه من الذخيرة لأجل حفظ الحرمين والوصية برعية مصر ودفع المخالفين وأمثال ذلك فعمل الباشا الديوان في ذلك اليوم وقرأوا وفيه مات الشيخ حجاب‏.‏

وفي يوم السبت رابع عشره سافر محمد علي‏.‏

وفيه هرب علي كاشف السلحدار الألفي ومن بمصر من جماعته فلما وصل الخبر إلى الباشا أرسل إلى بيوتهم قلم يجد فيها أحدًا فسمروها وقبضوا على الجيران ونهبوا بعض البيوت‏.‏

وفي سابع عشره سافر حسن باشا أيضًا ونادوا على العسكر بالخروج‏.‏

وفي تاسع عشره حضر طائفة من الدلاة نحو المائتين وخمسين نفرًا فأنزلهم الباشا بقصر العيني‏.‏

وفي يوم الثلاثاء المذكور سابع عشره عمل السيد أحمد المحروقي وليمة ودعا الباشا إلى داره فنزل إليه وتغدى عنده وجلس نحو ساعتين ثم ركب وطلع إلى القلعة فأرسل المحروقي خلفه هدية عظيمة وهي بقج قماش هندي وتفاصيل ومصوغات مجوهرة وشمعدانات فضة وذهب وتحائف وخيول له ولكبار أتباعه صحبة ولده وترجمانه وكتخداه وخلع عليهم الباشا فراوى سمور‏.‏

وفي يوم الأحد ثاني عشرينه توفي السيد أحمد المحروقي فجأة وكان جالسًا مع أصحابه حصة من الليل فأخذته رعدة فدثروه ومات في الحالفي سادس ساعة من الليل فسبحان الحي الذي لا يموت وركب ابنه وطلع إلى الباشا فوعده الباشا بخير وأرسل القاضي وديوان أفندي وختم على بيته وحواصله ثم حضروا في ثاني يوم فضبطوا موجوداته وكتبوها في دفاتر وأودعوها في مكان وختموا عليها وأرسلوا علم ذلك إلى الدولة صحبة صالح أفندي وكان على أهبة السفر فعوقوه حتى حرروا ذلك وسافر في يوم الجمعة سابع عشرينه‏.‏

وفي يوم الأربعاء خامس عشرينه أحضروا إحدى وعشرين رأسًا لا يعلم ما هي وهي متغيرة محشوة بالتبن وأشاعوا أنها من ناحية المنية وأنهم حاربوا عليها وملكوها ولم يظهر لذلك أثر بين‏.‏

وفي يوم السبت ثامن عشرينه ألبس الباشا ابن السيد المحروقي فروة سمور وقفطانًا على دار الضرب وعلى ما كان أبوه عليه من خدمة الدولة والالتزام ونزل من القلعة صحبة القاضي إلى المحكمة ثم رجع إلى بيته‏.‏

وفي ذلك اليوم بعد العصر وقع ربع بجوار حمام المصبغة جهة الكعكيين على الحمام فهدم ليوان المسلخ فمات من به من النساء والأطفال والبنات ثلاثة عشر وخرج الأحياء من داخله وهم عرايا ينفضن غبرات الأتربة والموت وحضر الآغا والوالي ومنعوا من رفع القتلى إلا بدراهم ونهبوا متاع النساء وقبضوا على الشيخ محمد العجمي مباشر وقف الغوري ليلًا وأزعجوه لأن ثلث الحمام جار في الوقف والحال أن الحمام لم يسقط وإنما هدمه ما سقط عليه وكذلك طلبوا ملاك الربع وهم الشيخ عمر الغرياني وشركاؤه فذهبوا إلى بيت الشيخ الشرقاوي والتجؤا إليه ثم أن القاضي كلم الباشا في أمر المردومين وذكر له طلب الحاكم دراهم على رفعهم واجتماع مصيبتين على أهليهم والتمس منه إبطال ذلك الأمر فكتب فرمانًا بمنع ذلك ونودي به في البلدة وسجل‏.‏

وفي ليلة الاثنين عمل موسم الرؤية ثبوت هلا رمضان وركب المحتسب ومشايخ الحرف على العادة من بيت القاضي ولم يثبت الهلال تلك الليلة ونودي أنه من شعبان وانقضى شهر شعبان وقادري آغا عاص جهة شابور في قرية وصالح آغا ومن معه من العساكر مستمرون على حصاره وصحبتهم أخلاط من العربان وجلا أهل شابور عنها وخرجوا على وجوههم مما نزل بهم من النهب وطلب الكلف وغير ذلك من العاصي منهم والطائع فإن كلا الفريقين تسلطوا على نهب البلاد وطلب الكلف وغيرها وإذا مرت بهم مركب نهبوها وأخذوا ما فيها فامتنع ورود المراكب وزاد الغلاء وامتنع وجود السمن وإذا وجد بيع العشرة أرطال بخمسمائة نصف فضة وستمائة ولا يوجد وبيع الرطل من البصل في بعض الأيام بثمانية أنصاف والأردب الفول بثمانية عشر ريالًا والقمح بستة عشر ريالًا والرطل الشمع الدهن بأربعين نصفًا والشيرج بخمسة وثلاثين نصفًا وأما زيت الزيتون فنادر الوجود وقس على ذلك‏.‏

استهل بيوم الثلاثاء في ثانيه حضر صالح آغا الذي كان يحاصر قادري آغا وضربوا له مدافع وتحقق أن قادري طلب أمانًا فأرسلوا مع من معه إلى دمياط وذلك بعد أن ضيقوا عليه وحضر إليه كاشف البحيرة وضايقه من الجهة الأخرى وفرغت ذخيرته فند ذلك أرسل إلى كاشف البحيرة فأمنه‏.‏

وفي سابعه وصل جماعة من الإنكليز إلى مصر وهم نحو سبعة عشر شخصًا وفيهم فسيال كبير وآخر كان بصحبة علي باشا الطرابلسي‏.‏

وفي عاشره سافر صالح آغا إلى جهة بحري قيل ليأتي بجانم أفندي الدفتردار فإنه لم يزل عاصيًا عن الحضور إلى مصر‏.‏

وفيه ركب الباشا في التبديل ونزل من جهة التبانة فوجد في طريقه عسكريًا يأخذ حمل تبن من صاحبه قهرًا فكلمه وهو لم يعرفه فأغلظ في الجواب فقتله ثم نزل إلى جهة باب الشعرية وخرج على ناحية قناطر الإوز فوجد جماعة من العسكر غاصبين قصعة زبدة من رجل فلاح وهو يصيح فأدركهم وهم سبعة وفيهم شخص ابن بلد أمرد لابس ملابس العسكر فأمر بقتلهم فقبضوا على ثلاثة منهم وفيهم ابن البلد وقتلوهم وهرب الباقون ثم نزل إلى ناحية قنطرة الدكة وقتل شخصين أيضًا وبناحية بولاق كذلك وبالجملة فقتل في ذلك اليوم نيفًا وعشرين شخصًا وأراد بذلك الإخافة فانكف العسكر عن الإيذاء قليلًا وتواجد السمن وبعض الأشياء مع غلو الثمن‏.‏

وفيه تواترت الأخبار بوقوع حرب بين العسكر والأمراء المصريين في المنية وقتل من الأمراء صالح بك الألفي ومراد بك من الصناجق الجدد المقلدين الإمارة خارج مصر وهو زوج امرأة قاسم بك وخازندار البرديسي سابقًا موسقو ولم تزل الحرب قائمة بين الفريقين وأرسلوا بطلب ذخيرة وعلوفة فأرسلوا لهم بقسماطًا وغيره‏.‏

وفي عشرينه حضر إلى الباشا بعض الرواد وأخبره أن طائفة من عرب أولاد علي نزلوا ناحية إليهرام بالجيزة وهم مارون يريدون الذهاب إلى ناحية قبلي فركب في عسكره إليهم فوجدهم قد ارتحلوا ووجد هناك قبيلة يقال لهم الجوابيص نازلين بنجعهم هناك وهم جمعة مرابطون من خيار العرب لم يعهد منهم ضرر ولا أذية لأحد فقتل منهم جماعة ونهب نجعهم وجمالهم وأغنامهم وأحضر صحبته عدة أشخاص منهم وعدى إلى مصر بمنهوباتهم وقد باع الأغنام والمعز للجزارين قهرًا وكذلك الجمال باعوا منها جملة بالرميلة‏.‏

وفي سادس عشرينه نهب العربان قافلة التجار الواصلة من السويس وهي نيف وأربعة آلاف جمل من البن والبهار والقماش وأصيب فيها كثير من فقراء التجار وسلبت أموالهم وأصبحوا لا وفيه حضر صالح آغا وصحبته جانم أفندي الدفتردار فأسكنه الباشا بالقلعة وذكر جانم أفندي المذكور ومن معه للباشا أنهم رأوا هلال رمضان ليلة الاثنين صاموه بالإسكندرية ذلك اليوم وكذلك صاموه في رشيد وقوة وغالب بلاد بحري وحضر أيضًا الشيخ سليمان الفيومي قبل ذلك بأيام وحكى ذلك فلم يعمل به القاضي وقال أن رؤى الهلال ليلة الأربعاء أفطرانا وإن لم ير فهو من رمضان فلما كان بعد عصر ذلك اليوم ضربت مدافع من القلعة فاشتبه على الناس الأمر وذهب جماعة إلى القاضي وسألوه فقال لا علم لي بذلك وأرسل في المساء جماعة من أتباعه وباش كاتب إلى منارة المارستان فصعدوا إليها وطلع معهم آخرون وترقبوا رؤية الهلال فلم يروه وأخبروا القاضي بذلك فأمر بالصوم ونادوا به وأوقدوا المنارات والقناديل وصلوا التراويح بالمساجد وتحقق الناس الصيام من الغد فلما كان بعد العشاء الأخيرة ضربت مدافع كثرة وسواريخ وشنك فوقع الارتباك فأرسل القاضي ينادي بالصوم وذكروا أن هذا السموع شنك لإخبار وردت بملك لمنية وحضر المبشر بذلك لابن السيد أحمد المحروقي وخلع عليه خلعة وكذلك بقية الأعيان وبعد حصة مر الوالي ينادي بالفطر والعيد فزاد الارتباك وركب بعض المشايخ إلى القاضي وسأله فأخبر أنه لم يأمر بذلك ولم يثبت لديه رؤية الهلال وأن غدًا من رمضان فخرجوا من عنده يقولون ذلك للناس ويأمرونهم بالصوم وانحط الأمر على ذلك وطافت المسحرون على العادة فلما كان في سادس ساعة من الليل أرسل الباشا إلى القاضي وطلبه فطلع إليه فعرفه بشهادة الجماعة الواصلين من بحري وأحضرهم بين يديه فشهدوا برؤية هلال أول الشهر ليلة الاثنين وهم نحو الشعرين شخصًا فما وسع القاضي إلا قبول شهادتهم وخصوصًا لكونهم أتراكًا ونزل القاضي ينادي بالفطر ويأمر بطفي القناديل من المنارات وأصبح كثير من الناس لا علم له بما حصل آخرًا في جوف الليل وبالجملة فكانت هذه الحادثة من النوادر وتبين أن خبر المنية لا أصل له بل هو من جملة اختلاقاتهم وانقضى شهر رمضان وكان لا بأس به في قصر النهار لأنه كان في غاية الانقلاب الشتوي والراحة بسبب غياب العسكر وقلتهم بالبلدة وبعدهم ولم يحصل فيه من الكدورات العامة خصوًا على الفقراء سوى غلاء الأسعار في كل شيء وكما تقدم ذكر ذلك في شعبان‏.‏

شهر شوال سنة 1219 استهل بيوم الأربعاء في ثالثه سافر السيد محمد بن المحروقي وجرجس الجوهري ومعهما جملة من العسكر إلى جهة القليوبية بسبب القافلة المنهوبة‏.‏

وفي سادسه طلبوا مال الميري عن سنة عشرين معجلة بسبب تشهيل الحج وكتبوا التنابيه بطلب النصف حالًا وعينوا بها عساكر عثمانية وجاويشية وشفاسية فدهى الملتزمون بذلك مع أن أكثرهم أفلس وباق عليهم بواق من سنة تاريخه وما قبلها لخراب البلاد وتتابع الطلب والفرد والتعايين والشكاوى والتساويف ووقوف العربان بسائر النواحي وتعطيل المراكب عن السعر لعدم الأمن وغصبهم ما يرد من السفائن والمعاشات ليرسلوا فيها الذخيرة والعسكر والجبخانة معونة للمحاربين على المنية‏.‏

وفي عاشره طلبوا طائفة من المزينين وأرسلوهم إلى قبلي لمداواة الجرحى‏.‏

وفيه تواترت الأخبار بحصول مقتلة عظيمة بين المتحاربين وأن العسكر حملوا على المنية حملة قوية من البر والبحر وملكوا جهة منها وحضر المبشرون بذلك ليلة الأربعاء أواخر رمضان كما تقدم وعملوا الشنك لذلك الخبر فورد بعد ذلك ساعتين برجوع الأخصام ثانيًا ومقاتلتهم حتى هزموهم وأجلوهم عن ذلك وذلك هو الحامل على المغالطة والمناداة في سابع ساعة بثبوت العيد وإفطار الناس ذلك اليوم‏.‏

وفي يوم السبت ثامن عشره نزل الباشا إلى قراميدان وحضر القاضي والدفتردار وأمير الحاج فسلمه الباشا المحمل ونزلوا بقطع الكسوة أمام أمير الحاج وركب أمامه الآغا والوالي والمحتسب وناظر الكسوة بهيئة محتقرة من غير نظام ولا ترتيب ومن خلفهم المحمل على جمل صغير أعرج‏.‏

وفيه أرسل العسكر يطلبون العلوفة والمعونة فعمل الباشا فردة على الأعيان وعلى أتباعه وجمع لهم خمسمائة كيس وعين للسفر بذلك صالح آغا وعدة عساكر وجبخانة وذخيرة‏.‏

وفي عشرينه رجع ابن المحروقي وجرجس الجوهري وأحضرا معهما بعض أحمال قليلة بعد ما صرفا أضعافها في مصالح وكساوى للعرب وغير ذلك‏.‏

وفيه ورد الخبر بوصول دفتردار جديد إلى ثغر سكندرية وهو أحمد أفندي الذي كان بمصر سابقًا وعمل قبطانًا بالسويس في أيام محمد باشا وشريف أفندي فكتب الباشا عوضًا للدولة بأنهم راضون على جانم أفندي الدفتردار وأن أهل البلد ارتاحوا عليه وطلبوا إبقاءه دون غيره وختم عليه القاضي والمشايخ والإختيارية وبعثوه إلى الدولة وأرسلوا إلى الدفتردار الواصل بعدم المجيء ويذهب إلى قبرص حتى يرجع الجواب فاستمر باسكندرية‏.‏

وفي أواخره تواترت الأخبار بأن جماعة من الأمراء القبالي ومن معهم من العربان حضروا إلى ناحية الفشن وحضر أيضًا كاشف الفيوم مجروحًا ومعه بعض عسكر ودلاة في هيئة وتتابه ورود كثير من أفراد العسكر إلى مصر وأشيع انتقالهم من أمام المنية إلى البر الشرقي بعد وقائع كثيرة ومحاربات‏.‏

وفي يوم الخميس غايته برز أمير الحاج المسافر بالمحمل وخرج إلأى خارج ومعه الصرة أو ما تيسر منها وعين للسفر معه عثمان آغا الذي كان كتخدا محمد باشا بجماعة من العسكر لأجل المحافظة ليوصلوه إلى السويس ويسافر من القلزم مثل عام أول‏.‏

وفيه ورد الخبر بضياع ثلاث داوات بالقلزم وأنها تلفت بالقرب من الحساني وتلف بها كثير من أموال التجار وصرر النقود وكان بها قاضي المدينة أحمد أفندي المنفصل عن قضاء مصر فغرق وطلعت أولاده ورجعوا إلى مصر بعد أيام وسافروا إلى بلادهم‏.‏

وورد الخبر بأن القبليين قتلوا حسين بك المعروف باليهودي بعد أن تحققوا خيانته ومخامرته وانقضى هذا الشهر‏.‏

شهر القعدة الحرام سنة 1219 استهل بيوم الجمعة فيه قرر الباشا فردة على البلاد فجعل على كل بلد من البلاد العال مائة ألف فضة والدون ستين ألأفًا وعين لذلك ذا الفقار كتخدا الألفي على الغربية وعلي كاشف الصابونجي على المنوفية وحسن آغا نجاتي المحتسب على الدقهلية وذلك خلاف ما تقرر على البنادر من عشرين كيسًا وثلاثين وخمسين ومائة وأقل وأكثر‏.‏

وفي ليلة الجمعة ثامنه حضروا بعلي آغا يحيى المعروف بالسبع قاعات ميتًا من سملوط وقد كانوا أرسلوه ليكون كتخدا لحسن بك أخي طاهر باشا وكان المحروقي أرسله إلى بشبيش فتوعك هناك فطلب الباشا رجلًا من الرؤساء يجعله كتخدا لحسن بك فأشاروا عليه بعلي آغا هذا فطلبه من المحروقي فأرسل بإحضاره فحضر في اليوم الذي مات فيه المحروقيوسافر بعد أيام إلى قبلي فزاد به المرض هناك ومات بسملوط فأحضروه إلى مصر بعد موته بخمسة أيام وخرجوا بجنازته في يوم الجمعة من بيته المجاور لبيت المحروقي وصلوا عليه بالأزهر ودفن إلى رحمة الله تعالى‏.‏

وفي ثاني عشره علقوا ثلاثة رؤوس بباب زويلة لا يدري أحد من هم‏.‏

وفي خامس عشره تواترت الأخبار بوقوع حرب بين العسكر والأمراء القبالي وملك العسكر جهة من المنية بعدما اصطدموا عليها من البر والبحر فوصل الأخصام وحالوا بينهم وبين عسكرهم والمتاريس وأجلوهم وقتل من قتل بين الفريقين واحترق عدة مراكب من العسكر وما فيها من المتاع والجبخانة وأرسلوا بطلب ذخيرة وجبخانة وثياب وغير ذلك وانتشر عسكر القبليين إلى جهة بحري حتى وصلوا إلى زاوية المصلوب وحاصروا من في بوش والفشن وبني سويف وكذلك من بالفيوم وشرع الباشا واجتهد في تجهيز المطلوبات وتشهيل الاحتياجات‏.‏

وفيه حضرت سعاة من ثغر سكندرية وأخبروا بورود عدة مراكب إنجليزية إلى المينا وسألوا وفي ليلة الأربعاء رابع عشره وقعت حادثة وهو أن كشفًا من أكابر الأرنؤد سكن ببيت ابن السكري الذي بالقرب من الحلوجي ويتردد عليه رجل من المنتسبين إلى الفقهاء يسمى الشيخ أحمد البراني خبيث الأفعال يصلي إمامًا بالذكور فرأى مارًا به مع فراشه فضربه بالخنجر والنبابيت حتى ظن هلاكه وأخرجه أتباعه وحملوه إلى منزله في خامس ساعة من الليل وبه بعض رمق ومات بعد ذلك وأخبر المشايخ بذلك ورفع القتيل إلى المحكمة وتغيب القاتل وامتنع المشايخ من حضور الجامع والتدريس بسبب ذلك وبسبب أولاد سعد الخادم سدنة ضريح سيدي أحمد البدوي وقد كانوا شكوا بعضهم وتعين بسبب ذلك كاشف علي أحمد بن الخادم وهجم داره وقبض على بناته ونسائه ونبشوا داره وفحروا أرضها للتفتيش على المال وطالت قصتهم من أواخر الشهر الماضي لوقت تاريخه وتكلم المشايخ مرارًا مع الباشا في أمرهم وهو يغالط طمعًا في المال وقد كان سمع تهمتهم بكثرة المال وأن محمد باشا خسر وأخذ منهم سابقًا في أيام ولايته مائة وخمسة وثمانين ألف ريال خلاف حق الطريق وذلك من مصطفى الخادم وهو الذي يشكو الآن قسمه ويقول أنه هو الذي شكاني وتسبب في مصادرتي وهو مثلي في الإيراد وعنده مثل ما عندي فلما حضروا الدار وفتشوا وقرروا نساءه وأتباعه فلم يظهر له شيء قادرجوا هذه القضية في دعوة المقتول وامتنعوا من حضورهم الأزهر وأشيع امتناعهم من التدريس والإفتاء فحضر إليهم سعيد آغا الوكيل وتلطف بهم وطلب منهم تسكين هذه الفتنة وأنه يتكفل بتمام المطلوب واستمر الحال على ذلك إلى يوم الثلاثاء تاسع عشره فحضر الكتخدا الباشا وسعيد آغا وصالح آغا إلى بيت الشيخ الشرقاوي واجتمع هناك الكثير من المتعممين وتكلموا كثيرًا ورمحوا المراتب وقالوا لا بد من حضور الخصم القاتل والمرافعة معه إلى الشرع ورفع الظلم عن أولاد الخادم وعن الفلاحين وأمثال ذلك وهم يقولون في الجواب سمعًا وطاعة في كل ما تأمرون به وانقضى المجلس على ذلك وذهبوا حيث أتوا فلما كان العصر من ذلك اليوم حضر سعيد آغا وصحبته القاتل إلى المحكمة وأرسلوا إلى المشايخ فحضروا المجلس وأقيمت الدعوى وحضر ابن المقتول وادعى بقتل أبيه وذكر أنه أخبر قبل خروج روحه أن القاتل له الكاشف صاحب المنزل فسئل فأنكر ذلك وقال أنه كان إمامًا عنده يصلي به الأوقات وأنه لم يأت إلينا تلك الليلة التي حصل له فيها هذا الحادث فطلب القاضي من ابن المقتول بينة تشهد بقول أبيه فلم يجدوا إلا شخصًا سمع من المقتول ذلك القول وأفتى المالكي أنه يعتبر قول المقتول في مثل ذلك لأنه في حالة يستحيل عليه فيها الكذب وذلك نص مذهبهم ولا بد من بينة تشهد على قوله فطلب القاضي الشطر الثاني فلم يوجد على أن هناك من كان حاضرًا بالمجلس وقت الضرب ومشاهدًا للحادثة وكتم وفي يوم الأحد عزم على السفر محمد أفندي حاكم أسنا سابقًا بمراكب الذخيرة والجبخانة واللوازم وصحبته عدة من العساكر لخفارتها‏.‏

شهر الحجة الحرام سنة 1219 استهل بيوم الأحد في سابعه وردت أخبار بوقوع حرب بين العسكر والمصريين القبليين وهو أن العسكر حملوا على المنية حملة عظيمة في غفلة وملكوها فاجتمعت عليهم الغز والعربان وكبسوا عليهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأخرجوهم منها وأجلوهم عنها ثانيًا وذلك في سابع عشرين القعدة‏.‏

وفي يوم الأحد ثامنه طلع يوسف أقندي الذي كان تولى نقابة الأشراف في أيام محمد باشا ثم عزل عنها إلى القلعة فقبض عليه صالح آغاقوش وضربه ضربًا مبرحًا وأهانه إهانة زائدة وأنزلوه أواخر النهار وحبسوه ببيت عمر أفندي النقيب ثم تشفع فيه الشيخ السادات فأفرجوا عنه تلك الليلة وذهب إلى داره ليلًا وذلك بسبب دعوى تصدر فيها المذكور وتكلم كلامًا في حق الباشا فحقدوا عليه ذلك وفعلوا معه ما فعلوا ولم ينتطح فيها عنزان‏.‏

وفي ثالث عشره طلع المشايخ إلى الباشا يهنئونه بالعيد فأخرج لهم ورقة حضرت إليه من محمد أفندي حاكم أسنا سابقًا الذي سافر بالذخيرة آنفًا واستمر ببني سويف ولم يقدر على الذهاب إلى قبلي ومضمون تلك الورقة أن البرديسي قتل الألفي غيلة ولم يكن لهذا الكلام صحة‏.‏

وفيه وردت الأخبار بقدوم طائفة من الدلاة على طريق الشام وبالغواني عددهم فيقولون اثنا عشر ألف وأكثر وأنهم وصلوا إلى الصالحية وأنهم طالبون علوفة وذخيرة فشرعوا في تشهيل ملاقاة للمذكورين وطلبوا من تجار البهار خمسمائة كيس وزعوها وشرعوا في جمعها‏.‏

وفيه وصلت طائفة من القبالي والعرب إلى بلاد الجيزة وطلبوا من البلاد داهم وكلفًا ومن عصى عليهم من البلاد ضربوه وعدى كتخدا الباشا وجملة من العساكر إلى بر الجيزة وشرعوا في تحصينها وعملوا بها متاريس وتردد الكتخدا في النزول والتعدية إلى هناك والرجوع ثم أنه عدى في رابع عشره وأقام هناك وأحضروا ثلاثة رؤوس من العرب في ذلك اليوم وفي يوم الجمعة رجع الكتخدا وأشيع رجوع المذكورين‏.‏

وفيه قرروا فردة أخرى على البلاد لأجل عسكر الدلاة القادمين وجعلوا على كل بلد عشرين أردب فول وعشرين خروفًا وعشرين رطل سمن وعشرين رطل بن وعشرة قناطير عيش وربع أردب وسدس أرز أبيض ومثله برغل وكلفة المطبخ ألف فضة وذلك خلاف حق الطريق وفي يوم الأربعاء ثامن عشره حضر ططري من ناحية قبلي وأخبر أن العسكر دخلوا إلى المنية وملكوها فضربوا مدافع كثيرة من القلعة وعملوا شنكًا وأظهر العثمانية وأغراضهم الفرح والسرور وكأنهم ملكوا مالطة وبالغوا في الأخبار والروايات الكذب في القتلى وغير ذلك والحال أن الأخصام خرجوا منها وزحموها ولم يبقوا بها ما ينقره الطير ولم يقع بينهم كبير قتال بل أن العسكر لما دهموها من الناحية القبلية ولم يكن بها إلا القليل من المصريين وباقيهم خارجها من الناحية الأخرى فتحاربوا مع من بها وهزموهم فولى أصحابهم وتركوهم بالبلدة فدخلوها فلم يجدوا بها شيئًا‏.‏

وفي يوم الخميس وصل آغات المقرر وهو عبد أسود وطلع إلى القلعة بموكب وعملوا له شنكًا ومدافع وقرؤوا المقرر في ذلك اليوم بحضرة الجمع‏.‏

وفي يوم الأحد ثاني عشرينه وصلت طائفة من العرب بناحية الجيزة فوصل الخبر إلى الكاشف الذي بها وهو دملي عثمان كاشف الذي قتل الشيخ أحمد البراني المتقدم ذكره فإنه بعد تلك الحادثة قلدوه كشوفية الجيزة وذهب إليها وأقام بها فلما بلغه ذلك ركب على الفور في نحو خمسة وعشرين خيالًا ورمحوا عليهم فانهزموا أمامهم فطمع فيهم وذهب خلفهم إلى ناحية برنشت فخرج عليه كمين آخر واحتاطوا به وقتلوه وقطعوا رأسه وستة أنفار معه وذهبوا برؤوسهم على مزاريق واقتص الله منه فكان بينه وبين قتله للمذكور دون الشهر وكان مشهورًا فيهم بالشجاعة والإقدام‏.‏

وفيه اجتهدوا في تشهيل علوفة وذخيرة وجبخانة وسفروها مع جملة من العسكر نحو الخمسمائة في يوم الاثنين ثالث عشرينه‏.‏

وفي يوم الأربعاء خامس عشرينه وصل الدلاة إلى الخانكة فحضر منهم طائفة ودخلوا إلى مصر فردوهم إلى أصحابهم حتى يكونوا بصحبتهم في الدخول‏.‏ وفي

يوم الخميس نزل كتخدا الباشا وصالح آغاقوش وخرجوا إلى جهة العادلية

لملاقاة الدلاة المذكورين وكبيرهم يقال له ابن كور عبد الله‏.‏

وفي يوم الجمعة دخل الدلاة المذكورون وصحبتهم الكتخدا وصالح آغاقوش وكاشف الشرقية وكاشف القليوبية وطوائف العسكر ومعهم نقاقير الطبول وهم نحو الألفين وخمسمائة أجناس مختلفة وأشكال مجتمعة فذهبوا إلى ناحية مصر القديمة ونواحي الآثار وانقضت السنة وما حصل بها من الغلاء وتتابع المظالم والفرد على البلاد وإحداث الباشا له مرتبات وشهريات على جميع البلاد والقبض على أفراد الناس بأدنى شبهة وطلب الأموال منهم وحبسهم واشتد الضنك في آخر السنة وعدم القمح والفول والشعير وغلا ثمن كل شيء ولولا اللطف على الخلائق بوجود الذرة حتى لم يبق بالرقع والعرصات سواه واستمرت سواحل الغلال خالية من الغلة هذا العام من العام الماضي وبطول هذه السنة امتنع الوارد من الجهة القبلية ومع ذلك اللطف حاصل من المولى جل شأنه ولم يقع قحط ولا موت من الجوع كما رأينا في العلوات السابقة من عدم الخبز في الأسواق وخطف أطباق العيش والكعك وأكل القشور وما يتساقط من قشور الخضروات وغير ذلك‏.‏

وأما من مات في هذه السنة من الأعيان فقد مات العمدة العلامة والتحرير الفهامة الفقيه النبيه الأصولي النحوي المنطقي الشيخ موسى السرسي الشافعي أصله من سرس الليانة بالمنوفية وحضر إلى الأزهر ولازم الاستفادة وحضور الأشياخ من الطبقة الثانية كالشيخ عطية الأجهوري والشيخ عيسى البراوي والشيخ محمد الفرماوي وغيرهم وتمهروا نجب في المعقولات والمنقولات وإقراء الدروس وأفاد الطلبة وانطوى إلى الشيخ حسن الكفراوي مدة ورافقه في الإفتاء والقاضاي ثم إلى شيخنا الشيخ أحمد العروسي وصار من خاصة ملازميه وتخلق بأخلاقه وألزم أولاده بحضور دروسه المعقولية وغيرها دون غيره لحس إلقائه وجودة تفهيمه وتقريره واشتهر ذكره وراش جناحه وراج أمره بانتسابه للشيخ المذكور واشترى أملاكًا واقتنى عقارًا بمصر وببلده سرس ومنوف ومزارع وطواحين ومعاصر واشترى دار نفيسة بدرب عبد الحق بالأزبكية وعدد الأزواج واشترى الجواري والعبيد والحبشيات الحسان وكان حلو المفاكهة حسن المعاشرة عذب الكلام مهذب النفس جميل الأخلاق ودودًا قليل الادعاء محبًا لإخوانه مستحضرًا للفروع الفقهية وكان يكتب على غالب الفتاوى عن لسان الشيخ العروسي ويعتمده في النقول والأجوبة عن المسائل الغامضة والفروع المشكلة وله كتابات وتحقيقات ولم يزل مشتغلًا بشأنه حتى تعلل أيامًا بدار بميدان القطن مطلة على الخليج وتوفي يوم السبت سادس عشرين جمادى الأولى من السنة‏.‏

ومات الجناب المكرم والمشير المفخم الوزير الكبير والدستور الشهير أحمد باشا الشهير بالجزار وأصله من بلاد البشناق وخدم عند المرحوم علي باشا حكيم أوغلي وعمل عنده شفاسيًا وحضر صحبته إلى مصر في ولايته الثانية سنة إحدى وسبعين ومائة وألف فتشوقت نفسه إلى الحج واستأذن مخدومه فأذن له في ذلك وأوصى عليه أمير الحاج إذ ذاك صالح بك القاسمي فأخذه صحبته وأكرمه وواساه رعاية لخاطر علي باشا ورجع معه إلى مصر فوجد مخدومه قد انفصل من ولاية مصر وسافر إلى الديار الرومية ووصل نعيه بعد أربعة أشهر من ذهابه فاستمر المترجم بمصر وتزيا بزي المصريين وخدم عند عبد الله بك تابع علي بك بلوط قبان وتعلم الفروسية على طريق الأجناد المصرية فأرسل علي بك عبد الله بك بتجريدة إلى عرب البحيرة فقتلوه فرجع المترجم مع باقي أصحابه إلى مصر فقلده علي بك كشوفية البحيرة وقال له ارجع إلى الذين قتلوا أستاذك وخلص ثأره فذهب إليهم وخادعهم واحتال عليهم وجمعهم في مكان وقتلهم وهم نيف وسبعون كبيرًا وبذلك سمي بالجزار ورجع منصورًا وأحبه علي بك لنجابته وشجاعته وتنقل عنده في الخدم والمناصب والأمريات ثم قلده الصنجقية وصار من جملة أمرائه ولما خرج علي بك منفيًا خرج صحبته ورافقه في الغربة والتنقلات والوقائع ولم يزل حتى رجع علي بك وصحبته صالح بك من الجهة القبلية وقتل خشداشينه وغيرهم ثم عزم على غدر صالح بك وأسر بذلك إلى خاصته ومنهم المترجم فلم يسهل به ذلك وتذكر ما بينه وبين صالح بك من المعروف السابق فأسر به إليه وحذره فلما اختلى صالح بك بعلي بك عرض له بذلك فحلف له علي بك أنه باق على مصافاته وكذب المخبر إلى أن كان ما كان من قتلهم وغدرهم لصالح بك كما تقدم وإحجام المترجم وتأخره عن مشاركته لهم في دمه ومناقشتهم له بعد الانفصال فتجسم له الأمر فتنكر وخرج هاربًا من مصر في صورة شخص جزائرلي وتفقده علي بك وأحاط بداره وكان يسكن ببيت شكر فره بالقرب من جامع أزبك اليوسفي فلم يجدوه وسار المذكور إلى سكندرية وسافر إلى الروم ثم رجع إلى البحيرة وأقام بعرب الهنادي وتزوج هناك ولما أرسل علي بك التجاريد إلى ابن حبيب والهنادي حارب المترجم معهم ثم سار إلى بلاد الشام فاستمر هناك في هجاج وتنقلات ومحاربات واشترى مماليك واجتمع لديه عصبة واشتهر أمره في تلك النواحي ولم يزل على ذلك إلى أن مات الظاهر عمر في سنة تسع وثمانين ومائة وألف ووصل حسن باشا الجزائرلي إلى عكا فطلب من يكون كفؤًا للإقامة بحضنها فذكروا له المترجم فاستدعاه وقلده الوزارة وأعكاه الأطواخ والبيرق وأقام بحصن عكا وعمر أسوارها وقلاعها وأنشأ بها البستان والمسجد واتخذ له جندًا كثيفًا واستكثر من شراء المماليك وآغار على تلك النواحي وحارب جبل الدروز مرارًا وغنم منهم أموالًا عظيمة ودخلوا في طاعته وضرب عليهم وعلى غيرهم الضرائب وجبيت إليه الأموال من كل ناحية حتى ملأ الخزائن وكنز الكنوز وصار يصانع أهل الدولة ورجال السلطنة ويتابع إرسال الهدايا والأموال إليهم وتقلدوا ولاية بلاد الشام وولى على البلاد نوابًا وحكامًا من طرفه وطلع بالحج الشامي مرارًا وأخاف النواحي وعاقب على الذنب الصغير بالقتل والحبس والتمثيل وقطع الآناف والآذان والأطراف ولم يغفر زله عالم لعلمه أو ذي جاه لوجاهته وسلب النعم عن كثير جدًا من ذوي النعم واستأصل أموالهم ومات في محبسه ما لا يحصى من الأعيان والعلماء وغيرهم ومنهم من أطال حبسه سنين حتى مات واتفق أنه استراب من بعض سراريه ومماليكه فقتل من قويت فيه الشبهة وحرقهم ونفى الباقي الجميع ذكورًا وإناثًا بعد أن مثل بهم وقطع آنافهم وأخرجهم من عكا وطردهم وسخط على من أواهم أو تاواهم ولو في أقصى البلاد وحضر الكثير منهم إلى مصر وخدموا عند الأمراء وانضوى نحو العشرين منهم وخدموا عند علي بك كتخدا الجاويشية فلما بلغ المترجم ذلك تغير خاطره من طرفه وقطع حبل وداده بعد أن كان يراسله ويواصله دون غيره من أمراء مصر وكان ذلك سبب استيحاشه منه إلى أن مات ولما فعل بهم ذلك تعصب عليه مملوكاه سليم باشا الكبير وسليمان باشا الصغير وهو الموجود الآن وانضم إليهما المتآمرون من خشداشينهما وغيرهم غيظًا على ما فعله بخشداشينهم وعلمهم بوحدته وانفراده وحاصروه بعكا ولم يكن معه إلا القليل من العساكر البرانيين والفعلة والصناع الذين يستعملهم في البناء فألبسهم طراطير مثل الدلاة وأصعدهم إلى الأسوار مع الرماة والطبجية ورآهم المخالفون عليه فتعجبوا وقالوا أنه يستخدم الجن وكبس عليهم في غفلة من الليل وحاربهم وظهر عليهم وأذعنوا لطاعته وتفرق عنهم المساعدون لهم ثم تتبعهم واقتص منهم وكاد البلاد وقهر العباد ونصبت الدولة فخاخًا لصيده مرارًا فلم يتمكنوا من ذلك فلم يسعهم بعد ذلك إلا مسالمته ومسايرته وثبت قدمه وطار صيته في جميع الممالك الإسلامية والقرانات الإفرنجية والثغور واشتهر ذكره وراسله ملوك النواحي وراسلهم وهادوه وهابوه وبنى عدة صهاريج وملأها بالزيت والسمن والعسل والسيرج والأرز وأنواع الغلة وزرع ببستانه سائر أصناف الفواكه والنخيل والأعناب الكثيرة وجدد دولته ثانيًا واشترى مماليك وجواري بدلًا عن الذين أبادهم وبالجملة فكان من غرائب الدهر وأخباره لا يفي القلم بتسطيرها ولا يسعف الفكر بتذكارها ولو جمع بعضها جاءت مجلدات ولو لم يكن له من المناقب إلا استظهاره على الفرنساوية وثباته في محاربتهم له أكثر من شهرين ولم يغفل فيها لحظة لكفاه وكان يقول أن الفرنساوية لو اجتهدوا في إزالة جبل عظيم لأزالوا في أسرع وقت وقد تقدم بعض خبر ذلك في محله وكان يقول أنا المنتظر وأنا أحمد المذكور في الجفور الذي يظهر بين القصرين واستخرج له كثير من الذين يدعون معرفة الاستخراج عبارات وتأويلات ورموزًا وإشارات ويقولون المراد بالقصرين مكانان جهة الشام أو المحملان أو نحو ذلك من الوساوس ولم يزل حتى توفي في آخر هذا العام على فراشه وكن سليمان باشا تابعه غائبًا بالحجاز في إمارة الحج الشامي فلما علم أنه مفارق الدنيا أحضر إسماعيل باشا والي مرعش وكان في محبسه يتوقع منه المكروه في كل وقت فأقامه وكيلًا عنه إلى حضور سليمان باشا من الحج وأعطاه الدفاتر وعرفه بعلوفة العسكر وأوصاه فلما انقضى نحبه ودفنوه صرف النفقة واتفق مع طه الكردي وصالح الدولة وتحصن بعكا وحضر سليمان باشا فامتنعا عليه ولم يمكنه الدخول إليها فاستمر إسماعيل باشا إلى أن أخرجه أتباع المترجم بحيلة وملكوا سليمان باشا بعد أمور لم تتحقق كيفيتها وذلك ومات عين الأعيان ونادرة الزمان شاه بندر التجار والمرتقي بهمته إلى سنام الفخار النبيه النجيب والحسيب النسيب السيد أحمد بن أحمد الشهير بالمحروقي الحريري كان والده حريريًا بسوق العنبريين بمصر وكان رجلًا صالحًا منور الشيبة معروفًا بصدق اللهجة والديانة والأمانة بين أقرانه وولد له المترجم فكان يدعو له كثيرًا في صلاته وسائر تحركاته فلما ترعرع خالط الناس وكتب وحسب وكان على غاية من الحذق والنباهة وأخذ وأعطى وباع واشترى وشارك وتداخل مع التجار وحاسب على الألوف واتحد بالسيد أحمد بن عبد السلام وسافر معه إلى الحجاز وأحبه وامتزج به امتزاجًا كليًا بحيث صارا كالتوأمين أو روح حلت بدنين ومات عمدة التجار العرايشي وهو بالحجاز وهو أخو السيد أحمد بن عبد السلام في تلك السنة فأحرز مخلفاته وأمواله ودفاتر شركائه فتقيد المترجم بمحاسبة التجار والشركاء والوكلاء ومحاققتهم فوفر عليه لكوكا من الأموال واستأنف الشركات والمعاوضات وعد ذلك من سعادة مقدم المترجم ومرافقته له ورجع صحبته إلى مصر وزادت محبته له ورغبته فيه وكان لابن عبد السلام شهرة ووصلة بأكابر الأمراء كأبيه وخصوصًا مراد بك فيقضي له ولأمرائه لوازمهم اللازمة لهم ولأتباعهم واحتياجاتهم من التفاضيل والأقمشة الهندية وغيرها وينوب عنه المترجم في غالب أوقاته وحروكاته ولشدة امتزاج الطبيعة بينهما صار يحاكيه في ألفاظه ولغته وجميع اصطلاحاته في الحركات والسكنات والخطرات واشتهر ذكره به عند التجار والأعيان والأمراء واتحدا بمحمد آغا البارودي كتخدا مراد بك اتحادًا زائدًا وأتحفاه بالجرايا وخصصاه بالمزايا فراج به عند مخدومه شأنهما وارتفع بالزيادة قدرهما ولما تأمر إسماعيل بك واستوزر أيضًا البارودي استمر حالهما كذلك بل وأكثر إلى أن حصل الطاعون ومات به السيد أحمد بن عبد السلام في شعبان فاستقر المترجم في مظهره ومنصبه شاه بندر التجار بواسطة البارودي أيضًا وسعايته وسعادة طالعه وسكن داره العظيمة التي عمرها بجوار الفحامين محل دكة الحسبة القديم وتزوج بزوجاته واستولى على حواصله ومخازنه واستقل بها من غير شريك ولا وارث وعند ذلك زادت شهرته وعظم شأنه ووجاهته ونفذت كلمته على أقرانه ولم يزل طالعه يسمو وسعده يزيد وينمو وعاد مراد بك والأمراء المصريون بعد موت إسماعيل بك وانقلاب دولته إلى إمارة مصر فاختص بخدمته وقضاء سائر أشغاله وكذلك إبراهيم بك وباقي الأمراء وقدم لهم الهدايا والظرائف وواسى الجميع أعلاهم وأدونهم بحسن الصنع حتى جذب إليه قلوب الجميع ونافس الرجال وانعطفت إليه الآمال وعامل تجار النواحي والأمصار من سائر الجهات والأقطار واشتهر ذكره بالأراضي الحجازية وكذا بالبلاد الشامية والرومية واعتمدوه وكاتبوه واسلوه وأودعوه الودائع وأصناف التجارات والبضائع وزوج ولده السيد محمد وعلم له مهابًا عظيمًا افتخر فيه إلى الغاية ودعا الأمراء والأكابر والأعيان وأرسل إليهم إبراهيم بك ومراد بك الهدايا العظيمة المحملة على الجمال الكثيرة وكذلك باقي الأمراء ومعها الأجراس التي لها رنة تسمع من البعد ويقدمها جمل عليه طبل نقارية وذلك خلاف هدايا التجار وعظماء الناس والنصارى الأروام والأقباط الكتبة وتجار الإفرنج والأتراك والشوام والمغاربة وغيرهم وخلع الخلع الكثيرة وأعطى البقشيش والإنعامات والكساوى ولا يشغله أمر عن أمر آخر يمضيه أو غرض ينفذه ويقضيه كما قيل أخو عزمات لا يريد على الذي يهم به من مفظع الأمر صاحبًا إذا هم ألقى بين عينيه عزمه وفكب عن ذكر العواقب جانبًا‏.‏

وحج في سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف وخرج في تجمل زائد وجمال كثيرة وتختروانات ومواهي ومسطحات وفراشين وخدم وهجن وبغال وخيول وكان يوم خروجه يومًا مشهودًا اجتمع الكثير من العامة والنساء وجلسوا بالطريق للفرجة عليه ومن خرج معه لتشييعه ووداعه من الأعيان التجار الراكبين والراجلين معه منهم وبأيديهم البنادق والأسلحة وغير ذلك وبعث بالبضائع والذخائر والقومانية والأحمال الثقيلة على طريق البحر لمرساة الينبع وجدة وعند رجوع الركب وصل الفرنساوية إلى بر مصر ووصلهم الخبر بذلك وأرسل إبراهيم بك إلى صالح بك أمير الحاج يطلبه مع الحجاج إلى بلبيس كما تقدم وذهب بصحبتهم المترجم وجرى عليه ما ذكر من نهب العرب متاعه وحموله وكان شيئًا كثيرًا حتى ما كان عليه من الثياب وانحصر بطريق القرين فلم يجد عند ذلك بدًا من مواجهة الفرنساوية فذهب إلى ساري عسكر بونابارته وقابله فرحب به وأكرمه ولامه على فراره وركونه للمماليك فاعتذر إليه بجهل الحال فقبل عذره واجتهد له في تحصيل المنهوبات وأرسل في طلب المتعدين واستخلص ما أمكن استخلاصه له ولغيره وأرسلهم إلى مصر وأصحب معهم عدة من العساكر لخفارتهم ويقدمهم طبلهم وهم مشاة بالأسلحة بين أيديهم حتى أدخلوهم إلى بيوتهم ولما رجع ساري عسكر إلى مصر تردد عليه وأحله محل القبول وارتاح إليه في لوازمه وتصدى للأمور وقضايا التجار وصار مرعي الجانب عنده ويقبل شفاعاته ويفصل القوانين بين يديه ويدي أكابرهم ولما رتبوا الديوان تعين من الرؤساء فيه وكاتبوا التجار أهل الحجاز وشريف مكة بواسطته واستمر على ذلك حتى سافر بونابارته ووصل بعد ذلك عرضي العثمانية والأمراء المصرية فخرج فيمن خرج لملاقاتهم وحصل بعد ذلك ما حصل من نقض الصلح والحروب واجتهد المترجم في أيام الحرب وساعد وتصدى بكل همته وصرف أموالًا جمة في المهمات والمؤن إلى أن كان ما كان من ظهور الفرنساوية وخروج المحاربين من مصر ورجوعهم فلم يسعه إلا الخروج معهم والجلاء عن مصر فنهب الفرنساوية داره وما يتعلق به ولما استقر يوسف باشا الوزير جهة الشام آنسه المترجم وعاضده واجتهد في حوائجه واقترض الأموال وكاتب التجار وبذل همته وساعده بما لا يدخل تحت طوق البشر ويراسل خواصه بمصر سرًا فيطالعونه بالأخبار والأسرار إلى أن حصل العثمانيون بمصر فصار المترجم هو المشار إليه في الدولة والتزم بالإقطاعات والبلاد وحضر الوزير إلى داره وقدم إليه التقادم والهدايا وباشر الأمور العظيمة والقضايا الجسيمة وما يتعلق بالدول والدواوين والمهمات السلطانية وازدحم الناس ببابه وكثرت عليه الأتباع والأعوان والقواسة والفراشون وعساكر رومية ومترجمون وكلارجية ووكلاء وحضرت مشايخ البلاد والفلاحون الكثيرة بالهدايا والتقادم والأغنام والجمال والخيول وضارقت داره بهم فاتخذ دورًا بجواره وأنزل بها الوافدين وجعل بها مضايف وحبوسًا وغير ذلك‏.‏

ولما قصد يوسف باشا الوزير السفر من مصر وكله على تعلقاته وخصوصياته وحضر محمد باشا خسرو فاختص به أيضًا اختصاصًا كليًا ويلم إليه المقاليد الكلية والجزئية وجعله أمير الضربخانه وزادت صولته وشهرته وطار صيته واتسعت دائرته وصار بمنزلة شيخ البلد بل أعظم ونفدت أوامره في الإقليم المصري والرومي والحجازي والشامي ودرك من العز والجاه والعظمة ما لم يتفق لأمثاله من أولاد البلد وكان ديوان بيته أعظم الدواوين بمصر وتغرب وجهاء الناس لخدمته والوصول لسدته ووهب وأعطى وراعى جانب كل من انتمى إليه وأغدق عليه وكان يرسل الكساوى في رمضان للأعيان والفقهاء والتجار وفيها الشالات الكشميري ويهب المواهب وينعم الإنعامات ويهادي أحبابه ويسعفهم ويواسيهم في المهمات وعمل عدة أعراس وولائم وزاره محمد باشا المذكور في داره مرتين أو ثلاثة باستدعاء وقدم له التقادم والهدايا والتحايف والرخوت المثمنة والخيول والتعابي من الأقمشة الهندية والمقصبات ولما ثارت العسكر على محمد باشا وخرج فارًا كان بصحبته في ذلك الوقت فركب أيضًا يريد الفرار معه واختلفت بينهما الطرق فصادفته طائفة من العسكر فقبضوا عليه وعروا ثيابه وثياب ولده ومن معه وأخذوا منه جوهرًا كثيرًا ونقودًا ومتعًا فلحقه عمر بك الأرنؤدي الساكن ببولاق وأدركه وخلصه من أيديهم وأخذه إلى داره وحماه وقابل به محمد علي وغيره وذهب إلى داره واستقر بها إلى أن انقضت الفتنة وظهر طاهر باشا فساس أمره معه حتى قتل وحضر الأمراء المصريون فتداخل معهم وقدم لهم وهاداهم واتحد بهم وبعثمان بك البرديسي فأبقوه على حالته ونجز مطلوبات الجميع ولم يتضعضع للمزعجات ولم يتقهقر من المفزعات حتى أنهم لما أرادوا تقليد الستة عشر صنجقًا في يوم أحضره البرديسي تلك الليلة وأخبره بما اتفقوا عليه ووجده مشغول البال متحيرًا في ملزوماتهم فهون عليه الأمر وسهله وقضى له جميع المطلوبات واللوازم للستة عشر أميرًا في تلك الليلة وما أصبح النهار إلا وجميع المطلوبات من خيول ورخوت وفراوى وكساوى ومزركشات وذهب وفضة برسم الإنعامات والبقاشيش ومصروف الجيب حاضر لديه بين يديه حتى تعجب هو والحاضرون من ذلك وقال له مثلك من يخدم الملوك وأعطاه في ذلك اليوم فارسكور زيادة عما بيده ولما ثارت العسكر على الأمراء المصريين وأخرجوهم من مصر وأحضروا حمد باشا خورشيد من سكندرية وقلدوه ولاية مصر وكان كبعض الأغوات مختصر الحال هيا له رقم الوزارة والرخوت والخلع واللوازم في أسرع وقت وأقرب مدة ولم يزل شأنه في الترفع والصعود وطالعه مقارنًا للسعود وحاله مشهور وذكر منشور حتى فاجأته المنية وحالت بينه وبين الأمنية وذلك أنه لما دعا الباشا في يوم الثلاثاء سابع عشر شهر شعبان نزل إلى داره وتغدى عنده وأقام نحو ساعتين ثم ركب وطلع إلى القلعة فأرسل في أثره هدية جليلة صحبة ولده والسيد أحمد الملا ترجمانه وفي بقج قماش هندي وتفاصيل ومصوغات مجوهرة وشمعدانات فضة وتحايف وخيول مرختة وبدونها برسمه ورسم كبار أتباعه ومضى على ذلك خمسة أيام فلما كان ليلة الأحد ثاني عشرين شعبان المذكور جلس حصة من الليل مع أصحابه يحادثهم ويملي الكتبة والمراسلات والحسابات فأخذته رعدة وقال إني أجد بردًا فدثروه ساعة ثم أرادوا إيقاظه إلى حريمه فحركوه فوجدوه خالصًا قد فارق الدنيا من تلك الساعة التي دثروه فيها فكتلوا أمره حتى ركب ولده السيد محمد إلى الباشا في طلوع النهار وأخبره ثم رجع إلى داره وحضر ديوان أفندي والقاضي وختموا على خزانته وحواصله وأشهروا موته وجهزوه وكفنوه وصلوا عليه بالأزهر في مشهد حافل ثم رجعوا به إلى زاوية العربي تجاه داره ودفنوه مع السيد أحمد بن عبد السلام وانقضى أمره ثم أن الباشا ألبس ولده محمد فروة وقفطانًا على الضربخانه وما كان عليه والده من خدمة الدولة والالتزام ونزل من القلعة صحبة القاضي ثم ذهب إلى داره بارك الله فيه وأعانه على وقته‏.‏

ومات الأمير المبجل علي آغا يحيى وأصله مملوك يحيى كاشف تاع أحمد بك السكري الذي كان كتخدا عند عثمان بك الفقاري الكبير المتقدم ذكرهما ولما ظهر علي بك وأرسل محمد بك ومن معه إلى جهة قبلي بعد قتل صالح بك كان الأمير يحيى في جملة الأمراء الذين كانوا بأسيوط ووقع لهم ما تقدم ذكره من الهزيمة وتشتتوا في البلاد فذهب الأمير يحيى إلى إسلامبول وصحبته مملوكه المترجم وأقام هناك إلى أن مات فحضر الأمير علي تابعه إلى مصر في أيام محمد بك وتزوج ببنت أستاذه وسكن بحارة السبع قاعات واشتهر بها وعمل كتخدا عند سليمان آغا الوالي إلى أن تقلد سليمان آغا المذكور آغاوية مستحفظان فصار المترجم مقبولًا عنده ويتوسط للناس عنده في القضايا والدعاوي واشتهر ذكره من حينئذ وارتاح الناس عليه في غالب المقتضيات وباشر فصل الحكومات بنفسه وكان قليل الطمع لين الجانب ولما تقلد مخدومه الصنجقية بقي معه على حالته في القبول والكتخدائية وزادت شهرته وتداخل في الأمور الجسيمة عند الأمراء ولما حضر حسن باشا وخرج مخدومه من مصر مع من خرج وظهر شأن إسماعيل بك والعلويين استوزره حسن بك الجداوي وعظم أمره أيضًا في أيامه مع مباشرته لوازم مخدومه الأول وقضاء أشغاله سرًا واشترى دار مصطفى آغا الجراكسة التي بجوار العربي بالقرب من الفحامين وانتقل من السبع قاعات وسكن بها وسافر مرارًا إلى الجهة القبلية سفيرًا بين الأمراء البحرية والقبلية في المراسلات والمصالحات وكذلك في بعض المقتضيات بالبلاد البحرية ولم يزل وافر الحرمة حتى كانت دولة العثمانيين ونما أمر السيد أحمد المحروقي فانضوى إليه لقرب داره منه فقيده ببعض الخدم وجبي الأموال من البلاد الجسيمة فأرسله قبل موته إلى جهة بشبيش فمرض بها فلما تأمر حسن بك أخو طاهر باشا على التجريدة الموجهة إلى ناحية قبلي طلبوا رجلًا من المصريين يكون رئيسًا عاقلًا يكون كتخدا فأشاروا على المترجم فطلبه الباشا من السيد أحمد المحروقي فأرسل إليه بالحضور فوصل في اليوم الذي توفي فيه المحروقي فأقام أيامًا حتى قضى أشغاله وسافر وهو متوعك وتوفي بسملوط في ثالث القعدة وحضر برمته في ليلة الجمعة ثامنه وخجوا بجنازته من بيته وصلوا عليه بالأزهر ودفنوه بالقرافة رحمه الله تعالى وغفر له‏.‏

فكان ابتداء المحرم يوم الاثنين ولما نزل الدلاة جهة البساتين وتلك النواحي فأكلوا زروعات الناس ونهبوا دورًا بدير الطين وطلبوا علوفات زائدة رتب لهم الباشا الجرايات والعليق والجامكية وقدرها ستمائة كيس في كل شهر‏.‏

وفي ثامنه سافر أناس كثيرة لزيارة مولد سيدي أحمد البدوي المعتاد وسافر أيضًا الشيخ الشرقاوي وحضر هناك كاشف الغربية وحصل منه قبائح كثيرة وقبض على خلائق كثيرة وبلصهم وحبسهم وخوزق أناسًا كثيرة من غير ذنب ولا يقبل شفاعة أحد في شيء‏.‏

وفيه أشيع قدوم محمد علي وحسن باشا إلى مصر وذلك أنهما لما سمعا بوصول طائفة الدلاة وأن أحمد باشا أرسل إليهم وطلبهم ليتعاضد بهم ويقوي بهم ساعده على الأرنؤدية عزموا على الرجوع إلى مصر ليتلافوا أمرهم قبل استفحال الأمر‏.‏

وفي يوم الخميس حادي عشره طلب الباشا المشايخ وعمر أفندي النقيب والوجا قليلة وأرباب الديوان فلما اجتمعوا قال لهم أن محمد علي وحسن باشا راجعان من قبلي من غير إذن وطالبان شرًا فإما أن يرجعا من حيث أتيا ويقاتلا المماليك وإما أن يذهبا إلى بلادهما أو أعطيهما ولا يات ومناصب في غير أراضي مصر ومعي أمر من السلطان ووكيل مفوض ودستور مكرم أعزل من أشاء وأولي من أشاء وأعطي من أشاء وأمنع من أشاء ثم أخرج من جيبه ورقة صغيرة في كيس حرير أخضر وأخبرهم أنها بخط السلطان بما ذكر فأنتم تكونون معي وتقيمون عندي صحبة كبار الوجاقلية فقالوا له أن الشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ المهدي غائبون عن مصر فقال نرسل لهم بالحضور فكتبوا لهم أوراقًا من الباشا وأرسلوها إليهم مع السعاة يستعجلونهم للحضور ثم اتفقوا على أن يبيت عنده بالقلعة في كل ليلة اثنان من المتعممين واثنان من الجاقلية وأعدوا لهم مكانًا بالضربخانه وأمر بأن يذهب الدلاة والعسكر الباقية إلى ناحية طرا والجيزة وأخذوا مدافه وجبخانه ووصل محمد علي وحسن باشا إلى ناحية طرا ومعهم عساكرهم فلم يجسر الدلاتية على ممانعتهم وكاد لهم محمد علي مكايد منها أنه أرسل إليهم يقول إنما جئنا في طلب العلائف ولسنا مخالفين ولا معاندين فقال الدلاتية لبعضهم إذا كان الأمر كذلك فلا وجه للتعرض لهم وأخلوا من طريقهم ودخل الكثير من طوائف عساكرهم ورجع الدلاتية إلى أماكنهم بدير الطين وقصر العيني والآثار ونزل كتخدا الباشا وعمر بك الأرنؤدي فتكلما مع الدلاتية فقالوا أن القوم لم يكن عندهم خلاف ولا تعدو إذا كنتم تمنعون وتحاربون من يطلب حقه فكذلك تفعلون معنا إذا خدمناكم زمنًا ثم طلبنا علائفنا فرجع الكتخدا وعمر بك الأرنؤدي وتتابع دخول أولئك في كل يوم طائفة بعد أخرى وسكنوا الدور والبيوت‏.‏

وفي يوم الأربعاء ذهب إليهم سعيد آغا وقابجي باشا الأسودان وسلما على محمد علي وحسن باشا ثم رجعا‏.‏

وفي يوم الجمعة تاسع عشره دخل محمد علي بعد العصر وهب إلى بيته بالأزبكية ودخل حسن باشا في صبحها ودخلت طوائفهم وأخذوا الحمير والبغال وجمال السقائين لينقلوا عليها متاعهم ودخلوا البيوت وأزعجوا السكان وأخرجوهم من مساكنهم وفتحوا البيوت المسدودة وكثرت أخلاطهم بالأسواق ومنع الباشا المشايخ والوجاقلية من الذهاب إلى محمد علي والسلام عليه واستمر الأمر على القلقلة واللقلقة والتوحش وأخذ محمد علي في التدابير على أحمد باشا وخلعه‏.

شهر صفر الخير سنة 1220

استهل بيوم الأربعاء والأمر على ما هو عليه وسعيد آغا ساع ومجتهد في إجراء الصلح ويركب تارة إلى الباشا وتارة إلى محمد علي وإلى حسن باشا ويطلع من المشايخ في كل ليلة اثنان وكذلك اثنان من الوجاقلية يبيتون بمكان في دار الضرب وينزلون في الصباح ولم يعقل لذلك معنى وفي كل وقت يقع التشاحن بين أفراد العسكر في الطرقات ويقتلون بعضهم بعضًا وحضر سليمان كاشف البواب ومر من خلف الجيزة وذهب إلى جهة وردان وطلب الأموال من البلاد والكلف وعدى خازنداره إلى بر المنوفية ومعه عدة كثيرة من العربان بطلب الأموال من البلاد ومن عصى عليهم من البلاد ضربوهم ونهبوهم وحرقوا أجرانهم وكاشف المنوفية داخل منوف لا يقدر على الخروج إلى خارج وحضر أيضًا محمد بك الألفي إلى ناحية أبي صير الملق وانتشرت طوائفه وعربانه بإقليم الجيزة ومصر مشحونة بأخلاط العسكر وأجناسهم المختلفة داخل المدينة وخارجها والدالاتية جهة مصر القديمة وقصر العيني والآثار ودير الطين يأكلون الزروعات ويخطفون ما يجدونه مع الفلاحين والمارين ويأخذونن ما معهم ويخطفون النساء والأولاد بل ويلوطون في الرجال الاختيارية‏.‏

وفي أوله حضر سكان مصر القديمة نساء ورجالًا إلى جهة الجامع الأزهر يشكون ويستغيثون من أفعال الدالاتية ويخبرون أن الدالاتية قد أخرجوهم من مساكنهم وأوطانهم قهرًا عنهم ولم يتركوهم يأخذون ثيابهم ومتاعهم بل ومنعوا النساء أيضًا عندهم وما خلص منهم إلا من تسلق ونط من الحيطان وحضروا على هذه الصورة فركب المشايخ إلى الباشا وخاطبوه في أمرهم فكتب فرمانًا خطابًا للدالاتية بالخروج من الدور وتركها إلى أصحابها فلم يمتثلوا ولم يسمعوا ذلك وخوطب الباشا ثانيًا وأخبروه بعصيانهم فقال أنهم مقيمون ثلاثة أيام ثم يسافرون وزاد الضجيج والجمع فاجتمع المشايخ في صبحها يوم الخميس بالأزهر وتركوا قراءة الدروس وخرجت سربة من الأولاد الصغار يصرخون بالأسواق ويأمرون الناس بغلق الحوانيت وحصل بالبلدة ضجة ووصل الخبر إلى الباشا بذلك فأرسل كتخداه إلى الأزهر فلم يجد أحدًا وكان المشايخ انتقلوا بعد الظهر إلى بيتهم لأغراض نفسانية وفشل مستمر فيهم فلما ير أحدًا ذهب إلى بيت الشيخ الشرقاوي وحضر هناك السيد عمر أفندي وخلافه فكلموه وأوهموه ثم قام وانصرف وفي حال خروجه رجمه الأولاد بالحجارة وسبوه وشتموه وبقي الأمر على السكوت إلى يوم الجمعة عاشره والمشايخ تاركون الحضور إلى الأزهر وغالب الأسواق والدكاكين مغلقة واللغط والوسوسة دائران وبطل طلوع المشايخ والوجاقلية ومبيتهم بالقلعة وفي ذلك اليوم نزل أحمد باشا من القلعة ودخل بيت سعيد آغا وذلك أنه ورد قاصد من إسلامبول وعلى يده تقليد لمحمد علي بولاية جدة فامتنع من طلوع القلعة فوقع الاتفاق على أن الباشا ينزل إلى بيت سعيد آغا ويخلع على محمد علي ناك فلما حضر الباشا هناك وحضر محمد علي وحسن باشا وأخوه عابدي بك وتقلد محمد علي باشا ولاية جدة ولبس فروة وقاووقًا وخرج يريد الركوب ثارت عليه العسكر وطلبوا منه العلوفة فقال لهم هاهو الباشا عندكم وركب هو وذهب إلى داره بالأزبكية وصار يفرق وينثر الذهب بطول الطريق ثم أن العسكر ساروا إلى أحمد باشا ومنعوه من الركوب فلم يزل إلى بعد الغروب فلاطفهم حسن باشا ووعدهم ثم ذهب مع حسن باشا إلى داره وأشيع في المدينة حبسه وفرح الناس وباتوا مسرورين فلما طلع النهار يوم السبت تبين أنه طلع ثانيًا إلى القلعة في آخر الليل وطلع صحبته عابدي آغا بك فاغتم الناس ثانيًا‏.‏

وفي ذلك اليوم طلب الباشا من ابن المحروقي وجرجس الجوهري ألفي كيس وأشيع أنه عازم على عمل فردة على أهل البلد وطلب أجرة الأملاك بموجب قوائم الفرنساوية‏.‏

وفيه ركب الدلاة وذهبوا إلى قليوب ودخلوها واستولوا عليها وعلى دورها وربطوا خيولهم على أجرانها وطلبوا من أهلها النفقات والكلف وعملوا على الدور دراهم يطلبونها منهم في كل يوم وقرروا على دار شيخ البلد الشواربي كل يوم مائة قرش وحبسوا حريمهم عن الخروج وكان الشواربي بمصر فوصل إليه الخبر بذلك واستمروا على ذلك حتى أخذوا النساء والبنات والأولاد وصاروا يبيعونهم فيما بينهم وبعد أيام أرسل إليهم محمد علي وقرر لهم الكلف على البلاد فصاروا يقبضونها ومن عصى عليهم ضربوه ونهبوه وأرسلوا إلى بلدة يقال لها أبو الغيط فامتنعت عليهم وخرج أهلها ودفنوا متاعهم بالجزيرة المقابلة للقرية فركبوا عليهم وحاربوهم فقتل من الفلاحين زيادة عن مائة شخص ودلهم بعض الناس من الفلاحين على خباياهم بالجزيرة فذهبوا إليها واستخرجوها وكانت أشياء كثيرة والأمر لله وحده لا شريك له والمشايخ تاركون الحضور إلى الأزهر وغالب الأسواق والدكاكين مغلقة وبطل طلوع المشايخ والوجاقلية ومبيتهم بالقلعة فحضر الآغا إلى نواحي الأزهر ونادى بالأمان وفتح الدكاكين في العصر فقال الناس وأي شيء حصل من الأمان وهو يريد سلب الفقراء ويأخذ أجر مساكنهم ويعمل عليهم غرامات وباتوا في هرج ومرج فلما أصبح يوم الأحد ثاني عشره ركب المشايخ إلى بيت القاضي واجتمع به الكثير من المتعممين والعامة والأطفال حتى امتلأ الحوش والمقعد بالناس وصرخوا بقولهم شرع الله بيننا وبين هذا الباشا الظالم ومن الأولاد من يقول يا لطيف ومنهم من يقول يا رب يا متجلي أهلك العثملي ومنهم من يقول حسبنا الله ونعم الوكيل وغير ذلك وطلبوا من القاضي أن يرسل بإحضار المتكلمين في الدولة لمجلس الشرع فأرسل إلى سعيد آغا الوكيل وبشير آغا الذي حضر قبل تاريخه وعثمان آغا قبي كتخدا والدفتردار والشمعدانجي فحضر الجميع واتفقوا على كتابة عرضحال بالمطلوبات ففعلوا ذلك وذكروا فيه تعدي طوائف العسكر والإيذاء منهم للناس وإخراجهم من مساكنهم والمظالم والفرد وقبض مال الميري المعجل وحق طرق المباشرين ومصادرة الناس بالدعاوى الكاذبة وغير ذلك وأخذوه معهم ووعدوه برد الجواب في ثاني يوم وفي تلك الليلة أرسل الباشا مراسلة إلى القاضي يرفق فيها الجواب ويظهر الامتثال ويطلب حضوره إليه من الغد مع العلماء لعمل معهم مشورة فلما وصلته التذكرة حضر بها إلى السيد عمر أفندي واستشاروا في الذهاب ثم اتفقوا على عدم التوجه إليه وغلب على ظنهم أنها منه خديعة وفي عزمه شيء آخر لأنه حضر بعد ذلك من أخبرهم أنه كان أعد أشخاصًا لاغتيالهم في الطريق وينسب ذلك الفعل لأوباش العسكر أن لو عوتب بعد ذلك‏.‏

فلما أصبحوا يوم الاثنين اجتمعوا ببيت القاضي وكذلك اجتمع الكثير من العامة فمنعوهم من الدخول إلى بيت القاضي وقفلوا بابيه وحضر إليهم أيضًا سعيد آغا والجماعة وركب الجميع وذهبوا إلى محمد علي وقالوا له أنا لا نريد هذا الباشا حاكمًا علينا ولا بد من عزله من الولاية فقال ومن تريدونه يكون واليًا قالوا له لا نرضى إلا بك وتكون واليًا علينا بشروطنا لما نتوسمه فيك من العدالة والخير فامتنع أولًا ثم رضي وأحضروا له كركًا وعليه قفطان وقام إليه السيد عمر والشيخ الشرقاوي فألبساه له وذلك وقت العصر ونادوا بذلك في تلك الليلة في المدينة وأرسلوا إلى أحمد باشا الخبر بذلك فقال إني مولى من طرف السلطان فلا أعزل بأمر الفلاحين ولا أنزل من القلعة إلا بأمر من السلطنة وأصبح الناس وتجمعوا أيضًا فركب المشايخ ومعهم الجم الغفير من العامة وبأيديهم الأسلحة والعصي وذهبوا إلى بركة الأزبكية حتى ملؤها وأرسل الباشا إلى مصر العتيقة فحمل جمالًا من البقسماط والذخيرة والجبخانة وأخذ غلاله من عرصة الرميلة وطلع عمر بك الأرنؤدي الساكن ببولاق عند الباشا بالقلعة ثم أن محمد علي باشا والمشايخ كتبوا مراسلة إلى عمر بك وصالح آغا قوش المعضدين لأحمد باشا المخلوع يذكرون لهما ما اجتمع عليه رأى الجمهور من عزل الباشا ولا ينبغي مخالفتهم وعنادهم لما يترتب على ذلك من الفساد العظيم وخراب الإقليم فأرسلا يقولان في الجواب أرونا سندًا شرعيًا في ذلك فاجتمع المشايخ في يوم الخميس سادس عشره ببيت القاضي ونظموا سؤالًا وكتب عليه المفتون وأرسلوه إليهم فلم يتعقلوا ذلك واستمروا على خلافهم وعنادهم ونزل كثير من أتباع الباشا بثيابهم إلى المدينة وانحل عنه طائفة الينكجرية ولم يبق معه إلا طوائف الأرنؤد المغرضون لصالح آغاقوش وعمر آغا‏.‏

وفي هذه الأيام حضر محمد بك الألفي ومن معه من أمرائه وعربانه وانتشروا جهة الجيزة واستقر الألفي بالمنصورية قرب إليهرام وانتشرت أتباعه إلى الجسر الأسود وأرسل مكاتبة إلى السيد عمر أفندي والشيخ الشرقاوي ومحمد علي باشا يطلب له جهة يستقر فيها هو وأتباعه فكتبوا له بأن يختار له جهة يرتاح فيها ويتأنى حتى تسكن الفتنة القائمة بمصر واستمر أحمد باشا المخلوع ومن معه على الخلاف والعناد وعدم النزول من القلعة ويقول لا أنزل حتى يأتيني أمر من السلطان الذي ولاني وأرسل تذكرة إلى القاضي يذكر فيها أن العسكر الذين عنده بالقلعة لهم جامكية منكسرة في المدة الماضية وأنهم كانوا محولين على مال الجهات ورفع المظالم سنة تاريخه معجلًا فتقبضونها وترسلونها وتعينوا لنا ولهم خرجًا ومصاريف إلى حين حضور جواب من الدولة وليس في إقامتنا بالقلعة ضرر أو خراب على الرعية فإننا لا نريد إضراراهم فأجابه القاضي بقوله أما ما كان من الجامكية المحولة فإنها لازمة عليكم من إيراد المدة التي قبضتموها في المدة السابقة ومن قبيل ما ذكرتموه من عدم ضرر الرعية فإن إقامتكم بالقلعة هو عين الضرر فإنه حضر يوم تاريخه نحو الأربعين ألف نفس بالمحكمة وطالبون نزولكم أو محربتكم فلا يمكننا دفع قيام هذا الجمهور وهذا آخر المراسلات بيننا وبينكم والسلام فأجابوه بمعنى الجواب الأول واجتهد السيد عمر أفندي النقيب وحرض الناس على الاجتماع والاستعداد وركب هو والمشايخ إلى بيت محمد علي باشا ومعهم الكثير من المشايخ والعامة والوجقلية والكل بالأسلحة والعصي والنبابيت ولازموا السهر بالليل في الشوارع والحارات ويسرحون أحزابًا وطوائف ومعهم المشاعل ويطوفون بالجهات والنواحي وجهات السور ثم اتفقوا على محاصرة القلعة فأرسل محمد علي باشا عساكره في جهات الرميلة والحطابة والطرق النافذة مثل باب القرافة والحصرية وطريق الصليبية وناحية بيت آقبردى وجلسوا بالمحمودية والسلطان حسن وعملوا متاريس في تلك الجهات وذلك في تاسع عشره ومنعوا من يطلع ومن ينزل من القلعة وأغلق أهل القلعة الأبواب ووقفوا على الأسوار يبكت بعضهم بعضًا بالكلام ويترامون بالبنادق وصعدوا على منارة وفي يوم الأربعاء ثاني عشرينه ركب السيد عمر أفندي والمشايخ ومعهم جمع كبير من الناس إلى الأزبكية وبعد ركوبهم حضر الجمع الكثير من العامة والعصب وطوائف الأجناد والوجاقلية وعصب النواحي وأهل الحسينية والعطوف والقرافة والرميلة والحطابة والصليبة وجميع الجهات ومعهم الطبول والبيارق حتى غصت بهم الأزقة فحضروا إلى جهات الجامع الأزهر ثم رجعوا إلى الأزبكية ولحقوا بالمشايخ وخرج لمشايخ من عند محمد علي باشا وذهبوا إلى حسن بك أخي طاهر باشا ثم رجعوا واستمر الحال على ذلك إلى ليلة الجمعة فنزل بين المغرب والعشاء عدة من العسكر كبيرة وفتحوا بابا القلعة بالرميلة وأرادوا الهجوم على المتاريس فتابعوا عليهم بالرمي فلم يزالوا يترامون إلى بعد العشاء الأخيرة ثم رجعوا وعندما سمع الناس صوت الرمي ذهبوا أرسالًا إلى جهات المتاريس ثم عادوا بعد رجوع المذكورين إلى القلعة كل ذلك وحسن باشا طاهر ومن معه من الأرنؤد يراعون من بالقلعة من أجناسهم لأن غالبهم منهم فلما كان يوم الجمعة رابع عشرينه طلع عابدي بك أخو حسن باشا إلى القلعة ونزل عمر بك وأمروا برفع المتاريس وتفرق من بها وأشيع نزول الباشا من الغدو بات الناس على ذلك ليلة السبت وهم على ما هم عليه من التجمع والسروح والحيرة‏.‏

وفي صبح يوم السبت مر ثلاثة من العسكر الشجعان بناجية مرجوش فصادفوا غلامًا حماميًا من اللاونجية خرج ليشتري قهوة فأرادوا أخذه ففر منهم فضربوه برصاصة وقتلوه وذلك في صلاة الحنفي فتبعهم الناس فوصلوا إلى النحاسين وعطفوا على خان الخليلي وأرادوا الخلوص إلى جهة المشهد الحسيني فأغلقوا في وجوههم البوابة فضربوا على المتبعين لهم فقتلوا شخصًا وجرحوا آخر وخرجوا من القبو إلى ناحية الصنادقية وفرغ ما معهم من البارود فطلعوا إلى ربع وكالة الشبراوي فاجتمع الناس وكسروا باب الربع فنزلوا يريدون الهروب فقتلهم الناس وذهبت أرواحهم إلى النار‏.‏

وفي ذلك اليوم ركب السيد عمر أفندي في قلة من الناس وذهب إلى بيت حسن بك أخي طاهر باشا وكان هناك عمر بك الذي نزل من القلعة فوقع بينه وبين السيد عمر مناقشة في الكلام طويلة ومن جملة ما قال كيف تعزلون من ولاه السلطان عليكم وقد قال الله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فقال له أولو الأمر العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل وهذا رجل ظالم وجرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة وهذا شيء من زمان حتى الخليفة والسلطان إذا سار فيهم بالجور فإنهم يعزلونه ويخلعونه ثم قال وكيف تحصرونا وتمنعون عنا الماء والأكل وتقاتلونا نحن كفرة حتى تفعلوا معنا ذلك قال نعم قد أفتى العلماء والقاضي بجواز قتلكم ومحاربتكم لأنكم عصاة فقال أن القاضي هذا كافر فقال‏:‏ إذا كان قاضيكم كافرًا فكيف بكم وحاشاه الله من ذلك إنه رجل شرعي لا يميل عن الحق وانفصل المجلس على ذلك وخاطبه الشيخ السادات في مثل ذلك فلم يتحول عن الخلاف والعناد هذا والأمر مستمر من اجتماع الناس وسهرهم وطوافهم بالليل واتخاذهم الأسلحة والنبابيت حتى أن الفقير من العامة كان يبيع ملبوسه أو يستدين ويشتري به سلاحًا وحضرت عربان كثيرة من نواحي الشرق وغيره‏.‏

وفي يوم الاثنين ركب السيد عمر وصحبته الوجاقلية وأمامه الناس بالأسلحة والعدد والأجناد وأهل خان الخليلي والمغاربة شيء كثير جدًا ومعهم بيارق ولهم جلبة وازدحام بحيث كان أولهم بالموسكي وآخرهم جهة الأزهر وانفصل الأمر على رجوع عمر بك إلى القلعة ونزول عابدي بك بعد أن فضوا أشغالهم وعبوا ذخيرتهم واحتياجهم من الماء والزادة والغنم ليلًا ونهارًا في مدة الثلاثة أيام المذكورة وقد كانوا أشرفوا على طلب الأمان وتبين أنهم إنما فعلوا ذلك من باب المكر والخديعة واتفق الحال على إعادة المحاصرة وصعد المغرضون إلى القلعة ونزل أشخاص من المغرضين لأهل البلد إليهم ورجع السيد عمر إلى منزله وأخذ في أسباب الإحاطة بالقلعة كالأول وذلك بعد العشاء ليلة الثلاثاء ووقع إليه تمام في صبحها بذلك وجمعوا الفعلة والعربجية وشرعوا في طلوع طائفة من العسكر والعرب وغيرهم إلى الجبل وأصعدوا مدافع ورتبوا عدة جمال لنقل الاحتياجات والخبز وروايا الماء تطلع وتنزل في كل يوم مرتين وطلع إليهم الكثير من باعة الخبز والكعك والقهاوى وغير ذلك‏.‏

شهر ربيع الأول استهل بيوم الخميس سنة 1220 والأمر على ذلك مستمر من تجمع الناس وسهرهم بالليل في سائر الأخطاط‏.‏

وفي ليلة الثلاثاء سادسه تحرك العسكر وطلبوا العلوفة من محمد علي فقال لهم ليس لكم عندي علوفة حتى ينزل أحمد باشا من القلعة ونحاسبه وتأخذوا علائفكم منه فلم يمتثلوا وتركوا المتاريس التي حوالي القلعة فتفرقوا وذهبوا فذهب جماعة من الرعية وتترسوا مواضعهم‏.‏

وفي ليلة الخميس ثامنه حضرت طائفة من العسكر الساكنين بناحية المظفر وقت الغروب وضربوا على من بالمتاريس من الأجناد والرعية على حين غفلة وخطفوا عمائم وأسلحة وأجلوهم عن المتراس وجلسوا به فتسامع أهل الرميلة فاجتمعوا وحضروا إليهم وكبيرهم حجاج الخضي وإسماعيل جودة وهجموا عليهم وقتلوا منهم أنفارًا وانحاز باقيهم إلى الوكالة فأغلقوها عليهم فحضر ذو الفقار كتخدا ودافع عنهم وأخرجهم ثم أرسل إلى محمد علي وأمرهم بالهروب من تلك الجهة‏.‏

وفي يوم السبت عاشره حصل من بعض أفراد العسكر قبائح وقتلوا بعض أنفار وحمارين وبغلين وقبض العامة أيضًا على أشخاص منهم وقتلوا منهم أيضًا وحضر طائفة من الأرنؤد وملكوا سبيل اسكندر بباب الخرق وحضر أيضًا طائفة ببيت السيد عمر أفندي النقيب فقام فيهم الحرس الواقفون عند باب البيت فهرب منهم طائفة خيالة ودخل منهم البعض فحجزوهم ووقعى في الناس هوزعات وكرشات ثم أحضر حسن آغا نجاتي المحتسب وأمر الأفندي بالمناداة فمر وأمامه المنادي يقول حسبما رسم السيد عمر الأفندي والعلماء لجميع الرعايا بأن يأخذوا حذرهم وأسلحتهم ويحترسوا في أماكنهم وأخطاطهم وإذا تعرض لهم عسكري بأذية قابلوه بمثلها وإلا فلا يتعرضوا له وأخذ الناس يعملون متاريس في رؤس الأخطاط ثم تركوا ذلك وحضر أيضًا شخص من طرف محمد علي ونادى بمثل ذلك ومعه أيضًا شخص ينادي بالتركي بمعنى ذلك‏.‏

وفي الليلة الماضية حضر كتخدا محمد علي ليلًا ومعه فرمان أرسله أحمد باشا المخلوع إلى الدلاة يطلبهم للحضور ويذكر لهم أنه يجب عليهم معاونته صيانة لعرض السلطنة وإقامة لناموسها وناموس الدين وأن الفلاحين محاصرونه ومانعون عند الأكل والشرب فلما وصل ذلك الفرمان إليهم بقليوب أرسلوه إلى محمد علي وأرسله محمد علي إلى السيد عمر أفندي النقيب‏.‏

وفي يوم الأحد حادي عشره وقعت أيضًا مناوشات وتعدى بعض العسكر ودخلوا باب زويلة ووصلوا إلى العقادين فخرجت عليهم طائفة المغاربة وغيرهم فتترس منهم جماعة بجامع الفاكهاني فحصروهم به وقبضوا على نحو العشرة أنفار فأخذهم السيد محمد المحروقي ودافع عنهم العامة وقتل من الفريقين بعض أنفار وحضر عابدي بك وطلبهم فسلموهم إليه ورجع‏.‏

وفي تلك الليلة أيضًا ذهب جماعة من العسكر إلى جهة الرميلة يطلبون أنفارًا منهم ساكنين بتلك الناحية أخذ أهل الرميلة سلاحهم وحبسوهم عندهم فذهبت امرأة من المتزوجات بهم فأخبرتهم فحضر منهم طائفة أواخر النهار وطلبوهم فلم يسلموا فيهم وحاربوهم وهزموهم إلى جهة الصليبة وقتل بينهم أنفار ورجع العسكر واختلطت القضية واشتبه أمرها على أهل البلد فلا يعرف كلا الفريقين الصاحب من العدو فتارة يتشابك العسكر مع أهل البلد وكذلك أهل البلد معهم وتارة يتشابك فرقة منهم مع الكائنين بالقلعة وتارة الفريقان يساعد بعضهم بعضًا وإذا رقع بين الكائنين بنواحي الرميلة مع العسكر فرح من بالقلعة وأغروا أولاد البلد بهم ومنهم من يغري العسكر على أولاد البلد ويقولون لهم بلسانهم وبالعربي اضربوا الفلاحين ونحو ذلك وبالجملة فهي قضية مشكلة بين أوباش مختلفة وطباع معوجة منحرفة ومضت ليالي المولد الشريف ولم يشعر بها أحد‏.‏

وفيه حضر كبار الدلاة فخلع عليهم محمد علي باشا خلعًا وكساوي وسافروا ثم ارتحلوا من قليوب يريدون الذهاب إلى محاربة الألفي وأتباعه ومن معهم من العرب فأنهم أفحشوا في نهب البلاد ونهب الأموال ما لم يسمع بمثله ولم يتقدم نظيره فساروا على البلاد والقرى يأخذون الكلف وينهبون ويقتلون ويفسقون في النساء والأولاد ولم يذهبوا إلى ما وجهوا إليه‏.‏

وفي ليلة الأربعاء رابع عشره حضر كتخدا محمد علي وجرجس الجوهري إلى بيت السيد عمر وحضر أيضًا الشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير والقاضي وتشاوروا على أمر ورأي رآه محمد علي باشا وأما علي باشا السلحدار الذي جهة مصر القديمة فإنه أخذ في استمالة العسكر وفتنتهم وانضم إليهم كثير منهم ووعدهم بعلائفهم وصار يراسل أحمد باشا سرًا ويرسل إليه الخبز واللحم والسكر والذخيرة على الجمال من باب صغير فتحوه من عرب اليسار من داخل‏.‏

وفي ليلة السبت أجمع رأي علي باشا السلحدار على مكيدة يصنعها وهو أنه يركب فيمن معه ويهجم على المتاريس من جهة الصليبة وأرسل إلى مخدومه يعلمه بذلك وأنه إذا هجم من تلك الناحية يساعده هو من القلعة برمي الدافع والقنابر على البلد والمتاريس فتنزعج الناس ويتم لهم ما مكروه وكتب رجب آغا وسليمان آغا وهما كبؤرا عسكر علي باشا المذكور تذكرة عن عندهما خطابًا للسيد عمر أفندي النقيب وباقي المشايخ مضمونها أنهما يريدان الحضور إلى جهة القلعة ويسعيان في أمر يكون فيه الراحة للفريقين وتسكين الفتنة ويلتمسان من المخاطبين أنهم يرسلون إلى من بالمتاريس من العمة بأن يخلوا لهما طريقًا ولا يتعرضون لهما فحضر إلى السيد عمر أفندي النقيب من أخبره بذلك الاتفاق بعد الفجر قبل حضور التذكرة فأرسل إلى من بالنواحي والجهات وأيقظهم وحذرهم فاستعدوا وانتظروا وراقبوا النواحي فنظروا إلى ناحية القرافة فرأوا الجمال التي تحمل الذخيرة الواصلة من علي باشا إلى القلعة ومعها أنفار من الخدم والعسكر وعدتهم ستون جملًا فخرج عليهم حجاج الخضري ومن معه من أهالي الرميلة وحاربوهم وأخذوا منهم تلك الجمال وقتلوا شخصين من العسكر وقبضوا على ثلاثة وحضروا بهم وبرؤس المقتولين إلى بيت السيد عمر فأرسلهم إلى محمد علي باشا فأمر بقتل الآخرين فلما رأى من بالقلعة ذلك فعندها رموا بالمدافع والقنابر على البلد وبيت محمد علي وحسن باشا وجهة الأزهر ولم يزالوا يراسلون الرمي من أول النهار إلى بعد الظهر فلم ينزعج أهل البلد من ذلك لما ألفوه من أيام الفرنسيس وحروبهم السابقة ثم رموا كذلك من العشاء إلى سادس ساعة من الليل فلم يجبهم أحد ولم يرموا عليهم شيئًا من الجبل مع استعدادهم لذلك وأصبحوا يوم الأحد فواصلوا الرمي بطول النهار وكذلك ليلة الاثنين ويوم الاثنين هذا‏.‏

وفي كل ليلة يطلع إلى الجبل أربعة عشر جملًا تحمل قرب الماء على كل بعير أربع قرب وستة أقفاص خبز على ثلاثة جمال نقلتين في كل يوم وأصعدوا جبخانة وجللًا وقنابر وضربوا عليهم في ذلك اليوم ضربًا قليلًا واستمر ذلك ليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء فأكثروا الرمي وسقطت قنابر وجلل في عدة أماكن مع الضرر القليل وباتوا على ذلك ليلة الأربعاء ويومه وليلة الخميس ويومه إلى آخر النهار وبطل الرمي تلك الليلة فقال الناس أنهم تركوا ذلك احترامًا لليلة الجمعة‏.‏

وفي تلك الليلة حضر جماعة من أهل الأطارف ليلًا وحرقوا باب الجبل وأوقدوا فيه النار فظن أهل الجبل أن أهل القلعة يريدون الخروج فضربوا عليهم مدافع فتنبه من بالقلعة وأسرعوا إلى جهة باب الجبل وضربوا بالرصاص فلما تحقق من بالجبل القضية رموا عليهم أيضًا وتسامع الناس كثرة الضرب الرصاص فلم يعلموا الحقيقة ورجع من أتى إلى الباب من غير طائل فلما طلع النهار ظهر الأمر‏.‏

وفي اليوم الثاني بعد الظهر تسلق جماعة من العسكر القلعاوية على سلالم صنعوها من حبال ونزلوا إلى جهة المحجر لأخذ شيء من الأكل والشرب وهم نحو العشرين فتنبه الناس لهم واجتمعوا بالخطة وأخذوا ما أخذوه من أهل الدور من الخبز والدقيق وقرب الماء وصعدوا من حيث أتوا وأعادوا الرمي بالمدافع والقنابر من عصر يوم الجمعة وليلة السبت واستمروا على ذلك وسقط بسبب ذلك حيطان وبعض من أبنية الدور وخرج كثير من الناس وبعدوا عن جهات الضرب وخصوصًا جهة الأزهر وذهبوا إلى ناحية الحسينية والأطارف وخرجت النساء وفي يوم الأحد أرسل كتخدا محمد علي باشا إلى السيد عمر وأشار عليه بإرسال العتالين والشيالين إلى ناحية قلعة الفرنساوية التي بقنطرة الليمون لرفع المدفع الكبير الذي هناك وأرسلوا أشخاصًا من الإنكليز يتقيدون بذلك فجمعوا الرجال والأبقار وذهبوا إلى هناك وأحضروه وأخرجوه من باب البرقية يريدون وضعه عند باب الوزير حيث مجرى السيل ليرموا به على برج القلعة واستمروا في جره يومين‏.‏

وفي ذلك اليوم نزل أيضًا ستة أشخاص يريدون أخذ الماء من صهريج جهة الحطابة فضرب عليهم من هناك من المتترسين فهربوا وطلعوا من حيث نزلوا‏.‏

وفي ليلة الثلاثاء نصبوا المدفع المذكور وضربوا به وضربوا أيضًا من أعلى الجبل ومن بالقلعة يضربون على البلد يواصلون الضرب بالمدافع والقنابر والبنبات الكبار والآلات المحرقة واستمروا على ذلك إلى ليلة الجمعة الأخرى فسكن الرمي تلك الليلة وأصيب كثير من الدور والحيطان والأبنية وأصابت أشخاصًا قتلتهم ووزن بعض البنبات فبلغ وزنها بما فيها قنطارين‏.‏

شهر ربيع الثاني سنة 1220 استهل بيوم الجمعة فيه وردت أخبار من ثغر سكندرية بورود قابجي وهو صالح آغا الذي كان يابقًا بمصر ببيت رضوان كتخدا إبراهيم بك وعلى يده جوابات بالراحة فحصلت ضجة في الناس وفرحوا ورمحوا بطول ذلك اليوم وعملوا شنكًا تلك الليلة التي هي ليلة السبت ورموا سواريخ في سائر النواحي وضربوا بنادق وقرابين بالأزبكية وخارج باب الفتوح وباب النصر والمدافع التي على أبراج الأبواب ولما سمع من بالقلعة ومن بمصر القديمة ظنوا أن العساكر الذين في قلوبهم مرض تحاربوا مع أهل البلد فرموا من القلعة بالمدافع والبنب وحضر علي باشا ومن معه من جهة مصر القديمة ونزل من القلعة طائفة من العسكر جهة عرب اليسار وتترسوا هناك فاجتمع عليهم حجاج وأهل الرميلة ومن معهم من عسكر محمد علي وتحاروا مع المتترسين والواصلين وضربوا من القلعة على محاربيهم وعلى أهل البلد وكذلك من بالجبل ومن بالذنجزية يضربون على القلعة المدافع والسواريخ ونزل أيضًا طائفة وهجموا على الذنجزية وأرادوا سد فلوة المدفع الكبير فضربوا عليهم وقتل كبيرهم ومعه آخر وأخذوا سلاحهم ورؤسهما وأحضروهما إلى السيد عمر وحصل بالبلدة تلك الليلة من ضرب النار من كل ناحية ما هو عجيب من المستغربات واختلط الشنك بالحرب وصار الضرب من الجبل على القلعة بالبنب والمدافع والسواريخ وكذلك من القلعة على البلدة وعلى الذنجزية ومنها على القلعة والمحاربين مع بعضهم البعض والشنك من كل جهة واجتماع الناس والعامة بالأخطاط والنواحي وضربوا طبولًا ومزامير ونقرزانات وكانت ليلة من الغرائب وأصبحوا على الحال الذي هم عليه من الرمي بالمدافع والبنب‏.‏

وفي يوم الأحد سافرت أنفار من الوجاقلية وغيرهم لملاقاة صالح آغا وصحبتهم طائفة من العسكر أرسلها محمد علي باشا في مركب لخفارته وقد كانوا اتفقوا على سفر بعض المتعممين ثم بطل ذلك وأرسل السيد عمر أفندي باشجاويش والسيد عثمان البكري وسلحدار محمد علي والخواجه عمر المطيلي وبكتاش وأحمد أوده باشا‏.‏ وفي

ليلة الثلاثاء أشيع وصول القابجي إلى بولاق ليلًا

فخرج كثير من العامة لملاقاته أفواجًا واصطفوا في الأسواق للفرجة عليه واستمروا على ذلك الرج بطول النهار ولم يصل أحد ثم تبين عدم وصوله وأنه وصل إلى ثغر رشيد وفي ذلك اليوم وقت الشروق حصلت زلزلة عظيمة وارتجت الأرض نحو أربع درجات‏.‏

وفي يوم الأربعاء سافر جماعة من المتعممين وهم السيد محمد الدواخلي وابن الشيخ الأمير والشيخ بدوي الهيثمي وابن الشيخ العروسي واستمر الحال على ذلك اليوم ويوم الخميس والجمعة ولم يبطل رمي المدافع والبنب ليلًا ونهارًا في غالب الأوقات ما عدا ليلة الجمعة ويومها إلى العصر‏.‏

وفي ليلة الاثنين وصل الخبر بوصول القابجي إلى قليوب وأنه طلع إلى بر فوة وسار من هناك وحضر في ذلك اليوم المشايخ الذين كانوا ذهبوا لملاقاته فلما أشيع ذلك اجتمع الناس وطوائف العامة وخرجوا من آخر الليل وهم بالأسلحة والعدد والطبول إلى خارج باب النصر ووقفوا بالشوارع والسقائف للفرجة وكذلك النساء والصبيان وازدحموا ازدحامًا زائًا ووصل الآغا المذكور وصحبته سلحدار الوزير إلى زاوية مرداش ونزلا هناك وعمل لهما إسماعيل الطبجي الفطور فأكلاه وشربا القهوة وركبا وانجرت الطوائف والغوغاء من العامة وهم يضربون بالبنادق والقرابين والمدافع من أعلى سور باب النصر والفتوح واستمر مرورهم نحو ثلاث ساعات وخرج كتخدا محمد علي وأكابر الأرنؤد وطائفة من العسكر كبيرة والوجاقلية وكثير من الفقهاء العاملين رؤس العصب وأهالي بولاق ومصر القديمة والنواحي والجهات مثل أهل باب الشعرية والحسينية والعطوف وخط الخليفة والقرافتين والرميلة والحطابة والحبالة وكبيرهم حجاج الخضري وبيده سيف مسلول وكذلك ابن شمعة شيخ الجزارين وخلافه ومعهم طبول وزمور والمدافع والقنابر والبنبات نازلة من القلعة فلم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى الأزبكية فنزلوا بيت محمد علي باشا وحضر المشايخ والأعيان وقرؤوا المرسوم الذي معه ومضمونه الخطاب لمحمد علي باشا والي جدة سابقًا ووالي مصر حالًا من ابتداء عشرين ربيع أول حيث رضي بذلك العلماء والرعية وأن أحمد باشا معزول عن مصر وأن يتوجه إلى سكندرية بالإعزاز والإكرام حتى يأتيه الأمر بالتوجه إلى بعض الولايات وسكن صالح آغا القابجي المذكور ببيت الخواجا محمود حسن بالأزبكية وسكن السلحدار عند السيد محمد بن المحروقي‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ركب السيد عمر في جمع كثير من العسكر من أولاد البلد والمغاربة والصعائدة والأتراك والكل بالأسلحة وذهب إلى عند علي باشا وجلس عنده حصة وذهب إلى القابجي وسلم عليه وذهب إلى السلحدار أيضًا وسلم عليه ورجع‏.‏

وفيه بطل الرمي من القلعة وكذلك أبطلوا الرمي عليها من الجبل والذنجزية مع بقاء المحاصرة والمتاريس حول القلعة من الجهات ومنع الواصل إليهم واستمرار من بالجبل ويطلع إليهم في كل يوم الجمال الحاملة للخبز وقرب الماء واللوازم وأما الدلاة فاستقروا بمحلة أبي علي وطلبوا الفرد والكلف من البلاد ووصل محمد بك الألفي إلى دمنهور البحيرة فتمنعوا عليه فحاصر البلد وضربوا عليه أيامًا كثيرة‏.‏

وفيه وقع بباب الشعرية مناوشة بين العسكر وأولاد البلد بسبب سكن البيوت وكذلك جهة باب اللوق وبولاق ومصر القديمة وقتل بينهم أنفار وقتل أيضًا المتكلم بمصر القديمة وحصلت زعجات في الناس‏.‏

وفي يوم الأربعاء مر بعض أولاد البلد بجهة الخرنفش فضربه بعض عسكر حجو الساكن ببيت شاهين كاشف فقتله فثارات أهل الناحية وتضاربوا بالرصاص واجتمع العسكر بتلك الناحية ودخلوا من حارة النصارى النافذة من بين السورين وصعدوا إلى البيوت ونقبوا نقوبًا وصاروا يضربون على الناس من الطيقان واجتمع الناس وانزعجوا وبنوا متاريس عند رأس الخرنفش ومرجوش وناحية الباسطية براس الدرب وتحاربوا وقتل بينهم أشخاص من الفريقين ونهب العسكر وعدة دور وتسلقوا على بيت حسن بك مملوك عثمان الحمامي الحكيم وذبحوه ونهبوا بيته الذي براس الخرنفش وكذلك رجل زيات وعبد صالح آغا الجلفي وحسن ابن كاتب الخردة وكانت واقعة شنيعة استمرت إلى العصر وحضر الآغا وكتخدا محمد علي فلم تسكن الفتنة وحضر أيضًا إسماعيل الطبجي هذه الحادثة أن رجلًا عسكريًا اشترى من رجل خردجي ملاعق ثم ردها من الغد فلم يرض وتسابا فضربه العسكري فصاح الخردجي وقال ما حيل من الله يضرب النصراني الشريف فاجتمع عليه الناس وقبضوا عليه وسحبوه إلى بيت النقيب فلما قربوا من البيت ضربوه وقتلوه وأخرجوه إلى تل البرقية ورموه هناك فحصل بسبب ذلك ما ذكر‏.‏

وفيه أرسلوا صورة المكاتبة الواردة مع صالح آغا إلى الباشا فلم يمتثل وامتنع من النزول وقال أنا متول بخطوط شريفة وأوامر منيفة ولا أنعزل بورقة مثل هذه وطلب الاجتماع بصالح آغا وفي يوم الخميس وقع بين حجاج الخضري والعسكر مقاتلة جهة طيلون وقتل بينهم أشخاص‏.‏

وفيه تواترت الأخبار بقدوم الأمراء المصريين القبليين إلى جهة مصر‏.‏

وفيه اجتمع الشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير وغالب المتعممين وقالوا إيش هذا الحال وما تداخلنا في هذا الأمر والفتن واتفقوا أنهم يتباعدون عن الفتنة وينادون بالأمان وأن الناس يفتحون حوانيتهم ويجلسون بها وكذلك يفتحون أبواب الجامع الأزهر ويتقيدون بقراءة الدروس وحضور الطلبة وركبوا إلى محمد علي وقالوا له أنت صرت حاكم البلدة والرعية ليس لهم مقارشة في عزل الباشا ونزوله من القلعة وقد أتاك الأمر فنفذه كيف شئت وأخبروه برأيهم فأجابهم إلى ذلك وركب الآغا وصحبته بعض المتعممين ونادوا في المدينة بالأمن والأمان والبيع والشراء وأن الناس يتركون حمل الأسلحة بالنهار وإذا وقع من بعض العسكر قباحة رفعوا أمره إلى محمد علي وإن كان من الرعية رفعوه إلى بيت السيد عمر النقيب وإذا دخل الليل حملوا الأسلحة وسهروا في أخطاطهم على العادة وتحفظوا على أماكنهم فلما سمع الناس ذلك أنكروه وقالوا إيش هذا الكلام حينئذ نصير طعمة للعسكر بالنهار وخفراء بالليل والله لا نترك حمل أسلحتنا ولا نمتثل لهذا الكلام ولا هذه المناداة ومر الآغا ببعض العامة المتسلحين فقبض عليهم وأخذ سلاحهم فازدادوا قهرًا وباتوا على ذلك واجتمعوا عند السيد عمر النقيب وراجعوه في ذلك فاعتذر وأخبر بأن وفي ليلة الجمعة المذكورة حصل خسوف قمر كلي وكان ابتداؤه من بعد العشاء الأخيرة بنصف ساعة وانجلى في سابع ساعة وأصبح يوم الجمعة فحضر عند السيد عمر كتخدا بك وعابدي بك في جمع من العسكر وجلسوا عنده ساعة وذكروا له أن في عضرها يرسلون إلى الباشا الكائن بالقلعة ويجتمعون عليه بالنزول فإن أبى جدوا في قتاله ومحاربته وذكروا أنه ممالئ الأمراء القبالي وهو الذي أرسل بحضورهم ومطعمهم في المملكة فلزم الاجتهاد في إنزاله من القلعة ثم يتفرغون لمحاربة القادمين ويخرجون إليهم بالعساكر ثم قاموا من عنده وذهبوا إلى بيت القاضي وحضر جحو آغا الذي كان يحارب بالخرنفش فرجع صحبته كتخدا بك عند السيد عمر ليأخذ بخاطره وصحبته طائفة من العسكر فوقفوا متفرقين ودخل منهم طائفة إلى بيت الشيخ الشرقاوي وباقيهم بالشارع وتجمع حولهم أهالي البلد بالأسلحة فاتفق بينهم انطلاق بندقية إما خطأ أو قصدًا فهاجت الناس وماجت واجتمعوا من كل ناحية وخرج جاويشية النقابة إلى نواحي الدائرة ينادون في الناس ويقولون عليكم ببيت السيد عمر النقيب يا مسلمين انجدوا إخوانكم وحصلت من تلك البندقية التي انطلقت فزعة عظيمة وصاح السيد عمر على الناس من الشباك يأمرهم بالسكون والهجوع فلم يسمعوا له ونزل إلى أسفل ووقف بباب داره يصيح بالناس فلا يزدادون إلا خباطًا وأقبلوا طوائف من كل جهة فصار يأمرهم بالمرور والخروج إلى جهة باب البرقية ولم يزالوا على ذلك إلى بعد صلاة الجمعة حتى سكن الحال وقام جحو والكتخدا حتى تغديا مع السيد عمر وركبا وذهبا ونودي في عصر ذلك اليوم بالأمان وفتح الحوانيت والبيع والشراء ولا يرفعون معهم السلاح بل يحملونه معهم في حوانيتهم تحذرًا من غدر العسكر وفتحوا أبواب الأزهر‏.‏

وفي يوم السبت فتح الناس بعض الحوانيت ونزل المشايخ إلى الجامع الأزهر وقرؤوا بعض الدروس ففترت همم الناس ورموا الأسلحة وأخذوا يسبون المشايخ ويشتمونهم لتخذيلهم إياهم وشمخ عليهم العسكر وشرعوا في أذيتهم وتعرضوا لقتلهم وإضرارهم‏.‏

وفي يوم الأحد قتلوا أشخاصًا في جهات متفرقة وضج الناس وأغلقوا الدكاكين وكثرت شكاويهم وأقلقوا السيد عمر النقيب وهو يعتذر إليهم ويقول لهم اذهبوا إلى الشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير فهما اللذان أمرا الناس برمي السلاح فلما زادت الشكوى نادوا في الناس بالعود إلى حمل السلاح والتحذر‏.‏

وفيه وصل الأمراء القبليون إلى قرب الجيزة وعدى منهم طائفة إلى البر الشرقي جهة دير الطين والبساتين وهم عباس بك ومحمد بك المنفوخ ورشوان كاشف وهدموا قلاع طرا وساووها بالأرض‏.‏

وفي يوم الاثنين ركب محمد علي وخرج إلى جهة مصر القديمة وصحبته حسن باشا وأخوه عابدي بك فنزل بقصر يلفيه وأقاموا إلى العصر وخرج كثير من العسكر إلى ناحية مصر القديمة ثم ركب محمد علي وحسن باشا وأخوه إلى أخر النهار وساقوا إلى جهة البساتين ومعهم العساكر أفواجًا فلما قربوا من الأمراء المصريين تقهقروا إلى خلف ورجعوا إلى جهة قبلي وقيل عدوا إلى بر الجيزة وانضم إليهم علي باشا الذي بالجيزة واستمر محمد علي ومن معه بمصر القديمة وتراموا بالمدافع‏.‏

وفي يوم الثلاثاء حضر أيضًا جماعة من القبليين إلى الجيزة وتراموا بالمدافع والبنب من البرين ذلك اليوم وليلة الأربعاء‏.‏

وفيه عدى طائفة الدلاة الكائنين بالبر الغربي وانضم إليهم المقيمون بجزيرة بدران وحضروا إلى بولاق وهجموا على البيوت وأخرجوا سكانها قهرًا عنهم وأزعجوهم من أوطانهم وسكنوها وربطوا خيولهم بخانات التجار ووكالة الزيت فحضر الكثير من أهالي بولاق إلى بيت السيد عمر وتظلموا وتشكوا فأرسل إلى كتخدا بك يمنعهم من ذلك فلم يمتنعوا واستمروا على فعلهم وقبائحهم‏.‏

وفيه طلب محمد علي باشا دراهم سلفة من النصارى والتجار وقرروا فردة على البلاد والبنادر وهي أول طلبة طلبها بعد رآسته‏.‏

وفي يوم الخميس حادي عشرينه وردت أخبار بوصول قبطان باشا إلى ثغر سكندرية وأبي قير وصحبته مراكب كثيرة لا يعلم المرسون أخبار من بها فاجتمع المشايخ واتفقوا على كتابة عرضحال يرسلونه إليه مع بعض المتعممين ثم اختلفت آراؤهم في ذلك فلما كان يوم الاثنين ورد الخبر بورود سلحدار قبطان المذكور إلى شلقان فأعرضوا عن ذلك‏.‏

وفيه وقع طائفة من العسكر الكائنين ببولاق وأهل البلد مناوشة بسبب نقب البيوت وقتل بينهم أنفار واستظهر عليهم أهل بولاق‏.‏

وفي يوم الثلاثاء وصل السلحدار إلى بولاق وركب من هناك إلى المكان الذي أعد له وصحبته مكاتبة إلى أحمد باشا المخلوع ومضمونها الأمر بالنزول من القلعة ساعة وصول الجواب إليه من غير تأخير وحضوره إلى الإسكندرية وجواب آخر إلى محمد علي بإبقائه في القائمقامية حيث ارتضاه الكافة والعلماء والوصية بالسلوك والرفق بالرعية والكلام المحفوظ المعتاد الذي لا أصل له وأن يقلد من قبله باشا على عسكر يعين إرساله إلى البلاد الحجازية ويسهل له جميع احتياجاته من الجبخانة وسائر الاحتياجات واللوازم فأرسلوا إلى أحمد باشا المخلوع بجوابه فقال حتى يطلع إلى السلحدار الواصل ويخاطبني مشافهة‏.‏

وفي صبح يوم الأربعاء قبض المحافظون على خيال مقبل من جهة مصر القديمة يريد الطلوع إلى القلعة من آخر النهار وجدوا معه أوراقًا فأخذوه إلى محمد علي باشا فوجدوا في ضمنها خطابًا إلى الباشا المخلوع من علي باشا وياسين بك الكائنين بالجيزة مضمونها أنه في صبح يوم الجمعة نطلق من الجيزة سبعة سواريخ تكون إشارة بيننا وبينكم فعندما ترونها تضربون بالمدافع والبنب على بيت محمد علي ونحن نعدى إلى مصر القديمة ويصل البرديسي من خلف الجبل إلى جهة العادلية ويأتي باقي المصريين من ناحية طرا ويقوم من بالبلدة على من فيها فيشغلون الجهات ويتم المرام بذلك فلما اطلع محمد علي على ذلك وكان القاضي حاضرًا عنده اشتد غيظه على ذلك الرجل ووجده من الأكراد فاستجار بالقاضي فلم يجره وأمر به فأخذوه وقتلوه ورموه ببركة الأزبكية‏.‏

وفي يوم الخميس أحضروا سبعة رؤوس وعلقوها على السبيل المواجه لباب زويلة ذكروا أنها من ناحية دمنهور وعلى أحدها ورقة مكتوبة أنها رأس شاهين بك الألفي وأخرى سلحداره وهي متغيرة جدًا ومحشوة تبنًا ولا يظهر لها خلق ولم يكن لذلك صحة‏.‏

وفيه أخبر الإخباريون بأن الألفي ارتحل من دمنهور ولم ينل منها غرضه وأنه كبس على سليمان كاشف البواب ونهب ما معه وقيل أنه قتل وفي رواية وقع إلى البحر وهرب باقي أتباعه إلى جهة المنوات في أسوأ حال وأخذ منه شيئًا كثيرًا وهو ما جمعه في هذه السرحة وذلك خلاف ما جمعه في العام الماضي عندما كان كاشفًا بمنوف ومن ذلك أنه لما قتل موسى خالدًا أخذ منه مالًا كثيرًا وذلك خلاف ما دل عليه من خباياه‏.‏

وفي تلك الليلة طلع السلحدار المذكور وصحبته صالح آغا القابجي الذي وصل قبله إلى القلعة واجتمع بأحمد باشا المخلوع وتكلما معه فقال أنا لست بعاص ولا مخالف للأوامر وإنما لصالح آغا وعمر علائف نحو خمسمائة كيس باقية ولم يبق عندي شيء سوى ما على جسدي من الثياب وقد أخذ العسكر المحاربون موجوداتي جميعًا فإذا طيبتم خواطرهما نزلت في الحال فنزلا بذلك الجواب ثم ترددوا في الكلام والعقد والإبرام ولم يحسن السكوت على شيء‏.‏

وفيه وصل الأمراء القبالي إلى حلوان وعلي بك أيوب دخل إلى الجيزة صحبة من بها وسليمان بك خارجها‏.‏

وفي يوم الجمعة عدى ياسين بك من الجيزة إلى متاريس الروضة ولم يكن بها سوى الطبجية فطلعوا إليهم وقبضوا على بعضهم وأخذوا منهم ثلاثة مدافع وسدوا فالية المدفع الكبير وآخر رموه إلى البحر فثارت رجة بمصر القديمة والروضة وضربوا بالمدافع والرصاص ورجع الواصلون من الجيزة إلى أماكنهم وحضر الألفي إلى جهة الطرانة‏.‏

وفيه حضر صالح آغا القابجي إلى السيد عمر النقيب وأخبره أنهم تواعدوا مع أحمد باشا في عصر غد من يوم السبت إما أن ينزل أو يستمر على عصيانه فلما كان يوم السبت في الميعاد أفرجوا عن ضعفاء الرعية الكائنين بالقلعة وكذلك النساء بعدما أخذوا ما معهم من الأمتعة والثياب وأبقوا عندهم الشبان والأقوياء للمعاونة في الأشغال وأظهروا المخالفة وامتنعوا من النزول وباتوا على ذلك وكث اللغط في الناس وانقضى شهر ربيع الثاني على ذلك‏.‏

شهر جمادى الأولى سنة 1220 استهل بيوم الأحد فيه ضربوا ثلاثة مدافع من القلعة وقت الشروق وكأنها إشارة وعلامة لأصحابهم‏.‏

وفي يوم الاثنين سبح جماعة من الجيزة إلى جهة أنبابة وكان ببولاق طائفة من العسكر يترامحون بجهة ديوان العشور فضربوا عليهم مدافع فحصل ببولاق ضجة وركب محمد علي باشا أواخر النهار وذهب إلى بولاق ونزل ببيت عمر بك الأرنؤدي ووضب جملة من العسكر وعدوا ليلًا وطلعوا ناحية بشتيل وحضروا إلى جهة أنبابة يوم الثلاثاء وتحاربوا مع من بها حتى أجلوهم عنها وعملوا هناك متاريس في مقابلتهم واستمروا على ذلك يتضاربون بالمدافع‏.‏

وفي يوم السبت سابعه طلع بشير آغا القابجي وصالح آغا السلحدار إلى القلعة وتكلموا مع أحمد باشا ومن معه وقد كانت وردت مكاتبات من قبكان باشا في أمر أحمد باشا ثم نزلوا وصحبتهم كتخدا أحمد باشا إلى بيت سعيد آغا الوكيل وركبوا معه إلى بيت محمد علي باشا واختلوا مع بعضهم ثم طلع طالح آغا وأربعة من عظمائهم ثم نزلوا ثم طلعوا وترددوا في الذهاب والإياب ومراددة الخطاب وبات الكتخدا أسفل وطلب القلعاويون شروطًا وعلائفهم الماضية وغير ذلك وانتهى الكلام بينهم على نزول أحمد باشا المخلوع في يوم الاثنين وتسليم القلعة والجبخانة‏.‏

وأصبح يوم الاثنين فطلبوا جمالًا لحمل أثقالهم فأرسلوا إلى السيد عمر فجمع لهم من جمال الشواغرية مائتي جمل فنقلوا عليها متاعهم وفرشهم وأنزل الباشا حريمه إلى بيت مصطفى آغا الوكيل ونزل كثير من عساكرهم وخدمهم وهم متغيروا الصور وذهب أكثرهم بعزالهم إلى بولاق ونهبوا بيوت الرعايا التي بالقلعة وأخذوا ما وجدوه فيها من المتاع وطلع حسن آغا سرششمه بجملة من العسكر إلى القلعة وانقضى ذلك اليوم ولم ينقض نزولهم وحضر الوالي أيضًا وقت العشاء إلى بيت السيد عمر وطلب خمسين جملًا فلم يتيسر إلا بعضها‏.‏

وأصبح يوم الثلاثاء فأنزلوا باقي متاعهم ونزل الباشا المخلوع من باب الجبل في رابع ساعة من النهار على جهة باب النصر ومر من خارجه إلى جهة الخروبي وذهب إلى بولاق وصحبته كتخدا محمد علي باشا وعمر بك وصالح آغا قوش ونزل صحبته مدافع تعوق بعضها عند الذنجزية لضعف الأكاديش وسكن ببيت السيد عمر النقيب وسكن صالح آغا ببيت شيخ السادات وذلك عاشر جمادى الأولى واطمأن الناس بعض الاطمئنان مع بقاء التحرز وأرسل السيد عمر فنادى تلك الليلة باستمرار الناس على التحرز والسهر وضبط الجهات فإن القوم لا أمان لهم وانحشروا في داخل المدينة والوكائل والبيوت ولا يتركون قبائحهم وأما الأمراء المصرلية فإنهم وصلوا إلى التبين واجتمعوا هناك ما عدا علي بك أيوب وسليمان بك وعباس بك فإنهم بالجيزة مع علي باشا وياسين بك وأما الدالاتية الأنجاس فإنهم مستمرون على نهب البلاد وسلب الأموال وأذية العباد‏.‏

ونهبوا كاشف الغربية وهجموا على سمنود وهي مدينة عظيمة فنهبوا بيوتها وأسواقها وأخذوا ما فيها من الودائع والأموال وسبوا النساء وفعلوا أفعالًا شنيعة تقشعر منها الأبدان ثم انتقلوا إلى المحلة الكبرى وهم الآن بها أما محمد بك الألفي فإنه حاصر دمنهور مدة مديدة فلم يتمكن منها ثم ارتحل عنها ورجع مقبلًا ووصل ناحية الطرانة وأما قبطان باشا فإنه لم يزل مقيمًا على ساحل أبي قير‏.‏

وفي يوم الخميس وصلت الأخبار بذهاب قبطان باشا إلى سكندرية وفي يوم الأحد خامس عشره نزل أحمد باشا المخلوع إلى المراكب من بولاق وسافر إلى جهة بحري وأتباعه المختصين به وتخلف عنه كتخداه وعمر بك وصالح قوش والدفتردار وكثير من أتباعه ولم يسهل بهم مفارقة أرض مصر وعنائمها مع أنهم مجتهدون في خرابها‏.‏

وفيه وصل الألفي الكبير والصغير إلى بر الجيزة‏.‏

وفي يوم الاثنين اتفق جماعة من الأرنؤد وقصدوا الذهاب إلى بر الجيزة فوصل خبرهم إلى محمد علي باشا فأرسل إليهم عسكرًا ومعهم جحو فلحقهم عند المعادي بحري بولاق فقتلوا منهم نحو عشرين وهرب باقيهم وتفرقوا‏.‏

وفي بنى حجاج الخضري حائطًا وبوابة على الرميلة عند عرصات الغلة‏.‏

وفي يوم الأربعاء سابع عشره قبض محمد علي باشا على جرجس الجوهري ومعه جماعة من الأقباط فحبسهم ببيت كتخداه وطلب حسابه من ابتداء خمس عشرة وأحضر المعلم غالي الذي كان كاتب الألفي بالصعيد وألبسه منصبه في رآسة الأقباط وكذلك خلع على السيد محمد ابن المحروقي خلع الاستمرار على ما كان عليه أبواه من أمانة الضربخانة وغيرها‏.‏

وفي تلك الليلة قتل شخص كبير بيكباشي تحت بيت الباشا بالأزبكية وضربوا لموته مدفعًا وذلك لأمر نقموه عليه‏.‏

وفيه سافر كتخدا بك إلى جهة المنوفية وقبض على كاشفها وأخذ ما معه من الأموال التي جمعها من منهوبات البلاد ودل على ودائعه وأخذها أيضًا ووجد له غلالًا كثيرة ومواشي وغير ذلك وفي يوم الجمعة عشرينه الموافق لحادي عشر مسى أفى النيل المبارك أذرعه ونودي بذلك وأشيع في ذلك اليوم وصول فرقة من الأمراء المصريين من خلف الجبل وبات الناس مستعدين للفرجة على موسم الخليج على العادة فأمر الباشا بإخراج الخيام والنظام إلى ناحية الجسر وعمل الحراقة ثم أمر بكسر السد ليلًا فما طلع النهار إلا والماء يجري في الخليج ولم يذهب الباشا ولا القاضي ولا أحد من الناس ولم يشعروا بذلك وكان قد بلغه ورود الأمراء فتأخر عن الخروج وهم ظنوا خروجه مع العسكر إلى خارج المدينة وفي وقت الشروق من ذلك اليوم وصل طائفة من الأمراء إلى ناحية المذبح وكسروا بوابة الحسينية ودخلوا من باب الفتوح في كبكبة عظيمة وخلفهم نقاقير كثيرة وجمال وأحمال فشقوا من بين القصرين حتى وصلوا إلى الأشرفية وشخص لهم الناس وضجوا بالسلام عليهم وبقولهم نهار مبارك وسعيد والحمد لله على السلامة وشخص الناس وبهتوا وخمنوا التخامين فلما وصلوا عطفة الخراطين افترقوا فرقتين فدخل عثمان بك وحسن وشاهين بك المرادي وأحمد كاشف سليم وعباس بك وغيرهم كشاف وأجناد ومماليك وعبيد كثيرة نحو الألف وخلف كل طائفة نقاقير وهجن وبأيديهم البنادق والسيوف والأسلحة ومروا بالجامع الأزهر وذهبوا إلى بيت السيد عمر والشيخ الشرقاوي فامتنع السيد عمر من مقابلتهم فدخلوا إلى بيت الشيخ الشرقاوي وحضر عندهم السيد عمر فطلبوا منهم النجدة وقيام الرعية فقالوا لهم هذا لا يصح ولم يكن بيننا وبينكم موعد ولا استعداد والأولى ذهابكم وإلا أحاطت بنا وبكم العساكر وقتلونا معكم فعند ذلك ركبوا وخرجوا من باب البرقية وبعد خروجهم حضر في أثرهم حسن بك الأرتؤدي في عدة وافرة من العسكر وهم مشاة وخرج خلفهم فوجدهم خرجوا إلى الخلاء فرجع على أثره وأما الفرقة الأخرى فإنهم وصلوا إلى باب زويلة وتقدموا قليلًا إلى جهة الدرب الأحمر فضرب عليهم العسكر الساكنون هناك بالرصاص فرجعوا القهقرى إلى داخل باب زويلة وأرادوا الدخول إلى جامع المؤيد والكرنكة بتلك الناحية فضرب عليهم المغاربة والمرابطون هناك فأصيب منهم أشخاص وقوي جأش العسكر الذين جهة الدرب الأحمر لما سمعوا ضرب الرصاص وتنبه غيرهم واجتمعوا لمعاونتهم وانصرع منهم ثلاثة أشخاص وقعوا إلى الأرض فلما عاينوا ذلك ولوا الأدبار وتبعهم العسكر يضربون في أقفيتهم فلم يزالوا في سيرهم إلى النحاسين وقد أغلق الناس بوابة الكعكيين وكذلك بوابة الخراطين وبوابة البندقانيين وكان جحو الساكن بالخرنفش عندما سمع بدخولهم لحقه الفزع والخوف فخرج من بيته بعسكره يريد الفرار وخرج من عطفة الخرنفش وذهب إلى جهة باب النصر لظنه أنه لا يمكنه الخروج من باب الفتوح الذي دخلوا منه فلما وصل إلى باب النصر وجده مغلقًا وامتنع المرابطون عليه من فتحه فعاد على أثره وذهب إلى باب الفتوح فلم يجد به أحمد فاطمأن حينئذ وعلم سوء رأيهم فأغلقه وأجلس عنده جماعة من أتباعه ورجع على أثره إلى جهة بين القصرين فصادف أدبار الجماعة والعسكر في أقفيتهم بالرصاص فعند ذلك قوي جأشه وضرب في وجوههم هو ومن معه من العسكر فاختبل القوم وسقط في أيديهم وعلموا أنه قد أحيط بهم فنزلوا عن خيولهم ودخل منهم جماعة كثيرة جامع البرقوقية وذهب منهم طائفة كبيرة بخيولهم نحو المائة إلى جهة باب النصر فوجدوه مغلقًا فنزلوا أيضًا عن خيولهم ودخلوا العطوف ونطوا من السور إلى الخلاء وتفرق منهم جماعة اختفوا في الجهات وبعض الوكائل والبيوت ولما انحصر الذين دخلوا جامع البرقوقية وأغلقوا على أنفسهم الباب احتطت بهم العسكر وأحرقوا الباب وتسور أيضًا عليهم جماعة من العطفة التي بظاهر البرقوقية وقبضوا عليهم وعروهم ثيابهم وأخذوا ما معهم من الذهب والنقود والأسلحة المثمنة وذبحوا منهم نحو الخمسين مثل الأغنام وسحبوا نحو ذلك العدد بالحياة وهم عرايا مكشوفوا الرؤوس حفاة الأقدام موثوقو الأيدي يضربونهم ويصفعونهم على أقفيتهم ووجوههم ويسبونهم ويشتمونهم ويسحبونهم على وجوههم حتى ذهبوا بهم وبرؤوس القتلى إلى بيت الباشا بالأزبكية وكان قد استعد للفرار وتحير في أمره ونزل إلى أسفل يريد الركوب وإذا بالعسكر داخلون عليه ومعهم الرؤوس والأسرى في أيديهم فعند ذلك سكن جأشه وامتلأ فرحًا ولما مثل بين يديه أحمد بك تابع البرديسي الذي كان أميرًا بدمياط وحسن شبكة ومن معهما قال لأحمد بك يا أحمد بك وقعت في الشرك فطلب ماء فحلوا كتافه وأتوا بماء يشرب فنظر لمن حوله وخطف يقطانًا من وسط بعض الواقفين وهاج فيهم وأراد قتل محمد علي باشا وقتل أنفارًا فقام الباشا وهرب إلى فوق وتكاثروا عليه وقتلوه ووضعوا باقي الجماعة في جنازير وفي أرجلهم القيود وربطوهم بالحوش وهم على الحالة التي حضروا فيها من العري والحقارة والذلة‏.‏

وفي ثاني يوم أحضروا الجزارين وأروهم بسلخ الرؤوس بين يدي المعتقلين وهم ينظرون إلى ذلك وأحضروا جماعة من الاسكافية فحشوها تبنًا وخيطوها‏.‏

وفي ليلة الاثنين خرج عابدي بك بعساكر الأرنؤد برًا وبحرًا إلى جهة طرا فالتقى مع من بها من المصريين وكان بها إبراهيم بك الكبير وابنه مرزوق بك وأمراؤهم فقتل من عسكر الأرنؤد عدة كبيرة وولوا منهزمين وحضروا إلى مصر وغرق من مراكبهم مركبان في ليلة الثلاثاء‏.‏

وفي تلك الليلة قتلوا المعتقلين ما عدا حسن شبكة ومعه اثنان قيل أنهم عملوا على أنفسهم ثلاثمائة كيس فأبقوهم وقتلوا الباقي قتلًا شنيعًا وعذبوهم في القتل من أول الليل إلى آخره ثم قطعوا رؤوسهم وحشوها تبنًا ووسقوها في مركب وأرسلوها إلى الإسكندرية وعدتهم ثلاثة وثمانون رأسًا وفيهم من غير جنسهم وأناس جربجية ملتزمون واختيارية التجؤوا إليهم ورافقوهم في الحضور وبعثوا من يوصلهم إلى إسلامبول وكتبوا في المراسلة أنهم حاربوهم وقاتلوهم وحاصروهم حتى أفنوهم واستأصلوهم ولم يبقوا منهم باقية وهذه الرؤوس رؤوس أعيانهم وأكابرهم فكان عدة من قتل في هذه الحادثة من المعروفين المنصبين مراد بك تابع عثمان بك حسن وفبطان بك تابع البرديسي وسليم بك الغريبة وأحمد بك الدمياطي وعلي بك تابع خليل بك ونحو الخمسة والعشرين من مماليكهم وأتباعهم ونجا حسن بك شبكة واثنان معه دون أتباعه وباقيهم أشخاص مجهولة فيهم فرنساوية وأرنؤدية ولم يتفق للأمراء المصرية أقبح ولا أشنع من هذه الحادثة وربط الله على قلوبهم وأعمى أبصارهم وغل أيديهم‏.‏

وفي يوم الأربعاء حضر طائفة الدلاة إلى ناحية الخانكة بعدما طافوا إقليم الغربية والمنوفية والشرقية والدقهلية وفعلوا أفعالًا شنيعة من النهب والسلب والقتل والأسر والفسق وما لا يسطر ولا يذكر ولا يمكن الإحاطة ببعضه‏.‏

وفيه أفرجوا عن جرجس الجوهري ومن معه على أربعة آلاف وثمانمائة كيس وأن يبقى على حاله فشرع في توزيعها على باقي الأقباط وعلى نفسه وعلى كبرائهم وصيارفهم ما عدا فلتيوس وغالي وحولت عليه التحاويل وحصل لهم كرب شديد وضج فقراؤهم واستغاثوا‏.‏

وفي يوم الجمعة خرج عدة كبيرة من العسكر إلى ناحية الشرق لمحاربة الدلاة وأميرهم عمر بك تابع عثمان بك الأشقر ومحمد بك المبدول وكثير من الأجناد المصرية وحسن باشا الأرنؤدي‏.‏

يوم السبت رجع القرابة المشاة

وذهب الخيالة خلفهم متباعدين عنهم بمرحلة فكان شأنهم أن الدلاة المذكورين إذا وردوا قرية نهبوها وأخذوا ما وجدوه فيها وأخذوا الأولاد والبنات وارتحلوا فيأتي خلفهم العرب التابعون خلفهم فيطلبون الكلف والعليق وينهبون أيضًا ما أمكنهم ثم يرتحلون أيضًا خلفهم فتنزل بعدهم التجريدة فيفعلون أقبح من الفريقين من النهب والسلب حتى ثياب النساء وأخذ الدلاة من عرب العائد خمسمائة جمل وذهبوا على طريق رأس الوادي‏.‏

وفيه ورد الخبر بوصول كتخدا بك إلى منوف وقبض على كاشفها وأخذ منه ما جمعه ثم أنه فرد على البلاد التي وجد بها بعض العمار أموالًا من ألف ريال فأزيد وحصر ذلك في قائمة وهي نحو الستين بلدًا وأرسل يستأذن في ذلك ويطلب عدم الرفع عن شيء منها ليحصل قدرًا يستعان على علائف العسكر وجماكيهم وليكمل خراب الإقليم وانقضى شهر جمادى الأولى‏.‏

شهر جمادى الثانية سنة 1220 استهل بيوم الاثنين في ثانيه وصل ولدا محمد علي باشا إلى ساحل بولاق فركب أغوات الباشا وفي ثالثه طلع محمد علي باشا إلى القلعة وأجلس ابنه الكبير بها وضربوا له في ذلك الوقت مدافع‏.‏

وفي رابعه رجع عابدي بك ومن بصحبته من المصرلية من جهة الشرق وقد وصلوا خلف الدلاة إلى حد العائد ثم رجعوا وذهب الدلاة إلى جهة الشام بما معهم من المال والغنائم والجمال والأحمال وعدتها أكثر من أربعة آلاف جمل وما نهبوه من البلاد وأسروه من النساء والصبيان وغير ذلك وكانوا من نقمة الله على خلقه ولم يحصل من مجيئهم وذهابهم إلا زيادة الضرر ولم يحصل الباشا المخلوع الذي استدعاهم لنضرته إلا الخذلان وكان في عزمه وظنه أنهم يصيرون أعوانه وأنصاره ويستعين بهم وبطائفة الينكجرية على إزالة الطائفة الأخرى فانتحس بقدومهم وأورثه الله ذلهم وتخلوا عنه وخذلوه وضاع عليه ما صرفه عليهم في استدعائهم وملاقاتهم وخلعهم وتقدماتهم ومصارفهم وعلائفهم وخرجهم ولم ينفعوه بنافعة بل كانوا من الضرر الصرف عليه وعلى الإقليم وكان كلما خوطب وعوقب في أمر أو فعل يقول اصبروا حتى تأتي الدالاتية ويحصل بعد ذلك النظام فلم يحصل بوصولهم إلا الفساد وانتقضت دولته وانعست قضيته‏.‏

وفيه شرعوا في عمل دفتر فردة على البلاد التي بقي فيها بعض الرمق‏.‏

وفي خامسه حضر كتخدا بك ليلًا وأشار بإبطال ذلك الدفتر لما فيه من الإشاعة والشناعة واتفق مع الباشا والمتكلمين أنه يفعل ذلك باجتهاده ورأيه ورجع في تلك الليلة وشرع في التحصيل مع الجور والعسف الزائد كما هو شأنهم‏.‏

وفيه سافر أيضًا جانم أفندي الدفتردار وسافر صحبته قابجي باشا الأسود المسمى بشير آغا‏.‏

وفيه سافر بعض كبرائهم إلى جهة السويس ليأتي بالمحمل‏.‏

وفي يوم الجمعة ورد أحمد أفندي من سكندرية وهو الذي كان أتى بالدفتردارية في العام السابق ومنعه أحمد باشا خورشيد من الورود وكتبوا في شأنه عرضحال من المشايخ والوجاقلية بمنعه وإبقاء جانم أفندي واستمر بالإسكندرية إلى هذا الوقت وحضر الآن بمراسلة من قبطان باشا وأحضر صحبته تقرير السعيد آغا على الوكالة وإبقائه على ما هو عليه ونظر الخاصكية لسليمان آغا حافظ‏.‏

وفي يوم الأحد رابع عشره تغيب جرجس الجوهري فيقال أنه هرب ولم يظهر خبره وطلب محمد علي فلتيوس وغالي وجرجس الطويل‏.‏

وفي يوم الاثنين حضر محمد كتخدا الألفي بجواب من مخدومه وقابل محمد علي باشا وذهب إلى بيته لقضاء أشغاله‏.‏

وفيه وصلت القافلة والمحمل وأراد الباشا نهب قافلة التجار فصالحوا على أحمالهم بألف كيس ودخل المحمل في ذلك اليوم صحبة المسفر‏.‏

وفيه طلب الباشا حسن آغا نجاتي المحتسب والأمير إبراهيم الرزاز وطلب أن يقلد حسن آغا كتخدا الحج والأمير إبراهيم ديودار بشرط أن يكلفا أنفسهما من مالهما فاعتذرا بعدم قدرتهما على ذلك فحبسهما وطلب من كل واحد منهما خمسمائة كيس وعزل حسن آغا وقلد عوضه آخر يسمى قاضي أوغلي على الحسبة‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ظهر الخبر عن جرجس الجوهري بأنه ركب من دير مصر العتيقة وذهب إلى الأمراء المصرلية بناحية التبين‏.‏

وفي يوم الأربعاء سابع عشره توفي الشيخ محمد الحريري مفتي الحنفية‏.‏

وفي يوم الجمعة تاسع عشره توفي حسن أفندي ابن عثمان الأماحي الخطاط‏.‏

وفيه قلدوا علي جلبي بن أحمد كتخدا على كشوفية القليوبية ولبس القفطان وركب بالملازمين‏.‏

وفيه سافر محمد كتخدا الألفي عائدًا إلى مخدومه وذهب صحبته السلحدار وموسى البارودي‏.‏

وفي عشرينه تقلد الحسبة شخص يقال له عبد الله قاضي أوغلي وكذلك تقلد قبله بأيام إبراهيم الحسيني الزعامة وهو حليق اللحية وتقلد محمد من مماليك إسماعيل بك ويعرف بالألفي وهو زوج هانم ابنة بنت إسماعيل بك آغاوية مستحفظان‏.‏

وفيه أفرجوا عن حسن آغا المحتسب وإبراهيم الرزاز وقرروا على الأول خمسة وستين كيسًا وعلى الثاني خمسة عشر كيسًا يقومان بدفعها‏.‏

وفيه أنزلوا قوائم على البلاد والحصص التي كانت تحت التزام جرجس الجوهري إلى المزاد فاشتراها القادرون والراغبون‏.‏

وفي حادي عشرينه قلدوا ياسين بك كشوفية بني سويف والفيوم وكذلك لبسوا كاشفًا على منفلوط وغيرها‏.‏

وفي أواخره حضر محمد كتخدا الألأفي والسلحدار وذكرا مطلوبات الألفي وهو أنه يطلب كشوفية الفيوم وبني سويف والجيزة والبحيرة ومائتي بلد التزام وأنه يأتي إلى الجيزة ويقيم بها ويكون تحت طاعة محمد علي باشا وتشاوروا في ذلك أيامًا وأما باقي الأمراء المصرليين فإنهم انتقلوا من مكانهم وترفعوا إلى جهة قبلي بناحية بياضة ثم اتفق الرأي على أن يعطوهم من فوق جرجًا وينزل بها الحاكم المولى عليها من العثمانية وأن المصريين القبالي اقتسموا بينهم البلاد ويقومون بدفع المال والغلال الميرية وكل ذلك لا أصل له ولا حقيقة من الطرفين وكتبوا للألفي مكاتبات بذلك وأن يكون في ضمنهم‏.‏

وفي أواخره أيضًا احتاج محمد علي باشا إلى باقي علوفة العسكر فتكلم مع المشايخ في ذلك وأخبرهم بأن العسكر باق لهم ثلاثة آلاف كيس لا نعرف لتحصيلها طريقة فانظروا رأيكم في ذلك وكيف يكون العمل ولم يبق إلا هذه النوية ومن هذا الوقت إذا قبض العسكر باقي علائفهم سافروا إلى بلادهم ولم يبق منهم إلا المحتاج إليهم وأرباب المناصب ولا يأخذون بعد ذلك علائف فكثر التروي في ذلك ولغط الناس بالفردة وتقرير أموال على أهل البلد وانحط الأمر بعد ذلك على قبض ثلث الفائظ من الحصص والالتزام فضج الناس وقالوا هذه تصير عادة ولم يبق للناس معايش فقال نكتب فرمانًا ونلتزم بعدم عود ذلك ثانيًا ونرقم فيه لعن الله من يفعلها مرة أخرى ونحو ذلك من التمويهات الكاذبة إلى أن رضي الناس واستقر أمرها وشرعوا في تحريرها وطلبها‏.‏

شهر رجب الفرد سنة 1220 استهل بيوم الأربعاء وفي حادي عشره سافر محمد كتخدا الألفي بالجواب المتقدم إلى مخدومه بعد أن قضى أشغاله واحتياجاته من أمتعة وخيام وسروج وغير ذلك وخرج ياسين بك وباقي الكشاف المسافرون إلى الجيزة وطلبوا المراكب حتى عز وجودها وامتنع ورودها من الجهة البحرية‏.‏

وفي ثالث عشره سافر المذكورون بعساكرهم وسافر أيضًا علي باشا سلحدار أحمد باشا خورشيد المنفصل إلى سكندرية وأما قبطان باشا فإنه لم يزل بثغر سكندرية‏.‏

وفي منتصفه برز طاهر باشا الذاهب إلى البلاد الحجازية بعساكره إلى خارج باب النصر‏.‏

وفيه وردت الأخبار بأن الوهابيين استولوا على المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم بعد حصارها نحو سنة ونصف من غير حرب بل تحلقوا حولها وقطعوا عنها الوارد وبلغ الأردب الحنطة بها مائة ريال فرانسة فلما اشتد بهم الضيق سلموها ودخلها الوهابيون ولم يحدثوا بها حدثًا غير منع المنكرات وشرب التنباك في الأسواق وهدم القباب ما عدا قبة الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي تاسع عشره وقع بالأزبكية معركة بين العسكر قتل بها واحد من أعيانهم واثنان آخران ورجل سائس وبغل وفرس وحمار‏.‏

وفي خامس عشرينه ورد الخبر بسفر القبطان وأحمد باشا خورشيد من ثغر سكندرية‏.‏

وفيه حضر أهل رشيد يتشكون إلى السيد عمر النقيب والمشايخ ويذكرون أن محمد علي باشا أرسل يطلب منهم أربعين ألف ريال فرانسة على ثلاثة عشر نفرًا من التجار بقائمة‏.‏

وفيه حضر محمود بك الذي كان بالمنية وتواترت الأخبار بوصول الغز المصريين إلى أسيوط وملكوها وأما الألأفي فإنه جهة الفيوم ووقع بينه وبين جماعة ياسين بك محاربة وظهر عليهم وأرسل ياسين بك يطلب عسكرًا وذخيرة‏.‏

وفي خامس عشرينه ركب المشايخ والسيد عمر النقيب إلى محمد علي وترجوا عنده في أهل رشيد فاستقرت غرامتهم على عشرين ألف فرانسة وسافروا على ذلك وأخذوا في تحصيلها‏.‏

وفيه طلب بترك الدير واحتجوا عليه بهروب جرجس الجوهري وانحط الأمر على المصالحة بمائة وأربعين كيسًا وزعها النصارى على بعضهم ودفعوها‏.‏

شهر شعبان سنة 1220 استهل بيوم الجمعة فيه أمر محمد علي باشا برفع حصص الالتزام التي على النساء وكتبوا قوائم مزادها وانحط الأمر على المصالحات بقدر حالهن وغير ذلك أمور كثيرة وجزئيات وتحيلات على استنضاح الأموال لا يمكن ضبطها‏.‏

وفي أواخره زوج محمد علي حسن الشماشرجي تابعه ببنت سليم كاشف الأسيوطي وهي بنت عبد الرحمن بك تابع عثمان بك الجرجاوي وهي ربيبة أحمد كاشف تابع سليم كاشف المذكور فعقدوا عقدها وعملوا لها مهما ببيت أمها هانم بحارة عابدين واحتفل بذلك محمد علي وأمر بأن يعمل لها زفة مثل زفف الأمراء المتقدمين ونبهوا على أرباب الحرف فعملوا لهم عربات وملاعيب وسخريات قاموا بكلفها من مالهم الموزع على أفرادهم وداروا بازفة يوم الخميس غاية شعبان وحضر محمد علي إلى مدرسة العوريه مع أولاده ليرى ذلك وعمل له السيد محمد المحروقي ضيافة في ذلك اليوم وأحضر إليه الغداء بالمدرسة ولما انقضى أمر الزفة شرعوا في عمل موكب المحتسب ومشايخ الحرف لرؤية رمضان وحضروا إلى بيت القاضي ولم يثبت الهلال تلك الليلة وانقضى شهر شعبان‏.‏

واستهل شهر رمضان بيوم السبت سنة 1220 وفي هذا اليوم شح وجود اللحم وغلا سعره لعدم المواشي وتوالى الظلم والعسف والفرد والكلف على القرى والبلاد حتى بلغ الرطل اللحم الجفيط الهزيل خمسة وعشرين نصفًا إن وجد والجاموسي اثني عشر نصفًا وامتنع وجود الضاني بالأسواق بالكلية رأسًا ولما استهل رمضان انكب الناس على من يوجد من جزارين اللحم الخشن وكذلك شح وجود السمن وعم بالكلية وإذا وجد منه شيء خطفه العسكر وذهبوا به إلى سوق أنبابة يوم السبت أول رمضان ونهبوا ما وجدوه مع الفلاحين من الزبد والجبن وغير ذلك وزاد فحشهم وقبحهم وتسلطهم على إيذاء الناس وكثروا بالبلد وانحشروا من كل جهة وتسلطوا على تزوج النساء قهرًا اللاتي مات أزواجها من الأمراء المصرلية ومن أبت عليهم أخذوا ما بيدها من الالتزام والإيراد وأخرجوها من دارها ونهبوا متاعها فما يسعها إلا الإجابة والرضا بالقضاء وتزوج بعضهم بزوجة حسن بك الجداوي وهي بنت أحمد بك شنن وأمثالها ولم ينفعهن الهروب ولا الاختفاء ولا الالتجاء وتزيوا بزي المصريين في ملابسهم وركبوا الخيول المسومة بالسروج المذهبة والقلاعيات والرخوت المكلفة وأحدق بهم الخدم والأتباع والقواسة والسواس والمقدمون ووصل كل صعلوك منهم لما لا يخطر على باله أو يتوهمه أو يتخيله ولا في عالم الرؤيا مع انحراف الطبع والجهل المركب وعمى البصيرة والفظاظة والقساوة والتجارى وعدم الدين والحياء والخشية والمروءة ومنهم من تزوج الاثنتين والثلاث وصار له عدة دور‏.‏

وفيه تواترت الأخبار بما حصل لياسين بك وأنه بعد انهزامه هرب بجماعة قليلة وذهب عند سليمان بك المرادي وانضم إليه‏.‏

وفي ثالث عشره نهبوا بيت ياسين بك المذكور وأخذوا ما فيه ونفوا محمد أفندي أباه وأنزلوه في مركب وذهبوا به إلى بحري وقيل أنهم قتلوه‏.‏

وفيه وردت الأخبار بأنه غرق بمينا الإسكندرية أحد عشر غليونًا من الكبار وذلك أنه في أواخر شعبان هبت رياح غربية عاصفة ليلًا فقطعت مراسي المراكب ودفعتها الرياح إلى البر فانكسرت وتلف ما فيها من الأموال والأنفس ولم ينج منها إلا القليل وكذلك تلف ثمان وأربعون مركبًا واصلة من بلاد الشام إلى دمياط ببضائع التجار‏.‏

وفيه حضر جماعة من الألفية إلى بر الجيزة وطلبوا كلفًا من إقليم الجيزة وقبضوها ورجعوا إلى الفيوم ومضى في أثرهم عربان أولاد علي من ناحية البحيرة وعاثوا بأراضي الجيزة فعينوا لهم طاهر باشا الذي كان مسافرًا إلى بلاد الحجاز وخرج بعساكره وخيامه وموكبه إلى خارج باب النصر ونصب وطاقه وصار يضرب في كل ليلة مدافعه وطبله ونوبت واستمر مقيمًا على ذلك نحو ثلاثة شهور وهم يجمعون له الأموال ويفردون الفرد على الأقاليم ويقولون برسم تشهيل العسكر المسافر للخوارج واستخلاص البلاد الحجازية من أيديهم ولم يزالوا يحتجون بعدم أخذ النفقة وفي كل يوم يتسللون شيئًا بعد شيء ويدخلون إلى المدينة ويتفرقون إلى الجهات حتى لم يبق منهم إلا القليل ثم أنهم ارتحلوا من مخيمهم بحجة العرب وطردهم من الجيزة فلما عدوا إلى الجيزة دخلوا إلى دورها وسكنوها غصبًا عن أهلها واستولوا على فراشهم متاعهم ولم يخرج منهم أحد للعرب ولم يتعدوا خارج السور وبطل أمر السفرة المذكورة‏.‏

وفي تاسع عشره أرسل محمد علي من قبض على الآغا الشمعدانجي وعثمان آغا كتخدا بك سابقًا وقت المغرب وأنزلوهما إلى بولاق في مركب وذهبوا بهما يقال أنهم قتلوهما ومعهما اثنان أيضًا من كبار العسكر ولم يعلم سبب ذلك وأنزلوا حصصهم في المزاد‏.‏

وفيه فتحوا طلب الميري من الملتزمين عن سنة إحدى وعشرين مع أن سنة تاريخه لم يستحق منها الثلث وكانوا فتحوها معجلة لقدر الاحتياج وقبضوا نصفها وطلبوا النصف الآخر بعد أربعة أشهر وأما هذه فطلبوها بالكامل قبل أوانها بسنة وخصوصًا في شهر رمضان مع الناس فيه من ضيق المعاش وغلو الأسعار في كل شيء بل وهدم وجود الأقوات ووقوف العسكر خارج المدينة يخطفون ما يأتي به الفلاحون من السمن والجبن والتبن والبيض وغير ذلك ومن دونهم العرب ومثل ذلك في البحر والمراكب حتى امتنع وجود المجلوبات برًا وبحرًا وطلبوا المراكب لسفر العساكر بالتجاريد فتسامع القادمون فوقفوا عن القدوم خوفًا من النهب والتسخير ولم يبق بسواحل البحر مركب ولا قارب وبطل ديوان العشور ووصل سعر العشرة أرطال السمن ستمائة نصف فضة إن وجد والعشرة من البيض بخمسة عشر فضة إن وجد والدجاجة بأربعين نصفًا والرطل الصابون بستين نصفًا ولم يزل يتزايد حتى وصل الرطل إلى مائة وعشرين والراوية الماء بأربعين نصفًا والرطل القشطة بستين نصفًا والرطل السمك الطري بستة عشر نصفًا والقديد المملوح بعشرة أنصاف وقد كان يباع بنصفين وبالعدد من غير وزن والحوت الفسيخ بأربعين نصفًا وقس على ذلك‏.‏

وفي عشرينه رجع خازندار طاهر باشا إلى جهة العادلية ثانيًا ومعه جملة من العسكر وصاروا يضربون في كل ليلة مدفعين واستمر طاهر باشا بالجيزة‏.‏

وفيه كتب محمد علي باشا مكاتبة الأمراء القبالي وأرسل بها مصطفى آغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي ليصطلحوا على أمر‏.‏

وفيه وصل أيضًا جماعة من الألفية إلى جهة سقارة وبلاد الجيزة وطلبوا منها كلفة ودراهم فأمر محمد علي بخروج العساكر فتلكؤا واحتجوا بطلب العلوفة فعزم على الخروج بنفسه فلما كان ليلة الأربعاء سادس عشرينه طلب كبار العساكر وركب معهم إلى مصر القديمة وشرعوا في التعدية بطول الليل وهم محمد علي وعسكره وخواصه وعابدي بك وعمر بك وصالح قوش والدلاة وكبيرهم وعلي كاشف الذي تزوج بنت شنن وأتباعه في تجمل وكبير الدلاة وطائفته وركب الجميع وقت الشروق وبرزوا إلى الفضاء وانفرد كل كبير بعسكره خمسة طوابير وستة ونظروا على البعد منهم فرأوا خيالة من العربان وغيرهم متفرقين كل جماعة في ناحية فحمل كل طابور على جماعة منهم فانهزموا أمامهم فساقوا خلفهم فخرج عليهم كمائن من خلفهم ووقع بينهم الضراب وحمل علي كاشف وآخر يقال له أوزي في جماعتهم فرأوه مجملًا فظنوه محمد علي فاحتاطوا به وتكاثروا عليه وأخذوه أسيرًا هو ومن معه وفر من نجا منهم ووقعت فيهم الهزيمة ورجع الجميع القهقرى وعدوا إلى بر مصر من غير تأخير وذهب من الأرنؤد طائفة إلى الأخصام وانضموا إليهم‏.‏

وفي هذه الأيام وقع بين أهل الأزهر منافسات بسبب أمور وأغراض نفسانية يطول شرحها وتحزبوا حزبين حزب مع الشيخ عبد الله الشرقاوي وحزب مع الشيخ محمد الأمير وهم الأكثر وجعلوا الشيخ الأمير ناظرًا على الجامع وكتبوا له تقريرًا بذلك من القاضي وختم عليه المشايخ والشيخ السادات والسيد عمر أفندي النقيب وكانت النظارة شاغرة من أيام الفرنسيس وكان يتقلدها أحد الأمراء فلما خرج الأمراء من مصر صارت تابعة للمشيخة لوقت تاريخه فانفعل لذلك الشيخ الشرقاوي ولما فعلوا ذلك اجتهد الشيخ الأمير في النظر لخدمة الجامع بنفسه وبابنه وأحضر الخدمة وكنسوا الجامع وغسلوا صحنه ومسحوه وفرشوا المقصورة بالحصر الجدد وعلقوا قناديل البوائك وصار كل يوم يقف على الخدمة ويأمرهم بالتنظيف وغسل الميضاة والمراحيض وأمر بغلق الأبواب من بعد صلاة العشاء ما عدا الباب الكبير ورتبوا له بوابًا وطردوا من يبيت به من الأغراب الذين يلتفون بالحصر ويلوثونها ببولهم وغائطهم ونحو ذلك‏.‏

وفي غايته ليلة الأحد التي هي ليلة العيد عدى طائفة من العسكر إلى بر الجيزة وانضموا إلى الأخصام وحصل في العسكر ارتجاج واختلافات وعملوا شنكًا في تلك الليلة في الأزبكية بعدما أثبتوا هلال شوال بعد العشاء الأخيرة وقد كانوا أسرجوا المساجد وصلوا التراويح ثم أطفؤا المنارات في ثالث ساعة من الليل‏.‏

شهر شوال سنة 1220 استهل بيوم الأحد المذكور وجميع الأمور مرتبكة والحال على ما هو عليه من الاضطراب ولم يحصل في شهر رمضان للناس جمع حواس ولا حظوظ ولا أمن وانكف الناس عن المرور في الشوارع ليلًا خوفًا من أذية العسكر وفي كل وقت يسمع الإنسان أخبارًا ونكات وقبائح من أفاعيلهم من الخطف والقتل وأذية الناس‏.‏

وفي رابعه قلدوا مناصب كشوفات الأقاليم وتهيؤا للذهاب وعملوا قوائم فرد ومظالم على البلاد خلاف ما تقدم وخلاف ما يأخذه الكشاف لأنفسهم وما يأخذونه قبل نزولهم وذلك أنه عندما يترشح الشخص منهم اتقليد المنصب يرسل من طرفه معينين إلى الإقليم الذي سيتولى عليه بأوراق البشارات وحق طرق باسم المعينين إما عشرين ألفًا أو أكثر أو أقل فإذا قبضوا ذلك اتبعوها بأوراق أخرى ويسمونها أوراق تقبيل اليد وفيها مثل ذلك أو أكثر أو أقل ثم كذلك أوراق لبس القفطان ونحو ذلك وقد يتفق بعد ذلك جميعه أنه يتولى خلافه ويستأنف العمل إلى غير ذلك هذا وكتخدا بك مستمر في سرحاته بالأقاليم وجمع الأموال والعسف والجور مرة بالمنوفية ومرة بالغربية ومرة بالشقية ولا يقرر إلا الأكياس من الشهريات والمغارم وحق الطرق والاستعجالات المترادفة مما لا يحيط به دفتر ولا كتاب‏.‏

وفي ثامنه توفي إبراهيم أفندي كاتب البهار وترك ولدًا صغيرًا فقلدوا مملوكه حسنًا في منصبه وكيلًا عن ولده‏.‏

وفي هذه الأيام كثر تحرك العسكر والمناداة عليهم بالخروج إلى نواحي طرا والجيزة وذلك بسبب أن بعض الألأفية عدى إلى ناحية الشرق وأخذوا كلفًا من البلاد وبعضهم وصل إلى وردان بالبر الغربي‏.‏

وفي عاشره حضر جملة من الدالاتية وغيرهم من ناحية الشام فمنهم من حضر في البحر على دمياط ومنهم من حضر في البر وعدى طاهر باشا الذي كان مسافرًا على جدة‏.‏

وفيه أيضًا سافرت القافلة المتوجهة إلى السويس وصحبتها نحو المائتين من العسكر وعليهم كبير من طرف طاهر باشا بدلًا عنه وسافر صحبتهم حسن أفندي القاضي المنفصل ليكون قاضيًا بمكة حسب القانون‏.‏

وفي خامس عشره وصلت قوافل التجار من السويس فأرسل محمد علي وفتح الحواصل وأراد أخذ بضائع التجار وفروق البن فانزعج التجار بوكائل الجالية وغيرها وذلك بعد أن دفعوا عشورها ونولونها وأجرها وما جعلوه عليها من المغارم السابقة وانحط الأمر على المصالحة عن كل فرق خمسون ريالًا ولم ينتطح في ذلك شاتان‏.‏

وفي حادي عشرينه حضر كتخدا بك إلى مصر بعد ما جمع الأموال من الأقاليم وفعل ما فعله من الفرد والمظالم الخارجة عن الحد‏.‏

وفي يوم الأربعاء خامس عشرينه توفي عثمان أفندي العباسي‏.‏

شهر ذي القعدة سنة 1220 استهل بيوم الثلاثاء والاجتهاد حاصل بخروج العسكر للتجريدة في كل يوم ونصبوا عرضيهم ببر الجيزة وناحية طرا من ابتداء شعبان كما تقدم وفي كل يوم يخرجون طوائف ويعودون كذلك‏.‏

وفي يوم الأربعاء تاسعه حضر مصطفى آغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي وعلي جاويش الفلاح الذين كانوا توجهوا إلى قبلي لأجل الصلح وحضر صحبتهم نيف وثلاثون مركبًا من السفار والمتسببين فيها غلال وأدهان وجلود وتمر وغير ذلك ولم يعلم حقيقة ما حصل‏.‏

وفي يوم الجمعة حادي عشره نودي على العسكر بالخروج من الغد بالتركي والعربي والتحذير من التأخير‏.‏

وفي يوم الأحد رجع مصطفى آغا بجواب ثانيًا هجانا من طريق البر‏.‏

وفي يوم الاثنين رابع عشره أخرجوا المحمل والكسوة وعين للسفر بهما من القلزم مصطفى جاويش العنتبلي ومعه صراف الصرة دفعوا له ربعها وثمنها وهذا لم يتفق نظيره‏.‏

وفي يوم الثلاثاء خامس عشره ورد نحو السبعين ططريًا ومعهم البشارة لمحمد علي باشا بوصول الأطواخ إلى رودس ووصل معهم أيضًا مراسيم بمنصب الدفتردارية لأحمد أفندي الملقب بجديد وهو الذي كان وصل في العام الأول بالدفتردارية إلى سكندرية في أيام أحمد باشا خورشيد وجانم أفندي الدفتردار ومنعوه عنها وكتبوا في شأنه عرضًا للدولة بعدم قبوله وأن أهل البلد راضون على جانم أفندي فلما حصل ما حصل لخورشيد باشا وعزل عن مصر وعزل أيضًا جانم أفندي حضر أيضًا أحمد أفندي المذكور بمراسيم أخر وفيها الوكالة لسعيد آغا مجددة له ونظر الخاصكية لحافظ سليمان واستمر من ذلك الوقت بمصر فوصل إليه الأمر بتقليد الدفتردارية وكان حسن أفندي الروزنامجي هو المتقلد لذلك فلما كان يوم الخميس سابع عشره اجتمع بديوان محمد علي صالح آغا قابجي باشا وسعيد آغا ونقيب الأشراف وبعض المشايخ ولبس أحمد أفندي خلعة الدفتردارية وشرطوا عليه أنه لا يحدث حوادث كغيره فإن حصل منه شيء عزلوه وعرضوا في شأنه وقبل ذلك على نفسه‏.‏

وفي يوم الجمعة ثامن عشره ارتحلت القافلة وصحبتها الكسوة والمحمل أواخر النهار من ناحية قايت باي بالصحراء وذهبوا إلى جهة السويس ليسافروا من القلزم‏.‏

وفيه وصلت الأخبار بأن بونابارته كبير الفرنسيس ركب في جمع كبير وأغار على بلاد النمساوية وحاربهم حربًا عظيمًا وظهر عليهم وملك تختهم وقلاعهم وطلب ملكهم بعد خروجه من حصونه فأعاده لممالكته بعد ما شرط عليه شروطه وملك غير ذلك من القرانات والحصون ثم سار إلى بلاد الموسقو ووقع بينه وبينهم هدنة على ثلاثة أشهر‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثالث عشرينه خرج حسن باشا طاهر إلى ناحية مصر القديمة‏.‏

وفي يوم السبت سادس عشرينه حضر مبشرون بحصول مقتلة عظيمة وأنهم أخذوا من الأخصام جملة عسكر أسرى ورؤوس فضربوا مدافع لذلك وأظهروا السرور‏.‏

وفي يوم الأحد وصلت الرؤوس والأسرى وهي إحدى وعشرون رأسًا وذراع مقطع وسبعة عشر أسيرًا ليس فيهم من يعرف ولا من جنس الأجناد وغالبهم فلاحون فأعطى محمد علي لكل أسير نصف دينار وأطلقهم ووضعوا الرؤوس والذراع عند باب زويلة‏.‏

وفيه وصلت القافلة من السويس ووصل أيضًا صحبتهم جنرال من الإنكليز راكب في تخت وحملته ومتاعه على نحو سبعين جملًا فذهب عند قنصلتهم فلما كان يوم الأربعاء غايته ركب في التخت وذهب عند محمد علي بالأزبكية فتلقاه وعمل له شنكًا ومدافع وقدم له هدية وتقادم ثم رجع إلى مكانه‏.

شهر ذي الحجة الحرام سنة 1220

استهل بيوم الخميس فيه حضر مصطفى آغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي من الجهة القبلية وقد تقدم أنهما ذهبا وعادا ثم رجعا ثانيًا على الهجن لتقرير الصلح ثم رجعا ولم يظهر أثر لذلك الصلح وحكى الناس عنهما أن المذكورين لما ذهبا إلى أسيوط وجدا إبراهيم بك قد انتقل إلى ناحية طحطا واجتمعا بعثمان بك حسن والبرديسي فلم يرضيا بالتوجيه الذي وجه به إليهم وهو من حدود جرجا وقالا لا يكفينا إلا من حدود المنية فأن الفرنساوية كانوا أعطوا حكم البلاد القبلية من حدود المنية لمراد بك بمفرده فكيف أنه يكفينا نحن الجميع من جرجا وشرطوا أيضًا أنه إن استقر الصلح على مطلوبهم لا بد من إخلاء الإقليم من هذه العساكر الذين لا يتحصل منهم إلا الضرر والخراب والدمار والفساد ولا يبقى الباشا منهم إلا مقدار ألأفي عسكري وقالوا أنه أيضًا إذا لم يعطنا مطلوبنا فهو لا يستغني عن أناس من العسكر يقيمون بالبلاد التي يبخل علينا بها فنحن أولى له وأحسن منهم ونقوم بما على البلاد من المال والغلال وعند ذلك يحصل الأمن وتسير المسافرون في المراكب وترد المتاجر والغلال ويحصل لنا وله راحة وأما إذا استمر الحال على هذا المنوال فإنه لم يزل متعبًا من كثرة العسكر ونفقاتهم وكذلك سائر البلاد على أنه إن لم يرض بذلك فها هي البلاد بأيدينا والأمر مستمر معنا ومعهم على التعب والنصب‏.‏

وفي رابعه ورد الخبر بأن جماعة من كبار العسكر وفيهم سليمان آغا الأرنؤدي الذي تولى كسوفية منفلوط ومعهم عدة وافرة من العسكر عدوا من المنية إلى البر الشرقي بالمطاهرة بسبب ما عندهم من القحط وعدم الأقوات لإحاطة المصريين بهم فلما دخلوا إلى بلدة المطاهرة وملكوها وصل إليهم بعض الأمراء والأجناد المصرية وأحاطوا بهم وحاربوهم أيامًا حتى ظهروا عليهم وقتلوا منهم وهرب من هرب وهو القليل وأسروا الباقي وفيهم سليمان آغا المذكور فالتجأ إلى بعض الأجناد فحماه من القتل وقابل به كبار الأمراء فأنعموا عليه بكسوة ودراهم وسلاح وأقام معهم أيامًا ثم استأذنهم للعود وحضر إلى مصر وجلس بداره‏.‏

وفيه ورد الخبر أيضًا بموت الأمير بشتك بك المعروف بالألفي الصغير مبطونًا‏.‏

وفيه أيضًا حضر حجاج الخضري الرميلاتي إلى مصر وقد كان خرج من مصر بعد حادثة خورشيد باشا خوفًا من العسكر وذهب إلى بلده بالمنوات ثم ذهب عند الألأفي وأقام في معسكره إلى هذا الوقت ثم أن الألأفي طرده لنكتة حصلت منه فرجع إلى بلده وأرسل إلى السيد عمر فكتب له أمانًا من الباشا فحضر بذلك الأمان وقابل الباشا وخلع عليه ونادوا له في خطته بأنه على ما هو عليه في حرفته وصناعته ووجاهته بين أقرانه فصار يمشي في المدينة وصحبته عسكري ملازم له‏.‏

وفي يوم الجمعة تاسعه كان يوم الوقوف بعرفة وفي ذلك اليوم ركب محمد علي بالأبهة الكاملة وصلى الجمعة بالمشهد الحسيني ولم يركب من وقت ولايته بالهيئة إلا في هذا اليوم وفي عصر تلك ضربوا عدة مدافع من القلعة إعلامًا بالعيد وكذلك في صبحها وفي كل وقت من الأوقات الخمسة مدة أيام التشريق‏.‏

وفي رابع عشره حضر جاهين بك الألأفي ومعه طوائف من العربان إلى إقليم الجيزة وأخذوا الكلف وأغنامًا من البلاد ودراهم وأشيع بذلك وأمروا بخروج العساكر إليهم وركب محمد علي باشا في يوم الخميس وخرج إلى ناحية بولاق وأنزلوا من القلعة جبخانه ومدافع وطفقوا يخطفون الحمير من الأسواق إن وجدوها وعدى طائفة من العساكر الخيالة إلى بر الجيزة وعدى طاهر باشا إلى بر أنبابة وصحبته عساكر كثيرة وأزعجوا أهل القرية وخرجوهم من دورهم وسكنوا بها وأطلقوا دوابهم وخيولهم على المزارع فأكلوها بأجمعها ولم يبقوا منها ولا عودًا أخضر في أيام قليلة‏.‏

وفيه اختفى حجاج الخضري أيضًا بسبب ما داخله من الوهم والخوف من العسكر‏.‏

وفي عشرينه شرع عساكر حسن باشا في التعدية من ناحية معادي الخبيري إلى البر الآخر‏.‏

وفي يوم الأحد خامس عشرينه عدى حسن باشا أيضًا‏.‏

وفي يوم الاثنين نودي في الأسواق على العساكر الذين لم يكونونا في قوائم العسكر الذين يقال لهم السير بالسفر والخروج إلى بلادهم ومن وجد منهم بعد ثلاثة أيام قتل وكذلك كتبوا فرمانات وأرسلوها إلى البلاد بمعنى ذلك ومن كان من أهل البلد أو المغاربة أو الأتراك بصورة العسكر ومتزييًا بزيهم فلينزع ذلك وليرجع إلى زيه الأول‏.‏

وفيه أيضًا نودي على المعاملة الناقصة لا تقبض إلا بنقص ميزانها لأن المعاملة فحش نقصها جدًا وخصوصًا الذهب البندقي الذي كان أحسن أصناف العملة في الوزن والعيار والجودة فأن العسكر تسلطوا عليه بالقص فيقصون من المشخص الواحد مقدار الربع أو أكثر أو أقل ويدفعونه في المشتروات ولا يقذر المتسبب على رده أو طلب إرش نقصه وكذلك الصيرفي لا يقدر على رده أو وزنه وقتل بذلك قتلى كثيرة وأغلق الصيارف حوانيتهم وامتنعوا من الوزن خوفًا من شرهم وكذلك نودي على التعامل في بيع البن بالريال المعاملة وهو تسعون نصفًا وقد كان الاصطلاح في بيع البن بالفرانسة فقط وبلغ صرف الفرانسة مائة وثمانين نصفًا ضعف الأول وعز وجوده لرغبة الناس فيه لسلامته من الغش والنقص لأن جميع معاملة الكفار قوله السير هكذا في نسخ وفي بعض النسخ القبسير ولم نقف بعد المراجعة عليها بهامش النسخة المطبوعة سالمة من الغش والنقص بخلاف معاملات المسلمين فأن الغالب على جميعها الزيف والخلط والغش والنقص فلما انطبعوا على ذلك ونظروا إلى معاملات الكفار وسلامتها تسلطوا عليها بالقطع والتنقيص والتقصيص تتميمًا للغش والخسران والانحراف عن جميع الأديان وقال صلى الله عليه وسلم الدين المعاملة ومن غشنا فليس منا فيأخذون الريالات الفرانسة إلى دار الضرب ويسبكونها ويزيدون عليها ثلاثة أرباعها نحاسًا ويضربونها قروشًا يتعاملون بها ثم ينكشف حالها في مدة يسيرة وتصير نحاسًا أحمر من أقبح المعاملات شكلًا ووضعًا لا فرق بينها وبين الفلوس النحاس التي كانت تصرف بالأرطال في الدول المصرية السابقة في الكم والكيف بل تلك أجمل من هذه في الشكل وقد شاهدنا كثيرًا منها وعليها أسماء الملوك المتقدمين ووزن الواحد منها نصف أوقية وكان الدرهم المتعامل به إذ ذاك من الفضة الخالصة على وزن الدرهم الشرعي ستة عشر قيراطًا ويصرف بثلاثة أرطال من الفلوس النحاس فيكون رف الدرهم الواحد اثنين وسبعين فلسًا تستعمل في جميع المشتروات والمرتبات والمعاليم واللوازم للبيوت والجزئيات والمحقرات فلما زالت الدولة القلوونية وظهرت دولة الجراكسة واستقر الملك المؤيد شيخ في سلطنة مصر وبدا الاختلال اختصر الدرهم المتعامل به وجعله نصف درهم وهو ثمانية قراريط وسمي نصف مؤيدي ولم تزل تتناقص حتى صارت في آخر الدولة الجركسية أقل من ربع الدرهم واختل أمر الفلوس النحاس والمرتبات والوظائف بالأوقاف المشروط فيها صرف المعاليم بالفلوس ولم يزل الحال يختل ويضعف بسبب الجور والطمع والغش وغباوة الأمر وعمي بصائرهم عن المصالح العامة التي بها قوام النظام حتى تلاشى أمر الدراهم جدًا في الوزن والعيار وصار الدرهم المعبر عنه بالنصف أقل من العشر للدرهم وفيه من الفضة الخالصة نحو الربع فيكون في النصف الذي هو الآن بدل الدرهم الأصلي من الفضة الخالصة أقل من ربع العشر فيكون في النصف الواحد من معاملتنا الآن الذي وزنه خمس قمحات فقيراط وربع ثلث قيراط من الفضة وذلك بدل عن ستة عشر قيراطًا وهو الدرهم الأصلي الخالص فانظروا إلى هذا الخسران الخفي الذي انمحقت به البركة في كل شيء فإن الدرهم الفضة الآن صار بمنزلة الفلس النحاس القديم فتأمل واحسب تجد الأمر كذلك فإذا فرضنا أن إنسانًا اكتسب ألف درهم من دراهمنا هذه فكأنه اكتسب خمسة وعشرين لا غير وهو ربع عشرها على أنه إذا حسبنا قيمة الخمسة وعشرين في وقتنا هذا عن كل درهم ثلاثون نصفًا فإنها تبلغ سبعمائة وخمسين ويذهب الباقي وهو مائتان وخمسون هدرًا وأما الذهب فإن الدينار كان وزنه في الزمن الأول مثقالًا من الذهب الخالص ثم صار في الدولة الفاطمية وما بعدها عشرين قيراطًا وكان يصرف بثلاثين درهمًا من الفضة فلما نقص الدرهم زاد صرف الدينار إلى أن استقر وزن الدينار في أوائل القرن الماضي ثلاثة عشر قيراطًا ونصفًا ويصرف بتسعين نصفًا وهو المعبر عنه بالأشرفي والطرلي المعروف بالفندقلي يصرف بمائة وكانا جيدين في العيار وكذلك الأنصاف العددية كانت إذ ذاك جيدة العيار والوزن وكان الريال يصرف بخمسين نصفًا والريال الكلب باثنين وأربعين نصفًا ثم صار الدينار وهو المحبوب الجنزرلي بمائة وخمسين والفندقلي بمائة وعشرين والفرانسة بستين ثم حدث المحبوب الزر في أيام السلطان أحمد بدلًا عن الجنزرلي وغلا صرف الجنزرلي وكان في وزن المشخص وعياره ووزن الزر ثلاثة عشر قيراطًا ونصف إلى أن زاد الاختلال في أيام علي بك والمعلم رزق واستيلائه على دار الضرب والقروش واستعمل ضرب القروش واستكثر منها وزاد في غشها لكثرة المصاريف على العساكر والتجاريد والنفقات واستقر الأشرفي المعروف بالزر بمائة وعشرة والطرلي بمائة وستة وأربعين والمشخص بمائتين والريال الفرانسة بخمسة وثمانين مدة من أيام علي بك وفحش وجود القروش المفردة وضعفها وأجزاؤها حتى لم يبق بأيدي الناس من التعامل إلا هي وعز باقي الأصناف المذكورة وطلبت للسبك والادخار وصياغة الحلي فترقت في الصارفة والإبدال فلما زالت دولة علي بك وتملك محمد بك أبو الذهب نادى بإبطال تلك القروش بأنواعها رأسًا فخسر الناس خسارة عظيمة من أموالهم وباعوها بالأرطال للسبك واقتصروا على شرب الأنصاف العددية والمحبوب الزر والنصفيات لا غير ونقصوا من وزنها وعيارها ونقصت قيمتها وغلت في الصارفة وزاد الحال بتوالي الحوادث والمحن والغلاء والغرامات وضيق المعاش وكساد البضائع وتساهلوا في زيادة المصارفة وخصوصًا في ثمن السلع والمبايعات وخلاص الحقوق من المماطلين واقترن بذلك تغافل الحكام وعدم التفاتهم لمصالح الرعية وطمعهم وتركهم النظر في العواقب إلى أن تجاوزت في وقتنا هذا الحدود وبلغت في المصارفة أكثر من الضعف وصار صرف المحبوب مائتين وخمسة بل وعشرة والريال الفرانسة بمائة وخمسة وسبعين بل وثمانين والمشخص البندقي بأربعمائة وأكثر والمجر بثلاثمائة وستين والفندقلي بثلاثمائة وعشرين وهو الجديد ويزيد القديم لجودة عياره عن الجديد وتتفاوت المثلية في المحبوب بجودة العيار فإذا أبدل السلمي الموجود الآن بالمحمودي زيد في مصارفته أربعون نصفًا وأكثر بحسب الرغبة والاحتياج ويتفاوت أيضًا المحمودي بمثله فيزيد أبو وردة عن الراغب ويزيد الراغب عن الذي فيه حرف العين ويكون المحبوبان في تحويل المعاملة بدلًا عن المشخص الواحد مع أن وزنهما سبعة وعشرون قيراطًا ووزن المشخص ثمانية عشر قيراطًا فالتفاوت بينهما تسعة قراريط وهي ما فيه من الخلط وغير ذلك مما يطول شرحه ويعسر تحقيقه وضبطه ولم يزل أمر المعاملة وزيادة صرفها وإتلاف نقودها واضطرابها مستمر أو كل قليل ينادون عليها مناداة بحسب أغراضهم لا نسمع ولا تقبل ولا يلتفت إليها لأن أصل الكدر منبعث عنهم ومنحدر عن مجراة خبائثهم وفسادهم‏.‏

وفي آخره أذن الباشا لولده الكبير بالذهاب لزيارة سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه بطندتا وعين صحبته أتباعًا وعسكرًا وهجنًا وقرر له دراهم على البلاد ألف ريال فما دونها خلاف الكلف وكذلك سافر حريمات ورئيسهن حريم مصطفى آغا الوكيل في هيئة لم يسبق مثلها في تختروانات وعربات ومواهي وأحمال وجمال وعسكر وخدم وفراسين وفرضوا لهن أيضًا مقررات على البلاد وكلفًا ونحو ذلك وأظن أن هذه المحدثات من أهوال القيامة‏.‏

ومات فيها الإمام العلامة والبحر الفهامة صدر المدرسين وعمدة المحققين مفتي الحنفية بالديار لمصرية الشيخ محمد عبد المعطي ابن الشيخ أحمد الحريري الحنفي ولد سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف ونشأ في عفة وصلاح وحفظ القرآن وجوده وحفظ المتون وحضر أشياخ العصر وجود الخطوكان ينسخ بالأجرة وكتب كتبًا كثيرة وخطه في غاية الصحة والجودة وغلبها في الأدبيات كالريحانة وخبايا الزوايا وخزانة الأدب والتي بخطه من ذلك في غاية الحسن والقبول وكان شافعي المذهب ثم تحنف وحضر على أشياخ المذهب مثل الشيخ محمد الدلجي والشيخ محمد العدوي ولازم الشيخ حسن المقدسي ملازمة كلية وانتسب إليه وعرف به وحضر عليه وتلقى عنه غالب الكتب المشهورة في المذهب وحضر باقي العلوم على الشيخ الملوي والحنفي والشيخ علي العدوي وغيرهم وكان يكتب الأجوبة على الفتاوى عن لسانه ولما توفي شيخه المذكور تقرر مكانه في وظيفة الخطابة والإمامة بجامع عثمان كتخدا بالأزبكية وسكن بالدار المشروطة له بها السكنى برحاب الجامع المذكور وكانت خطبه في غاية الخفة والاختصار ولوعظه وقع في النفوس لخلوه عن التصنع ولما مات الشيخ أحمد الدمنهوري في سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف وحصل ما حصل للشيخ عبد الرحمن العريشي كما تقدم تعين المترجم لمشيخة الحنفية والفتوى عوضًا عن المذكور قبل وفاته بأيام قليلة وكان أهلًا لذلك وكفاله وسار فيها حسنًا بحشمة واشتهر ذكره وقصدته الناس للفتوى والإفادة وأقبلت عليه الدنيا وسكن دارًا مشرفة على الأزبكية جارية في وقف عثمان كتخدا واشترى أيضًا دارًا نفيسة بالجودرية وأسكنها لغيره بالأجرة وانحصرت فيه وظائف مشيخة الحنفية كالتدريس في مدرسة المحمودية والصرغتشمية والمحمدية وغيرها فكان يباشر الإقراء بنفسه في بعضها والبعض ولده العلامة الشيخ إبراهيم ولم يزل يقرئ ويملي ويفيد حتى في حال انقطاعه وذلك أنه لما مات أحمد آغا غانم وحصل بين عتقائه منازعة ثم اتفقوا على تحكيم المترجم بينهم والتمسوا منه أن يذهب صحبتهم إلى فوة ليصلح بينهم فلما ذهب إلى بولاق وأراد النزول في السفينة اعتمد على بعض الواقفين فعثرت رجله فقبض ذلك الرجل على معصمه فانكسر عظمه لنحافة جسمه فعادوا به إلى داره وأحضروا له من عالجه حتى بريء بعد شهور وفرحوا بعافيته ودعاه بعض أحبابه بناحية قناطر السباع فركب وذهب إليه وكانت أول ركباته بعد برئه فلما طلع إلى المجلس وأراد الصعود إلى مرتبة الجلوس زلقت رجله فانكسر عظم ساقه وتكدر الحاضرون وحملوه وذهبوا به إلى داره وأحضروا له المعالج فلم يحسن المعالجة وتألم تألمًا كثيرًا واستمر ملازمًا للفراش نحو سبع سنوات ثم توفي يوم الأربعاء سابع عشر رجب من السنة عن سبع وسبعين سنة ودفن بتربة الأزبكية وتعين بعده في المشيخة والإفتاء ولده المحقق العلامة المستعد الشيخ إبراهيم أدام الله النفع بحياته وحفظ عليه أولاده‏.‏

ومات الأجل الأمثل المفوه المنشئ النبيه الفصيح المتكلم عثمان أفندي ابن سعد العباسي الأنصاري من ولد آخر الخلفاء العباسية بمصر المتوكل على الله ووالده يعرف بالأنصاري من جهة النساء من بيت السيادة والخلافة ولد بمصر وبها نشأ واشتغل بالعلم على فضلاء الوقت ومهر في الفنون بذكائه وعانى الحساب والنجوم فأخذ منها حظًا ونزل كاتب سر في ديوان بعض الأمراء ولامه بعض محبيه في ذلك فاعتذر أنه إنما قدم عليه صيانه لبعض بلاده وضياعه التي استولت عليها أيدي الظلمة فلا محيد له عن عشرتهم واجتمع بشيخنا الشيخ محمود الكردي وأراد السلوك في طريق الخلوتية وترك شرب الدخان ولازمه كثيرًا وتلقن الاسم الأول والأوراد وأقلع عما كان عليه حتى لاحت عليه أنوار ملازمته واعتقده جدًا وبعد وفاة الأستاذ رجع إلى حالته وشرب الدخان ثم ولي خليفة على غلال الحرمين فباشرها بشهامة ثم ولي روزنامة مصر بصرامة وقوة مراس وشدة ومخادعة وراج أمره واتسع حاله وزادت حشمته وذلك بعد عزل أحمد أفندي الكماخي الروزنامجي وثقل أمره على باقي الكتبة والناس فأوغروا عليه وعزلوه فضاق صدره وزاد قلقه وحدث فيه رعونة وتردد لمشاهد الأولياء في الليل والنهار يبتهل ويدعو ويفرق خبزًا ودراهم ويأوي إليه المجاذيب والذين يدعون الصلاح والولاية فيكرمهم برهة ويرون له مرائي ومنامات وإخباريات فيزداد هوسه ثم لما يطول الحال ينقطع عنهم ويبدلهم بآخرين وهكذا وكان نام مع بعضهم في لحريم ويترجم بعضهم بمكاشفات وشطحيات ويقول فلان يطلع على خطرات القلوب وفلان يصعد إلى السماء ومن كرامات فلان كذا ثم يرجع عن ذلك ولما مات السيد محمد عيد في كتابة الروزنامه أيضًا واستمر بها ثمانية عشر شهر وكانت إعادته في سنة ثمان بعد المائتين ثم انحرف عليه إبراهيم بك الكبير وعزله وكان يظن أن الأمر يؤول إليه فلم يتم له ذلك وأحضر إبراهيم بك السيد إبراهيم ابن أخي المتوفي وقلده ذلك فعندها أيس المترجم منها واختلفت الأمور بحدوث الفتن وتقلب الدول والأحوال ولازم شأنه وبيته بعد رجوعه من هجرته إلى الشام في حادثة الفرنسيس واعترته الأمراض واجتمعت لديه كتب كثيرة في سائر العلوم وبيعت بأسرها في تركته توفي يوم الأربعاء خامس عشرين شوال من السنة‏.‏

ومات العمدة الإمام الصالح الناسك العلامة والبحر الفهامة الشيخ محمد ابن سيرين بن محمد بن محمود ابن جيش الشافعي المقدسي ولد في حدود الستين وقدم به والده إلى مصر فقرأ القرآن واشتغل بالعلم وحضر دروس الشيخ عيسى البراوي فتفقه عليه وحلت عليه أنظاره وحصل طرفًا جيدًا من العلوم على الشيخ عطية الأجهوري ولازمه ملازمة كلية وبعد وفاة شيخه اشتغل بالحديث فسمع صحيح مسلم علي الشيخ أحمد الراشدي واتصل بشيخنا الشيخ محمود الكردي فلقنه الذكر ولازمه وحصلت له منه الأنوار وانجمع عن الناس ولاحت عليه لوائح النجابة وألبسه التاج وجعله من جملة خلفاء الخلوتية وأمره بالتوجه إلى بيت المقدس فقدمه وسكن بالحرم وصار يذاكر الطلبة بالعلوم ويعقد حلقة الذكر وله فهم جيد مع حدة الذهن وأقبلت عليه الناس بالمحبة ونشر له القبول عند الأمراء والوزراء وقبلت شفاعته مع الانجماع عنهم وعدم قبول هداياهم وأخبرني بعض من صحبه أنه يفهم من كلام الشيخ ابن العربي ويقرره تقريرًا جيدًا ويميل إلى سماعه وحج من بيت المقدس وأصيب في العقبة بجراحة في عضده وسلب ما عليه وتحمل تلك المشقات ورجع إلى مصر فزار شيخه الشيخ محمود أو جلس مدة ثم أذن له بالرجوع إلى بلده وسمع أشياء كثيرة في مبادي عمره واقتبس من الأشياخ فوائد جمة حتى قبل اشتغاله بالعلم وفي سنة 1182 كتب إلى شيخنا السيد مرتضى يستجيزه فكتب له أسانيده العالية في كراسة وسماها قلنسوة التاج وقد تقدم ذكرها في ترجمة السيد مرتضي ولم يزل يملي ويفيد ويدرس ويعيد واشتهر ذكره في الآفاق وانعقد على اعتقاده وانفراده الاتفاق وسطعت أنواره وعمت أسراره وانتشرت في الكون أخباره وازدحمت على سدته زواره إلى أن أجاب الداعي ونعته النواعي وذلك سابع عشرين شهر شعبان من السنة ولم يخلف بعده مثله وبه ختمت دائرة المسلكين من الخلوتية ورجال السادة الصوفية وحسن به ختم هذا الجزء الثالث من كتاب عجائب الآثار في التراجم والأخبار لغاية سنة عشرين ومائتين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وسنقيد إن شاء الله تعالى ما يتجدد بعدها من الحوادث من ابتداء سنة إحدى وعشرين التي نحن بها الآن إن امتد الأجل وأسعف الأمل ونرجو من الكريم المتعال صلاح الأحوال وانقشاع الهموم وصلاح العموم إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير والله أعلم‏.‏

سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف استهل شهر المحرم بيوم الخميس حسابًا ويوم السبت هلال ووافق ذلك انتقال الشمس لبرج الحمل فاتحدت السنة القمرية والشمسية وهو يوم النوروز السلطاني وأول سنة الفرس وهو التاريخ الجلالي اليزدجردي وتاريخهم في هذه السنة ألف ومائة وستة وسبعون وكان طالع التحويل الواقع في يوم الجمعة في خامس ساعة ونصف من النهار سبع درجات ونصفًا من برج السرطان وصاحبه في حين العاشر منصرف عن تربيع المشتري ومقارنة عطارد والمشتري في السابع والمريخ مع الزهرة في العاشر وهي رجعة وكيوان في الرابع وهو دليل على ثبات دولة القائم وتعب الرعية والحكم لله العلي الكبير‏.‏

وفي ثالثه في ليلة الثلاثاء وصل إلى بولاق قابجي وعلى يده تقرير لمحمد علي باشا بولايته بمصر وصحبة التقرير خلعة وهي فروة سمور فلما أصبح النهار عمل محمد علي باشا ديوانًا بمنزله بالأزبكية وحضر السيد عمر النقيب والمشايخ والأعيان وحضر ذلك الآغا من بولاق في موكب ودخل من باب النصر وشق من وسط المدينة وأمامه الآغا والوالي والمحتسب والأغوات والجاويشية وخلفه النوبة التركية فلما وصلوا إلى بات الخرق عطفوا على جهة الأزبكية فلما قرئ التقليد ضربوا مدافع كثيرة من الأزبكية والقلعة وعملوا تلك الليلة شنكًا وحراقات ونفوطًا وسواريخ كثيرة وطبولًا وزمورًا بالأزبكية‏.‏

وفي سابعه وصلت الأخبار بوقوع حروب بين العساكر والعربان والأمراء المصرية بناحية جزيرة الهواء وقتل شخص من كبار العسكر يسمى كور يوسف وغيره ووصل إلى مصر عدة جرحى وهرب من العسكر طائفة وانضموا إلى الأمراء المصريين وأرسل حسن باشا يستنجد الباشا بإرسال عساكر إليه وفي ذلك اليوم نادوا في الأسواق بعدم المشي في الأسواق من أذان العشاء وخرج كتخدا بك إلى بولاق في آخر النهار ونصب وطاقه ببر أنبابة وخرج سليمان آغا بجملة من العسكر وذهب إلى ناحية طرا‏.‏

وفي ثامنه عدى كتخدا بك إلى البر الغربي وانتقل طاهر باشا إلى الجيزة وأقام بها محافظًا‏.‏

وفيه أمر الباشا بجمع الأجناد المصرية والوجاقلية وأمرهم بالتعدية إلى البر الغربي وكان تخوف وفي هذه الأيام كان مولد سيدي أحمد البدوي والجمع بطندتا المعروف بمولد الشرنباباية وهرع غالب البلد بالذهاب إليه وأكثروا الجمال والحمير بأغلى الأجرة لأن ذلك صار عند أهل الإقليم موسمًا وعيدًا لا يتخلفون عنه إما للزيادة أو للتجارة أو للنزاهة أو للفسوق ويجتمع به العالم الأكبر وأهالي الإقليم البحري والقبلي وخرج أكثر أهالي البلد بحمولهم فكان الواقفون على الأبواب يفتشون الأحمال فوجدوا مع بعضهم أشياء من أسباب الأجناد المصرية وملابسهم ونحو ذلك فوقع بسبب ذلك إيذاء لمن وجدوا معه شيئًا من ذلك ولباقي الناس ضرر بنبش متاعهم فكان من الناس من يأخذ معه أشخاصًا من العسكر من طرف الآغا يسلكونهم للخروج من غير تفتيش ويمنعون المتقيدين بالأبواب عن التعرض لهم ونبش متاعهم وأحمالهم‏.‏

وفي تاسعه وصل الخبر بأن عابدين بك لما بلغه خروج الألفي من الفيوم ذهب إليها صحبة الدلاة فلم يجد بها أحد فدخلها وأرسل المبشرين إلى مصر بأنه ملك الفيوم فضربوا مدافع لذلك وانبث المبشرون يطوفون على بيوت الأعيان يبشرونهم بذلك ويأخذون على ذلك الدراهم والبقاشيش ثم لما بلغ عابدين بك ما حصل لأخيه حسن باشا من الهزيمة رجع إليه وأقام معه ناحية الرقق‏.‏

وفي عاشره وصل الألفي إلى ناحية كرداسة وانتشرت عساكره وعربانه بإقليم الجيزة فلم يخرج وفيه أرسل الألفي مكتوبًا خطابًا إلى السيد عمر أفندي مكرم النقيب والمشايخ مضمونه نخبركم أن سبب حضورنا إلى هذه الجهة إنما هو لطلب القوت والمعاش فإن الجهة التي كنا بها لم يبق فيها شيء يكفينا ويكفي من معنا من الجيش والأجناد ونرجو من مراحم أفندينا بشفاعتكم أن ينعم علينا بما نتعيش به كم رجونا منه في السابق فلما كان في صبحها يوم الاثنين حادي عشره ركب السيد عمر إلى الباشا وأخبره بذلك وأطلعه على المراسلة فقال ومن أتى به قال له تابع مصطفى كاشف المورلي وقد ترك متبوعه بالبر الآخر فقال له اكتب له بالحضور حتى نتروى معه مشافهة وفي ذلك الوقت حضر إلى الباشا من أخبره بأن طائفة من المصريين وجيوشهم وصلوا إلى بر أنبابة فخرج إليهم طائفة من العسكر المرابطين هناك وتحاربوا معهم بسوق الغنم ووقع بينهم بعض قتلى وجرحى فركب من فوره وذهب إلى بولاق فنزل بالساحل وجلس هناك ساعة ثم ركب عائدًا إلى داره بعد أن منع من تعدية المراكب إلى بر أنبابة ثم أمرهم بالتعدية لربما احتاجوها وكان كذلك فإنهم رجعوا مهزومين فلو لم يجدوا المعادي لحصل لهم هول كبير‏.‏

وفي يوم الثلاثاء حضر مصطفى كاشف المورلي المرسل من طرف الألفي وصحبته علي جربجي بن موسى الجيزاوي إلى بيت السيد عمر فركب صحبته إلى الباشا وكتبوا له جوابًا ورجع من ليلته ثم حضر في يوم الخميس رابع عشره بجواب آخر ومضمونه أننا أرسلنا لكم نرجو منكم أن تسعوا بيننا بما فيه الراحة لنا ولكم وللفقراء والمساكين وأهالي القرى فأجبتمونا بأننا نتعدى على القرى ونطلب منهم المغارم ونرعى زرعهم وننهب مواشيهم والحال أنه والله العظيم ونبيه الكريم أن هذا الأمر لم يكن على قصدنا ومرادنا مطلقًا وإنما الموجب لحضورنا إلى هذا الطرف ضيق الحال والمقتضي للجمعية التي نصحبها من العربان وغيرهم إرسال التجاريد والعساكر علينا فلازم لنا أن نجمع إلينا من يساعدنا في المدافعة عن أنفسنا فهم يجمعون أصناف العساكر من الأقطار الرومية والمصرية لمحاربتنا وقتالنا وهم كذلك ينهبون البلاد والعباد للإنفاق عليهم ونحن كذلك نجمع إلينا من يساعدنا في المنع ونفعل كفعلهم لننفق على من حولنا من المساعدين لنا وكل ذلك يؤدي إلى الخراب والدمار وظلم الفقراء والقصد منكم بل والواجب عليكم السعي في راحة الفريقين وهو أن يكفوا الحرب ويفرزوا لنا جهة نرتاح فيها فإن أرض الله واسعة تسعنا وتسعهم ويعطونا عهدًا بكفالة بعض من نعتمد عليه من عندنا وعندهم ويكتب بذلك محضر لصاحب الدولة وننتظر رجوع الجواب وعند وصوله يكون العمل بمقتضاه فعند ذلك اقتضى الرأي أن يقطعوه إقليم الجيزة وكتبوا له جوابًا بذلك م غير عقد ولا عهد ولا كفالة كما أشار وسلموا الجواب لمصطفى كاشف ورجع به وفي أثناء ذلك طلب أجناد الألأفي كلفًا من بلد برطيس وأم دينار ومنية عقبة فامتنعوا عليهم فضربوهم وحاربوهم ونهبوهم وسبب ذلك أن العساكر الأتراك أغروهم وأرسلوا يقولون لهم إذا طلبوا منكم كلفة أو دراهم لا تدفعوا لهم واطردوهم وحاربوهم ونهبوهم وإذا سمعنا حربكم معهم أتيناكم وساعدناكم فاغتروا بذلك وصدقوهم فلما حصل لهم ما حصل لم يسعفوهم ولم يخرجوا من أوكارهم حتى جرى عليهم المقدور‏.‏

وفي يوم السبت ثالث عشرينه كتب الباشا مراسيم أرسلها إلى كشاف الأقاليم والكائنين بالبلاد من الأجناد المصرية بأن يجتمعوا بأسرهم ويذهبوا إلى ساحل السبكية للمحافظة عليها من وصول الأخصام إليها ولمنعهم من تعدية البحر إليها لأنهم إذا حصلوا بها تعدى شرهم إلى بلاد المنوفية بأسرها وأشيع عزم الباشا على الركوب بنفسه وذهابه إلى تلك الجهة ويكون سيره على طريق القليوبية ويلحق بهم وكتخدا بك وطاهر باشا يسيران على الساحل الغربي تجاههم ثم بطل ذلك وأرسل إلى حسن باشا سرششمه بأن يحضر بمن معه من العسكر من عند حسن باشا طاهر من ناحية بني سويف وكذلك عساكر كور يوسف الذي قتل في المعركة كما ذكر‏.‏

وفي ذلك اليوم وصل رسول أيضًا من عند الألأفي بمكاتبات واجتمع بالسيد عمر النقيب والمكاتبات خطاب له ولبقية المشايخ وللباشا ولسعيد آغا دار السعادة وصالح بك القابجي بمعنى ما تقدم صحبة أحمد أبي ذهب العطار فكتبوا له جوابًا بالمعنى الأول وأعادوا الرسول وأصحبوه ببعض المتعممين وهو السيد أحمد الشتيوي ناظر جامع الباسطية وكل لك أمور صورية وملاعبات من الطرفين لا حقيقة لها‏.‏

وفي يوم الثلاثاء وصل الجماعة المذكورون الذين استدعاهم الباشا بعساكرهم وخلع الباشا على أحد كبارهم عوضًا عن كور يوسف المقتول‏.‏

وفيه وصل الخبر بأن طائفة من الأجناد المصرية ومن يصحبهم من العربان عدوا إلى بر السبكية ولم يمنعهم المحافظون بل هربوا من وجوههم فأمر الباشا بسفر العساكر وطلب دراهم سلفة من الأعيان لأجل نفقة العساكر وفرضوا على البلاد ثلاثة آلاف كيس ويكون على العال منها مائة ألف فضة وفيها الأوسط والدون‏.‏

وفي يوم الخميس نودي في الأسواق بخروج العساكر‏.‏

وفي يوم السبت سافر طاهر باشا إلى منوف على جرائد الخيل وسافر بعده كتخدا بالحملة واحتاجوا إلى جمال فأخذوا جمال السقائين والشواغرية‏.‏

وفيه حضر عمر بك الأرنؤدي من ناحية بني سويف وأخبر الواردون من الناحية أن رجب آغا وطائفة من العسكر خامروا عليه وانضموا الأمراء القبليين وهم نحو الستمائة فعند ذلك حضر عمر بك المذكور في تطريدة ليبرئ نفسه من ذلك وحضر أيضًا محو كبير العسكر المحاصرين

وفيه أراد كتخدا بك وهو المعروف بدبوس أوغلي أن يركب من أنبابة وحمل أحماله ليسير إلى جهة بحري فثارت عليه العسكر وطالبوه بعلائفهم وسفهوا عليه ومنعوه من الركوب فأراد التعدية إلى بر بولاق فمنعوه أيضًا وجذبوا لحيته فأقام يومه وليلته ثم قال لهم وما الفائدة في مكثي معكم دعوني أذهب إلى الباشا وأشعى في مطلوبكم ولم يزل حتى تخلص منهم وعدى إلى مصر ولم يرجع إليهم‏.‏ وفي

يوم السبت الذي هو غايته وصلت عساكر الدلاة

الذين كانوا بناحية بني سويف والفيوم إلى بر أنبابة وضربوا لهم مدافع لوصولهم‏.‏

وفيه أرسل كبار العسكر الذين بناحية منوف مكاتبة إلى الباشا يذكرون أن العساكر يطلبون مرتبات وأرز وسمن فأنهم لا يحاربون ولا يقاتلون بالجوع‏.‏

وفي هذه الأيام وصل الكثير من العساكر القبلية ودخلوا البلد وكثروا بها‏.‏

وفي هذه الأيام أيضًا وصلت الأخبار من الديار الحجازية بمسالمة الشريف غالب للوهابيين وذلك لشدة ما حصل لهم من المضايقة الشديدة وقطع الجالب عنهم من كل ناحية حتى وصل ثمن الأردب المصري من الأرز خمسمائة ريال والأردب البر ثلاثمائة وعشرة وقس على ذلك السمن والعسل وغير ذلك فلم يسع الشريف إلا مسالمتهم والدخول في طاعتهم وسلوك طريقتهم وأخذ العهد على دعاتهم وكبيرهم بداخل الكعبة وأمر بمنع المنكرات والتجاهر بها وشرب الأراجيل بالتنباك في المسعى وبين الصفا والمروة بالملازمة على الصلوات في الجماعة ودفع الزكاة وترك لبس الحرير وإبطال المكوس والمظالم وكانوا خرجوا عن الحدود في ذلك حتى أن الميت يأخذون عليه خمسة فرانسة وعشره بحسب حاله وإن لم يدفع أهله القدر الذي يتقرر عليه فلا يقدرون على رفعه ودفنه ولا يتقرب إليه الغاسل ليغسله حتى يأتيه الإذن وغير ذلك من البدع والمكوس والمظالم التي أحدثوها على المبيعات والمشتروات على البائع والمشتري ومصادرات الناس في أموالهم ودورهم فيكون الشخص من سائر الناس جالسًا بداره فما يشعر على حين غفلة منه إلا والأعوان يأمرونه بإخلاء الدار وخروجه منها ويقولون أن سيد الجميع محتاج إليها فإما أن يخرج منها جملة وتصير من أملاك الشريف وإما أن يصالح عليها بمقدار ثمنها أو أقل أو أكثر فعاهده على ترك ذلك كله واتباع ما أمر الله تعالى به في كتابه العزيز من إخلاص التوحيد لله وحده واتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وما كان عليه الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون إلى آخر القرن الثالث وترك ما حدث في الناس من الالتجاء لغير الله من المخلوقين الأحياء والأموات في الشدائد والمهمات وما أحدثوه من بناء القباب على القبور والتصاوير والزخارف وتقبيل الأعتاب والخضوع والتذلل والمناداة والطواف والنذور والذبح والقربان وعمل الأعياد والمواسم لها واجتماع أصناف الخلائق واختلاط النساء بالرجال وباقي الأشياء التي فيها شركة المخلوقين مع الخالق في توحيد الألوهية التي بعثت الرسل إلى مقاتلة من خالفها ليكون الدين لله فعاهده على منع ذلك كله وعلى هدم القباب المبنية على القبور والأضرحة لأنها من الأمور المحدثة التي لم تكن في عهده بعد المناظرة مع علماء تلك الناحية وإقامة الحجة عليهم بالأدلة القطعية التي لا تقبل التلويل من الكتاب والسنة وإذعانهم لذلك فعند ذلك أمنت السبل وسلكت الطرق بين مكة والمدينة وبين مكة وجدة والطائف وانحلت الأسعار وكثر وجوده المطعومات وما يجلبه عربان الشرق إلى الحرمين من الغلال والأغنام والأسمان والأعسال حتى بيع الأردب من الحنطة بأربع ريالات واستمر الشريف غالب يأخذ العشور من التجار وإذا نوقش في ذلك يقول هؤلاء مشركون وأنا آخذ من المشركين لا من الموحدين‏.‏

شهر صفر الخير 1221 استهل بيوم الأحد فيه سافر محو بك إلى جهة المنية وفيه ورد من إسلامبول شخص قابجي وعلى يديه مرسومات بالجمارك وغيرها ومنها ضبط ترك الموتى المقتولين والمقبورين وكذلك تركة السيد أحمد المحروقي وآخر يسمى الشريف محمد البرلي والقصد تحصيل الدراهم بأي وفيه عزم الباشا على السفر لمحاربة الألفي وأشيع عنه ذلك وأنزلوا مدافع من القلعة وجبخانة وآلات حربية‏.‏

وفي رابعه قوي عزمه على ذلك وأشيع أنه مسافر يوم السبت وأشار على السيد عمر أفندي النقيب بأن ينوب عنه ويكون قائمًا مقامه في الأحكام مدة غيابه فلم يقبل السيد عمر بذلك وامتنع ثم فترت همته عن ذلك وتبين أنها إيهامات لا أصل لها‏.‏

وفي يوم الخميس أرسل الباشا إلى الخانات والوكائل أعوانًا فختموا على حواصل التجار بما في داخلها من البن والبهار وذلك بعد أن أمنهم وقبض منهم عشورها ومكوسها بالسويس فلما وصلت القافلة واستقرت البضائع بالحواصل فعل بهم ذلك ثم صالحوا وأفرج عنهم‏.‏

وفيه ورد الخبر بأن الألفي ارتحل من ناحية الجسر الأسود والطرانة وقصد جهة البحيرة‏.‏

وفي يوم السبت ركب صالح آغا قابجي باشا ونزل إلى بولاق ليسافر إلى الديار الرومية فركب لوداعه الباشا وسعيد آغا والسيد همر النقيب فشيعوه إلى بولاق‏.‏

حتى نزل إلى المراكب وخلع عليه الباشا فروة سمور مثمنة بعد أن وفاه خدمته وهاداه بهدايا وأصحب معه هدايا للدولة وأربابها وعرفه بقضايا وأغراض يتممها له هناك وودعوه ورجعوا إلى بيوتهم بعد الغروب‏.‏

وفي يوم الثلاثاء عاشره سافر صالح آغا السلحدار إلى جهة بحري على طريق المنوفية وصحبته عساكر وقرروا له مقادير من الأكياس على كل بلد من البلاد الرائجة عشرون كيسًا فما فوقها وما دونها ومن كل صنف مقادير أيضًا‏.‏

وفيه فرضوا على البلاد غلال قمح وفول وشعير كل بلد عشرون أردبًا فما فوقها وما دونها وهذه ثالث فرضة ابتدعت من الغلال على البلاد في هذه الدولة‏.‏

وفيه ورد الخبر بأن الألفي توجه إلى ناحية دمنهور البحيرة يوم الأربعاء رابعه وأنهم امتنعوا عليه فحاصرهم لأنهم استعدوا لذلك والبلد منضافة إلى السيد عمر النقيب فكان يرسل إليهم ويحذرهم منه ويرسل إليهم ويمدهم بآلات الحرب والبارود ويحرضهم على الاستعداد للحرب فحصنوا البلدة وبنوا أسوارها وجعلوا فيها أبراجًا وبدنات وركبوا عليها المدافع الكثيرة وأحضروا لهم ما يحتاجون إليه من الذخيرة والجبخانة وما يكفيهم سنة وحفروا حولها خنادق وهي في موقعها مرتفعة‏.‏

وفيه عزل الباشا محمد آغا كتخدا بك من كتخدائية بسبب أمور نقمها عليه وحبسه وطلب منه ألف كيس وقلد في الكتخدائية خازنداره وهو المعروف بدبوس أوغلي‏.‏

وفي ليلة الأحد ثامنه عدى ساري عسكر إلى بر أنبابة بوطاقه وهو دبوس أوغلي الكتخدا المذكور وذلك في أواخر النهار وضربوا مدافع كثيرة لتعديته وأخذ العسكر في تشهيل أمورهم ولوازمهم وأنفق عليهم الباشا نفقة هذا والطلب والتوزيع بالأكياس مستمر لا ينقطع عن أعيان الناس والتجار والأفندية الكتبة وجماعة الضربخانة والملتزمين بالجمارك وكل من كان له أدنى علاقة أو خدمة أو تجارة أو صنعة ظاهرة أو فائظ أو له شهرة قديمة أو من مساتير الناس وغالب الأحيان المحصل لذلك والقاضي فيه السيد عمر أفندي النقيب وقد حكمت عليه الصورة التي ظهر فيها وانعكس الحال والوضع وساءت الظنون والأمر لله وحده‏.‏

وفي يوم الخميس تاسع عشره ارتحل عرضي التجريدة من أنبابة وذهبوا إلى جهة الوراريق‏.‏

وفي هذه الأيام كان بين مشايخ العلم منافسات ومنافرات ومحاسدات وذلك من أوائل شهر رمضان وتعصبات بسبب مشيخة الجامع ونظر أوقافه وأوقاف عبد الرحمن كتخدا فاتفق أن الشيخ عبد الرحمن السجيني ابن الشيخ عبد الرؤوف عمل وليمة ودعاهم إليها فاجتمعوا في ذلك اليوم وتصالحوا في الظاهر‏.‏

وفي يوم الاثنين هبت رياح وأثارت غبارًا وزوابع ولواقح ثم غيمت السماء غيمًا منقطعًا وأرعدت وأمطرت فكان الغبار والزوابع والشمس طالعة والمطر نزل وذلك بعد العصر وحصل مثل ذلك أيضًا في يوم الثلاثاء ولكن بعد الظهر‏.‏

وفي تلك الليلة بعد الغروب خرج الباشا محمد أفندي المنفصل عن الكتخدائية منفيًا إلى جهة وفي أواخره رجعت عساكر من الأرنؤد وكانوا كثيرين ونزلوا ببولاق ومصر القديمة وغالبهم الذين كانوا بصحبته حسن باشا طاهر وأخيه عابدين بك وسبب رجوعهم أنهم طلبوا علائفهم من حسن باشا وكان قد ظهر له فيهم المخاطرة عليه وميلهم إلى الأخصام فامتنع من دفع علائفهم وقال لهم اذهبوا إلى مصر واطلبوا علائفكم من الباشا وأرسل إليه يعرفه بحالهم ونفاقهم فما تراسلوا في الحضور منعهم الباشا من الدخول إلى البلد ووعدهم بإيصال علائفهم إليهم وهم خارج المدينة وبعد أن يقبضوا مالهم يعودون إلى مرابطهم كما كانوا فأقاموا بناحية بولاق وأرسل الباشا فجمع عربان الحويطات والعائد وغيرهم فأقاموا بناحية شبرا ومنية السيرج وهم جملة كبيرة استمروا في تجمعهم أربعة أيام وأرسل إلى الأجناد والجربجية وأمثالهم المقيمين بمصر وأمرؤ بأن يتهيؤا ويقضوا أشغالهم ويخرجوا صحبة حسن آغا الشماشيرجي فمن كان منهم ذا مقدرة وعنده حصان يركبه أو جمل يحمل عليه متاعه خرج بنفسه وإلا خرج بدلًا عنه وأعطاه مصروفه واحتياجاته ولوازمه وبرزوا إلى خارج ثم أرسل إلى العساكر المذكورين يأمر كبارهم بالسفر إلى بلادهم فامتنعوا وقالوا لا نسافر حتى نقبض المنكسر لنا من علائفهم فعند ذلك دس إلى أصاغرهم من خدعهم واستمالهم حتى تفرقوا في خدمة المستوطنين ولم يبق مع كبارهم المعاندين إلا القليل فلم يسعهم بعد ذلك إلا الامتثال وارتحلوا في غايته من بولاق وسافر معهم الشماشيرجي المذكور ومن بصحبته من المصريين وحولهم العربان وساروا على طريق دمياط وهم اثنان وخمسون شخصًا من كبار طائفة الأرنؤود حصل من العرب في مدة تجمعهم ما لا خير فيه وكذلك في مدة إقامتهم من الخطف والتعرية وقطع الطريق على المسافرين‏.‏

شهر ربيع الأول سنة 1221 استهل بيوم الثلاثاء وفي ليلة الأحد سادسه حصل رعد كثير وبرق بين المغرب والعشاء بدون مطر والغيم قليل متقطع وذلك سابع عشر بشنس وثاني عشر أيار والشمس في ثالث درجة من برج الجوزاء وذلك من النوادر في مثل هذا الوقت‏.‏

وفي يوم الأحد المذكور ضربوا مدافع من القلعة لبشارة وردت من الجهة القبلية وذلك أن رجب آغا وياسين بك اللذين انضما إلى الأمراء المصرية القبليين عملا متاريس بحري المنية ليمنعا من يصل إليها من مراكب الذخيرة فلما سافر محو بك بمراكب الذخيرة ووصل إلى حسن باشا طاهر ببني سويف أصحب معه عابدين بك وعدة من العسكر في عدة مراكب فلما وصلوا إلى محل المتاريس تراموا بالمدافع والرصاص واقتحموا المرور وساعدهم الريح فخلصوا إلى المنية وطلعوا إليها ودخلها عابدين بك وقتل فيما بينهم أشخاص وأرسلوا بذلك المبشرين فأخبروا بذلك وبالغوا في الأخبار وأن ياسين بك قتل هو وخلافه ورأسه واصلة مع رؤس كثيرة فعملوا لذلك شنكًا وضربت مدافع كثيرة ولم يكن لقتل يلسين بك صحة ثم وصل محو بك وابن وافي وقد نزلا في شكترية لها عدة مقاذيف ودفعوا في قوة التيار حتى وصلوا إلى مصر ولم يصل معهم رؤس كما أخبر المبشرون‏.‏

وفيه قرر فرضة على البلاد وهي دراهم وغلال وعينوا لذلك كاشفًا فسافروا معه عدة من العسكر وصحبتهم نقاقير وسافر أيضًا خازندار الباشا بلبيس وأخذ صحبته أكثر رفقائه وأصحابه من أولاد البلد فسافروا على حين غفلة إلى ناحية الدقهلية‏.‏

وفي عاشره وصلت الأخبار بأن الألفي ارتحل من البحيرة ورجع إلى ناحية وردان وعدى إلى جزيرة السبكية وهرب من كان مرابطًا من الأجناد المصرية وغيرهم وطلبوا من أهالي السبكية دراهم وغلالًا وفر غالب أهلها منها وجلوا عنها وتفرقوا في بلاد المنوفية‏.‏

وفي ثاني عشره يوم الجمعة عمل المولد النبوي ونصبوا بالأزبكية صواري تجاه بيت الباشا والشيخ محمد سعيد البكري وقد سكن بدار مطلة على البركة داخل درب عبد الحق وأقام هناك ليالي المولد إظهارًا لبعض الرسوم‏.‏

وفيه علقوا تسعة رؤس على السبيل المواجه لباب زويلة ذكروا أنها من قتلى دمنهور وهي رؤس مجهولة ووضعوا بجانبهم بيرقين ملطخين بالدماء وفيه طلب الباشا دراهم سلفة من الملتزمين والتجار وغيرهم بموجب دفتر أحمد باشا خورشيد الذي كان قبضها في عام أول قبل القومة فعينوا مقاديرها وعينوا بطلبها المعينين بالطلب الحثيث من غير مهلة ومن لم يجده بأن كان غائبًا أو متغيبًا دخلوا داره وطالبوا أهله أو جاره أو شريكه فضاق ذرع الناس وذهبوا أفواجًا إلى السيد عمر أفندي النقيب فيتضجر ويتأسف ويتقلق ويهون عليهم الأمر وربما سعى في التخفيف عن البعض بقدر الإمكان وقد تورط في الدعوة‏.‏

وفيه سافر السيد محمد المحروقي إلى سد ترعة الفرعونية وذلك أن الترعة المذكورة لما اجتهد في سدها المصريون في سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف كما تقدم فانفتحت من محل آخر ينفذ إلى ناحية الترعة المسماة بالفيض وكان ذلك بإشارة أيوب بك الصغير لعدم انقطاع الماء عن ري بلاده فتهورت أيضًا هذه الناحية واتسعت وقوي اندفاع الماء إليها في مدة هذه السنين حتى جف البحر الغربي والشرقي وتغير ماء النيل في الناحية الشرقية وظهرت فيه الملوحة من حدود المنصورة وتعطلت مزارع الأرز وشرقت بلاد البحر الشرقي وشربوا الأجاج ومياه الآبار والسواقي وكثر تشكى أهالي البلاد فحصل العزم على سدها في هذا العام وتقيد بذلك السيد محمد المحروقي وذو الفقار إلى جهة السد وجمع العمال والفلاحين وسيقت إليه المراكب المملوءة بالأحجار من أول شهر صفر إلى وقت تاريخه وجبوا الأموال من البلاد لأجل النفقة على ذلك ثم سافر السيد المحروقي أيضًا وبذل جهده ورموا بها من الأحجار ما يضيق به الفضاء من الكثرة وتعطل بسبب ذلك المسافرون لقلة المراكب وجفاف البحر الغربي والخوف من السلوك فيه من قطاع الطرق والعربان فكانت المراكب المعاشات التي تأتي بالسفار وبضائع التجار يأتون بشحناتهم إلى حد السد ومحل العمل والشغل فيرسون هناك ثم ينقلون ما بها من الشحنة والبضائع إلى البر وبنقلونها إلى السفن والقوارب التي تنقل الأحجار ويأتون بها إلى ساحل بولاق فيخرجون ما فيها إلى البر وتذهب تلك السفن والقوارب إلى أشغالها في نقل الحجر ولا يخفى ما يحصل في البضائع من الإتلاف والضياع والسرقة وزيادة الكلف والأجر وغير ذلك وطال أمد هذا الأمر‏.‏

وفي أواخره نزل الباشا للكشف على الترعة فغاب يومين وليلتين ثم عاد إلى مصر‏.‏

شهر ربيع الثاني سنة 1221 فيه ورد سعاة من الإسكندرية وأخبروا بورود أربع مراكب وفيها عساكر من النظام الجديد وصحبتهم ططريات وبعض أشخاص من الإنكليز ومعهم مكاتبة خطابًا إلى الألفي وبشارة بالرضا والعفو للأمراء المصرية من الدولة بشفاعة الإنكليز فلما وصولا إليه بناحية حوش ابن عيسى بالبحيرة سر بقدومهم وعمل لهم شنكًا وضرب لهم مدافع كثيرة ثم شهلهم وأرسلهم إلى الأمراء القبليين وصحبتهم أحد صناجقه وهو أمين بك ومحمد كاشف تابع إبراهيم بك الكبير ثم أنه أرسل عدة مكاتبات بذلك الخبر إلى المشايخ وغيرهم بمصر وكذلك إلى مشايخ العربان مثل الحويطات والعائد وشيخ الجزيرة وباقي المشاهير فأحضر ابن شديد وابن شعير الأوراق التي أتتهم من الألفي إلى الباشا وفيها نعلمكم أن محمد علي باشا ربما ارتحل إلى ناحية السويس فلا تحملوا أثقاله وإن فعلتم ذلك فلا نقبل لكم عذرًا ولما سمع الباشا ذلك قال أنه مجنون وكذاب‏.‏

وفيه فتح الباشا الطلب بفائظ البلاد والحصص من الملتزمين والفلاحين وأمر الروزنامجي وطائفته بتحرير ذلك عن السنة القلبلة فضج الملتزمون وترددوا إلى السيد عمر النقيب والمشايخ فخاطبوا الباشا فاعتذر إليهم باحتياج الحال والمصاريف ثم استقر الحال على قبض ثلاثة أرباعه النصف على الملتزمين ولربع على الفلاحين وأن يحسب الريال في القبض منهم بثلاثة وثمانين نصفًا ويقبضه باثنين وتسعين وعلى كل مائة ريال خمسة أنصاف حق طريق سواء كان القبض من الملتزم بحصته في المصر أو بيد المعينين من طرف الكاشف في الناحية وإذا كان التوجيه بالطلب من كاشف الناحية كانت أشنع في التغريم والكلف لترادف الإرسال وتكرار حق الطريق‏.‏

وفي سادسه حضر أحمد كاشف سليم من الجهة القبلية وسبب حضوره أن الباشا لما بلغته هذه الأخبار أرسل الأمراء القبليين يستدعي منهم بعض عقلائهم مثل أحمد آغا شويكار وسليم آغا مستحفظان ليتشاور معهم في الأمر فلم يجب واحد منهم إلى الحضور ثم اتفقوا على إرسال أحمد كاشف لكونه ليس معدودًا من أفرادهم وبينه وبين الباشا نسب لأن ربيبته تحت حسن الشماشيرجي فحضر واختلى به الباشا مرارًا ثم أمره بالعود فسافر في يوم الثلاثاء رابع عشره وأصحب معه هدية إلى إبراهيم بك والبرديسي وعثمان بك حسن وغيرهم من الأمراء وهي عدد خيول وقلاعيات وثياب وأمتعة وغير ذلك‏.‏

وفي سادسه أيضًا قبض الباشا على إبراهيم آغا الوالي وحبسه مع أرباب الجرائم وسبب ذلك أن البصاصين شاهدوا حمولًا فيها ثياب من ملابس الأجناد أعدها بعض تجار النصارى ليرسلها إلى جهة قبلي لتباع على أجند الأمراء المصريين ومماليكهم ويربح فيها وسئل الحاملون لها فأخبروا أن أربابها فعلوا ذلك بإطلاع الوالي المذكور على مصلحة أخذها منهم ووصل خبر ذلك إلى الباشا فأحضره وقبض عليه وحبسه ثم أطلقه بعد أيام على مصلحة تقررت عليه بشفاعة امرأة من القهارمة المتقربين وعاد إلى منصبه وأخذت البضاعة وضاعت على أصحابها وغرموهم زيادة على ذلك غرامة وكذلك اتهم الذي حجزها بأنه اختلس منها أشياء وحبس وأخذت منه مصلحه فتحصل من هذه القضية جملة من المال مع أنها في خلال المراسلة والمهاداة ونودي بعد ذلك بأن من أراد أن يرسل شيئًا أو متجرًا ولو إلى السويس فليستأذن على ذلك ويأخذ به ورقة من باب الباشا فإن لم يفعل وضاع عليه فاللوم عليه‏.‏

وفي يوم الثلاثاء رابع عشره ورد ساعي وصحبته مكتوب من حاكم الإسكندرية خطابًا إلى الدفتردار يخبره بوصول قبطان باشا إلى الثغر وفي أثره وصل باشا متولي على مصر واسمه موسى باشا وصحبتهم مراكب بها عساكر من الصنف الذي يسمى النظام الجديد وكان ورود القبطان إلى الثغر ليلة الجمعة عاشره وطلعوا إلى البر بالإسكندرية يوم السبت حادي عشره فلما قرأ الدفتردار الورقة أرسل إلى السيد عمر النقيب فحضر إليه وركب صحبته للباشا واختليا معه ساعة ثم فارقاه ولما بلغ الألفي ورود هذه الدونانمه وحضرت إليه المبشرون وهو بالبحيرة امتلأ فرحًا وأرسل عدة مكاتبات إلى مصر صحبة السعاة فقبضوا على السعاة وحضروا بهم إلى الباشا فأخفاها ووصل غيرها إلى أربابها على غير يد السعاة وصورتها الأخبار بحضور لدونائمه صحبة قبطان باشا والنظام الجديد وولاية موسى باشا على مصر وانفصال محمد علي باشا عن الولاية وأن مولانا السلطان عفا عن الأمراء المصريين وأن يكونوا كعادتهم في إمارة مصر وأحكامها والباشا المتولي يستقر بالقلعة كعادته وأن محمد علي باشا يخرج من مصر ويتوجه إلى ولايته التي تقلدها وهي ولاية سلانيك وأن حضرة قبطان باشا أرسل يستدعي إخواننا الأمراء من ناحية قبلي فالله يسهل بحضورهم فتكونون مطمئنين الخاطر وأعلموا إخوانكم من الأولداشات والرعية بأن يضبطوا أنفسهم ويكونوا مع العلماء في الطاعة وما بعد ذلك إلا الراحة والخير والسلام‏.‏

وفي يوم الجمعة سابع عشره ورد قاصد من طرف قبودان باشا إلى بولاق فأرسل إليه الباشا من قابله وأركبه وحضر به إلى بيت الباشا وأراد أن ينزله بمنزل الدفتردار فاستعفى الدفتردار من نزوله عنده فأنزلوه ببيت الروزنامجي وأقام يوم السبت والأحد ولم يظهر ما دار بينهما ثم سافر في يوم الاثنين وذهب صحبته سليم المعروف بقبي لركخسي وشرع الباشا في عمل آلات حرب وجلل ومدافع وجمعوا الحدادين بالقلعة وأصعدوا بنبات كثيرة واحتياجات ومهمات إلى القلعة وظهر منه علامات العصيان وعدم الامتثال وجمع إليه كبار العسكر وشاورهم وتناجى معهم فوافقوه على ذلك لأن ما من أحد منهم إلا وصار له عدة بيوت وزوجات والتزام بلاد وسيادة لم يتخيلها ولم تخطر بذهنه ولا بفكره ولا يسهل به الانسلاخ عنها والخروج منها ولو خرجت روحه وأخبر المخبر أن الألأفي أرسل هدية إلى قبودان باشا وفيها ثلاثون حصانًا منها عشرة برخوتها ومن الغنم أربعة آلاف رأس وجملة أبقار وجواميس ومائة جمل محملة بالذخيرة وغير ذلك من النقوج والثياب والأقمشة برسمه ورسم كبار أتباعه ثم أن الباشا أحضر السيد عمر والخاصة وعرفهم بصورة الأمر الوارد بعزله وولاية موسى باشا وأن الأمراء المصريين عرضوا للسلطنة في طلب العفو وعودهم إلى أمرياتهم وخروج العساكر التي أفسدت الإقليم عن أرض مصر وشرطوا على أنفسهم القيام بخدمة الدولة والحرمين الشريفين وإرسال غلالها ودفع الخزينة وتأمين البلاد فحصل عنهم الرضا وأجيبوا إلى سؤالهم على هذه الشروط وأن المشايخ والعلماء يتكلفون بهم ويضمنون عهدهم بذلك فأعملوا فكركم ورأيكم في ذلك ثم انفصلوا من مجلسه‏.‏

وفيه أرسل الباشا فجمع الأخشاب التي وجدها ببولاق في الشوادر والحواصل والوكائل وطلعوا جميع ذلك إلى القلعة لعمل العربات والعجل برسم المدافع والقنابر‏.‏

وفي يوم الثلاثاء حادي عشرينه كان مولد المشهد الحسيني المعتاد وحضر الباشا لزيارة المشهد ودعاه الشيخ السادات وهو الناظر على المشهد والمتقيد لعمل ذلك فدخل إليه وتغدى عنده ثم ركب وعاد إلى داره وأكثر من الركوب والطواف بشوارع المدينة إلى القلعة والنزول منها والذهاب إلى بولاق وهو لابس برنسًا‏.‏

وفي يوم الخميس ثالث عشرينه حضر ديوان أفندي وعبد الله آغا بكتاش الترجمان عند السيد عمر ومعهما صورة عرض يكتب عن لسان المشايخ إلى الدولة في شأن هذه الحادثة فتناجوا مع بعضهم حصة من النهار ثم ركبا وحضرا في ثاني يوم عند الشيخ عبد الله الشرقاوي وأمروا المشايخ بتنظيم العرضحال وترصيعه ووضع أسمائهم وختومهم عليه ليرسله الباشا إلى الدولة فلم تسعهم المخالفة ونظموا صورته ثم بيضوه في كاغد كبير‏.‏

وفي ليلة الاثنين ثالث عشرينه وصل شاكر آغا سلحدار الوزير إلى بولاق فتلقوه وأركبوه إلى بيت الباشا فلما أصبح النهار أرسلوا أوراقًا وصلت صحبة السلحدار المذكور إحداها خطابًا للمشايخ وأخرى إلى شيخ السادات وثالثة إلى السيد عمر النقيب وكلها على نسق واحد وهي من قبودن باشا وعليها الختم الكبير وهي بالعربي وفرمان رابع باللغة التركية خطابًا للجميع ومضمون الكل الأخبار بعزل محمد علي باشا عن ولاية مصر وولايته سلانيك وولاية السيد موسى باشا المنفصل عنها مصر وأن يكون الجميع تحت الطاعة والامتثال للأوامر والاجتهاد في المعاونة وتشهيل محمد علي باشا فيما يحتاج إليه من السفن ولوازم السفر ليتوجه هو وحسن باشا والي جرجا من طريق دمياط بالإعزاز والإكرام وصحبتهما جميع العساكر من غير تأخير حسب الأوامر السلطانية ثم أنهم اجتمعوا في عصر ذلك اليوم بمنزل السيد عمر وركبوا إلى الباشا فلما استقروا بالمجلس قال لهم وصلت إليكم المراسلات الواردة صحبة السلحدار قالوا نعم قال وما رأيكم في ذلك قال الشيخ الشرقاوي ليس رأي والرأي ما تراه ونحن الجميع على رأيك فقال لهم في غد أبعث إليكم صورة تكتبونها في رد الجواب وأرسل إليهم من الغد صورة مضمونها أن الأوامر الشريفة وصلت إلينا وتلقيناها بالطاعة والامتثال إلا أن أهل مصر ورعيتها قوم ضعاف وربما عصت العساكر عن الخروج فيحصل لأهل البلدة الضرر وخراب الدور وهتك الحرمات وأنتم أهل للشفقة والرحمة والتلطف ونحو ذلك من التزويقات والتمويهات وأصدروها إليه وفي أثناء ذلك محمد علي باشا آخذ في إليه تمام والتشهيل وإظهار الحركة والخروج لمحاربة الألفي وبرزت العساكر إلى ناحية بولاق وخارج البلدة وعدوا بالخيام إلى البر الغربي وتقدم إلى مشايخ الحارات بالتعريف على كل من كان متصفًا بالجندية ويكتبوا أسماءهم ومحل سكنهم ففعلوا ذلك ثم كتبت لهم أوراق بالأمر بالخروج وعليها ختم الباشا ومسطور في ورقة الأمر بأن المأمور يصحب معه شخصين أو ثلاثة على أن أكثرهم لا يملك حمارًا يركبه ولا ما يحمل عليه متاعه ولا ما يصرفه على نفسه فضلًا عن غيره وكذلك أمر الوجاقلية جليلهم وحقيرهم بالخروج للمحاربة‏.‏

وفيه شرع الباشا في تقرير فرضة على البلاد البحرية وهي القليوبية والمنوفية والغربية والدقهلية والمزاحمتين إلى آخر مجرى النيل ورتبوها أعلى وأدنى وأوسط وهي غلال الأعلى ثلاثون أردبًا وثلاثون رأسًا من الغنم وأردب أرز وثلاثون رطلًا من الجبن ومن السمن كذلك وغير هذه الأصناف كالتبن والجلة وغير ذلك والأوسط عشرون أردبًا وما يتبعها مما ذكر والأدنى اثنا عشر ومع ذلك القبض والطلب مستمر في فائظ الملتزمين بعضه من ذواتهم وبعضه من فلاحيهم مع ما يتبع ذلك من حق الطرق والخدم وتوالي الاستعجالات‏.‏

وفي ليلة الثلاثاء ثامن عشرينه سافر آغا السلحدار بالأحوبة‏.‏

شهر جمادى الأولى 1221 استهل بيوم الخميس في ثانيه احترق معمل البارود بناحية المدابغ فحصل منه رجة عظيمة وصوت هائل مثل المدفع العظيم سمعه القريب والبعيد ومات به عدة أشخاص ويقال أنهم رموا بنبة من القلعة بقصد التجربة على جهة بولاق فسقطت في المعمل المذكور وحصل ما ذكر‏.‏

وفي ثالثه يوم السبت وقت الزوال ركب الباشا من داره يريد السفر لمحاربة الألفي ونزل إلى بولاق وعدى إلى بر أنبابة لتجهيز العرضي وأرسل أوراقًا لتجمع العربان وعين لذلك حسن آغا محرم وعلي كاشف الشرقية‏.‏

وفي ليلة الاثنين خامسه حضر سليم آغا قابجي كتخدا الذي تقدم سفره صحبة سعيد آغا كتخدا البوابين مرسلًا إلى قبودان باشا من طرف محمد علي باشا فرجع بجواب الرسالة ومحصلها أن القبودان لم يقبل هذه الأعذار ولا ما نقموه من التمويهات التي لا أصل لها ولا بد من تنفيذ الأوامر وسفر الباشا ونزوله هو وحسن باشا وعساكرهما وخروجهم من مصر وذهابهم إلى ناحية دمياط وسفرهم إلى الجهة المأمورين بالذهاب إليها ولا شيء غير ذلك أبدًا‏.‏

وفي ليلة الخميس ثامنه حضر علي كاشف الشرقية وذلك أنه تقنطر من فوق جواده وكسرت رجله وأحضروه محمولًا‏.‏

وفي يوم الخميس المذكور وصل الكثير من طوائف عرب الحويطات ونصف حرام من ناحية شبرا إلى بولاق وضربوا لحضورهم مدافع‏.‏

وفيه ركب طوائف الدلاتية وتقدموا إلى جهة بحري وأشيع ركوب محمد علي باشا وذلك اليوم فلم يركب‏.‏ وفي

ثاني عشرة ورد الخبر بوصول موسى باشا

إلى ثغر سكندرية يوم الأحد حادي عشره والمذكور أرسل من طرفه قاصدًا وعلى يده مرسوم خطابًا لأحمد أفندي الدفتردار بأن يكون قائمًا مقامه ويأمره بضبط الإيراد والمصرف فلم يقبل الدفتردار ذلك وقال لم يكن بيدي قبض ولا صرف ولا علاقة لي بذلك‏.‏

وفي يوم الأحد طاقت جماعة قواسة على بيوت الأعيان يبشرونهم بأن العساكر الكائنين بناحية الرحمانية ركبوا على عرضي الألفي ووقعت بينهم مقتلة كبيرة وقتلوا منه جملة فيهم أربع صناجق ونهبوا منه زيادة عن ثمانمائة جمل بأحمالها وعدة هجن محملة بالأموال ورجعت عساكره ومعهم نحو الثمانين رأسًا ومائة أسير وغير ذلك وأن الألفي هرب بمفرده إلى ناحية الجبل وقيل إلى الإسكندرية فكانوا يطوفون على الأعيان بهذا الكلام ويأخذون منهم البقاشيش ثم ظهر أن هذا الكلام لا أصل له وتبين أن طائفة من العرب يقال لهم الجوابيض وهم طائفة مرابطون ليس يقع منهم أذية ولا ضرر لأحد مطلقًا نزلوا بالجبل بتلك الناحية فدهمهم العسكر وخطفوا منهم إبلًا وغنمًا وقتل فيما بينهم أنفار من الفريقين لمدافعتهم عن أنفسهم‏.‏

وفي ذلك اليوم أيضًا ركب حسن آغا الشماشيرجي إلى المنصورية قرية بالجيزة ومعه طائفة من العسكر وهي بالقرب من إليهرام فضربوا القرية ونهبوا منها أغنامًا ومواشي وأحضروها إلى العرضي بأنبابة وحضر خلفهم أصحاب الأغنام وفيهم نساء يصرخن ويصحن وصادف ذلك أن السيد عمر النقيب عدى إلى العرضي فشاهدهم على هذه الحالة فكلم الباشا في شأنهم فأمر برد الأغنام التي للنساء والفقراء الصارخين وذهبوا بالباقي للمطابخ‏.‏

وفي ثاني عشره وردت الأخبار بأن العساكر الكائنين بالرحمانية ومرقص رجعوا إلى النجيلة ونصبوا عرضيهم هناك وحضر الألفي تجاههم فركبوا لمحاربته وكانوا جمعًا عظيمًا فركب الألفي بجيوشه وحاربهم ووقع بينه وبينهم وقعة عظيمة انجلت عن نصرته عليهم وانهزام العسكر وقتل من الدلاة وغيرهم مقتلة عظيمة ولم يزالوا في هزيمتهم إلى البحر وألقوا بأنفسهم فيه وامتلأ البحر من طراطير الدلاتية وهرب كتخدا بك وطاهر باشا إلى بر المنوفية وعدوا في المراكب واستولى الألفي وجيوشه على خيولهم وخيامهم وحملاتهم وجبخانتهم وأرسل برؤوس القتلى والأسرى إلى القبودان وأشيع خبر هذه الواقعة في الناس وتحدثوا بها وانزعج الباشا والعسكر انزعاجًا عظيمًا وعدى إلى بر بولاق وطاف الوالي وأصحاب الدرك ينادون على العساكر بالخروج إلى العرضي ويكتبون أسماءهم وحضر الباشا إلى داره وأكثر من الركوب والذهاب والمجيء والطواف حول المدينة والشوارع ويذهب إلى بولاق ومصر القديمة ويرجع ليلًا ونهارًا وهو راكب رهوانًا تارة أو فرسًا أو بغلة ومرتد ببرنس أبيض مثل المغاربة والعسكر أمامه وخلفه ووصل مجاريح كثيرة وأخبروا بالواقعة المذكورة ومات من جماعة الألفي أحمد بك الهنداوي فقط وانجرح أمين بك وغيره جرح سلامة‏.‏

وفي يوم الأربعاء حادي عشرينه وصلت العساكر المهزومة وكبراؤهم إلى بولاق وفيهم مجاريح كثيرة وهم في أسوأ حال فمنعهم الباشا من طلوع البر وردهم بمراكبهم إلى بر أنبابة واستمروا هناك إلى آخر النهار وهم عدد كثير وقد انضاف إليهم من كان ببر المنوفية ولم يحضر المعركة لما داخلهم من الخوف ثم أنهم طلعوا إلى بولاق وانتشروا في النواحي وذهب منهم الكثير إلى مصر القديمة وحضر كثير ودخلوا المدينة ودخلوا البيوت وأزعجوا كثيرًا من الناس الساكنين بناحية قناطر السباع وسويقة اللالا والناصرية وغير ذلك من النواحي وأخرجوهم من دورهم وقد كانت الناس استراحت منهم مدة غيابهم‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثامن عشرينه الموافق لثامن مسى القبطي أو فى النيل أذرعه وركب الباشا في صبيحة يوم الخميس إلى قنطرة السد وحضر القاضي والسيد عمر النقيب وكسر الجسر بحضرتهم وجرى الماء في الخليج جريانًا ضعيفًا بسبب علو أرضه وعدم تنظيفه من الأتربة المتراكمة فيه ويقال أنهم فتحوه قبل الوفاء لاشتغال بال الباشا وتطيره وخوفه من حادثة تحدث في مثل يوم هذا الجمع وخصوصًا وقد وصل إلى بر الجيزة الكثير من أجناد الألفي‏.‏

شهر جمادى الآخرة سنة 1221 استهل بيوم السبت في سادسه حضر طاهر باشا إلى بر أنبابة ونصب خيامه هناك وعدى هو في قلة إلى بولاق وذهب إلى داره بالأزبكية وكان من أمره أنه لما حصلت له الهزيمة فذهب إلى المنوفية وقد اغتاظ عليه الباشا وأرسل يقول له لا تريني وجهك بعد الذي حصل وترددت بينهما الرسل ثم أرسل إليه يأمره بالذهاب إلى رشيد فذهب إلى قوة ثم حضر شاهين بك الألفي إلى الرحمانية فأرسل الباشا إلى طاهر باشا يأمره بالذهاب إلى شاهين بك ويطرده من الرحمانية فذهب إليه في المراكب فضرب عليه شاهين بك بالمدافع فكسر بعض مراكبه فرجع على أثره وركب من البر حتى عدى بحر الرحمانية ثم حضر إلى مصر ووصل بعده الكثير من العسكر فأمرهم الباشا بالعود فعاد الكثير منهم في المراكب وحضر إسماعيل آغا الطوبجي كاشف المنوفية وقد داخل الجميع الخوف من الألفي وأما الألفي فإنه بعد انفصال الحرب من النجيلة رجع إلى حصار دمنهور وذلك بعد أن ذهب أعيانها إلى قبودان باشا وقابلوه وأمنهم ورجعوا على أمانه فافترقوا فرقتين فرقة منهم اطمأنت ورضيت بالأمان والأخرى لم تطمئن بذلك وأرسلوا إلى السيد عمر والباشا فرجع إليهم الجواب يأمرونهم باستمرارهم على الممانعة ومحاربة من يأتي لحربهم فامتثلوا ذلك وتبعهم الفرقة الأخرى وأرسل إليهم القبودان يدعوهم إلى الطاعة ويضمن لهم عدم تعدي الألفي عليهم فلم يرضوا بذلك فعند ذلك استفتى العلماء في جواز حربهم حتى يذعنوا للطاعة فأفتوه بذلك فعند ذلك أرسل إلى الألفي يأمره بحربهم فحاصرهم وحاربهم واستمر ذلك‏.‏

وفي يوم الجمعة سابعه ورد الخبر بموت الكاشف الذي بدمنهور‏.‏

وفي يوم الخميس ثالث عشره وصلت قافلة من السويس وصحبتها المحمل فأدخلوه وشقوا به من المدينة وخلفه طبل وزمر وأمامه أكابر العسكر وأولاد الباشا ومصطفى جاويش المتسفر عليه ولقد أخبرني مصطفى جاويش المذكور أنه لما ذهب إلى مكة وكان الوهابي حضر إلى الحج واجتمع به فقال له الوهابي ما هذه العويدات التي تأتون بها وتعظمونها بينكم يشير بذلك القول إلى المحمل فقال له جرت العادة من قديم الزمان بها يجعلونها علامة وإشارة لاجتماع الحجاج فقال لا تفعلوا ذلك ولا تأتوا به بعد هذه المرة وإن أتيتم به مرة أخرى فإني أكسره‏.‏

وفي ليلة الأربعاء حضر الأفندي المكتوبجي من طرف القبودان إلى بولاق فأرسل إليه الباشا حصانًا فركبه وحضر إلى بيت الباشا بالأزبكية في صبح يوم الأربعاء المذكور فأحضر الباشا الدفتردار وسعيد آغا واختلوا مع بعضهم ولم يعلم ما دار بينهم‏.‏

وفي يوم الخميس عشرينه ارتحل من بالجيزة من الأمراء المصريين وعدتهم ستة من المتآمرين الجدد الذين أمرهم الألفي فذهبوا عند أستاذهم بناحية دمنهور ونزلوا بالقرب منه‏.‏

وفي خامس عشرينه مر سليمان آغا صالح من ناحية الجيزة راجعًا من عند الأمراء القبالي وصحبته هدايا من طرفهم للقبودان وفيها خيول وعبيد وطواشية وسكر ولم يجيبوا إلى الحضور لممانعة عثمان بك البرديسي وحقده الكامن للألفي ولكون هذه الحركة وهي مجيء القبودان وموسى باشا باجتهاده وسفارته وتدبيره كما سيتلى عليك فيما بعد وفيه ظهرت فحوى النتيجة القياسية وانعكاس القضية وهو أن القبودان لما لم يجد في المصرلية الإسعاف وتحقق ما هم عليه من التنافر والخلاف وتكررت ما بينه وبين الفريقين المراسلات والمكاتبات فعند ذلك استأنف مع محمد علي باشا المصادقة وعلم أن الأروج له معه الموافقة فأرسل إليه المكتوبجي واستوثق منه والتزم له بأضعاف ما وعد به من الكذابين معجلًا ومؤجلًا على ممر السنين والالتزام بجميع المأمورات والعدول عن المخالفات فوقع الاتفاق على قدر معلوم وأرسل محمد علي باشا يأمره بكتابة عرضحال خلاف الأولين ويرسله صحبة ولده على يد القبودان فعند ذلك لخصوا عرضحال وختم عليه الأشياخ والاختيارية والوجاقلية وأرسله صحبة ابنه إبراهيم بك وأصحب معه هدية حافلة وخيولًا وأقمشة هندية وغير ذلك وتلفت طبخه الألفي والتدابير ولم تسعفه المقادير‏.‏

وفي هذه الأيام تخاصم عرب الحويطات والعيايدة وتجمع الفريقان حول المدينة وتحاربوا مع بعضهم مرارًا وانقطعت السبل بسبب ذلك وانتصر الباشا للحويطات وخرج بسببهم إلى العادلية ثم رجع ثم أنهم اجتمعوا عند السيد عمر النقيب وأصلح بينهم‏.‏

استهل بيوم الأحد وصل القاضي الجديد ويسمى عارف أفندي وهو ابن الوزير خليل باشا المقتول وانفصل محمد أفندي سعيد خفيد علي باشا المعروف بحكيم أوغلي وكان إنسانًا لا بأس به مهذبًا في نفسه وسافر إلى قضاء المدينة المنورة من القلزم بصحبة القافلة‏.‏

وفي يوم الجمعة سادسه سافر إبراهيم بك بن الباشا بالهدية وسافر صحبته محمد آغا لاظ الذي كان سلحدار محمد باشا خسرو‏.‏

وفي يوم السبت أرسل الباشا إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي ترجمانه يأمره بلزوم داره وأنه لا يخرج منها ولا إلى صلاة الجمعة وسبب ذلك أمور وضغائن ومنافسات بينه وبين إخوانه كالسيد محمد الدواخلي والسيد سعيد الشامي وكذلك السيد عمر النقيب فأغروا به الباشا ففعل به ما ذكر فامتثل الأمر ولم يجد ناصرًا وأهمل أمره‏.‏

وفيه تواترت الأخبار بوقوع معركة عظيمة بين العسكر والألفي وذلك أن الألفي لم يزل محاصرًا دمنهور وهم ممتنعون عليه إلى الآن وسد خليج الأشرفية ومنع الماء عن البحيرة والإسكندرية لضرورة الماء من ناحية دمنهور ليعطل عليهم المراد من الحصار فأرسل الباشا برب باشا الخازندار ومعه عثمان آغا ومعهما عدة كثيرة من العساكر في المراكب فوصلوا إلى خليج الأشرفية من ناحية الرحمانية وعليه جماعة من الألفية فحاربوهم حتى أجلوهم عنها وفتحوا فم الخليج فجرى فيه الماء ودخلوا فيه بمراكبهم فسد الألفية الخليج من أعلى عليهم وحضر شاهين بك فسد مع الألفية فم الخليج بأعدال القطن والمشاق ثم فتحوه من أسفل فسال الماء في السيخ ونضب الماء من الخليج ووقفت السفن على الأرض ووصلتهم الألفية فأوقعوا معهم وقعة عظيمة وذلك عند قرية يقال لها منية القران فانهزموا إلى سنهور وتحصنوا بها فأحاطوا بهم واستمروا على محاربتهم حتى افترق الفريقان فيما بعد‏.‏

وفيه أيضًا وصلت الأخبار بأن ياسين بك لم يزل يحارب من بمدينة الفيوم حتى ملكها وقتل من بها ولم ينج منهم إلا القليل وكانوا أرسلوا يستنجدون بإرسال العسكر فلم يلحقوهم‏.‏

وفيه وردت الأخبار من الجهة القبلية بأن الأمراء المصريين أخلوا منفلوط وملوى وترفعوا إلى أسيوط وجزيرة منقياط وتحصنوا بهما وذلك لما أخذ النيل في الزيادة وخشوا من ورود العساكر عليهم بتلك النواحي فلا يمكنهم التحصن فيها فترفعوا إلى أسيوط فلما فعلوا ذلك أشاعوا هروبهم وذكروا أن عابدين بك وحسن بك حارباهم وطرداهم إلى أن هربوا إلى أسيوط ولما خلت تلك النواحي منهم رجع كاشف منفلوط وملوى وخلافهما الذين كانوا طردوهم في العام الماضي وفروا من مقاتلتهم‏.‏

وفيه شرع الباشا في تجهيز عساكر وتسفيرهم إلى جهة بحري وقبلي وحجزوا المراكب للعسكر وفيه شرع أيضًا في تقرير فرضة عظيمة على البلاد والقرى والتجار ونصارى الأروام والأقباط والشوام ومساتير الناس ونساء الأعيان والملتزمين وغيرهم وقدرها ستة آلاف كيس وذلك برسم مصلحة القبودان وذكروا أنها سلفة ستة أيام ثم ترد إلى أربابها ولا صحة لذلك‏.‏

وفي ليلة الاثنين وصل كتخدا القبودان إلى ساحل بولاق فضربوا لقدومه مدافع وعملوا شنكًا وأرسل له في صبحها خيولًا صحبة ابنه طولون ومعهم أكابر الدولة والآغا والوالي والأغوات فركب في موكب عظيم ودخلوا به من باب النصر وشق من وسط المدينة وعمل الباشا الديوان واجتمع عنده السيد عمر والمشايخ المتصدرون ما عدا الشيخ عبد الله الشرقاوي ومن يلوذ به فسأل عليه القاضي وعلى من تأخر فقيل له الآن يحضر ولعل الذي أخره ضعفه ومرضه ثم أنهم انتظروا باقي الوجهاء وأرسلوا لهم جملة مراسيل فلما حضروا قرؤوا المرسوم الوارد صحبة الكتخدا المذكور ومضمونه إبقاء محمد علي باشا واستمراره على ولاية مصر حيث أن الخاصة والعامة راضية بأحكامه وعدله بشهادة العلماء وأشراف الناس وقبلنا رجاءهم وشهادتهم وأنه يقوم بالشروط التي منها طلوع الحج ولوازم الحرمين وإيصال العلائف والغلال لأربابها على النسق القديم وليس له تعلق بثغر رشيد ولا دمياط والإسكندرية فإنه يكون إيرادها من الجمارك يضبط إلى الترسخانة السلطانية بإسلامبول ومن الشروط أيضًا أن يرضي خواطر الأمراء المصريين ويمتنع من محاربتهم البلاد ويعطيهم جهات يتعيشون بها وهذا من قبيل تحلية البضاعة وانفض المجلس وضربوا مدافع كثيرة من القلعة والأزبكية وبولاق وأشيع عمل زينة بالبلدة وشرع الناس في أسبابها وبعضهم علق على داره تعاليق ثم بطل ذلك وطاف المبشرون من أتباعهم على بيوت الأعيان لأخذ البقاشيش وأذن الباشا بدخول المراكب إلى الخليج والأزبكية ثم عملوا شنكًا وحراقات وسواريخ ثلاثة أيام بلياليها بالأزبكية‏.‏

شهر شعبان سنة 1221 فيه تكلم القاضي مع الباشا في شأن الشيخ عبد الله الشرقاوي والإفراج عنه ويأذن له في الركوب والخروج من داره حيث يريد فقال أنا لا ذنب لي في التحجير عليه وإنما ذلك من تفاقمهم مع بعضهم فاستأذنه في مصالحتهم فأذن له في ذلك فعمل القاضي لهم وليمة ودعاهم وتغدوا عنده وصالحهم وقرؤوا بينهم الفاتحة وذهبوا إلى دورهم والذي في القلب مستقر فيه‏.‏

وفيه وردت الأخبار من الديار الرومية بقيام الرومنلي وتعصبهم على منع النظام الجديد والحوادث فوجهوا عليهم عسكر النظام فتلاقوا معهم وتحاربوا فكانت الهزيمة على النظام وهلك بينهم خلائق كثيرة ولم يزالوا في أثرهم حتى قربوا من دار السلطنة فترددت بينهم الرسل وصانعوهم وصالحوهم على شروط منها عزل أشخاص من مناصبهم ونفى آخرين ومنهم الوزير وشيخ الإسلام والكتخدا والدفتردار ومنع النظام والحوادث ورجوع الوجاقات على عادتهم وتقلد آغات الينكجرية الصدارة وأشياء لم تثبت حقيقتها‏.‏

وفيه حضر عابدين بك أخو حسن باشا من الجهة القبلية‏.‏

وفي عاشره تواترت الأخبار بوقوع وقائع بالناحية القبلية واختلاف العساكر ورجوع من كان ناحية منفلوط وعصيان المقيمين بالمنية بسبب تأخر علائفهم ورجع حسن بك باشا إلى ناحية المنية فضرب عليه من بها فانحدر إلى بني سويف‏.‏

وفيه حضر إسماعيل الطوبجي كاشف المنوفية باستدعاء فأرسله الباشا بمال إلى الجهة القبلية ليصالح العساكر‏.‏

وفي وردت الأخبار من ثغر الإسكندرية بسفر قبودان باشا وموسى باشا إلى إسلامبول وأخذ القبودان صحبته ابن محمد علي باشا وكان نزولهم وسفرهم في يوم السبت خامسه واستمر كتخدا القبودان بمصر متخلفًا حتى يستغلق مال المصالحة‏.‏

وفيه شرعوا في تقرير فرضة على البلاد أيضًا‏.‏

وفيه حضر محمود بك من ناحية قبلي‏.‏

وفيه وصل إلى ثغر بولاق قابجي وعلى يده تقرير لمحمد علي باشا بالاستمرار على ولاية مصر وخلعة وسيف فأركبوه من بولاق إلى الأزبكية في موكب حفل وشقوا به من وسط المدينة وحضر المشايخ والأعيان والاختيارية ونصب الباشا سحابه بحوش البيت للجمع والحضور وقرئت المرسومات وهما فرمانان أحدهما يتضمن تقرير الباشا على ولاية مصر بقبول شفاعة أهل البلدة والمشايخ والأشراف والثاني يتضمن الأوامر السابقة وبإجراء لوازم الحرمين وطلوع الحج وإرسال غلال الحرمين والوصية بالرعية وتشهيل غلال وقدرها ستة آلاف أردب وتسفيرها على طريق الشام معونة للعساكر المتوجهين إلى الحجاز‏.‏

وفيه الأمر أيضًا بعدم التعرض للأمراء المصريين وراحتهم وعدم محاربتهم لأنه تقدم العفو عنهم ونحو ذلك وانقضى المجلس وضربوا مدافع كثيرة من القلعة والأزبكية‏.‏

واستهل شهر رمضان بيوم الأربعاء سنة 1221 وانقضى بخبر ولم يقع فيه من الحوادث سوى توالي الطلب والفرض والسلف التي لا ترد وتجريد العسكر إلى محاربة الألفي واستمرار الألفي بالجيزة ومحاصرة دمنهور واستمرار أهل دمنهور على الممانعة وصبرهم على المحاصرة وعدم الطاعة مع متاركة المحاربة‏.‏

وفيه ورد الخبر بموت عثمان بك البرديسي في أوائل رمضان بمنفلوط وكذلك سليم بك أبو دياب ببني عدي‏.‏

وفي أواخره تقدم محمد علي باشا إلى السيد عمر النقيب بتوزيع جملة أكياس على الناس من مياسير الناس على سبيل السلفة‏.‏

واستهل شهر شوال بيوم الجمعة سنة 1221 ولم يقع في شهر رمضان هذا ارتباك في هلالة أولًا وآخرًا كما حصل فيما تقدم وكذلك حصل به سكون وطمأنينة من عربدة العساكر لولا توالي الطلب والسلف والدعاوى الباطلة في المدينة والأرياف وعسف أرباب المناصب في القرى وعملوا شنكًا للعيد بمدافع كثيرة في الأوقاف الخمسة ثلاثة أيام العيد‏.‏

وفيه فتحوا طلب الميري على السنة القابلة وجدوا في التحصيل ووجهوا بالطلب العساكر والقوامة والأتراك بالعصي المفضضة وضيقوا على الملتزمين‏.‏

وفي عاشره أخرج الباشا خيامًا ونصب عرضي بناحية شبرا ومنية السيرج والتمس من السيد عمر توزيع أربعمائة كيس برأيه ومعرفته فضاق صدره وشرع في توزيعها على التجار ومساتير وفي يوم الجمعة ثاني عشرينه وصل حسن باشا طاهر من الجهة القبلية ودخل داره وخرج محمد علي باشا إلى جهة الحلي يريد السفر إلى الألفي ووصلت عربان الأفي وعساكره إلى بر الجيزة وطلبوا الكلف من البلاد‏.‏

وفي يوم الأحد رابع عشرينه عدى محمد علي باشا إلى بر أنبابة‏.‏

وفي يوم الاثنين خامس عشرينه عدى محمد علي باشا وغالب العسكر إلى بولاق وأشاعوا أن الأخصام هربوا من وجوههم فلم يذهبوا خلفهم بل رجعوا على أثرهم ونهبوا كفر حكيم وما جاوروه من القرى حتى أخذوا النساء والبنات والصبيان والمواشي ودخلوا بهم إلى بولاق والقاهرة ويبيعونهم فيما بينهم من غير تحاش كأنهم سبايا الكفار‏.‏

واستهل شهر القعدة سنة 1221 بيوم السبت ووصل الحجاج الطرابلسية وعدوا إلى بر مصر‏.‏

وفي يوم الأحد ثانيه وصلت قوافل الصعيد من ناحية الجبل وبها أحمال كثيرة وبضائع مع عرب المعازة وغيرهم فركب الباشا ليلًا وكبسهم على حين غفلة ونهبهم وأخذ جمالهم وأحمالهم متاعهم حتى أولاد العربان والنساء والبنات ودخلوا بهم إلى المدينة يقودونهم أسرى في أيديهم وفي ذلك اليوم ضربوا مدافع كثيرة من القلعة بورود أشخاص من الططر ببشارة إلى الباشا وتقريره على السنة الجديدة‏.‏

وفي يوم السبت أداروا كسوة الكعبة والمحمل وركب معها المتسفر عليها من القلزم وهو شخص يقال له محمود آغا الجزيري وركب أمامه الآغا والوالي والمحتسب وطائفة الدلاة وكثير من العسكر‏.‏

وفي يوم الاثنين عاشره وصلت الأخبار بوصول الألفي إلى ناحية الأخصاص وانتشار جيوشه بإقليم الجيزة وكان الباشا معزومًا ذلك اليوم عند سعودي الحناوي بسوق الزلط وحارة المقس وركب قبيل العصر وذهب إلى بولاق وأمر العساكر بالخروج ولا يتخلف أحد لخامس ساعة من الليل وعدى بمن معه إلى بر أنبابة‏.‏

وفي ليلة الأربعاء وقع بين الألأفي والعسكر معركة وانجاز العسكر وتترسوا بداخل الكفور والبلاد ووصل منهم جرحى إلى البلد واستمر الأمر على ذلك وهم يهابون البروز إلى الميدان وأخصامهم لا يحاربون المتاريس والحيكان‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره ركب الألفي بجيوشه وتوجه إلى ناحية قناطر شبرامنت فلما عاينهم الباشا ومن معه مارين ركب بعسكره من ناحية كفر حكيم وما حوله وساروا إلى جهة الجيزة ونصب وطاقه بحريها وباتوا تلك الليلة وعملوا شنكًا في صبحها وهم يشيعون هروب الألفي والحال أنه مر في جيش كثيف وصورة هائلة وقد رتب جنوده وعساكره طوابير وبين يديه النظام الذي رتبه على هيئة عسكر الفرنسيس ومعهم طبول بكيفية خرعت عقولهم والباشا واقف بجيوشه ينظر إليه تارة بعينه وتارة بالنظارة ويقول هذا طهماز الزمان ويتعجب وقال لطائفة الدلاة تقدموا لمحاربته وأنا أعطيكم كذا وكذا من المال فلم يجسروا على التقدم لما سبق لهم معه‏.‏

وفي يوم الخميس حضر أشخاص من العرب إلى الباشا وأخبروه بأن الألأفي قد مات يوم وصوله إلى تلك المحطة وذلك ليلة الأربعاء تاسع عشره ونزل به خلط دموي فتقايا ثم مات وذلك بناحية المحرقة بالقرب من دهشور وأن مماليكه اجتمعوا وأمروا عليهم شاهين بك وذلك بإشارة أستاذهم وأن طائفة أولاد علي انفصلوا عنهم ورجعوا إلى بلادهم وآخرين يطلبون الأمان فاشتبه الحال وشاع الخبر وصارت الناس ما بين مصدق ومكذب واستمر الاشتباه والاضطراب أيامًا حتى أن الباشا خلع على ذلك المخبر بعد أن تحقق خبره فروة سمور وركب بها وشق من وسط المدينة والناس ما بين مصدق ومكذب ويظنون أن ذلك من مكايده وتحيلاته لأمور يدبرها إلى أن حضر بعض الخدم إلى دوره وأخبروا بحقيقة الحال كما ذكر فعند ذلك زال الاشتباه وعد ذلك من تمام سعد محمد علي باشا الدنيوي حتى أنه قال في مجلس خاصته الآن ملكت مصر ولما مات الألفي ارتحلت أجناده ومماليكه وأمراؤه وارتفعوا إلى ناحية قبلي‏.‏

ثم أن الباشا أرسل إلى أمرائه مكاتبة يستميلهم ويطلبهم للصلح ويدعوهم للانضمام إليه ويعدهم أن يعطيهم فوق مأمولهم ونحو ذلك وأرسل تلك المكاتبة صحبة قادري آغا الذي كان طرده الألفي ونفاه وأخذ محمد علي باشا في إليهتمام والركوب واللحوق بهم وفي كل بوم ينادي على العسكر بالمدينة بالخروج وقوي نشاطهم ورفعوا رؤوسهم وسعوا في قضاء أشغالهم وخطفوا الجمال والحمير وحضر الباشا إلى بيته بالأزبكية وبات به ليلة الأحد وصرح بسفره يوم الخميس وخرج إلى العرضي ثانيًا وطلب السلف والمال ومضى الخميس والجمعة ولم يسافر‏.‏

وفي ليلة السبت تاسع عشرينه نزل به حادر وتحرك عنده خلط وحصل له إسهال وقيء وأشاع الناس موته يوم السبت وتناقلوه وكاد العسكر ينهبون العرضي ثم حصلت له إفاقة وخرج السيد عمر والمشايخ للسلام عليه يوم الأحد وليهنؤه بجوابات الرسالة من أمراء الألفي أحدها للباشا وعليه ختم شاهين وباقي خشداشينه الكبار وآخر خطابًا لمصطفى كاشف آغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي ومن كان كاتبهم بالمعنى السابق يذكرون في جوابهم إن كان سيدهم قد مات وهو شخص واحد فقد خلف رجالًا وأمراء وهم على طريقة أستاذهم في الشجاعة والرأي والتدبير ونحو ذلك وليس كل مدع تسلم له دعواه ومن أمثال المغاربة ما كل حمراء لحمة ولا كل بيضاء شحمة وذكروا في الجواب أيضًا أنه إن اصطلح من كبرائهم الكائنين بقبلي وهم إبراهيم بك الكبير وعثمان بك حسن وباقي أمرائهما كنا مثلهم وإن كان يريد صلحنا دونهم فيعطينا ما كان يطلبه أستاذنا من الأقاليم ونحو ذلك‏.‏

واستهل شهر ذي الحجة بيوم الاثنين سنة 1221 فيه ارتحل الباشا بعرضي إلى ساقية مكي بالجيزة متوجهًا لقبلي‏.‏

وفيه طلبوا المراكب من كل ناحية وعز وجودها وامتنعت الواردون ومراكب المعاشات والتجارات مع استمرار الطلب للمغارم والسلف ونحو ذلك وفي منتصفه وردت مكاتبات من وزير الدولة العثمانية وفيها الخبر بوقوع الغزو بين العثماني والموسكوب والأمر بالتيقظ والتحفز وتحصين الثغور فربما آغاروا على بعضها على حين غفلة وكذلك وردت أخبار بمعنى ذلك من حاكم أزمير وحاكم رودس وأن الإنكليز معاونون لطائفة الموسكوب لاستمرار عداوتهم مع الفرنساوية لكون الفرانساوية متصادقين مع العثماني والخبر عن مجمل القضية أن بونابارته أمير جيش الفرانساوية وعساكرهم خرجوا في العام الماضي وآغاروا على القرانات والممالك الإفرنجية واستولوا على النيمسة التي هي أعظم القرانات وبينهم وبين الموسكوب مصادقة ونسب فأرسل الموسكوب جندًا كثيفًا مساعدة للنيمساوية مع كبير من قرابة قرانهم فتلاقوا مع بونابارته بعد استيلائه على تخت النيمسة فهزمهم أيضًا وأسر عظماءهم وسار بجيوشه إلى الروسية واستولى على عدة أساكل وكلما استولى على جهة قرر بها حكامها وشرط عليهم شروطه التي منها معاداة الإنكليز ومنابذتهم وراسله العثماني وراسله هو أيضًا ورأى العثماني قوة بأسه فصادقه وأرسل إليه من طرفه الجي إلى إسلامبول فدخلها في أبهة عظيمة وأنزلوه منزلًا حسنًا وأرسل صحبته هدايا وقوبل بأعظم منها وكذلك أرسل إلى خصوص بونابارته تحفًا وهدايا وتاجًا من الجوهر فعند ذلك انتبذ الموسكوب ونقض الهدنة بينه وبين العثماني وطلب المحاربة فخافه العثماني لما يعلمه منه من القوة والكثرة وسعى الإنكليز بينهما بالصلح واجتهد في ذلك حتى أمضاه بشروط قبيحة وشرع أهل الإسكندرية في تحصين قلاعها وأبراجها وكذلك أبو قير أرسل كتخدا بك من يتقيد ببناء قلعة بالبرلس وحصل لمصر قلق ولغط وغلت الأسعار في البضائع المجلوبة وعملوا جمعيات ببيت كتخدا بك وببيت السيد عمر النقيب واتفقوا على إرسال تلك المراسلات إلى محمد علي باشا بالجهة القبلية صحبة ديوان أفندي‏.‏

وفي عشرينه اجنمعوا بالأزهر لقراءة صحيح البخاري في أجزاء صغار‏.‏

وفيه حضر ديوان أفندي بمكاتبات وفيها طلب جماعة من الفقهاء ليسعوا في إجراء الصلح بين الأمراء المصريين وبين الباشا فوقع الاتفاق على تعيين ثلاثة أشخاص وهم بن الشيخ الأمير وابن الشيخ العروسي والسيد محمد الدواخلي فسافروا في يوم الأحد سادس عشرينه ووصلت الأخبار بأن الإنكليز حضروا في اثني عشر مركبًا وعبروا بغاز إسلامبول وكانوا محترسين فضربوا عليهم بالمدافع من الجهتين فلم يكترثوا ولم يفزعوا ولم يتأخروا ولم يصب الضرب إلا مركبًا واحدة من الاثني عشر وعمروا ثلمتها في الحال ولم يزالوا سائرين حتى رسوا ببر إسلامبول فهاج كل أهلها وصرخوا وانزعجوا انزعاجًا عظيمًا وأيقنوا بأخذ الإنكليز البلدة ولو أرادوا حرقها لأحرقوها عن آخرها فعند ذلك نزل إليها السيد علي باشا القبطان وهو أخو علي باشا الذي كان أخذ يسيرًا مع البرديسي من برج مغيزل برشيد فتكلم معهم وصالحهم وخرجوا من البغاز سالمين مغبوطين بعفوهم المقدرة وانقضت السنة بحوادثها‏.‏ وأما

من مات بها من العلماء والأمراء ممن له ذكر

مات العمدة الفاضل صدر المدرسين وعمدة المحققين الفقيه الورع الشيخ محمد الخشني الشافعي تخرج على الشيخ عطية الأجهوري وغيره من أشياخ العصر المتقدمين كالحفني والعدوي ومسكنه بخطة السيدة نفيسة ويأتي إلى الأزهر في كل يوم فيقرأ دروسه ثم يعود إلى داره متقللًا في معيشته منعزلًا عن مخالطة غالب الناس وهو آخر الطبقة وتمرض شهورًا بمنزله الذي بالمشهد النفيسي وكان دائمًا يسأل عن الشيخ سليمان البجيرمي وكان يقول لا أموت حتى يموت البجيرمي لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال له أنت آخر أقرانك موتًا ولم يكن من أقرانه سوى البجيرمي فلذلك كان يسأل عنه ثم مات البجيرمي بقرية تسمى مصطيه ومات هو بعده بنحو ثلاثة أشهر وكانت وفاته في يوم الاثنين خامس عشرين ذي الحجة ولم يحضروا بجنازته إلى الأزهر بل صلي عليه بالمشهد النفيسي ودفن هناك رحمة الله تعالى عليه‏.‏

ومات الشيخ الفقيه المحدث خاتمة المحققين وعمدة المدققين بقية السلف وعمدة الخلف الشيخ سليمان بن محمد بن عمر البجيرمي الشافعي الأزهري المنتهي نسبه إلى الشيخ جمعة الزبدي المدفون ببجيرم نسبة إلى زيدة بالقرب من منية بن خصيم وينتهي نسب الشيخ جمعة المذكور إلى سيدي محمدي بن الحنفية ولد ببجيرم قرية من الغربية إحدى وثلاثين ومائة وألف وحضر إلى مصر صغيرًا دون البلوغ ورباه قريبه الشيخ موسى البجيرمي وحفظ القرآن ولازم الشيخ المذكور حتى تأهل لطلب العلوم وحضر على الشيخ الشماوي في الصحيحين وأبي داود الترمذي والشفاء والمواهب وشرح المنهج لشيخ الإسلام وشحي المنهاج لكل من الرملي وابن حجر وحضر دروس الشيخ الحفني وأجازه الملوي والجوهري والمدابغي وأخذ عن الديربي وغيره وحضر أيضًا دروس الشيخ علي الصعيدي والسيد البليدي وشارك كثيرًا من الأشياخ كالشيخ عطية الأجهوري وغيره وكان إنسانًا حسنًا حميد الأخلاق منجمعًا عن مخالطة الناس مقبلًا على شأنه وقد انتفع به أناس كثيرون وكف بصره سنينًا وعمر وتجاوز المائة سنة ومن تأليفه بأيدي الطلبة حاشية على المنهج وأخرى على الخطيب وغير ذلك وقبل وفاته سافر إلى مصطيه بالقرب من بجيرم فتوفي بها ليلة الاثنين وقت السحر ثالث عشر رمضان من السن المذكورة ودفن هناك رحمة الله تعالى عليه‏.‏

ومات الأجل العلامة والفاضل الفهامة فريد عصره علمًا وعملًا ووحيد دهره تفصيلًا وجملًا الشيخ مصطفى العقباوي المالكي نسبة لمنية عقبة بالجيزة حضر إلى الأزهر صغيرًا ولازم السيد حسنًا البقلي ثم الشيخ محمد العقاد المالكي ثم الشيخ محمد عبادة العدوي ملازمة كلية حتى تمهر في مذهبه في المنقولات وفي المعقولات وحضر دروس أشياخ العصر كالشيخ الدردير والشيخ محمد البيلي والشيخ الأمير وغيرهم وتصدر لإلقاء الدروس وانتفع به الطلبة واشتهر فضله وكان إنسانًا حسن الأخلاق مقبلًا على الإفادة والاستفادة لا يتداخل فيما لا يعنيه ويأتيه من بلدته ما يكفيه قانعًا متورعًا متواضعًا ومن مناقبه أنه كان يحب إفادة العوام حتى أنه كان إذا ركب مع المكاري يعلمه عقائد التوحيد وفرائض الصلاة إلى أن توفي يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة ولم يخلف بعده مثله رحمه الله تعالى وعفا عنا وعنه‏.‏

ومات الأجل المعظم المبجل المحقق المدقق المفضل العالم العامل الفاضل الكامل الشيخ علي النجاري المعروف بالقباني الشافعي مذهبًا المكي مولدًا المدني أصلًا بن العالم الفاضل الشيخ أحمد تقي الدين بن السيد تقي الدين المنتهي نسبه إلى أبي سعيد الخدري وهو سعد بن مالك بن دينار بن تيم الله بن ثعلبة النجاري أحد بطون الخزرج وينتهي نسب أخواله إلى السيد أحمد الناسك بن عبد الله إدريس بن عبد الله بن الحسن الأنور ابن سيدنا الحسن السبط رضي الله تعالى عنه ولد المترجم بمكة سنة أربع وثلاثين ومائة وقدم إلى مصر مع أبيه وأخيه السيد حسن سنة إحدى وسبعين مائة قليلة وصولهم مرض أخوه المذكور وتوفي صبح ثالث يوم فجزع والده لذلك جزعًا شديدًا وتشاءم به وعزم على السفر إلى مكة ثانيًا ولم يتيسر له ذلك إلا أواخر شوال من السنة المذكورة وبقي المترجم واشتغل بتحصيل العلوم وشراء الكتب النافعة واستكتابها ومشاركة أشياخ العصر في الإفادة والاستفادة مع مباشرة شغل تجارتهم من بيع الإرساليات التي ترد إليه من أولاد أخيه من جدة ومكة وشراء ما يشترى وإرساله لهم إلى أن تمرض وانقطع ببيته الذي بخطة عابدين قريبًا من الأستاذ الحنفي سنة تسع ومائتين وكان عالمًا ماهرًا وأديبًا شاعرًا تخرج على والده وعلى غيره بمكة وعلى كثير من أشياخ العصر المتقدمين كالشيخ العشماوي والشيخ الحفني والشيخ العدوي وغيرهم وتخرج في الأدب على والده وعلى الشيخ علي بن تاج الدين المكي وعلى الشيخ عبد الله الأنكاوي وغيرهم وله مؤلفات منها نفح الأكمام على منظومته في علم الكلام ومنها تقريره على الرملي وهو مجلد ضخم ومنها شرح بديعيته التي سماها مراقي الفرج في مدح عالي الدرج وله ديوان شع صغير غالبه جيد وكان في مدة انقطاعه لا يشتغل بغير المطالعة وتحصيل الكتب الغريبة وقيد ولده السيد سلامة بأشغال تجارتهم وولده السيد أحمد بملازمته وإسماعه فيما يريد مطالعته وكانت داره في غالب الأوقات لا تخلو من المترددين إلى أن توفي ليلة السابع والعشرين من رجب من السنة المذكورة وعمره سبع وثمانون سنة وصلي عليه بالأزهر ودفن بمقبرة أخيه بباب الوزير وخلف ولديه المذكورين وكان وجيهًا لطيفًا محبوبًا للنفوس ورعًا رحمة الله تعالى عليه‏.‏

ومات صاحبنا الأجل المعظم والوجيه المكرم الأمير ذو الفقار البكري نسبة ونسابة وهو مملوك السيد محمد بن علي أفندي البكري الصديقي اشتراه سيده المذكور عام إحدى وسبعين ومائة وألف ورباه وأدبه وأعتقه وزوجه ابنته ونشأ في عز ورفاهية وسيادة وعفة وطيب خيم وعلو همة ولما توفي سيده اتحد بولده السيد محمد أفندي وهو أخو زوجته اتحادًا كليًا بحيث صارا كالأخوين لا يصبر أحدهما عن الآخر ساعة واحدة وسكنهما واحد في بيتهم الكبير بالأزبكية ولما توفي السيد محمد أفندي اشتغل المترجم بالسكنى في الدار إلى أن حضر الفرنساوية فخرج مع من خرج من مصر إلى ناحية الشام ونهبت كتبه وداره ثم رجع بأمان في أيام الفرنساوية فوجد الدار قد سكنها القرنساوية فاشترى دارًا غيرها بخطة عابدين وجدد بها نظامه ولما حصلت حادثة عسكر الأروام العثمانية مع الأمراء المصريين التي خرج فيها إبراهيم بك والبرديسي وأمراؤهم نهبت داره المذكورة أيضًا فيما نهب فانتقل إلى ناحية الأزهر ثم سكن بحارة السبع قاعات بالأجرة واقتنى كتبًا شراء واستكتابًا وجمع عدة أجزاء متفرقة من تاريخ مرآة الزمان لابن الجوزي وخطط المقريزي وغيرها إلى أن احترمته المنية ومات فجأة يوم الثلاثاء في ثاني عشرين رجب من السنة قبيل الغروب وصلي عليه في صبحها بالأزهر في مشهد حافل ودفن بتربة البكرية ظاهر قبة الإمام الشافعي وكان إنسانًا حسنًا محبوبًا لجميع الناس وجيه الذات مليح الصفات حسن الفاكهة والمعاشرة متوقد الفطنة صادق الفراسة ساكن الجأش وقورًا أدوبًا محتشمًا وخلف من بعده السيد محمد المعروف بالغزاوي المرزوق له من ابنة سيده المذكور ولكونه ولد بغزة حين كانوا بالشام أنشأه الله إنشاء صالحًا وبارك فيه‏.‏

ومات الأمير الكبير والضرغام الشهير محمد بك الألفي المرادي جلبه بعض التجار إلى مصر في سنة تسع وثمانين ومائة وألف فاشتراه أحمد جاويش المعروف بالمجنون فأقام ببيته أيامًا فلم تعجبه أوضاعه لكونه كان مماجنًا سفيهًا ممازجًا فطلب منه بيع نفسه فباعه لسليم آغا الغزاوي المعروف بتمرلنك فأقام عنده شهورًا ثم أهداه إلى مراد بك فأعطاه نظيره ألف أردب من الغلال فلذلك سمي بالألفي وكان جميل الصورة فأحبه مراد بك وجعله جوخداره ثم أعتقه وجعله كاشفًا بالشرقية وعمر دارًا بناحية الخطة المعروفة بالشيخ ضلام وأنشأ هناك حمامًا بتلك الخطة عرفت به وكان صعب المراس قوي الشكيمة وكان بجواره علي آغا المعروف بالتوكلي فدخل عليه وتشفع عنده في أمر فقيل رجاءه ثم نكث فحنق منه واحتد ودخل عليه في داره يغادره ويعاتبه فرد عليه بغلظة فأمر الخدم بضربه فبطحوه وضربوه بالعصي المعروفة بالنبابيت فتألم لذلك ومات بعد يومين فشكوه إلى أستاذه مراد بك فنفاه إلى بحري فعسف بالبلاد مثل فوة ومطوبس وبارنبال ورشيد وأخذ منهم أرزًا وأمولًا فتشكوا منه إلى أستاذه وكان يعجبه ذلك وفي أثناء ذلك وقع خلاف بمصر بين الأمراء ونفوا سليمان بك الآغا وأخاه إبراهيم بك ومصطفى بك كما ذكر ذلك في محله وأرسل إليه مراد بك وأمره أن يتعين على مصطفى بك ويذهب به إلى سكندرية منفيًا ثم يعود هو إلى مصر ففعل ورجع المترجم إلى مصر فعند ذلك قلدوه الصنجقية وذلك في سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف واشتهر بالفجور فخافته الناس وتحاموا شدته وسكن أيضًا بدار بناحية قيصون وذلك عندما اتسعت دائرته وهدم داره القديمة أيضًا ووسعها وأنشأها إنشاء جديدًا واشترى المماليك الكثيرة وأمر منهم أمراء وكشافًا فنشؤا على طبيعة أستاذهم في التعدي والعسف والفجور ويخافون من تجبره عليهم والتزم بإقطاع فرشوط وغيرها من البلاد القبلية ومن البلاد البحرية محلة دمنة ومليج وزوبر وغيرها وتقلد كشوفية شرقية بلبيس ونزل إليها وكان يغير على ما بتلك الناحية من إقطاعات وغيرها وأخاف جميع عربان تلك الجهة وجميع قبائل الناحية ومنعهم من التعدي والجور على الفلاحين بتلك النواحي حتى خافه الكثير من العربان والقبائل وكانوا يخشونه وصادهم بإشراك منهم وقبض على الكثير من كبرائهم وسحبهم في الجنازير وصادروهم في أموالهم ومواشيهم وفرض عليهم المغارم والجمال ولم يزل على حالته وسطوته إلى أن حضر حسن باشا الجزايرلي إلى مصر فخرج المترجم مع عشيرته إلى ناحية قبلي ثم رجع معهم في أواخر سنة خمس ومائتين بعد الألف بعد الطاعون الذي مات فيه إسماعيل بك وذلك بعد إقامتهم بالصعيد زيادة عن أربع سنوات ففي تلك المدة ترزع عقله وانهضمت نفسه وتعلق قلبه بمطالعة الكتب والنظر في جزئيات العلوم والفلكيات والهندسيات وأشكال الرمل والزايرجات والأحكام النجومية والتقاويم ومنازل القمر وأنوائها ويسأل عمن له إلمام بذلك فيطلبه ليستفيد منه واقتنى كتبًا في أنواع العلوم والتواريخ واعتكف بداره القديمة ورغب في الانفراد وترك الحالة التي كان عليها قبل ذلك واقتصر على مماليكه والإقطاعات التي بيده واستمر على ذلك مدة من الزمان فثقل هذا الأمر على أهل دائرته وبدأ يصغر في أعين خشداشينه ويضعف جانبه وطفقوا يباكتونه وتجاسروا عليه وطمعوا فيما لديه وتطلع أدونهم للترفع عليه فلم يسهل به ذلك واستعمل الأمر الأوسط وسكن بدار أحمد جاويش المجنون يدرب سعادة وعمر القصر الكبير بمصر القديمة بشاطئ النيل تجاه المقياس وأنشأ أيضًا قصرًا فيما بين باب النصر والدمرداش وجعل غالب إقامته فيهما وأكثر من شراء المماليك وصار يدفع فيهم الأموال الكثيرة للجلابين ويدفع لهم أموالًا مقدمًا يشترونها بها وكذلك الجواري حتى اجتمع عنده نحو الألف مملوك خلاف الذي عند كشافه وهم نحو الأربعين كاشفًا الواحد منهم دائرته قدر دائرة صنجق من الأمراء السابقين وكل مدة قليلة يزوج من يختاره من مماليكه لمن تصلح له من الجواري ويجهزهم بالجهاز الفاخر ويسكنهم الدور الواسعة ويعطيهم الفائظ والمناصب وقلد كشوفية الشرقية لبعض مماليكه ترفعًا لنفسه عن ذلك وينزل هو إليهم أيضًا على سبيل التروح وبنى له قصرًا خارجر بلبيس وآخر بالدمامين وأخمد شوكة عربان الشرق وجبي منهم الأموال والجمال وأخمد ناموسهم الذي كان يغشى أبدان الفلاحين وأرواحهم وأشعف شوكتهم وأخفى صولتهم وكان يقيم بناحية الشرق شهورًا صلاصة أو أربعة ثم يعود إلى مصر واصطنع قصرًا من خشب مفصلًا قطعًا ويركب بشناكل وأغربة متينة قوية يحمل على عدة جمال فإذا أراد النزول في محطة تقدم الفراشون وركبوه خارج الصيوان فيصير مجلسًا لطيفًا يصعد إليه بثلاث درج مفروش بالطنافس والوسائد يسع ثمانية أشخاص وهو مسقوف وله شبابيك من الأربع جهات تفتح وتغلق بحسب الاختيار وحوله الأسرة من كل جانب وكل ذلك من داخل دهليز الصيوان وكان له داران بالأزبكية أحداهما كانت لرضوان بك بلغيا والأخرى للسيد أحمد بن عبد السلام فبدا له في سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف أن ينشئ دارًا عظيمة خلاف ذلك بالأزبكية فاشترى قصر ابن السيد سعودي الذي بخطة الساكن فيما بينه وبين قنطرة الدكة من أحمد آغا شويكار وهدمه وأوقف في شيادته على العمارة كتخدا ذا الفقار أرسله قبل مجيئه من ناحية الشرقية ورسم له صورة وضعه في كاغد كبير فأقام جدرانه وحيطانه وحضر هو في أثناء ذلك فوجده قد أخطأ الرسم فاغتاظ وهدم غالب ذلك وهندسه على مقتضى عقله واجتهد في بنائه وأوقف أربعة من كبار أمرائه على تلك العمارة كل أمير في جهة من جهاته الأربع يحثون الصناع ومعهم أكثر أتباعهم ومماليكهم وعملوا عدة قمن لحرق الأحجار وعمل النورة وكذلك ركب طواحين الجبس لطحنه وكل ذلك بجانب العمارة وقطعوا الأحجار الكبار ونقلوها في المراكب من طرا إلى جانب العمارة بالأزبكية ثم نشروها بالمناشير ألواحًا كبارًا لتبليط الأرض وعمل الدرج والفسحات وأحضروا لها الأخشاب المتنوعة من بولاق وإسكندرية ورشيد ودمياط واشترى بيت حسن كتخدا الشعراوي المطل على بركة الرطلي من عتقائه وهدمه ونقل أخشابه وأنقاضه إلى العمارة وكذن نقلوا إليه أنواع الرخام والأعمدة ولم يزل الاجتهاد في العمل تم على المنوال الذي أراده ولم يجعل له خرجات ولا حرمدانات بارزة عن أصل البناء ولا رواشن بل جعله ساذجًا حرضًا على المتانة وطول البقاء ثم ركبوا على فرجاته المطلة على البركة والبستان والرجبة الشبابيك الخرط المصنعة وركبوا عليها شرائح الزجاج ووضع به النجف والأشياء والتحف العظيمة التي أهداها إليه الإفرنج وعملوا بقاعة الجلوس السفلى فسقية عظيمة بسلسبيل من الرخام قطعة واحدة ونوفرة كبيرة حولها نوفرات من الصفر يخرج الماء من أفواهها وجعل بها حمامين علويًا وسفليًا وبنوا بدائر حوشه عدة كبيرة من الطباق السكني المماليك وجعله دورًا واحدًا ولما تم البناء والبياض والدهان فرشه بأنواع الفرش والوسائد والمساند والستائر المقصبات وجعل خلفه بستانًا عظيمًا وأنشأ به جملونًا مستطيلًا متسعًا به دكك وأعمدة وهو من الجهة البحرية ينتهي آخره إلى الدور المتصلة بقنطرة الدكة وأهدى إليه أيضًا الإفرنج فسقية رخام في غاية العظم فيها صورة أسماك مصورة يخرج من أفواهها الماء وجعلها بالبستان ونجز البناء والعمل وسكن بها هو وعياله وحريمه في آخر شهر شعبان من سنة اثنتي عشرة واستهل شهر رمضان فأوقدوا فيها الوقدات والأحمال الممتلئة بالقناديل بدائر الحوش والرحبة الخارجة وكذلك بقاعة الجلوس أحمال النجف والشموع والصحب والفنيارات الزجاج وازدحمت خيول الأمراء ببابه فأقام على ذلك إلى منتصف شهر رمضان وبداله السفر إلى الشرقية فأبطلوا الوقدة وأطفؤا السرج والشموع فكان ذلك فالًا فكانت مدة سكناه ستة عشر يومًا بلياليها وإنما أطنبنا في ذكر ذلك ليعتبر أولو الألباب ولا يجتهد العاقل في تعمير الخراب وفي أثناء غيبته بالشرقية وصلت الفرنساوية إلى الإسكندرية ثم إلى مصر وجرى ما جرى مما سبق ذكره وذهب مع عشيرته إلى قبلي وعند وصول الفرنساوية إلى بر أنبابة بالبر الغربي وتحاربوا مع المصريين أبلى المترجم وجنده في تلك الواقعة ويعمل معهم مكايد ويصطاد منهم بالمصايد ولما وصل عرضي الوزير إلى وعدة أسرى وأسد عظيم اصطاده في سروحه فشكره الوزير وخلع عليه الخلع السنية وأقام بعرضيه أيامًا ثم رجع إلى ناحية مصر وذهب إلى الصعيد ثم رجع إلى الشام والفرنساوية يأخذون خبره ويرصدونه في الطرق ناحية الشام ذهب إليه وقابله وأنعم عليه وكان معه رؤساء من الفرنساوية فيزوغ منهم ويكبسهم في غفلاتهم وينال منهم ولما وصل الوزير وحصل انتقاض الصلح وانحصر المصريون والعثمانيون بداخل المدينة وقع له مع الفرنساوية الوقائع الهائلة فكان يكر ويفر هو وحسن بك الجداوي ويعمل الحيل والمكايد وقتل من كشافه في تلك الحروب رجال معدودة منهم إسماعيل كاشف المعروف بأبي قطية احترق هو وجنده ببيت أحمد آغا شويكار الذي كان أنشأه برصيف الخشاب وكانت الفرنساوية قد عملوا تحته لغم بارود في أسفل جدرانه ولم يعلم به أحد فلما تترس فيه إسماعيل كاشف ومن معه أرسلوا من ألهمه النار فالتهب على من فيه واحترقوا بأجمعهم وتطايروا في الهواء ولما اصطلح مراد بك مع الفرنساوية لم يوافقه على ذلك واعتزله ولما اشتد الأمر بين الفريقين وشاطت طبخة العثمانيين ومن تبعهم طفق يسعى بين الفريقين في الصلح ويمشي مع رسل الفرنساوية في دخولهم بين العسكر وخروجهم ليمنع من يتعدى عليهم من أوباش العسكر خوفًا من ازدياد الشر إلى أن تم الصلح وخرج المترجم بلاء حسنًا وقتل من كشافه ومماليكه عدة وافرة ولم يزل مدة إقامة الفرنساوية بمصر ينتقل في الجهات القبلية والبحرية والشرقية والغربية مع العثمانية إلى نواحي الشام ثم رجع إلى جهة الشرقية فيحارب من يصادقه من الفرنسيس ويقتل منهم فإذا جمعوا جيشهم وأتوا لحربه لم يجدوه ويمر من خلف الجبل ويمر بالحاجز إلى الصعيد فلا يعلم أين ذهب ثم يظهر بالبر الغربي أو يسير مشرقًا ويعود إلى الشام وهكذا كان دأبه بطول السنة التي تخللت بين الصلحين إلى نظم العثمانية أمرهم وتأونوا بالإنكليز ورجع الوزير على طريق البر وقبطان باشا بصحبة الإنكليز من البحر فحضر المترجم وباقي الأمراء واستقر الجميع بداخل مصر والإنكليز ببر الجيزة وارتحلت الفرنساوية وخلت منهم مصر فعند ذلك قلق المترجم وداخله وسواس وفكر لأنه كان صحيح النظر في عواقب الأمور فكان لا يستقر له قرار ولم يدخل إلى الحريم ولم يبت بداره إلا ليلتين على سجادة ومخدة في القاعة السفلى ولم يكن بها حريم‏.‏

يقول الفقير ذهبت إليه مرة في ظرف اليومين فوجدته جالسًا على السجادة فجلست معه ساعة فدخل عليه بعض أمرائه يستأذنه في زواج إحدى زوجات من مات من خشداشينه فنتر فيه وشتمه وطرده وقال لي انظر إلى عقول هؤلاء المغفلين يطنون أنهم استقروا بمصر ويتزوجوا ويتأهلوا مع أن جميع ما تقدم من حوادث الفرنسيس وغيرها أهون من الورطة التي نحن فيها الآن ولما أطلق الوزير لإبراهيم بك الكبير التصرف وألبسه خلعة وجعله شيخ البلد كعادته وأن أوراق التصرفات في الإقطاعات والأطيان وغيرها تكون بختمه وعلامته اغتر هو وباقي الأمراء بذلك وازدحم الديوان ببيت إبراهيم بك المرادي وعثمان بك حسن والبرديسي وتناقلوا في الحديث فذكروا ملاطفة الوزير ومحبته لهم وإقامته لناموسهم فقال المترجم لا تغتروا بذلك فإنما هي حيل ومكايد وكأنها تروج عليكم فانظروا في أمركم وتفطنوا لما عساه يحصل فإن سوء الظن الحزم فقالوا له وما الذي يكون قال إن هؤلاء العثمانيين لهم السنين العديدة والأزمان المديدة يتمنون نفوذ أحكامهم وتملكهم لهذا الإقليم ومضت الأحقاب وأمراء مصر قاهرون لهم وغالبون عليهم ليس لهم معهم إلا مجرد الطاعة الظاهرة وخصوصًا دولتنا الأخيرة وما كنا نفعله معهم من إليهانة ومنع الخزينة وعدم الامتثال لأوامرهم وكل ذلك مكمون في نفوسهم زيادة على ما جبلوا عليه من الطمع والخيانة والشره وقد ولجوا البلاد الآن وملكوها على هذه الصورة وتأمروا علينا فلا يهون بهم أن يتركوها لنا كما كانت بأيدينا ويرجعوا إلى بلادهم بعدما ذاقوا حلاوتها فدبروا رأيكم وتيقظوا من غفلتكم فلما سمعوا منه ذلك صادق عليه بعضهم وقال بعضهم هذا من وساوسك وقال آخر هذا لا يكون بعد ما كنا نقاتل معهم ثلاث سنوات وأشهرًا بأموالنا وأنفسنا وهم لا يعرفون طرائق البلاد ولا سياستها فلا غنى لهم عنا وقال آخر غير ذلك ثم قالوا له ما رأيك الذي تراه فقال الرأي عندي إن قبلتموه أن نعدي بأجمعنا إلى بر الجيزة وننصب خيامنا هناك ونجعل الإنكليز واسطة بيننا وبين الوزير والقبطان ونتمم الشروط التي نرتاح نحن وهم عليها بكفالة الإنكليز ولا نرجع إلى البر الشرقي ولا ندخل مصر حتى يخرجوا منها ويرجعوا إلى بلادهم ويبقى منهم من يبقى مثل من يقلدونه الولاية والدفتردارية ونحو ذلك وكان ذلك هو الرأي ووافق عليه البعض ولم يوافق البعض الآخر وقال كيف ننابذهم ولم يظهر لنا منهم خيانة ونذهب إلى الإنكليز وهم أعداء الدين فيحكم العلماء بردتنا وخيانتنا لدولة الإسلام على أنهم إن قصدوا بنا شيئًا قمنا بأجمعنا عليهم وفينا ولله الحمد الكفاية وعند ذلك تتوسط بيننا وبينهم الإنكليز فنكون لنا المندوحة والعذر فقال المترجم أما الاستنكاف من الالتجاء للإنكليز فإن القوم لم يستنكفوا من ذلك واستعانوا بهم ولولا مساعدتهم لما أدركوا هذا المحصول ولا قدروا على إخراج الفرنساوية من البلاد وقد شاهدنا ما حصل في العام الماضي لما حضروا بدون الإنكليز على أن هذا قياس مع الفارق فإن تلك مساعدة حرب وأما هذه فهي وساطة مصلحة لا غير وأما انتظار حصول المنابذة فقد لا يمكن التدارك بعد الوقوع لأمور والرأي لكم فسكتوا وتفرقوا على كتمان ما دار بينهم ولما لم يوافقوا المترجم على ما أشار به عليهم أخذ يدبر في خلاص نفسه فانضم إلى محمود أفندي رئيس الكتاب لقربه من الوزير وقبوله عنده وأوهمه النصيحة للوزير بتحصيل مقادير عظيمة من الأموال من جهة الصعيد إن قلده الوزير إمارة الصعيد فإنه يجمع له أموالًا جمة من تركات الأغنياء الذين ماتوا بالطاعون في العام الماضي وخلافه ولم يكن لهم ورثة وغير ذلك من الجهات التي لا يحيط بها خلافه والمال والغلال الميرية فلما عرف الرئيس الوزير بذلك لم يكن بأسرع من إجابته لوجهين الأول طمعًا في تحصيل المال والثاني لتفريق جمعهم فإنهم كانوا يحسبون حسابه دون باقي الجماعة لكثرة جيشه وشدة احترازه فإنه كان إذا ذهب عند الوزير لا يذهب في الغالب إلا وحوله جميع جنوده ومماليكه وعندما أجاب الوزير إلى سفره كتب له فرمانًا بإمارة الجهة القبلية وأطلق له الإذن ورخص له في جميع ما يؤدي إليه اجتهاده من غير معارض وتمم الرئيس القصد وفي الوقت حضر المترجم فأخذ المرسوم ولبس الخلعة بنفسه وودع الوزير والرئيس وركب في الوقت والساعة وخرج مسافرًا وجعل رئيس أفندي وكيلًا عنه وسفيرًا بينه وبين الوزير بعدما أسكنه في داره ولم يشعر بذلك أحد ولم ير للوزير وجهًا بعد ذلك وعندما أشيع ذلك حضر إلى الوزير اعتراض عليه في هذه الغفلة وأشار عليه بنقض ذلك فأرسل يستدعيه لأمر تذكره على ظن تأخره فلم يدركوه إلا وقد قطع مسافة بعيدة ورجعوا على غير طائل وذهب هو إلى أسيوط وشرع في جبي الأموال وأرسل للوزير دفعة من المال وأغنامًا وعبيدًا طواشية وغلالًا ثم لم يمض على ذلك إلا نحو ثلاثة شهور وسافر طائفة من الإنكليز إلى سكندرية وكذلك حسين باشا القبطان ونصبوا للمصريين الفخاخ وأرسل القبطان يطلب طائفة منهم فأوقع بهم ما أوقع وقبض الوزير على من بمصر من الأمراء وحبسهم وجرى ما هو مسطور في محله وعينوا على المترجم طاهر باشا بعساكر وحصلت المفاقمة وقتل من قتل والتجأ من بقي إلى الإنكليز ولم يندمل الجرح بعد تقريحه وذهب الجميع إلى الناحية القبلية وأرسلوا لهم التجاريد وتصدى المترجم لحروبهم ثم حضر إلى ناحية بحري ونزل بظاهر الجيزة وسار إلى ناحية البحيرة بعد حروب ووقائع فاجتهد محمد باشا خسروا في إخراج تجريدة عظيمة وساري عسكرها كتخدا وهو يوسف كتخدا بك وهي التجريدة التس سماهاه العوام تجريدة الحمير لأنهم جمعوا من جملة ذلك حمير الحمارة والتراسين وحمير اللكاف والسقائين وعملوا على أهل بولاق بألف حمار وكذلك مصر ومصر القديمة وطفقوا يخطفون حمير الناس ويكبسون البيوت ويأخذون ما يجدونه وكان يأتي بعض معاكيس العسكر عند الدور ويضع أحدهم فمه عند الباب ويقول زر فينهق الحمار فيأخذونه فلما تم مرادهم من جمع الحمير اللازمة لهم سافروا إلى ناحية البحيرة فكانت بينهم واقعة عظيمة بمرأى من الإنكليز وكانت الغلبة له على العسكر وأخذ منهم جملة أسرى وانهزم الباقون شر هزيمة وحضروا إلى مصر في أسوأ حال وهذه الكسرة كانت سببًا لحصول الوحشة بين الباشا والعسكر فإنه غضب عليهم وأمرهم بالخروج من مصر فطلبوا علائفهم فقال بأي شيء تستحقون العلائف ولم يخرج من أيديكم شيء فامتنعوا من الخروج وكان المشار إليه فيهم محمد علي سرششمه فأراد الباشا اصطياده فلم يتمكن منه لشدة احتراسه فحاربه فوقع له ما ذكر في محله وخرج الباشا هاربًا إلى دمياط ومن ذلك الوقت ظهر اسم محمد علي ولم يزل ينمو ذكره بعد ذلك وأما المترجم فإنه بعد كسرته للعسكر ذهب ناحية دمنهور وذهبت كشافه وأمراؤه إلى المنوفية والغربية والدقهلية وطلبوا منهم المال والكلف ثم رجعوا إلى البحيرة ثم بعد هذه الوقائع سافر المترجم مع الإنكليز إلى بلادهم واختار من مماليكه خمسة عشر شخصًا أخذهم صحبته وأقام عوضه أحد مماليكه المسمى بشتك بك وسمي الألفي الصغير وأمره على مماليكه وأمرائه وأمرهم بطاعته وأوصاه وصايا وسافر وغاب سنة وشهرًا وبعض أيام لأنه سافر في منتصف شهر شوال سنة سبع عشرة وحضر في أول شهر القعدة سنة ثمان عشرة وجرى في مدة غيابه من الحوادث التي تقدم من ذكرها ما يغني عن إعادتها من خروج محمد باشا خسروا وتولية طاهر باشا ثم قتله ودخول الأمراء المصريين وتحكمهم بمصر سنة ثمان عشرة وتأمير صناجق من أتباع المترجم وما جرى بها من الوقائع بتقدير الله تعالى البارز بتدبير محمد علي ونفاقه وحيله فإنه سعى أولًا في نقض دوله من مخدومه محمد باشا خسروا بتواطئه مع طاهر باشا وخازنداره محمد باشا المحافظ للقلعة ثم الإغراء على طاهر باشا حتى قتل ثم معاوتنه للأمراء المصريين ودخولهم وتملكهم وإظهار المساعدة الكلية لهم ومصادقتهم وخدمتهم ومعاونتهم والرمح في غفلتهم وخصوصًا عثمان بك البرديسي فإنه كان ممخرقًا غشومًا يحب الترؤس فأظهر له الصداقة والمؤاخاة والمصافاة حتى قضى منهم أغراضه من قتل الدفتردار والكتخدا وعلي باشا الطرابلسي ومحاربة محمد باشا وأخذه أسيرًا من دمياط وأخيه السيد علي القبطان برشيد ونسبة جميع هذه الأفعال والقبائح إليهم فلما انقضى ذلك كله لم يبق إلا الألفي وجماعته والبرديسي الذي هو خشداشه يحقد عليه ويغار منه ويعلم أنه إذا حضر لا يبقى له معه ذكر وتخمد أنفاسه فيتناجيا ويتسارا في أمر المترجم ويتذاكرا تعاظم وكيله وخشداشينه ونقضهم عليه ما يبرمونه مع غياب أستاذهم فكيف بهم إذا حضر ويوهمه المساعدة والمعاضدة ويكون خادمًا له وعساكره جنده إلى أن حضر المترجم فأوقعا به ما تقدم ذكره ونجا بنفسه واختفى عند عشيبة البدوي بالوادي فلما خلا الجو من الألفي وجماعته فأوقع محمد علي عند ذلك بالبرديسي وعشيرته ما أوقع وظهر بعد ذلك المترجم من اختفائه وذهب إلى ناحية قبلي هو ومملوكه صالح بك واجتمعت عليه أمراؤه وأجناده واستفحل أمره واصطلح مع عشيرته والبرديسي على ما في نفوسهما وما زال منجمعًا عن مخالطتهم وجرى ما جرى من مجيئهم حوالي مصر وحروبهم مع العساكر في أيام خورشيد أحمد باشا وانفصالهم عنها بدون طائل لتفاشلهم واختلاف آرائهم وفساد تدبيرهم ورجعوا إلى ناحية قبلي ثم عادوا إلى ناحية بحري بعد حروب ووقائع مع حسن باشا ومحمد علي وعساكرهم ثم لما حصلت المفاقمة بينهما وبين خورشيد أحمد باشا وانتصر محمد علي بالسيد عمر مكرم النقيب والمشايخ والقاضي وأهل البلدة والرعايا وهاجت الحروب بين الباشا وأهل البلدة كما هو مذكور كانت الأمراء المصريون بناحية التبين والمترجم منعزل عنهم بناحية الطرانة والسيد عمر يراسله ويعده ويذكر له بأن هذا القيام من أجلك وإخراج هذه الأوباش ويعود الأمر إليكم كما كان وأنت المعني بذلك لظننا فيك الخير والصلاح والعدل فيصدق هذا القول ويساعده بإرسال المال ليصرفه في مصالح المقاتلين والمحاربين ومحمد علي يداهن السيد عمر سرًا ويتملق إليه ويأتيه ويراسله ويأتي إليه في أواخر الليل وفي أوساطه مترددًا عليه في غالب أوقاته حتى تم له الأمر بعد المعاهدة والمعاقدة والأيمان الكاذبة على سيره بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع والإقلاع عن المظالم ولا يفعل أمرًا إلا بمشورته شورة العلماء وأنه متى خالف الشروط عزلوه وأخرجوه وهم قادرون على ذلك كما يفعلون الآن فيتورط المخاطب بذلك القول ويظن صحته وأن كل الوقائع زلابية وكل ذلك سرًا لم يشعر به خلافهم إلى أن عقد السيد عمر مجلسًا عند محمد علي وأحضر المشايخ والأعيان وذكر لهم أن هذا الأمر وهذه الحروب ما دامت على هذه الحالة لا تزداد إلا فشلًا ولا بد من تعيين شخص من جنس القوم للولاية فانظروا من تجدونه وتختارونه لهذا الأمر ليكون قائم مقام حتى يتعين من طرف الدولة من يتعين فقال الجميع الرأي ما تراه فأشار إلى محمد علي فأظهر التمنع وقال أنا لا أصلح لذلك ولست من الوزراء ولا من الأمراء ولا من أكابر الدولة فقالوا جميعًا قد اخترناك لذلك برأي الجميع والكافة والعبرة ورضا أهل البلاد وفي الحال أحضروا فروة ألبسوها له وباركوا له وهنؤه وجهروا بخلع خورشيد أحمد باشا من الولاية وإقامة المذكور في النيابة حتى يأتي المتولي أو يأتي له تقرير بالولاية ونودي في المدينة بعزل الباشا وإقامة محمد علي في النيابة إلى أن كان ما هو مسطور قبل ذلك في محله فلما بلغ المترجم ذلك وكان ببر الجيزة ويراسل السيد عمر مكرم والمشايخ فانقبض خاطره ورجع إلى البحيرة وأراد دمنهور فامتنع عليه أهلها وحاربوه وحاربهم ولم ينل منهم غرضًا والسيد عمر يقويهم ويمدهم ويرسل إليهم البارود وغيره من الاحتياجات وظهر للمترجم تلاعب السيد عمر مكرم معه وكأنه كان يقويه على نفسه فقبض على السفير الذي كان بينهما وحبسه وضربه وأراد قتله ثم أطلقه ثم عاد إلى بر الجيزة وسكنت الفتنة واستقر الأمر لمحمد علي باشا وحضر قبطان باشا إلى ساحل أبي قير ووصل سلحداره إلى مصر وأنزل أحمد باشا المخلوع عن الولاية من القلعة إلى بولاق ليسافر ومنع محمد علي من الذهاب والمجيء إلى المصريين وأوقف أشخاصًا برًا وبحرًا يرصدون من يأتي من قبلهم أو يذهب إليهم بشيء من متاع وملبوس وسلاح وغير ذلك ومن عثروا عليه بشيء قبضوا عليه وأخذوا ما معه وعاقبوه فامتنع الباعة والمتسببون وغيرهم من الذهاب إليهم بشيء مطلقًا فضاق خناق المترجم بأن أرسل محمد كتخداه يطلب الصلح مع الباشا فانسر لذلك وفرح واعتقد صحة ذلك وأنعم على الكتخدا وعبي هدية جليلة لمخدومه من ملابس وفراوى وأسلحة وخيام ونقود وغير ذلك وعندها قضى الكتخدا أشغاله من مطلوبات مخدومه واحتياجاته له ولأتباعه وأمرائه ووسق مراكب وذهب بها جهارًا من غير أن يتعرض له أحد وذهب صحبته السلحدار وموسى البارودي ثم عاد الكتخدا ثانيًا وصحبته السلحدار وموسى البارودي وذكروا أنه يطلب كشوفية الفيوم وبني سويف والجيزة والبحيرة ومائتي بلد من الغربية والمنوفية والدقهلية يستغل فائظها ويجعل إقامته بالجيزة ويكوت تحت الطاعة فلم يرض الباشا بذلك وقال أننا صالحنا باقي الأمراء وأعطيناهم من حدود جرجا بالشروط التي شرطناها عليهم وهو داخل في ضمنهم فرجع محمد كتخدا له بالجواب بعد أن قضى أشغاله واحتياجاته ولوازمه من أمتعة وخيام وسروج وغير ذلك وتمت حيلته وقضى أغراضه وذهب إلى الفيوم وتحارب جنده مع جند ياسين بك وانخدل فيها ياسين بك ثم عاد شاهين بك الألفي بجند كثير بعد شهور إلى بر الجيزة وخرج محمد علي باشا لمحاربته بنفسه فكانت له الغلبة وقتل في هذه الوقعة على كاشف الذي كان تزوج بزوجة حسن بك الجداوي وهي بنت حسن بك شنن رآه الأخصام منجملًا فظنوه الباشا فأحاطوا به وأخذوه أسيرًا ثم قتلوه ورجع الباشا إلى بر مصر واجتهد في تشهيل تجريدة أخرى وكل ذلك مع طول المدى‏.‏

وفي أثناء ذلك مات بشنك بك المعروف بالألفي الصغير مبطونًا بناحية قبلي ثم أن المترجم خرج من الفيوم في أوائل المحرم من السنة المذكورة وكان حسن باشا طاهر بناحية جزيرة الهواء بمن معه من العساكر فكانت بينهما واقعة عظيمة انهزم فيها حسن باشا إلى الرقق وأدركه أخوه عابدين بك فأقام معه الرفق كما تقدم وحضر الألفي إلى بر الجيزة وأنبابة وخرجت إليهم العساكر فكانت بينهم واقعة بسوق الغنم ظهر عليهم فيها أيضًا ثم سار مبحرًا وعدى من عسكره وجنده جملة إلى السبكية فأخذوا منهاما أخذوه وعادوا إلى أستاذهم بالطرانة ثم أنه انتقل راحلًا إلى البحيرة وحرب دمنهور ومحاصرتها وكانوا قد حصنوها غاية التحصين فلم يقدر عليها فعاد إلى ناحية وردان ثم رجع إلى حوش ابن عيسى لأنه بلغه وصول مراكب وبها أمين بك تابعه وعدة عساكر من النظام الجديد وأشخاص من الإنكليز لأنه كان مع ما هو فيه من التنقلات والحروب يراسل الدولة والإنكليز وأرسل بالخصوص أمين بك إلى الإنكليز فسعوا مع الدولة بمساعدته وحضروا إليه بمطلوبه فعمل لهم بحوش بن عيسى شنكًا وأرسلهم مع أمين بك إلى الأمراء القبليين فلما بلغ محمد علي باشا ذلك راسل الأمراء القبليين وداهنهم وأرسل لهم الهدايا فراجت أموره عليهم مع ما في صدورهم من الغل المترجم‏.‏

وفي أثر ذلك حضر قبطان باشا إلى الإسكندرية ووردت السعاة بخبر وروده وأن بعده واصل باشا واليًا على مصر بالعفو عن المصريين وكان من خبر هذه القضية والسبب في حركة القبطان إرساليات الألفي للإنكليز ومخاطبة الإنكليز الدولة ووزيرها المسمى محمد باشا السلحدار وأصله مملوك السلطان مصطفى ولا يخفى الميل إلى الجنسية فاتفق أنه اختلى بسليمان آغا تابع صالح بك الوكيل الذي كان يوسف باشا الوزير قلده سلحدارًا وأرسله إلى إسلامبول وسأله عن المصريين هل بقي منهم غير الألفي فقال له جميع الرؤساء موجودن وعددهم له وهم ومماليكهم يبلغون ألفين وزيادة فقال إني أرى تمليكهم ورجوعهم على شروط نشترطها عليهم أولى من تمادي العداوة بينهم وبين هذا الذي ظهر من العسكر وهو رجل جاهل متحيل وهم لا يسهل بهم إجلاؤهم عن أوطانهم وأولادهم وسيادتهم التي ورثوها عن أسلافهم فيتمادى الحال والحروب بينهم وبينه واحتياج الفريقين إلى جمع العساكر وكثرة النفقات والعلائف والمصاريف فيجمعونها من أي وجه كان ويؤدي ذلك إلى خراب الإقليم فالأولى والمناسب صرف هذا المتغلب وإخراجه وتولية خلافه فما رأيك في ذلك فقال له سليمان لا رأي عندي في ذلك وخاف أن يكون كلامه له باطنًا خلاف الظاهر وأدرك منه ذلك فحلف له عند ذلك الوزير أن كلامه وخطابه له على ظاهره وحقيقته لكن لا بد من مصلحة للخزينة العامرة فقال له سليمان آغا إذا كان كذلك ابعثوا إلى الألفي بإحضار كتخداه محمد آغا لأنه رجل يصلح للمخاطبة لمثل ذلك ففعل وحضر المذكور في أقرب وقت وتمموا الأمر على مصلحة ألف وخمسمائة كيس كفلها محمد كتخدا المذكور يدفعها لقبطان باشا عند وصوله بيد سليمان آغا المذكور وكفالته أيضًا لمحمد كتخدا بعد إتمام الشروط التي قررها له مخدومه ومن جملتها إطلاق بيع المماليك وشرائهم وجلب الجلابين لهم إلى مصر كعادتهم فإنهم كانوا منعوا ذلك من نحو ثلاث سنوات وغير ذلك وسافر كل من سليمان آغا الوكيل ومحمد كتخدا بصحبته قبودان باشا حتى طلعوا على ثغر سكندرية فركب صحبة سلحدار القبودان فتلاقوا مع المترجم بالبحيرة وأعلموه بما حصل فامتلأ فرحًا وسرورًا وقال لسليمان آغا اذهب إلى إخواننا بقبلي واعرض عليهم الأمر ولا يخفى أننا الآن ثلاثة فرق كبيرنا إبراهيم بك وجماعته والمرادية وكبيرهم هناك عثمان بك البرديسي وأنا وأتباعي فيكون ما يخص كل طائفة خمسمائة كيس فإذا استلمت منهم الألف كيس ورجعت إلى سلتك الخمسمائة كيس فركب المذكور وذهب إليهم واجتمع بهم وأخبرهم بصورة الواقع وطلب منهم ذلك القدر فقال البرديسي حيث أن الألفي بلغ من قدره أنه يخاطب الدول والقرانات ويراسلهم ويتمم أغراضه منهم ويولي الوزراء ويعزلهم بمراده ويتعين قبودان باشا في حاجته فهو يقوم بدفع المبلغ بتمامه لأنه صار الآن هو الكبير ونحن الجميع أتباع له وطوائف خفه بما فيه والدنا وكبيرنا إبراهيم بك وعثمان بك حسن وخلافه فقال سليمان آغا هو على كل حال واحد منكم وأخوكم ثم أنه اختلى مع إبراهيم بك الكبير وتكلم معه فقال إبراهيم بك أنا أرضى بدخولي أي بيت كان وأعيش ما بقي من عمري مع عيالي وأولادي تحت إمارة أي من كان من عشيرتنا أولى من هذا الشتات الذي نحن فيه ولكن كيف أفعل في الرفيق المخالف وهذا الذي حصل لنا كله بسوء تدبيره ونحسه وعشت أنا ومراد بك المدة الطويلة بعد موت أستاذنا وأنا أتغاضى عن أفعاله وأفعال أتباعه وأسامحهم في زلاتهم كل ذلك حذرًا وخوفًا من وقوع الشر والقتل والعداوة إلى أن مات وخلف هؤلاء الجماعة المجانين وترأس البرديسي عليهم مع غياب أخيه الألفي وداخله الغرور وركن إلى أبناء جنسه وصادفهم واغتربهم وقطع رحمه وفعل بالألفي الذي هو خشداشه وأخوه ما فعل ولا يستمع لنصح ناصح أولًا وآخرًا وما زال سليمان آغا يتفاوض معهم في ذلك أيامًا إلى أن اتفق مع إبراهيم بك على دفع نصف المصلحة ويقوم المترجم بالنصف الثاني فقال سلموني القدر أذهب به وأخبره بما حصل فقالوا حتى ترجع إليه وتعلمه وتطيب خاطره على ذلك لئلا يقبضه ثم يطالبنا بغيره فلما رجع إليه وأخبره بما داره بينهم قال أما قولهم أني أكون أميرًا عليهم فهذا لا يتصور ولا يصح أني أتعاظم على مثل والدي إبراهيم وعثمان بك حسن ولا على من هو في طبقتي من خشداشيني على أن هذا لا يعيبهم ولا ينقص مقدارهم بأن يكون المتآمر عليهم واحدًا منهم ومن جنسهم ولك أمر لم يخطر لي ببال وأرضى بأدنى من ذلك ويأخذوا علي عهدًا بما أشترطه على نفسي أننا إذا عدنا إلى أوطاننا أن لا أداخلهم في شيء ولا أقارشهم في أمر وأن يكون كبيرنا والدنا إبراهيم بك على عادته ويسمحوا لي بإقامتي بالجيزة ولا أعارضهم في شيء وأقنع بإيرادي الذي كان بيدي سابقًا فإنه يكفيني وإن اعتقدوا غدري لهم في المستقبل بسبب ما فعلوه معي من قتلهم حسين بك تابعي وتعصبهم وحرصهم على قتلي وإعدامي أنا وأتباعي فبعض ما نحن فيه الآن أنساني ذلك كله فإن حسين بك المذكور مملوكي وليس هو أبي ولا ابني من صلبي وإنما هو مملوكي اشتريته بالدراهم وأشتري غيره ومملوكي مملوكهم وقد قتل لي عدة أمراء ومماليك في الحروب فأفرضه من جملتهم ولا يصيبني ويصيبهم إلا ما قدره الله علينا وعلى أن الذي فعلوه بي لم يكن لسابق ذنب ولا جرم حصل مني في حقهم بل كنا جميعًا إخوانًا وتذكروا إشارتي عليهم السابقة في الالتجاء إلى الإنكليز وندموا على مخالفتي بعد الذي وقع لهم ورجعوا إلي ثم أجمع رأيهم على سفري إلى بلاد الإنكليز فامتثلت ذلك وتجشمت المشاق وخاطرت بنفسي وسافرت إلى بلاد الإنكلترة وقاسيت أهوال البحار سنة وأشهرًا كل ذلك لأجل راحتي وراحتهم وحصل ما حصل في غيابي ودخلوا مصر من غير قياس وبنوا قصورهم على غير أساس واطمأنوا إلى عدوهم وتعاونوا بع على هلاك صديقهم وبعد أن قضى غرضه منهم غدرهم وأحاط بهم وأخرجهم من البلدة وأهانهم وشردهم واحتال عليهم ثانيًا يوم قطع الخليج فراجت حيلته عليهم أيضًا وأرسلت إليهم فنصحتهم فاستغشوني وخالفوني ودهل الكثير منهم البلد وانحصروا في أزقتها وجرى عليهم ما جرى من القتل الشنيع والأمر الفظيع ولم ينج إلا من تخلف منهم أو ذهب من غير الطريق ثم أنه الآن أيضًا يرسلهم ويدهنهم ويهاديهم ويصالحهم ويثبطهم عما فيه النجاح لهم وما أظن أن الغفلة استحكمت فيهم إلى هذا الحد فارجع إليهم وذكرهم بما سبق لهم من الوقائع فلعلهم ينتبهون من سكراتهم ويرسلون معك الثلثين أو النصف الذي سمح به والدنا إبراهيم بك وهذا القدر ليس فيه كبير مشقة فإنهم إذا وزعوا على كل أمير عشرة أكياس وعلى كل كاشف خمسة أكياس وكل جندي أو مملوك كيسًا واحدًا اجتمع المبلغ وزيادة وأنا أفعل مثل ذلك مع قومي والحمد لله ليسوا هم ولا نحن مفاليس وثمرة المال قضاء مصالح الدنيا وما نحن فيه الآن من أهم المصالح وقل لهم البذار قبل فوات الفرصة والخصم ليس بغافل ولا مهمل والعثمانيون عبيد الدرهم والدينار فلما فرغ من كلامه ودعه سليمان آغا ورجع إلى قبلي فوجد الجماعة أصروا على عدم دفع شيء ورجع إبراهيم بك أيضًا إلى قولهم ورأيهم ولما ألقى لهم سليمان آغا العبارات التي قالها صاحبهم وأنه يكون تحت أمرهم ونهيهم ويرضى بأدنى المعاش معهم ويسكن الجيزة إلى آخر ما قال قالوا هذا والله كله كلام لا أصل له ولا ينسى ثأره وما فعلناه في حقه وحق أتباعه ولو انعزل عنا وسكن قلعة الجبل فهو الألفي الذي شاع ذكره في الآفاق ولا تخاطب الدولة فيره وقد كنا في غيبته لا نطيق عفريتًا من عفاريته فكيف يكون هو وعفاريته الجميع ومن ينشئه خلافهم وداخلهم الحقد وزاد في وساوسهم الشيطان فقال لهم سليمان آغا اقضوا شغلكم في هذا الحين حتى تنجلي عنكم الأعداء الأغراب ثم اقتلوه بعد ذلك وتستريحوا منه فقالوا هيهات بعد أن يظهر علينا فإنه يقتلنا واحدًا بعد واحد ويخرجنا إلى البلاد ثم يرسل يقتلنا وهو بعيد الفكر فلانًا من إليه مطلقًا وغرهم الخصم بتمويهاته وأرسل إليهم هدايا وخيولًا وسروجًا وأقمشة هذا ورسل القبودان تذهب وتأتي بالمخاطبات والعرضحالات حتى تمموا الأمر كما تقدم‏.

وفي أثناء ذلك ينتظر القبودان جوابًا كافيًا وسلحداره مقيم أيضًا عند المترجم والمترجم يشاغل القبودان بالهدايا والأغنام والذخيرة من الأرز والغلال والسمن والعسل وغير ذلك إلى أن رجع إليه سليمان آغا بخفي حنين محزونًا مهمومًا متحيرًا فيما وقع فيه من الورطة مكسوف البال مع القبودان ووزير الدولة وكيف يكون جوابه للمذكور والقبودان جعل في الإبرة خيطين ليتبع الأروج فلما وصل إليه سليمان آغا وأخبره أن الجماعة القبليين لا راحة عندهم وامتنعوا من الدفع ومن الحضور وأن المترجم يقوم بدفع القدر الذي يقدر عليه والذي يبقى ويتجمع عليه يقوم بدفعه فاغتاظ القبودان وقال أنت تضحك على ذقني وذقن وزير الدولة وقد تحركت الحركة على ظن أن الجماعة على قلب رجل واحد وإذا حصل من المالك للبلدة عصيان ومخالفة ولم يكن فيهم مكافأة لمقاومته ساعدناهم بجيش من النظام الجديد وغيره وحيث أنهم متنافرون ومتحاسدون ومبخضون فلا خير فيهم وصاحبك هذا لا يكفي في المقاومة وحده ويحتاج إلى كثير‏.‏

ولما ظهر لسليمان آغا الغيظ والتغير من القبودان خاف على نفسه أن يبطش به وعرف منه أن المانع له من ذلك غياب السلحدار عند المترجم لأنه قال له وأين سلحداري قال هو عند الألفي بالبحيرة فقال اذهب فأتني به وأحضر صحبته وكان موسى باشا المتولي قد حضر أيضًا فما صدق سليمان آغا بقوله ذلك وخلاصه من بين يديه فركب في الوقت وخرج من الإسكندرية فما هو إلا بعد عنها مقدار غلوة إلا والسلحدار قادم إلى سكندرية فسأله إلى أين يذهب فقال إن مخدومك أرسلني في شغل وها أنا راجع إليكم وذهب عند المترجم ولم يرجع‏.‏

وفي أثناء هذه الأيام كان المترجم يحارب دمنهور وبعث إليه محمد علي باشا التجريدة العظيمة التي بذل فيها جهده وفيها جميع عساكر الدلاة وطاهر باشا ومن معه من عساكر الأرنؤد والأتراك وعسكر المغاربة فحاربهم وكسرهم وهزمهم شر هزيمة حتى ألقوا بأنفسهم في البحر ورجعوا في أسوأ حال فلو تجاسر المترجم وتبعهم لهرب الباقون من البلدة وخرجوا جميعًا على وجوههم من شدة ما داخلهم من الرعب ولكن لم يرد الله ذلك ولم يجسروا للخروج عليه بعد ذلك‏.‏

وما تنحت عنه عشيرته ولم يلبوا دعوته وأتلفوا الطبخة وسافر القبودان وموسى باشا من ثغر سكندرية على الصورة المذكورة استأنف المترجم أمرًا آخر وراسل الإنكليز يلتمس منهم المساعدة وأن يرسلوا له طائفة من جنودهم ليقوى بهم على محاربة الخصم كما التمس منهم في العام الماضي فاعتذروا له بأنهم صلح مع العثماني وليس في قانون الممالك إذا كانوا صلحًا أن يتعدوا على المتصادقين معهم ولا يوجهون نحوها عساكر إلا بإذن منهم أو بالتماس المساعدة في أمر مهم فغاية ما يكون المكالمة والترجي ففعلوا وحصل ما تقدم ذكره ولم يتم الأمر فلما خاطبهم بعد الذي جرى صادف ذلك وقوع الغرة بينهم وبين العثماني فأرسلوا إلى المارجم يعدون بإنفاذ ستة آلاف لمساعدته فأقام بالبحيرة ينتظر حضورهم نحو ثلاثة شهور وكان ذلك أوان القيظ وليس ثم زرع ولا نبات فضاقت على جيوشهم الناحية وقد طال انتظاره للإنكليز فتشكى العربان المجتمعون عليه وغيرهم لشدة ما هم فيه من الجهد وفي كل حين يعدهم بالفرج ويقول لهم اصبروا ولم يبق إلا القليل فلما اشتد بهم الجهد اجتمعوا إليه وقالوا له إما أن تنتقل معنا إلى ناحية قبلي فإن أرض الله واسعة وإما أن تأذنلنا في الرحيل في طلب القوت فما وسعه إلا الرحيل مكظومًا مقهورًا من معاندة الدهر في بلوغ المآرب الأول مجيء القبودان وموسى باشا عل هذه الهيئة والصورة ورجوعهما على غير طائل الثاني عدم ملكه دمنهور وكان قصده أن يجعلها معقلًا ويقيم بها حتى تأتيه النجدة الثالث تأخر مجيء النجدة حتى قحطوا واضطروا إلى الرحيل الرابع وهو أعظمها مجانبة إخوانه وعشيرته وخذلانهم له وامتناعهم عن الانضمام إليه فارتحل من البحيرة بجيوشه ومن يصحبه من العربان حتى وصل إلى الأخصاص فنادى محمد علي باشا على العساكر بالخروج ولا يتأخر منهم واحد فخرجوا ليلًا ونهارًا حتى وصلوا إلى ساحل بولاق وعدوا إلى بر أنبابة وجيشوا بظاهرها وقد وصل المترجم إلى كفر حكيم يوم الثلاثاء ثامن عشر القعدة وانتشرت جيوشه بالبر الغربي ناحية أنبابة والجيزة وركب الباشا وأصناف العساكر ووقفوا على ظهر خيولهم واصطفت الرجالة ببنادقهم وأسلحتهم ومر المترجم في هيئة عظيمة هائلة وجيوش تسد الفضاء وهم مرتبون طوابير ومعهم طبول وصحبته قبائل العرب من أولاد علي والهنادي وعربان الشرق في كبكة وزائدة والباشا والعسكر وقوف ينظرون إليهم من بعيد وهو يتعجب ويقول هذا طهماز الزمان وإلا إيش يكون ثم يقول للدلاة والخيالة تقدموا وحاربوا وأنا أعطيكم كذا وكذا من المال ويذكر لهم مقادير عظيمة ويرغبهم فلم يتجاسروا على الإقدام وصاروا باهتين ومتعجبين ويتناجون فيما بينهم ويتشاورون في تقدمهم وتأخرهم وقد أصابوه بأعينهم ولم يزل سائرًا حتى وصل إلى قريب قناطر شبرامنت فنزل علي علوة هناك وجلس عليها وزاد به الهاجس والقهر ونظر إلى جهة مصر وقال يا مصر انظري إلى أولادك وهم حولك مشتتين متباعدين مشردين واستوطنك أجلاف الأتراك واليهود وأراذل الأرنؤد وصاروا يقبضون خراجك ويحاربون أولادك ويقاتلون أبطالك ويقاومون فرسانك ويهدمون دورك ويسكنون قصورك ويفسقون بولدانك وحورك ويطمسون بهجتك ونورك ولم يزل يردد هذا الكلام وأمثاله وقد تحرك به خلط دموي وفي الحال تقايا دمًا وقال قضي الأمر وخلصت مصر لمحمد علي وما ثم من ينازعه ويغالبه وجرى حكمه على المماليك المصرية فما أظن أن تقوم لهم راية بعد اليوم ثم إنه أحضر أمراءه وأمر عليهم شاهين بك وأوصاه بخشداشينه وأوصاهم به وأن يحرصوا على دوام الألفة بينهم وترك التنازع الموجب للتفرق والتفاشل وأن يحذروا من مخادعة عدوهم وأوصاهم أنه إذا مات يحملونه إلى وادي البهنا ويدفنونه بجوار قبور الشهداء فمات في تلك الليلة وهي ليلة الأربعاء تاسع عشر ذي القعدة فلما مات غطوه وكفنوه وصلوا عليه وحملوه على بعير وأرسلوه إلى البهنا ودفنوه هناك بجوار الشهداء وانقضى نحبه فسبحان من له سرمدية البقاء وفي الحال حضر المبشر إلى محمد علي باشا وبشره بموت المترجم فلم يصدقه واستغرب ذلك وحبس البدوي الذي أتاه بالبشارة أربعة أيام وذلك لأن أتباعه كانوا كتموا أمر موته ولم يذيعوه في عرضيه والذي أشاع الخبر وأتى بالبشارة رفيق البدوي الذي حمله على بعيره ولما ثبت موته عند الباشا امتلأ فرحًا وسرورًا وكذلك خاصته ورفعوا رؤسهم وأحضر ذلك المبشر فألبسه فروة سمور وأعطاه مالًا وأمره أن يركب بتلك الخلعة ويشق بها من وسط المدينة ليراه أهل البلدة وشاع ذلك الخبر في الناس من وقت حضور المبشر وهم يكذبون ذلك الخبر ويقولن هذا من جملة تحيلاته فإنه لما سافر إلى بلاد الإنكليز لم يعلم بسفره أحد ولم يظهر سفره إلا بعد مضي أشهر فلذلك أمر الباشا ذلك المبشر أن يركب بالخلعة ويمر بها من وسط المدينة ومع ذلك استمروا في شكهم نحو شهرين حتى قويت عندهم القرائن بما حصل بعد ذلك فإنه لما مات تفرقت قبائل العربان التي كانت مجتمعة حوله وبعضهم أرسل يطلب أمانًا من الباشا وغير ذلك مما تقدم ذكره وخبره في ضمن ما تقدم وكان محمد علي باشا يقول ما دام هذا الألفي موجودًا لا يهنأ لي عيش ومثال أنا وهو مثال بهلوانين يلعبان على الحبل لكن هو في رجليه قبقاب فلما أتاه المبشر بموته قال بعد أن تحقق ذلك الآن طابت لي مصر وما عدت أحسب لغيره حسابًا‏.‏

وكان المترجم أميرًا جليلًا مهيبًا محتشمًا مدبرًا بعيد الفكر في عواقب الأمور صحيح الفراسة إذا نظر في سحنة إنسان عرف حاله وأخلاقه بمجرد النظر إليه قوي الشكيمة صعب المراس عظيم البأس ذا غيرة حتى على من ينتمي إليه أو ينسب إلى طرفه يحب علو الهمة في كل شيء حتى أن التجار الذين يعاملهم في المشتروات لا يساومهم ولا يفاصلهم في أثمانها بل يكتبون الأثمان بأنفسهم كما يحبون ويريدون في قوائمهم ويأخذها الكاتب ليعرضها عليه فيمضي عليها ولا ينظر فيها ويرى أن النظر في مثل ذلك أو المحاققة فيه عيب ونقض يخل بالأمرية ولا تمضي السنة إلا والجميع قد استوفوا حقوقهم ويستأنفوا احتياجات العام الجديد ولذلك راج حال المعاملين له رواجًا عظيمًا لكثرة ربحهم عليه ومحاسبهم ومع ذلك يواسيهم في جملة أحبابه والمنتسبين إليه بإرسال الغلال لمؤونة بيوتهم وعيالهم وكساوى العيد وينتصر لأتباعه ولمن انتمى إليه ويجب لهم رفعة القدر عن غيرهم مع أنه إذا حصل من أحد منهم هفوة تخل بالمروءة عنفه وزجره فترى كشافه ومماليكه مع شدة مراسهم وقوة نفوسهم وصعوبتهم يخافونه خوفًا شديدًا ويهابون خطابه‏.‏

ومن عجيب أمره ومناقبه التي انفرد بها عن غيره امتثال جميع قبائل العربان الكائنين بالقطر المصري لأمره وتسخيرهم وطاعتهم له لا يخالفونه في شيء وكان له معهم سياسة غريبة ومعرفة بأحوالهم وطبائعهم فكأنما هو مربي فيهم أو ابن خليفتهم أو صاحب رسالتهم يقومون ويقعدون لأمره مع أنه يصادرهم في أموالهم وجمالهم ومواشيهم ويحبسهم ويطلقهم ويقتل منهم ومع ذلك لا ينفرون منه وقد تزوج كثيرًا من بناتهم فالتي تعجبه يبقيها حتى يقضي وطره منها والتي لا توافق مزاجه يسرحها إلى أهلها ولم يبق في عصمته غير واحدة وهي التي أعجبته فمات عنها فلما بلغ العرب موته اجتمعت بنات العرب وصرن يندبنه بكلام عجيب تناقلته أرباب المغاني يغنون به على آلات اللهو المطربة وركبوا عليه أدوارًا وقوافي وغير ذلك والعجب منه رحمه الله أنه لما كان في دولتهم السابقة وينزل في كل سنة إلى شرقية بلبيس ويتحكم في عربانها ويسومهم العذاب بالقبض عليهم ووضعهم في الزناجير ويتعاون على البعض منهم بالبعض الآخر ويأخذ منهم الأموال والخيول والأباعر والأغنام ويفرض عليهم الفرض الزائدة ويمنعهم من التسلط على فلاحي البلاد ثم إنه لما رجع من بلاد الإنكليز وتعصب عليه البرديسي والعسكر وأحاطوا به من كل جانب فاختفى منهم وهرب إلى الوادي عند عشيبة البدوي فآواه وأخفاه وكتم أمره والبرديسي ومن معه يبالغون في الفحص والتفتيش وبذل الأموال والرغائب لمن يدل عليه أو يأتي به فلم يطمعوا في شيء من ذلك ولم يفشوا سره وقيدوا بالطرق الموصلة له أنفارًا منهم تحرس الطريق من طارق يأتي على حين غفلة وهذا من العجائب حتى كان كثير من الناس يقولون أنه يسخرهم أو معه سر يسخرهم به فلما مات تفرق الجميع ولم يجتمعوا على أحد بعده وذهبوا إلى أماكنهم وبعضهم طلب من الباشا الأمان وأما مماليكه وأتباعه فلم يفلحوا بعده وذهبوا إلى الأمراء القبليين فوجدوا طباعهم متنافرة عنهم ولم يحصل بينهم التئام ولا صفا كدر الفريقين من الآخر فانعزلوا عنهم إلى أن جرى ما جرى من صلحهم مع الباشا وأوقع بهم ما سيتلى عليك بعد أن شاء الله تعالى وبعد موت المترجم بنحو الأربعين يومًا وصلت نجدة الإنكليز إلى ثغر الإسكندرية وطلعوا إليه فبلغهم عند ذلك موت المذكور فلم يسهل بهم الرجوع فأرسلوا رسلهم إلى الجماعة المصريين ظانين أن فيهم أثر الهمة والنخوة يطلبونهم للحضور ويساعدهم الإنكليز على ردهم لمملكتهم وأوطانهم وكان محمد علي باشا حين ذاك بناحية قبلي يحاربهم فطلبهم للصلح معه وأرسل إليهم بعض فقهاء الأزهر وخادعهم وثبطهم فقعدوا عن الحركة وجرى ما جرى على طائفة الإنكليز كما سيتلى عليك خبره ثم عليهم بعد ذلك وكان أمر الله مفعولا‏.‏

وكان للمترجم ولوع ورغبة في مطالعة الكتب خصوصًا العلوم الغريبة مثل الجفريات والجغرافيا والأسطرنوميا والأحكام النجومية والمناظرات الفلكية وما تدل عليه من الحوادث الكونية ويعرف أيضًا مواضع المنازل وأسماءها وطبائعها والخمسة المتحيرة وحركات الثوابت ومواقعها كل ذلك بالنظر والمشاهدة والتلقي على طريقة العرب من غير مطالعة في كتاب ولا حضور درس وإذا طالع أحد بحضرته في كتاب أو أسمعه ناضله مناضلة منضلع وناقشه مناقشة متطلع وله أيضًا معرفة بالأشكال الرملية واستخراجات الضمائر بالقواعد الحرفية وكان له في ذلك إصابات ومنها ما أخبرني به بعض أتباعه أنه لما وصل إلى ثغر سكندرية راجعًا من بلاد الإنكليز رسم شكلًا وتأمل فيه وقطب وجهه ثم قال إني أرى حادثًا في طريقنا وربما أني أفترق منكم وأغيب عنكم نحو أربعين يومًا فلذلك أحب أن يخفي أمره ويأتي على حين غفلة وكان البرديسي قد أقام بالثغر رقيبًا يوصل خبر وروده فلما وصل أرسل ذلك الرقيب ساعيًا في الحال وكان ما ذكرناه في سياق التاريخ بشتك بك من القصر وإرسال العسكر لملاقاة المترجم على حين غفلة ليقتلوه وهروبه واختفاؤه ثم ظهوره واجتماعهم عليه بعد انقضاء تلك المدة أو قريب منها وكان رحمه الله إذا سمع بإنسان فيه معرفة بمثل هذه الأشياء أحضره ومارسه فيها فإن رأى فيه فائدة أو مزية أكرمه وواساه وصاحبه وقربه إليه وأدناه وكان له مع جلسائه مباسطة مع الحشمة والترفع عن الهذيان والمجون وكان غالب إقامته بقصوره التي عمرها خارج مصر وهو القصر الكبير بمصر القديمة تجاه المقياس بشاطئ النيل والقصر الآخر الكائن بالقرب من زاوية الدمرداش والقصر الذي بجانب قنطرة المغربي على الخليج الناصري وكان إذا خرج من داره لبعض تلك القصور لا يمر من وسط المدينة وإذا رجع كذلك فسئل عن سبب ذلك فقال أستحي أن أمر من وسط الأسواق وأهل الحوانيت والمارة ينظرون إلي وأفرجهم على نفسي‏.‏

وللمترجم أخبار وسير ووقائع لو سطرت لكانت سيرة مستقلة خصوصًا وقائعه وسياحته ثلاث سنوات وثلاثة أشهر أيام أقام الفرنساوية بالقطر المصري ورحلته بعد ذلك إلى بلاد الإنكليز وغيابه بها سنة وشهورًا وقد تهذبت أخلاقه بما اطلع عليه من عمارة بلادهم وحسن سياسة أحكامهم وكثرة أموالهم ورفاهيتهم وصنائعهم وعدلهم في رعيتهم مع كفرهم بحيث لا يوجد فيهم فقير ولا مسجد ولا ذو فاقة ولا محتاج وقد أهدوا له هدايا وجواهر وآلات فلكية وأشكال هندسية واسطرلابات وكرات ونظارات وفيها ما إذا نظر الإنسان فيها في الظلمة يرى أعيان لأشكال كما يراها في النور ومنها لخصوص النظر في الكواكب فيرى بها الإنسان الكوكب الصغير عظيم الجرم وحوله عدة كواكب لا تدرك بالبصر الحديد ومن أنواع الأسلحة الحربية أشكال تدور بحركات فيظهر منها أصوات مطربة على إيقاع الأنغام وضروب الألحان وبها نشانات وعلامات لتبديل الأنغام بحسب ما يشتهي السامع إلى غير ذلك نهب ذلك جميعه العسكر الذين أرسلهم إليه البرديسي ليقتلوه وطفقوا يبيعونه في أسواق البلدة وأغلبه تكسر وتلف وتبدد‏.‏

وأخبرني بعض من خرج لملاقاته عند منوف العليا أنه لما طلع إليها وقابله سليمان بك البواب أخلى له الحمام في تلك الليلة وكان قد بلغه كافة أفعاله بالمنوفية من العسف والتكاليف وكذا باقي إخوانه وأفعالهم بالأقاليم فكان مسامرتهم معه تلك الليلة في ذكر العدالة الموجبة لعمار البلاد ويقول لسليمان بك في التمثيل الإنسان الذي يكون له ماشية يقتات هو وعياله من لبنها وسمنها وجبنها يلزمه أن يرفق بها في العلف حتى تدر وتسمن وتنتج له النتاج بخلاف ما إذا أجاعها وأجحفها وأتعبها وأشقاها وأضعفها حتى إذا ذبحها لا يجد بها لحمًا ولا دهنًا فقال هذا ما اعتدناه وربينا عليه فقال إن أعطاني الله سيادة مصر والإمارة في هذا القطر لأمنعن هذه الوقائع وأجري فيه العدل ليكثر خيره وتعمر بلاده وترتاح أهله ويكون أحسن بلاد الله ولكن الإقليم المصري ليس له بخت ولا سعد وأهله تراهم مختلفين في الأجناس متنافوي القلوب منحرفي الطباع فلم يمض على هذا الكلام إلا بقية الليل وساعات النهار حتى أحاطوا به وفر هاربًا ونجا بنفسه وجرى ما تقدم ذكره من اختفائه وظهوره وانتقاله إلى الجهة القبلية واجتماع الجيوش عليه وحكمت عليه الصورة التسي ظهر فيها وحصل له ما حصل‏.‏

وأخبرني من اجتمع عليه في البحيرة وسامره فقال يا فلان والله يخيل لي أن أقتل نفسي ولكن لا تهون علي وقد صرت الآن واحدًا بين ألوف من من الأعداء وهؤلاء قومي وعشيرتي فعلوا بي ما فعلوا وتجنبوني وعاودني من غير جرم ولا ذنب سبق مني في حقهم وأشقوني وأشقوا أنفسهم وملكوا البلاد لأعدائي وأعدائهم وسعيت واجتهدت في مراضاتهم ومصالحتهم والنصح لهم فلم يزدهم ذلك إلا نفورًا وتباعدًا عني ثم هذه الجنود ورئيسهم الذين ولجوا البلاد وذاقوا حلاوتها وشبعوا بعد جوعهم وترفهوا بعد ذلهم يجيشون علي ويحاربوني ويكيدوني ويقاتلوني ثم أن هؤلاء العربان المجتمعين علي أصانعهم وأسوسهم وآغاضبهم وأراضيهم وكذلك جندي ومماليكي وكل منهم يطلب مني رياسة وإماؤة ويظنون بغفلتهم أن البلاد تحت حكمي ويظنون أني مقصر في حقهم فتارة أعاملهم باللطف وتارة أزجرهم بالعنف فأنا بين الكل مثل الفريسة والجميع حولي مثل الكلاب الجياع يريدون نهشي وأكلي وليس بيدي كنوز قورن فأنفق على هؤلاء الجموع منها فيضطرني الحال إلى التعدي على عبد الله وأخذ أموالهم وأكل مزارعهم ومواشيهم فإن قدر الله لي بالظفر عوضت عليهم ذلك ورفقت بحالهم وإن كانت الأخرى فالله يلطف بنا وبهم ولا بد أن يترحموا علينا ويسترضوا عن ظلمنا وجورنا بالنسبة لما يحل بهم بعدنا‏.‏

وبالجملة فكان آخر من أدركنا من الأمراء المصريين شهامة وصرامة ونظرًا في عوافب الأمور وكان وحيدًا في نفسه فريدًا في أبناء جنسه وبموته اضمحلت دولتهم وتفرقت جمعيتهم وانكسرت شوكتهم وزادت نفرتهم وما زالوا في نقص وإدبار وذلة وهوان وصغار ولم تقم لهم بعده راية وانفرضوا وطردوا إلى أقصى البلاد في النهاية‏.‏

وأما مماليكه وصناجقه فإنهم تركوا نصيحته ونسوا وصيته وانضموا إلى عدوهم وصادقوه ولم يزل بهم حتى قتلهم وأبادهم عن آخرهم كما سيتلى عليك خبر ذلك فيما بعد‏.‏

وكانت صفة المترجم معتدل القامة أبيض اللون مشربًا بحمره جميل الصورة مدور اللحية أشقر الشعر وقد خطه الشيب مليح العينين مقرون الحاجبين معجبًا بنفسه مترفهًا في زيه وملبسه كثيرًا الفكر كتومًا لا يبيح بسر ولا لأعز أحبابه إلا أنه لم يسعفه الدهر وجنى عليه بالقهر وخاب أمله وانقضى أجله وخانه الزمان وذهب في خبر كان ومات وله من العمر نحو الخمسة والخمسين سنة غفر الله له‏.‏ وأما

الأمير عثمان بك البرديسي المرادي

وسمي البرديسي لأنه تولى كشوفية برديس بقبلي فعرف بذلك واشتهر به تقلد الأمرية والصنجقية في سنة عشر ومائتين وألف وتزوج ببنت أحمد فعرف بذلك واشتهر به تقلد الأمرية والصنجقية في سنة عشر ومائتين وألف وتزوج ببنت أحمد كتخدا علي وهي أخت علي كاشف الشرقية وعمل لها مهما وذلك قبل أن يتقلد الصنجقية وسكن بدار علي كتخدا الطويل بالأزبكية واشتهر ذكره وصار معدودًا من جملة الأمراء ولما قتل عثمان بك البرديسي المرادي بساحل أبو قير ورجع من رجع إلى قبلي كان الألفي إلى بلاد الإنكليز تعين المترجم بالرياسة على خشدشينه مع مشاركة بشنك بك الذي عرف بالألفي الصغير فلما حضروا إلى مصر في سنة ثمان عشرة بعد خروج محمد باشا خسرو وقتل طاهر باشا انضم إليه محمد علي باشا وكان إذ ذاك سرششمة العساكر وتواخى معه وصادقه ورمح في ميدان غفلته وتحالفا وتعاهدا على المحبة والمصافاة وعدم خيانة أحدهما للآخر وأن يكون محمد علي باشا وعساكره الأروام أتباعًا له وهو الأمير المتبوع فانتفخ جأشه لأنه كان طائش العقل مقتبل الشبيبة فاغتر بظاهر محمد علي باشا لأنه حين عمل شغله في مخدومه محمد باشا وبعده طاهر باشا دعا الأمراء المصريين وأدخلهم إلى مصر وانتسب إلى إبراهيم بك الكبير لكونه رئيس القوم وكبيرهم وعين لإبراهيم بك خرجًا وعلوفة مثل أتباعه وسبره واختبره فلم ترج سلعته عليه ووجده حريصًا على دوام التراحم والألفة والمحبة وعدم التفاشل في عشيرته وأبناء جنسه متحرزًا من وقوع ما يوجب التقاطع والتنافر في قبيلته فلما أيس منه مال عنه وانضم إلى المترجم واستخفه واحتوى على عقله وصاحبه وصادقه وصار يختلي معه ويتعاقر معه الشراب ويسامره ويسايره حتى باح له بما في ضميره من الحقد لإخوانه وتطلب الانفراد بالرياسة فصار يقوي عزمه ويزيد في إغرائه ويعده بالمعاونة والمساعدة على إتمام قصده ولم يزل به حتى رسخ في ذهن المترجم نصحه وصدقه كل ذلك توصلًا لما هو كامن في نفسه من إهلاك الجميع ثم أشار عليه ببناء أبراج حول داره التي سكن بها بالناصرية فلما أتمها أسكن بها طائفة من عساكره كأنهم محافظون لما عساه أن يكون ثم سار معه إلى حرب محمد باشا خسرو بدمياط فحاربوه وأتوا به أسيرًا وحبسوه ثم فعلوا بالسيد علي القبطان مثل ذلك ثم كائنة علي باشا الطرابلسي وقتله وقد تقدم خبر ذلك كله وجميعه ينسب فعله للمصريين ولم يبق الإيقاع بينهم فكان وصول الألفي عقب ذلك فأوقعوا به وبجنده ما تقدم ذكره وتفاشلوا وتفرقوا بعد جمعهم وقلوا بعد الكثرة ثم أشار على المترجم المصادق الناصح بتفريق أكثر الجمع الباقي في النواحي والجهات البعض منهم لرصد الألفي والقبض عليه وعلى جنده والبعض الآخر لظلم الفلاحين في البلاد ولم يبق بالمدينة غير المترجم وإبراهيم بك الكبير وبعض أمراء فعند ذلك سلط محمد علي العساكر بطلب علائفهم المنكسرة فعجزوا عنها فأراد المترجم أن يفرض على فقراء البلدة فرضة بعد أن استشار الأخ النصوح وطافت الكتاب في الحارات والأزقة يكتبون أسماء الناس ودورهم ففزعوا وصرخوا في وجوه العسكر فقالوا نحن ليس لنا عندكم شيء ولا نرضى بذلك وعلائفنا عند أمرائكم ونحن مساعدون لكم فعند ذلك قاموا على ساق وخرجت نساء الحارات وبأيديهم الدفوف يغنون ويقولون إيش تأخذ من تفليسي يا برديسي وصاروا يسخطون على المصريين ويترضون عن العسكر وفي الحال أحاطت العسكر ببيوت الأمراء ولم يشعر البرديسي إلا والعسكر الذين أقامهم بالأبراج لتي بناها حوله ليكونوا له عزًا ومنعة يضربون عليه ويحاربونه ويريدون قتله وتسلقوا عليه فلم يسع الجميع إلا الهروب والفرار وخرجوا خروج الضب من الوجار وذهب المترجم إلى الصعيد مذؤمًا مدحورًا مذمومًا مطرودًا وجوزي مجازاة من ينتصر بعدوه ويعول عليه ويقص أجنحته برجليه وكالباحث على حتفه بظلفه والجادع بظفره مأرن أنفه ولم يزل في هجاج وحروب كما سطر في السياق ولم ينتصر في معركة ولم يزل مصرًا على معاداة أخيه الألفي وحاقدًا عليه وعلى أتباعه حريصًا على زلاته وأعظمها قضية القبودان وموسى باشا إلى غير ذلك وكان ظالمًا غشومًا طائشًا سيئ التدبير وقد أوجده الله جل جلاله وجعله سببًا لزوال عزهم ودولتهم واختلال أمرهم وخراب دورهم وهتك أعراضهم ومذاتهم وتشتيت جمعهم ولم يزل خبثه مرض ومات بمنفلوط ودفن هناك‏.‏

ومات الأمير بشتك بك وهو الملقب بالألفي الصغير وهو مملوك محمد بك الألفي الكبير أمره وجعله وكيلًا عنه مدة غيابه في بلاد الإنكليز وكان قبل ذلك سلحداره وأمر كشافه ومماليكه وجنده بطاعته وامتثال أمره فلما حضر الأمراء المصريون في سنة ثمان عشرة أقام هو بقصر مراد بك بالجيزة فلم يحسن السياسة وداخله الغرور وأعجب بنفسه وشمخ على نظراته وعلى أعمامه الذين هم خشداشون لأستاذه وعلى إبراهيم بك الكبير الذي هو بمنزلة جده وكان مراد بك الذي هو أستاذ أستاذه يراعي حقه ويتأدب معه ويقبل يده في مثل الأعياد ويقول هو أميرنا وكبيرنا وكذلك أستاذ المترجم كان إذا دخل على إبراهيم بك قبل يده ولا يجلس بحضرته إلا بعد أن يأذن له فلم يقتف المترجم في ذلك أسلافه بل سلك مسلك التعاظم والتكبر على الجميع واستعمل العسف في أموره مع الترفع على الجميع وإذا عقدوا أمرًا بدونه حله أو حلوا شيئًا بدونه عقده فضاق لذلك خناق الجميع منه وكرهوه وكرهوا أستاذه وكان هو من جملة أسباب نفورهم من أستاذه وانحراف قلوبهم عنه فلما رجع أستاذه وظهر من اختفائه وبلغه أفعاله مقته وأبعده ولم يزل ممقوتًا عنده حتى مات مبطونًا في حياة أستاذه بناحية قبلي في تلك السنة‏.‏

ومات غير هؤلاء ممن له ذكر مثل سليمان بك المعروف بأبو دياب بناحية قبلي أيضًا ومات أيضًا أحمد بك المعروف بالهنداوي الألفي في واقعة النجيلة ومات أيضًا صالح بك الألفي وهو أيضًا من تامر في غياب أستاذه من بلاد الإنكليز كان هو متوليًا كشوفية الشرقية وغائبًا هناك فأرسلوا له تجريدة ليقتلوه وكان بناحية شلشلمون فوصله الخبر فترك خيامه وأحماله وأثقاله وهرب واختفى فلما وقعت حادثة الأمراء مع العسكر وخرجوا من مصر هاربين وظهر الألأفي من الوادي ذهب إليه وأمده بما معه من الأموال وذهب مع أستاذه إلى قبلي ولم يزل حتى مات أيضًا في هذه السنة وغير أولئك كثير لم تحضرني أسماؤهم ولا وفاتهم‏.‏

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف وكان ابتداء المحرم يوم الأربعاء فيه وصل القابجي الذي على يده التقرير لمحمد علي باشا على ولاية مصر وطلع إلى بولاق‏.‏

وفيه وردت مكاتبات من الجهة القبلية فيها أنهم كبسوا على عرضي الألفية وصحبتهم سليمان بك البواب وحاربوهم وهزموهم ونهبوا حملاتهم وقطعوا منهم عدة رؤوس وهي واصلة في طريق البحر وصادفت هذه البشارة مع بشارة ورود القابجي ووصوله فعمل لذلك شنك ضربت لذلك مدافع كثيرة من القلعة في كل وقت من الأوقات الخمسة ثلاثة أيام آخرها الجمعة ثم أنه مضى عدة أيام ولم تحضر الرؤوس التي أخبروا عنها واختلفت الروايات في ذلك‏.‏

وفي يوم الثلاثاء سابعه عملوا جمعية ببيت القاضي حضرها المشايخ والأعيان وذكروا أنه لما وردت الأوامر بتحصين الثغور فأرسل الباشا سليمان آغا ومعه طائفة من العسكر وأرسل إلى أهالي الثغور والمحافظين عليها مكاتبات بأنهم إن كانوا يحتاجون إلى عساكر فيرسل لهم الباشا عساكر زيادة على الذين أرسلهم فأجابوا بأن فيهم الكفاية ولا يحتاجون إلى عساكر زيادة تأتيهم من مصر فإنهم إذا كثروا في البلد تأتي منهم الفساد والإفساد فعملوا هذه الجمعية لإثبات هذا القول ولخلاص عهدة الباشا لئلا يتوجه عليه اللوم من السلطنة وينسب إليه التفريط‏.‏

وفي تاسعه وردت مكاتبات مع السعاة من ثغر الإسكندرية وذلك يوم الخميس وقت العصر وفيها الأخبار بورود مراكب الإنكليز وعدتها اثنان وأربعون مركبًا فيها عشرون قطعة كبارًا والباقي صغار فطلبوا الحاكم والقنصل وتكلموا معهم وطلبوا الطلوع إلى الثغر فقالوا لهم لا تمكنكم من الطلوع إلا بمرسوم سلطاني فقالوا لم يكن معنا مراسيم وإنما مجيئنا لمحافظة الثغر من الفرنسيس فإنهم ربما طرقوا البلاد على حين غفلة وقد أحضرنا صحبتنا خمسة آلاف من العسكر نقيمهم بالأبراج لحفظ البلدة والقلعة والثغر فقالوا لهم لم يكن معنا إذن وقد أتتنا مراسيم بمنع كل من وصل عن الطلوع من أي جنس كان فقالوا لا بد من ذلك فإما أن تسمحوا لنا في الطلوع بالرضا والتسليم وأما بالقهر والحرب والمهلة في رد الجواب بأحد الأمرين أربعة وعشرين ساعة ثم تندمون على الممانعة فكتبوا بذلك إلى مصر فلما وصلت تلك المكاتبات اجتمع كتخدا بك وحسن باشا وبونابارته الخازندار وطاهر باشا والدفتردار والروزنامجي وباقي أعيانهم وذلك بعد الغروب وتشاوروا في ذلك ثم أجمع رأيهم على إرسال الخبر بذلك إلى محمد علي باشا ويطلبونه للحضور هو ومن بصحبته من العساكر ليستعدوا لما هو أولى وأحق بإليهتمام ففعلوا ذلك وانصرفوا إلى منازلهم بعد حصة من الليل وأرسلوا تلك المكاتبة إليه في صبح يوم الجمعة صحبة هجانين وشاع الخبر وكثر لغط الناس في ذلك ولما انقضت الأربعة وعشرون ساعة التي جعلها الإنكليز أجلًا بينهم وبين أهل الإسكندرية وهم في الممانعة ضربوا عليهم بالقنابر والمدافع الهائلة ممن البحر فهدموا جانبًا من البرج الكبير وكذلك الأبراج الصغار والسور فعند ذلك طلبوا الأمان فرفعوا عنهم الضرب ودخلوا البلدة وذلك يوم الجمعة التالي‏.‏

وفي ليلة الاثنين ثالث عشره وردت مكاتبة من رشيد بذلك الخبر على سبيل الإجمال من غير معرفة حقيقة الحال بل بالعلم بأنهم طلعوا إلى الثغر ودخلوا البلدة وعدم علمهم بالكيفية وتغيب الحال واشتبه الأمر‏.‏

وفيه حضر قنصل الفرنساوية إلى مصر وكان بالإسكندرية فلما وردت مراكب الإنكليز انتقل إلى رشيد فلما بلغه طلوعهم إلى البر حضر إلى مصر وذكر أنه يريد السفر إلى الشام هو وباقي الفرنساوية القاطنين بمصر‏.‏ وفي

ليلة الخميس سادس عشرة

وردت مكاتبة من الباشا يذكر فيها أنه تحارب مع المصريين وظهر عليهم وأخذ منهم أسيوط وقبض على أنفار منهم وقتل في المعركة كثير من كشافهم ومماليكهم فعملوا في ذلك اليوم شنكًا وضربوا مدافع كثيرة من القلعة والأزبكية ثلاثة أيام في الأوقات الخمسة آخرها السبت وأشاعوا أيضًا أن الإسكندرية ممتنعة على الإنكليز وأنهم طلعوا إلى رأس التين والعجمي فخرج عليهم أهل البلاد والعساكر وحاربوهم وأجلوهم عن البر ونزلوا إلى المراكب مهزومين وأحرقوا منهم مركبين وأنه وصل إليهم عمارة العثمانيين والفرنساوية وحاربوهم في البحر وأحرقوا مراكبهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ولم يبق منهم إلا القليل واستمر الأمر في هذا الخلط القبلي والبحري عدة أيام ولم يأت من الإسكندرية سعاة ولا خبر صحيح‏.‏

وفيه وصل الكثير من أهالي الفيوم ودخلوا إلى مصر وهم في أسوأ حال من الشتات والعري مما فعل بهم ياسين بك فخرجوا على وجوههم وجلوا عن أوطانهم ولم يمكنهم الخروج من بلادهم حتى ارتحل عنهم المذكور يريد الحضور إلى ناحية مصر عندما بلغه خبر حضور الإنكليز إلى ثغر إسكندرية‏.‏

وفي سابع عشره وصل ياسين بك المذكور إلى ناحية دهشور وأرسل مكاتبة خطابًا للسيد عمر والقاضي وسعيد آغا يذكر فيها أنه لما بلغه وصول الإنكليز أخذته الحمية الإسلامية وحضر وصحبته ستة آلاف من العسكر ليرابط بهم بالجيزة أو بقليوب ويجاهد في سبيل الله فكتبوا له أجوبة مضمونها إن كان حضوره بقصد الجهاد فينبغي أن يتقدم بمن معه إلى الإسكندرية وإذا حصل له النصر تكون له اليد البيضاء والمنقبه والذكر والشهرة الباقية فإنه لا فائدة بإقامته بالجيزة أو قليوب وخصوصًا قليوب بالبر الشرقي وكان حسن باشا خرج بعرضيه في موكب إلى ناحية الحلي قبل ذلك بأيام ويرجع إلى داره آخر النهار فيبيت بها ثم يخرج في الصباح وعساكره وأوباشه ينتشرون بتلك النواحي يعبثون ويخطفون متاع الناس ومبيعات الفلاحين وأهل بولاق وفي كل يوم يشيعون بأنه مسافر إلى جهة البحيرة لمحاربة الإنكليز فلما ورد خبر مجيء ياسين بك تأخر عن السفر وعملوا مشورة فاقتضى رأيهم أن حسن باشا يعدى إلى البر الغربي ويقيم بالجيزة لئلا يأتي ياسين ويملكها فعدى حسن باشا في يوم الاثنين عشرينه وأقام بها وأعرض عن السفر إلى جهة البحيرة‏.‏

وفيه وردت الأخبار الصحيحة بأخذ الإسكندرية واستيلاء الإنكليز عليها يوم الخميس المتقدم تاسع الشهر ودخلوها وملكوا الأبراج يوم الأحد صبيحة النهار وسكن ساري عسكرهم بوكالة القنصل وشرطوا مع أهالي البلد شروط منها أنهم لا يسكنون البيوت قهرًا عن أصحابها بل بالمؤاجرة والتراضي ولا يمتهنون المساجد ولا يبطلون منها الشعائر الإسلامية وأعطوا أمين آغا الحاكم أمانًا على نفسه وعلى من معه من العسكر وأنوا لهم بالذهاب إلى أي محل أرادوه ومن كان له دين على الديوان يأخذ نصيبه حالًا والنصف الثاني مؤجلًا ومن أراد السفر في البحر من التجار وغيرهم فليسافر في خفارتهم إلى أي جهة أراد ما عدا إسلامبول وأما العرب والشام وتونس وطرابلس ونحوها فمطلق السراح لا حرج ذهابًا وإيابًا ومن شروطهم التي شركوها مع أهل البلد أنهم إن احتاجوا إلى قومانيه أو مال لا يكلفون أهل الإسكندرية بشيء من ذلك وأن محكمة الإسلام تكون مفتوحة تحكم بشرائعها ولا يكلفون أهل الإسلام بقيام دعوى عند الإنكليز بين رضاهم والحمايات من أي بنديرة تكون مقبولة عند الإنكليز الموجودين في الإسكندرية ويقيمون مأمونين رعاية لخاطر أهل الإسكندرية ولم يحصل لهم شيء من المكروه من كامل الوجوه حتى الفرنساوية والجمارك من كل الجهات على كل مائة اثنان ونصف وعلى ذلك انتهت الشروط وليعلم أن هذه الطائفة من الإنكليز ومن انضم إليهم وعدتهم على ما قيل ستة آلاف لم تأت إلى الثغر طمعًا في أخذ مصر بل كان ورودهم ومجيئهم مساعدة ومعاونه للألفي على أخصامه باستدعائه لهم استنجاده بهم قبل تاريخه وسبب تأخرهم في المجيء لما بينهم وبين العثماني الصلح فلا يتعدون على ممالكه من غير إذنه لمحافظتهم على القوانين فلما وقعت الغرة بينهم وبينه بما تقدم فعند ذلك انتهزوا الفرصة وأرسلوا هذه الطائفة وكان الألفي ينتظر حضورهم بالبحيرة فلما طال عليه الانتظار وضاقت عليه البحيرة ارتحل بجيوشه مقبلًا وقضى الله موتًا بإقليم الجيزة وحضر الإنكليز بعد ذلك إلى الإسكندرية فوجدوه قد مات فلم يسعهم الرجوع فأرسلوا إلى الأمراء القبليين يستدعونهم ليكونوا مساعدين لهم على عدوهم ويقولون لهم إنما جئنا إلى بلادكم باستدعاء الألفي لمساعدته ومساعدتكم فوجدنا الألفي قد مات وهو شخص واحد منكم وأنتم جمع فلا يكون عندكم تأخير في الحضور لقضاء شغلكم فإنكم لا تجدون فرصة بعد هذه وتندمون بعد ذلك إن تلكأتم فلما وصلتهم مراسلة الإنكليز تفرق رأيهم وكان عثمان بك حسن منعزلاُ عنهم وهو يدعى الورع وعنده جيش كبير فأرسلوا إليه يستدعونه فقال‏:‏ أنا مسلم هاجرت وجاهدت وقاتلت في الفرنساوية والآن أختم عملي والتجئ إلى الإفرنج وأنتصر بهم على المسلمين أنا لا أفعل ذلك وعثمان بك يوسف كان بناحية الهو وكان الباشا يحارب الذين بناحية أسيوط وهم المرادية والإبراهيمية والألفي والتقى معهم وانكسروا منه وقتل منهم أشخاصًا فلما ورد عليه خبر الإنكليز انفعل لذلك وداخله وهم كبير وأرسل إليهم المشايخ وخلافهم يطلبهم للصلح وكان ما سيتلى عليك قريبًا وما كان إلا ما أراده المولى جل جلاله من تعسة الإنكليز والقطر وأهله إلا أن يشاء الله‏.‏

وفيه وصل مكتوب من محمد علي باشا يطلب مصطفى آغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي ليرسلهم إلى الأمراء القبالي فتراخوا في الذهاب لكونهم وجدوا تاريخ المكتوب حادي عشر الشهر فعلموا أن ذلك قبل تحقق خبر الإنكليز‏.‏

ثم ورد منه مكتوب آخر يذكر فيه عزمه على الرجوع إلى مصر قريبًا فإن العساكر يطالبونه بالعلائف ويأمرهم فيه بتحصيل ذلك وتنظيمه ليستلموها عند حصولهم بمصر يتجهزوا لمحاربة الإنكليز‏.‏

وفي ثالث عشرينه ورد مكتوب من أهالي دمنهور خطابًا إلى السيد عمر النقيب مضمونه أنه لما دخلت المراكب الإنكليزية إلى سكندرية هرب من كان بها من العساكر وحضروا إلى دمنهور فعندما شاهدهم الكاشف الكائن بدمنهور ومن معه من العسكر انزعجوا انزعاجًا شديدًا وعزموا على الخروج من دمنهور فخاطبهم أكابر الناحية قائلين لهم كيف تتركونا وتذهبوا ولم تروا منا خلافًا وقد كنا فيما تقدم من حروب الألفي من أعظم المساعدين لكم فكيف لا نساعد الآن بعضنا بعضًا في حروب الإنكليز فلم يستمعوا لقولهم لشدة ما داخلهم من الخوف وعبوا متاعهم وأخرج الكاشف أثقاله وجبخانته ومدافعه وتركها وعدى وذهب إلى قوة من ليلته ثم أرسل في ثاني يوم من أخذ الأثقال فهذا ما حصل أخبرناكم به وأما بونابارته الخازندار الذي سافر لحرب الإنكليز فإنه نزل على القليوبية وفعل ما أمكنه وقدر عليه بالبلاد من السلب والنهب والجور والكلف والتساويف حتى وصل إلى المنوفية وكذلك طاهر باشا الذي سافر في أثره وإسماعيل كاشف المعروف بالطوبجي فرض على البلاد جمالًا وخيولًا وأبقارًا وغير ذلك ومن جملة أفاعيلهم أنهم يوزعون الأغنام المنهوبة على البلاد ويلزمونهم بعلفها وكلفها ثم يطلبون أثمانها مضاعفة بما يضاف إلى ذلك من حق طرق المعينين وأمثال ذلك‏.‏

وفي يوم الجمعة رابع عشرينه وردت أخبار من ثغر رشيد يذكرون بأن طائفة من الإنكليز وصلت إلى رشيد في صبح يوم الثلاثاء حادي عشرينه ودخلوا إلى البلد وكان أهل البلدة ومن معهم من العساكر منتبهين ومستعدين بالأزقة والعطف وطيقان البيوت فلما حصلوا بداخل البلدة ضربوا عليهم من كل ناحية فألقوا ما بأيديهم من الأسلحة وطلبوا الأمان فلم يلتفتوا لذلك وقبضوا عليهم وذبحوا منهم جملة كثيرة وأسروا الباقين وفر طائفة إلى ناحية دمنهور وكان كاشفها عندما بلغه ما حصل برشيد اطمأن خاطره ورجع إلى ناحية ديبي ومحلة الأمير وطلع بمن معه إلى البر فصادف تلك الشرذمة فقتل بعضهم وأخذ ما بقي منهم أسرى وأرسلوا السعاة إلى مصر بالبشارة فضربوا مدافع وعملوا شنكًا وخلع كتخدا بك على السعاة الواصلين وأسرعت المبشرون من أتباع العثمانيين وهم القواسة الأتراك بالسعي إلى بيوت الأعيان يبشرونهم ويأخذون منهم البقاشيش والخلع وصار الناس ما بين مصدق ومكذب فلما كان يوم الأحد سادس عشرينه أشيع وصول رؤوس القتلى ومن معهم من الأسرى إلى بولاق فهرع الناس بالذهاب للفرجة ووصل الكثير منهم إلى ساحل بولاق وركب أيضًا كبار العسكر ومعهم طوائفهم لملاقاتهم فطلعوا بهم إلى البر وصحبتهم جماعة العسكر المتسفرين معهم فأتوا بهم من خارج مصر ودخلوا بهم من بابا النصر وشقوا بهم من وسط المدينة وفيهم فسيال كبير وآخر كبير في السن وهما راكبان على حمارين والبقية مشاة في وسط العسكر ورؤوس القتلى معهم على نبابيت وقد تغيرت وأنتنت رائحتها وعدتها أربعة عشر رأسًا والأحياء الخمسة وعشرون ولم يزالوا سائرين بهم إلى بركة الأزبكية وضربوا عند صولهم شنكًا ومدافع وطلعوا بالأحياء مع فسيالهم إلى القلعة‏.‏

وفيه نبه السيد عمر النقيب على الناس وأمرهم بحمل السلاح والتأهب للجهاد في الإنكليز حتى مجاوري الأزهر وأمرهم بترك حضور الدروس وكذلك أمر المشايخ المدرسين بترك إلقاء الدروس‏.‏

وفيه وصل عابدين بك وعمر بك وأحمد آغا لاظ أوغلي من ناحية قبلي وأشيع وصول الباشا بعد يومين‏.‏

وفي يوم الاثنين وصل أيضًا جملة من الرؤوس والأسرى إلى بولاق فطلعوا بها على الرسم المذكور وعدتها مائة رأس واحد وعشرون رأسًا وثلاثة عشر أسيرًا وفيهم جرحى ومات أحدهم على بولاق فقطعوا رأسه ورشقوها مع الرؤوس وشقوا بها من وسط المدينة آخر النهار‏.‏

وفي يوم الثلاثاء حصلت جمعية ببيت القاضي وحضر حسن باشا وعمر بك والدفتردار وكتخدا بك السيد عمر النقيب والشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير وباقي المشايخ فتكلموا في شأن حادثة الإنكليز والاستعداد لحربهم وقتالهم وطردهم فإنهم أعداء الدين والملة وقد صاروا أيضًا أخصامًا للسلطان فيجب على المسلمين دفعهم ويجب أيضًا أن يكون الناس والعسكر على حال الأفة والشفقة والاتحاد ولن تمتنع العساكر عن التعرض للناس بالإيذاء كما هو شأنهم وأن يساعدوا بعضهم بعضًا على دفع العدو ثم تشاوروا في تحصين المدينة وحفر خنادق فقال بعضهم أن الإنكليز لا يأتون إلا من البر الغربي والنيل حاجز بين الفريقين وأن الفرنساوية كانوا أعلم بأمر الحروب وأنهم لم يحفروا إلا لخندق المتصل من الباب الحديد إلى البر فينبغي الاعتناء بإصلاحه ولو لم يكن كوضعهم وإتقانهم إذ لا يمكن فعل ذلك واتفقوا على ذلك‏.‏

وفيه حضر مكتوب من ثغر رشيد عليه إمضاء علي بك حاكم رشيد وأحمد بك المعروف ببونابارته مؤرخ بيوم الجمعة رابع عشرينه يذكرون فيه أن الإنكليز لما حضروا إلى رشيد وحصل لهم ما حصل من القتل والأسر ورجعوا خائبين حصل لباقيهم غيظ عظيم وهم شارعون في الاستعداد للعود والمحاربة والقصد أن تسعفونا وتمدونا بإرسال الرجال والمحاربين والأسلحة والجبخانة بسرعة وعجلة وإلا فلا لوم علينا بعد ذلك وقد أخبرناكم وعرفناكم بذلك فأرسلوا في ذلك عدة من المقاتلين وكتبوا مكاتبات إلى البلاد والعربان الكائنين ببلاد البحيرة يدعونهم للمحاربة والمجاهدة وكذلك أرسلوا في ثاني يوم عدة من العسكر‏.‏

وفي يوم الأربعاء تاسع عشرينه ركب السيد عمر النقيب والقاشي والأعيان المتقدم ذكرهم ونزلوا إلى ماحية بولاق لترتيب أمر الخندق المذكور وصحبتهم قنصل الفرنساوية وهو الذي أشار عليهم بذلك وصحبتهم الجمع الكثير من الناس والأتباع والكل بالأسلحة‏.‏

وفيه وصل المشايخ الثلاثة الذين كانوا ذهبوا لإجراء الصلح بين الباشا والأمراء القبالي وذهبوا إلى دورهم وكان من خبرهم أنهم لما وصلوا إلى الباشا بناحية ملوى استأذنوه في الذهاب فيما أتوا بسببه من السعي في الصلح فاستمهلهم وتركهم بناحية ملوى واستعد وذهب إلى أسيوط وأودع الجماعة بمنفلوط وتلاقى مع الأمراء وحاربهم وظهر عليهم وقتل من الأمراء في تلك المعركة سليمان بك المرادي المعروف بريحة بتشديد الياء وسليمان بك الآغا ورجع الأمراء القبالي إلى ناحية بحري فعند ذلك حضر المشايخ وكتب مكاتبات إلى الأمراء وأرسلها صحبة المشايخ المذكورين إلى الأمراء وكانوا بالجانب الغربي بناحية ملوى فتفاوضوا معهم فيما أتوا بسببه من أمر الصلح مع الباشا وكف الحروب فقالوا كم من مرة يراسلنا في الصلح ثم يغدر بنا ويحاربنا فاحتجوا عليهم بما لقنه لهم من مخالفتهم لأكثر الشروط التي كان اشترطها عليهم من إرسال الأموال الميرية والغلال وتعديهم على الحدود التي يحددها معهم في الشروط ثم إنهم اختلوا مع بعضهم وتشاوروا فيما بينهم وكان عثمان بك حسن منعزلًا عنهم بالبر الشرقي ولم يكن معهم في الحرب ولا في غيره وبعد انقضاء الحرب استعلى إلى جهة قبلي وعثمان بك يوسف كان أيضًا بناحية الهو والكوم الأحمر‏.‏

وفي أثناء ذلك ورد على الباشا خبر الإنكليز وأخذهم الإسكندرية وأرسلوا رسلهم إلى الأمراء القبالي فارتبك في أمره وأرسل إلى المشايخ يستعجلهم في إجراء الصلح وقبولهم كل ما اشترطوه على الباشا ولا يخالفهم في شيء يطلبونه أبدًا ولما وصلتهم رسل الإنكليز اختلفت آراؤهم وأرسلوا إلى عثمان بك حسن يخبرونه ويستدعونه للحضور فامتنع وتورع وقال أنا لا أنتصر بالكفار ووافقه على رأيه ذلك عثمان بك يوسف واختلفت آراء باقي الجماعة وهم إبراهيم بك الكبير وشاهين بك المرادي وشاهين بك الألفي وباقي أمرائهم فاجتمعوا ثانيًا بالمشايخ وقالوا لهم ما المراد بهذا الصلح فقالوا المراد منه راحة الطرفين ورفع الحروب واجتماع الكلمة ولا يخفاكم أن الإنكليز تخاصمت مع سلطان الإسلام وآغارت على ممالكه وطرقت ثغر سكندرية ودخلتها وقصدهم أخذ الإقليم المصري كما فعل الفرنساوية فقالوا أنهم أتوا باستدعاء الألفي لنصرتنا ومساعدتنا فقالوا لا تصدقوا أقوالهم في ذلك وإذا تملكوا البلاد لا يبقون على أحد من المسلمين وحالهم ليس كحال الفرنساوية فإن الفرنساوية لا يتدينون بدين ويقولون بالحرية والتسوية وأما هؤلاء الإنكليز فإنهم نصارى على دينهم ولا تخفى عداوة الأديان ولا يصح ولا ينبغي منكم الانتصار بالكفار على المسلمين ولا الالتجاء إليهم ووعظوهم وذكروا لهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأن الله هداهم في طفوليتهم وأخرجهم من الظلمات إلى النور وقد نشؤا في كفالة أسيادهم وتربوا في حجور الفقهاء وبين أظهر العلماء وقرؤوا القرآن وتعلموا الشرائع وقطعوا ما مضى من أعمارهم في دين الإسلام وإقامة الصلوات والحج والجهاد ثم يفسدون أعمالهم آخر الأمر ويوادون من حاد الله ورسوله ويستعينون بهم على إخوانهم المسلمين ويملكونهم بلاد الإسلام يتحكمون في أهلها فالعياذ بالله من ذلك وكان بصحبة المشايخ مصطفى أفندي كتخدا قاضي العسكر يكلمهم باللغة التركية ويترجم لهم ذلك وهو فصيح الكلام فقالوا كل ما قلتموه وأبديتموه فعلمه ولو تحققنا الأمن والصدق من مرسلكم ما حصل منا خلاف ولحاربنا وقاتلنا بين يديه ولكنه غدار لا يفي بعهد ولا يوعد ولا يبر في يمين ولا يصدق في قول وقد تقدم أنه يصطلح معنا وفي أثر ذلك يأتي لحربنا ويقتلنا ويمنع عنا من يأتي إلينا باحتياجاتنا من مصر ويعاقب على ذلك حتى من يأتي من الباعة والمتسببين إلى الناحية التي نحن فيها ولا يخفاكم أنه لما أتى القبودان ومعه الأوامر بالرضا والعفو الكامل عنا والأمر له بالخروج فلم يمتثل وأرسل إلينا وخدعنا وتحيل علينا بإرسال الهدايا وصدقناه واصطلحنا معه فلما تم له الأمر غدر بنا وما مراده بصلحنا إلا تأخرنا عن ذهابنا إلى الإنكليز فلا نذهب إليهم ولا نستعين بهم وإن كان مراده يعطينا بلادًا يصالحنا عليها فها هي البلاد بأيدينا وقد عمها الخراب باستمرار الحروب من الفريقين وقد تفرق شملنا وانهدمت دورنا ولم يبق لنا ما نأسف عليه أو نتحمل المذلة من أجله وقد ماتت إخواننا ومماليكنا فنحن نستمر على ما نحن عليه حتى نموت عن آخرنا ويرتاح قلبه من جهتنا فقال لهم الجماعة هذه المرة هي الأخرى وليس بعدها شر ولا حرب بل بعدها الصداقة والمصافاة ويعطيكم كل ما طلبتموه من بلاد وغيرها فلو طلبتم من الإسكندرية إلى أسوار لا يمنع ذلك بشرط أن تكونوا معنا بالمساعدة في حرب الإنكليز ودفعهم عن البلاد وأيضًا تسيرون بأجمعكم من البر الغربي والباشا وعساكره من البر الشرقي وعند انقضاء أمر الإنكليز ورجوعكم إلى بر الجيزة ينعقد مجلس الصلح بحضرة المشايخ الكبار والنقيب والوجاقلية وأكابر العسكر وإن شئتم عقدنا مجلس الصلح بالجيزة قبل التوجه لمحاربة الإنكليز ولا شر بعد ذلك أبدًا فانخدعوا لذلك كتبوا أجوبة ورجع بها مصطفى أفندي كتخدا القاضي وصحبته يحيى كاشف وفيه شرعوا في حفر الخندق المذكور ووزعوا حفره على مياسير الناس وأهل الوكاكل والحانات والتجار وأرباب الحرف والروزنامجي وجعلوا على البعض أجرة مائة رجل من الفعلة وعلى البعض أجرة خمسين وعشرين وكذلك أهل بولاق ونصارى ديوان المكس والنصارى الأروام والشوام والأقباط واشتروا المقاطف والغلفان والفؤس والقزم وآلات الحفر وشرعوا في بناء حائط مستدير أسفل تل قلعة السبتية‏.‏

وفي يوم الخميس غايته ورد مكتوب من السيد حسن كريت نقيب الأشراف برشيد والمشار إليه بها يذكر فيه أن الإنكليز لما وقع لهم ما وقع برشيد رجعوا في هزيمتهم إلى الإسكندرية استعدوا وأحضروا إلى ناحية الحماد قبلي رشيد ومعهم المدافع الهائلة والعدد ونصبوا متاريسهم من ساحل البحر إلى الجبل عرضًا وذلك ليلة الثلاثاء ثامن عشرينه فهذا ما حصل أخبرناكم به ونرجو الإسعاف والإمداد بالرجال والجبخانه والعدة والعدد وعدم التأني وإليهما فلما وصل ذلك الجواب قرأه السيد عمر النقيب على الناس وحثهم على التأهب والخروج للجهاد فامتثلوا ولبسوا الأسلحة وجمع إليه طائفة المغاربة وأتراك خان الخليلي وكثير من العدوية والأسيوطية وأولاد البلد وركب في صبحها إلى كتخدا بك واستأذنه في الذهاب فلم يرض وقال حتى بأتي أفندينا الباشا ويرى رأيه في ذلك فسافر من سافر وبقي من بقي وانقضى الشهر وفيه ورد الخبر بأن ركب الحاج الشامي رجع من منزلة هدية ولم يحج في هذا العام وذلك أنه لما وصل إلى المنزلة المذكورة أرسل الوهابي إلى عبد الله باشا أمير الحاج يقول له تأت إلا على الشرط الذي شرطناه عليك في العام الماضي وهو أن يأتي بدون المحمل وما يسصحبهم من الطبل والزمر والأسلحة وكل ما كان مخالفًا للشرع فلما سمعوا ذلك رجعوا من غير حج ولم يتركوا مناكيرهم‏.‏

واستهل شهر صفر بيوم الجمعة سنة 1222 فيه كتبوا مراسلة إلى الأمراء القبالي وختم عليها كثير من مشايخ الأزهر وغيرهم وأرسلوها إليهم‏.‏

وفي يوم السبت ثانيه وردت مكاتبة أيضًا من ثغر رشيد وعليها إمضاء علي بك السنانكلي حاكم الثغر وطاهر باشا وأحمد آغا المعروف ببونابارته بمعنى مكتوب السيد حسن السابق ويذكرون فيه أن الإنكليز ملكوا أيضًا كوم الأفراح وأبو منضور ويستعجلون النجدة‏.‏

وفي تلك الليلة أعني ليلة الأحد وصل محمد علي باشا ودخل إلى داره بالأزبكية في سادس ساعة من الليل وكان أشيع وصوله قبل ذلك اليوم وخرج السيد عمر النقيب والمشيخ والحروقي لملاقاته يوم الجمعة فبعضهم ذهب إلى الآثار وبات هناك بالقرافة بضريح الإمام الشافعي ورجعوا في ثاني يوم يحصل لهم ملاقاة فلما طلع نهار ذلك اليوم وأشيع حضوره إلى داره ركب الجميع وذهبوا للسلام عليه ودار بينهم الكلام في أمر الإنكليز فأظهر إليهتمام وأمر كتخدا بك وحسن باشا بالخروج في ذلك اليوم فأخرجوا مطلوباتهم وعازتهم إلى بولاق وسخط على أهل الإسكندرية والشيخ المسيري وأمين آغا حيث مكنوا الإنكليز من الثغر وملوكهم البلدة ولم يقبل لهم عذرًا في ذلك ثم قالوا له إنا نخرج جميعًا للجهاد مع الرعية والعسكر فقال ليس على رعية البلد خروج وإنما عليهم المساعدة بالمال لعلائف العسكر وانقضى المجلس وركبوا إلى دورهم‏.‏

وفيه وصل حجاج المغاربة إلى مصر من طريق البر وأخبروا أنهم حجوا وقضوا مناسكهم وأن مسعود الوهابي وصل إلى مكة بجيش كثيف وحج مع الناس بالأمن وعدم الضرر ورخاء الأسعار وأحضر مصطفى جاويش أمير الركب المصري وقال له ما هذه العويدات والطبول التي معكم يعني بالعويدات المحمل فقال هو إشارة وعلامة على اجتماع الناس بحسب عادتهم فقال لا تأت بذلك بعد هذا العام وإن أتيت به أحرقته وأنه هدم القباب وقبة آدم وقباب ينبع والمدينة وأبطل شرب التنباك والنارجيلة من الأسواق وبين الصفا والمروة وكذلك البدع‏.‏

وفي تلك الليلة أرسل الباشا وطلب السيد عمر في وقت العشاء الأخيرة وأزمه بتحصيل ألف وفي يوم الاثنين رابعه دخلت طوائف العسكر الواصلين من الجهة القبلية إلى المدينة وطلبوا سكنى البيوت كعادتهم ولم يرجعوا إلى الدور التي كانوا ساكنين بها وأخربوها‏.‏

وفي يوم الثلاثاء وردت مكاتبة من رشيد وعليها إمضاء السيد حسن كريت يخبر فيها بان الإنكليز محتاطون بالثغر ومتحلقون حوله ويضربون على البلد بالمدافع والقنابر وقد تهدم الكثير من الدور والأبنية ومات كثير من الناس وقد أرسلنا لكم قبل تاريخه نطلب الآغاثة والنجدة فلم تسعفونا بإرسال شيء وما عرفنا لأي شيء هذا الحال وما هذا إليهمال فالله الله في الإسعاف فقد ضاق الخناق وبلغت القلوب الحناجر من توقع المكروه وملازمة المرابطة والسهر على المتاريس ونحو ذلك من الكلام وهي خطاب للسيد عمر النقيب والمشايخ ومؤرخة في ثاني شهر صفر‏.‏

وفي ذلك اليوم اهتم الباشا وعزم على السفر بنفسه إلى بولاق وركب وصحبته حسن باشا وعابدين بك وعمر بك فسافروا في تلك الليلة‏.‏

وفي يوم الأربعاء سافر أيضًا حجو بك وخرج معه بعض المتطوعة من الأتراك وغيرهم تهيئوا واتفقوا مع المسافرين معهم وأمدهم الكثير من إخوانهم بالاحتياجات والذخيرة والمؤن ونصبوا لهم وخرجوا ومعهم طبل وزمر‏.‏

وفي يوم الجمعة ركب أيضًا أحمد آغا لاظ وشق بعساكره الذين كان بهم بالمنية وتداخل فيهم الكثير من أجناسهم وغيرهم من مغاربة وأتراك بلدية ومر الجميع من وسط المدينة في عدة وافرة ويذهب الجميع إلى بولاق يوهمون أنهم مسافرون على قدم الاستعجال بهمة ونشاط واجتهاد فإذا وصلوا إلى بولاق تفرقوا ويرجع الكثير منهم ويراهم الناس في اليوم الثاني والثالث بالمجينة ومن تقدم منهم وسافر بالفعل ذهب فريق منهم إلى المنوفية وفريق إلى الربية ليجمعوا في طريقهم من أهل البلاد والقرى ما تصل إليه قدرة عسفهم من المال والمغارم والكلف وخطف البهائم ورعي المزارع وخطف النساء والبنات والصبيان وغير ذلك‏.‏

وفيه سافر أيضًا حسن باشا طاهر وفيه نزل الدالاتية إلى بولاق وكذلك الكثير من العسكر وحصل منهم الإزعاج في أخذ الحمير والجمال قهرًا من أصحابها ونزلوا بخيولهم على ريب البرسيم والغلال الطائبة التي بناحية بولاق وجزيرة بدران وخلافها فرعتها وأكلتها بهائمهم في يوم واحد ثم انتقلوا إلى ناحية منية السيرج وشبرا والزاوية الحمراء والمطرية والأميرية فأكلوا زروعات الجميع وخطفوا مواشيهم وفجروا بالنساء وافتضوا الأبكار ولاطوا بالغلمان وأخذوهم وباعوهم فيما بينهم حتى باعوا البعض بسوق مسكة وغيره وهكذا تفعل المجاهدون ولشدة قهر الخلائق منهم وقبح أفعالهم تمنوا مجيء الإفرنج من أي جنس كان وزال هؤلاء الطوائف الخاسره الذين ليس لهم ملة ولا شريعة ولا طريقة يمشون عليها فكانوا يصرخون بذلك بمسمع منهم فيزداد حقدهم وعداوتهم ويقولون أهل هذه البلاد ليسوا مسلمين لأنهم يكرهوننا ويحبون النصارى ويتوعدونهم إذا خلصت لهم البلاد ولا ينظرون لقبح أفعالهم‏.‏

وفي يوم الاثنين حادي عشره حضر جماعة من الططر الذين من عادتهم يأتون بالأخبار والبشارات بالمناصيب وقد وصلوا من طريق الشام يبشرون بولاية السيد علي باشا وعزل صالح قبودان عن رياسة الدونانمة ويذكرون أنه خرج بالدونانمة التي تسمى بالعمارة وصحبته عدة مراكب فرنساوية قاصدين جهة مالطة ليقطعوا على الإنكليز الطرق وأن هؤلاء الططر الواصلين لم يعلموا بورود الإنكليز إلى الإسكندرية إلا عند وصولهم صيدا وذكروا أن سبب عزل صالح القبودان أن الإنكليز وردوا بوغاز إسلامبول بإثني عشر مركبًا وقيل أربعة عشر وظلوا داخلين والمدافع تضرب عليهم من القلاع المتقابلة فلم يبالوا بذلك حتى حصلوا بداخل المينة تجاه البلد فانزعج أهالي البلد انزعاجًا شديدًا وصرخت النساء وهاجت المجينة وماجت بأناسها ولو ضرب عليها الإنكليز لاحترقت عن آخرها لكنهم لم يفعلوا بل استمروا يومهم ورموا مراسيهم ثم أخذوها وولوا راجعين ولسان حالهم يقول ها نحن ولجنا بغازكم الذي تزعمون أنه لا أحد يقدر على عبوره وقدرنا عليكم وعفونا عنكم ولو شئنا أخذ دار سلطنتكم لأخذناها أو أحرقناها وعندما فعلوا ذلك طلب السلطان قبودان باشا فوجدوه يتعاطى الشراب في بعض الأماكن فعند ذلك أحضروا السيد علي وقلدوه رياسة الدونانمة ونزل إلى الإنكليز وتكلم معهم إلى أن خرجوا من البوغاز وأخرجوا صالح قبودان منفيًا إلى بعض الجهات‏.‏

وفي ذلك اليوم طلع الباشا إلى القلعة وصحبته قنصل الفرنساوية يهندس معه الأماكن ومواطن الحصار والقنصل المذكور مظهر إليهتمام والاجتهاد ويسهل الأمر ويبذل النصح ويكثر من الركوب والذهاب والإياب وأمامه الخدم وبأيديهم الحراب المفضضة وخلفه ترجمانه وأتباعه‏.‏

وفيه أرسل الأمراء القبليون جوابًا عن جواب أرسل إليهم قبل ذلك وعليه ختوم كثيرة باستدعائهم واستعجالهم للحضور فأرسلوا هذا الجواب يعتذرون فيه بأن السبب في تأخرهم أنهم لم يتكاملوا وأن أكثرهم متفرقون بالنواحي مثل عثمان بك حسن وغيره وأنهم إلى الآن لم يثبت عندهم حقيقة الأمر لأن من الثابت عندهم صداقة الإنكليز مع العثماني من قديم الزمان وان المراسيم التي وردت بالتحذير والتحفظ من الموسكوب ولم يذكر الإنكليز فاتفق الحال بأن يرسلوا لهم جوابًا بالحقيقة صحبة مصطفى أفندي كتخدا القاضي يصحب معه المراسيم التي وردت في شأن ذلك وفيها ذكر الإنكليز ومنابذتهم للدولة فسافر الكتخدا المذكور في صبحها إليهم وكانوا حضروا إلى ناحية المنية وأما ياسين بك فإنه أذعن للصلح على أن يعطيه الباشا أربعمائة كيس بعد تردد المراسلات بينه وبين الباشا ثم انه عدى إلى ناحية شرق اطفيح وفرض عليهم الأموال الجسيمة وكان أهل تلك البلاد اجتمعوا بصول والبرنبل بمتاعهم وأموالهم ومواشيهم فنزل عليهم وطلب منهم الأموال فعصوا عليه فأوقد فيهم النيران وحرق جرونهم ونهبهم‏.‏

وفي عصر يوم الثلاثاء حضر جماعة من العرب وصحبتهم ثلاثة أنفار من البرية وأحضروهم إلى مصر فمثلوا بين يدي الباشا وكلمهم ثم أمر بطلوعهم إلى القلعة وفيهم شخص كبير يقال أنه من قباطينهم‏.‏

وفي يوم الخميس رابع عشره عملوا ديوانًا ببيت القاضي اجتمع فيه الدفتردار والمشايخ والوجاقلية وقرؤوا مرسومًا تقدم حضوره قبل وصول الإنكليز إلى الإسكندرية مضمونه ضبط تعلقات الإنكليز وما لهم من المال والودائع والشركات مع التجار بمصر والثغور‏.‏

وفي ذلك اليوم حضر شخصان من السعاة وأخبرا بالنصر على الإنكليز وهزيكتهم وذلك أنه اجتمع الجم الكثير من أهالي بلاد البحيرة وغيرها وأهالي رشيد ومن معهم من المتطوعة والعساكر وأهل دمنهور وصادف وصول كتخدا بك وإسماعيل كاشف الطوبجي إلى تلك الناحية فكان بين الفريقين مقتلة كبيرة وأسروا من الإنكليز طائفة وقطعوا منهم عدة رؤوس فخلع الباشا على الساعيين جوختين وفي أثر ذلك وصل أيضًا شخصان من الأتراك بمكاتبات بتحقيق ذلك الخبر وبالغا في الأخبار وان الإنكليز انجلوا عن متاريس رشيد وأبي منصور والحماد ولم تزل المقاتلون من أهل القرى خلفهم إلى أن توسطوا البرية وغنموا جبخاناتهم وأسلحتهم ومدافعهم ومهراسين عظيمين وذكرا أنه واصل خلفهم أسرى ورؤس قتلى كثيرة في عدة مراكب وأنه وصل معهما من جملة المتطوعين رجلان من آهل مكة التجار المقيمين بمصر كانا في الواقعة بنحو مائة من البدو والمغاربة وغيرهم ينفقان عليهم ويحرضانهم على القتال ويعينان المقاتلين من إليه ألي بما في أيديهما ويقاتلان بأنفسهما وبذلا جهدهما في ذلك وأنهما بعد هزم الإنكليز وسلبهم فرقًا ما غنماه وما بقي معهما من الأشياء على من خرج خلف الإنكليز وحضرا معهما وهما السيد أحمد النجاري وأخوه السيد سلامة فطلبهما الباشا وسألهما عن الخبر فأخبراه بخبر التركيين فانسر الباشا لذلك سرورًا عظيمًا وشكر فعلهما وأنعم عليهما وخلع عليهما ورتب لهما مرتبًا ووعدهما بالاستخدام في مصالحه وخلع على ذينك التركيين فروتي سمور وحضرا بصحبة الساعيين إلى منزل السيد عمر النقيب بعد الغروب وتعشوا عنده وطلبوا البقشيش وبعد أن أخذوه توسل التركيان به بأن يسعى لهما عند الباشا في أن ينعم عليهما بمناصب فوعدهما بذلك وترجى الباشا لهما يضاعف مرتبهما وربوا في صبح ذلك اليوم مجافع كثيرة من القلعة بالأزبكية وبولاق والجيزة وذك بين الظهر والعصر‏.‏ وفي

يوم الجمعة خامس عشرة

حضروا بأسرى وعدتهم تسعة عشر شخصًا وعدة رؤس فمروا بهم من وسط الشارع الأعظم وأما الرؤس فمروا بها من طريق باب الشعرية وعدتها نيف وثلاثون رأسًا موضوعة على نبابيت رشقوها بوسط بركة الأزبكية مع الرؤس الأولى صفين على يمين السالك من باب الهواء إلى وسط البركة وشماله‏.‏

وفيه وصل ثلاث دوات من جدة إلى ساحل السويس فيها أتراك وشوام وأجناس آخرون وذكروا أن الوهابي نادى بعد انقضاء الحج أن لا يأتي إلى الحرمين بعد هذا العام من يكون حليق الذقن وتلافي المناداة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا تقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وأخرجوا هؤلاء الواصلين إلى مصر‏.‏

وفي يوم السبت وصل أيضًا تسعة أشخاص أسرى من الإنكليز وفيهم فسيال‏.‏

وفي يوم الأحد وصل أيضًا نيف وستون وفيهم رأس واحد مقطوعة فمروا بهم على طريق باب النصر من وسط المجينة وهرع الناس للتفرج عليهم وبعد الظهر أيضًا مروا بثلاثة وعشرين أسيرًا وثمانية رؤوس وبعد العصر بثلاثة وعشرين رأسًا وأربعة وأربعين أسيرًا من ناحية باب الشعرية وطلعوا بالجميع إلى القلعة‏.‏

وفي يوم الأربعاء وصل إلى ساحل بولاق مراكب وفيها أسرى وقتلى وجرحى فطلعوا بهم إلى البر وساروا بهم على طريق باب النصر وشقوا بهم من وسط المدينة إلى الأزبكية فرشقوا الرؤس بالأزبكية مع الرؤس الأول وهي نحو المائة واثنين وأربعين والأحياء والمجاريح نحو المائتين وعشرين فطلعوا بهم إلى القلعة عند إخوانهم فكان مجموع الأسرى أربعمائة أسير وستة وستين أسيرًا والرؤس ثلثماثة ونيف وأربعون وفي الأسرى نحو العشرين من فسيالاتهم وهذه الوقعة حصلت على غير قياس وصادف بناؤها على غير أساس وقد أفسد الله رأي كل طائفة من الإنكليز والأمراء المصرية وأهل الإقليم المصري لبروز ما كتبه وقدره في مكنون غيبه على أهل الإقليم من الدمار الحاصل وما سيكون بعد كما ستسمع به ويتلى عليك بعضه أما فساد رأي الإنكليز فلتعديهم الإسكندرية مع قلتهم وسماعهم بموت الألفي وتغريرهم بأنفسهم وأما الأمراء المصريون فلا يخفى فساد رأيهم بحال وأما أهالي الإقليم فلانتصارهم لمن يضرهم ويسلب نعمهم وما أصاب من مصيبة فبما كسبت أيدي الناس وما أصابك من سيئة فمن نفسك ولم يخطر في الظن حصول هذا الواقع ولا أن الرعايا والعسكر لهم قدرة على حروب الإنكليز وخصوصًا شهرتهم بإتقان الحروب وقد تقدم لك أنهم هم الذين حاربوا الفرنساوية وأخرجوهم من مصر‏.‏

ولما شاع أخذهم الإسكندرية داخل العسكر والناس وهم عظيم وعزم أكثر العسكر على الفرار إلى جهة الشام وشرعوا في قضاء أشغالهم واستخلاص أموالهم التي أعطوها للمتضايقين والمستقرضين بالربا وإبدال ما بأيديهم من الدراهم والقروش والفرانسة التي يثقل حملها بالذهب البندقي والمحبوب الزر لخفة حملها حتى أنها زادت في المصارفة بسبب كثرة الطلب لها وبلغ صرف البندقي المشخص الناقص في الوزن أربعمائة وعشرين نصفًا والزر مائتين وعشرين والفرانسة مائتين واستمرت تلك الزيادة بعد ذلك وسيزيد الأمر محشًا وسعوا في مشترى أدوات الارتحال والأمور اللازمة لسفر البر وفارق الكثير منهم النساء وباعوا ما عندهم من الفرش الأمتعة حتى أن محمد علي باشا لما بلغه حصولهم بالإسكندرية وكان يحارب المصريين ويشدد عليهم فعند ذلك انحلت عزائمه وأرسل يصالحهم على ما يريدونه ويطلبونه وثبت في يقينه استيلاء الإنكليز على الديار المصرية وعزم على العود متلكئًا في السير يظن سرعة ورودهم إلى المجينة فيسير شرقًا على طريق الشام ويكون له عذر بغيبته في الجملة فلما وصلت الشرذمة الأولى من الإنكليز إلى رشيد ودخلوها من غير مانع وحبسوا أنفسهم فيها فقتلوا وأسروا وهرب من هرب ووصلت الرؤوس والأسرى وأسرعت في الحضور وترجعت نفوس العساكر وطمعوا عند ذلك في الإنكليز وتجاسروا عليهم وكذلك أهل البلاد قويت هممهم وتأهبوا للبروز والمحاربة واشتروا الأسلحة ونادوا على بعضهم بالجهاد وكثر المتطوعون ونصبوا لهم بيارق وأعلامًا وجمعوا من بعضهم دراهم وصرفوا على من انضم إليهم من الفقراء وخرجوا في مواكب وطبول وزمور فلما وصلوا إلى متاريس الإنكليز دهموهم من كل ناحية على غير قوانين حروبهم وترتيبهم وصدقوا في الحملة عليهم وألقوا أنفسهم في النيران ولم يبالوا برميهم وهجموا عليهم واختلطوا بهم وأدهشوهم بالتكبير والصياح حتى أبطلوا رميهم ونيرانهم فألقوا سلاحهم وطلبوا الأمان فلم يلتفتوا لذلك وقبضوا عليهم وذبحوا الكثير منهم وحضروا بالأسرى والرؤوس على الصور المذكورة وفر الباقون إلى من بقي بالإسكندرية وليت العامة شكروا على ذلك أو نسب إليهم فعل بل نسب كل ذلك للباشا وعساكره وجوزيت العامة بضد الجزاء بعد ذلك ولما أصعدوا الأسرى إلى القلعة طلع إليهم قنصل الفرنساوية ومعه الأطباء لمعالجة الجرحى ومهد لهم أماكن وميز الكبار منهم والفسيالات في مكان يليق بهم وفرش لهم فرشات ورتب لهم تراتيب وصرف عليهم فقات ولوازم واستمر يتعاهدهم في غالب الأيام والجرئحية يترددون إليهم في كل يوم لمداواتهم كما هي عادة الإفرنج مع بعضهم إذا وقع في أيديهم جرحى من المحاربين لهم فعلوا بهم ذلك وأكرموا الأسرى وأما من وقع منهم في أيدي العسكر من المردان فإنهم اختصوا بهم وألبسوهم من ملابسهم وباعوهم فيما بينهم ومنهم من احتال على الخلاص من يد الفاسق بحيلة لطيفة فمن ذلك أن غلامًا منهم قال للذي هو عنده أن لي بولصة عند قنصل الفرنساوية وهي مبلغ عشرون كيسًا ففرح وقال له أرنيها فأخرج له ورقة بخطم وهؤلاء يعرف ما فيها فأخذها منه طمعًا في إحرازها لنفسه وذهب مسرعًا إلى القنصل وأعطاها له فلما قرأها قال له لا أعطيك هذا المبلغ إلا بيد الباشا ويعطيني بذلك رجعة بختمه لتخلص ذمتي فلما صاروا بين يدي الباشا فأخبره القنصل فأمر بإحضار الغلام فلما حضر سأله الباشا فقال أريد الخلاص منه واحتلت عليه بهذه الحيلة لأتوصل إليه فطيب الباشا خاطر العسكري بدراهم وأرسل الغلام إلى أصحابه بالقلعة ولما انقضى أمر الحرب من ناحية رشيد وانجلت الإنكليز عنها ورجعوا إلى الإسكندرية نزل الأتراك على الحماد وما جاورها واستباحوا أهلها ونساءها وأموالها ومواشيها زاعمين أنها صارت دار حرب بنزول الإنكليز عليها وتملكها حتى أن بعض الظاهرين كلمهم في ذلك فرد عليه بذلك الجواب فأرسلوا إلى مصر بذلك وكتبوا في خصوص ذلك سؤلًا وكتب عليه المفتون بالمنع وعدم الجواز وحتى يأتي الترياق من العراق يموت الملسوع ومن يقرأ ومن يسمع وعلى أنه لم يرجع طالب الفتوى بل أهملت عند المفتي وتركها المستفتي ثم أحاطت العساكر ورؤساؤهم برشيد وضربوا على أهلها الضرائب وطلبوا منها الأموال والكلف الشاقة وأخذوا ما وجدوه بها من الأرز للعليق فخرج كبيرها اليد حسن كريت إلى حسن باشا وكتخدا بك وتكلم معهما وشنع عليهما وقال أما كفانا ما وقع لنا من الحروب وهدم الدور وكلف العسكر ومساعدتهم ومحربتنا معهم معكم وما قاسيناه من التعب والسهر وإنفاق المال ونجازي منكم بعدها بهذا الأفاعيل فدعونا نخرج بأولادنا وعيالنا ولا نأخذ معنا شيئًا ونترك لكم البلدة افعلوا بها ما شئتم فلاطفوه في الجواب وأظهروا له إليهتمام بالمناداة والمنع وكت المذكور أيضًا مكاتبات بمعنى ذلك وأرسلها إلى البلدة والسيد عمر بمصر فكتبوا فرمانًا وأرسلوه بالكف والمنع وهيهات ولما وصل من وصل بالقبلي والأسرى أنعم الباشا على الواصلين منهم بالخلع والبقاشيش وألبسهم شلنجات فضة على رؤوسهم فازداد جبروتهم وتعديهم ولما رجع الإنكليز إلى ناحية الإسكندرية قطعوا السد فسالت المياه وغرقت الأراضي حول الإسكندرية‏.‏

وفي يوم الأحد سابع عشره وصل ياسين بك إلى ناحية طرا وحضر أبوه إلى مصر ودخل كثير من أتباعه إلى المدينة وهم لابسون زي المماليك المصرية‏.‏

وفيه دفنوا رؤس القتلى من الإنكليز وكانوا قطعوا آذانهم ودبغوها وملحوها ليرسلوها إلى إسلامبول‏.‏

وفيه أرسل الباشا فسيالًا كبرًا من الإنكليز إلى الإسكندرية بدلًا عن ابن أخي عمر بك وقد كان المذكور سافر إلى الإسكندرية قبل الحادثة ليذهب إلى بلاده بما معه من الأموال فعوقه الإنكليز فأرسلوا هذا الفسيال ليرسلوا بدله ابن أخي عمر بك‏.‏

وفي يوم الاثنين ثامن عشره وصلت خيام ياسين بك وحملاته ونصبوا وطاقه جهة شبرا ومنية السيرج‏.‏

وفي سادس عشرينه وصل ياسين بك المذكور وصحبته سليمان آغا صالح وكيل دار السعادة سابقًا وهو الذي كان بإسلامبول وحضر بصحبته القبودان في الحادثة السابقة وتأخر عنه واستمر مع الألفي ثم مع أمرائه بعد موته وكان الباشا قد أرسل له يستدعيه بأمان فأجاب إلى الحضور بشرط أن يجري عليه الباشا مرتبه بالضربخانة وقدر ذلك ألف درهم في كل يوم فأجابه إلى ذلك وحضر صحبته ياسين بك وقبلا الباشا وخلع عليهما خلعتي سمور ونزلا وركبا ولعبا مع أجنادهما بوسط البركة بالرماح وظهر من حسن رماحة سليمان آغا ما أعجب الباشا ومن حوله من الأتراك بل أصابوه بأعينهم لأنه بعد انقضاء ذلك سار مع ياسين بك إلى ناحية بولاق يترامحون ويتلاعبون فأخرج طبنجته بيده اليمنى والرمح في يده اليسرى وكان زنادها مرفوعًا فانطلقت رصاصتها وخرقت كفه اليسار القابض به على سرع الجواد ونفدت من الجهة الأخرى فرجع إلى داره بجراحته وأذن له برد حملته وذهب ياسين بك إلى بولاق فبات بها في دار حسن الطويل بساحل النيل‏.‏

وفيه سافر المتسفر بآذان القتلى الإنكليز وقد وضعوها في صندوق وسافر بها على طريق الشام وصحبته أيضًا شخصان من أسرى فسيالات الإنكليز وكتبوا عرضًا بصورة الحال من إنشاء السيد إسمعيل الخشاب وبالغوا فيه‏.‏

وفي يوم الخميس ثامن عشرينه سافر عمر بك تابع عثمان بك الأشقر وعلي كاشف بن أحمد كتخدا إلى ناحية القليوبية لأجل القبض على أيوب فوده بسبب رجل يسمى زغلول ينسب إليه بأنه يقطع الطريق على المسافرين في البحر وكلما مرت بناحية مركب حاربها ونهب ما فيها من بضائع التجار وأموالهم أو أنهم يفتدون أنفسهم منه بما يرضيه من المال فكثر تشكي الناس منه فيرسلون إلى أيوب فوده كبير الناحية فيتبرأ منه فلما زاد الحال عينوا من ذكر للقبض عليه وقتله فبلغه الخبر فهرب من بلده أبناس فلما وصلوا إلى محله فلم يجدوه فأحاطوا بموجوداته وغلاله وبهائمه وماله من المواشي والودائع بالبلاد فلما جرى ذلك حضر إلى السيد عمر وصالح على نفسه بثلاثمائة كيس ورجع الحال إلى حاله وذلك خلاف ما أخذه المعينون من الكلف والمغارم من البلاد التي مروا عليها وأقاموا فيها واحتجوا عليها‏.‏

وفيه حضر الكثير من أهل رشيد بحريمهم وأولادهم ورحلوا عنها إلى مصر‏.‏

وفيه حضر كتخدا القاضي من عند الأمراء القبالي وأخبر أنهم محتاجون إلى مراكب لحمل الغلال الميرية والذخيرة فهيأ الباشا عدة مراكب وأرسلها إليهم مع هذه الصورة وإظهار المصالحة والمسالمة يمنعون ويحجزون من يذهب إليهم من دورهم بثياب ومتاع وكذلك يمنعون المتسببين والباعة الذين يذهبون بالمتاجر والأمتعة التي يبيعونها عليهم وإذا وقعوا بشخص أو غمزوا عليه عند الحاكم أو صادفه بعض العيون المترقبة عليه قبضوا عليه ونهبوا ما معه وعاقبوه وحبسوه بل ونهبوا داره وغرموه ولا يغفر ذنبه ولا تقال عثرته ويتبرأ منه كل من يعرفه وكذلك نبهوا على القلقات الذين يسمونهم الضوابط المقيدين بأبواب المدينة مثل باب النصر وباب الفتوح والبرقية والباب الحديد بمنع النساء عن الخروج خوفًا من خروج النساء القبالي وذهابهن إلى أزواجهن واتفق أنهم قبضوا على شخص في هذه الأيام يريد السفر إلى ناحية قبلي ومعه تليس ففتحوه فوجدوا بداخله مراكيب ونعالات مصرية ومغربية التي تسمى بالبلغ فقبضوا عليه واتهموه أنه يريد الذهاب بذلك إلى الأمراء وأتباعهم فنهبوا منه ذلك وغيره وقبضوا عليه وحبسوه واستمر محبوسًا وكذلك اتفق أن الوالي ذهب إلى جهة القرافة وقبض على أشخاص من التربية الذين يدفنون الموتى واتهمهم بأن بعض أتباع الأمراء القبالي يخرجون إليهم بالأمتعة لأسيادهم ويخفونها عندهم بداخل القبور حتى يرسلوها إلى أسيادهم في الغفلات وضربهم وهجم على دورهم فلم يجد بها شيئًا واجتمع عليه خدام الأضرحة وأهل القرافة وشنعوا عليه وكادوا يقتلونه فهرب منهم وحضروا في صبحها عند السيد عمر والمشايخ يشكون من الوالي وما فعله مع الحفارين ونحو ذلك فأعجب لهذا التناقض‏.‏

وفيه وصل مكتوب من كبير الإنكليز الذي بالإسكندرية مضمونه طلب أسماء الأسرى من الإنكليز والوصية بهم وإكرامهم كما هم يفعلون بالأسرى من العسكر فإنهم لما دخلوا إلى الإسكندرية أكرموا من كان بها منهم وأذنوا لهم بالسفر بمتاعهم وأحوالهم إلى حيث شاؤا وكذلك من أخذوه أسيرًا في حرابة رشيد‏.‏

واستهل شهر ربيع الأول بيوم السبت سنة 1222 فيه كتبوا لكبير الإنكليز جوابًا عن رسالته‏.‏

وفي يوم السبت خامس عشره حضر علي كاشف الكبير الألفي بكلام من طرف شاهين بك الألفي يعتذر عن التأخير إلى هذا الوقت وأنهم على صلحهم واتفاقهم الأول وحضورهم إلى ناحية الجيزة وبات تلك الليلة في بيته بمصر ثم أقام ثلاثة أيام ورجع إلى مرسله وصحبته سليمان آغا الوكيل‏.‏

وفيه حضر عابدين بك أخو حسن باشا من ناحية بحري وحضر أيضًا في أثره أحمد آغا لاظ وغيره من ناحية بحري وذلك أنهم ذهبوا خلف الإنكليز إلى قرب معدية البحيرة فخرج عليهم طائفة الإنكليز من البر والبحر وضربوا عليهم مدافع ونيرانًا كثيرة فولوا راجعين وحضروا إلى مصر‏.‏

وفيه حضر أيضًا الفسيال الكبير الإنكليزي الذي كان أرسل بدلًا عن ابن أخي عمر بك وقيل أنه ابن أخي صالح قوش فلما وصل إليهم أجابوا بأن المذكور سافر مع من سافر إلى الروم بمتاعهم وأموالهم قبل الواقعة حيث لم يكن المطلوب موجودًا فلا وجه لإبقاء الإنكليزي المذكور فردوه بعد أن رفعوا منزلته ورتبته عندهم فلما رجع إلى مصر خلى سبيله الباشا ولم يحبسه مع الأسرى بل أطلق له الإذن أيضًا في الرجوع إلى الإسكندرية أو إلى بلاده متى أحب واختار‏.‏

وفي منتصفه استوحش الباشا من ياسين بك وضاق خناقه منه وذلك أنه لما حضر إلى مصر وخلع عليه الباشا دفع إليه ما كان وعده به من الأكياس وقدم له ما تقادم وإنعامات على أنه يسافر إلى الإسكندرية لمحاربة الإنكليز وطلب مطالب كثيرة له ولأتباعه وأخذ لهم الكساوى والسراويلات وأخذ جميع ما كان عند جبجي باشا من الأقمشة والخيام والجبخانة والاحتياجات من القرب وروايا الماء ولوازم العسكر في سفر البر والإفازة والمحاصرة إلى غير ذلك وقلد أباه كشوفية الشرقية وخرج هو بعرضيه وخيامه إلى ناحية الحلي ببولاق فانضم إليه الكثير من العسكر والدلاتية وغيرهم وصار كل من ذهب إليه يكتبه من جملة عسكره فاجتمع عليه كل عاص وأزعر ومخالف وعاق وصرح بالخلاف وتطلعت نفسه للرياسة وكلما أرسل إليه الباشا يرده وينهاه عن فعله يعرض عن ذلك وداخله الغرور وانتشرت أوباشه يعبثون في النواحي وبث أكابر جنده في القرى والبلدان وعينهم لجمع الأموال والمغارم الخارجه عن المعقول ومن خالفهم نهبوا قريته وأحرقوها وأخذوا أهلها أسرى فعند ذلك أخذ الباشا في التدبير عليه واستمال العسكر المنضمين إليه وحل عرى رباطاته فلما كان في ليلة الأربعاء تاسع عشره أمر عساكر الأرنؤد بالاجتماع والخروج إلى ناحية بولاق فخرجوا بأجمعهم إلى نواحي السبتية والخندق وأحالوا بينه وبين بولاق ومصر‏.‏

وفي ليلة السبت ركب الباشا بجنوده وخرج تلك الناحية وحصن أبواب المدينة بالعساكر وأيقن الناس بوقوع الحرب بين الفريقين وأرسل الباشا إلى ياسين بك يقول له أن تستمر على الطاعة وتطرد عنك هذه اللموم وتكون من جملة كبار العسكر وإلا تذهب إلى بلادك وإلا فأنا واصل إليك ومحاربك فعند ذلك داخله الخوف وانحلت عزائم جيوشه وتفرق الكثير منهم فلما كان بعد الغروب طلب الركوب ولم يعلم عسكره أين يريد فركب الجميع وهم ثلاثة طوابير واشتبهت عليهم الطرق في ظلام الليل فسار هو بفريق منهم إلى ناحية الجبل على طريق حلق الجرة وفرقة سارت إلى ناحية بركة الحاج والثالثة ذهبت على طريق القليوبية وفيهم أبوه فلما علم الباشا بركوبهم ركب خلفهم وذهب خلف الطائفة التي توجهت إلى ناحية البركة حصة فلما علموا انفرادهم عن أميرهم رجعوا متفرقين في النواحي ورجع الباشا إلى داره ولم يزل ياسين بك في سيره حتى نزل بمن معه في التبين واستقر بها وأما أبوه فإنه التجأ إلى شيخ قليوب الشواربي فأخذ له أمانًا وأحضر في ثاني يوم الإلى الباشا فألبسه فروة وأمره أن يلحق بابنه فنزل إلى بولاق ونزل في مركب مسافرًا‏.‏

وفي يوم الاثنين رابع عشرينه عين الباشا عسكرًا ورؤساء عساكر وخيالة واصب معهم شديدًا وجملة من عرب الحويطات للحوق بياسين بك ومحاربته ولما نزل ياسين بك بناحية التبين نهب قرى الناحية بأسرها مثل التبين وحلوان وطرا والمعصرة والبساتين وفعلوا بها أفاعيلهم الشنيعة من السلب والنهب وأخذ النساء ونهب الأجران والغلال والأتبان والمواشي وأخذ الكلف الشاقة ومن عجز عن شيء من مطلوباتها أحرقوه بالنار‏.‏

وفي يوم الخميس رجع العسكر والعربان الذين كانوا ذهبوا لمحاربة ياسين بك وذلك أنهم لما قربوا من وطاقهم ارتحل إلى صول والبرنيل فولوا راجعين وتمموا في ذهابهم وإيابهم تدمير القرى‏.‏

وفيه ورد قاصد قابجي من إسلامبول وعلى يده مرسوم بالبشارة بولاية السيد علي باشا قبودان الدونتمه وتاريخه نحو ثلاثة أشهر فضربوا لقدومه المدافع من القلعة‏.‏

وفي يوم السبت تاسع عشرينه رجع سليمان آغا من قبلي إلى مصر وأخبر بقرب قدوم الأمراء المصريين وأن شاهين بك وصل إلى زارية المصلوب وإبراهيم بك جهة قمن العروس وأنهم واستهل شهر ربيع الثاني بيوم الاثنين 1222 فيه سافر مصطفى آغا والصابونجي إلى جهة قبلي وصحبتها كتخدا القاضي‏.‏

وفي سادسه وصل شخص ططري وعلى يده مرسوم فعمل الباشا ديوانًا وقرأ المرسوم بحضرة الجمع مضمونه أن العرضي الهمايوني الموجه لحرب الموسكوب خرج من إسلامبول وذهب إلى ناحية أدرنه وأن العساكر سارت لمحاربة الأعداء ويذكورن فيه أن بشائر النصر حاصلة وقد وصل رؤس قتلى وأسرى كثيرة وأنه بلغ الدولة ورود نحو الأربع عشرة قطعة من المراكب إلى ثغر الإسكندرية وأن الكائنين بالثغر ترخوا في حربهم حتى طلعوا إلى الثغر فمن اللازم إليهتمام وخروج العساكر لحروبهم ودفعهم وطردهم عن الثغر وقد أرسلنا البيورلديات إلى سليمان باشا والي صيدا وإلى يوسف باشا والي الشام بتوجيهه العساكر إلى مصر للمساعدة وإن لزم الحال لحضور المذكورين لتمام المساعدة على دفع العدو إلى آخر ما نقموه وسطروه محل القصد من ورود هذه البيولديات والفرمانات والأغوات والقبيجات إنما هو جر المنفعة لهم بما يأخذونه من خدمهم وحق طريقهم من الدراهم والتقادم والهدايا فإن القادم منهم إذا ورد استعدوا لقدومه فإن كان ذا قدر ومنزلة أعدوا له منزلًا يليق به ونظموه بالفرش والأداوت اللازمة وخصوصًا إذا كان حضر في أمر مهم أو لتقرير المتولي على السنة الجديدة أو بصحبته خلع رضا وهدايا فإنه يقابل بالإعزاز الكبير ويشاع خبره قبل وروده إلى الإسكندرية وتأتي المبشرون بورود من الططر قبل خروجه من دار السلطنة بنحو شهر أو شهرين ويأخذون خدمتهم وبشارتهم بالأكياس وإذا وصل هو أدخلوه في موكب جليل وعملوا له ديوانًا ومدافع وشنكًا وأنزل في المنزل المعد له وأقبلت عليه التقادم والهدايا من المتولي وأعيان دولته ورتب له الرواتب والمصاريف لمآكله وأتباعه لمطبخه وشراب حالته أيام مكثه شهر أو شهورًا ثم يعطى من الأكياس قدرًا عظيمًا وذلك خلاف هدايا الترحيلة من قدور الشربات المتنوعة والسكر المكرر وأنواع الطيب كالعود والعنبر والأقمشة الهنجية والمقصبات لنفسه ورجال دولته وإن كان دون ذلك أنزلوه بمنزل بعض الأعيان بأتباعه وخدمه ومتاعه في أعز مجلس ويقوم رب المنزل بمصروفهم ولوازمهم وكلفهم وما تستدعيه شهوات أنفسهم ويرون أن لهم المنة عليه بنزولهم عنده ولا يرون له فضلًا بل ذلك واجب عليه وفرض يلزمه القيام به مع التآمر عليه وعلى أتباعه ويمكث على ذلك شهورًا حتى يأخذ خدمته ويقبض أكياسه وبعد ذلك كله يلزم صاحب المنزل أن يقدم له هدية ليخرج من عنده شاكرًا ومثنيًا عليه عند مخدومه وأهل دولته أقضية يحار العقل والنقل في تصويرها‏.‏

وفي يوم الأحد سابعه وصلت القافلة والحجاج من ناحية القلزم على مرسى السويس وحضر فيها أغوات الحرم والقاضي الذي توجه لقضاء المدينة وهو المعروف بسعد بك وكذلك خدام الحرم المكي وقد طردهم الوهابي جميعًا وأما القاضي المنفصل فنزل في مركب ولم يظهر خبره وقاضي مكة توجه بصحبة الشاميين وأخبر الواصلون أنهم منعوا من زيارة المدينة وأن الوهابي أخذ كل ما كان في الحجرة النبوية من الذخائر والجواهر وحضر أيضًا الذي كان أميرًا على ركب الحجاج وصحبته مكاتبة من مسعود الوهابي ومكتوب من شريف مكة وأخبروا أنه أمر بحرق المحمل واضطربت أخبار الأخباريين عن الوهابي بحسب الأغراض ومكاتبة الوهابي بمعنى الكلام السابق في نحو الكراسة وذكر فيها ما ينسبونه الناس إليه من الأقوال المخالفة لقواعد الشرع ويتبرأ عنها‏.‏

وفيه ورد الخبر بأن إبراهيم بك وصل إلى بني سويف وأن شاهين بك ذهب إلى الفيوم لاختلاف وقع بينهم وأن أمين بك وأحمد بك الألفيين ذهبا إلى ناحية الإسكندرية للإنكليز‏.‏

وفيه كمل تحرير دفاتر الفرضة والمظالم التي ابتدعوها في العام الماضي على القراريط وإقطاعات الأراضي وكذلك أخذ نصف فائظ الملتزمين وعينوا المعينين لتحصيله من المزارعين ذلك خلاف ما فرضوه علىالبنادر من الأكياس الكثيرة المقادير‏.‏

وفي ذلك اليوم أرسل الآغا والي الشرطة أتباعهما لأرباب الصنائع والحرف والبوابين بالوكائل والخانات يأمرونهم بالحضور من الغد إلى بيت القاضي فانزعجوا من ذلك ولم يعلموا لأي شيء هذا الطلب وهذه الجمعية وباتوا متفكرين ومتوهمين فلما أصبح يوم الاثنين واجتمع الناس أبرزوا لهم مرسومًا قرئ عليهم بسبب زيادة صرف المعاملة وذلك أن الريال الفرانسة وصلت مصارفته إلى مائتين وعشرة من الأنصاف العددية والمحبوب إلى مائتين وعشرين وأكثر والمشخص البندقي وصل إلى أربعمائة وأربعين فضة ونحو ذلك فلما قرؤوا عليهم المرسوم وأمروهم بعدم الزيادة وأن يكون صرف الفراسة بمائتين فقط والمحبوب بمائتين وعشرين فضة والبندقي بأربعمائة وعشرين فلما سمعوا ذلك قالوا نحن ليس لنا علاقة بذلك هذا أمر منوط بالصيارف وانفض المجلس‏.‏

وفيه وصلت مكاتبة من إبراهيم بك ومن الرسل مضمونها الأخبار بقدومهم وأرسل إبراهيم بك يستدعي إليه ابنه الصغير وولد ابنته المسمى نور الدين ويطلب بعض لوازم وأمتعة‏.‏

وفي يوم السبت ثالث عشره سافر أولاد إبراهيم بك والمطلوبات التي أرسل بطلبها وصحبتهم فراشون وباعة ومتسببون وغير ذلك‏.‏

وفي يوم الاثنين ورد سلحدار موسى باشا وعلى يده مرسوم بالعربي وآخر بالتركي مضمونهما جواب رسالة أرسلت إلى سليمان باشا بعكا بخبر حادثة الإنكليز إلى ثغر سكندرية ودخولهم إليها بمخامرة أهلها ثم زحفهم إلى رشيد وقد حاربتهم أهل البلاد والعساكر وقتلوا الكثير منهم وأسروا منهم كذلك ونؤكد على محمد باشا والعلماء وأكابر مصر بالاستعداد والمحافظة وتحصين الثغور مثل السويس والقصير ومحاربة الكفار وإخراجهم وإبعادهم عن الثغر وقد وجهنا لكل من سليمان باشا وجنج يوسف باشا بتوجيه ما تريدون من العساكر للمساعدة ونحو ذلك‏.‏

وفيه أحضروا أربعة رؤوس من الإنكليز وخمسة أشخاص أحياء فمروا بهم من وسط المدينة ذكروا أن كاشف دمنهور حارب بناحية الإسكندرية فقتل منهم وأسر هؤلاء وقيل أنهم كانوا يسيرون لبعض أشغالهم نواحي الريف فبلغ الكاشف خبرهم فأحاط بهم وفعل بهم ما فعل وأرسلهم إلى مصر وهم ليسوا من المعتبرين وكأنهم مالطية وقيل أنهم سألوهم فقالوا نحن متسببون طلعنا ناحية أبي قير وتهنا عن الطريق فصادفونا ونحن تسعة لا غير فأخذونا وقتلوا منا من قتلوه وأبقونا‏.‏

وفيه وصلت مكاتبة من إبراهيم وأرسل الباشا إليهم جوابًا صحبة إنسان يسمى شريف آغا‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثالث عشرينه وردت أخبار من ناحية الشام بأنه وقع بإسلامبول فتنة بين الينكجرية والنظام الجديد وكانت الغلبة للينكجرية وعزلوا السلطان سليم وولوا السلطان مصطفى ابن عمه وهو ابن السلطان عبد الحميد بن أحمد وخطب له ببلاد الشام‏.‏

وفي يوم الخميس وصل ططري من طريق البر يتحقق ذلك الخبر وخطب الخطباء للسلطان مصطفى على منابر مصر وبلاد مصر وبولاق وذلك يوم الجمعة سادس عشرينه‏.‏

وفي أواخره أحدثوا طلب مال الأطيان المسموح الذي لمشايخ البلاد وحرروا به دفترًا وشرعوا في تحصيله وهي حادثة لم يسبق مثلها أضرت بمشايخ البلاد وضيقت عليهم معايشهم ومضايفهم‏.‏

وفيه كتبوا أورقًا للبلاد والأقاليم بالبشارة بتولية السلطان الجديد وعينوا بها المعينين وعليها حق الطرق مبالغ لها صورة وكل ذلك من التحيل على سلب أموال الناس‏.‏

وفيه كتبوا مراسلة إلى الأمراء القبليين بالصلح وأرسلوا بها ثلاثة من الفقهاء وهم الشيخ سليمان الفيومي والشيخ إبراهيم السجيني والسيد محمد الدواخلي وذلك أنه لما رجع شريف آغا الذي كان توجه إليهم بمراسلتهم أرسلوا يطلبون الشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير والسيد عمر النقيب لإجراء الصلح على أيديهم فأرسلوا الثلاثة المذكورين بدلًا عنهم‏.‏

وفي هذه الأيام كث خروج العساكر والدلاة وهم يعدون إلى البر الغربي وعدى الباشا بحر النيل إلى بر أنبابة وأقام هناك أيامًا‏.‏

فيه شرع الباشا في تعمير القلاع التي كانت أنشأتها الفرنساوية خارج بولاق وعمل متاريس بناحية منية عقبة وغيرها ووزع على الجيارة جيرًا كثيرًا ووسق عدة مراكب وأرسلها إلى ناحية رشيد ليعمروا هناك سورًا على البلد وأبراجًا وجمعوا البنائين والفعلة والنجارين وأنزلوهم في المراكب قهرًا‏.

وفي منتصفه وصل إلى مصر نحو الخمسمائة من الدلاتية أتوا من ناحية الشام ودخلوا إلى المدينة‏.‏

وفيه طلب الباشا من التجار نحو الألفي كيس على سبيل السلفة فوزعت على الأعيان وتجار البن وأهل وكالة الصابون ووكالة التفاح ووكالة القرب وخلافها وحجزوا البضائع وأجلسوا العساكر على الحواصل والوكائل يمنعون من يخرج من حاصله أو نخزنه شيئًا إلا بقصد الدفع من أصل المطلوب منهم ثم أردفوا ذلك بمطلوبات من أفراد الناس المساتير فيكون الإنسان جالسًا في بيته فما يشعر إلا والمعينون واصلون إليه وبيدهم بصلة الطلب إما خمسة أكياس أو عشرة أو أقل أو أكثر فإما أن يدفعها وإلا قبضوا عليه وسحبوه إلى السجن فيحبس ويعاقب حتى يتمم المطلوب فنه فنزل بالناس أمر عظيم وكرب جسيم‏.‏

وفي الناس من كان تاجرًا ووقف حاله بتوالي الفتن والمغارم وانقطاع الأسباب والأسفار وأفلس وصار يتعيش بالكد والقرض وبيع متاعه وأساس داره وعقاره واسمه باق في دفاتر التجار فما يشعر إلا والطلب لاحقه بنحو ما تقدم لكونه كان معروفًا في التجار فيؤخذ ويحبس ويستغيث فلا يغاث ولا يجد شافعًا ولا راحمًا وهذا الشيء خلاف الفرض المتوالية على البلاد والقرى في خصوص هذه الحادثة وكذكل على البنادر مقادير لها صورة وما يتبعها من حق طرق المعينين والمباشرين وتوالي مرور العساكر آناء الليل وأطراف النهار بطلب الكلف واللوازم وأشياء يكل القلم عن تسطيرها ويستحي الإنسان من ذكرها ولا يمكن الوقوف على بعض جزئياتها حتى خربت القرى وافتقر أهلها وجلوا عنها فكان يجتمع أهل عدة من القرى في قرية واحدة بعيدة عنهم ثم يلحقها وبالهم فتخرب كذلك وأما غالب بلاد السواحل فإنها خربت وهرب أهلها وهدموا دورها ومساجدها وأخذوا أخشابها ومن جملة أفاعيلهم الشنيعة التي لم يطرق الأسماع نظيرها أنهم قرروا فرضة من فرض المغارم على البلاد فكتبوا أوراقًا وسموها بشارة الفرضة يتولاها بعض من يكون متطلعًا لمنصب أو منفعة ثم يرتب له خدمًا وأعوانًا ثم يسافر إلى الإقليم المعين له وذلك قبل منصب الأصل وفي مقدمته يبعث أعوانه إلى البلاد يبشرونهم بذلك ثم يقبضون ما رسم لهم في الورقة من حق الطريق بحسب ما أدى إليه اجتهاده قليلًا أو كثيرًا وهذه لم يسمع بما يقاربها في ملة ولا ظلم ولا جور وسمعت من بعض من له خبرة بذلك أن المغارم التي وفي أواخره قوي عزم الباشا على السفر لناحية الإسكندرية وأمر بإحضار اللوازم والخيام وما يحتاج إليه الحال من روايا الماء والقرب وباقي الأدوات‏.‏

واستهل شهر جمادى الثانية بيوم الخميس سنة 1222 في ثانية وهو يوم الجمعة ركب الباشا إلى بولاق وعدى إلى ناحية بر أنبابة ونصبوا وطاقه هناك وخرجت طوائف العسكر إلى ناحية بولاق وساحل البحر وطفقوا يأخذون ما يجدونه من البغال والحمير والجمال واستمروا على الدخول والخروج والذهاب والمجيء والرجوع والتعدية أيامًا وهم على ذلك النسق من خطف البهائم وامتنعت المقاؤن عن نقل الماء من البحر حتى شح الماء وغلا سعره وعطشت الناس وامتنع حمل البضائع‏.‏

وفي ثالثه طلبوا أيضًا خيول الطواحين لجر المدافع والعربات حتى تعطلت الطواحين عن طحن الدقيق ولما ذهبوا بها إلى العرضي اختاروا منها جيادها وأعطوا أربابها عن كل فرس خمسين قرشًا وردوا البواقي لأصحابها‏.‏

وفيه طلبوا أيضًا دراهم من طائفة القبانية والحطابة وباعة السمك القديد المعروف بالفسيخ فكان القدر المطلوب من طائفة القبانية مائة وخمسين كيسًا فأغلقوا حوانيتهم وهربوا والتجؤا إلى الجامع الأزهر وكذلك الحطابة وغيرهم منهم من هرب ومنهم من التجأ إلى السيد عمر واستمر كذلك ثلاثة أيام وركب السيد عمر وعدى إلى الباشا وتشفع في الطوائف المذكورة فرفعوا عنهم غرامتهم وكتبوا لهم أمانًا بذلك‏.‏

وفي خامسه حضر قابجي من طرف الإنكليز وصحبته أشخاص فأنزلهم الباشا في خيمة بمخيمه بأنبابة فرقدوا بها ليأخذوا لهم راحة وناموا فلما استيقظا فلم يدوا ثيابهم وسطا عليها السراق فشلحوهم فأرسلوا إلى حارة الفرنساوية فأتوا لهم بثياب وقفوات لبسوها‏.‏

وفي يوم السبت مع ليلة الأحد حادي عشره عمل الفرنساوية عيدًا ومولدًا بحارتهم وأولموا بينهم ولائم وأوقدوا قناديل كثيرة تلك الليلة وحراقات نفوط وسواريخ وشنكًا حصة من الليل وهو عبارة عن مولد بونابارته السنوي‏.‏

وفي الثلاثاء ثالث عشرة

طلب الباشا حسين أفندي الروزنامجي فعدى إليه ببر أنبابة فخلع الدفتردارية وحضر إلى داره الجديد وهو بيت الهياتم بالقرب من قنطرة درب الجماميز وذهب إليه الناس يهنؤونه وانفصل أحمد أفندي عاصم عن الدفتردارية‏.‏

وفي يوم الخميس خامس عشره عمل الباشا شنكًا بالبر الغربي بين المغرب والعشاء ولما أصبح أمر بالارتحال وتمهل حتى تكامل ارتحال العساكر فركب قريب الزوال إلى المنصورة‏.‏

وفي يوم الجمعة سادس عشره الموافق لسادس مسرى القبطي أفي النيل أذرعه وذلك بعد أن حصل في الناس ضجر وقلق بسبب تأخر الوفاء عدة أيام حتى رفعوا الغلال من العرصات وزادت أثمانها فلما حصل الوفاء اطمأن الناس وتراجعت إليهم أنفسهم وأظهروا الغلال في العرصات والرفع وركب كتخدا بك في صبح يوم السبت وكذلك القاضي وطوسون ابن الباشا والسيد عمر النقيب وكسر السد بحضرتهم وجرى الماء في الخليج‏.‏

وفيه وصل قابجي إلى ثغر سكندرية وحضر بعد ذلك إلى ثغر بولاق من طريق البر إلى قبرص وتحرى الوصول إلى دمياط ثم حضر إلى بولاق وقابل الباشا في طريقه ووصل على يد مسكة ضرب المعاملة الجديدة بالضربخانه باسم السلطان الجديد وكذلك الأمر بالخطبة والدعاء والأخبار برفع النظام الجديد وإبطاله من إسلامبول ورجوع الوجاقات على قانونها الأول القديم ووصل في نيف وخمسين يومًا فاجتمعوا في صبحها يوم الأحد بباب الباشا وأحضروا الآغا بموكب ودخل من باب النصر وقرئ الفرمان بحضرة الجمع وضربوا شنكًا ومدافع من أبراج القلعة ثلاثة أيام في الأوقات الخمسة‏.‏

ومن الحوادث أنه ظهر في هذه الأيام رجل بناحية بنها العسل يدعى بالشيخ سليمان فأقام مدة في عشة بالغيظ واعتقد فيه الناس الولاية والسلوك والجذب فاجتمع إليه الكثير من أهل القرى وأكثرهم الأحداث ونصيبوا له خيمة وكثر جمعه وأقبلت عليه أهالي القرى بالنذور الهدلي وصار يكتب إلى النواحي أوراقًا يستدعي منهم القمح والدقيق ويرسلها مع المريدين يقول فيها الذي نعلم به أهل القرية الفلانية حال وصول الورقة إليكم تدفعون لحاملها خمسة أرداب قمح أو أقل أو أكثر برسم طعام الفقراء وكراء طريق المعين ثلاثون رغيفًا أو نحو ذلك فلا يتأخرون عن إرسال المطلوب في الحال وصال الذين حوله ينادون في تلك النواحي بقولهم لا ظلم اليوم ولا تعطوا الظلمة شيئًا من المظالم التي يطلبونها منكم ومن أتاكم فاقتلوه فكان كل من ورد من العسكر المعينين إلى تلك النواحي يطلب الكلف أو الفرض التي يفرضونها فزعوا عليه وطردوه وإن عاند قتلوه فثقل أمره على الكشاف والعسكر وصار له عدة خيام وأخصاص واجتمع لديه من المردان نحو المائة وستين أمرد وغالبهم أولاد مشايخ البلاد وكان إذا بلغه أن بالبلد الفلانية غلامًا وسيم الصورة أرسل يطلبه فيحضورنه إليه في الحال ولو كان ابن عظيم البلدة حتى صاروا يأتون من غير طلب ولا يخفى حال الإقليم المصري في التقليد في كل شيء وهذا من جنس المردنا وكذلك ذوو اللحى هم كثيرون أيضًا وعمل للمردان عقودًا من الخرز الملون في أعناقهم ولبعضهم أقراطًا في آذانهم ثم أن شيخًا من فقهاء الأزهر من أهالي بنها يقال له الشيخ عبد الله البنهاوي ادعى دعوى بطين مستأجره من أراضي بنها كان لأسلافه وأن الملتزمين بالقرية استولوا على ذلك الطين من غير حق لهم فيه بل بإغراء بعض مشايخ القرية والمذكور به رعونه ولم يحسن سبك دعواه وخصوصًا كونه مفلسًا وخليًا من الدراهم التي لا بد منها الآن في الجعالات والبراطيل للوسايط وأرباب الأحكام وأتباعهم ويظن في نفسه أنه يقضي قضيته يقال المصنف إكرامًا لعلمه ودرسه فتخاصم مع الملتزمين ومشايخ بلده وانعقدت بسببه مجالس ولم يحصل منها شيء سوى التشنيع عليه من المشايخ الأزهرية والسيد عمر النقيب ثم كتب له عرضحال ورفع أمره إلى كتخدا بك والباشا فأمر الباشا بعقد مجلس بسببه بحضرة السيد عمر والمشايخ وقالوا للباشا أنه غير محق وطردوه فسافر إلى بلده وسافر الباشا أيضًا إلى جهة البحيرة والإسكندرية فذهب الشيخ عبد الله المذكور إلى الشيخ سليمان المذكور وأغراه على الحضور إلى مصر وأنه متى وصل اجتمع عليه المشايخ وأهل البلدة وقابلوه ويكون على يده الفتح والفتوح وحركته خساف العقول المحيطون به والمجتمعون حوله على المجيء إلى مصر ويكون له شأن لأن ولايته اشتهرت بالمدينة ولهم في اعتقاد عظيم وحب جسيم ومن أوصاف ذلك الشيخ أنه لا يتكلم إلا بالذكر أو الكلام النزر الذي لا بد منه ويتكلم في أكثر أوقاته بالإشارة ثم إنه أطاع شياطينه وحضر برجاله وغلمانه ومعه طبول وكاسات على طريق مشايخ أهل العصر والأوان الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعًا ودخلوا إلى المدينة على حين غفلة وبأيديهم فراقل يفرقعون بها فرقعة متتابعة وصياح وجلبة ومن خلفهم الغلمان والبدايات وشيخهم في وسطهم فما زالوا في سيرم حتى دخلوا المشهد الحسيني وجلسوا بالمسجد يذكرون ودخل منهم طائفة إلى بيت السيد عمر مكرم النقيب وهم يفرقعون بما في أيديهم من الفرقلات فأقاموا بالمسجد إلى العصر ثم دعاهم إنسان من الأجناد يقال له إسماعيل كاشف أبو مناخير له في الشيخ المذكور اعتقاد فذهبوا معه إلى داره بعطفة عبد الله بك فعشاهم وباتوا عنده إلى الصباح فلما طلع النهار ركب الشيخ بغلة ذلك الجندي وذهب بطائفته إلى ضريح الإمام الشافعي فجلس بالمسجد أيضًا مع أتباعه يذكرون وبلغ خبره كتخدا بك وأمثاله فكتب تذكرة وأرسلها إلى السيد عمر النقيب بطلب الشيخ المذكور ليتبركوا به وأكد في الطلب وقصده أن يفتك بهم لقهرهم منه وعلم السيد عمر ما يراد به فأرسل يقول له إن كنت من أهل الكرامة فأظهر سرك وكرامتك وإلا فاذهب وتغيب وكان صالح آغا قوج لما بلغه خبره ركب في عسكره وذهب إلى مقام الشافعي وأراد القبض عليه فخوفه الحاضرون وقالوا له لا ينبغي لك التعرض له في ذلك المكان فإذا خرج فدونك إياه فانتظره بقصر شويكار فتباطأ الشيخ إلى قريب العصر وأشاروا عليه بالخروج من الباب القبلي وتفرقعنه الكثير من المجتمعين عليه فذهب إلى مقام الليث ابن سعد ثم سار من ناحية الجبل وذهبت بداياته وغلمانه إلى دار إسماعيل كاشف التي باتوا بها ولما سار إلى ناحية الصحراء لحقه الحاج سعودي الحناوي واقتفى أثره وبلغه رسالة السيد عمر ورجع إلى السيد عمر فوجد كتخدا بك ورجب آغا حضرا إلى السيد عمر يسألانه عنه ولم يكتفوا بالطلب الأول فأخبرهما أنه ذهب ولم تلحقه المراسيل فاغتاظوا وقالوا أنرسل إلى كاشف القليوبية بالقبض عليه أينما كان وانصرفوا ذاهبين وقصدت العساكر بيت إسماعيل كاشف أبو مناخير فقبضوا على الغلمان وأخذوهم إلى دورهم ولم ينج منهم إلا من كان بعيدًا وهرب وتغيب وتفرق أتباعه ذوو اللحى وأما الشيخ فسار من طريق الصحراء حتى وصل إلى بهتيم وذهب إلى نوب فعرف بمانه الشيخ عبد الله زقزوق البنهاوي الذي كان أغراه على الحضور إلى مصر ولما سقط في يده تبرأ عنه وذهب إلى كتخدا بك وطلب له أمانًا وأخبره أنه مختف بضريح الإمام الشافعي فأعطاه أمانًا وذهب إليه وأحضره من نوب فلما حضر عند الكتخدا قال له أرخ لحيتك واترك ما أنت عليه وأقم في بلدك وأعطيك طينًا تزرعه ولا تتعرض لأحد ولا أحد يتعرض لك والشيخ ساكت لا يتكلم وصحبته أربعة أنفار من تلاميذه هم الذين يخاطبون الكتخدا ويكلمونه ثم أمر أشخاصًا من العسكر فأخذوه وذهبوا به إلى بولاق وأنزلوه في مركب وانحدروا به ثم غابوا حصة وانقلبوا راجعين ثم بعد ذلك تبين أنهم قتلوه وألقوه في البحر إلا واحدًا من الأربعة ألقى بنفسه في البحر وسبح في الماء وطلع إلى البر وهرب وانفض أمره‏.‏

وفيه أرسل الباشا وهو بالرحمانية يطلب شيخ دسوق فحضر إليه طائفة من العسكر فلما أتوا إليه امتنع وقال ما يريد الباشا مني أخبروني بطلبه وأنا أدفعه إن كان غرامة أو كلفة فقالوا لا ندري وإنما أمرنا بإحضارك فشاغلهم بالطعام والقهوة ووزع بمائمه وحريمه والذي يخاف عليه وفي الوقت وصلت مراكب وبها عساكر وطلعوا إلى البر فركب شيخ البلد خيوله وخيالته واستعد لحربهم وحاربهم وأبلى معهم وقتل منهم عدة كبيرة ثم ولى هاربًا فدخل العسكر إلى البلد ونهبوها وأخذوا ما وجدوه في دور أهلها وعبروا مقام السيد الدسوقي وذبحوا من وجدوه من المجاورين وفيهم من طلبة العلم العواجز‏.‏

وفيه ركب كتخدا بك ومر على بيت الداودية وبه طائفة من الدلاة فرأى شخصًا منهم يرجم دجاجة بحجر ليرميها من سطح دار أخرى فانتهزه وأراد ضربه فقامت عليه رفقاؤه الدالاتية وفزعوا عليه فولى هاربًا منهم فعدوا خلفه ولم يزل رامحًا هو وأتباعه حتى وصل إلى ناحية الأزبكية‏.‏

واستهل شهر رجب بيوم الجمعة سنة 1222 في رابعه وردت مكاتبات من الباشا بوقوع الصلح بينه وبين الإنكليز وأتفقوا على خروجهم من الإسكندرية وخلوها ونزولهم منها وأرسل يطلب الأسرى من الإنكليز‏.‏

وفي عاشره ورد قابجي ويسمى نجيب أفندي فوصل إلى بولاق يوم الاثنين حادي عشره وكان وروده من ناحية دمياط فلما علم أن الباشا بناحية البحيرة ذهب إليه وقابله بدمنهور وبصحبته لخصوص الباشا قفطان وسيف وشلنج وخلع لكبار العسكر مثل حسن باشا طاهر وعابدين بك وعمر بك وصالح قوج فنزل ببيت محمد الطويل التتنجي ببولاق‏.‏

وفيه نزلوا بالأسرى من الإنكليز إلى المراكب ليسافروا إلى الإسكندرية‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثالث عشره وصل المبشر بنزول الإنكليز من ثغر الإسكندرية إلى المراكب ودخل إليها كتخدا بك ونزل بدار الشيخ المسيري واستمر الباشا مقيمًا عند السد‏.‏

وفي يوم السبت سادس عشره ركب القابجي من بولاق بالموكب وشق من وسط المدينة وذهب إلى بيت الباشا وضربوا لقدومه مجافع من القلعة‏.‏

وفي يوم الأربعاء سابع عشرينه ولد لمحمد علي باشا مولود من حظيته وحضر المبشرون بنزول الإنكليز من الإسكندرية ودخول الباشا بها فعملوا شنكًا وضربوا مدافع من القلعة ثلاثة أيام في الأوقات الخمسة آخرها السبت‏.‏

وفي يوم الخميس والجمعة والسبت وصلت عساكر كثيرة ودخلوا المدينة وطلبوا سكنى البيوت وأزعجوا الناس وأخرجوهم من أوطانهم وضجت الخلائق وحضر الكثير إلى السيد عمر طائفة من كبار العسكر وكلمهم في ذلك وقال لهم كل من كان ساكنًا قبل الخروج إلى العرضي في دار ليرجع إليها ويسكنها ولا تعارضوا الناس في مساكنهم فلم يفد كلامه في ذلك شيئًا لأن البيوت التي كانوا بها أخربوها وحرقوا أخشابها وتركوها كيمانًا وذلك دأبهم‏.‏

واستهل شهر شعبان بيوم السبت سنة 1222 في ثالثه يوم الاثنين وصل الباشا إلى ساحل بولاق فضربوا لقدومه مدافع من القلعة وعملوا له شنكًا ثلاثة أيام واتفق أن الباشا في حال رجوعه من الإسكندرية نزل في سفينة صغيرة وصحبته حسن باشا طاهر وسليمان آغا الوكيل سابقًا فانقلبت بهم وأشرف ثلاثتهم على الغرق وتعلق بعضهم بحرف السفينة فلحقتهم مركب أخرى أنقذتهم من الغرق وطلعوا سالمين وكان ذلك عند زفيتة‏.‏

وفيه كتبوا أواق البشارة بذهاب الإنكليز وسفرهم من الإسكندرية وأرسلوها إلى البلاد والقرى وعليها حق الطريق أربعة آلاف وألفين فضة وصورة ما حصل أنه لما وصل الباشا إلى ناحية الإسكندرية راسل الإنكليز وحضر إليه أنفار منهم واختلى معهم ولم يعلم أحد ما دار بينهم من الكلام وذهبوا من عنده وأشيع الصلح وفرحت العساكر لأنهم لما رأوا صورة المتاريس والطوابي والخنادق وجري المياه بين ذلك بالأوضاع المتقنة هالهم ذلك ثم حضر من عظمائهم أشخاص ولما علم الباشا بوصولهم رتب العساكر ونظم ديوانًا وهيأه وأوقف العساكر صفوفًا يمنة ويسرة وعندما وصلوا ضربوا لهم مدافع كثيرة وشنكًا وقدم لهم خيولًا وهدايا وأقمشة هندية وخلع عليهم خلعًا وشيلانًا كشميرية وغير ذلك ثم ركب معهم في قلة إلى حيث منزلة ساري عسكرهم وكبيرهم فتلاقى معهم وقدم لهم الآخر هدايا وظرائف ثم ركب معه إلى الإسكندرية وتسلم القلعة وذلك بعد دخول كتخدا بك بخمسة أيام وكان في أسرى الإنكليز أنفار من عظمائهم فأحضرهم الباشا مع باقي الأسرى وتم الصلح على رد المذكورين على أنهم لم يأتوا طمعًا في البلاد كما تقدم ولما نزلوا بالمراكب لم يبعدوا عن الثغر إلا مسافة قليلة واستمروا يقطعون على المراكب الواردين على الثغور وذلك لما بينهم وبين العثماني من المفاقمة‏.‏

هذا ما كان من أمر الإنكليز وأما العساكر فإنهم أفحشوا في التعدي على الناس وغصب البيوت من أصحابها فتأتي الطائفة منهم إلى الدار المسكونة ويدخلونها من غير احتشام ولا إذن ويهجمون على سكن الحرم بحجة أنهم يتفرجون على أعالي الدار فتصرخ النساء ويجتمع أهل الخطة ويكلمونهم فلا يلتفتون إليهم فيعالجونهم مرة بالملاطفة وأخرى بكثر الجمع إن كان بهم قوة أو بمعونة ذي مقدرة وإذا انفصلوا فلا يخرجون من الدار إلا بمصلحة أو هدية لها قدر ويشترطون في ذلك الشيلان الكشميري فإذا أحضروا لهم مطلوبهم فلا يعجب كبيرهم ويطلب خلافه أحمر أو أصفر واتفق أن بعضهم دخل عليه بينباشا بجماعته فلم يزل به حتى صالحه على شال يأخذه ويترك له داره فأتاه بشال أصفر فأظهر أنه لا يريد إلا الأحمر الدودة فلم يسعه إلا الرضا وأراد أن يرد الأصفر ويأتيه بالأحمر فحجزه وقال دعه حتى تأتي بالأحمر ضمه إلى الأصفر وأخذ الاثنين ثم انصرف عنه وذلك خلاف ما يأخذونه من الدراهم فإذا انصرفوا وظن صاحب الدار أنهم انجلوا عنه فيأتيه بعد يومين أو ثلاثة خلافهم ويقع في ورطة أخرى مثل الأولى أو أخف أو أعظم منها وبعضهم يدخل الدار ويسكنها بالتحيل والملاطفة مع صاحب الدار فيقول له يا أخي يا حبيبي أنا معي ثلاثة أنفار وأربعة لا غير ونحن مسافرون بعد عشرة أيام والقصد أن تفسح لنا نقيم في محل الرجال وأنت بحريمك في مكانهم أعلى الدار فيظن صدقهم ويرضى بذلك على تخوف وكره فيعبرون ويجلسون كما قالوا في محل الرجال ويربطون خيولهم في الحوش ويعلقون أسلحتهم ويقولون نحن صرنا ضيوفك فإذا أراد أن يرفع فرش المكان يقولون نحن نجلس على المحصير والبلتط وأي شيء يصيب الفرش فيتركه حياء وقهرًا ثم يطلبون الطعام والشراب فما يسعه إلا أن يتكلف لهم ذلك في أوقاته ويستعملون الأواني ويطلبون ما يحتاجون إليه مثل الطشت والإبريق وغير ذلك ثم تأتيهم رفقاؤهم شيئًا فشيئًا ويدخلون ويخرجون وبأيديهم الأسلحة ويضيق عليهم المكان فيقولون لصاحب المكان أخل لنا محلًا آخر في الدار فوق لرفقاتنا فإن قال ليس عندنا محل آخر أو قصر في مطلوب ابتداؤه بالقسوة فعند ذلك يعلم صاحب الدار أنهم لا انفكاك لهم عن المكان وربما مضت العشرة أيام أو أقل أو أكثر وظهرت قبائحهم وقذروا المكان وأحرقوا البسط والحصر بما يتساقط عليها من الجمر من شربهم النارجيلات والتنباك والدخان وشربوا الشراب وعربدوا وصرخوا وصفقوا وغنوا بلغاتهم المختلفة وفقعت رائحة العرقي في المنزل فيضيق صدر الرجل وصدر أهل بيته ويطيب خاطرهم على الخروج والنقلة فيطلبون لأنفسهم مسكنًا ولو مشتركًا عند أقاربهم ومعارفهم وتخرج النساء في غفلة بثيابهن وما يمكنهن حمله ثم يشرعون في إخراج المتاع والأواني والنحاس والفرش فيحجزونه منهم ويقولون إذا أخذتم ذلك فعلى أي شيء نجلس وفي أي شيء نطبخ وليس معنا فرش ولا نحاس والذي كانمعنا استهلك منا في السفر والجهاد ودفع الكفار عنكم وأنتم مستريحون في بيوتكم وعند حريمكم فيقع النزاع وينفصل الأمر بينهم وبين صاحب الدار إما بترك الدار بما فيها أو بالمقاسمة والمصالحة بالترجي والوسايط ونحو ذلك وهذا الأمر يقع لأعيان الناس والمقيمين بالبلدة من الأمراء والأجناد المصريين وأتباعهم ونحوهم ثم أنهم تعدوا إلى الحارات والنواحي التي لم يتقدم لهم السكنى بها من قبل ذلك مثل نواحي المشهد الحسيني وخلف الجامع المؤيدي والخرنفش والجمالية حتى ضاقت المساكن بالناس لقلتها وصار بعض المحتشمين إذا سكن بجواره عسكر يرتحل من داره ولو كانت ملكه بعد أمن جوارهم وخوفًا من شرهم وتسلقهم على الدار لأنهم يصعدون على الأسطح والحيطان ويتطلعون على من بجوارهم ويرمون بالبندقيا والطبنجات ومما اتفق أن كبيرًا منهم دخل بطائفته إلى منزل بعض الفقهاء المعتبرين وأمره بالخروج منها ليسكن هو بها فأخبره أنه من مشايخ العلم فلم يلتفت لقوله فتركه ولبس عمامته وركب بغلته وحضر إلى إخوانه المشايخ واستغاث بهم فركب معه جماعنه منهم وذهبوا إلى الدار ودخلوا إليها راكبين بغالهم فعندما شاهدهم العسكر وهم واصلون في كبكبة أخذوا أسلحتهم وسحبوا عليهم السيوف فرجع البعض هاربًا وثبت الباقون ونزلوا عن بغالهم وخاطبوا كبيرهم وعرفوه أنها دار العالم الكبير وهذا لا يناسب وأن النصارى واليهود يكرمون قسسهم ورهبانهم وأنتم أولى لأنكم مسلمون فقالوا لهم في الجواب أنتم لستم بمسلمين لأنكم كنتم تتمنون تملك النصارى لبلادكم وتقولون أنهم خير منا ونحن مسلمون ومجاهدون طردنا النصارى وأخرجناهم من البلتد فنحن أحق بالدور منكم ونحو ذلك من القول الشنيع ثم لم يزالوا في معالجتهم إلى ثاني يوم ولم ينصرفوا عن الدار حتى دفعوا لهم مأتي قرش وشال كشمير لكبيرهم وفعل مثل ذلك بعدة بيوت دخلها على هذه الصورة وأخذ منها أكثر من ذلك ومنها دار إسماعيل أفندي صاحب العيار بالضربخانة وهو رجل معتبر أخذ منه خمسمائة قرش وشال كشمير وفعل مثل ذلك بغيرهم هو و أمثاله ولما أكثر الناس من التشكي للباشا وللكتخدا قال الكتخدا أناس قاتلوا وجاهدوا أشهرًا وأيامًا وقاسوا ما قاسوه في الحر والبرد والطل حتى طردوا عنكم وأجلوهم عن بلاد أفلا تسعونهم في السكنى ونحو ذلك من القول‏.‏

ولما انقضى هذا الأمر واستقر الباشا واطمأن خاطره وخلص له الإقليم المصري وثغر الإسكندرية الذي كان خارجًا عن حكمه حتى قبل مجيء الإنكليز فإن الإسكندرية كانت خارجة عن حكمه فلما حصل مجيء الإنكليز وخروجهم صار الثغر في حكمه أيضًا فأول ما بدأ به أن أبطل مسموح المشايخ والفقهاء معًا في البلاد التي التزموا بها لأنه لما ابتدع المغارم والشهريات والفرض التي فرضها على القرى ومظالم الكشوفية جعل ذلك عامًا على جميع الالتزامات والحصص التي بأيدي جميع لناس حتى أكابر العسكر وأصاغرهم ما عدا البلاد والحصص التي للمشايخ خارجة عن ذلك ولا يؤخذ منها نصف الفائظ ولا ثلثه ولا ربعه وكذلك من ينتسب لهم أو يحتمي فيهم ويأخذون الجعالات والهدايا من أصحابها ومن فلاحيهم تحت حمايتها ونظير صيانتها واغتروا بذلك واعتقدوا دوامه وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المنجلحين بدون القيمة وافتتنوا بالدنيا وهجروا مذاكرة المسائل ومدارسة العلم إلا بمقدار حفظ الناموس مع ترك العمل بالكلية وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء الألوف الأقدمين واتخذوا الخدم والمقدمين وأعوان وأجروا الحبس والتعزيز والضرب بالفلقة والكرابيج المعروفة بزب الفيل واستخدموا كتبة الأقباط وقطاع الجرائم في الإرساليات للبلاد وقدروا حق طرق لأتباعهم وصارت لهم استعجالات وتحذيرات وإنذارات عن تأخر المطلوب مع عدم سماع شكاوى الفلاحين ومخاصمتهم القديمة مع بعضهم بموجبات التحاسد والكراهية المجبولة والمركوزة في طباعهم الخبيثة وانقلب الوضع فيهم بضده وصار ديدنهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية والحصص والالتزام وحساب الميري والفائظ والمضاف والرماية والمرافعات والمراسلات والتشكي والتنجي مع الأقباط واستدعاء عظمائهم في جمعياتهم وولائنهم والاعتناء بشأنهم والتفاخر بتردادهم والتردد عليهم والمهاداة فيما بينهم إلى غير ذلك مما يطول شرحه وأوقع مع ذلك زيادة عما هو بينهم من التنافر والتحاسد والتحاقد على الرياسة والتفاقم والتكالب على سفاسف الأمور وحظوظ الأنفس على الأشياء الواهية مع ما جلبوا عليه من الشح والشكوى والاستجداء وفراغ الأعين والتطلع للأكل في ولائم الأغنياء والقراء والمعاتبة عليها إن لم يدعوا إليها والتعريض بالطلب وإظهار الاحتياج لكثرة العيال والأتباع واتساع الدائرة وارتكابهم الأمور المخلة بالمروءة المسقطة للعدالة كالاجتماع في سماع الملاهي والأغاني والقيان والآلات المطربة وإعطاء الجوائز والنقوط بمناداة الخلبوص وقوله واعلاماه في السامر وهو يقول في سامر الجمع بمسمع من النساء والرجال من عوام الناس وخواصهم برفع الصوت الذي يسمعه القاضي والداني وهو يخاطب رئيسة المغاني يا ستي حضرة شيخ الإسلام والمسلمين مفيد الطالبين الشيخ العلامة فلان منه كذا وكذا من التصفيات الذهب قدر مسماه كثير وجرمه قليل نتيجته التفاخر الكذب والازدراء بمقام العلم بين العوام وأوباش الناس الذين اقتدوا بهم في فعل المحرمات الواجب عليهم النهي عنها كل ذلك من غير احتشام ولا مبالاة مع التضاحك والقهقهة المسموعة من البعد في كل مجمع ومواظبتهم على الهزليات والمضحكات وألفاظ الكتابة المعبر عنها عند أولاد البلد بالأنقاط والتنافس في الأحداث إلى غير ذلك‏.‏

وفيه فتحوا الطلب من الملتزمين ببواقي الميري على أربع سنوات ماضية‏.‏

وفي عاشره فتحوا أيضًا دفاتر الطلب بميري السنة القابلة ووجهوا الطلب بها إلى العسكر فدهى الناس بدواه متوالية منها خراب القرى بتوالي المظالم والمغارم والكلف وحق الطرق والاستعجالات والتساويف والبشارات فكان أهل القرية النازل بها ذلك ينتقلون إلى القرية المحمية لشيخ من الأشياخ وقد بطلت الحماية أيضًا حينئذ ثم أنزلوا بالبنادر مغارم عظيمة لها قدر من الأكياس الكثيرة وذلك عقب فرصة البشارة مثل دمياط ورشيد والمحلة والمنصورة مائة كيس وفي أثناء ذلك قرروا أيضًا فرضة غلال وسمن وشعير وفول على البلاد والقرى وإن لم يجد المعينون للطلب شيئًا من الدراهم عند الفلاحين أخذوا مواشيهم وأبقارهم لتأتي أربابها ويدفعوا ما تقرر عليهم ويأخذوها ويتركونها بالجوع والعطش فعند ذلك يبيعونها على الجزارين ويرمونها عليهم قهرًا بأقصى القيمة ويلزمونهم بإحضار الثمن فإن تراخوا وعجزوا شددوا عليهم بالحبس والضرب‏.‏ وفي

يوم الخميس ثالث عشرة

مر الباشا في ناحية سويقة العزي سائرًا إلى ناحية بيت بلغيا وهناك المكتب فوق السبيل الذي بين الطريقين تجاه من يأتي من تلك الناحية فطلع إلى ذلك المكتب شخصان من العسكر يرصدان الباشا فر مروره فحيثما أتى مقابلًا لذلك المكتب أطلقا في وجهه برودتين فأخطأتاه وأصابت إحدى الرصاصتين فرس فارس من الملازمين حوله فسقط ونزل الباشا عن جواده على مصطبة حانوت مغلقة وأمر الخدم بإحضار الكامنين بذلك المكتب فطلعوا إليهما وقبضوا عليهما ثم حضر كبيرهم من دار قريبة من ذلك المكان واعتذر إلى الباشا بأنهما مجنونان وسكرانان فأمره بإخراجهما وسفرهما من مصر وركب وذهب إلى داره‏.‏

وفي يوم الاثنين ثالث عشرينه اجتمع عسكر الأرنؤد والترك على بيت محمد علي باشا وطلبوا علائفهم فوعدهم بالدفع فقالوا لا نصبر وضربوا بنادق كثيرة ولم يزالوا واقفين ثم انصرفوا وتفرقوا وارتجت البلد وأرسل السيد عمر إلى أهل الغورية والعقادين والأسواق يأمرهم برفع بضائعهم من الحوانيت ففعلوا وأغلقوها فلما كان قبيل الغروب وصل إلى بيت الباشا طائفة من الدلاتية وضربوا أيضًا بنادق فضرب عليهم عسكر الباشا كذلك فقتل من الدلاة أربعة أنفار وانجرح بعضهم فانكفوا ورجعوا وبات الناس متخوفين وخصوصًا نواحي الأزهر وأغلقوا البوابات من بعد الغروب وسهروا خلفها بالأسلحة ولم تفتح إلا بعد طلوع الشمس وأصبح يوم الثلاثاء والحال على ما هو عليه من الاضطراب ونقل الباشا أمتعته الثمينة تلك الليلة إلى القلعة وكذلك في ثاني يوم ثم أنه طلع إلى القلعة في ليلة الأربعاء وشيعه حسن باشا إلى القلعة ورجع إلى داره ويقال أن طائفة من العسكر الذين معه بالدار أرادوا غدره تلك الليلة وعلم ذلك منهم بإشارة بعضهم لبعض رمزًا فغالطهم وخرج مستخفيًا من البيت ولم يعلم بخروجه إلا بعض خواصه الملازمين له وأكثرهم أقاربه وبلدياته ولما تحققوا من خروجه من الدار وطلوعه إلى القلعة صرف بونابارته الخازندار الحاضرين في الحال ونقل الأمتعة والخزينة في الحال وكذلك الخيول والسروج وخرجت عساكره يحملون ما بقي من المتاع والفرش والأواني إلى القلعة وأشيع في البلدة أن العساكر نهبوا بيت الباشا وزاد اللغط والاضطراب ولم يعلم أحد من الناس حقيقة الحال حتى ولا كبار العسكر وزاد تخوف الناس من العسكر وحصل منهم عربدات وخطف عمائم وثياب وقتل أشخاص وأصبح يوم الخميس وباب القلعة مفتوح والعساكر مرابطون وواقفون بأسلحتهم وطلع أفراد من كبار العسكر بدون طوائفهم ونزلوا واستمر الحال على ذلك يوم الجمعة والعسكر والناس في اضطراب وكل طائفة متخوفة من الأخرى والأرنؤد فرقتان فرقة تميل إلى الأتراك وفرقة تميل إلى جنسها والدلاة تميل إلى الأتراك وتكره الأرنؤد وهم كذلك والناس متخوفة من الجميع ومنهم ومن يخشى من قيام الرعية ويظهر التودد لهم وقد صاروا مختلطين بهم في المساكن والحارات وتأهلوا وتزوجوا منهم‏.‏

وفي يوم السبت طلع طائفة من المشايخ إلى القلعة وتكلموا وتشاوروا في تسكين هذا الحال بأي وجه كان ثم نزلوا‏.‏

وفي ليلة الأحد كانت رؤية هلال رمضان فلم يعمل الموسم المعتاد وهو الاجتماع ببيت القاضي وما يعمل به من الحراقة والنفوط والشنك وركوب المحتسب ومشايخ الحرف والزمور والطبول واجتماع الناس للفرجة بالأسواق والشوارع وبيت القاضي فبطل ذلك كله ولم تثبت الرؤية تلك الليلة وأصبح يوم الأحد والناس مفطرون فلما كان وقت الضحوة نودي بالإمساك ولم تعلم‏.‏

واستهل شهر رمضان بيوم الاثنين سنة 1222 وفي ليلته بين العصر والمغرب ضربوا مدافع كثيرة من القلعة وأردفوا ذلك بالبنادق الكثيرة المتتابعة وكذلك العسكر الكائنون بالبلدة فعلوا كفعلهم من كل ناحية ومن أسطحة الدور والمساكن وكان شيئًا هائلًا واستمر ذلك إلى بعد الغروب وذلك شنك لقدوم رمضان في دخوله وانقضائه‏.‏

وفي رابعه انكشفت القضية عن طلب مبلغ ألفي كيس بعد جمعيات ومشاورات تارة ببيت السيد عمر النقيب وتارة في أمكنة أخرى كبيت السيد المحروقي وخلافه حتى رتبوا ذلك ونظموه فوزع منه جانب على رجال دائرة الباشا وجانب على المشايخ الملتزمين نظير مسموحهم في فرض حصصهم التي أكلوها وهي مبلغ مائتي كيس وزعت على القراريط على كل قيراط ثلاثة آلاف نصف فضة على سبيل القرض لأجل أن ترد أو تحسب لهم في الكشوفات من رفع المظالم ومال الجهات يأخذونها من فلاحيهم وفرض من ذلك مبالغ على أرباب الحرف وأهل الغورية ووكالة الصابون ووكالة القرب والتجار الآفاقية واستقر ديوان الطلب ببيت ابن الصاوي بما يتعلق بالفقهاء وإسماعيل الطوبجي بالمطلوب من طائفة الأتراك وأهل خان الخليلي والمرجع في الطلب والدفع والرفع إلى السيد عمر النقيب واجتمع كثير من أهل الحرف كالصرماتية وأمثالهم والتجؤا إلى الجامع الأزهر وأقاموا به ليالي وأيامًا فلم ينفعهم ذلك وانبث المعينون بالطلب وبأيديهم الأوراق بمقدار المبلغ المطلوب من الشخص وعليها حق الطريق وهم قواسة أتراك وعسكر ودلاة وقواسة بلدي ودهى الناس بهذه الداهية في الشهر المبارك فيكون الإنسان نائمًا في بيته ومتفكرًا في قوت عياله فيدهمه الطلب ويأتيه المعين قبل الشروق فيزعجه ويصرخ عليه بل ويطلع إلى جهة حريمه فينتبه كالمفلوج من غير اصطباح ويلاطف المعين ويعده ويأخذ بخاطره ويدفع له كراء طريقة المرسوم له في الورقة المعين بها المبلغ المطلوب قبل كل شيء فما يفارقه إلا ومعين آخر واصل إليه على النسق المتقدم وهكذا‏.‏

وفيه حضر محمد كتخدا شاهين بك الألفي بجواب عن مراسلة أرسلها الباشا إلى مخدومه فأقام أيامًا يتشاور مع الباشا في مصالحته مع شاهين بك وحصل الاتفاق على حضور شاهين بك إلى الجزيرة ويتراضى مع الباشا على أمر وسافر في ثاني عشره وصحبته صالح آغا السلحدار‏.‏

وفي يوم الخميس ثامن عشره قصد الباشا نفي رجب آغا الأرنؤدي وأرسل إليه يأمره بالخروج والسفر بعد أن قطع خرجه وأعطاه علوفته فامتنع من الخروج وقال أنا لي عنده خمسون كيسًا ولا أسافر حتى أقبضها وذلك أنه في حياة الألفي الكبير اتفق مع الباشا بأن يذهب عند الألأفي وينضم إليه ويتحيل في اغتياله وقتله فإن فعل ذلك وقتله وتمت حيلته عليه أعطاه خمسين كيسًا فذهب عند الألفي والتجأ إليه وأظهر أنه راغب في خدمته وكره الباشا وظلمه فرحب به وقبله وأكرمه مع التحذر منه ظلمًا طال به الأمد ولم يتمكن من قصده رجع إلى الباشا فلما أمره بالذهاب أخذ يطالبه بالخمسين كيسًا فامتنع الباشا وقال جعلت له ذلك في نظير شيء يفعله ولم يخرج من يده فعله فلا وجه لمطالبته به واستمر رجب آغا في عناده وذلك أنه لا يهون بهم مفارقة مصر التي صاروا فيها أمراء وأكابر بعد أن كانوا يحتطبون في بلادهم ويتكسبون بالصنائع الدنيئة ثم أنه جمع جيشه إليه من الأرنؤد بناحية سكنه وهو بيت حسن كتخدا الجربان بباب اللوق فأرسل إليه الباشا من يحاربه فحضر حسن آغا سرششمه من ناحية قنطرة باب الخرق وحضر أيضًا الجم الكثير من الأتراك وكبرائهم من جهة المدابغ وعمل كل منهم متاريس من الجهتين وتقدموا قليلًا حتى قربوا من مساكن الأرنؤد تجاه بيت البارودي فلم يتجاسروا على الإقدام عليهم من الطريق بل دخلوا من البيوت التي في صفهم ونقبوا من بيت إلى آخر حتى انتهوا إلى أول منزل من مساكنهم فنقبوا البيت الذي يسكن به الشيخ محمد سعد البكري ونفذوا منه إلى المنزل الذي بجواره ثم منه إلى منزل علي آغا الشعراوي إلى بيت سيدي محمد وأخيه سيدي محمود المعروف بأبي دفية الملاصق لمسكن طائفة من الأرنؤد وعبثوا في الدور وأزعجوا أهلها بقبح أفعالهم فإنهم عندما يدخلون في أول بيت يصعدون إلى الحريم بصورة منكرة من غير دستور ولا استئذان وينقبون في مساكن الحريم العليا فيهدمون الحائط ويدخلون منها إلى محل حريم الدار الأخرى وتصعد طائفة منهم إلى السطح وهم يرمون بالبنادق في الهواء في حال مشيهم وسيرهم وهكذا ولا يخفى ما يحصل للنساء من الانزعاج ويصرن يصرخن ويصحن بأطفالهن ويهربن إلى الحارات الأخرى مثل حارة قواديس وناحية حارة عابدين بظاهر الدور المذكورة بغاية الخوف والرعب والمشقة وطفقت العساكر تنهب الأمتعة والثياب والفرش ويكسرون الصناديق ويأخذون ما فيها ويأكلون ما في القدور من الأطعمة في نهار رمضان من غير احتشام ولقد شاهدت أثر قبح فعلهم ببيت أبي دفية المذكور من الصناديق المكسرة وانتشار حشو الوسائد والمراتب التي فتقوها وأخذوا ظروفها ولم يسلم لأصحاب المساكن سوى ما كان لهم خارج دورهم وبعيدًا عنها أو وزعوه قبل الحادثة وأصيب محمد أفندي أبو دفية برصاصة أطلقها بعضهم من النقيب الذي نقب عليهم نفذت من كتفه وكذلك فعل العساكر التي أتت من ناحية المدابغ بالبيوت الأخرى واستمروا على هذه الأفعال ثلاثة أيام بلياليها فلما كان ليلة الاثنين ثاني عشرينه حضر عمر بك كبير الأرنؤد الساكن ببولاق وصالح قوج إلى رجب آغا المذكور وأركباه وأخذاه إلى بولاق وبطل الحرب بينهم ورفعوا المتاريس في صبحها وانكشفت الواقعة عن نهب البيوت ونقبها وإزعاج أهلها وما فيما بينهم أنفار قليلة وكذلك مات أناس وانجرح أناس من أهل البلد‏.‏

وفي يوم السبت وصل شاهين بك الألفي إلى دهشور ووصل صحبته مراكب بها سفار وهدية من إبراهيم بك ومحمد بك المرادي المعروف بالمنفوخ برسم الباشا وهي نحو الثلاثين حصانًا ومائة قنطار بن قهوة ومائة قنطار سكر وأربع خصيهن وعشرون جارية سوداء فلما وصل شاهين بك إلى دهشور فحضر محمد كتخداه وعلي كاشف الكبير فأرسل الباشا إليه صحبتهما هدية ومعهما ولده وديوان أفندي‏.‏

وفي خامس عشرينه سافر رجب آغا وتخلف عنه كثير من عساكره وأتباعه وذهب من ناحية دمياط‏.‏

وفيه حضر ديوان أفندي من دهشور وابن الباشا أيضًا وخلع شاهين بك على ابن الباشا فردة وقدم له تقدمة وسلاحًا نفيسًا إنكليزيًا‏.‏

وفي ثاني عشرينه وصل شاهين بك إلى شبرامنت وقد أمر الباشا بأن يخلوا له الجيزة وينتقل منها الكاشف والعسكر فعدى الجميع إلى البر الشرقي وتسلم علي كاشف الكبير الألفي القصر وما حوله وما به من الجبخانة والمدافع وآلات الحرب وغيرها‏.‏

واستهل شهر شوال بيوم الثلاثاء سنة 1222 ولم يعمل العسكر شنكهم تلك الليلة من رميهم الرصاص والبارود الكثير المزعج من سائر النواحي والبيوت والأسطحة لانقباض نفوسهم وإنما ضربوا مدافع من القلعة مدة ثلاثة أيام العيد وفي خامسه اعتنى الباشا بتعمير القصر لسكن شاهين بك بالجيزة وكان العسكر أخربوه وكذلك بيوت الجيزة ولم يتركوا بها دارًا عامرة إلا القليل فرسم الباشا للمعمارجية بعمارة القصر فجمعوا البنائين والنجارين والخراطين وحملوا الأخشاب من بولاق وغيرها وهدموا بيت أبي الشوارب وأحضروا الجمال والحمير لنقل أخشابه وأنقاضه وأخرجوا منه أخشابًا عظيمة في غاية العظم والثخن ليس لها نظير في هذا الوقت والأوان‏.‏

وفي سابعه حضر شاهين بك إلى بر الجيزة وبات بالقصر وضربوا لقدومه مدافع كثيرة من الجيزة وعمل له جربجي موسى الجيزاوي وليمة وفرض مصروفها وكلفتها على أهل البلدة وأعطاه الباشا إقليم الفيوم بتمامه التزامًا وكشوفية وأطلق له فيها التصرف وأنعم عليه أيضًا بثلاثين بلدة من إقليم البهنا مع كشوفيتها وعشرة بلاد من بلاد الجيزة من البلاد التي ينتقيها ويختارها وتعجبه مع كشوفية الجيزة وكتب له بذلك تقاسيط ديوانية وضم له كشوفية البحيرة بتمامها إلى حد الإسكندرية وأطلق له التصرف في جميع ذلك ومرسوماته نافذة في سائر البر الغربي‏.‏

وفي صبح يوم الأربعاء تاسعه ركب السيد عمر أفندي النقيب والمشايخ وطلعوا إلى القلعة باستدعاء إرسالية أرسلت إليهم في تلك الليلة فلما طلعوا إلى القلعة ركب معهم ابن الباشا طوسون بك ونزل الجميع وساروا إلى ناحية مصر القديمة وكان شاهين بك عدى إلى البر الشرقي بطائفة من الكشاف والمماليك والهوارة فسلموا عليه وكان بصحبتهم طائفة من الدلاة ساروا أما القوم بطبلاتهم وسفافيرهم ومن خلفهم طائفة من الهوارة ومن خلفهم الكشاف والمماليك والسيد عمر النقيب والمشايخ ثم شاهين بك وبجانبه ابن الباشا وخلفهم الطوائف والأتباع والخدم وخلفهم النقاقير فساروا إلى ناحية جهة القرافة وزاروا ضريح الإمام الشافعي ثم ركبوا وساروا إلى القلعة وطلعوا من باب العزب إلى سراية الديوان وانفصل عنهم المشايخ ونزلوا إلى دورهم وقابلوا الباشا وسلم شاهين بك عليه فخلع عليه الباشا فروة سمور مثمنة وسيفًا وخنجرًا مجوهرًا وتعابى وقدم له خيولًا بسروجها وعزم عليه ابن الباشا فأذن له أن يتوجه صحبته إلى سرايته فركب معه وتغدى عنده ثم ركب بصحبته ونزلا من القلعة وذهب عند حسن باشا فقابله أيضًا وسلم عليه وخلع عليه أيضًا وقدم له خيولًا وركب صحبتهما وذهبوا عند طاهر باشا ابن أخت الباشا فسلم عليه أيضًا وقدم له تقادم ثم ركب عائدًا إلى الجيزة وذهب إلى مخيمه بشبرامنت واستمر مقيمًا بالمخيم حتى تمم عمارة القصر وتردد كشافهم وأجنادهم إلى بيوتهم بالمدينة فيبيتون الليلة والليلتين ويرجعون إلى مخيمهم‏.‏

وفيه قطع الباشا رواتب طوائف من الدلاة وأمروا بالسفر إلى بلادهم‏.‏

وفي يوم الجمعة انتقل الألفية بعرضيهم وخيامهم إلى بحري الجيزة‏.‏

وفي يوم السبت ثاني عشره وصل أربعة من صناجق الألفية وهم أحمد بك ونعمان بك وحسين بك ومراد بك فطلعوا إلى القلعة وخلع عليهم الباشا فراوى وقلدهم سيوفًا وقدم لهم تقادم ثم نزلوا إلى حسن باشا فسلموا عليه وخلع عليه أيضًا خلعًا ثم ذهبوا إلى بيت صالح آغا السلحدار فأقاموا عنده إلى أواخر النهار ثم ذهبوا إلى البيوت التي بها حريمهم فباتوا وذهبوا في الصباح إلى الجيزة‏.‏

وفي يوم الثلاثاء خامس عشره عملت وليمة وعقدوا لأحمد بك الألفي على عديلة هانم بنت إبراهيم بك الكبير والوكيل في العقد شيخ السادات وقبل عنه محمد كتخدا بوكالته عن أحمد بك ودفع الصداق الباشا من عنده وقدره ثمانية آلاف ريال‏.‏

وفيه أنفقوا على إرسال نعمان بك ومحمد كتخدا وعلي كاشف الصابونجي إلى إبراهيم بك الكبير لإجراء الصلح‏.‏

وفيه أيضًا أرادوا إجراء عقد زينب هانم ابنة إبراهيم بك على نعمان بك فامتنعت وقالت لا يكون ذلك إلا عن إذن أبي وهاهو مسافر إليه فليستأذنه ولا أخالف أمره فأجيبت إلى ذلك وأراد شاهين بك أن يعقد لنفسه على زوجة حسين بك المقتول المعروف بالوشاش وهو خشداشه وهي ابنة السفطي فاستأذن الباشا فقال أني أريد أن أزوجك ابنتي وتكون صهري وهي واصلة عن قريب أرسلت بحضورها من بلدي قوله فإن تأخر حضورها جهزت لك سرية وزوجتك إياها‏.‏

وفي يوم الأربعاء نزل الباشا من القلعة وذهب إلى مضرب النشاب واستدعى شاهين بك من الجيزة وعمل معه ميدانًا وترامحوا وتسابقوا ولعبوا بالرماح والسيوف ثم طلع الجميع إلى القلعة واستمر شاهين بك عند الباشا إلى بعد الظهر ثم نزل مع نعمان بك إلى بيت عديلة هانم فمكثا إلى قبيل المغرب ثم أرسل إليهما الباشا فطلعا إلى القلعة فباتا عنده ونزلا في الصباح وعديا إلى الجيزة‏.‏

قال الشاعر‏:‏ أمور تضحك السفهاء منها ويبكي من عواقبها اللبيب وفيه تقلد حسن آغا سرششمه إمارة دمياط عرضا عن احمد بك وتقلد عبد الله كاشف الدرندلي إمارة المنصورة عوضًا عن عزيز آغا‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثالث عشرينه وصل قابجي ومعه مرسومات يتضمن أحدها التقرير لمحمد علي باشا على ولاية مصر وآخر بالدفتردارية باسم ولده إبراهيم وآخر بالعفو عن جميع العسكر جزاء عن إخراجهم الإنكليز من ثغر الإسكندرية وآخر بالتأكيد في التشهيل والسفر لمحاربة الخوارج بالحجاز واستخلاص الحرمين والوصية بالرعية والتجار وصحبته أيضًا خلع وشلنجات فأركبوه في موكب في صبح يوم الخميس وطلع إلى القلعة وقرئت المراسيم المذكورة بحضرة الباشا والمشايخ وكبار العسكر وشاهين بك وخشداشينه الألفية وضربوا مدافع وشنكًا‏.‏

وفيه سافر إبراهيم بك ابن الباشا على طريق القليوبية وصحبته طائفة من مباشري الأقباط وفيهم جرجس الطويل وهو كبيرهم وأفندية من أفندية الروزنامة وكتبة مسلمين للكشف على الأطيان التي رويت من ماء النيل والشرقي فأنزلوا بالقرى النوازل من الكلف وحق الطرقات وقرروا على كل فدان رواه النيل أربعمائة وخمسين نصف فضة تقبض للديوان وذلك خلاف ما للملتزم والمضاف والبراني وما يضاف إلى ذلك من حق الطرق والكل المتكررة‏.‏

واستهل شهر ذي القعدة بيوم الأربعاء سنة 1222 وفيه فرضوا على مساتير الناس سلف أكياس ويحسب لهم ما يؤخذ منهم من أصل ما يتقرر على حصصهم من المغارم في المستقبل وعينوا العساكر بطلبها فتغيب غالبهم وتوارى لعدم ما بأيديهم وخلو أكياسهم من المال والتجأ الكثير منهم إلى ذوي الجاه ولازموا أعتابهم حتى شفعوا فيهم كشفوا غمتهم‏.‏

وفي عاشره ورد الخبر من الجهة القبلية بأن الأمراء المصريين تحاربوا مع ياسين بك بناحية المنية وذلك عن أمر الباشا وهزموه إلى المنية ونهبوا حملته متاعه‏.‏

وفي أثر ذلك حضر أبو ياسين بك إلى مصر وعينت عساكر إلى جهة قبلي وأميرها بونابارته الخازنجار وتقدمهم سليمان بك الألفي في آخرين‏.‏

وفي عشرينه تعين أيضًا عدة عساكر إلى ناحية بحري وفيهم عمر بك تابع لأشقر المصرلي لمحافطة رشيد وآخرين إلى الإسكندرية ثم تعوق عمر بك عن السفر وسبب ذلك أنه ورد قائد الإنكليز إلى ثغر سكندرية وأخبر بخروج عمارة الفرنسيس إلى البحر بسيسيليه وربما استولوا عليها وكذلك مالطه فلما ورد هذا الخبر حضر البطروش قنصل الإنكليز المقيم برشيد إلى مصر بأهله وعياله‏.‏

وفي أواخره جمعوا عدة كبيرة من البنائين والنجارين وأرباب الأشغال لعمارة أسوار وقلاع الإسكندرية وأبي قير والسواحل‏.‏

واستهل شهر ذي الحجة بيوم الجمعة سنة 1222 في ثاني عشره ورد الخبر بأن سليمان بك الألفي لما وصل إلى المنية ونزل بفنائها خرج إليه ياسين بك بجموعه وعساكره وعربانه فوقع بينهما وقعة عظيمة وانهزم ياسين بك وولى هاربًا إلى المنية فتبعه سليمان بك في قلة وعدى الخندق خلفه فأصيب من كمين بداخل الخندق ووقع ميتًا بعد أن نهب جميع متاع ياسين بك وجماله وأثقاله وشتت جموعه وانحصر هو وعساكره وعربانه وما بقي منهم بداخل المنية وكانت الواقعة يوم الأربعاء سادس الشهر فلما ورد الخبر بذلك على الباشا أطهر أنه اغتم على سليمان بك وتأسف على موته وأقام العزاء عليه خشداشينه بالجيزة وفي بيوتهم طفق الباشا يلوم على جراءة المصريين وإقدامهم وكيف أن سليمان بك يخاطر بنفسه ويلقي بنفسه من داخل الخندق ويقول أنا أرسلت إليه أحذره وأقول له أنه ينتظر بونابارته الخازندار ويرسل ياسين بك ويطلعه على ما بيده من المراسيم فغن أبى وخالف ما في ضمنها فعند ذلك يجتمعون على حربه وتتقدم عسكر الأتراك لمعرفتهم وصبرهم على محاصرة الأبنية فلم يستمع لما قلت له وغرر بنفسه وأيضًا ينبغي لكبير الجيش التأخر عن عسكره فإن الكبير عبارة عن المدير الرئيس وبمصابه تنكسر قلوب قومه وهؤلاء القوم بخلاف ذلك يلقون بأنفسهم في المهالك ولما أرسل جماعة سليمان بك يخبرون بموت كبيرهم وأنهم مجتمعون على حالتهم ومقيمون بعرضهم ومحطتهم على المنية وأنهم منتظرون من يقيمه الباشا رئيسًا مكانه فعند ذلك أرسل الباشا إلى شاهين بك يعزيه ويلتمس منه أن يختار من خشداشينه من يقلده الباشا إمارة سليمان بك فتشاور شاهين بك مع خشداشينه فلم يرض أحد من الكبار أن يتقلد ذلك ثم وقع اختيارهم على شخص من المماليك يسمى يحيى أرسلوه إلى الباشا فخلع عليه وأمره بالسفر إلى المنية فأخذ في قضاء أشغاله وعدى إلى بر الجيزة‏.‏

وفي منتصفه ورد الخبر بأن بونابارته الخازندار وصل إلى المنية بعد الواقعة وياسين بك محصور بها فأرسل إليه يستدعيه إلى الطاعة وأطلعه على المكاتبات والمراسيم التي بيده من الباشا خطابًا له ولأمراء الحاضرين والغائبين المصرية وفي ضمنها أن أبي ياسين بك عن الدخول في الطاعة واستمر على عناده وعصيانه فإن بونابارته والأمراء المصرية يحاربونه فعند ذلك نزل ياسين بك على حكم بونابارته وحضر عنده بعد أن استوثق منه بالأمان ووصلت الأخبار بذلك إلى مصر وخرجت العربان المحصورون بالمنية بعد أن صالحوا على أنفسهم وفتحوا لهم طريقًا وذهبوا إلى أماكنهم واستلم بونابارته المنية فأقام بها يومين وارتحل عنها وحضر إلى مصر‏.‏

وفي ليلة الثلاثاء تاسعى عشره حضر ياسين بك إلى ثغر بولاق وركب في صبحها وطلع إلى القلعة فعوقه الباشا وأراد قتله فتعصب له عمر بك الأرنؤدي وصالح قوج وغيرهما وطلعوا في يوم الجمعة وقد رتب الباشا عساكره وجنده وأوقفهم بالأبواب الداخلة والخارجة وبين يديه وتكلم عمر بك وصالح آغا مع الباشا في أمره وأن يقيم بمصر فقال الباشا لا يمكن أن يقيم بمصر والساعة اقتله وانظر أي شيء يكون فلم يسع المتعصبين له إلا الامتثال ثم أحضرعه وخلع عليه فروة وأنعم عليه بأربعين كيسًا ونزلوا بصحبته بعد الظهر إلى بولاق وسافر إلى دمياط ليذهب إلى قبرص ومعه محافظون‏.‏

وفي يوم الأحد حضر بونابارته الخازندار من المنية إلى مصر وانقضت السنة وأما من مات فيها ممن له ذكر فمات الشيخ العلامة بقية العلماء والفضلاء والصالحين الورع القانع الشيخ أحمد بن علي بن محمد بن عبد الرحمن بن علاء الدين البرماوي الذهبي الشافعي الضرير ولد ببلده برما بالمنوفية سنة 1138 ونشأ بها وحفظ القرآن والمتون على الشيخ المعاصري ثم انتقل إلى مصر فجاور بالمدرسة الشيخونية بالصليبة وتخرج في الحديث على الشيخ أحمد البرماوي وحضر دروس مشايخ الأزهر كالشيخ محمد فهرس والشيخ علي قايتباوي والشيخ الدفري والشيخ سليمان الزيات والشيخ الملوي والشيخ المدابغي والشيخ الغنيمي والشيخ محمد الحفني وأخيه الشيخ يوسف عبد الكريم الزيات والشيخ عمر الطحلاوي والشيخ سالم النفراوي والشيخ عمر الشنواني والشيخ أحمد رزة والشيخ سليمان البسوسي والشيخ علي الصعيدي واقرأ الدروس وأفاد الطلبة ولازم الأقراء وكان منجمعًا عن الناس قانعًا راضيًا بما قسم له لا يزاحم على الدنيا ولا يتداخل في أمورها وأخبرني ولده العلامة الفاضل الشيخ مصطفى أنه ولدًا بصيرًا فأصابه الجدري فطمس بصره في صغره فأخذه عم أبيه الشيخ صالح الذهبي ودعا له فقال في دعائه اللهم كما أعميت بصره نور بصيرته فاستجاب الله دعاءه وكان قوي الإدراك ويمشي وحده من غير قائد ويركب من غير خادم ويذهب في حوائجه المسافة البعيدة ويأتي إلى الأزهر ولا يخطئ الطريق ويتنحى عما عساه يصيبه من راكب أو جمل أو حمار مقبل عليه أو شيء معترض في طريقه أقوى من ذي بصر فكان يضرب به المثل في ذلك مع شدة التعجب كما قال القائل ما عماء العيون مثل عمى القلب فهذا هو العمى والبلاء فعماء العيون تغميض عين وعماء القلوب فهو الشفاء ولم يزل ملازمًا على حالته من الانجماع والاشتغال بالعلم والعمل به وتلاوة القرآن وقيام الليل فكان يقرأ كل ليلة نصف القرآن إلى أن توفي يوم الثلاثاء حادي عشر ربيع الأول من هذه السنة وله من العمر أربع وثمانون سنة وصلي عليه بجامع ابن طولون ودفن بجوار المشهد المعروف بالسيدة سكينة رضي الله عنها بجانب الشيخ البرماوي رحمه الله وبارك في ولده الشيخ مصطفى وأعانه على وقته ومات العمدة الفاضل حاوي الكمالات والفضائل الشيخ محمد بن يوسف ابن بنت الشيخ محمد بن سالم الحفناوي الشافعي ولد سنة 1163 وتربى في حجر جده وتخلق بأخلاقه وحفظ القرآن والألفية والمتون وحضر دروس جده وأخي جده الشيخ يوسف الحفناوي وحضر أشياخ الوقت كالشيخ علي العدوي والشيخ احمد الدردير والشيخ عطية الأجهوري والشيخ عيسى البراوي وغيرهم وتمهر وأنجب وأخذ طريق الخلوتية عن جده ولقنه الأسماء ولما توفي جده ألقى الدروس في محله بالأزهر ونشأ من صغره على أحسن طريقة وعفة نفس وتباعد عن سفاسف الأمور الدنيئة ولازم الاشتغال بالعلم وفتح بيت جده وعمل به ميعاد الذكر كعادته وكان عظيم النفس مع تهذيب الأخلاق والتبسيط مع الإخوان والممازحة مع تجنبه ما يخل بالمروءة وله بعض تعليقات وحواش وشعر مناسب ولم يزل على حالته إلى أن توفي يوم السبت رابع شهر ربيع الأول من السنة وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن مع جده في تربة واحدة بمقبرة المجاورين ولم يخلف ذكورًا رحمه الله ومات الشيخ العلامة المفيد والتحرير المجيد محمد الحصافي الشافعي الفقية النحوي الفرضي تلقى العلوم وحضر أشياخ الطبقة الأولى ودرس العلوم بالأزهر وأفاد الطلبة وقرأ الكتب المفيدة وعاش طول عمره منعكفًا في زوايا الخمول منعزلًا عن الدنيا وهي منعزلة عنه راضيًا بما قسم الله له قانعًا بما يسره له مولاه لا يدعي في وليمه ولا ينهمك على شيء من أمور الدنيا ولم يزل على حالته حتى توفي يوم الاثنين ثالث عشر شوال من السنة ومات العمدة المفضل الشيخ محمد عبد الفتاح المالكي من أهالي كفر حشاد بالمنوفية قدم من بلده صغيرًا فجاور بالأزهر وحضر على أشياخ الوقت ولازم دروس الشيخ الأمير وبه تخرج وتفقه عليه وعلى غيره من علماء المالكية وتمهر في المعقولات وأنجب وصارت له ملكه واستحضار ثم سافر إلى بلده وأقام بها يفيد ويفتي ويرجعون إليه في قضاياهم ودعاويهم فيقضي بينهم ولا يقبل من أحد جعالة ولا هدية فاشتهر ذكره بالإقليم واعتقدوا فيه الصلاح والعفة وأنه لا يقضي إلا بالحق ولا يأخذ رشوة ولا جعالة ولا يجابي في الحق فامتثلوا لقضاياه وأوامره فكان إذا قضى قاض من قضاة البلدان بين خصمين رجعا إلى المترجم وأعادا عليه دعواهما فإن رأى القضاء صحيحًا موافقًا للشرع أمضاه وامتثل الخصم الآخر ولا يمانع بعد ذلك أبدًا ويذعن لما قضاه الشيخ لعلمه أنه لا لغرض دنيوي وإلا أخبرهم أن الحق خلافه فيمتثل الخصم الآخر ولم يزل على حالته حتى كان المولد المعتاد بطندتا فذهب ابن الشيخ الأمير إلى هناك فأتى لزيارة ابن شيخه ونزل في الدار التي هو نازل فيها فانهدمت الجهة التي هو بها وسقطت عليه فمات شهيدًا مردومًا ومعه ثلاثة أنفار من أهالي قرية العكروت وذلك في أوائل شهر الحجة ولم يخلف بعده مثله رحمه الله ومات الأمير سعيد آغا دار السعادة العثماني الحبشي قدم إلى مصر بعد مجيء يوسف باشا الوزير في أبهة ونزل بدرب الجماميز في البيت الذي كان نزل به شريف أفندي الدفتردار بعد انتقاله منه وفتح باب التفتيش على جهات أوقاف الحرمين وغيرها وأخاف الناس وحضر إليه كتبة الأوقاف وجلسوا لمقارفة الناس والتعنت عليهم بطلب السندات ويهولون عليهم بالآغا المذكور ويأخذون منهم المصالحات ثم ينهون إليه الأمر على حسب أغراضهم ويعطونه جزأ ويأخذون لأنفسهم الباقي ثم تنبه لذلك فطرد غالبهم وسدد على الباقين وتساهل مع الناس وكان رئيسًا عاقلًا معدودًا في الرؤساء تعمل عنده الدواوين والاجتماعات في مهمات الأمور والوقائع كما تقدم ذكر ذلك في مواضعه ثم أنه تمرض بذات الرئة شهورًا ومات في يوم الاثنين رابع شهر صفر ومات الأمير سليمان بك المرادي وهو من الأمراء الذين تأمروا بعد موت مراد بك وكان ظالمًا غشومًا ويعرف بريحه بتشديد الياء كان إذا أراد قتل إنسان ظلمًا يقول لأحد أعوانه خذه وريحه فيأخذه ويقتله ومات في واقعة أسيوط الأخيرة أخذت جلة المدفع دماغه وقطع ذراعه وعرفوا قتلخ بخاتمه الذي في إصبعه المقطوع ومات سليمان بك الألفي الذي قتل في واقعة ياسين بك بالمنية عند الخندق وغير هؤلاء والله أعلم‏.‏ واستهلت

سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف

فكان أول المحرم يوم الأحد فيه برز القابجي المسمى بيانجي بك إلى السفر على طريق البر وخرج الباشا لوداعه وهذا القابجي كان حضر بالأوامر بخروج العساكر للبلاد الحجازية وخلاص البلاد من أديد الوهابية وفي مراسيمه التي حضر بها التأكيد والحث على ذلك فلم يزل الباشا يخادعه ويعده بإنفاذ الأمر ويعرفه أن هذا الأمر لا يتم بالعجلة ويحتاج إلى استعداد كبير وإنشاء مراكب في القلزم وغير ذلك من الاستعدادات وعمل الباشا ديوانًا جمع فيه الدفتردار والمعلم غالي والسيد عمر والمشايخ وقال لهم لا يخفاكم أن الحرمين استولى عليها الوهابيون ومشوا أحكامهم بها وقد رودت علينا الأوامر السلطانية المرة بعد المرة للخروج إليهم ومحاربتهم وجلائهم وطردهم عن الحرمين الشريفين ولا تخفي عنكم الحواث والوقائع التي كانت سببًا في التأخير عن المبادرة في امتثال الأوامر والآن حصل الهد وحضر قابجي باشا بالتأكيد والحث على خروج العساكر وسفرهم وقد حسبنا المصاريف اللازمة في هذه الوقت فبلغت أربعة وعشرين ألف كيس فاعملوا رأيكم في تحصيلها فحصل ارتباك واضطراب وشاع ذلك في الناس وزاد بهم الوسواس ثم اتفقوا على كتابة عرضحال ليصحبه ذلك القابجي معه بصورة نمقوها‏.‏

وفي سادسه حضر مرزوق بك وسليم بك المحرمجي وعلي كشاف الصابونجي المرسل فطلعوا إلى القلعة وقابلوا الباشا وخلع على مرزوق بك والمحرمجي فروتين ونزلا إلى دورهما ثم ترددوا وطلعوا ونزلوا وبلغوا رسائل الأمراء القبليين وذكروا مطالبهم وشروط الباشا عليهم والاتفاق في تقرير الصلح والمصالحة عدة أيام‏.‏

وفيه حضر عرب الهنادي والجهنة وصالحوا على أنفسهم وأن يرجعوا إلى منازلهم بالبحيرة ويطردوا أولاد علي وكانوا تغلبوا على الإقليم وحصل منهم الفساد والإفساد وكانت مصالحتهم بيد شاهين بك الألفي وسافر معهم شاهين بك وخشداشينه ولم يبق بالجيزة سوى نعمان بك وذهبوا إلى ناحية دمنهور وارتحل أولاد علي إلى الحوش ابن عيسى وذلك أواخر المحرم ثم أن شاهين بك ركب بمن معه وحاربهم ووقع بينهم مقتلة عظيمة وقتل فيها شخصان من كبار الأجناد الألفية وهما عثمان كاشف وآخر ونحو ستة مماليك وقتل جملة كثيرة من العرب وانكشف الحرب عن هزيمة العرب وأسروا منهم نحو الأربعين وغنموا منهم غنائم كثيرة من أغنام وجمال وتفرقوا وتشتتوا وذهبوا إلى ناحية قبلي والفيوم وذلك في شهر صفر في عاشره حضر شاهين بك وباقي الألفية‏.‏

واستهل شهر ربيع الثاني سنة 1223 وفي عشرينه ورد الخبر بموت شاهين بك المرادي فخلع الباشا عن سليم بك المحرمجي وجعله كبيرًا ورئيسًا على المرادية عوضًا عن شاهين بك وسافر إلى قبلي‏.‏

وفيه أيضًا حضر أمين بك الألفي من غيبته وكان مسافرًا مع الإنكليز الذين كانوا حضروا إلى الإسكندرية ورشيد وحصل لهم ما حصل فلم يزل غائبًا حتى بلغه صلح خشداشينه مع وفيه زوج الباشا شاهين بك سرية انتقتها زوجة الباشا ونظمتها وفرش له سبعة مجالس بقصر الجيزة وجمعوا لذلك المنجدين وتقيد بتجهيز الشوار والأقمشة واللوازم الخواحجا محمود حسن وكذلك زوج نعمان بك سرية أخرى وسكن بيت المشهدي بدرب الدليل بعد أن عمرت له الدار وفرشت على طرف الباشا وكذلك تزوج عمر بك بجارية من جواري الست نفيسة المرادية وجهزتها جهازًا نفيسًا من مالها وتزوج أيضًا علي كاشف الكبير الألفي بزوجة أستاذه‏.‏

شهر جمادى الأول سنة 1223 فيه سافر مرزوق بك بعد تقرير أمر الصلح بينه وبين الأمراء المصريين القبالي وقلد الباشا مرزوق بك ولاية جرجا وإمارة الصعيد وألبسه الخلعة وشرط عليه إرسال المال والغلال الميرية فعند ذلك اطمأنت الناس وسافرت السفار والمتسببون ووصل إلى السواحل مراكب الغلال والأشياء التي تجلب من الجهة القبلية‏.‏

واستهل شهر جمادى الثانية سنة 1223 فيه قطع الباشا مرتب الدلاة الأغراب وأخرجهم وعزل كبيرهم الذي يسمى كردي بوالي الساكن ببولاق وقلد ذلك مصطفى بك من أقاربه وجعله كبيرًا على طائفة الدلاتية الباقين وضم إليه طائفة من الأتراك ألبسهم طراطير وجعلهم دلاتية وسافر كردي بوالي لبلاده في منتصف الشهر وخرج صحبته عدة كبيرة من الدلاة‏.‏

وفي أواخره وردت الأخبار من إسلامبول وذلك أن طائفة من الينكجرية تعصبت وقامت على السلطان سليم وعزلوه وأجلسوا مكانه السلطان مصطفى وأبطلوا النظام الجيد وقتلوا دفتردار النظام الجديد وكتخدا الدولة ودفتردار الدولة وغيرهم وقطعوهم في أت ميدان بعد أن تغيبوا واختفوا في أماكن حتى في بيوت النصارى واستدلوا عليهم واحدًا بعد واحد فكانوا يستحبون الأمير منهم المترفه على صورة منكرة إلى أت ميدان فيقتلونه وبعضهم قطعوه في الطريق وسكن الحال على سلطنة السلطان مصطفى بن عبد الحميد وكان السلطان سليم عندما أحس بحركة الينكجرية أرسل يستنجد ويستدعي مصطفى باشا البيرقدار وكان يرشق بالروملي بمخيم العرضي المتعين على حرب الموسكوب ووصل خبر الواقعة إلى من بالعرضي فأقام أيضًا الينكجرية الفتنة العرضي وقتلوا آغات العرضي وخلافه عند مصطفى باشا المذكور وقد وصله مراسلة السلطان سليم فحركوا همته على القيام بنصرة السلطان سليم على الينكجرية فركب من العرضي في عدة وافرة وحضر إلى إسلامبول وشق بجمعه وعسكره من وسطها في كبكبة حتى وصل إلى باب السراية فوجده مغلقًا فأراد كسره أو حرقه إلى أن فتحوه بالعنف وعبر إلى داخل السراية وطلب السلطان سليم فعند ذلك أرسل السلطان مصطفى المتولي جماعة من خاصته فدخلوا على السلطان سليم في المكان الذي هو مختف به وقتلوه بالخناجر والسكاكين حتى مات وأحضره ميتًا إلى مصطفى باشا البيرقدار وقالوا له هاهو السلطان سليم الذي تطلبه فلما رآه ميتًا بكى وتأسف ثم أنه عزل السلطان مصطفى وأحضر محمودًا أخاه بن عبد الحميد وأجلسه على تخت الملك ونودي باسمه وكان ذلك يوم الخميس خامس جمادى الثانية من السنة وعمره ثلاث وعشرون سنة‏.‏

ومات السلطان سليم وعمره إحدى وخمسون سنة لأنه ولد سنة 1172 ومجة ولايته نحو العشرين سنة تنقص شهرًا فلما وردت هذه الأخبار وتواترت في مكاتبات التجار والسفار خطب بعض الخطباء يوم الجمعة سادس عشرينه باسم السلطان محمود وبعضهم أطلق في الدعاء ولم يذكر الاسم‏.‏

وفيه قوي عزم الباشا على السفر إلى جهة دمياط ورشيد والإسكندرية فطلب لوازم السفر ووعد بسفره بعد قطع الخليج وطفق يستعجل بالوفاء ويطلب ابن الرداد المقياسي ويسأله عن الوفاء ويقول اقطعوا جسر الخليج في غد أو بعد غد فيقول تأمرونا بقطعه قبل الوفاء فيقول لا ويقول ليس الوفاء بأيدينا‏.‏

فلما كان يوم السبت سابع عشرينه وخامس عشر مسى القبطي نقص النيل نحو خمسة أصابع وانكشف الحجر الراقد الذي عند فم الخليج تحت الحجر القائم فضج الناس ورفعوا الغلال من الرقع والعرصات والسواحل وانزعجت الخلائق بسبب شحة النيل في العام الماضي وهيفان الزرع وتنوع المظالم وخراب الريف وجلاء أهله واجتمع في ذلك اليوم المشايخ عند الباشا فقال لهم اعملوا استسقاء وأمروا الفقراء والضعفاء والأطفال بالخروج إلى الصحراء وادعوا الله فقال له الشيخ الشرقاوي ينبغي أن ترافقوا بالناس وترفعوا الظلم فقال أنا لست بظالم وحدي وأنتم أظلم مني فإني رفعت عن حصتكم الفرض والمغارم إكرامًا لكم وأنتم تأخذونها من الفلاحين وعندي دفتر محرر فيه ما تحت أيديكم من الحصص تبلغ ألفي كيس ولا بد أني أفحص عن ذلك وكل من وجدته يأخذ الفرضة المرفوعة من فلاحيته أرفع الحصة عنه فقالوا له لك ذلك ثم اتفقوا على الخروج والتقيا في صبحها بجامع عمرو بن العاص لكونه محل الصحابة والسلف الصالح يصلون به صلاة الاستسقاء ويدعون الله ويستغفرونه ويتضرعون إليه في زيادة النيل وبالجملة ركب السيد عمر والمشايخ وأهل الأزهر وغيرهم والأطفال واجتمع عالم كثير وذهبوا إلى الجامع المذكور بمصر القديمة فلما كان صبحها وتكامل الجمع صعد الشيخ جاد المولى على المنبر وخطب بعد أن صلى الاستسقاء ودعا الله وأمن الناس على دعائه وحول ردائه ورجع الناس بعد صلاة الظهر وفي تلك الليلة رجع الماء إلى محل الزيادة الأولى واستتر الحجر الراقد بالماء‏.‏

وفي يوم الاثنين خرجوا أيضًا وأشار بعض الناس بإحضار النصارى أيضًا فحضروا وحضر المعلم غالي ومن يصحبه من الكتبة الأقباط وجلسوا في ناحية من المسجد يشربون الدخان وانفض الجمع أيضًا‏.‏

وفي تلك الليلة التي هي ليلة الثلاثاء زاد الماء ونودي بالوفاء وفرح الناس وطفق النصارى يقولون أن الزيادة لم تحصل إلا بخروجنا‏.‏

فلما كانت ليلة الأربعاء طاف المنادون بالرايات الحمر ونادوا بالوفاء وعمل الشنك والوقدة تلك الليلة على العادة‏.‏

وفي صبحها حضر الباشا والقاضي واجتمع الناس وكسروا السد وجرى الماء في الخليج جريانًا ضعيفًا لعلو أرض الخليج وعدم تنظيفه من الأتربة المتراكمة فيه من مدة سنين وكان ذلك يوم الأربعاء غرة شهر رجب وتاس عشر مسى القبطي‏.‏

واستهل شهر رجب بيوم الأربعاء سنة 1223 في ثانيه يوم الخميس وصل إلى بولاق راغب أفندي وهو أخو خليل أفندي الرجائي الدفتردار المقتول وعلى يده مرسوم بإجراء الخطبة باسم السلطان محمود بن عبد الحميد وأنزلوه ببيت ابن السباعي بالغورية وضربوا مدافع بالقلعة وشنكًا ثلاثة أيام في الأوقات الخمسة وخطب الخطباء في صبحها باسم السلطان محمود الدعاء له في جميع المساجد‏.‏

وفي ليلة الأحد خامسه سافر محمد علي باشا إلى بحري ونزل في المراكب وأرسل قبل نزوله بأيام بتشهيل الإقامات والكلف على البلاد من كل صنف خمسة عشر وأخلوا لمن معه بيوت البنادر مثل المنصورة ودمياط ورشيد والمحلة والإسكندرية وفرض الفرض والمغارم على البلاد على حكم القراريط التي كانوا ابتدعوها في العام الماضي على كل قيراط سبعة آلاف نصف فضة وسماها كلفة الذخيرة وأمر بكتابة دفتر لذلك فكتب إليه الروزنامجي أن الخراب استولى على كثير من البلاد فلا يمكن تحصيل هذا الترتيب فأرسل من المنصورة يأمر بتحرير العمار بدفتر مستقل والخراب بدفتر آخر فلما فعل الروزنامجي ذلك أدخل فيها بلاد بها بعض الرمق لتخلصمن الفرضة وفيها ما هو لنفسه فلما وصلت إليه أمر بتوزيع ذلك الخراب على أولاده وأتباعه وأغراضه وعدتها مائة وستون بلدة وأمر الروزنامجي بكتابة تقاسيطها بالأسماء التي عينها له فلم يمكن الروزنامجي أن يتلاقى ذلك فتظهر خيانته ووزعت وارتفعت عن أصحابها وكذلك حصل بإقليم البحيرة لما عمها الخراب وتطل خرابها وطلبوا الميري من الملتزمين فتظلموا واعتذروا بعموم الخراب فرفعوها عنهم وفرقها الباشا على أتباعه واستولوا عليها وطلبوا الفللاحين الشاردة والمتسحبه من البلاد الآخر وأمروهم بسكناها وزادوا في الطنبور نقمات وهوانهم صاروا ينتبعون أولاد البلد أرباب الصنائع الذين لهم نسبة قديمة بالقرى وذلك بإغراء أتباعهم وأعوانهم فيكون الشخص منهم جالسًا في حانوته وصناعته فما يشعر إلا والأعوان محيطون به يطلبونه إلى مخدومهم فإن امتنع أو تلكأ سحبوه بالقهر وأدخلوه إلى الحبس وهو لا يعرف له ذنبًا فيقول وما ذنبي فيقال له عليك مال الطين فيقول وأي شيء يكون الطين فيقولون له طين فلاحتك من مدة سنين لم تجفعه وقدره كذا وكذا فيقول لا أعرف ذلك ولا أعرف البلد ولا رأيتها في همري لا أنا ولا أبي ولا جدي فيقال له ألست فلانًا الشيراوي أو الميناوي مثلًا فيقول لهم هذه النسبة قديمة سرت إلي من عمي أو خالي أو جدي فلا يقبل منه ويحبس ويضرب حتى يدفع ما ألزموه به أو يجد شافعًا يصالح عليه وقد وقع ذلك لكثير من المتسببين والتجار وصناع الحريري وغيرهم ولم يزل الباشا في سيره حتى وصل إلى دمياط وفرض على أهلها أكياسًا وأخذ من حكامها هدايا وتقادم ثم رجع إلى سمنود وركب في البر إلى المحلة وقبض ما فرضه عليها وهو خمسون كيسًا نقصت سبعة أكياس عجزوا عنها بعد الحبس والعقاب وقدم له حاكمها ستين جملًا وأربعين حصانًا خلاف الأقمشة المحلاوية مثل الززدخانات والمقاطع الحرير وما يصنع بالمحلة من أنواع الثياب والأمتعة صناعة من بقي بها من الصناع ثم ارتحل عنها ورجع إلى بحر منوف وذهب إلى رشيد والإسكندرية ولما استقر بها أعبى هدية إلى الدولة وأرسل إلى مصر فطلب عدة قناطر من البن والأقمشة الهندية وسبعمائة أردب أرز أبيض أخذت من بلاد الأرز وأرسل الهدية صحبة إبراهيم أفندي المهردار وحضر إليه وهو بالإسكندرية قابجي من طرف مصطفى باشا البيرقدار الوزير برسالة ورجع بالجواب على أثره ولم يعلم ما دار بينهما‏.‏

وفي منتصفه أعثى شعبان حضر محمد علي باشا من غيبته وطلع على ساحل بولاق ليلة الخميس خامس عشره وذهب إلى داره بالأزبكية ثم طلع في ثاني يوم إلى القلعة وضربوا لحضوره مدافع‏.‏

واستهل شهر رمضان بيوم الجمعة 1223 فيه وردت الأخبار بحرق القمامة القدسية وظهر حريقها من كنيسة الأروام‏.‏

وفيه سافر عدة من العسكر والدلاة وعمر بك الألفي ومعه طائفة من المماليك إلى البحيرة بسبب عربان أولاد علي فإنهم كانوا بعد الحوادث المتقدمة نزلوا بالإقليم وشاركوا وزرعوا مثل ما كان عليه الهنادي والجهنة فلما اصطح الألفية مع الباشا توسط شاهين بك في صلح الهنادي والجهنة على قدر وذلك لما كان بينهم وبين أستاذه من النسابة ونزل صحبتهم إلى البحيرة وغمرهم بأرضها كما كانوا أولاد وطرد أولاد علي وحاربهم ومكن الهنادي والجهنة ورجع إلى الجيزة فراسل أولاد علي الباشا بوساطة بعض أهل الدولة وعملوا للباشا مائة ألف ريال على رجوعهم للبحيرة وإخراج الهنادي فأجابهم طمعًا في المال فحنق أولئك وعصوا وحاربوا أولاد علي ونهبوا ونالوا منهم بعد أن كانوا ضيقوا عليهم وحصلت اختلافات وامتنع أولاد علي من دفع المال الذي قرروه على أنفسهم واجتمعوا بحوش ابن عيسى فأرسل إليهم الباشا عمر بك المذكور ومن معه فحاربوهم مع الهنادي فظهر عليهم أولاد علي وهزموهم وقتل من الدلاة أكثر من مائة وكذلك من العسكر ونحو الخمسة عشر من المماليك فأمر الباشا بسفر عساكر أيضًا وصحبتهم نعمان بك وخلافه وسافرت طائفة من العرب إلى ناحية الفيوم فأرسلوا لهم عدة من العسكر‏.‏

وفي أواخره سافر أيضًا شاهين بك وياقي الألفية خلاف أحمد بك فإنه أقام بالجيزة‏.‏

وفيه نودي على المعاملة بأن يكون صرف الريال الفرنسا بمائتين وعشرين وكان بلغ في مصارفته إلى مائتين وأربعين والمحبوب بمائتين وخمسين فنودي على صرفه بمائتين وأربعين وذلك كله من عدم الفضة العددية بأيدي الناس والصيارف لتحكيرهم عليها ليأخذها تجار الشام بفرط في مصارفتها تضم للميري فيدور الشخص على صرف القرش الواحد فلا يجد صرفه إلا بعد وفيه سافر أيضًا حسن الشماشرجي ولحق بالمجردين‏.‏

وفي أواخره ورد الخبر بأن محو بك كاشف البحيرة قبض على السيد حسين نقيب الأشراف بدمنهور وأهانه وضربه وصادره وأخذ منه ألفي ريال بعد أن حلف أنه لم يأت بها في مدة أريع وعشرين ساعة وإلا قتله فوقع في عرض النصارى المباشرين فدفعوها عنه حتى تخلص بالحياة وكذلك قبض على رجل من التجار وقرر عليه جملة كثيرة من المال فدفع الذي حصلته يده وبقي عليه ما قرره عليه فلم يزل في حبسه حتى مات تحت العقوبة فطلب أهله رمته فحلف ألا يعطيها لهم حتى يكون ابنه في الحبس مكانه‏.‏

ومن الحوادث السماوية أن في سابع عشرين رمضان غيمت السماء بناحية الغربية والمحلة الكبرى وأمطرت بردًا في مقدار بيض الدجاج وأكبر وأصغر فهدمت دورًا وأصابت أنعامًا غير أنها قتلت الدودة من الزرع البدري‏.‏

واستهل شهر شوال بيوم الأحد سنة 1223 في أواخره حضر شاهين بك الألفي من ناحية البحيرة وذلك بعد ارتحال أولاد علي من الإقليم‏.‏

وفيه أيضًا حضر سليمان كاشف البواب من ناحية قبلي وصحبته عدة من المماليك وأربعة من الكشاف فقابل الباشا وخلع عليه وأنزله ببيت طنان بسويقة العزى وسكن بها وحضر مطرودًا من إخوانه المرادية‏.‏

واستهل شهر القعدة بيوم الاثنين سنة 1223 فيه عزل الباشا السيد المحروقي عن نظارة الضربخانه ونصب بها شخصًا من أقاربه‏.‏

وفي ثالث عشره نزل والي الشرطة وأمامه المناداة على ما يستقرضه الناس من العسكر بالربا والزيادة على أن يكون على كل كيس ستة عشر قرشًا في كل شهر لا غير والكيس عشرون ألف نصف فضة وهو الكيس الرومي وذلك بسبب ما انكسر على المحتجين والمضطرين من الناس من كثرة الربا الضيق المعاش وانقطاع المكاسب وغلو الأسعار وزيادة المكوس قيضطر الشخص إلى الاستدانة فلا يجد من يداينه من أهل البلد فيستدين من أحد العسكر ويحسب عليه على كل كيس خمسين قرشًا في كل شهر وإذا قصرت يد المجيون عن الوفاء أضافوا الزيادة على الأصل وبطول الزمن تفحش الزيادة ويؤول الأمر لكشف حال المديون وجرى ذلك على كثير من مساتير الناس وباعوا أملاكهم ومتاعهم والبعض لما ضاق به الحال ولم يجد شيئًا خرج هاربًا وترك أهله وعياله خوفًا من العسكري وما يلاقي منه وربما قتله فعرض بعض المديونين إلى الباشا فأمر بكتابة هذا البيورلدي ونزل به والي الشرطة ونادى به في الأسواق فعد ذلك من غرائب الحكام حيث ينادي على الربا جهارًا في الأسواق من غير احتشام ولا مبالاة لأنهم لا يرون ذلك عيبًا في عقيدتهم‏.‏

وفي رباع عشرينه غضب الباشا على محو بك الكبير الذي كان كاشفًا بالبحيرة ونفاه إلى أبي قير وأخذ أمواله وأنعم ببيته وهو بيت حسن آغا شنين بحارة عابدين وما بها من الخيل والجمال والجوار والخيام والمتاع على محو بك الصغير الأورفلي‏.‏

واستهل شهر ذي الحجة بيوم الثلاثاء سنة 1223 فيه وصلت الأخبار من إسلامبول بوقوع فتنة عظيمة وأنه لما حصل ما حصل في منتصف السنة من دخول مصطفى باشا البيرقدار على الصورة المذكورة وقتل السلطان سليم وتولية السلطان محمود وخذلان الينكجرية وقتلهم ونفيهم وتحكم مصطفى باشا في أمور الدولة واستمر من بقي منهم تحت الحكم فأجمعوا أمرهم ومكر مكرهم وحذر بعضهم مصطفى باشا من المذكورين فلم يكترث بذلك واستهون أمرهم واحتقر جانبهم وقال أي شيء هؤلاء منا وأرى بمعنى أنهم بياعون الفاكهة فكان حاله كما قيل فلا تحتقر كيد العدو فربما تموت الأفاعي من سموم العقارب ثم أنهم تحزبوا وحضروا إلى سرايته على حين غفلة بعد السحور ليلة السابع والعشرين من رمضان وجماعته وطائفته متفرقون في أماكنهم فحرقوا باب السراية وكبسوا عليه فقتل من قتل من أتباعه وهرب من هرب على حمية واختفى مصطفى باشا في سرداب فلم يجدوه وأوقعوا بالسراية الحرق والهدم والنهب وخاف السلطان لان سراية الوزير بجانب السراية السلطانية ففتح باب السراية التي بناحية البحر وأرسل يستعجل قاضي باشا بالحضور وكذلك قبطان باشا فحضرا إلى السراية واشتد الحرب بين الفريقين وأكثر الينكجرية من الحريق في البلدة حتى أحرقوا منها جانبًا كبيرًا فلما عاين السلطان ذلك هاله وخاف من عموم حريق البلدة وهو ومن معه محصورون بالسراية يومًا وليلة فلم يسعه إلا تلافي الأمر فراسل كبار الينكجرية وصالحهم وأبطلوا الحرب وشرعوا في إطفاء الحريق وخرج قاضي باشا هاربًا وكذلك قبودان باشا وهو عبد الله رامز أفندي الذي كان في أيام الوزير بمصر ثم أنهم أخرجوا مصطفى باشا من المكان الذي اختفى فيه ميتًا من تحت الردم وسحبوه من رجليه إلى خارج وعلقوه في شجرة ومثلوا به وأكثروا على رمته من السخرية وعند وقوع هذه الحادثة ومجيء قاضي باشا وكان من أغراض السلطان مصطفى المنفصل فخاف السلطان أن قاضي باشا إن غلب على الينكجرية فيعزله ويولي أخاه ويرده إلى السلطنة فقتل السلطان محمود أخاه مصطفى خنقًا ثم لما سكن الحال عينوا على قاضي باشا وقتلوه وكذلك عبد الله أفندي رامز قبودان باشا وكان مصطفى باشا البيرقدار هذا مشكور السيرة يحب إقامة العدل والوقت بخلاف ذلك‏.‏

وفيه قوي إليهتمام بسد ترعة الفرعونية وتعين لذلك شخص يسمى عثمان السلانكلي الذي كان مباشرًا على جسر الإسكندرية‏.‏

وفي منتصفه سافر الباشا وصحبته حسن باشا لمباشرة الترعة التي يريدون سدها وأمر بوصق الأحجار وأفردوا لذلك عدة من المراكب تشحن بالأشجار والأخشاي الكبيرة وترجع فارغة وتعود موسوقة في كل يوم مرة وأمر بجمع الرجال من القرى للعمل‏.‏

وفيه أيضًا شرع الباشا في إنشاء أبنية بساحل شبرا الشهيرة الآن بشبرا المكاسة وأشيع أن قصده إنشاء سواقي وعمائر وبساتين ومزارع وأخذ في الاستيلاء على ما يحاذي ذلك من القرى والأطيان والرزق والإقطاعات من ساحل شبرا إلى جهة بركة الحاج عرضًا‏.‏

وفي سابع عشره خرجت عساكر كثيرة إلى البر الغربي بقصد الذهاب إلى الفيوم صحبة شاهين بك والألفية بسبب أولاد علي الذين كانوا بالبحيرة‏.‏

وفي ثاني عشرينه وصل واحد قابجي وأشيع أنه طلع من بولاق وذهب إلى بيت الباشا وعلى يده مرسومان أحدهما تقرير للباشا على ولاية مصر والثاني يذكر فيه أن يوسف باشا المعدني الصدر السابق تعين بالسفر على جهة الشام لتنظيم بلاد العرب والحجاز أو يقوم محمد علي باشا بلوازمه وما يحتاج إليه من أدوات وذخير وغير ذلك ولم يظهر لذلك الكلام أثر ولما أصبح النهار وحضر ذلك القابجي في موكب إلى بيت الباشا وحضر الأشياخ والأعيان وكان الباشا غائبًا في الترعة كما تقدم وعوضه كتخدا بك وأكابر دولتهم وقرئت المراسيم تحقق الخبر وانقضت السنة بحوادثها العامة توالي الفرض والمظالم المتوالية وإحداث أنواع المظالم على كل شيء والتزايد فيها واستمرار الغلاء في جميع أسعار المبيعات والمآكل والمشارب بسبب ذلك وفقر أهل القرى وبيعهم لمواشيهم في الغارم فقل اللحم والسمن والجبن وأخذ مواشيهم وأغنامهم من غير ثمن في الكلف ثم رميها على الجزارين بأغلى ثمن ولا يذبحونها إلا في المذبح ويؤخذ منهم إسقاطها وجلودها ورؤوسها ورواتب الباشا وأهل دولته ثم يذهبون بما يبقى لهم لحوانيتهم فتباع على أهل البلد بأغلى ثمن حتى يخلص للجزار رأس ماله وإذا عثر المحتسب على جزار ذبح شاة اشتراها في غير المذبح قبض عليه وأشهره وأخذ ما في حانوته من اللحم من غير ثمن ثم يحبس ويضرب ويغرم مالًا ولا يغفر ذنبه ويسمى خائنًا وفلاتيًا ومنها انقطاع الحج الشامي والمصري معتلين بمنع الوهابي الناس عن الحج والحال ليس كذلك فإنه لم يمنع أحدًا يأتي الحج على الطريقة المشروعة وإنما يمنع من يأتي بخلاف ذلك من البدع التي لا يجيزها الشرع مثل المحمل والطبل والزمر وحمل الأسلحة وقد وصل طائفة من حجاج المغاربة وحجوا ورجعوا في هذا العام وما قبله ولم يعترض لهم أحد بشيء ولما امتنعت قوافل الحج المصري والشامي وانقطع عن أهل المدينة ومكة ما كان يصل إليهم من الصدقات والعلائف والصرر التي كانوا يتعيشون منها خرجوا من أوطانهم بأولادهم ونسائهم ولم يمكث إلا الذي ليس له إيراد من ذلك وأتوا إلى مصر والشام ومنهم من ذهب إلى إسلامبول يتشكون من الوهابي ويستغيثون بالدولة في خلاص الحرمين لتعود لهم الحالة التي كانوا عليها من إجراء الأرزاق واتصال الصلات والنيابات والخدم في الوظائف التي بأسماء رجال الدولة كالفراشة والكناسة ونحو ذلك ويذكرون أن الوهابي استولى على ما كان بالحجرة الشريفة من الذخائر والجواهر ونقلها وأخذها فيرون أن أخذه لذلك من الكبائر العظام وهذه الأشياء أرسلها ووضعها خساف العقول من الأغنياء والملوك والسلاطين الأعاجم وغيرهم إما حرصًا على الدنيا وكراهة أن يأخذها من يأتي بعدهم أو لنوائب الزمان فتكون مدخرة ومحفوظة لوقت الاحتياج إليها فيستعان بها على الجهاد ودفع الأعداء فلما تقادمت عليها الأزمنة وتوالت عليها السنين والأعوام الكثيرة وهي في الزيادة فارتدت معنى لا حقيقة وارتسم في الأذهان حرمة تناولها وأنها صارت مالًا للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لأحد أخذها ولا إنفاقها والنبي عليه الصلاة والسلام منزه عن ذلك ولم يدخر شيئًا من عرض الدنيا في حياته وقد أعطاه الله الشرف الأعلى وهو الدعوة إلى الله تعالى والنبوة والكتاب واختار أن يكون عبدًا ولم يختر أن يكون نبيًا ملكًا‏.‏

وثبت في الصحيحين وغيرهما أنه قال اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا‏.‏

وروى الترمذي بسنده عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا قلت لا يا رب ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا أو قال ثلاثًا أو نحو ذلك فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت شكرتك وحمدتك ثم إن كانوا وضعوا هذه الذخائر والجواهر صدقة على الرسول ومحبة فيه فهو فاسد فهو لقول النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ومنع بني هاشم من تناول الصدقة وحرمها عليهم والمراد الانتفاع في حال الحياة لا بعدها فإن المال أوجده المولى سبحانه وتعالى من أمور الدنيا لا من أمور الآخرة قال تعالى إنما الحياة الدنيا لعب ولهو زينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد وهو من جملة السبعة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز في قوله تعالى زين للناس حب الشهوات مكن النساء والبنين والقناطير المقنظرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب فهذه السبعة بها تكون الخبائث والقبائح وليست هي في نفسها أمورًا مذمومة بل قد تكون معينة على الآخرة إذا صرفت في محلها‏.‏

وعن مطرف عن أبيه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ألهاكم التكاثر قال يقول ابن آدم مالي مالي فهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت إلى غير ذلك ومحبة الرسول بتصديقه واتباع شريعته وسنته لا بمخالفة أوامره وكنز المال بحجرته وحرمان مستحقيه من الفقراء والمساكين وباقي الأصناف الثمانية وإن قال المدخر أكنزها لنزائب الزمان ليستعان بها على مجاهدة الكفار والمشركين عند الحاجة إليها قلنا قد رأينا شدة احتياج ملوك زماننا واضطرارهم في مصالحات المتغلبين عليهم من قرانات الإفرنج وخلو خزائنهم من الأموال التي أفنوها بسوء تدبيرهم وتفاخرهم ورفاهيتهم فيصالحون المتغلبين بالمقادير العظيمة بكفالة إحدى الفرق من الإفرنج المسالمين لهم واحتالوا على تحصيل المال من رعاياهم بزيادة المكوس والمصادرات والطلبات والاستيلاء على الأموال بغير حق حتى أفقروا تجارهم ورعاياهم ولم يأخذوا من هذه المدخرات شيئًا بل ربما كان عندهم أو عند خونداتهم جوهر نفيس من بقايا المدخرات فيرسلونه هدية إلى الحجرة ولا ينتفعون به في مهماتهم فضلًا عن إعطائه لمستحقه من المحتاجين وإذا صار في ذلك المكان لا ينتفع به أحد إلا ما يختلسه العبيد خصيون الذين يقال لهم أغوات الحرم والفقراء من أولاد الرسول وأهل العلم والمحتاجون وأبناء السبيل يموتون جوعًا وهذه الذخائر محجور عليها وممنوعون منها إلى أن حضر الوهابي واستولى على المدينة وأخذ تلك الذخائر فيقال أنه عبى أربعة سحاحير من الجواهر المحلاة بالألماس والياقوت العظيمة القدر ومن ذلك أربع شمعدانات من الزمرد وبدل الشمعة قطعة ألماس مستطيلة يضيء نورها في الظلام نحو مائة سيف قراباتها ملبسة بالذهب الخالص ومنزل عليها ألماس وياقوت ونصابها من الزمرد واليشم ونحو ذلك وسلاحها من الحديد الموصوف كل سيف منها لا قيمة له وعليها دمعات باسم الملوك والخلفاء السالفين وغير ذلك‏.‏

ومنها أن الباشا عزم على عمارة المجراة التي تنقل الماء إلى القلعة وقد خربت وتلاشى أمرها وتهدمت قناطرها وبطل نقل الماء عليها من نحو عشرين سنة فقيد بعمارتها محمد أفندي طبل ناظر المهمات فعمرها وأجرى الماء بها في أواخر الشهر الماضي‏.‏

ومنها أحداث عدة مكوس على أصناف كثيرة منها على بضاعة اللبان عن كل قطعة ثلاثمائة نصف فضة وكذلك على صنف الحناء عن كل مخلة عشرة أنصاف وكذلك الموزونات كل مائة درهم أربعة دراهم على البائع درهمان وعلى المشتري درهمان وغير ذلك حوادث كثيرة لا نعلمها‏.‏ فمات

الأجل المبجل والمحترم المفضل السيد خليل البكري الصديقي

ووالدته من ذرية شمس الدين الحنفي وهو أخو الشيخ أحمد البكري الصديقي الذي كان متوليًا على سجادتهم ولما مات أخوه لم يلها المترجم لما فيه من الرعونة واتكابه أمورًا غير لائقة بل تولاها ابن عمه السيد محمد أفندي مضافة لنقابة الأشراف فتنازع مع ابن عمه المذكور وقسموا البيت الذي هو مسكنهم بالأزبكية نصفين وعمر منابه عمارة متقنة وزخرفه وأنشأ فيه بستانًا زرع فيه أصناف الأشجار والفواكه فلما توفي السيد محمد أفندي تولى المترجم مشيخة السجادة وتولى نقابة الأشراف السيد عمر مكرم الأسيوطي فلما طرق البلاد الفرنساوية تداخل المترجم فيهم وخرج السيد عمر مع من خرج هاربًا من الفرنساوية إلى بلاد الشام وعرف المترجم الفرنساوية أن النقابة كانت لبيتهم وأنهم غصبوها منه فقلدوه إياها واستولى على وقفها وإبرادها وانفرد بسكن البيت وصار له قبول عند الفرنساوية وجعلوه من أعاظم رؤساء الديوان الذي كانوا نظموه لإجراء الأحكام بين المسلمين فكان وافر الحرمة مسموع الكلمة مقبول الشفاعة عندهم فازدحم بيته بالدعاوي والشكاوي واجتمع عنده مماليك من مماليك الأمراء المصرية الذين كانوا خائفين ومتغيبين وعدة خدم وقواسة ومقدم كبير وسراجين وأجناد واستمر على ذلك إلى أن حضر يوسف باشا الوزير في المرة الأولى التي انتقض فيها الصلح ووقعت الحروب في البلدة بين العثمانية والفرنساوية والأمراء المصرية وأهل البلدة فهجم على داره المتهورون من العامة ونهبوه وهتكوا حريمه وعروه عن ثيابه وسحبوه بينهم مكشوف الرأس من الأزبكية إلى وكالة ذي الفقار بالجمالية وبها عثمان كتخدا الدولة فشفع فيه الحاضرون وأطلقوه بعد أن أشرف على الهلاك وأخذه الخواجا أحمد بن محرم إلى داره وأسكن روعه وألبسه ثيابًا وأكرمه وبقي بداره إلى أن انقضت أيام الفتنة وظهرت الفرنساوية على المحاربين لهم وخرجوا من البلدة واستقر بها الفرنساوية فعند ذلك ذهب إليهم وشكا لهم ما حل به بسبب موالاته لهم فعرضوا عليه ما نهب ورجع إلى الحالة التي كان عليها معهم وكانت داره أخربها النهابون فسكن ببيت البارودي بباب الخرق ثم انتقل منه إلى بيت عبد الرحمن كتخدا القازدغلي بحارة عابدين وجدد بها عمارة وكان له ابنة خرجت عن طورها في أيام الفرنسيس فلما أشيع حضور الوزير والقبودان والإنكليز وظهر على الفرنساوية الخروج من مصر فقتل ابنته المذكورة بيد حاكم الشرطة فلما استقرت العثمانية بالديار المصرية عزل المترجم عن نقابة الأشراف وتولاها السيد عمر مكرم كما كان قبل الفرنساوية ولما حضر محمد باشا خسرو أنهى إليه لكارهون له بأنه مرتكب للموبقات ويعاقر الشراب وغير ذلك وأن ابنته كانت تذهب إلى الفرنسيس بعلمه وأنه قتلها خوفًا وتبرئة لنفسه من الشهرة التي لا يمكنه سترها ولا يقبل عذره فيها ولا التنصل منها وإنه لا يصلح لمشيخة سجادة السادة البكرية وعرفوه أن هناك شخصًا من سلسلتهم يقال له الشيخ محمد سعد وهو من جملة أتباع المترجم ولكنه فقير لا يملك شيئًا ولا دابة يركبها فقال الباشا أنا أواسيه وأعطيه فأحضروه له بعد أن ألبسوه تاجًا كبيرًا وثيابًا وهو رجل مبارك طاعن في السن فألبسه فروة سمور وقدم له حصانًا معددًا وقيد له ألف قرش وسكن دارًا بناحية باب الخرق وتريش حاله وخمل أمر المترجم واشترى دارًا بدرب الجماميز بعطفة الفرن وكان بظاهرها قطعة جنينة فاشتراها وغرس بها أشدارًا وحسنها وأتقنها وبنى له مجلسًا مطلًا عليها وبالأسفل مياطب ولواوين جلوس لطيفة واشترى دارين من دور الأمراء المتقدمينن بظاهر ذلك وهدمهما وبنى بأنقاضهما وأخشابهما وباع ما كان تحت يده من حصص الالتزام وسد بأثمانها ديونه واقتصر على إيراده فيما يخصه من وقف جده لأنه الأستاذ الحنفي وتصدى لمفاقمته وأذيته أنفار من المتظاهرين مثل السيد عمر مكرم النقيب والشيخ محمد وفا السادات وخلافهما حتى أنه كان عقد لابنه سيدي أحمد على بنت المرحوم محمد أفندي البكري فتعصبوا عليه بعد عزله من المشيخة والنقابة وأبطلوا العقد وفسخوا النكاح ببيت القاضي ةتسلط عليه من له دين أو دعوى أو مطالبة حتى بيعوه حصصه وكان قد أشترى مملوكًا في أيام الفرنساوية جميل الصورة فلما حصل له ما حصل ادعى عليه البائع أنه أخذه بدون القيمة ولم يدفع له الثمن فلم يثبت عليه ذلك وكان المملوك ذهب من عنده وتم الأمر والمصالحة على أن عثمان بك المرادي أخذ ذلك المملوك لنفسه وقد تقدم ذكر قصته في الحوادث السابقة ولم يزل المترجم على حالة خموله حتى تحرك عليه داء الفتق ومات على حين غفلة في منتصف شهر ذي الحجة وصلي عليه بمسجد جده لأمه الشيخ شمس الدين أبو محمد الحنفي ودفن عند أسلافه بمشهد السادة البكرية بالقرافة رحمه الله وعفا عنا وعنه‏.‏

ومات الأمير شاهين بك المرادي ويعرب بباب اللوق لأنه كان ساكنًا هناك وهو من مماليك مراد بك وأصله جركسي الجنس ولما أعتقه مراد بك أنعم عليه بكشوفية إقليم الغربية ثم رجع إلى مصر وأقام بطالًا متطلعًا للإمارة ويرى أنه أحق بها من غيره ولما رجع المصريون إلى مصر بعد قتل طاهر باشا وكان الألفي غائبًا ببلاد الإنكليز انضم إليه عثمان بك البرديسي ووافقه على كراهة الألفي الباطنية وكان هو أحد المباشرين والضاربين لحسين بك الوشاش بالبر الغربي ليلة خروجهم وتعديتهم لملاقاة الأفلي ثم خرج من مصر مع عشيرته ولم يزل حتى مات في منتصف شهر ربيع الأول من السنة المذكورة والله أعلم‏.‏

سنة أربع وعشرين ومائتين وألف استهل شهر المحرم بيوم الخميس وفي تلك الليلة أعني ليلة الجمعة ثانيه مرت سحابة سوداء مظلمة في وقت العشاء وحصل فيها رعد مزعج وبرق مستنير شديد اللمعان وأمطرت في محلات قليلًا وفي أخرى كثيرًا ثم انجلت السماء سريعًا فظهرت النجوم وبعد أيام أخبر الواردون من ناحية السماحات بالغربية أنها أمطرت بتلك الناحية في تلك الليلة بردًا كبيرًا وصغيرًا والكبير في مقدار حجر الطاحون والصغير في مقدار بيض الدجاج وتهدمت منها دور وقتلت مواشي وآدمية وأهلكت زروعًا كثيرة‏.‏

وفي يوم الأحد رابعه قتل الباشا حسين بن الخبيري وهو بترعة الفرعونية وأرسل رأسه إلى مصر فعلقت بباب زويلة‏.‏

وفي أواخره حضر الباشا من ترعة الفرعونية وقد عجز عن سدها بعد أن بذل جهده وفرض الفرض العظيمة على البلاد وأشغلوا المراكب في نقل الأحجار ليلًا ونهارًا والسيد محمد المحروقي متقيد لذلك ومقيم بمسجد الآثار لتشهيل الحجارين ووسقها بالمراكب وقطعها من الجبل قطعًا وصخورًا فكانوا يشقون الجبل بألغام البارود مثل عمل الإفرنج وظهر في قطعهم كهوف وممغارات وتجاويف وتحدث الناس بذلك بأنواع الأكاذيب والخرافات كقولهم ظهر في الجبل باب من حديد وعليه أقفال ففتحوه ونظروا من داخله أشخاصًا على خيول إلى غير ذلك‏.‏

وفيه حضر قاصد من قبودان باشا بطلب عوائده بالإسكندرية فقال له حاكم الإسكندرية ينبغي أن تذهب إلى الباشا بالترعة وتقابله فذهب إليه وقابله عند السد فبات تلك الليلة وأصبح ميتًا فأخرجوه إلى المقبرة ثم حضر قاصد آخر يخبر بوصول قابجي وعلى يده مرسومان أحدهما الأخبار عن صلح الدولة مع الإنكليز والموسكوب وانفتاح البحر وأمن المسافرين والثاني الأمر بالسفر والخروج إلى فتح الحرمين وطرد الوهابية عنهما وأن يوسف باشا الصدر السابق المعروف بالمعدن تعين بالسفر للحرمين على طريق الشام وكذلك سليمان باشا والي بغداد متعين أيضًا بالسفر من ناحيته على الدرعية وأحضر للباشا تقريرًا بالولاية مجددًا وخلعة وسيفًا‏.‏

ودخلت سنة 1224 واستهل شهر صفر بيوم السبت سنة 1224 فيه حضر الآغا الواصل إلى بولاق فركب لملاقاته آغات الينكجرية والوالي وأرباب العكاكيز فأركبوه في موكب ودخلوا به من باب النصر وطلع إلى القلعة وقرؤوا المراسيم بحضرة الجمع وبعد الفراغ من قراءتها ضربوا مدافع وشنكًا‏.‏

وفي ذلك اليوم غيمت السماء بالسحاب وأمطرت كثيرًا ونزل مطر ببركة الحاج وجدوا فيه سمكًا صغيرًا من جنس السمك الذي يعرف بالقاروص وصار يتنطط على الأرضص وأحضروا منه إلى مصر وشاهدناه وهو في غاية البرودة‏.‏

وفيه اهتم الباشا بإخراج تجريده إلى الأمراء القبليين وذلك أنه تقدم بالإرسال إليهم يطالبهم بالغلال والأموال الميرية المرار العديدة ويعدون ولا يوفون ووصل إليه من عندهم رضوان كتخدا البرديسي وهو بالترعة ومعه أجوبة وهدية وفيها خيول وجوار وعبيد وسكر وخصيان فاغتاظ الباشا من قال أنا لست أطلب إحسانهم وصدقاتهم حتى أنهم يضحكون على ذقني بهذه الأمور وحيث أنهم لا يرجعون عن الكامن في رؤوسهم فلا بد من خروجي إليهم ومحاربتهم وأرسل إلى من بمصر من الأكبر يأمرهم بالبراز والخروج فخرج حسن باشا وصالح آغا قوج وطاهر باشا وأحمد بك والكثير من أعيانهم بعساكرهم وعدوا إلى بر الجيزة ونصبوا وطاقهم وخيانهم ثم أن رضوان كتخدا لم يزل يلاطفه حتى توافق معه على وعد مقدار مسافة ذهاب الجواب ورجوعه أيامًا معدودة فلما حضر من الترعة أخذ في التشهيل والخروج فانتقلت العساكر إلى البر الغربي وأخذ يستحث في المطلوبات وخروج الخيام وجمع المراكب وسافر قبودان بولاق إلى جهة بحري لجمع المراكب وفرضوا على القرى غلالًا وجمالًا وذلك في عقب ما فرضه عليهم في مهمات الترعة المتقدمة وخلافها من بشارة القبطان والتقرير وما في ضمن ذلك من حق طرق المباشرين والمعينين مع ما الناس فيه من القحط والغلاء في الغلال وغيرها وعدم وجود الغلة والذين لا يقدرون على تحصيل الغلة يلزمونهم بدفع ثمنها بأقصى القيمة بعد مصانعة المباشرين لذلك وإعطائهم الرشوات وحضر أيضًا نعمان سراج باشا من عند إبراهيم بك وقابل الباشا على الترعة فلم ينفع حضوره أيضًا ولم يسمع له قول ورجع مزيفًا‏.‏

وفي خامسه حضر علي بك أيوب وصحبته آخر يقال له رضوان بك البرديسي فطلعا إلى القلعة وتقابلا مع الباشا وانخضع له علي بك أيوب وقبل رجله وترجى عنده في عدم خروج التجريدة وكلمه في أمر الغلال المنكسرة والجديدة وعلى أنهم يقومون بدفع الغلال القديمة بالثمن والجديدة بالكيل وليس عندهم مخالفة والقصد الإمهال إلى حصاد الغلال فقال أنهم إذا حصدوا الغلال أخذوها وفروا إلى الجبال واستمر هذا القيل والقال نحو أربعة أيام ثم أشيع في ثامنه الصلح وفرح الناس واستبشروا بذلك لما يترتب وما يحصل من الفساد وأكل المزروعات وخراب البلدان فإنهم أكلوا في الأربعة أيام التي ترددوا فيها بالجيزة نيفًا وخمسمائة فدان ولما أشيع بالجهة القبلية خروج العساكر للتجريدة انزعجوا وأيسوا من زروعاتهم وخرجوا من أوطانهم على وجوههم لا يدرون أين يذهبون بأولادهم ونسائهم وقصاعهم وتفرقوا في مصر والبلاد البحرية‏.‏

وفي صبحها أعيد أمر التجريدة وأشيع خروج العساكر ثانيًا فانقبضت النفوس ثانيًا وباتوا في نكد وطلبت السلف من المساتير والملتزمين وكتبت الدفاتر وحولت الأكياس وانبثت المعينون للطلب‏.‏

وفي عاشره بطل أمر التجريدة وانقضى أمر الصلح على شروط وهي أنهم التزموا بثلث ما عليهم من غلال الميري وقدره مائة ألف أردب وسبعة آلاف أردب بعد مناقشات ومحققات والذي تولى المناقشات معهم مساعدًا للباشا شاهين بك الألفي والموعد أحد وثلاثون يومًا وسافر علي بك أيوب ورضوان بك البرديسي وأكرمهما الباشا وخلع عليهما‏.‏

وفي حادي عاشره قتل الباشا مصطفى آغا تابع حسن بك في قصبة رضوان ظلمًا وسبب ذلك أنه لما نزل قبودان لجمع المراكب المطلوبة لسفر التجريدة فصادف شخصًا من الأرنؤد الذين يتسببون في بيع الغلال في مركب ومعه غلة وذلك عند قرية تسمى سهرجت فحجزه ليأخذ منه السفينة فقال كيف تأخذها وفيها غلتي قال أخرج غلتك منها على البر واتركها فإنه مطلوبة لمهمات الباشا فلم يرض وخاف على تبددها ولم يجد سفينة أخرى لأن جميع السفن مطلوبة مثلها وقال له عندما أصل بها إلى مصر وأنقل منها الغلة أرسل معي من يأخذها فقال القبودان لا سبيل إلى ذلك وتشاجرا فحنق القبودان على الأرنؤدي وسل عليه سيفه ليضربه فعاجله الأرنؤدي وضربه بالطبنجة فقتله فأراد أتباع القبودان القبض عليه ففر منهم إلى البلدة وبها جماعة من الدلاة معينون لقبض الفرضة فالتجأ إليهم فمانعوا عنه وتنازع الفريقان وكان مصطفى آغا المذكور ملتزم البلدة هناك وغائبًا في بعض شؤونه فبلغه الخبر فحضر إليهم وخاف من وقوع قتل أو شر يقع بالبلدة فيكون سببًا لخراب الناحية فقال يا جماعة اذهبوا بنا إلى الباشا ليرى رأيه فرضوا بذلك وحضر بصحبتهم والقاتل معهم وطلعوا إلى ساحل بولاق فعندما وصلوا إلى البر هرب القاتل وذهب عند عمر بك الأرنؤدي الساكن ببولاق فتبعه الأمير مصطفى المذكور فقال له عمر بك اذهب إلى الباشا وأخبره أنه عندي وأنت لا بأس عليك ففعل فقال له الباشا ولأي شيء لم تحتفظ عليه وتتركه حتى يهرب فاعتذر بعدم قدرته على ذلك من الدلاتية الملتجئ إليهم وكأنهم هم الذين أفلتوه فأمر بحبسه فأرسل إلى عمر بك فحضر إلى الباشا وترجى في إطلاقه فوعده أنه في غد يطلقه إذا حضر القاتل فقال أنه عند أزمير آغا وهو لا يسلم فيه وركب إلى داره فلما كان في الصباح أمر بقتل الأمير مصطفى المذكور فأنزلوه إلى الرميلة ورموا رقبته عند باب القلعة ظلمًا‏.‏

وفي صبحها أيضًا قتلوا شخصًا من الدلاة بسبب هذه الحادثة‏.‏

وفي ثاني يوم قتل الأرنؤد شخصين من الدلاة أيضًا‏.‏

وفي يوم الخميس ثالث عشره أرسل الباشا وطلب الأرنؤدي القاتل للقبودان من عمر بك وشدد في طلبه وقال إن لم يرسله وإلا أحرقت عليه داره فامتنع من إرساله وجمع إليه طائفة من الأرنؤد وصالح آغا قوج جاره وركب الباشا وذهب إلى ناحية الشيخ فرج وحصل ببولاق قلقة وانزعاج ثم ركب الباشا راجعًا إلى داره بالأزبكية وقت الغروب وكثرت الأرجاف والقلقة بين الأرنؤد والدلاتية‏.‏

وفي خامس عشره قتل الأرنؤد شخصين من الدلاتية أيضًا جهة قناطر السباع ثم أن القاتل الذي قتل القبودان التجأ إلى كبير من كبار الأرنؤد فأرسل الباشا إلى حسن باشا يطلب منه ذلك الكبير وأكد في طلبه أو أنه بقطع رأس القاتل ويرسلها فكأنه فعل وأرسل إليه برأس ملفوفة في ملاية تسكينًا لحدته وبردت القضية وسكنت الحدة وراحت على من راحت عليه‏.‏

وفي أواخره أمر الباشا بتحرير دفاتر فرضة الأطيان وزادوا فيها عن عام الشرقي الماضي الثلث وربطوها ورتبوها أربع مراتب تزيد كل ضريبة عن الأخرى مائة نصف فضة أعلاها يبلغ ثمانمائة نصف فضة على أن الفرضة الماضية بقي الكثير منها بالذمم لخراب القرى وعجزهم واختلى لتنظيم ذلك من الأفندية والأقباط بجهات متباعدة الأفندية بربع أيوب ببولاق والأقباط بدير مصر العتيقة حتى حرروا ذلك وتمموه ورتبوه في عد أيام ووقع الطلب في جانب معجلًا سموه الترويجة‏.‏

وفيه أمر الباشا عمر بك الأرنؤدي بالسفر من مصر وقطع خرجه وراتبه هو وعسكره فلم تسعه المخالفة وحاسب على المنكسر له ولعسكره من العلائف وكذلك حلوان البلاد التي في تصرفه فبلغ نحو ستمائة كيس وزعت على دائرة الباشا وخلافهم وكان الباشا ضبط جملة من حصص الناس واستولى عليها من بلاد القليوبية بحري شبرا واختصها لنفسه فلما استولى على حصص عمر بك ودفع حلوانها وهي بالمنوفية والغربية والبحيرة عوض بعض من يراعي جانبه من ذلك وأخذ عمر بك ومن يلوذ به في تشهيل أنفسهم وقضاء حوائجهم‏.‏

واستهل شهر ربيع الأول سنة 1224 فيه شرع السيد عمر مكرم نقيب الأشراف في عمل مهم لختان ابن ابنته ودعا الباشا والأعيان وأرسلوا إليه الهدايا والتعابي وعمل له زفة يوم الاثنين سادس عشره مشى فيها أرباب الحرف والعربات والملاعيب وجمعيات وعصب صعايدة وخلافهم من أهالي بولاق والكفور والحسينية وغيرها من جميع الأصناف وطبول وزمور وجوع كثيرة فكان يومًا مشهودًا اكتريت فيه الأماكن للفرجة وكان هذا الفرح هو آخر طنطنة السيد عمر بمصر فإنه حصل له عقيب ذلك ما سيتلى عليك قريبًا من النفي والخروج من مصر‏.‏

وفيه كمل سد ترعة الفرعونية واستمر العمل فيها وفي تأييد السد بالأحجار والمشمعات والأتربة نحو ستة أشهر وصرف عليها من الأموال ما لا يحصى وجرى مجرى البحر الشرقي وغزر ماؤه وجرت فيه السفن من دمياط بعد أن كان مخاضة وملحت عذوبة النيل بما انعكس فيه وخالطه من ماء البحر الملح إلى قبلي فارس كور وأقام بالسد عمر بك تابع الأشقر لخفارته وتعهد الخلل وكتم الجسر من النشع والتنفيس وسكن هناك ولم يفارقه واستمر في هذه الوظيفة والخدمة ولم يقم بمصر‏.‏

وفي هذا الشهر وما قبله تشحطت الغلال وغلا سعرها حتى بلغ الأردب القمح ألفًا وستمائة نصف فرضة وعز وجوده بالرقع والعرصات وأما السواحل فلا يكاد يوجد بها شيء من الغلة بطول السنة ولولا لطف الله بوجود الذرة لهلكت الخلائق ومع ذلك استمرار المغارم والفرض حتى فرض الغلة عين وكذلك تبن وجمال وما ينضاف إلى ذلك مما سمعته غير مرة مما يطول شرحه‏.‏

وليه نودي على صرف الفراسة والمحبوب والمجر كما نودي في العام الماضي لأنه لما نودي بنقص صرفها ومضى نحو الشهر أو الشهرين رجع الصرف إلى ما كان عليه وزيادة فأعيد النداء كذلك وسيعود الخلاف ما دام الكرب والضيق بالناس على أن هذه المناداة والأوامر بالنقص والزيادة ليست من باب الشفقة على الناس ولا الرحمة وإنما هي بحسب أغراضهم وزيادة طمعهم فإنه إذا توجهت المطالبات بالفرض والمغارم نودي بالنقص ليزيد الفرط وتتوفر لهم الزيادة ويحصل التشديد والمعاقبة على من يقبض بالزيادة من أهل الأسواق وإذا كان الدفع من خزانتهم في علائف العسكر أو لوازمهم الكبيرة قبضوها بأزيد من الزيادة التي نادوا عليها من غير مبالاة ولا احتشام تناقض ما لنا إلا السكوت عنه‏.‏

وفي أواخره تواجدت الغلال وانحل سعرها وحضر الفلاحون ببداري الغلة وانحط السعر والحمد لله‏.‏

واستهل شهر ربيع الثاني سنة 1224 في سادسه وردت مراسيم من الروم وبشارة بمولودة ولدت للسلطان وسموها فاطمة وفي المراسيم الأمر بالزينة فاقتضى الرأي أن يعملوا شنكًا ومدافع من القلعة تضرب في الأوقات الخمسة سبعة أيام وهذا شيء لم يسمع بمثله فيما سبق أن يعملوا للأنثى شنكًا أو زينة أو يذكر ذلك مطلقًا وإنما يعمل ذلك للمولود الذكر من بدع الأعاجم‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثامنه حضر من الأمراء المصريين القبالي مرزوق بك ابن إبراهيم بك وسليم آغا مستحفظان وقاسم بك سلحدار مراد بك وعلي بك أيوب حسب الاتفاق المتقدم في تقرير الصلح ولكن لم يكن سليم آغا مذكورًا في الحضور بل كان منجمعًا وممتنعًا عن التداخل في هذه الأحوال والسبب في حضوره أن زوجته توفيت من نحو نصف شهر فحضر لأجل تركتها ومتاعه إلى عندها وحصصها ولما حضر وجد الباشا استولى على ذلك وأخذ المتاع والمصاغ والجواهر والعقار وأخذ الحصص وأخذ حلوانها وذلك بيد محمود بك الدويدار فلما حضر سليم آغا لم يجد شيئًا لا دار ولا عقار ولا نافخ نار فنزل عند علي بك أيوب بمنزله بشمس الدولة فحضر إليه محمود بك الدويدار والترجمان وأخذ بخاطره وطمناه وأخبراه أن الباشا سيعوض عليه ما ذهب منه وزيادة وزرعا له فوق السطوح فلم يسعه إلا التسليم‏.‏

وفيه سقط سقف القصر الذي أنشأه الباشا بشبرا وشرعوا في تعميره ثانيًا‏.‏

وفيه وصل الخبر بحضور زوجة الباشا أم أولاده وابنه الصغير واسمه إسماعيل وابن بونابارته الخازندار وكثير من أقاربهم وأهاليهم حضر الجميع من بلدهم قوله إلى الإسكندرية فإنهم لما طابت لهم مصر واستوطنوها وسكنوها وتنعموا فيها أرسلوا إلى أهاليهم وأولادهم وأقاربهم بالحضور فكانوا في كل وقت يأتون أفواجًا أفواجًا نساء ورجالًا وأطفالًا فلما وصل خبر وصولهم إلى اسكندرية سافر لملاقاتها ابنها إبراهيم بك الدفتردار وذلك حادي عشره‏.‏

وفي ثالث عشره حضر المذكور قبل حضور الواصلين ولما وصلوا نزل الباشا لملاقاتهم إلى بولاق‏.‏

وفي يوم الاثنين رابع عشره نبهوا على جميع النساء والخوندات وكل من كانت لها اسم في الالتزام أن يركبن بأسرهن ويذهبن إلى ملاقاة امرأة الباشا ببولاق وذلك صبح يوم الأربعاء واعتذرت الست نفيسة المرادية بأنها مريضة ولا تقدر على الحركة والخروج فلم يقبلوا لها عذرًا فلما كان صبح يوم الأربعاء اجتمع السواد الأعظم من النساء بساحل بولاق على الحمارة المكارية وهم أزيد من خمسمائة مكاري حتى ركبت زوجة الباشا وساروا معها إلى الأزبكية وضربوا لوصولها وحلولها بمصر عدة مدافع كثيرة من القلعة والأزبكية ثم وصلت الهدايا والتقادم وأقبلت من كل ناحية الهدايا المختصة بالأولاد والمختصة بالنساء‏.‏

واستهل شهر جمادى الأولى سنة 1224 في ثالثه يوم السبت نزل عمر بك الأرنؤد إلى المراكب من بيته من بولاق وسافر على طريق دمياط ليذهب إلى بلاده وسافر معه نحو المائة وهم الذين جمعوا الأموال واجتمع لعمر بك المذكور من المال والنوال أشياء كثيرة عبأها في صناديق كثيرة وأخذها معه وذلك خلاف ما أرسله إلى بلاده في دفعات قبل تاريخه‏.‏

وفي يوم الخميس خامس عشره سافر علي بك أيوب وسليم آغا مستحفظان إلى ناحية قبلي وفيه طلب الباشا ألف كيس من لمعلم غالي وألزمه بها فوزعها على المباشرين والكتبة وجمعها في أقرب زمن‏.‏

وفيه حضر سلحدار الوزير يوسف باشا وعلى يده مرسوم مضمونه طلب ما كان أحدثه حين كان بمصر على أوراق الإقطاعات والفراغات وتقاسيط الالتزام الذي سموه قصر اليد وخرج القلم وجعل إيراد ذلك لنفسه فأرسل يطلب ذلك من تاريخ سنة 1217 سبعة عشر ومائتين وألف إلى وقت تاريخه حسب قدر ذلك فبلغ نيفًا وأربعة آلاف كيس‏.‏

وفيه شرعوا في تحرير دفتر بنصف فائظ الملتزمين ودفتر آخر بفرض مال على الرزق الإحباسية المرصدة على المساجد والأسبلة والخيرات وجهات البر والصدقات وكذلك أطيان الأوسية المختصة أيضًا بالملتزمين وكتبوا مراسيم إلى القرى والبلاد وعينوا بها معينين وحق طرق من طرف كشاف الأقاليم بالكشف على الرزق المرصدة على المساجد والخيرات وتقدموا إلى كل متصرف في شيء من هذه الأطيان وواضع عليها يده بأن يأتي بسنده إلى الديوان ويجدد سنده ويقوى بمرسوم جديد وإن تأخر عن الحضور في ظرف أربعين يومًا يرفع عنه ذلك ويمكن منه غيره وذكروا في مرسوم الأمر علة وحجة لم يطرق الأسماع نظيرها بأنه إذا مات السلطان أو عزل بطلت تواقيعه ومراسيمه وكذلك نوابه ويحتاج إلى تجديد تواقيع من نواب المتولي الجديد ونحو ذلك ثم ليعلم أن هذه الإرصادات والأطيان موضوعة من أيام الملك الناصر يوسف صلاح الدين الأيوبي في القرن الخامس من مصاريف بيت المال ليصل إلى المستحقين بعض استحقاقهم من بيت المال بسهولة ثم اقتدى به في ذلك الملوك والسلاطين والأمراء إلى وقتنا هذا فيبنون المساجد والتكايا والربط والخوانق والأسبلة ويرصدون عليها أطيانًا يخرجونها من زمام أو سيتهم فيستغل أخراجها أو غلالها لتلك الجهة وكذلك يربطون على بعض الأشخاص من طلبة العلم والفقراء على وجه البر والصدقة ليتعيشوا بذلك ويستعينوا به على طلب العلم وإذا مات المرصد عليه ذلك قرر القاضي أو الناظر خلافه ممن يستحق ذلك وقيد اسمه في سجل القاضي ودفتر الديوان السلطاني عند الأفندي المقيد بذلك الذي عرف بكاتب الرزق فيكتب له ذلك الأفندي سندًا بموجب التقرير يقال له الإفراج ثم يضع عليه علامته ثم علامة الباشا والدفتردار ولكل إقليم من الأقاليم القبلية والبحرية دفتر مخصوص عليه طرة من خارج مكتوب فيها اسم ذلك الإقليم ليسهل الكشف والتحرير والمراجعة عند الاشتباه وتحرير مقادير حصص أرباب الاستحقاقات ولم يزل ديوان الرزق الأحباسية محفوظًا مضبوطًا في جميع الدول المصرية جيلًا بعد جيل لا يتطرفه خلل إلا ما ينزل عنه أرباب لشدة احتياجهم بالفراغ لبعض الملتزمين بقدر من الدراهم معجل ويقرر للمفرغ على نفسه قدرًا مؤجلًا دون القيمة الأصلية في نظير المعجل الذي دفعه للمفرغ ويسمونها حينئذ داخل الزمام لم تزل على ذلك بطول القرون الماضية وتملك الفرنساوية الديار المصرية فلم يتعرضوا الشيء من ذلك ولما حضر شريف أفندي الدفتردار بعد دخول يوسف باشا الوزير ووجه الطلب على الملتزمين بأن يدفعوا للدولة حلوانًا جديدًا على النظام والنسق الذي ابتدعوه للتحيل على تحصيل المال بأي وجه زاعمين أن أرض مصر صارت دار حرب بتملك الفرنساوية وأنهم استنقذوها منهم واستولوا عليها باستيلاء جديد وصارت جميع أراضيها ملكًا لهم فمن يريد الاستيلاء على شيء من أرض وغيرها فليشتره من نائب السلطان بمبلغ الحلوان الذي قدروه واطلعوا عليه على التقاسيط وفي بعضها ما رفع عنه الميري الذي يقبض للخزينة بإذن الولاة بعد المصالحات والتعويض من المصاريف والمصارف الميرية كالعلائف والغلال والبعض تمم ذلك بمراسيم سلطانية كما يقولون شريفة بحيث يصير الالتزام مثل الرزق الأحباسية ويسمونه خزينة بند ومنهم من أبقى على التزامه شيئًا قليلًا سموه مال الحماية فلم يسهل بهم إبطال ذلك بل جعل عليها الدفتردار الميري الذي كان مقيدًا عليها أو أقل أو زيد بحسب واضع اليد وإكرامه إن كان ممن يكرم وضمه إلى مال الحماية الأصلي أو المستجد فقط وضيع على الناس سعيهم وما بذلوه من مرتباتهم وعلائفهم التي وضعوها وقيدوها في نظير جعلها بند كما ذكر تقي لكتابة الإعلامات عبد الله أفندي رامز القبودان وقاضي باشا وسمي في ذلك الوقت بكاتب الميري وتوجه نحوه الناس لأجل كتابة الإعلامات لثبوت رزقهم الأحباسية وتجديد سنداتها فتعنت عليهم بضروب من التعنت كأن يطلب من صاحب العرضحال إثبات استحقاقه فإذا ثبت له لا يخلو إما أن يكون ذلك بالفراغ أو المحلول فيكلفه إحضار السنجات وأوراق الفرآغات القديمة فربما عدمت أو بليت لتقادم السنين أو تركها واضع اليد لاستغنائه عنها بالسند الجديد أو كان القديم مشتملًا على غير المفروغ عنه فيخصم بهامشه بالمنزول عنه ويبقى القديم عند صاحب الأصل فإن أحضره إليه تعلل بشيء آخر واحتج بشبهة أخرى فإذا لم يبق له شبهة طالبه بحلوانها عن مقدار إيرادها ثلاث سنوات وإلا فخمس سنوات وذلك خلاف المصاريف فضج الناس واستغاثوا بشريف أفندي دفتردار فعزل عبد الله أفندي رامز المذكور عن ذلك وقيد أحد كتابه الإعلامات وقرر على كل فدان عشرة أنصاف فضة فما دونها يرسمها في السند الجديد وجعلها مال حماية وأوهم الناس أن مال الحماية يكون زيادة في تأكيد الأحباس وحماية له من تطرق الخلل فاستسهل الناس ذلك وشاع في الإقليم المصري فأقبل الناس من البلاد القبلية والبحرية لتجديد سنداتهم فطفقوا يكتبون السندات على نسق تقاسيط الالتزام لا على الوضع القديم ويعلم عليها الدفتردار فقط وأما الصورة القديمة فكانت تكتب في كاغد كبير بخط عربي مجرد وعليها طرة بداخلها اسم والي مصر وممهورة بختمه الكبير وعليها علامة الدفتردار وبداخلها صورة أخرى تسمى التذكرة مستطيلة على صورة التقسيط الفرمة ممهورة أيضًا وعليها العلامة والختم وهي متضمنة ما في الكبيرة وعلى ذلك كان استمرار الحال في هذا الأوان من قرون خلت ومدد مضت‏.‏

وفيه أيضًا حرروا دفتر الإقليم البحيرة بمساحة الطين الري والشارقي وأضافوا إليه طين الأوسية والرزق وكتبوا بذلك مناشير وأخرج المباشرون كشوفاتها بأسماء الملتزمين فضج الناس واجتمعوا إلى مشايخ الأزهر وتشكوا فوعدوهم بالتكلم في شأن ذلك بعد التثبت‏.‏

وفيه قبض آغات التبديل على شخص من أهل العلم من أقارب السيد حسن البقلي وحبسه فأرسل المشايخ يترجون في إطلاقه فلم يفعل وأرسله إلى القلعة‏.‏

وفيه سعى محمد أفندي طبل ناظر المهمات لصديقه السيد سلامة النجاري عند الباشا في العام ووظيفة وسبب ذلك أن المذكور أرسل جملة طاقات من الأقمشة الهندية الغريبة المقصبة وغيرها وحصانًا من أعظم خيول المصريين كان اشتراه منهم هدية إلى محمد أفندي المذكور فاقتضت مروءته أنه أخذها وقدمها للباشا وقال له أن السيد سلامة أحضر هذه الهدية لأفندينا شكرًا لأنعامه السابق عليه فقبلها الباشا وأنعم عليه بعشرة أكياس وأمر محمد أفندي بأن يجعله في وظيفة معه‏.‏

وفيه أيضًا شرعوا في تحرير دفتر بنصف فائظ الملتزمين بأنواع الأقمشة وباعة النعالات التي هي الصرم والبلغ وجعلوا عليها ختمية فلا يباع منها شيء حتى يعلم بيد الملتزم ويختم وعلى وضع الختم والعلامة قدر مقدر بحسب تلك البضاعة وثمنها فزاد الضجيج واللغط في الناس‏.‏

وفي يوم السبت سابع عشره حضر المشايخ بالأزهر على عادتهم لقراءة الدروس فحضر الكثير من النساء والعامة وأهل المسجون وهم يرخون ويستغيثون وأبطلوا الدروس واجتمع المشايخ بالقبلة وأرسلوا إلى السيد عمر النقيب فحضر إليهم وجلس معهم ثم قاموا وذهبوا إلى بيوتهم ثم اجتمعوا في ثاني يوم وكتبوا عرضحال إلى الباشا يذكرون فيه المحدثات من المظالم والبدع وختم الأمتعة وطلب مال الأوسية والرزق والمقاسمة في الفائظ وكذلك أخذ قريب البقلي وحبسه بلا ذنب وذلك بعد أن جلسوا مجلسًا خاصًا وتعاهدوا وتعاقدوا على الاتحاد وترك المنافرة وعند ذلك حضر ديوان أفندي وقال الباشا يسلم عليكم ويسأل عن مطلوباتكم فعرفوه بما سطروه إجمالًا وبينوه له تفصيلًا فقال ينبغي ذهابكم إليه تخاطبونه مشافهة بما تريدون وهو لا يخالف أوامركم ولا يرد شفاعتكم وإنما القصد أن تلاطفوه في الخطاب لأنه شاب مغرور جاهل وظالم غشوم ولا تقبل نفسه التحكم وربما حمله غروره على حصول ضرر بكم وعدم إنفاذ الغرض فقالوا بلسان واحد لا نذهب إليه أبدًا ما دام يفعل هذه الفعال فإن رجع عنها وامتنع عن إحداث البدع والمظالم عن خلق الله رجعنا إليه وترددنا عليه كما كنا في السابق فإننا بايعناه على العدل لا على الظلم والجور فقال لهم ديوان أفندي وأنا قصدي أن تخاطبوه مشافهة ويحصل إنفاذ الغرض فقالوا لا نجتمع عليه أبدًا ولا نثير فتنة بل نلزم بيوتنا ونقتصر على حالنا ونصبر على تقدير الله بنا وبغيرنا وأخذ ديوان أفندي العرضحال ووعدهم برد الجواب ثم بعد رجوعه أطلقوا قريب لسيد حسن البقلي الذي كان محبوسًا ولم يعلم ذلك ثم انتظروا عودة ديوان أفندي فأبطأ عليهم وتأخر عوده إلى خامس يوم بعد الجمعية فاجتمع الشيخ المهدي والشيخ الدواخلي عند محمد أفندي طبل ناظر المهمات وثلاثتهم في نفسهم للسيد عمر ما فيها وتناجوا مع بعضهم ثم انتقلوا في عصريتها وتفرقوا وحضر المهدي والدواخلي إلى السيد عمر وأخبراه أن محمد أفندي ذكر لهم أن الباشا لم يطلب مال الأوسية ولا الروق وقد كذب من نقل ذلك وقال أنه يقول إني لا أخالف أوامر المشايخ وعند اجتماعهم ومواجهته يحصل كل المراد فقال السيد عمر أما إنكاره طلب مال الرزق والأوسية فها هي أوراق من أوراق المباشرية عندي لبعض الملتزمين مشتملة على الفرضة ونصف الفائظ ومال الأوسية والرزق وأما الذهاب إليه فلا أذهب إليه أبدًا وإن كنتم تنقضون الأيمان والعهد الذي وقع بيننا فالرأي لكم ثم انفض المجلس وأخذ الباشا يدبر في تفريق جمعهم وخذلان السيد عمر لما في نفسه من عدم إنفاذ أغراضه ومعارضته له في غالب الأمور ويخشى صولته ويعلم أن الرعية والعامة تحت أمره إن شاء جمعهم وإن شاء فرقهم وهو الذي قام بنصره وساعده وأعانه وجمع الخاصة والعامة حتى ملكه الإقليم ويرى إن شاء فعل بنقيض ذلك فطفق يجمع إليه بعض أفراد من أصحابه المظهر ويختلي معه ويضحك إليه فيغتر بذلك ويرى أنه صار من المقربين وسيكون له شأن إن وافق ونصح فيفرغ له جراب حقده ويرشده بقدر اجتهاده لما فيه من المعاونة ثم في ليلتها حضر ديوان أفندي وعبد الله بكتاش الترجمان وحضر المهدي والدواخلي الجميع عند السيد عمر وطال بينهم الكلام والمعالجة في طلوعهم ومقابلتهم الباشا ورقرق لذلك كل من المهدي والدواخلي والسيد عمر مصمم على الامتناع ثم قالوا لابد من كون الشيخ الأمير معنا ولا نذهب بدونه فاعتذر الشيخ الأمير بأنه متوعك ثم قام المهدي والدواخلي وخرجا صحبة ديوان أفندي والترجمان وطلعوا إلى القلعة وتقابلوا مع الباشا ودار بينهم كلام وقال في كلامه أنا لا أرد شفاعتكم ولا أقطع رجاءكم والواجب عليكم إذا رأيتم مني انحرافًا أن تنصحوني وترشدوني ثم أخذ يلوم على السيد عمر في تخلفه وتعنته ويثني على البواقي وفي كل وقت يعاندني ويبطل في أحكامي ويخوفني بقيام الجمهور فقال الشيخ المهدي هو ليس إلا بنا وإذا خلا عنا فلا يسوى بشيء إن هو إلا صاحب حرفة أو جابي وقف يجمع الإيراد ويصرفه على المستحقين فعند ذلك تبين قصد الباشا لهم ووافق ذلك ما في نفوسهم من الحقد للسيد عمر والشيخ الدواخلي حضوره نيابة عن الشيخ الشرقاوي وعن نفسه ثم تناجوا معه حصة وقاموا منصرفين مذبذبين ومظهرين خلاف ما هو كامن في نفوسهم من الحقد وحظوظ النفس غير مفكرين في العواقب وحضروا عند السيد عمر وهو ممتلئ بالغيظ مما حصل من الشذوذ ونقض العهد فأخبروه بأن الباشا لم يحصل منه خلاف وقال أنا لا أرد شفاعتكم ولكن نفسي لا تقبل التحكم والواجب عليكم إذا رأيتموني فعلت شيئًا مخالفًا أن تصحوني وتشفعوا فأنا لا أردكم ولا أمتنع من قبول نصحكم وأما ما تفعلونه من التشنيع والاجتماع بالأزهر فهذا لا يناسب منكم وكأنكم تخوفوني بهذا الاجتماع وتهيج الشرور وقيام الرعية كما كنتم تفعلون في زمان المماليك فأنا لا أفزع من ذلك وإن حصل من الرعية أمر ما فليس عندي إلا السيف والانتقام فقلنا له هذا لا يكون ونحن لا نحب ثوران الفتن وإنما اجتماعنا لأجل قراءة البخاري وندعو الله برفع الكرب ثم قال أريد أن تخبروني عمن أنتبذ لهذا الأمر ومن ابتدأ بالخلف فغالطناه وأنه وعدنا بإبطال الدمغة وتضعيف الفائظ إلى الربع بعد النصف وأنكر الطلب بالأوسية والرزق من إقليم البحيرة ثم قاموا منصرفين وانفتح بينهم باب النفاق واستمر القال والقيل وكل حريص على حظ نفسه وزيادة شهرته وسمعته ومظهر خلاف ما في ضميره‏.‏

فيه حضر ديوان أفندي وعبد الله بكتاش الترجمان واجتمع المشايخ ببيت السيد عمر وتكلموا في شأن الطلوع إلى الباشا ومقابلته فحلف السيد عمر أنه لا يطلع إليه ولا يجتمع به ولا يرى له وجهًا إلا إذا أبطل هذه الأحدوثات وقال أن جميع الناس يتهموني معه ويزعمون أنه لا يتجارأ على شيء يفعله إلا باتفاقي معه ويكفي ما مضى ومهما تقادم يتزايد الظلم والجور وتكلم كلامًا كثيرًا فلما لم يجبهم إلى الذهاب وقالوا إذا يطلع المشايخ وأرسلوا الشيخ الأمير فاعتذر بأنه متوعك الجسم ولا يقدر على الحركة ولا الركوب ثم اتفقوا على طلوع الشيخ عبد الله الشرقاوي والمهدي والدواخلي والفيومي وذلك على خلاف غرض السيد عمر وقد ظن أنهم يمتنعون لامتناعه للعهد السابق والأيمان فلما طلعوا إلى الباشا وتكلموا معه وقد فهم كل منهم لغة الآخر الباطنية ثم ذاكروه في أمر المحدثات فأخبرهم أنه يرفع بدعة الدمغة وكذلك يرفع الطلب عن الأطيان الأوسية وتقرير ربع الفائظ وقاموا على ذلك ونزلوا إلى بيت السيد عمر وأخبروه بما حصل فقال وأعجبكم ذلك قالوا ثلاث قال‏:‏ إنه أرسل يخبرني بتقرير ربع المال الفائظ فلم أرض وأبيت إلا رفع ذلك بالكلية فإنه في العام السابق لما حصل إحداث الربع قلت له هذه تصير سنة متبعة فحلف أنها اثنين قوله قالوا‏:‏ قال إلخ‏.‏

وهكذا في جميع النسخ التي معنا ولعله قالوا لا أو نعم أو نحو ذلك كذا بهامش الأصل لا تكون بعد هذا العام ولعله قالوا أو نعم أو نحو ذلك كذا بهامش الأصل لا تكون بعد هذا العام وذلك لضرورة النفقة وإن طلبها في المستقبل يكون ملعونًا ومطرودًا من رحمة الله وعاهدني على ذلك وهذا في علمكم كما لا يخفاكم قالوا نعم وأما قوله أنه رفع الطلب عن الأوسية والرزق فلا أصل لذلك وها هي أوراق البحيرة وجهوا بها الطلب فقالوا إننا ذكرنا له ذلك فأنكر وكابرناه بأوراق الطلب فقال أن السبب في طلب ذلك من إقليم البحيرة خاصة وأن الكشافين لما نزلوا للكشف على أراضي الري والشراقي ليقرروا عليها فرضة الأطيان حصل منهم الخيانة والتدليس فإذا كان في أرض البلدة خمسمائة فدان ري قالوا عليها مائة وسموا الباقي رزقًا وأوسية فقررت ذلك عقوبة لهم في نظيرته لبسهم وخيانتهم فقال السيد عمر وهل ذلك أمر واجب فعله أليس هو مجرد جور وظلم أحدثه في العام الماضي وهي فرضة الأطيان التي ادعى لزومها لإتمام العلوفة وحلف أنه لا يعود لمثلها فقد عاد وزاد وأنتم توافقونه وتسايرونه ولا تصدونه ولا تصدعونه بكلمة وأنا الذي صرت وحدي مخالف وشاذًا ووجه عليهم اللوم في نقضهم العهد والأيمان وانفض المجلس وتفرقت الآراء وراج سوق النفاق وتحركت حفائظ الحقد والحسد وكثر سعيهم وتناجيهم بالليل والنهار والباشا يراسل السيد عمر ويطلبه للحضور إليه والاجتماع به ويعده بإنجاز ما يشير عليه به وأرسل إليه كتخدا ليترفق به وذكر له أن الباشا يرتب له كيسًا في كل يوم ويعطيه في هذا الحين ثلاثمائة كيس خلاف ذلك فلم يقبل ولم يزل الباشا متعلق الخاطر بسببه ويتجسس ويتفحص عن أحواله وعلى من يتردد عليه من كبار العسكر وربما أغرى بهب عض الكبار فراسلوه سرًا وأظهروا له كراهيتهم للباشا وأنه إن انتبذ لمفاقمته ساعدوه وقاموا بنصرته عليه فلم يخف على السيد عمر مكرم ولم يزل مصممًا وممتنعًا عن الاجتماع به والامتثال إليه ويسخط عليه والمترددون أيضًا ينقلون ويحرفون بحسب الأغراض والأهواء واتفق في أثناء ذلك أن الباشا أمر بكتابة عرضحال بسبب المطلوب وزير الدولة وهي الأربعة آلاف كيس ويذكر فيه أنها صرفت في المهمات منها ما صرف في سد ترعة الفرعونية ومبلغه ثمانمائة كيس وعلى تجاريد العساكر لمحاربة الأمراء المصرية حتى دخلوا في الطاعة كذلك مبلغًا عظيمًا وما صرف في عمارة القلعة والمجرأة التي تنقل المياه إليها مبلغًا أيضًا وكذلك في حفر الخلجان والترع ونقص المال الميري بسبب شراقي البلاد ونحو ذلك وأرسله إلى السيد عمر ليضع خطه وختمه عليه فامتنع وقال أما ما صرفه على سد الترعة فإن الذي جمعه وجباه من البلاد يزيد على ما صرفه أضعافًا كثيرة أما غير ذلك فكله كذب لا أصل له وإن وجد من يحاسبه على ما أخذ من القطر المصري من الفرض والمظالم لما وسعته الدفاتر فلما ردوا عليه وأخبروه بذلك الكلام حنق واغتاظ في نفسه وطلبه للاجتماع به فامتنع فلما أكثر من التراسل قال إن كان ولا بد فأجتمع معه في بيت السادات وأما طلوعي إليه فلا يكون فلما قيل له في ذلك ازداد ولما أصبح يوم الأربعاء سابع عشرينه ركب الباشا وحضر إلى بيت ولده إبراهيم بك الدفتردار وطلب القاضي والمشايخ المذكورين وأرسل السيد عمر رسولًا من طرفه ورسولًا من طرف القاضي للحضور ليتحاقق ويتشارع معه فرجعا وأخبرا بأنه شرب دواء ولا يمكنه الحضور في هذا اليوم وكان قد أحضر شيخ السادات الوفائية والشيخ الشرقاوي فعند ذلك أحضر الباشا خلعة وألبسها لشيخ السادات على نقابة الأشراف وأمر بكتابة فرمان بخروج السيد عمر ونفيه من مصر يوم تاريخه فتشفع المشايخ في إمهاله ثلاثة أيام حتى يقضي أشغاله فأجاب إلى ذلك ثم سألوه في أن يذهب إلى بلده أسيوط فقال لا يذهب إلى أسيوط ويذهب إما إلى سكندرية أو دمياط فلما ورد الخبر على السيد عمر بذلك قال أما منصب النقابة فإني راغب عنه وزاهد فيه وليس فيه إلا التعب وأما النفي فهو غاية مطلوبي وأرتاح من هذه الورطة ولكن أريد أن يكون في بلدة لم تكن تحت حكمه إذا لم يأذن لي في الذهاب إلى أسيوط فليأذن لي في الذهاب إلى الطور أو إلى ورثه فعرفوا الباشا فلم يرض إلا بذهابه إلى دمياط ثم أن السيد عمر أمر باشجاويش أن يأخذ الجاويشية ويذهب بهم إلى بيت السادات وأخذ في أسباب السفر‏.‏

وفي يوم الخميس ثامن عشرينه الموافق لخامس مسرى القبطي أوفى النيل المبارك ونوجي بالوفاء تلك الليلة وخرج الناس لأجل الفرجة والضيافات في الدور المطلة على الخليج فلما كان آخر النهار برزت الأوامر بتأخير الموسم لليلة السبت بالروضة فبرد طعام أهل الولائم والضيافات وتضاعفت كلفهم ومصاريفهم وحصلت الجمعية ليلة السبت بالروضة وعند قنظرة السد وعملوا الحراقات والشنك وحضر الباشا وأكابر دولته والقاضي وكسر السد بحضرتهم وجرى الماء في الخليج وانفض الجمع‏.‏

وفي ذلك اليوم اعتنى السيد محمد المحروقي بأمر السيد عمر وذهب إلى الباشا وكلمه وأخبره بأنه أقامه وكيلًا على أولاده وبيته وتعلقاته فأجازه بذلك وقال هو آمن من كل شيء وأنا لم أزل أراعي خاطره ولا أفوته ثم أرسل السيد المحروقي فحضر بن ابنه السيد عمر فقابل به الباشا وطمن خاطره ولكن قال لابد من سفره إلى دمياط وعندما طلب السيد المحروقي الغلام إلى الباشا أشيع في الناس وقوع الرضا وتناقل الناس ذلك وفرح أهل منزله وزغرطوا وسروا واستمروا على ذلك حتى رجع الغلام وبين أنه لا شيء فانقلب الفرح بالترح وتعين بالسفر صحبة السيد عمر كتخدا الأفي إلى دمياط‏.‏ واستهل

شهر رجب بيوم الأحد سنة 1224

فيه اجتمع المودعون للسيد عمر ثم حضر محم كتخدا المذكور فعند وصوله قام السيد عمر وركب في الحال وخرج صحبته وشيعه الكثير من المتعممين وغيرهم وهم يتباكون حوله حزنًا على فراقه وكذلك اغتم الناس على سفره وخروجه من مصر لأنه كان ركنًا ولجًا مقصدًا للناس ولتعصبه على نصرة الحق فسار إلى بولاق ونزل في المركب وسافر في ليلته بأتباعه وخدمه الذين يحتاج إليهم إلى دمياط‏.‏

وفي ذبح ذلك اليوم حضر الشيخ المهدي عند الباشا وطلب وظائف السيد عمر فأنعم عليه الباشا بنظر أوقاف الإمام الشافعي ونظر وقف سنان باشا ببولاق وحاسب على المنكسر له من الغلال مدة أربع سنوات فأمر يدفعها له من خزينته نقدًا وقدرها خمسة وعشرون كيسًا وذلك في نظير اجتهاده في خيانة السيد عمر حتى أوقعوا به ما ذكر‏.‏

وفيه تقيد الخواجا محمود حسن بزوجان باشا بعمارة القصر والمسجد الذي يعرف بالآثار النبوية فعمرها على وضعها القديم وقد كان آل إلى الخراب‏.‏

وفي يوم الثلاثاء خلع الباشا على ثلاثة من الأجناد المصرية المنسوبين لسليمان بك البواب وقلدهم صناجق وأمراء الوقت وضم إليهم عساكر أتراك وأرنؤد ليسافر الجميع إلى الجهة القبلية بسبب عصيان الأمراء المرادية وتوقفهم عن دفع المال والغلال وكذلك عين للسفر أيضًا أحمد آغا لاظ وصالح قوج وبونابارته وحسن باشا وعابدين بك فارتجت البلد وطلبوا المراكب فتعطل المسافرون إلى الجهة القبلية والبحرية وكذلك امتنع مجيء الواصلين بالغلال والبضائع خوفًا من التسخير وقد كان حصل بعض الاطمئنان وسلوك الطريق القبلية ووصول المراكب بالغلال والمجلوبات‏.‏

وفي عاشره سافر أحمد آغا لاظ وصالح قوج وخرجوا بعساكرهم ونزلوا في المراكب وذهبوا إلى قبلي‏.‏

وفيه حضر محمد كتخدا الألفي من دمياط راجعًا من تشييع السيد عمر ووصوله إلى دمياط واستقراره بها‏.‏

وفي يوم الخميس تاسع عشره سافر من كان متأخرًا إلى الجهة القبلية ولم يبق منهم أحد‏.‏

وفي ثالث عشرينه نادى منادي المعمار على أرباب الأشغال في العمائر من البنائين والحجارين والفعلة بأن لا يشتغلوا في عمارة أحد من الناس كائنًا من كان وأن يجتمع الجميع في عمارة الباشا بناحية الجبل‏.‏

وفي تاسع عشرينه وردت أخبار عن التجريدة أزعجت الباشا فاهتم اهتمامًا عظيمًا وقصد الذهاب بنفسه ونبه على جميع كبراء العساكر بالخروج وأن لا يتخلف منهم أحد حتى أولاده إبراهيم بك الدفتردار وطوسون بك وأنه هو المتقدم عنهم في الخروج في يوم الخميس واستعجل التشهيل والطلب وأمر بتحرير دفتر فرضة ترويجة على إقليم المنوفية والغربية والشرقية والقليوبية وذكروا أنها من أصل حساب الشهرية المبتدعة‏.‏

وفيه تقلد حسن آغا الشماشرجي كشوفية المنوفية وأرخى لحيته على ذلك‏.‏

استهل شهر شعبان بيوم الثلاثاء سنة 1224 فيه نمق مشايخ الوقت عرضحال في حق السيد عمر بأمر الباشا ليرسله صحبة السلحدار وذكروا فيه سبب عزله ونفيه عن مصر وعدوا له مثالب ومعايب وجنحًا وذنوبًا منها أنه أدخل في دفتر الأشراف أسماء أشخاص ممن أسلم من القبط واليهود ومنها أنه أخذ من الألفي في السابق مبلغًا من المال ليملكه مصر في أيام فتنة أحمد باشا خورشيد ومنها أنه كاتب الأمراء المصريين أيضًا في وقت الفتنة حين كانوا بالقرب من مصر ليحضروا على حين غفلة في يوم قطع الخليج وحصل لهم ما حصل ونصر الله عليهم حضرة الباشا ومنها أنه أراد إيقاع الفتن في العساكر لينقض دولة الباشا ويولي خلافه ويجمع عليه طوائف المخاربة والصعائدة وأخلاط العوام وغير ذلك وذلك على حد من أعان ظالمًا سلط عليه وكتبوا عليه أسماء المشايخ وذهبوا به إليهم ليضعوا ختومهم عليه فامتنع البعض من ذلك وقال هذا كلام لا أصل له ووقع بينهم محاججات ولا الأعاظم الممتنعين على الامتناع وقالوا لهم أنتم لستم بأروع منا وأثبت لنفسه ورعًا وحصل بينهم منافسات ومخالفات ومقابحات ثم غيروا صورة العرضحال بأقل من التحامل الأول وكتب عليه بعض الممتنعين وكان من الممتنعين أولًا وآخرًا السيد عمر الطحطاوي الحنفي فزادوا في التحامل عليه وخصوصًا شيخ السادات والشيخ الأمير وخلافهما واتفق أنه دعي في وليمة عند الشيخ الشنواني بحارة خوشقدم وتأخر في حضوره عنهم فصادفهم حال دخوله إلى المجلس وهم خارجون فسلم عليهم ولم يصافحهم لما سبق منهم في حقه من الإيذاء فتطاول عليه ابن الشيخ الأمير ورفع صوته بتوبيخه وشتمه لكونه لم يقبل يد والده ويقول له في جملة كلامه أبيس هو إلا قليل الأدب والحياء ثالث طبقة للشيخ الوالد ونحو ذلك‏.‏

وفي ثالثه سافر الباشا إلى الجهة القبلية وتبعه العساكر‏.‏

وفي منتصفه خرجت الدلاة والأرنؤد وباقي الأجناد والعسكر وأقام الباشا كتخدا بك قائم مقامه وأقام بالقلعة‏.‏

وفيه اتفق الأشياخ والمتصدرون على عزل السيد أحمد الطحطاوي من إفتاء الحنفية وأحضروا الشيخ حسين المنصوري وركبوا صحبته وطلعوا به إلى القلعة بعد أن مهدوا القضية فألبس قائمقام الشيخ حسينًا فروة ثم نزلوا ثم طاف للسلام عليهم وخلعوا هم عليه أيضًا خلعهم فلما بلغ الخبر السيد احمد الطحطاوي طوى الخلع التي كانوا ألبسوها له عندما تقلد الإفتاء بعد موت الشيخ إبراهيم الحريري في جمادى الأولى بقرب عهد وأرسلها إليهم وكان الشيخ السادات ألبسه حين ذاك فروة فلما ردها عليه احتد واغتاظ وأخذ يسبه ويذكر لجلسائه جرمه ويقول انظروا إلى هذا الخبيث كأنه يجعلني مثل الكلب الذي يعود في قيئه ونحو ذلك‏.‏

وأما السيد أحمد فإنه اعتكف في داره لا يخرج منها إلا إلى الشيخونية بجواره واعتزلهم وترك الخلطة بهم وتباعد عنهم وهم يبالغون في ذمه والحط عليه لكونه لم يوافقهم في شهادة الزور والحامل لهم على ذلك كله الحظوظ النفسانية والحسد مع أن السيد عمر كان ظلًا ظليلًا عليهم وعلى أهل البلدة يدافع وبرافع عنهم وعن غيرهم ولم تقم بعد خروجه من مصر راية ولم يزالوا بعده في انحطاط وانخفاض‏.‏

وأما السيد عمر فإن الذي وقع له بعض ما يستحقه ومن أعان ظالمًا سلط عليه ولا يظلم ربك أحدًا‏.‏

وفي ثالث عشره سافر حسن باشا وعساكر الأرنؤد وتتابعوا في الخروج وتحدث الناس بروايات عن الباشا والأمراء المصريين وصلحه معهم وأن عثمان بك حسن ومحمد بك المنفوخ ومحمد بك الإبراهيمي وصلوا عند الباشا وقابلوه وأنه أرسل إلى إبراهيم بك الكبير ولده طوسون باشا فتلقاه وأكرمه وأرسل هو أيضًا ولده الصغير إلى الباشا فأكرمه ووصل إلى مصر بعض نساء حريمه وحريم الأمراء‏.‏

واستهل شهر رمضان بيوم الأربعاء سنة 1224 وفي أواخره وصل طائفة من الدلاتية من ناحية الشام ودخلوا إلى مصر وهم في حالة رثة كما حضر غيرهم وصحبتهم من المخنثين المعروفين بالخولات الذين يتكلمون بالكلام المؤنث ومعهم دفوف وطنابير‏.‏

وفي أواخره حرروا دفتر الأطيان على ضريبة واحدة عن كل فدان خمسة ريالات غير البراني والخدم ولم يحصل في ذلك مراجعة ولا كلام ولا مرافعة في شيء كما وقع في العام الماضي والذي قبله في المراجعة بحسب الري والشراقي وأما في هذه السنة فليس فيها شراقي فحسابها بالمساحة الكاملة لعموم الري فإن النيل في هذه السنة زاد زيادة مفرطة وعلا على الأعالي وتلف بزيادته المفرطة الدراوي والأقصاب بقبلي وكذلك غرق مزارع الأرز والسمسم والقطن وجنائن كثيرة بالبحر الشرقي بسبب انسداد الترعة الفرعونية بتلك الناحية ولما تمموا تحرير الدفاتر على النسق المطلوب والباشا بقبلي وأرسل بطلبها ليطلع عليها فسافر إليه بها المعلم غالي وأخذ صحبته أحمد أفندي اليتيم من طرف الروزنامه وعبد الله بكتاش الترجمان فذهبوا إليه بأسيوط وأطلعوه عليها فحتم عليها وانقضى شهر رمضان‏.‏

واستهل شهر شوال بيوم الخميس سنة 1224 في ثالث عشره حضر المعلم غالي وأحمد أفندي وبكتاش وغيرهم من غيبتهم وحضر أيضًا في أثرهم المعلم جرجس الجوهري وقد تقدم أنه خرج من مصر هاربًا إلى الجهة القبلية واختفى مدة ثم حضر بأمان إلى الباشا وقابله وأكرمه ولما حضر نزل في بيته الذي بحارة الونديك وفرشه له المعلم غالي وقام له بجميع لوازمه وذهب الناس مسلمهم ونصرانيهم وعالمهم وجاهلهم للسلام عليه‏.‏

وفي يوم الثلاثاء عشرينه وصل الباشا على حين غفلة إلى مصر في تطريده وقد وصل من أسيوط إلى ناحية مصر القديمة في ثلاثين ساعة وصحبته ابنه طوسون وبونابارته الخازندار وسليمان آغا الوكيل سابقًا لا غير فركبوا حميرًا متنكرين حتى وصلوا إلى القلعة من ناحية الجبل وطلع من باب الجبل وعند طلوعه من السفينة أمر ملاحيها أن لا يذكروا لأحد وصوله حتى يسمعوا ضرب المدافع من القلعة ثم طلع إلى سرايته ودخل إلى الحريم فلم يشعروا به إلا وهو بالحريم وعند ذلك أمر بضرب المدافع وأشيع حضوره فركب كتخدا بك وغيره مسرعين لملاقاته ثم بلغهم طلوعه إلى القلعة فرجعوا على أثره وكان الخواجا محمود حسن البزرجان خرج لملاقاته قبل وصوله بثلاثة أيام إلى ناحية الآثار وأخرج معه مطابخ وأغنامًا واستعد لقدومه استعدادًا زائدًا وذهب تعبه في الفارغ البطال ثم بعد وصول الباشا بثلاثة أيام وصلت طوائف العسكر وعظمائهم ومعهم المنهوبات من الغلال والأغنام والفحم والحطب والقلل وأنواع التمر وغير ذلك حتى أخشاب الدور وأبوابها‏.‏

وفي يوم الاثنين وصل حسن باشا وطوائف الأرنؤد وصالح قوج والدلاة والترك ووصل أيضًا شاهين بك الألفي وصحبته محمد بك المنفوخ المرادي ومحمد بك الإبراهيمي وهم الذين حضروا في هذه المرة من المخالفين وقيل أن البواقي أخذوا مهلة لبعد التحضير وأما إبراهيم بك تابع الأشقر ومحمد آغا تابع مراد بك الصغير وصحبتهما عساكر فذهبا إلى ناحية السويس بسبب وصول طائفة من العربان قالوا أنها من التابعة للوهابيين حضروا وأقاموا عند بئر الماء ومنعوا السقيا منها‏.‏

فيه حضر إبراهيم بك ابن الباشا وباقي العسكر وسكنوا الدور وأزعجوا الناس أخرجوهم من مساكنهم ومنازلهم ببولاق ومصر وغيرهما واتفق أن بعض ذوي المكر من العسكر عندما أراد السفر إلى جهة قبلي أرسل لصاحب الدار التي هو غاصبها وساكن فيها فأحضره وسلمه المفتاح وهو يقول له تسلم يا أخي دارك واسكنها بارك الله فيها وسامحني وأبرئ ذمتي فربما أموت ولا أرجع ولأن الكثير منهم تولى المناصب والأمريات بالجهة القبلية وعندما يتسلم صاحب الدار داره يفرح بخلاصها ويشرع في عمارتها وإعادة ما تهدم منها فيكلف نفسه ولو بالدين ويعمرها فما هو إلا أن تمم العمارة والمرمة في مدة غيبتهم فما يشعر إلا وصاحبه داخل عليه بحصانه وجمله وخدمه فما يسع الشخص إلا الرحلة ويتركها لغريمه وقد وقع ذلك لكثير من الناس المغفلين‏.‏

وفيه وصلت أخبار بأن عمارة الفرنساوية نزلت إلى البحر وعدة مراكبهم مائتان وسبعة عشر مركبًا محاربين لا يعلم قصدهم أي جهة من الجهات وحضر ثلاثة أشخاص من الططر المعدين لتوصيل الأخبار وبيدهم مرسوم مضمونه الأمر بالتحفظ على الثغور فعند ذلك أمر الباشا بالاستعداد وخروج العساكر إلى الثغور‏.‏

وفي يوم السبت ثامنه سافر جملة من العسكر إلى ناحية بحري فسافر كبير منهم ومعه جملة من وفي ليلة الاثنين ثامن عشره ركب الباشا ليلًا وخرج مسافرًا إلى السويس ليكشف قلاع القلزم وقام له بالاحتياجات من أحمال الماء والعليق والزوادة واللوازم السيد محمد المحروقي وكان خروجه ومن معه على الهجن‏.‏

وفي ليلة الأحد رابع عشرينه حضر الباشا من السويس وكان وصوله ليلًا وطلع إلى القلعة‏.‏ واستهل

شهر ذي الحجة بيوم الأحد سنة 1224

فيه شرع الباشا في إنشاء مراكب ببحر القلزم فطلب الأخشاب لصالحة لذلك وأرسل المعينين لقطع أشجار التوت والنبق من القطر المصري القبلي والبحري وغيرها من الأخشاب المجلوبة من الروم وجعل بساحل بولاق ترسخانة وورشات وجمعوا الصناع والنجارين والنشارين فيهيؤنها وتحمل أخشابًا على الجمال ويركبها الصناع بالسويس سفينة ثم يقلفونها ويبيضونها ويلقونها في البحر فعملوا أربع سفائن كبار إحداها تسمى الإبريق وخلاف ذلك أدوات لحمل السفار والبضائع‏.‏

ومن الحوادث في آخره أن امرأة ذهبت إلى عرصة الغلة بباب الشعرية واشترت حنطة ودفعت ثمنها قروشًا فما ذهبت نظروها ونقدوها فإذا هي من عمل الزغلية ثم عادت بعد أيام فاشترت الغلة ودفعت الثمن قروشًا أيضًا فذهب البائع معها إلى الصيرفي فوجدها مزغولة مثل الأولي فعلموا أنه الغريمة فقال لها الصيرفي من أين لك هذا فقالت من زوجي فقبضوا عليها وأتوا بها إلى الآغا فسألها الآغا عن زوجها فقالت هو عطار بسوق الأزهر فأخذها الآغا وحضر بها إلى بيت الشيخ الشرقاوي بعد العشاء وأحضروا زوجها وسألوه فقال أنا أخذتها من فلان تابع الشيخ الشرقاوي فانفعل الشيخ وقال إن يكن هو ابني فأنا بريء منه وطلبوه فتغيب واختفى وأخذ الآغا المرأة وزوجها وقررهما فأقر الرجل وعرف من عدة أشخاص يفعلون ذلك وفيهم من مجاوري الأزهر فلم يزل يتجسس ويتفحص ويستدل على البعض بالبعض وقبض على أشخاص ومعهم العدد والآلات وحبسهم أيضًا بالقلعة عند كتخدا بك وفر ناس من مجاوري الأزهر من مصر لما قام بهم من الوهم وف كل يوم يشاع بالتنكيل والتجريس للمقبوض عليهم وقتلهم ولم يزل الآغا يتجسس حتى جمعوا ست عشرة عدة وأرسلوها إلى بيت محمد أفندي ناظر المهمات وسألوا الحدادين عمن اصطنع هذه العدد منكم فأنكروا وجحدوا وقالوا هذا من صناعة الشام ثم كسروها وأبطلوها وطال أمر المحبوسين والتفحص عن غيرهم فكان بعض المقبوض عليهم يعرف عن غيره أو شريكه فكانت هذه الحادثة من أشنع لحوادث خصوصًا بنسبتها لخطة الأزهر فكان كل من اشترى شيئًا ودفع ثمنه للبائع قروشًا ذهب بها إلى الصيرفي لأن في ذاك الوقت لم يكن موجودًا بأيدي الناس خلافها وكانوا يقولون في ذهابهم إلى الصيرفي لربما تكون أزهرية ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وانقضت السنة بحوادثها التي منها ما ذكر‏.‏

ومنها إحداث بدعة المكس على النشوق وذلك أن بعض المتصدرين من نصارى الأروام أنهى إلى كتخدا بك أمر النشوق وكثرة المستعملية له والدقاقين والباعة وأنه إذا جمعت دقاقوه وصناعه في مكان واحد ويجعل عليهم مقادير ويلتزم به ويضبط رجاله وجمع ماله وإيصاله إلى الخزينة من يكون ناظرًا وقيمًا عليه كغيره من أقلام المكوس التي يعبرون عنها بالجمارك فإنه يتحصل من ذلك مال له صورة فلما سمع كتخدا بك ذلك أنهاه إلى مخدومه فأمر في الحال بكتابة فرمان بذلك واختار الذي جعلوه ناظرًا على ذلك خانًا بخطة بين الصورين ونادوا على جميع صناع النشوق وجمعوهم بذلك الخان ومنعوهم من جلوسهم بالأسواق والخطط المتفرقة والقيم على ذلك يشتري الدخان المعد لذلك من تجاره بثمن معلوم حدده لا يزيد على ذلك ولا يشتريه سواه وهو يبيعه على صناع النشوق بثمن حدده ولا ينقص عنه ومن وجده باع شيئًا من الدخان أو اشتراه أو سحق نشوقًا خارجًا عن ذلك الخان ولو لخاصة نفسه قبضوا عليه وعاقبوه وغرموه مالًا وعينوا معينين لجميع القرى والبلدان القبلية والبحرية ومعهم من ذلك الدخان فيأتون إلى القرية ويطلبون مشايخها ويعطونهم قدرًا موزونًا ويلزمونهم بالثمن المعين بالمرسوم الذي بيدهم فيقول أهل القرية نحن لا نستعمل النشوق ولا نعرفه ولا يوجد عندنا من يصنعه وليس لنا به حاجة ولا نشتريه ولا نأخذه فقال لهم إن لم تأخذوه فهاتوا ثمنه فإن أخذوه أو لم يأخذوه فهم ملزومون بدفع القدر المعين المرسوم ثم كراء طريق المعينين وكلفتهم وعليق دوابهم‏.‏

ومنها أيضًا النطرون فرقوه وفرضوه على القرى محتجين أيضًا باحتياج الحياكة والقزازين إليه لغسل غزل الكتان وبياض قماشه ونحو ذلك وأشنع من ذلك كله أنهم أرادوا فعل مثل هذا في الشراب المسكر المعروف بالعرقي وإلزام أهل القرى بأخذه ودفع ثمنه إن أخذوه أو لم يأخذوه فقيل لهم في ذلك قالوا أن شربه يقوي أبدانهم على أعمال الزرع والزراعة والحرث والكد في القطوة والنطالة والشادوف ثم بطل ذلك‏.‏

ومنها أن الباشا شرع في عمل زلاقة تجاه باب القلعة المعروف بباب الجبل موصلة إلى أعلى الجبل المقطم فجمعوا البنائين والحجارين والفعلة للعمل فأحرقوا عدة قمينات للجير بجانب العمارة وطواحين للجبس ونودي بالمدينة على البنائين والفعلة بأن لا يشتغلوا في عمارة أحد من الناس كائنًا من كان ويجتمع الجميع في عمارة الباشا بالقلعة والجبل إلى أن كمل عملها في السنة التالية طريقًا واسعًا منحدرًا من الأعلى إلى الأسفل ممتدًا في المسافة سهلًا في الطلوع إلى الجبل أو الانحدار منه بحيث يجوز عليه الماشي والراكب من غير مشقة ولا تعب كثير‏.‏

وأما من مات في هذه السنة ممن له ذكر مات العلامة المفيد والنحرير الفريد النبيه الشيخ إبراهيم ابن الشيخ محمد الحريري الحنفي مفتي مذهب السادات الحنفية كوالده تفقه على والده وحضر في المعقولات على أشياخ الوقت كالبيلي والدردير والصبان وغيرهم وأنجب وتمهمر وصارت فيه ملكة جيدة واستحضار للفروع الفقهية ولما مات والده في شهر رجب سنة عشرين ومائتين وألف تقلد منصب والده في الإفتاء وكان لها أهلًا في التحري والمراجعة في المسائل المشكلة والعفة والصيانة والديانة والتباعد من الأمور المخلة بالمروءة مواظبًا لوظائفه ودروسه ملازمًا لداره إلا ما دعته الضرورة إليه من المواساة وحضور المجالس مع أرباب المظاهر وكان مبتلى بضعف البصر وبآخرته اعتراه داء الباسور وقاسى منه شدة وانقطع بسببه عن الخروج من داره ووصف له حكيم بدمياط فسافر إليه لأجل ذلك وقصد تغيير الهواء وذلك بإشارة نسيبه الشيخ المهدي وقاسى أهوالًا في معالجته وقطعه بالآلة فلم ينجح ورجع إلى مصر متزايد الألم ولم يزل ملازمًا للفراش حتى توفي إلى رحمة الله سبحانه وتعالى في يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الأولى من هذه السنة وصلي عليه بالأزهر ودفن بمدرسة الشعبانية بحارة الدويداري ظاهر حارة كتامة المعروفة الآن بالعينية بالقرب من الجامع الأزهر وخلف ولده النجيب الأديب سيدي محمدً الملقب عبد المعطي بارك الله فيه وأعانه على وقته‏.‏

ومات الغمام العلامة والعمدة الفهامة شيخ الإسلام والمسلمين الشيخ عبد المنعم ابن شيخ الإسلام الشيخ أحمد العماوي المالكي الأزهري وهو من أهل القرن الثاني عشر تفقه على الشيخ الزهار وغيره من علماء مذهبه وحضر الأشياخ المتقدمين كالدفري والحفني والصعيدي والشيخ سالم النفراوي والشيخ الصباغ السكندري والشيخ فارس وقرأ الدرس وانتفع به الطلبة ولم يزل ملازمًا على إلقاء الدروس بالأزهر على طريقة المتقدمين مع العفة والديانة والانجماع عن الناس راضيًا بحاله قانعًا بمعيشته ليس بيده من التعلقات الدنيوية سوى النظر على ضريح سيدي أبي السعود أبي الشعائر ولم يتجرأ على الفتيا مع أهليته لذلك وزيادة ولم تطمح نفسه لزخارف الدنيا وسفاسف الأمور مع التجمل في الملبس والمركب وإظهار الغنى وعدم التطلع لما في أيدي الناس ويصدع بالحق في المجالس ولا يتردد إلى بيوت الحكام والأكابر إلا في النادر بقدر الضرورة مع الأنفة والحشمة ولا يشكو ضرورة ولا حاجة ولا زمانًا ولم يزل على حالته حتى مرض أيامًا وتوفي ليلة الخميس حادي عشر ذي القعدة عن أربع وثمانين سنة وخرجوا بجنازته من منزله الكائن بدرب الحلفاء بالقرب من باب البرقية فمروا بالجنازة على خطة الجمالية على النحاسين على الأشرفية ودخلوا من جارة الخراطين إلى الجامع الأزهر وصلي عليه في مشهد حافل ودفن على والده بتربة المجاورين وخلف من الأولاد الذكور أربعة رجال ذوي لحى صلحاء وخطهم ومات الفقيه النبيه الصالح الورع العالم المحقق الشيخ أحمد الشهير ببرغوت المالكي ومولده بالبلدة المعروفة باليهودية بالبحيرة تفقه على أشياخ العصر ومهر في الفقه والمعقول وأقرأ الدروس وانتفع به الطلبة واشتهر ذكره بينهم وشهدوا بفضله وكان على حالة حسنة منجمعًا عن الناس وراضيًا بما قسمه له مولاه منكسر النفس متواضعًا ولم يتزى بعمامة الفقهاء يمشي في حوائجه وتمرض بالزمانة مدة سنين يتعكز بعصاه ولم يقطع درسه ولا أماليه حتى توفي إلى رحمة الله سبحانه وتعالى يوم الأربعاء خامس شهر صفر من السنة ودفن بتربة المجاورين رحمه الله‏.‏

ومات العمدة النحرير والنبيل الشهير الشيخ سليمان الفيومي المالكي ولد بالفيوم وحضر إلى مصر وحفظ القرآن وجاور برواق القيمة بالأزهر وكان في أول عمره يمشي خلف حمار الشيخ الصعيدي وعليه دراعة صوف وشملة صفراء ثم حضر دروسه ودروس الشيخ الدردير وغيرهما واختلط مع المنشدين وكان له صوت شجي فيذهب مع المتذكرين إلى بيوت الأعيان في الليالي فينشد الإنشادات ويقرأ الأعشار فيعجبون به ويكرمونه زيادة على غيره واختلط ببعض الأعيان الذين يقال لهم البرقوقية من ذرية السلطان برقوق وهم نظار على أوقافه فراج أمره وكثرت معارفه بالأغوات الطواشية وبهم توصل إلى نساء الأمراء والسعي في حوائجهن وقضاياهن وصار له قبول زائد عندهن وعند أزواجهن وتجمل بالملابس وركب البغال وأحدق به المحدقون وتزوج بامرأة بناحية قنطرة الأمير حسين سوكن بدارها فماتت فورثها ولما مات الشيخ محمد العقاد تعين المترجم لمشيخة رواق القيمة وبنى له محمد بك المعروف بالمبدول دارًا عظيمة بحارة عابدين واشتهر ذكره وعلا شأنه وطار صيته وسافر في بعض مقتضيات الأمراء إلى دار السلطنة وعاد إلى مصر وأقبلت عليه الهدايا من الأمراء والحريمات والأغوات والأقباط وغيرهم واعتنوا بشأنه وزوجته الست زليخا زوجة إبراهيم بك الكبير بنت عبد الله الرومي وتصرف في أوقاف أبيها ومنها عزب البر تجاه رشيد وغيرها فاشتهر بالبلاد القبلية والبحرية وكان مع قلة بضاعته في العلم مشاركًا بسبب التداخل في القضايا وكان كريم النفس جدًا يجود وما لديه قليل مع حسن المعاشرة والبشاشة والتواضع والمواساة للكبير والصغير والجليل والحقير وطعامه مبذول للواردين ومن أتى في منزله إلى حاجة أو زائرًا لا يمكنه الذهاب حتى يغديه أو يعشيه وإذا أتاه مسترقد ولم يجد معه أشياء اقترض وأعطاه فوق ما موله ولا يبخل بجاهه وسعيه على أحد كائنًا من كان بعوض وبدونه ومما اتفق له مرارًا أنه يركب من الصباح في حوائج الناس فلا يعود إلا بعد العشاء الأخيرة فيلاقيه آخر ذو حاجة في نصف الطريق أو آخره فينهي إليه قصته إما بشفاعة عند أمير أو خلاص مسجون أو غير ذلك فيقف له ويستمع لقصته وهو راكب فيقول له في غد نذهب إليه فإن الوقت صار ليلًا فيقول صاحب الحاجة هو في داره في هذا الوقت فيعود من طريقه مع صاحب الحاجة إلى ذلك الأمير ولو بعدت داره ويقضي حاجته ويعود بعد حصة من الليل وهذا شأنه ولا ينتظر ولا يؤمل جعالة ولا أجرة نظير سعيه فإن أتوه بشيء أخذه أو هدية قبلها قلت أو كثرت وشكرهم على ذلك فمالت إليه القلوب ووفدت إليه ذوو الحاجات من كل ناحية فلا يرد أحدًا ويستقبلهم بالبشاشة وينزلهم في داره ويطعمهم ويكرمهم ويستمرون في ضيافته حتى يقضي حوائجهم ويزودهم ويرجعون إلى أوطانهم مسرورين ومجبورين وشاكرين ثم يكافئونه بما أمكنهم من المكافآت وإذا وصلت إليه هدية وادف وصولها حضوره بالمنزل فرق منها على من بمجلسه من الحاضرين فبذلك انجذبت إليه القلوب وساد على أقرانه ومعاصريه ولما حضر حسن باشا الجزايرلي إلى مصر وارتحل الأمراء المصريون إلى الصعيد وأحاط بدورهم وطلب الأموال من نسائهم وقبض على أولادهم وجواريهم وأمهات أولادهم وأنزلهم سوق المزاد التجأ إلى المترجم الكثير من نساء الأمراء الكبار فآواهن وأجهد نفسه في السعي في حمايتهن والرفق بهن ومواساتهن مدة إقامة حسن باشا بمصر وبعدها في إمارة إسماعيل بك فلما رجع أزواجهن بعد الطاعون إلى إمارتهم ازداد قدر المترجم عندهم وقبوله ومحبته ووجاهته واشتهر عندهم بعدم قبوله الرشوة ومكارم الأخلاق والديانة والتورع فكان يدخل إلى بيت الأمير ويعبر إلى محل الحريم ويجلس معهن وينسرون بدخوله عندهن ويقولون زارنا أبونا الشيخ وشاورنا أبانا الشيخ فأشار علينا بكذا ونحو ذلك ولم يزل مع لجميع على هذه الحالة إلى أن طرقت الفرنساوية البلاد المصرية وأخرجوا منها الأمراء وخرج النساء من بيوتهن وذهبن إليه أفواجًا أفواجًا حتى امتلأت داره وما حولها من الدور بالنساء فتصدى لهن المترجم وتداخل في الفرنساوية ودافع عنهن وأقمن بداره شهورًا وأخذ أمانًا لكثير من الأجناد المصرية وأحضرهم إلى مصر وأقاموا بداره ليلًا ونهارًا وأحبه الفرنساوية أيضًا وقبلوا شفاعاته ويحضرون إلى داره ويعمل لهم الولائم وساس أموره معهم وقرروه في رؤساء الديوان الذي رتبوه لإجراء الأحكام بين المسلمين ولما نظموا أمور القرى والبلدان المصرية على النسق الذي جعلوه رتبوا على مشايخ كل بلد شيخًا ترجع أمور البلدة ومشايخها إليه وشيخ المشايخ المترجم مضافًا ذلك لمشيخة الديوان وحاكمهم الكبير فرنساوي يسمى ابريزون فازدحمت داره بمشايخ البلدان فيأتون إليه أفواجًا وله مرتب خاص خلاف مرتب الديوان واستمر معهم في وجاهته إلى أن انقضت أيامهم وسافروا إلى بلادهم وحضرت العثمانية والوزير والمترجم في عداد العلماء والمتصدرين وافر الحرمة شهير الذكر بعيد الصيت مرعي الجانب مقبول القول عند الأكابر والأصاغر ولما قتل خليل أفندي الرجائي الدفتردار وكتخدا بك في حادثة مقتل طاهر باشا التجأ إليه أخو الدفتردار وخازنداره وغيرهما وذهبوا إلى داره وأقاموا عنده فحماهم وواساهم حتى سافروا إلى بلادهم ولم يزل على حالته حتى نزل به بارد فأبطل شقه وعقد لسانه واستمر أيامًا وتوفي ليلة الأحد خامس عشر ذي الحجة وخرجوا بجنازته من بيته بحارة عابدين وصلي عليه بالأزهر في مشهد عظيم جدًا مثل مشاهد العلماء الكبار المتقدمين وربما كان جمع النساء خلفه كجمع الرجال في الكثرة ووجدوا عليه ديونًا نحو العشرة آلاف ريال سامحه أصحابها ولم يخلف من الأولاد إلا ابنتين رحمه الله وسامحه وعفا عنا وعنه آمين‏.‏

سنة خمس وعشرين ومائتين وألف استهل المحرم بيوم الاثنين فيه وردت الأخبار من الديار الرومية بغلبة الموسكوب واستيلائهم على ممالك كثيرة وأنه واقع بإسلامبول شدة حصر وغلاء في الأسعار وتخوف وأنهم يذيعون في الممالك بخلاف الواقع لأجل التطمين‏.‏

وفي خامسه حضر إبراهيم أفندي القابجي الذي كان توجه إلى الدولة من مدة سابقة وعلى يده مراسيم بطلب ذخيرة وغلال وعملوا لقدومه شنكًا ومدافع وطلع في موكب إلى القلعة‏.‏

وفيه رجع ديوان أفندي من ناحية قبلي وصحبته أحمد آغا شويكار فأقاما بمصر أيامًا ثم رجعا بجواب إلى الأمراء القبليين‏.‏

وفي ليلة السبت ثالث عشره حصلت زلزلة عجيبة وارتجت منها الجهات ثلاث درجات متواليات واستمرت نحو أربع دقائق فانزعج الناس منها من منامهم وصار لهم جلبة وقلقة وخرج الكثير من دورهم هاربين إلى الأزقة يريدون الخلاص إلى الفضاء مع بعده عنهم وكان ذلك في أول الساعة السابعة من الليل وأصبح الناس يتحدثون بها فيما بينهم وسقط بسببها بعض حيطان ودور قديمة وتشققت جدران وسقطت منارة بسوس ونصف منارة بأم أخنان بالمنوفية وغير ذلك لا نعلمه‏.‏

وفي عصر يوم السبت أيًا حصلت زلزلة ولكن دون الأولى فانزعج الناس منها أيضًا وهاجوا ثم سكنوا ثم كثر لغط العالم بمعاودتها فمنهم من يقول ليلة الأربعاء ومنهم من يقول خلافه وأنها تستمر طويلًا وأسندوا ذلك لبعض المنجمين ومنهم من أسنده لبعض النصارى واليهود وأن رجلًا نصرانيًا ذهب إلى الباشا وأخبره بحصول ذلك وأكد في قوله وقال له احبسني وإن لم يظهر صدقي اقتلني وأن الباشا حبسه حتى يمضي الوقت الذي عينه ليظهر صدقه من كذبه وكل ذلك من تخيلاتهم واختلافاتهم وأكاذيبهم وما يعلم الغيب إلا الله‏.‏

وفي يوم الأحد رابع عشره أمر الباشا بالاحتياط على بيوت عظماء الأقباط كالمعلم غالي والمعلم جرجس الطويل وأخيه وفلتيوس وفرانسيسكو وعدتهم سبعة فأحضروهم في صورة منكرة وسمروا دورهم وأخذوا دفاترهم فلما حضروا بين يديه قال لهم أريد حسابكم بموجب دفاتركم هذه وأمر بحبسهم فطلبوا منه الأمان وأن يأذن لهم في خطابه فأذن لهم فخاطبه المعلم غالي وخرجوا من بين يديه إلى الحبس ثم قرر عليهم بواسطة حسين أفندي الروزنامجي سبعة آلاف كيس بعد أن كان طلب منهم ثلاثين ألف كيس‏.‏

وفي يوم الخميس ثامن عشره شاع في الناس حصول زلزلة تلك الليلة وهي ليلة الجمعة ويكون ذلك في نصف الليل فتأهب غالب الناس للطلوع بخارج البلد فخرجوا بنسائهم وأولادهم إلى شاطئ النيل ببولاق ونواحي الشيخ قمر ووسط بركة الأزبكية وغيرها وكذلك خرج الكثير من العسكر أيضًا ونصبوا خيامًا في وسط الرميلة وقراميدان والقرافتين وقاسوا تلك الليلة من البرد ما لا يكيف ولا يوصف لأن الشمس كانت ببرج الدلو وهو وسط الشتاء ولم يحصل شيء مما أشاعوه وأذاعوه وتوهموه وتسلق العيارون والحرامية تلك الليلة على كثير من الدور والأماكن وفتشوها فلما أصبح يوم الجمعة كثر التشكي إلى الحكام من ذلك فنادوا في الأسواق بأن لا أحد يذكر أمر الزلزلة وكل من خرج لذلك من داره عوقب فانكفوا وتركوا هذا اللفظ الفارغ‏.‏

وفيه ظهر أنفار يقفون بالليل بصحن الجامع الأزهر فإذا قام إنسان لحاجته منفردًا أخذوا ما معه وأشيع ذلك فاجتهد الشيخ المهدي في الفحص والقبض على فاعل ذلك إلى أن عرفوا أشخاصهم ونسبهم وفيهم من هو من أولاد أصحاب المظاهر المتعممين فستروا أمرهم وأظهروا شخصًا من رفقائهم ليس له شهرة وأخرجوه من البلدة منفيًا ونسبوا إليه الفعال وسنكشف ستر الفاعلين فيما بعد ويفتضحون بين العالم كما يأتي خبر ذلك في سنة سبع وعشرين وكذلك أخرجوا طائفة من القوادين والنساء الفواحش سكونا بحارة الأزهر واجتمعوا في أهله حتى أن أكابر الدولة وعساكرهم بل وأهل البلد والسوقة جعلوا سمرهم وديدنهم ذكر الأزهر وأهله ونسبوا له كل رذيلة وقبيحة ويقولون هي كل موبقة تظهر منه ومن أهله وبعد أن كان منيع الشريعة والعلم صار بعكس ذلك وقد ظهر منه قبل الزغلية والآن الحرامية وأمور غير ذلك مخفية‏.‏

وفيه طلب الباشا تمهيد الطريق الموصلة من القلعة إلى الزلاقة التي أنشأها طريقًا يصعد منها إلى الجبل المقطم السابق ذكرها وأراد أن يفرض على الأخطاط والحارات رجالًا للعمل بعدد مخصوص ومن اعتذر عن الخروج والمساعدة يفرض عليه بدلًا عنه قدرًا من الدراهم يدفعها نظير البدل وأشيع هذا الأمر واستحضر الأوباش على الطبول والزمور كما كانوا يفعلون في قضية عمارة محمد باشا خسرو ثم أن الشيخ المهدي اجتمع بكتخدا بك وأدخل عليه وهمًا أن محمد باشا خسرو لما فعل ذلك لم يتم له أمر وعزل ولم تطل أيامه ونحن نطلب دوام دولتكم والأولى ترك هذا الأمر فتركوا ذلك ولم يذكروه بعد‏.‏

واستهل شهر صفر الخير بيوم الأربعاء سنة 1225 فيه قلد الباشا خليل أفندي النظر على الروزنامجي وكتابه وسموه كاتب الذمة أي ذمة الميري من الإيراد والمصرف وكان ذلك عند فتح الطلب بالميري عن السنة الجيدي فلا يكتب تحويل ولا تنبيه ولا تذكرة حتى يطلعوه عليها ويكتب عليها علامته فتكدر من ذلك الروزنامجي وباقي الكتبة وهذه أول دسيسة أدخلوها في الروزنامة وابتداء فضيحتها وكشف سرها وذلك بإغراء بعض الأفندية الخاملين أنهى إليهم أن الروزنامجي ومن معه من الكتاب يوفرون لأنفسهم الكثير من الأموال الميرية ويتوسعون فيها وفي ذلك إجحاف بمال الخزينة وخليل أفندي هذا كان كاتب الخزينة عند محمد باشا خسرو ولا يفيق من الشرب‏.‏

وفيه طلب الباشا ثلاثة أشخاص من كتبة الأقباط الذين كانوا متقيدين بقياس الأراضي بالمنوفية وضربهم وحبسهم لكونه بلغه عنهم أنهم أخذوا البراطيل والرشوات على قياس طين أراضي بعض البلاد ونقصوا من القياس فيما ارتوى من الطين وهي البدعة التي حدثت على الطين الري وسموها القياسة وقد تقدم ذكرها غير مرة وحررت في هذه السنة على الكامل لكثرة النيل وعموم الماء الأراضي على أنه بقي الكثير من بلاد البحيرة وغيرها شراقي بسبب عدم حفر الترع وحبس الحبوس وتجسير الجسور واشتغال الفلاحين والملتزمين بالفرض المظالم وعجزهم عن ذلك‏.‏

وفي خامسه طلب الباشا كشاف الأقاليم وشرع في تقريري فرضة على البلاد بما يقتضيه نظره ونظر كشاف الأقاليم والمعلمين‏:‏ البط فقرروا على أعلاها ثمانين كيسًا والأدنى خمسة عشر كيسًا ولم يتقيد بتحرير ذلك أحد من الكتبة الذين يحررون ذلك بدفاتر ويوزعونها على مقتضى الحال ولم يعطوا بالمقادير أوراقًا لملتزمي الحصص كما كانوا يفعلون قبل ذلك فإن الملتزم كان إذا بلغه تقرير فرضة تدارك أمره وذهب إلى ديوان الكتبة وأخذ علم القدر المقرر على حصته وتكفل بها وأخذ منهم مهلة بأجل معلوم وكتب على نفسه وثيقة وأبقاها عندهم ثم يجتهد في تحصيل المبلغ من فلاحيه وإن لم يسعفوه في الدفع وحولوا عليه الكلب دفعه من عنده إن كان ذا مقدرة أو استدانه وبو بالربا ثم يستوفيه بعد ذلك من الفلاحين شيئًا فشيئًا كل ذلك حرصًا على راحة فلاحي حصته وتأمينهم واستقرارهم في وطنهم ليحصل منهم المطلوب من المال الميري وبعض ما يقتاتون به هم وعيالهم وإن لم يفعل ذلك تحول باستخلاص ذلك من كاشف الناحية وعين على الناحية الأعوان بالطلب الحثيث وما ينضاف إلى ذلك من حق طرق المعينين وكلفهم وإن تأخر الدفع تكرر الإرسال والطلب على النسق المشروح فيتضاعف الهم وربما ضاع في ذلك قدر الأصل المطلوب وزيادة عنه مرة أو مرتين والذي يقبضونه يحبسونه بالفرط وهو في كل ريال عشرة أنصاف فضة يسمونها ديواني فيقبض المباشر عن الريال تسعين نصفًا فضة ويجعل التسعين ثمانين وذلك خلاف ما يقرره في أوراق الرسم من خدم المباشرين من كتبة القبط فينكشف حال الفلاح ويبيع ما عنده من الغلة والبهيمة ثم يفر من بلدته إلى غيرها فيطلبه الملتزم ويبعث إليه المعيني من كاشف الناحية بحق طريق أيضًا فربما أداه الحال إن كان خفيف العيال والحركة إلى الفرار والخروج من الإقليم بالكلية وقد وقع ذلك حتى امتلأت البلاد الشامية والرومية من فلاحي قرى مصر الذين جلوا عنها وخرجوا منها وتغربوا عن أوطانهم من عظيم هول الجور وإذا ضاق الحال بالملتزم وكتب له عرضحال يشكو حاله وحال بلده أو حصته وضعف حالها ويرجو التخفيف وتجاسر وقدم عرضحال إلى الباشا يقال له هات التقسيط وخذ ثمن حصتك أو بدلها أو يعين له ترتيبًا بقدر فائظها على بعض الجهات الميرية من المكوس و الجمارك التي أحدثوها فإن سلم سنده وكان ممن يراعي جانبه حول إلى بعض الجهات المذكورة صورة وإلا أهمل أمره وبعضهم باعها لهم بما انكسر عليه من مال القرض وقد وقع ذلك الكثير من أصحاب الذمم المتعددة انكسر عليه مقادير عظيمة فنزل عن بعضها وخصموا له ثمنها من المنكسر عليه من الفرضة وبقي عليه الباقي يطالب به فإن حدثت فرضة أخرى قبل غلاق الباقي وقعد بها وضمت إلى الباقي وقصرت يده لعجز فلاحيه واستدان بالربا من العسكر تضاعف الحال وتوجه عليه الطلب من الجهتين فيضطر إلى خلاص نفسه وينزل عما بقي تحت يده كالأول وقد يبقى عليه الكسر ويصبح فارغ اليد من الالتزام ومديونًا وقد وقع ذلك لكثير كانوا أغنياء ذوي ثروة وأصبحوا فقراء محتاجين من حيث لا يشعرون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

وفيه تحركت همم الأمراء المصريين القبليين إلى الحضور إلى ناحية مصر بعد ترداد الرسل والمكاتبات وحضور ديوان أفندي ورجوعه وحضور محمد بك المنفوخ أيضًا وكل من حضر منهم أنعم عليه الباشا وألبسه الخلع ويقدم له التقادم ويعطيه المقادير العظيمة من الأكياس وقصده الباطني صيدهم حتى أنه كان أنعم على محمد بك المنفوخ بالتزام جمرك ديوان بولاق ثم عوضه عنه ستمائة كيس وغير ذلك‏.‏

وفيه قلد الباشا نظر المهمات لصالح بن مصطفى كتخدا الرزاز ونقلوا ورشة الحدادين ومنافخهم وعددهم من بيت محمد أفندي طبل الودنلي المعروف بناظر المهمات إلى بيت صالح المذكور بناحية التبانة وكذلك العربجية وصناع الجلل والمدافع ونزعوا منه أيضًا معمل البارود وكان تحت نظره وكذلك قاعة الفضة وجمرك اللبان وغيره‏.‏

وفيه وصلت الأخبار من البلاد الرومية والشامية وغيرها بوقوع الزلزلة في الوقت الذي حصلت فيه بمصر إلا أنها كانت أعظم وأشد وأطول مدة وحصل في بلاد كريت إتلافات كثيرة وهدمت أماكن ودورًا كثيرة وهلك كثير من الناس تحت الردم وخسفت أماكن وتكسر على ساحل مالطة عدة مراكب وحصل أيضًا باللاذقية خسف وحكى الناقلون أن الأرض انشقت في جهة من اللاذقية فظهر في أسفلها أبنية انخسفت بها الأرض قبل ذلك ثم انطبقت ثانيًا‏.‏

وفيه من الحوادث ما وقع ببيت المقدس وهو أنه لما احترقت القمامة الكبرى كما تقدم ذكر حرقها في العام الماضي عرضوا إلى الدولة فبرز الأمر السلطاني بإعادة بنائها وعينوا لذلك آغا قابجي وعلى يده مرسوم شريف فحضر إلى القدس وحصل الاجتهاد في تشهيل مهمات العمارة وشرعوا في البناء على وضع أحسن من الأول وتوسعوا في مسحة جرمها وأدخلوا فيها أماكن مجاورة لها وأتقنوا البناء إتقانًا عجيبًا وجعلوا أسوارها وحيطانها بالحجر النحيت ونقلوا من رخام المسجد الأقصى فقام بمنع ذلك من جماعة من الأشراف الينكجرية وشنعوا على الآغا المعين وعلى كبار البلدة وتعصبوا حماية للدين قائلين أن الكنائس إذا خربت لا يجوز إعادتها إلا بأنقاضها ولا يجوز الاستعلاء بها ولا تشييدها ولا أخذ رخام الحرم القدسي ليوضع في الكنيسة ومانعوا في ذلك فأرسل ذلك الآغا المعين إلى يوسف باشا يعرفه عن المعارضين لأوامر الدولة فأرسل يوسف باشا طائفة من عسكره في عدة وافرة فوصلوا من طريق الغور وهو مسلك موصل إلى القدس قريب المسافة خلاف الطريق المعتاد فدهموا الجماعة المعارضين على حين غفلة وحاصروهم في دير وقتلوهم عن آخرهم وهم نيف وثلاثون نفرًا وشيدوا القمامة كما أرادوا أعظم وأضخم مما كانت عليه قبل حرقها فنسأل المولى السلامة في الدين‏.‏ واستهل

شهر ربيع الأول بيوم الخميس سنة 1225

فيه وصلت الأمراء المصريون القبالي إلى ناحية بني سويف وكثير من الأجناد إلى مصر وترددت الرسل وحضر ديوان أفندي ثم رجع ثانيًا إليهم‏.‏

وفيه أمر الباشا كتاب بعمل حساب حسنين أفندي الروزنامجي عن السنتين الماضيتين وهما سنة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين وذلك بإغراء البعض منهم فاستمروا في عمل الحساب أيامًا فزاد لحسين أفندي مائة وثمانون كيسًا فلم يعجب الباشا ذلك واستخونهم في عمل الحساب ثم ألزمه بدفع أربعمائة كيس وقال أنا كنت أريد منه ستمائة كيس وقد سامحته في مائتين في نظير الذي تأخر له وطلع في صبحها إلى الباشا وخلع عليه فروة باستقراره في منصبه ونزل إلى داره فلما كان بعد الغروب حضر إليه جماعة من العسكر في هيئة مزعجة ومعهم مشاعل وطلبوا الدفاتر وهم يقولون معزول معزول وأخذوا الدفاتر وذهبوا وحولوا عليه الحوالات بطلب الأربعمائة كيس فاجتهد في تحصيلها ودفعها ثم ردوا له الدفاتر ثانيًا‏.‏

وفيه حصلت كائنة أحمد أفندي المعروف باليتيم من كتاب الروزنامة وذلك أن الباشا كان ببيت الأزبكية فوصل إليه مكتوب من كاشف إقليم الدقهلية يعرفه فيه أنه قاس قطعة أرض جارية في إقطاع أحمد أفندي المذكور فوجد مساحتها خلاف القيد بدفتر المقياس الأول ومسقوط منها نحو خمسمائة فدان وذلك من فعل المذكور ومخامرته مع النصارى الكتبة والمساحين لأنهم يراعونه ويدلسون معه لأن دفاتر الروزنامة بيده فلما قرأ المكتوب أمر في الحال بالقبض على أحمد أفندي وسجنه وكان السيد محمد المحروقي حاضرًا وكذلك علي كاشف الكبير الألفي فترجيا عند الباشا وأخبراه بأن المذكور مريض بالسرطان في رجله ولا يقدر على حركتها واستأذنه السيد المحروقي بأن يأخذه إلى داره فإن داره باب من أبوابه فأجابه إلى ذلك وركب في الحال ولحق بالمعيني وكانوا قد وصلوا إليه وأزعجوه فمنعهم عنه وأخذه إلى داره وراجع الباشا في أمره فقرر عليه ثمانين كيسًا بعد أن قال أني كنت أريد أن أقول ثلاثمائة كيس فسبق لساني فقلت مائة كيس وقد تجاوزت لأجلك عن عشرين كيسًا وهو يقدر على أكثر من ذلك لأنه يفعل كذا وكذا وعدد أشياء تدل على أنه ذو غنية كبيرة منها أنه لما سافر إلى الباشا بدفتر الفرضة إلى ناحية أسيوط طلع إلى البلدة في هيئة وصحبته فرش وسحاحير وبشخانات وكرارات وفراشون وخدم وكيلارجية ومصاحبجية والحكيم والمزين فلما شاهد الباشا هيئته سأل عنه وعن منصبه فقيل له أنه جاجرت من كتبة الروزنامة فقال إذا كان جاجرت بمعنى تلميذ فكيف يكون باش جاجرت أو قلقاوات لإقليم فضلًا عن كبيرهم الروزنامجي وأي شيء ذلك وأسر ذلك في نفسه وطفق يسأل ويتجسس عن أحوالهم لأنه من طبعه الحقد والحسد والتطلع لما في أيدي الناس ولما قلد خليل أفندي كتابة الذمة في الروزنامة كما تقدم انضم إليه الكارهون للمذكور الذين كانوا خاملي الذكر بوجوده وتوصلوا إلى باب الباشا وكتخدا بك وأنهوا فيه أنه يتصرف في الأموال الميرية كما يختار وأن حسين أفندي الروزنامجي لا يخرج عن مراده وإشارته وبيته مفتوح للضيفان ويجتمع عنده في كل ليلة عدة من الفقراء يثرد لهم الثريد في القصاع ويواسي الكثير من أهل العلم وغيرهم ويتعهد بكثير من الملتزمين بالفرض التي تقرر على حصصهم ويضمها في حسابه ويصبر عليهم حتى يوفرها له في طول الزمن ونحو ذلك وكل ما ذكر دليل على سعة الحال والمقدرة وأما الذنب الذي أخذه به فإن القدر المذكور من الطين كان من الموات فاتفق المذكور مع شركائه ملتزمي الناحية وجرفوه وأحيوه وأصلحوه بعد أن كان خرسًا ومواتًا لا ينتفع به وجعلوه صالحًا للزراعة وظن أن ذلك لا يدخل في المساحة فأسقطه منها فوقع وفيه انحرف أيضًا الباشا على الخواجا محمود حسن وعزله من الجمارك والبرزجانية وأكل عليه المطلوب له وهو مبلغ ألفان وخمسون كيسًا‏.‏

واستهل شهر ربيع الثاني بيوم السبت سنة 1225 فيه وصلت الأخبار من البلاد الحجازية بنزول سيل عظيم حصل منه ضرر كثير وهدم دورًا كثيرة بمكة وجدة وأتلف كثيرًا م البضائع للتجار حكوا أنه هدم بمكة خاصة ستمائة دار وكان ذلك في شهر صفر‏.‏

وفيه وصل الأمراء المصريون إلى ناحية الرقق وأوائلهم وصلوا إلى دهشور وخرج إليهم الأتباع بالملاقاة من بيوتهم وأحبابهم وذهب إليهم مصطفى آغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي وديوان أفندي ثم الباشا ثم في أثرهم طوسون ابن الباشا وقدم له إبراهيم بك تقادم وأقام بوطاقه أيامًا ثم رجعوا وكثر ترداد المراسلات والاختلافات في أمر الشروط‏.‏

وفي خامسه حضر عثمان بك يوسف وصحبته صنجق آخر فطلعا إلى القلعة وقابلا الباشا ثم رجعا وحضرا في ثاني يوم كذلك فخلع عليهما خلعًا وأعطاهما أكياسًا وأرسل إلى إبراهيم بك هدايا وإلى سليم بك المحرمجي المرادي أيضًا‏.‏

وفي يوم الثلاثاء حادي عشره وصل الجميع إلى الجيزة ونصبوا وكطاقهم خارج الجيزة وصحبتهم عربان وهوارة كثيرة وانتزروا أن الباشا يضرب لحضورهم مدافع فلم يفعل وقال إبراهيم بك سبحان الله ما هذا الاحتقار ألم أكن أمير مصر نيفًا وأربعين سنة وتقلدت قائمقامية ولايتها ووزارتها مرارًا وبالآخرة صار من أتباعي وأعطيه خرجه من كيلاري ثم أحضر أنا وباقي الأمراء على صورة الصلح فلا يضرب لنا مدافع كما يفعل لحضور بعض الإفرنج وتأثر من ذلك وأشيع في الناس تعدية الباشا من الغد للسلام على إبراهيم بك فلم يثبت وظهر أنه لم يفعل وأصبح مبكرًا إلى شبرا وجلس في قصره وحضر إليه شاهين بك الألفي في سفينة ووقع بينهما مكالمات ورجع من عنده عائدًا إلى الجيزة منفعل الخاطر ثم أن الباشا عرض عساكره فاجتمع إليه الجميع وبدا اللغط وكثرت القلقة وعندما وصل شاهين بك إلى الجيزة أزر حريمه وأركبهن وأرسلهن إلى الفيوم ونقل متاعه وفرشه من قصر الجيزة في بقية اليوم وكسر المرايات وزجاج الشبابيك التي في مجالسه الخاصة ثم ركب في طوائفه وأتباعه وخشداشينه ومماليكه وذهب إلى عرضي إخوانه وقبيلته ونصب خيامه ووطاقه بحذائهم واجتمع بهم وتصافى معهم وقد كان حضر إليه عبد الرحمن بك تابع عثمان بك المرادي المعروف بالطنبرجي وحول دماغه واتفق معه على الانضمام إليهم والخروج عن الباشا ففعل ما فعل وجعلوه رئيس الأمراء المرادية‏.‏

وفي ذلك اليوم عدى حسن باشا وصالح آغا قوج إلى بر الجيزة وذهبا إلى عرضي الأمراء وسلما عليهم وتغديا عند شاهين بك وجرى بينهما وبين إبراهيم بك كلام كثير وقال له حسن باشا أنكم وصلتم إلى هنا لتمام لصلح على الشروط التي حصلت بينكم وبين الباشا والاتفاق الذي جرى بأسيوط ويكون تمامه عند وصولكم إلى الجيزة واجتماعكم وقد حصل فقال له إبراهيم بك وما هي الشروط قال هي أن تدخلوا تحت حكمه وطاعته وهو يوليكم المناصب التي تريدونها بشرط أن تقوموا بدفع الفرض التي يقررها على النواحي والغلال الميرية والخراج وتعيين من يريده منكم صحبة العساكر الموجهة إلى البلاد الحجازية لفتح الحرمين وتكونوا معه أمراء مطيعين وهو يعطيكم الأمريات والإنعامات الجزيلة ويعمر لكم ما تريدونه من الدور والقصور التي لكم ولأتباعكم على طرفه لا يكلفكم بشيء من الأشياء وقد رأيتم وسمعتم ما فعله من الإكرام والإنعام على شاهين بك وما أعطاه من المماليك والجواري الحسان وشفاعاته عنده لا ترد وأطلق له التصرف في البر الغربي من رشيد إلى الفيوم إلى بني سويف والبهنسا مما هو تحت حكمه ويراعي بجانبه إلى الغاية فقال له إبراهيم بك نعم إنه فعل مع شاهين بك ما لا تفعله الملوك فضلًا عن الوزراء وليس ذلك لسابق معروف فهل شاهين بك معه ليستحق به ذلك بل هو لغرض سوء يكمنه في نفسه وشبكة يصطاد بها غيره فإننا سبرنا أحواله وخيانته وشاهدنا ذلك في كثير ممن خدموه ونصحوا معه حتى ملكوه هذه المملكة قال ومن هم قال أو لهم مخدومه محمد باشا خسرو ثم كتخداه وخازنداره عثمان آغا جنج الذي خامر معه وملك مع أخيه المرحوم طاهر باشا القلعة وأحرق سرايته ثم سلط الأتراك على طاهر باشا حتى قتلوه في داره وأظهر موالاتنا وصداقتنا ومساعدتنا وصبر نفسه من عسكرنا واتحد بعثمان بك البرديسي وأظهر له خلوص الصداقة والأخوة وعاهد بالإيمان حتى أغراه على علي باشا الطرابلسي وجرى ما جرى عليه من القتل ونسب ذلك إلينا ثم اشتغل معه على خيانته لأخيه الألفي وأتباعه ثم سلط علينا العساكر يطلب العلوفة وأشار على عثمان بك بطلب المال من الرعية حتى وقع لنا ما وقع وخرجنا من مصر على الصورة التي خرجنا عليها لم أحضر أحمد باشا خورشيد وولاه وزيرًا وخرج هو لمحاربتنا ثم اتضح أمره لأحمد باشا وأراد الإيقاع به فعجل العود إلى مصر وأوقع بينه وبين جنده حتى نفروا منه ونابذوه وألقى إلى السيد عمر والقاضي والمشايخ أن أحمد باشا يريد الفتك بهم فهيجوا العامة والخاصة وجرى ما جرى من الحروب وحرق الدور وبذل السيد عمر جهده في النصح معه بما يظهره له من الحب والصداقة وراجت عليه أحواله حتى تمكن أمره وبلغ مراده وأوقع به وأخرجه من مصر وغربه عن وطه ونقض العهود والمواثيق التي كانت بينه وبينه كما فعل بعمر بك وغيره وكل ذلك معلوم ومشاهد لكم ولغيركم فمن يأمن لهذا ويعقد معه صلحًا واعلم يا ولدي أننا كنا بمصر نحو العشر آلاف أو أقل أو أكثر ما بين مقدمي ألوف وأمراء وكشاف وأكابر وجاقات ومماليك وأجناد وطوائف وخدم واتباع مرفهي المعاش بأنواع الملا كل أمير مختص ومعتكف بإقطاعه مع كثرة مصارفنا في الأوقات المعهودة ولا نعرف عسكرًا ولا علوفة عسكر والقرى والبلاد مطمئنة والفلاحون ومشايخ البلاد مرتاحون في أوطانهم ومضايفهم مفتوحة للواردين والضيفان مع ما كان يلزم علينا من المصارف الميرية ومرتبات الفقراء وخزينة السلطان وصرة الحرمين والحجاج وعوائد العربان وكلف الوزراء المتولين والأغوات والقابجية المعينين وخدمهم والهدايا السلطانية وغير ذلك وأفندينا ما كفاه إيراد الإقليم وما أحدثه من الجمارك والمكوس وما قرره على القرى والبلدان من فرض المال والغلال والجمال والخيول والتعدي على الملتزمين ومقاسمتهم في فائظهم ومعاشهم وذلك خلاف مصادرات الناس والتجار في مصر وقراها والدعاوي والشكاوي والتزايد في الجمارك وما أحدثه في الضربخانة من ضرب القروش النحاس واستغراقها أموال الناس بحيث صار إيراد كل قلم من أقلام المكوس بلإيراد إقليم من الأقاليم ويبخل علينا بما نتعيش به ونحن وعيالنا ومن بقي معنا من أتباعنا ومماليكنا بل وقصده صيدنا وهلاكنا عن آخرنا فقال حسن باشا حاشا الله لم يكن ذلك ودائمًا يقول والدنا إبراهيم بك ولكن لا يخفاكم أن الله أعطاه ولاية هذا القطر وهو يؤتي الملك من يشاء ولا ترضى نفسه من يخالف عليه أو يشاركه بالقهر والاستيلاء فإذا صار الصلح ووقع الصفاء أعطاكم فوق ما مولكم فهز إبراهيم بك رأسه وقال صحيح يكون خيرًا وانفض المجلس ورجع حسن باشا وصالح قوج وعديا إلى بر مصر‏.‏

وفي تلك الليلة خرج جميع من كان بمصر من الأمراء والأجناد المصرية بخيلهم وهجنهم ومتاعهم وعدوا إلى بر الجيزة ولم يبق منهم إلا القليل واجتمعوا مع بعضهم وقسموا الأمر بينهم ثلاثة أقسام قسم للمرادية وكبيرهم شاهين بك وقسم للمحمدية وكبيرهم علي بك أيوب وقسم للإبراهيمية وكبيرهم عثمان بك حسن وكتبوا مكاتبات وأرسلوها إلى مشايخ العربان لم أقف على مضمونها‏.‏

وفي يوم الجمعة رابع عشره أوقفوا عساكر على أبواب المدينة يمنعون الخارجين من البلد حتى الخدم ومنعوا التعدية إلى البر الغربي وجمعوا المراكب والمعادي إلى البر الشرقي ونقلوا البضائع التي في مراكب التجار المعدة لسفر رشيد ودمياط المعروفة بالرواحل وأخذوها إليهم وشرعوا في التعدية بطول يوم الجمعة والسبت وعدى الباشا آخر النهار دخل إلى قصر الجيزة الذي كان به شاهين بك وكذا عدوا بالخيام والمدافع والعربات والأثقال واجتمعت طوائف العسكر من الأتراك والأرنؤد والدلاة والسجمان بالجيزة وتحققت المفاقمة والأمراء المصرية خلف السور في مقابلتهم واستمروا على ذلك إلى ثاني يوم والناس متوقعون حصول الحرب بين الفريقين ولم يحصل وانتقل المصرية وترفعوا إلى قبلي الجيزة بناحية دهشور وزنين‏.‏

وفي يوم الاثنين والثلاثاء أنفق الباشا على العسكر وكان له مدة شهور لم ينفق عليهم‏.‏

وفي ليلة الثلاثاء ركب الباشا ليلًا وسافر إلى ناحية كرداسة على جرائد الخيل ورجع في ثاني ليلة وكان سبب ركوبه أنه بلغه أن طائفة من العربان مارين يريدون المصرية فأراد أن يقطع عليهم الطريق فلم يجد أحدًا وصادف نجعًا مقيمين في محطة فنهب مواشيهم ورجع تعبًا وانقطع عنه أفراد من العسكر ومات بعضهم من العطش‏.‏

وفي يوم الجمعة ارتحل المصرية وترفعوا إلى ناحية جرزا الهوى بالقرب من الرقق‏.‏

وفيه حضر مشايخ عربان أولاد علي للباشا فكساهم وخلع عليهم وألبسهم شالات كشميري عدتها ثمان شالات وأنعم عليهم بمائة وخمسين كيسًا وحضر عند المصرية عربان الهنادي ومشايخهم وانضموا إليهم‏.‏

وفي يوم الأحد ثالث عشرينه عدى الباشا إلى بر مصر وذهب إلى بيته بالأزبكية فبات به ليلتين ثم طلع يوم الثلاثاء إلى القلعة وقد تكدر طبعه من هذه الحادثة بعد أن حصلوا بالجيزة وكاد يتم قصده فيهم وخصوصًا ما فعله شاهين بك الذي أنفق عليه ألوفًا من الأموال ذهبت وفي هذه الأيام أعني منتصف شهر بشنس القبطي زاد النيل زيادة ظاهرة أكثر من ذراع ونصف واستمر أيامًا ثم رجع إلى حاله الأول وهذا من جملة عجائب الوقت‏.‏

واستهل شهر جمادى الأولى بيوم الأحد سنة 1225 فيه عمل الباشا ميدان رماحه بالجيزة فتقنطر به الحصان ووقع به الأرض فأقاموه وأصيب غلام من مماليكه برصاصة فمات ويقال أن الضارب لها كان قاصدًا الباشا فأخطأته وأصابت ذلك المملوك والأجل حصن‏.‏

وفيه نبهوا على العسكر بالخروج فسعوا بالجد والعجلة في قضاء أشغالهم ولوازمهم وطفقوا يخطفون حمير الناس وجمالهم ومن يصادفونه ويقدرون عليه من أهل البلد وخلافهم ويقولون في غد مسافرون وراحلون لمحاربة المصريين والمصريون أيضًا مستمرون في منزلتهم لم ينتقلوا عنها‏.‏

وفي خامسه خرج حسن باشا وبرز خيامه بناحية الآثار وخرج أيضًا محو بك بعسكره وطوائفه ومعهم بيارق وسافر جملة عساكر في المراكب ليرابطوا في البنادر فإنها خالية ليس بها أحد من المصريين وفي كل يوم يخرج عساكر ثم يرجعون إلى المدينة وهم مستديمون على خطف الدواب وحمير البطيخ وجمال السقائين والباشا يعدي إلى بر مصر في كل يومين أو ثلاثة ويطلع إلى القلعة وفي يوم الثلاثاء سابع عشره بلغ الباشا أن الأمراء المرادية والإبراهيمية وغالب المصرية لهم مراسلات ومعاملات مع السيد سلامة النجاري وأخيه وابن أخيه وأنه يرسل لهم جميع ما يلزم من أسلحة وأمتعة وخلافها بواسطة بعض عملائهم من العربان خفية وأنه اشترى جملة أسلحة وخيول وثياب وغيرها وأخذ أشياء من بيوت بعضهم لأجل أن يرسل الجميع إليهم وأن جميع ذلك موجود عند المذكور الآن ومن جملة أيام حضر رسول من عندهم بدارهم ومعه حصان نعمان بك وهو عنده أيضًا فأمر بجلبه وحبسه وهجم منزله وضبط أوراقه وضبط ما يوجد بها ففعلوا ذلك وحبسوا معه ابن أخيه وأزعجوهما وهجموا منزله فوجدوا فيه خمسة خيول وجملة أسلحة فطغوا وبغوا ونهبوا متاعه وبددوا شمل كتب أبيه ولم يجدوا مكاتبات من الأمراء القبالي ولا أثر لذلك بل أنهم وجدوا جوابًا من أخيه السيد أحمد مضمونه أننا عند وصولنا إلى مكة المشرفة اشترينا أربعة خيول نجدية بها العلامات التي أفدتمونا عنها وهي مرسلة لكم عسى أن تفوزوا بتقديمها لأفندينا ولما سئل عن الأسلحة والخيول التي عنده قال‏:‏ أن السلاح عندنا من قديم وله مدد ورؤيته تدل على ذلك وأما الخيول فمنها أربعة أحضرتها هدية لأفندينا وجاءت ضعيفة فأبقيتها عندي حتى تتقوى وأقدمها إليه والحصان الخامس اشتريته لنفسي من رجل عميلنا اسمه عطوان أحمد من أهالي كفر حكيم أخبرني أنه اشتراه من ناحية صول ولما رأيت فيه علامات الجودة وجاءت الأربعة خيول تركت ركوبه وأبقيته معها حتى أقدم الجميع لأفندينا فعند ذلك توجه محمد أفندي طبل للباشا وفهمه براءة ذمة المذكور وأخبره بما صار وما وجدوه وما قاله المذكور وسعى في إزالة هذه التهمة عنه وعرفه أن هذا الرجل مستقيم الأحوال وأنه من وقت توظيفه معه لم ينظر عليه ما يخالف وصدق عليه الحاضرون فلما ظهر للباشا كذب التهمة وتحقق براءته وأنه أحضر هذه الخيول هدية له أمر بإطلاقه من السجن واسترجاع ما نهبته الأعوان من منزله وتخلق عليهم بسبب ذلك ثم أمر بإحضاره وإحضار الخيول المهداة له فقبلها منه ثم سأله عن علامات الجودة وما يحمد في الخيل وما يذم فيها فأجابه بأجوبة مفيدة استحسنها فأنعم عليه وضاعف مرتبه وأحال عليه نظر مشتري الخيول‏.‏

وفيه وصلت الأخبار بأن حسن باشا وصالح قوج وعابدين بك وعساكر الأرنؤد وصلوا إلى ناحية صول والبرنبل فوجدوا المصريين جعلوا متاريس ومدافع على البر ليمنعوا مرور المراكب فحاربوهم حتى أجلوهم عنها وملكوا المتاريس وقتل رجل من الأجناد وهو الذي كان محافظًا على المتاريس يقال له إبراهيم آغا سقط به الجرف إلى البحر فأخذوه إليهم ومعه آخر وقتلوهما وقطعوا رؤوسهما وأرسلوهما صحبة المبشرين إلى الباشا فعلقوا الرأسين بباب زويلة ولما بلغ الأمراء المصريين أخذ المتاريس وتأهبوا وساروا من أول الليل وهي ليلة السبت رابع عشره مكمنين وكاتمين أمرهم فدهموا الأرنؤد من كل ناحية فوقع بينهم مقتلة عظيمة وأخذوا منهم عدة بالحياة وأخذوا منهم أشياء وكان حسن باشا وأخوه عابدين صعدا بمراكبهما إلى قبلي المتريس فاحترق من مراكب أخيه مركب وألقى من فيها بأنفسهم إلى البحر فمنهم من نجا ومنهم من غرق وأما مراكب حسن باشا فإنه ساعدها الريح أيضًا فسارت إلى ناحية بني سويف ثم أن المصريين عدى منهم طائفة إلى شرق اطفيح وانتقل بواقيهم راجعين إلى ناحية الجيزة قريبًا من عرضي الباشا‏.‏

وفي ليلة الخميس تاسع عشره عدى الباشا إلى بر مصر وطلع إلى القلعة فلما كان الليل وصل طائفة من المصريين إلى المرابطين لخفارة عرضي الباشا واحتاطوا بهم وساقوهم إليهم فانزعج العرضي وحصل فيهم غاغة فأرسل طوسون باشا إلى أبيه فركب ونزل من القلعة في سادس ساعة من الليل وعدى إلى البر الغربي ومما سمعته أن الباشا عندما نزل المعدية وسار بها في البحر سمع واحدًا يقول لآخر قدم حتى نقتل المصريين ونبد شملهم ويكرر ذلك فأرسل الباشا مركبًا وأرسل بعض أتباعه بها لينظروا هذين الشخصين ولأي شيء نزلا البحر في هذا الوقت فلما ذهبوا إلى الجهة التي سمعه منها الصوت لم يجدوا أحدًا وتفحصوا عنهما فلم يجدوهما فاعتقد من له اعتقاد منهم أنهما من الأولياء وأن الباشا مساعد بأهل الباطن‏.‏

وفي عشرينه ظهر التفاشل بين الأمراء المصريين وتبين أن الذين كانوا عدوا إلى البر الشرقي هم ثلاثة أمراء من الألفية وهم نعمان بك وأمين بك ويحيى بك وذلك أنهم لما تصالحوا مع الباشا وأميرهم شاهين بك وهو الرئيس المنظور إليه ومطلق التصرف في معظم البر الغربي والفيوم يتحكم فيهم وفي طوائف العربان وأهالي البلاد والفلاحين بما يريد وكذلك أموال المعادي بناحية الأخصاص وأنبابة والخبيري وغير ذلك وهو شيء له قدر كبير وزاد فيهم أيضًا أضعاف المعتاد فيأخذ جميع ذلك ويختص به وذلك خلاف أنعامات الباشا عليه بالمئتين من الأكياس ويشتري المماليك والجواري الحسان ولا يدفع لهم ثمنًا فيشكون إلى الباشا فيدفعه إلى اليسرجية من خزينته وهو منشرح الخاطر وإخوانه يتأثرون لذلك وتأخذهم الغيرة ويطمعون في جانبه وهو يقصر في حقهم ولا يعطيهم إلا النزر مع المن والتضجر وفيهم من هو أقدم منه هجرة ويرى في نفسه أنه أحق بالتقدم منه لما دنت وفاة أستاذهم أحضر شاهين بك وسلمه خزينته وأوصاه بأن يعطي لكل أمير من خشداشينه سبعة آلاف مشخص ولم يعطهم وطفق كلما أعطاهم شيئًا حسبه عليهم من الوصية حتى إذا أعطى اليلك والبنش لنعمان بك مثلًا يعطيه له أنقص من بنش أمين بك نصف ذراع ويقول هو قصير القامة ونحو ذلك فيحقدون ذلك عليه ويتشكون من خسته وتقصيره في حقهم ويعلم الباشا ذلك فلما نقض شاهين بك عهده وانضم إلى المخالفين وخشداشينه المذكورون معه بالتنافر القلبي راسلهم الباشا سرًا ووعدهم ومناهم بأنهم إذا حضروا إليه وفارقوا شاهين بك الخائن المقصر في حقهم أنزلهم منزلة شاهين بك وزيادة واختص بهم اختصاصًا كبيرًا فمالت نفوسهم لذلك القول واعتقدوا بخسافة عقولهم صحته وأنهم إذا رجعوا إليه هذه المرة ونبذوا المخالفين اعتقد صداقتهم وخلوصهم وزاد قدرهم ومنزلتهم عنده وتذكروا عند ذلك ما كانوا فيه أقامتهم بمصر من التنعم والراحة في القصور التي عمروها بالجيزة والبيوت التي اتخذوها بداخل المدينة والرفاهية والفرش الوطيئة وتحركت غلمتهم للنساء والسرارى التي أنعم عليهم الباشا وقالوا مالنا والغربة وتعب الجسم والخاطر والانزعاج والجروب والإلقاء بنفوسنا في المهالك وعدم الراحة في النوم واليقظة فردوا الجواب وتمنوا عليه أيضًا ما حاك في نفوسهم بشرط طرح المؤاخذة والعفو الكامل بواسطة من يعتمد صدقه فاْجابهم لكل ماساْلوه وتمنوه بواسطة مصطفى كاشف المواري وهو معدود سابقًا منهم وانفصل عنهم وانتمى إلى كتخدا بك وصار من أتباعه فعند ذلك شرعوا في مناكدة أخيهم شاهين بك ومفارقته وعقدوا معه مجلسًا وقالوا له قاسمنا في ربع المملكة التي خصونا به القسمة التي شرطوها فإننا شركاؤك فإن إبراهيم بك قسم مع جماعته وكذلك عثمان بك وعلي بك أيوب فقال لهم وما هو الذي ملكناه حتى أقاسمكم فيه فقالوا أنت تجحف علينا وتختص بالشيء دوننا فإنك لما اصطلحنا معك مع الباشا وصرفك في البر الغربي اختصيت بإيراده وهو كذا وكذا دوننا ولم تشركنا معك في شيء ولولا أن الباشا كان يراعينا ويواسينا من عنده لمتنا جوعًا فنحن لا نرافقك ولا نصحبك ولا نحارب معك حتى تظهر لنا ما نقاتل معك عليه وتزايدوا معه في المكالمة والمعاتبة والمفاقمة ثم انفصلوا عنه ونقلوا خيامهم إلى ناحية البحر واعتزلوه وفارقوا عرضي الجميع فلما علم بذلك إبراهيم بك الكبير تنكد خاطره وقال‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أي شيء هذا الفشل وخسافة العقل والتفرق بعد الالتئام والاجتماع وذهب إليهم ليصالحهم ويضمن لهم كل ما طلبوه وطمعوا فيه عند تملكهم وقال لهم إن كنتم محتاجين في هذا الوقت لمصرف أنا أعطيكم من عندي عشرين ألف ريال أقسموها بينهم وعودوا لمضربكم معنا فامتنعوا من صلحهم مع شاهين بك فرجع إبراهيم بك يريد أخذ شاهين بك إليهم فامتنع من ذهابه إليهم وقال أنا لست محتاجًا إليهم وإن ذهبوا قلدت أمراء خلافهم وعندي من يصلح لذلك ويكون مطيعًا لي دونهم فإن هؤلاء يرون أنهم أحق مني بالرياسة والجماعة شرعوا في التعدية وانتقلوا إلى البر الشرقي وحال البحر بين الفريقين ووصل إليهم مصطفى كاشف المورلي بمرسوه الباشا واجتمعوا معه عند عبد الله آغا المقيم بناحية بني سويف وضرب لهم شنكًا ومدافع ثم أنهم انهزموا على الحضور إلى مصر فوصلوا في يوم الخميس خامس عشرينه وقابلوا الباشا وخلع عليهم وأعطاهم تقادم ورجعوا إلى مضربهم ناحية الآثار وصحبتهم ستة عشر من كشافهم والجميع يزيدون عن المائين واْنعم عليهم الباشا بمائتي كيس لكل كبير من الأربعة عشرون كيسًا ومائة وعشرون كيسًا لبقيتهم واشتروا دورًا واسعة وشرعوا في تغييرها وزخرفتها على طرف فاشترى اْمين بك دار عثمان كتخذا المنفوخ بدرب سعادة من عتقائه ودفع له الباشا ثمنها وأمر لكل أمير منهم بسبعة آلاف ريال ليصرفها فيما يحتاج إليه في العمارة واللوازم وحولهم بذلك على المعلم غالي ولما تحقق شاهين بك انفصالهم قلد أربعة من أتباعه أمرياتهم وأعطاهم بيرقًا وخيولًا وضم لهم مماليك وطوائف وتمت حيلة الباشا التي أحكمها بمكره وعند ذلك أشيع في الإقليم القبلي والبحري تفرقهم وتفاشلهم ورجع من كان عازمًا من القبائل والعربان عن الانضمام إليهم وطلبوا الأمان من الباشا وحضروا إليه ودخلوا في طاعته وأنعم عليهم وكساهم وكانت أهالي البلاد عندما حصلت هذه الحادثة عصت عن دفع الفرض والمغارم وطردوا المعينين وتعطل الحال وخصوصًا عندما شاع غلبة المصريين على الأرنؤد وتفرقت عنهم العربان الذين كانوا انضموا إليهم وأطاع المخالف والعاصي والممانع وكلها أسباب لبروز المقدور والمستور في غيبه سبحانه وتعالى‏.‏

وفي أواخره حضر كثير من عسكر الدلاة من الجهة الشامية وكذلك حضر أتراك من على ظهر واستهل

شهر جمادى الثانية بيوم الثلاثاء سنة 1225

في ثالثه يوم الخميس قلد الباشا ديوان أفندي نظر مهمات الحرمين والتأهب لسفر الحجاز لمحاربة الوهابية وسكن ببيت قصبة رضوان كل ذلك مع توجه الهمة والاستعداد لمحاربة الأمراء المصريين والمذكورون بناحية قنطرة اللاهون‏.‏

وأما حسن باشا وصالح قوج وعابدين بك ومن معهم فإنهم صعدوا إلى قبلي وملكوا البنادر إلى حد جرجا واستقر دبوس أوغلي بمنية ابن خصيب‏.‏

وفي يوم السبت خامسه ارتحل الباشا بعساكره من الجيزة وانتقل إلى جزيرة الذهب ونودي في المدينة بخروج العساكر المقيمين بمصر ولا يتخلف منهم أحد فزاد تعديهم وخطفهم الحمير والجمال والرجال والفلاحين وغيرهم لتسخيرهم في خدمتهم وفي المراكب عوضًا عن النوتية والملاحين الذين هربوا وتركوا سفائنهم فكانوا يقبضون على كل من يصادفونه ويحبسونهم في الحواصل ببولاق واتفق أنهم حبسوا نحو ستين نفرًا في حاصل مظلم وأغلقوه عليهم وتركوهم من غير أكل ولا شرب أيامًا حتى ماتوا عن آخرهم وانحدر قبطان بولاق وأعوانه في طلب المراكب من بحر النيل فكانوا يقبضون على المراكب الواصلة إلى مصر بالغلال والبضائع والسفار فيلقون شحنها التي لا حاجة لهم بها على شطوط الملق ويأتون بالمراكب إلى بولاق والجيزة إلا أن يعطوهم براطيل على تركهم الغلة بالمراكب حتى يصلوا بها إلى ساحل بولاق فيخرجونها منها ثم يأخذون المركب وهكذا كان دأبهم بطول هذه المدة‏.‏

وفي عاشره ارتحل الباشا من جزيرة الذهب يريد محاربة المصريين‏.‏

وفي منتصفه ورد الخبر بأن حسين بك تابع حسين بك المعروف بالوشاش الألفي أراد الهروب والمجيء إلى الباشا فقبض عليه شاهين بك وأهانه وسلب نعمته وكتفه وأركبه على جمل مغطى الرأس وأرسله إلى الواحات فاحتال وهرب وحضر إلى عرضي الباشا فأكرمه وأنعم عليه وأعطاه خمسين كيسًا واستمر عنده‏.‏

وفي خامس عشرينه وصلت الأخبار بأن الباشا ملك قناطر اللاهون وأن المصريين ارتحلوا إلى ناحية البهنسا ولم يقع بينهم كبير محاربة وأن الباشا استولى على الفيوم وأرسل الباشا هدايا لمن في سرايته ولكتخدا بك من ظرائف الفيوم مثل ماء الورد والعنب والفاكهة وغير ذلك واستولى على ما كان مودعًا للمصريين من الغلال بالفيوم‏.‏

وفي أواخره وصلت أخبار من ناحية الشام بأن طائفة من الوهابية جردوا جيشًا إلى تلك الجهة فتوجه يوسف باشا إلى المزيريب وحصن قلعتها واستعد إليهم بجيش وحاربوهم وطردوهم ثم واستهل شهر رجب بيوم الخميس سنة 1225 فيه وردت الأخبار بورود قزلا آغا من طرف الدولة وعلى يده أوامر وخلعة وسيف وخنجر لمحمد علي باشا وصحبته أيضًا مهمات وآلات مراكب ولوازم حروب لسفر البلاد الحجازية ومحاربة الوهابية وهو يسمى عيسى آغا وأنه طلع إلى ثغر سكندرية‏.‏

وفي يوم السبت عاشره الموافق لسادس مسى القبطي أوفى النيل وحصلت الجمعية وحضر كتخدا بك والقاضي وباقي الأعيان وكسر السد بحضرتهم في صبحها يوم الأحد وجرى الماء في الخليج‏.‏

وفيه وصل الآغا شبرا وعملوا له هناك شنكًا وحراقات وتعليقات قبالة القصر الذي أنشأه الباشا بساحل شبرا وخرجوا لملاقاته في صبحها بعد ثلاث ليال في يوم الثلاثاء ثالث عشره وعملوا له موكبًا عظيمًا وطلع إلى القلعة وضربوا عند طلوعه إلى القلعة مدافع وهذا الآغا أسمر اللون حبشي مخصي لطيف الذات متعاظم في نفسه قليل الكلام وفي حال مروره كان بجانبه شخصان ينثران الذهب والفضة والإسلامبولي على الناس المتفرجين وحضر صحبته وصحبة أتباعه السكة الجديدة التس ضربت بإسلامبول من الذهب والفضة وهي دراهم فضة خالصة سالمة من أغش زنة الدرهم منها درهم وزني كامل ستة عشر قيراطًا يصرف بخمسة وعشرين نصفًا من الأنصاف المعاملة العددية المستعملة في معاملة الناس الآن وكذلك قطعة مضروبة وزن درهمين بالدرهم الوزني تصرف بخمسين وكذلك قطعة مضروبة وزنها أربعة دراهم وتصرف بمائة نصف وقطعة وزنها ثمانية داهم وتصرف بمائتين وكذلك ذهب فندقلي إسلامي يصرف بأربعمائة نصف وأربعين نصفًا ونصفه وربعه‏.‏

وفي يوم الجمعة سادس عشره حضر الآغا المذكور إلى المسجد الحسيني وصلي به الجمعة وخرج وهو يفرق على الفقراء والمستجدين أرباع الفنادقة وأعطى خدمة الضريح وخدمة المسجد قروشًا إسلامبولي في صرر أقل ما في الصرة الواحدة عشرة قروش‏.‏

وفي يوم السبت سابع عشره عملوا ديوانًا بالقلعة وأحضروا خلعة وصلت صحبة الآغا المذكور أرسلها صحبة خازنداره وألبسوها لابن الباشا وجعلوه باشا مير ميران وابن الباشا المذكور ولد مراهق صغير يسمى إسماعيل وضربوا شنكًا ومدافع وأشيع أنه وصلت مبشرون من الجهة القبلية بنصرة الباشا على المصريين وأرسلوا بذلك أوراقًا للأعيان أخبروا فيها بوقوع الحرب بين الفريقين ليلة السبت أو يوم السبت عاشر رجب‏.‏

وفي ليلة الثلاثاء عشرينه أرسلوا تنابيه إلى المشايخ بالحضور من الغد لأنفار عدوها ويكون حضورهم بالمشهد الحسيني فبات الناس في ارتياب وظنون وتخامين فلما أصبح اليوم حضر شيخ السادات وهو الناظر على أوقاف المشهد إلى قبة المدفن وحضر الشيخ البكري وأغلقوا باب القبة ومنعوا الناس من العبور بالمسجد متشوفين لثمرة هذا الاجتماع وكل من حضر من الأشياخ المشاهير استأذنوا له وأدخلوه إلى القبة وحضر الشيخ الأمير والشيخ المهدي وتأخر حضور الشيخ الشرقاوي لكونه كان ببيت في بولاق ثم حضر الآغا المذكور ودخل إلى القبة وصحبته ظرف من خشب ففتحه وأخرج منه لوحًا طوله أزيد من ذراعين في عرض ذراع ونصف مكتوب فيه البسملة بخط الثلث مموه بالذهب وهي بخط يد السلطان محمود وتحتها طرة العلامة السلطانية فعلقوه على مقصورة المقام وقرؤوا الفاتحة ودعا السيد محمد المنزلاوي خطيب المسجد بدعوات للسلطان ولما فرغ دعا أيضًا السيد بدر الدين المقدسي ثم خلع على المشايخ خلعًا وفرق ذهبًا ثم خرج الجميع وركبوا إلى دورهم فكان هذا الجمع جمع سخف لا غير‏.‏

وفي يوم الجمعة ركب الآغا المذكور وذهب إلى ضريح السادات الوفائية بالقرافة صحبة الشيخ المتولي خلافتهم فزار مقابرهم وعلق هناك نوحا أيضًا وفرق دراهم وخلع على الشيخ المذكور خلعة‏.‏

ومن الحوادث البدعية من هذا القبيل أن عثمان آغا المتولي آغات مستحفظان سولت له نفسه عمارة مشهد الرأس وهو رأس زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ويعرف هذا المشهد عند العامة بزين العابدين وبذلك اشتهر ويقصدونه بالزيارة صبح يوم الأحد فلما كانت الحوادث ومجيء الفرنسيس أهملوا ذلك وتخرب المشهد وأهيلت عليه الأتربة فاجتهد عثمان آغا المذكور في تعمير ذلك فعمره وزخرفه وبيضه وعمل به سترًا وتاجًا ليوضع على المقام وأرسل فنادى على أهل الطرق الشيطانية المعروفين بالأشاير وهم السوقة وأرباب الحرف المرذولة الذين ينسبون أنفسهم لأرباب الضرائح المشهورين كالأحمدية والرفاعية والقادرية والبرهامية ونحو ذلك وأكد في حضورهم قبل الجمع بأيام ثم أنهم اجتمعوا في يوم الأحد خامس عشرينه بأنواع من الطبول والزمامير والبيارق والأعلام والشراميط والخرق الملونة والمصبغة ولهم أنواع من الصياح والنياح والجلبة والصراخ الهائل حتى ملؤوا النواحي والأسواق وانتظموا وساروا وهم يصيحون ويترددون ويتجاوبون بالصلوات والآيات التي يحرفونها وأنواع التوسلات ومناداة أشياخهم أيضًا المنتسبين إليهم بأسمائهم كقولهم برفع الصوت وضرب الطبلات وقولهم يا هو يا هو يا جباوي ويا بدوي ويا دسوقي ويا بيومي ويصحبهم الكثير من الفقهاء والمتعممين والآغا المذكور راكب معهم والستر المصنوع مركب على أعواد وعليه العمامة مرفوعة بوسط الستر على خشب ومتحلقين حوله بالصياح والمقارع يمنعون أيدي الناس الذين يمدون أيديهم للتمسح والتبرك من الرجال والنساء والصبيان المتفرجين ويرمون الخرق والطرح حتى أنهم يرخونها من الطيقان بالحبال لتصل إلى ذلك التمثال لينالوا جزأ من بركته ولم يزالوا سائرين به على هذا النمط والخلائق تزداد كثرة حتى وصلوا إلى ذلك المشهد خارج البلدة بالقرب من كوم الجارح حيث المجراة وصنع في ذلك اليوم والليلة أطعمة وأسمطة للمجتمعين وباتوا على ذلك إلى ثاني يوم‏.‏

وفيه بعث عيسى آغا الواصل نجيب أفندي إلى الباشا يخبره بحضوره وبالغرض الذي حضر من أجله ويستدعيه للمجيء‏.‏

وفي يوم الجمعة غايته وردت أخبار بوقوع حرابة بين الباشا والمصريين وقتل بين الفريقين مقتلة عظيمة عند دلجة والبدرمان وكانت الغلبة للباشا على المصريين وأخذوا منهم أسرى وحضر إلى الباشا جماعة من الأمراء الألفية وهرب الباقون وصعدوا إلى قبلي فعملوا لذلك اليوم شنكًا ومدافع ثلاثة أيام كل يوم ثلاث مرات‏.‏

واستهل شهر شعبان بيوم السبت سنة 1225 فيه حضر الباشا وقت الغروب في تطريدة وصحبته جماعة قليلون وطلع من البحر من بر طرا والمعيصرة وركب من هناك خيولًا من خيول العرب وطلع إلى القلعة على حين غفلة فضربوا في ذلك الوقت مدافع إعلامًا بحضوره‏.‏

وفي ثاني ليلة صعد إليه عيسى آغا المذكور عند الغروب وقابله وسلم عليه‏.‏

وفي يوم الاثنين ثالثه عمل الباشا ديوانًا وركب ذلك الآغا من بيت عثمان آغا الوكيل الكائن بدرب الجماميز في موكب وطلع إلى القلعة وقرأ المرسوم الذي وصل صحبته بالمعنى السابق وهو الأمر بالخروج إلى الحجاز ولبس الباشا الخلعة والسيف بحضرة الجمع وضربوا مدافع كثيرة عقيب ذلك‏.‏

وفيه وردت الأخبار بمجيء يوسف باشا والي الشام إلى ثغر دمياط وكان من خبر وروده على هذه الصورة أنه لما ظهر أمره وأتته ولاية الشام فأقام العدل وأبطل المظالم واستقامت أحواله وشاع أمر عدله النسبي في البلدان فنقل أمره على غيره من الولاة وأهل الدولة لمخالفته طرائقهم فقصدوا عزله وقتله فأرسلوا له ولوالي مصر أوامر بالخروج إلى الحجاز فحصل التواني وفي أثناء ذلك حضر فرقة من العربان الوهابيين وخرج إليهم يوسف باشا المذكور وحصن المزيريب كما تقدم ورجع إلى الشام وتفرقت الجموع ثم وصل عيسى آغا هذا وعلى يده مراسيم بولاية سليمان باشا على الشام وعزل يوسف باشا وأشاعوا ذلك وخرج سليمان باشا تابع الجزار من عكا في جمع وخرج يوسف باشا بجموعه أيضًا فتحاربا فانهزم يوسف باشا ونزل بالمزة واستعجل الرجوع إلى الشام فقامت عليه عساكره ونهبوا متاعه وخرج سليمان باشا تابع الجزار من عكا وتفرقوا عنه فما وسعه إلا الفرار وترك ثقله وأمواله ونزل في مركب ومعه نحو الثلاثين نفرًا وحضر إلى مصر ملتجئًا لواليها محمد علي باشا لأن بينهما صداقة ومراسلات فلما وصلت الأخبار بوصوله أرسل إلى ملاقاته طاهر باشا وحضر صحبته إلى مصر وأنزله بمنزل مطل على بركة الأزبكية وعين له ما يكفيه وأرسل إليه هدايا وخيولًا وما يحتاج إليه‏.‏

وفي هذه الأيام اختل سد ترعة الفرعونية وانفتح منه شرم واندفع فيه الماء فضج الناس وتيعين لسدها ديوان أفندي وأخذ معه مراكب وأحجارًا وأخشابًا وغاب يومين ثم رجع واتسع الخرق واستمر عمر بك تابع الأشقر مقيمًا عليها لخفارتها وليمنع مرور المراكب ويقوي ردمها لئلا تنحرها المياه فيزداد اتساع الخرق‏.‏

وفي هذه الأيام توقفت زيادة النيل فكان يزيد من بعد الوفاة قليلًا ثم ينقص قليلًا ثم يرجع النقص وهكذا فأشار بالاجتماع بالاستسقاء بالأزهر فتجمع القليل ثم تفرقوا وذلك يوم الثلاثاء رابعه وخرج النصارى الأقباط يستسقون أيضًا واجتمعوا بالروضة وصحبتهم القساقسة والرهبان وهم راكبون الخيول والرهوانات والبغال والحمير في تجمل زائد وصحبتهم طائفة من أتباع الباشا بالعصي المفضضة وعملوا في ذلك اليوم سيانة وحانات وقهوات وأسمطة وسكردانات عند جميز العبد ويقولون أن النيل لما توقفت زيادته في العام الذي قبل العام الماضي وخرج الناس يستسقون بجامع عمرو وخرج النصارى في ثاني يوم فزاد النيل تلك الليلة وذلك لا أصل له على أنه لا استغراب للزيادة في أوانها وهذه الأيام أيضًا أواخر مسرى وأيام النسيء وفيها قوه الزيادة وأيام النوروز‏.‏

وفي يوم السبت خرج المشايخ والناس إلى جامع عمرو بمصر القديمة وأرسلوا تلك الليلة فجمعوا الأطفال من مصر وبولاق فحضر الكثير وخطبوا وصلوا وأضر بالمجتمعين الجوع في ذلك اليوم ولم يجدوا ما يأكلونه‏.‏

وفي ثاني يوم نقص النيل واستمر ينقص في كل يوم‏.‏

وفي يوم الخميس ثالث عشره حضرت العساكر والتجريدة إلى واحي الآثار والبساتين ودخلوا في صبيحة يوم الجمعة رابع عشره بطموشهم وحملاتهم حتى ضاقت بهم الأرض وحضر صحبتهم الكثير من الأجناد المصرية وأسرى ومستأمنين‏.‏

وفيه حضر يوسف باشا المنفصل عن الشام ونزل بقصر شبرا وضربوا لحضوره مدافع ثم انتقل إلى الأزبكية وسكن هناك كما تقدم ذكره‏.‏

وفي خامس عشرينه زاد النيل ورجع ما كان انتقصه وزاد على ذلك نحو قيراطين وثبت إلى أواخر توت واطمأن الناس‏.‏

وفي غايته سافر عيسى آغا بعد ما قبض ما أهداه إليه الباشا له ولمخدومه من الهدايا والأكياس والتحف والسكاكر والشرابات والأقمشة الهندية وغير ذلك ونزل لتشييعه عثمان آغا الوكيل وسافر صحبته نجيب أفندي‏.‏

وفي أواخره سافر سليمان بك البواب لمصالحة الأمراء المنهزمين على يد حسن باشا‏.‏

واستهل شهر رمضان بيوم الأحد سنة 1225 في سابع عشره قبض الباشا على المعلم غالي كبير المباشرين الأقباط والمعلم فلتيوس والمعلم جرجس الطويل والمعلم فرنسيس أخي المعلم غالي وباقي أعيان المباشرين فأما غالي وفلتيوس فنزلوا بهما تلك الليلة إلى بولاق وأنزلوهما في مركب ليسافرا إلى دمياط وحبسوا الباقين بالقلعة وختموا على دورهم ووجدوا عند المعلم غالي نيفًا وستين جارية بيضاء وسوداء وحبشية ثم قلدوا المباشرة إلى المعلم منصور ضريمون الذي كان معلم ديوان الجمرك ببولاق سابقًا والمعلم بشارة ورزق الله الصباغ مشاركان معه ثم أنزلوا النصارى المعتقلين من القلعة إلى بيت إبراهيم بك الدفتردار بالأزبكية وفيه جرجس الطويل وأخوه حنا وجرجس وفرنسيس أخو غالي ويعقوب كاتبه وغيرهم وأشاعوا عمل حسابهم ثم دار الشغل وسعت الساعون في المصالحة على غالي ورفقائه إلى أن تم الأمر على أربعة وعشرين كيسًا ونزل له فرمان الرضا والخلع والبشائر وذلك في آخر رمضان‏.‏

واستهل شهر شوال بيوم الثلاثاء سنة 1225 فيه نزلت طبلخانة الباشا إلى بيت المعلم غالي واستمروا يضربون النوبة التركية ثلاثة أيام العيد ببيته وكذلك الطبل الشامي وباقي الملاعيب وترمى لهم الخلع والبقاشيش‏.‏

وفي سابعه حضر المعلم غالي وطلع إلى القلعة وخلع عليه الباشا خلع الرضا وألبسه فروة سمور وأنعم عليه ونزل له عن أربعة آلاف كيس من أصل الأربعة وعشرين ألف كيس المطلوبة في المصالحة ونزل إلى داره وأمامه الجاويشية والأتباع بالعصي المفضضة وجلس بدكة داره وأقبل عليه الأعيان من المسلمين والنصارى للسلام عليه والتهنئة له بالقدوم المبارك وأما المعلم منصور ضريمون فجبروا خاطره بأن قيده بخدمة بيت إبراهيم بك ابن الباشا الدفتردار وقيدوا رفيقيه في خدم أخرى‏.‏

وفي يوم الخميس عاشر شوال حضر شاهين بك الألفي ومن معه إلى مصر ونصب وطاقه بناحية البساتين وذلك بعد أن تمموا الصلح على يد حسن باشا بواسطة سليمان بك البواب فلما استقر بخيامه وعرضيه ببر مصر حضر مع رفقائه وقابل الباشا وهو ببيت الأزبكية فبش في وجهه فقال شاهين بك نرجو سماح أفندينا وعفوه عما ذنبناه فقال نعم من قبل مجيئكم بزمان وهو مصر لهم على كل كريهة وأخلى له بيت محمد كتخدا الأشقر بجوار طاهر باشا بالأزبكية وفرشوه ونظموه ووعده برجوعه إلى الجيزة في مناصبه كما كان حتى يتحول منها محرم بك صهر الباشا لأنه عند انتقال شاهين بك من الجيزة عدى إليها محرم بك بحريمه وهي ابنة الباشا وسكن القصر بعسكره وكذلك أسكن كبار أتباعه وخواصه القصور التي كان يسكنها الألفية وكذلك البيوت والدور فوعده بالرجوع إلى محله وظن بخسافة عقله صحة ذلك وحضر صحبة شاهين بك جملة من العسكر والدلاة وغيرهم واستمرت حملاتهم وأمتعتهم تدخل إلى المدينة إرسالًا في عدة أيام‏.‏

وفي يوم الجمعة عمل الباشا ديوانًا بالأزبكية في بيت ابنه إبراهيم بك الدفتردار واجتمع عنده المشايخ والوجاقلية وغيرهم فتكلم الباشا وقال يا أحبابنا احتياجي إلى الأموال الكثيرة لنفقات العساكر والمصاريف والمهمات والإيراد لا يكفي ذلك فلزم الحال لتقرير الفرض على البلاد والأطيان وقد أجحف ذلك بأهاليها حتى جلت وخربت القرى وتعطلت المزارع وبارت الأطيان ولا يمكنني رفع ذلك بالكلية والقصد أن تدبروا لنا تدبيرًا وطريقًا لتحصيل المال من غير ضرر ولا إجحاف على أهل القرى وتعود مصلحة التدبير عليهم وعلينا فقال الجميع الرأي لك فقال إني فوضت الرأي في تدبير الأمور السابقة لجماعة الكتبة وهم الأفندية والأقباط فوجدت الجميع خائنين وإني دبرت رأيًا لا تدخله التهمة وهو أن من المعلوم أن جميع الحصص لها سندات ومعين بها مقدار الميري والفائظ فنقرر على كل حصة قدر ميريها وفائظها إما سنة أو سنتين فلا يضر ذلك بالملتزمين ولا بالفلاحين فانتبذ أيوب كتخدا الفلاح وهو كبير الاختيارية وقال لكن يا أفندينا إلى مساواة الناس فإن حصص كثير من المشايخ مرفوع ما علبها من المغارم ويرجع تتميم الغرامة على حصص الشركاء فحنق من كلامه الشيخ الشرقاوي وقال له أنت رجل سوء وثار عليه باقي المشايخ الحاضرين وزاد فيهم الصياح فقان الباشا من المجلس وتركهم وذهب بعيدًا عنهم وهم يتراددون ويتشاجرون فأرسل إليهم الباشا الترجمان وقال إنكم شوشتم على الباشا وتكدر خاطره من صياحكم فسكتوا وقاموا من المجلس وذهبوا إلى دورهم وهم منفعلون المزاج ولعل كلام أيوب كتخدا وافق غرض الباشا أو هو بإغرائه ثم شرعوا في تحرير الدفاتر وتبديل الكيفيات وكان في العزم أولًا أن يجعلها على ذمم الأطيان شارقًا وغارقًا بما فيها من الأوسية التي للملتزمين والأرزاق ومسموح مشايخ البلاد وذكر ذلك في المجلس فقيل له أن الأوسية معايش الملتزمين والرزق قسمان قسم داخل في زمام أطيان البلد ومحسوب في مساحة فلاحتها وقسم خارج عن زممها والقسمان من الإرصادات على الخيرات وعلى جهات البر والصدقة والمساجد والأسبلة والمكاتب والأحواض لسقي الدواب وغير ذلك فيلزم منه إبطال هذه الخيرات وتعطيلها فقال الباشا أن المساجد غالبها متخرب ومتهدم فقالوا له عليك بالفحص والتفتيش وإلزام المتولي على المسجد بعمارته إذا كان إيراده رائجًا إلى آخر ما قيل‏.‏

وفي يوم الاثنين حادي عشرينه قتلوا شخصًا من الأجناد الألفية وقطعوا رأسه بباب الخرق بسبب أنه قتل زوجته من غير جرم يوجب قتلها‏.‏

واستهل شهر ذي القعدة بيوم الأربعاء سنة 1225 في ثانيه سافر الباشا إلى ثغر سكندرية ليكشف على عمارة الأبراج والأسوار ويبيع الغلال التي جمعها من البلاد في الفرض التي فرضت عليهم وكذلك ما أحضره من البلاد القبلية فجمعوا المراكب وشحنوها بالغلال وأرسلها إلى الإسكندرية ليبيعها على الإفرنج فباع عليهم أزيد من مائتي ألف أردب كل أردب بمائة قرش وسعرها بمصر ثمانية عشر قرشًا وهو لم يشترها ولم تكن عليه بمال بل أخذها من زراعات الفلاحين من أصل ما فرضه عليهم وألزمهم بكلفة شيله وأجرة نقله إلى المحل الذي يلزمونهم بوضعه فيه وأخذ من الإفرنج في ثمنه أصناف النقود من الذهب المشخص البندقي والمجر والفرانسه وعروض البضائع من الجوخ المتنوعة والدودة التي يقال لها القرمز والقزدير وأصناف البضائع الإفرنكية وأحدث وهو بالإسكندرية أحداثًا ومكوسًا‏.‏

واستهل شهر ذي الحجة الحرام بيوم الأحد سنة 1225 في ثاني عشرينه حضر الباشا من الإسكندرية إلى مصر وذلك يوم الجمعة أواخر النهار وحضر في العشية إلى بيت الأزبكية وبات عند حريمه وطلع في صبح يوم السبت إلى القلعة وضربوا مدافع كثيرة لحضوره وبذلك علم الناس حضوره وانقضت السنة بحوادثها التي قصصنا بعضها إذ لا يمكن استيفاؤها للتباعد عن مباشرة الأمور وعدم تحققها على الصحة وتحريف النقلة وزيادتهم ونقصهم في الرواة فلا أكتب حادثة حتى أتحقق صحتها بالتواتر والاشتهار وغالبها من الأمور الكلية التي لا تقبل الكثير من التحريف وربما أخذت قيد حادثة حتى أثبتها ويحدث غيرها وأنساها فأكتبها في طيارة حتى أفيدها في محلها إن شاء الله تعالى عند تهذيب هذه الكتابة وكل ذلك من تشويش البال وتكدر الحال وهم العيال وكثرة الاشتغال وضعف البدن وضيق العطن‏.‏

ومن حوادثها أحداث عدة مكوس زيادة على ما أحدث على الأرز والكتان والحرير والحطب والملح وغير ذلك مما لم يصل إلينا خبره حتى غلت أسعارها إلى الغاية وكان سعر الدرهم الحرير نصفين فصار بخمسة عشر نصفًا وكنا نشتري القنطار من الحطب الرومي في أوانه بثلاثين نصفًا وفي غير أوانه بأربعين نصفًا فصار بثلاثمائة نصف وكان الملح يأتي من أرضه بثمن القفاف التي يوضع فيها لا غير ويبيعه الذين ينقلونه إلى ساحل بولاق الأردب بعشرين نصفًا وأردبه ثلاثة أرداب ويشتريه المسبب بمصر بذلك السعر لآن أردبه أردبان ويبيعه أيضًا بذلك السعر ولكن أردبه واحد فالتفاوت في الكيل لا في السعر فلما احتكر صار الكيل لا يتفاوت وسعره الآن أربعمائة وخمسون نصفًا والتزم وأوقف رجاله في موارده البحرية لمنع من يأخذ منه شيئًا من المراكب المارة بالسعر الرخيص من أربابه ويذهب به إلى قبلي أو نحو ذلك‏.‏

ومنها وهي من الحوادث الغريبة أنه ظهر بالتل الكائن خارج رأس الصورة المعروفة الآن بالحطابة قبالة الباب المعروف بباب الوزير في وهدة بين التلول نار كامنة بداخل الأتربة واشتهر أمرها وشاع ذكرها وزاد ظهورها في أواخر هذه السنة فيظهر من خلال التراب ثقب ويخرج منها الدخان بروائح مختلفة كرائحة الخرق البالية وغير ذلك وكثر ترداد الناس لاضطلاع عليها أفواجًا أفواجًا نساء ورجالًا وأطفالًا فيمشون عليها ويجدون حرارتها تحت أرجلهم فيحفرون قليلًا فتظهر النار مثل نار الدمس فيقربون منها وإن غوصوا فيها خشبة أو قصبة احترقت ولما شاع ذلك وأخبروا بها كتخدا بك نزل إليها بجمع من أكابره وأتباعه وغيرهم وشاهد ذلك فأمر والي الشرطة بصب الماء عليها وإهالة الأتربة من أعالي التل فوقها ففعلوا ذلك وأحضروا السقائين وصبوا عليها بالقرب ماء كثيرًا وأهالوا عليها الأتربة وبعد يومين صارت الناس المتجمعة والأطفال يحفرون تحت ذلك الماء المصبوب قليلًا فتظهر النار ويظهر دخانها فيقربون منها الخرق والحلفاء واليدكات فتورى وتدخن واستمر الناس يغدون ويرجون للفرجة عليها نحو شهرين وشاهدت ذلك في جملتهم ثم بطل ذلك‏.‏

ومنها أنه نودي أواخر السنة على صرف المحبوب بزيادة صرفه ثلاثين نصفًا وكان يصرف بمائتين وخمسين من زيادات الناس في معاملاتهم فكانوا ينادون بالنقص ورجوعها إلى ما كان قبل الزيادة ويعاقبون على التزايد‏.‏

وفي هذه الأيام نودي بالزيادة وذلك بحسب الأغراض والمقاصد والمقتضيات ومراعاة مصالح أنفسهم لا المصلحة العامة هذا مع نقص عياره ووزنه عما كان عليه قبل المناداة وكذلك نقصوا وزن القروش وجعلوا القرش على النصف من القرش الأول ووزنه درهمين وكان أربعة دراهم وفي الدرهمين ربع درهم فضة هذا مع عدم الفضة العددية ووجودها بأيدي الناس والصيارف وإذا أراد إنسان صرف قرش واحد من غيره صرفه بنقص ربع العشر وأخذ بدله قطعًا صغارًا إفرنجية يصرف منها الواحدة باثني عشر وأخرى بعشرة وأخرى بخمسة ولكنها جيدة العيار وهم الآن يجمعونها ويضربونها بما يزاد عليها من النحاس وهو ثلاثة أرباع قروشًا لأن القطعة الصغيرة التي تصرف بخمسة أنصاف وزنها درهم واحد وزني فيصيرونها أربعة قروش فتضاعف الخمسة إلى ثمانين وكل ذلك نقص واختلاس أموال الناس من حيث لا يشعرون‏.‏

وأما من مات في هذه السنة ممن له ذكر فمات الفقيه الفريد والعلامة المفيد الشيخ علي الحصاوي الشافعي ولا أعلم له ترجمة وإنما رأيته يقرر الدروس ويفيد الطلبة في الفقه والمعقول ويشهد الفضلاء بفضله ورسوخه وكان على طريقة المتقدمين في الانقطاع للإفادة وعدم الرفاهية الرضا بما قسم له منعكفًا في حاله وتمرض بالبرودة ولم ينقطع عن ملازمة الدروس حتى توفي في منتصف جمادى الثانية من السنة وصلي عليه بالأزهر ودفن في تربة المجاورين بالصحراء ومات المعلم جرجس الجوهري القبطي كبير المباشرين بالديار المصرية وهو أخو المعلم إبراهيم الجوهري ولما مات أخوه في زمن رياسة الأمراء المصرية تعين مكانه في الرياسة على المباشرين والكتبة وبيده حل الأمور وربطها في جميع الأقاليم المصرية نافذ الكلمة وافر الحرمة وتقدم في أيام الفرنسيس فكان رئيس الرؤساء وكذلك عند مجيء الوزير والعثمانيين وقدموه وأجلسوه ولما يسديه إليهم من الهدايا والرغائب حتى كانوا يسمونه جرجس أفندي ورايته يجلس بجانب محمد باشا خسرو وبجانب شريف أفندي الدفتردار ويشرب بحضرتهم الدخان وغيره ويراعون جانبه ويشاورونه في الأمور وكان عظيم النفس ويعطي العطايا ويفرق على جميع الأعيان عند قدوم شهر رمضان الشموع العسلية والسكر والأرز والكساوي والبن ويعطي ويهب وبنى عدة بيوت بحارة الونديك والأزبكية وأنشأ دار كبيرة وهي التي يسكنها الدفتردار الآن ويعمل فيها الباشا وابنه الدواوين عند قنطرة الدكة وكان يقف على أبوابه الحجاب والخدم ولم يزل على حالته حتى ظهر المعلم غالي وتداخل في هذا الباشا وفتح له الأبواب لأخذ الأموال والمترجم يدافع في ذلك وإذا طلب الباشا طلبًا واسعًا من المعلم جرجس يقول له هذا لا يتيسر فيأتي المعلم غالي فيسهل له الأمور ويفتح له أبواب التحصيل فضاق خناق المترجم وخاف على نفسه فهرب إلى قبلي ثم حضر بأمان كما تقدم وانحط قدره ولازمته الأمراض حتى مات في أواخر شعبان وانقضى وخلا الجو للمعلم غالي وتعين بالتقدم ووافق الباشا في أغراضه الكلية والجزئية وكل شيء له بداية وله نهاية والله أعلم‏.‏ واستهلت

سنة ست وعشرين ومائتين وألف

فكان أول المحرم يوم السبت فيه أظهر الباشا إليه تمام بأمر الحجاز والتجهيز للسفر وركب في ليلة الجمعة سابعه إلى السويس وسافر صحبته السيد محمد المحروقي وقام باحتياجاته ولوازمه فلما وصل إلى السويس حجز الداوات التي وصلت بالمحمل وسفر عدة من المراكب التي أنشأها ليقبضوا على الداوات والسفن التي بالأساكل وحوزها واستولى على البن الذي وجده ببندر السويس للتجار فلما وصل خبر ذلك إلى مصر فغلا سعر البن وزاد حتى وصل إلى خمسين ريالًا فرانسة بعد أن كان بستة وثلاثين عنها اثنا عشر ألف فضة وخمسمائة نصف فضة‏.‏

واستهل شهر صفر الخير بيوم الأحد سنة 1226 في ثانية يوم الاثنين حضر الباشا من السويس إلى مصر في سادس ساعة من الليل فضربوا في صبحها عدة مدافع لحض لحضوره وقد حضر على هجين بمفرده ولم يصحبه إلا رجل بدوي على هجين أيضًا ليدله على الطريق وقطع المسافة في إحدى عشرة ساعة وحضر من كان بصحبته في ثاني يوم وهم مجدون السفر وحضر السيد محمد المحروقي بحموله في اليوم الثالث وأخبروا أن الباشا أنزل من ساحة السويس خمسة مراكب من المراكب التي أنشأها باحتياجاتها ولوازمها وعساكرها ووجههم إلى ناحية اليمن ليقبضوا على ما يجدونه من المراكب وإن الصناع فيه حضر صالح آغا قوج حاكم أسيوط وتناقلت الأخبار عن الأمراء المصريين القبليين بأنهم حضروا إلى الطينة ورجعوا إلى ناحية قنا وقوض وخرج إليهم أحمد آغالاظ وتحارب معهم وقتل من عساكره عدة وافرة‏.‏

وفيه قلد الباشا ابنه طوسون باشا ساري عسكر الركب الموجه إلى الحجاز وأخرجوا جيشهم إلى ناحية قبة العزب ونصبوا عرضيًا وخيامًا وأظهر الباشا الاجتهاد الزائد والعجلة وعدم التواني ونوه بتسفير عساكر لناحية الشام لتمليك يوسف باشا لمحله وسارى عسكرهم شاهين بك الألفي ونحو ذلك من إلإيهامات وطلب من المنجمين أن يختاروا وقتًا صالحًا لإلباس ابنه خلعة السفر فاختاروا له الساعة الرابعة من يوم الجمعة فلما كان يوم الخميس رابعه طاف الاي جاويش بالأسواق على صورة الهيئة القديمة في المناداة على المواكب العظيمة وهو لابس الضلمة والطبق على رأسه وراكب حمار عال وأمامه مقدم بعكاز وحوله قابجية ينادون بقولهم يا رن ألاي ويكررون ذلك في أخطاط المدينة وطافوا بأوراق التنابيه على كبار العسكر والبينبات والأمراء المصرية الألفية وغيرهم يطلبونهم للحضور في باكر النهار إلى القلعة ليركب الجميع بتجملاتهم وزينتهم أمام الموكب فلما أصبح يوم الجمعة سادسه ركب الجميع وطلعوا إلى القلعة وطلع المصرية بمماليكهم وأتباعهم وأجنادهم فدخل الأمراء عند الباشا وصبحوا عليه وجلسوا معه حصة وشربوا القهوة وتضاحك معهم ثم أنجر الموكب على الوضع الذي رتبوه فانجر طائفة الدلاة وأميرهم المسمى أزون علي ومن خلفهم الوالي والمحتسب والوجاقلية والألداشات المصرية ومن تزيا بزيهم ومن خلفهم طوائف العسكر الرجالة والخيالة والبيكباشيات وأرباب المناصب منهم وإبراهيم آغا آغات الباب وسليمان بك البواب يذهب ويجيء ويرتب الموكب وكان الباشا قد بيت مع حسن باشا وصالح قوج والكتخدا فقط غدر المصرية وقتلهم وأسر بذلك في صبحها إبراهيم آغا آغات البابا فلما انجر الموكب وفرغ طائفة الدلاة ومن خلفهم من الوجاقلية والألداشات المصرية وانفصلوا من باب العزب فعند ذلك أمر صالح قوج بغلق الباب وعرف طائفته بالمراد فالتفتوا ضاربين بالمصرية وقد احصروا بأجمعهم في المضيق المنحدر الحجر المقطوع في أعلي باب العزب مسافة ما بين الباب الأعلى الذي يتوصل منه إلى رحبة سوق القلعة إلى الباب الأسفل وقد أعدوا عدة من العساكر أوقفوهم على علاوى النقر الحجر والحيطان التي به فلما حصل الضرب التحتانيين أراد الأمراء الرجوع القهقري فلم يمكنهم ذلك لانتظام الخيول في مضيق النقر وأخذهم ضرب البنادق والقرابين من خلفهم أيضًا وعلم العسكر الواقفون بالأعلى المراد فضربوا أيضًا فلما نظروا ما حل بهم سقط في أيديهم وارتبكوا في أنفسهم وتحيروا في أمرهم ووقع منهم أشخاص كثيرة فنزلوا عن الخيول واقتحم شاهين بك وسليمان بك البواب وآخرون في عدة من مماليكهم راجعين إلى فوق والرصاص نازل عليهم من كل ناحية ونزعوا ما كان عليهم من الفراوي والثياب الثقيلة ولم يزالوا سائرين وشاهرين سيوفهم حتى وصلوا إلى الرحبة الوسطى المواجهة لقاعة الأعمدة وقد سقط أكثرهم وأصيب شاهين بك وسقط إلى الأرض فقطعوا رأسه وأسرعوا بها إلى الباشا ليأخذوا عليها البقشيش وكان الباشا عندما ساروا بالموكب ركب من ديوان السراية وذهب إلى البيت الذي به الحريم وهو بيت إسمعيل أفندي الضربخانه وأما سليمان بك البواب فهرب من حلاوة الروح وصعد إلى حائط البرج الكبير فتابعوه بالضرب حتى سقط وقطعوا رأسه أيضًا وهرب كثير إلى بيت طوسون باشا يظن الالتجاء به والاحتماء فيه فقتلوهم وأسرف العسكر في قتل المصريين وسلب ما عليهم من الثياب ولم يرحموا أحدًا وأظهروا كامن حقدهم وضبعوا فيهم وفيمن رافقهم متجملًا معهم من أولاد الناس وأهالي البلد الذين تزيوا بزيهم لزينة الموكب وهم يصرخون ويستغيثون ومنهم من يقول أنا لست جنديًا ولا مملوكًا وآخر يقول أنا لست من قبيلتهم فلم يرقوا لصارخ ولا شاك ولا مستغيث وتتبعوا المتشتتين والهربانين في نواحي القلعة وزواياها والذين فروا ودخلوا في البيوت والأماكن وقبضوا على من أمسك حيًا ولم يمت من الرصاص أو متخلفًا عن الموكب وجاسًا مع الكتخدا كأحمد بك الكيلارجي ويحيى بك الألفي وعلي كاشف الكبير فسلبوا ثيابهم وجمعوهم إلى السجن تحت مجلس كتخدا بك ثم أحضروا أيضًا المشاعلي لرمي أعناقهم في حوش الديوان واحدًا بعد واحد من ضحوة النهار إلى أن مضى حصة من الليل في المشاعل حتى امتلأ الحوش من القتلى ونم مات من المشاهير المعروفين وانصرع في طريق القلعة قطعوا رأسه وسحبوا جثته إلى باقي الجثث حتى أنهم ربطوا في رجلي شاهين بك ويديه حبالًا وسحبوه على الأرض مثل الحمار الميت إلى حوش الديوان هذا ما حصل بالقلعة وأما أسفل المدينة فإنه عندما أغلق باب القلعة وسمع من بالرميلة صوت الرصاص وقعت الكرشة في الناس وهرب من كان واقفًا بالرميلة من الأجناد في انتظار الموكب وكذلك المتفرجون واتصلت الكرشة بأسواق المدينة فانزعجوا وهرب من كان بالحوانيت لانتظار الفرجة وأغلق الناس حوانيتهم وليس لأحد علم بما حصل وظنوا ظنونًا وعندما تحقق العسكر حصول الواقعة وقتل الأمراء انبثوا كالجراد المنتشر إلى بيوت الأمراء المصريين ومن جاورهم طالبين النهب والغنيمة فولجوها بغتة ونهبوها نهبة ذريعًا وهتكوا الحرائر والحريم وسحبوا النساء والجواري والخوندات والستات وسلبوا ما عليهن من الحلي والجواهر والثياب وأظهروا الكامن في نفوسهم ولم يجدوا مانعًا ولا رادعًا وبعضهم قبض على يد امرأة ليأخذ منها السوار فلم يتمكن من نزعها بسرعة فقطع يد المرأة وحل بالناس في بقية ذلك اليوم من الفزع والخوف وتوقع المكروه ما لا يوصف لأن المماليك والأجناد تداخلوا وسكنوا في جميع الحارات والنواحي وكل أمير له دار كبيرة فيها عياله وأتباعه ومماليكه وخيوله وجماله وله دار وداران صغار في داخل العطف ونواحي الأزهر والمشهد الحسيني يوزعون فيها ما يخافون عليه لظنهم بعدها وحمايتها بحرمة الخطة وصونها عند وقوع الحوادث وكثير من كبار العسكر مجاورون لهم في جميع النواحي ويرمقون أحوالهم ويطلعون على أكثر حركاتهم وسكناتهم ويتدخلون فيهم ويعاشرونهم ويسامرونهم بالليل ويظهرون لهم الصداقة والمحبة وقلوبهم محشوة من الحقد عليهم والكراهة لهم بل ولجميع أبناء العرب فلما حصلت هذه الحادثة بادروا لتحصيل ما هو لهم وأظهروا ما كان مخفيًا في صدورهم وخصوصًا من التشفي في النساء فإن العظيم منهم كان إذا خطب أدنى امرأة ليتزوج بها فلا ترضى به وتعافه وتأنف قربه وإن ألح عليها استجارت بمن يحميها منه وإلا هربت من بيتها واختفت شهورها وذلك بخلاف ما إذا خطبها أسفل شخص من جنس المماليك أجابته في الحال واتفق أنه لما اصطلح الباشا مع الألفية وطلبوا البيوت ظهر كثير من النساء المستترات المخفيات وتنافسن في زواجهم وعملن لهم الكساوي وقدمن لهم التقادم وصرفن عليهم لوازم البيوت التي تلزم الأزواج لزوجاتهم كل ذلك بمرأى من الأتراك يحقدونه في قلوبهم وفيهم من حمى جاره وصان دياره ومانع أعلاهم أدناهم وقليل ما هم وذلك لغرض يبتغيه وأمر يرتجيه فإنه بعد ارتفاع النهب كانوا يقبضون عليهم من البيوت فيستولي الذي حماه ودافع عنه على داره وما فيها وأنهبت دور كثيرة من المجاورين لهم أو لدور أتباعهم بأدنى شبهة أو يدخلون بحجة التفتيش ويقولون عنكم مملوك أو سمعنا أن عندكم وديعة لمملوك وبات الناس وأصبحوا على ذلك ونهب في هذه الحادثة من الأموال والأمتعة ما لا يقدر قدره ويحصيه إلا الله سبحانه وتعالى ونهبت دور كثيرة من دور الأعيان الذين ليسوا من الأمراء المقصودين ومن المتقيدين بخدمة الباشا مثل ذي الفقار كتخدا المتولي خوليًا على بساتين الباشا التي أنشأها بشبرا وبيت الأمير عثمان آغا الورداني ومصطفى كاشف المورلي والأفندية الكتبة وغيرهم وأصبح يوم السبت والنهب والقتل والقبض على المتوارين والمتخفين مستمر ويدل البعض على البعض أو يغمز عليه وركب الباشا في الضحوة ونزل من القلعة وحوله أمراؤه الكبار مشاة وأمامه الصفاشية والجاويشية بزينتهم وملابسهم الفاخرة والجميع مشاة ليس فيهم راكب سواه وهم محدقون به وأمامه وخلفه عدة وافرة والفرح والسرور بقتل المصريين ونهبهم والظفر بهم طافح من وجوههم فكان كلما مر على أرباب الدرك والقلقات والضابطين وقف عليهم ووبخهم على النهب وعدم منعهم لذلك والحال أنهم هم الذين كانوا ينهبون أولًا ويتبعهم غيرهم فمروا على العقادين الرومي والشوائين فخرج إليه شخص من تجار المغاربة يسمى العربي الحلو وصرخ في وجهه وهو يقول إيش هذا الحال وإيش لنا علاقة حتى ينهبنا العسكر ونحن ناس فقراء مغاربة متسببون ولسنا مماليك ولا أجناد فوقف إليه وأرسل معه نفرًا إلى داره فوجدوا بها شخصين أحدهما تركي والآخر بلدي وهما يلتقطان آخر النهب وما سقط من النهابين فأمر بقتلهما فأخذوهما إلى باب الخرق وقطعوا رؤوسهما ثم أنه عطف على جهة الكعكيين فلاقاه من أخبره بأن المشايخ مجتمعون ونيتهم الركوب لملاقاته والسلام عليه والتهنئة بالظفر فقال أنا أذهب إليهم ولم يزل في سيره حتى دخل إلى بيت الشيخ الشرقاوي وجلس عنده ساعة لطيفة وكان قد التجأ إلى الشيخ شخصان من الكشاف المصرية فكلمه في شأنهما وترجى عنده في إعتاقهما من القتل وأن يؤمنهما على أنفسهما وقال له لا تفضح شيبتي يا ولدي واقبل شفاعتي واعطهما محرمة الأمان فأجابه إلى ذلك وقال له شفاعتك مقبولة ولكن نحن لا نعطي محارم وأنا أماني بالقول أو نكتب ورقة ونرسلها إليك بالأمان فاطمأن الشيخ لذلك ثم قام الباشا وركب وطلع إلى القلعة وأرسل ورقة إلى الشيخ بطلبهما فقال لهما الشيخ أن الباشا أرسل هذه الورقة يؤمنكما ويطلبكما إليه فقالا وما يفعل بذهابنا إليه فلا شك في أنه يقتلنا فقال الشيخ لا يصلح ذلك ولا يكون كيف أنه يأخذكم من بيتي ويقتلكم بعد أن قبل شفاعتي فذهبا مع الرسول فعندما وصلا إلى الحوش وهو مملوء بالقتلى وضرب الرقاب واقع في المحبوسين والمحضرين قبضوا عليهما وأدرجا في ضمنهم وفي ذلك اليوم نزل طوسون بن الباشا وقت نزول أبيه وشق المدينة وقتل شخصًا من النهابين أيضًا فارتفع النهب وانكف العسكر عن ذلك ولولا نزول الباشا وابنه في صبح ذلك اليوم لنهب العسكر بقية المدينة وحصل منهم غاية الضرر وأما القبض على الأجناد والمماليك فمستمر وكذلك كل من كان يشبههم في الملبس والزي وأكثر من كان يقبض عليهم عساكر حسن باشا الأرنؤدي فيكبسون عليهم في الدور أو في الأماكن التي تواروا فيها واستدلوا عليهم فيقبضون على من يقبضون عليه وينهبون من الأماكن ما يمكنهم حمله وثياب النساء وحليهن ويسحبون الواحد والاثنين أو أكثر بينهم ويأخذون عمائمهم وثيابهم وما في جيوبهم في أثناء الطريق وإذا كان كبيرًا أو أميرًا يستحي منه طلبوه بالرفق فإذا ظهر لهم قالوا له سيدنا حسن باشا يستدعيك إليه فلا تخش من شيء ويطمئن قليلًا ويظن أنهم يجبرونه وعلى أنه حال لا يسعه إلا الإجابة لأنه إن امتنع أخذوه قهرًا فإذا خرج من الدار استصحبه جماعة منهم وطلع البواقي إلى الدار فأخذوا ما قدروه عليه ولحقوا بهم وجرى على المأخوذ ما يجري على أمثاله من المأخوذين والبعض توارى والتجأ إلى طائفته الدلاة الفلاحات اللاتي يبعن الجلة والجبنة وذهبوا في ضمنهم وفر من نجا منهم وتزيا بشكلهم ولبس له طرطورًا وأجاروه وهرب كثير في ذلك اليوم وخرجوا إلى قبلي وبعضهم تزيا بزي النساء الفلاحين وخرج في ضمن إلى الشام وغيرها وأما كتخدا بك فإنه لشدة بغضه فيهم صار لا يرحم منهم أحدًا فكان كل من أحضروه ولو فقيرًا هرمًا من مماليك الأمراء الأقدمين يأمر بضرب عنقه وأرسل أوراقًا إلى كشاف النواحي والأقاليم بقتل كل مكن وجدوه بالقرى والبلدان فوردت الرؤوس في ثاني يوم من النواحي فيضعونها بالرميلة وعلى مصطبة السبيل المواجه لباب زويلة وكان كثير من الأجناد بالأرياف لتحصيل الفرض التي تعهدوا بدفعها على فلاحيهم وانقضت أجلتهم وطولبوا بالدفع والفلاحون قصرت أيديهم ولم يقبلوا للملتزمين عذرًا في التأخير فلم يسعهم إلا الذهاب بأنفسهم لأجل خلاص المطلوب منهم للديوان فعندما وصلت الأوامر إلى كشاف الأقاليم بقتل الكائنين بالبلاد بادروا بقتل من يمكنهم قتله ومن بعد عنهم أرسلوا لهم العساكر في محلاتهم فيدهمونهم على حين غفلة ويقتلونهم وينهبون متاعهم وما جمعوه من المال ويرسلون برؤوسهم أو يتحيلون على القبض عليهم وقتلهم فصار يصل في كل يوم العدد من الرؤوس من قبلي وبحري ويضعونها على باب زويلة وباب القلعة ولم يقبلوا شفاعة في أحد أبدًا ويعطون الأمان للبعض فإذا حضروا قبضوا عليهم وشلحوهم ثيابهم وقتلوهم والباشا يعلم من كتخداه شدة الكراهة لجنس المماليك ففوض له الأمر فيهم حتى أنه كان بينه وبين محمد آغا كتخدا الجاويشية سابقًا بعض منافرة من مدة سابقة أو لكونه صاهر بعض الألفية وزوجه ابنته وكان غائبًا ببلدة يقال لها الفرعونية جارية في إقطاعه وتعهد بما عليها من الفرضة فذهب إليها بنفسه ليستخلص منها الفرضة والمال الميري فأرسل الكتخدا بك إلى كاشف المنوفية قبل الحادث بيوم يأمره فيه بأمره فأرسل إليه طائفة من العسكر دخلوا عليه في الفجرية وهو يتوضأ الصلاة الصبح فقتلوه وقطعوا رأسه وأحضروها إلى مصر وكانوا يأتون بأشخاص من بقايا البيوت القديمة فيمثلونهم بين يدي الكتخدا فيسألهم فيخبرون عن أنفسهم ونسبتهم فيكذبهم ويأمر بهم إلى الحبس الأعلى حتى يتبين أمرهم فإما تدركهم الألطاف فينجون بعد معاينة الموت وهذا في النادر فقتل في هذه الحادثة أكثر من ألف إنسان أمراء وأجناد وكشاف ومماليك ثم صاروا يحملون رممهم على الأخشاب ويرمونهم عند المغسل بالرميلة ثم يرفعونهم ويلقونهم في حفر من الأرض فوق بعضهم البعض لا يتميز الأمير عن غيره وسلخوا عدة رؤوس من رؤوس العظماء وألقوا جماجمهم المسلوخة على الرمم في تلك الحفر فكانت هذه الكائنة من أشنع الحوادث التي لم يتفق مثلها ولم ينج الألفية إلا أحمد بك زوج عديلة هانم بنت إبراهيم بك الكبير فإنه كان غائبًا بناحية بوش وأمين بك تسلق من القلعة وهرب من ناحية الشام وعمر بك أيضًا الألفي كان مسافرًا في ذلك اليوم إلى الفيوم فقتلوه هناك وبعثوا برأسه بعد خمسة أيام ومعها نحو الخمسة عشر رأسًا وأرسل دبوس أوغلي حاكم المنية خمسة وثلاثين رأسًا وحضر من ناحية بحري غير ذلك كثير‏.‏

وأما من قتل في ذلك اليوم ممن له ذكر وبلغني خبره فهم شاهين بك كبير الإلفية ويحيى بك ونعمان بك وحسين بك الصغير ومصطفى بك الصغير ومراد بك وعلي بك هؤلاء من الإلفية ومن غيرهم أحمد بك الكيلارجي ويوسف بك أبو دياب وحسن بك صالح ومرزوق بك بن إبراهيم بك تابعاه وقاسم بك تابع مراد بك الكبير وسليم بك الدمرجي ورستم بك الشرقاوي ومصطفى بك أيوب ومصطفى بك تابع عثمان بك حسن وعثمان بك إبراهيم وذو الفقار تابع جوجر وهو رجل كبير من الأقدمين البطالين هرب هو ومصطفى بك الجداوي وآخر عند صالح بك السلحدار والتجؤا إليه وطمنهم وأرسل بخبرهم فحضر الأمر بقطع رؤوسهم فأحضر المشاعلي وقطع رؤوسهم في مقعده وأرسلها‏.‏

ومن الأمراء الكشاف الإلفية فهم علي كاشف الخزندار وعثمان كاشف الحبشي ويحيى كاشف ومرزوق كاشف وعبد العزيز كاشف ورشوان كاشف وسليم كاشف ططر وقايد كاشف وجعفر كاشف وعثمان كاشف ومحمد كاشف أبو قطية وأحمد كاشف الفلاح وأحمد كاشف صهر محمد آغا وخليل كاشف قيطاس وأحمد كاشف وموسى كاشف وغير ذلك ممن لم يحضرني أسماؤهم وهم كثيرون وختم الله للجميع بالخير فإنه بلغني ممن عاينهم بالحبوس وفي حال القتل أنهم كانوا يقرأون القرآن وينطقون بالشهادتين والاستغفار وبعضهم طلب ماء وتوضأ وصلى ركعتين قبل أن يرمي عنقه ومن لم يجد ما تيمم ولاشتغال أهل المقتولين بأنفسهم وما حصل لهم من النهب والسلب والتشتيت عن أوطانهم لم يعوا ولم يسألوا عن موتاهم غير أم مرزوق بك بن إبراهيم بك الكبير فإنها وجدت عليه وجدًا عظيمًا وطلبته في القتلى فعرفوا جثته بعلامة فيه وجمجمته بكونه كان كريم العين فأخرجوه وكفنوه ودفنوه في تربتهم وذلك بعد مضي يومين من الحادثة واجتمع عندها الكثير من أهل المقتولين ونسائهم وأقاموا على ذلك شهورًا‏.‏

وفي الحادثة أرسل محرم بك صهر الباشا حاكم الجيزة فجمع مال المصرية بإقليم الجيزة في الربيع من الخيول والجمال والهجن وغيرها فكان شيئًا كثيرًا‏.‏

وفي ثامنه نودي على نساء المقتولين بالأمان وأن يحضرن إلى بيوتهن ويسكن فيها مع كونها صارت بلاقع فرجع البعض وهن اللاتي لم يحصل لهن كثير الضرر وبقي البعض في اختفائه وأنعم الباشا على خواصه بالبيوت بما فيها فنزلوها وسكنوها وألبسوا النساء الخواتم وجددوا الفرش والأواني وغالبها من المنهوبات وأنعم ببيت شاهين بك على حسين آغا من أقاربه ولم يحصل به ما حصل بغيره لكونه ملاصقًا لبيت طاهر باشا وأرسل الباشا طائفة من العسكر جلسوا على بابه وأما أحمد بك الألفي فإنه وصله النذير فانتقل من بوش وذهب عند الأمراء القبالي ولما وصلتهم أخبار هذه الحادثة وبلغ إبراهيم بك موت ولده على هذه الصورة وأقاموا العزاء على إخوانهم ولبسوا السواد‏.‏

وفي ثاني يوم الوقعة حضر أحد الكشاف رسولًا من عند الأمراء القبليين يطلبون العفو من الباشا وأن يعطيهم جهة يتعيشون منها فوعده برد الجواب في غير الوقت فأهمله وما أدري ما تم له‏.‏

وفيه قلد الباشا مصطفى بك ابن أخته وجعله كبيرًا على طائفة الدلاة وكان أحضره من ناحية الشرقية ليذهب إلى قبلي وأقام بدله في كشوفية الشرقية علي كاشف بن أحمد كتخدا من المصرلية‏.‏

وفي ثامن عشره عدى مصطفى بك المذكور إلى بر الجيزة ليسافر إلى قبلي ونصب وطاقه بحري القصر وعدي أيضًا الباشا وأقام بالقصر وشرع الدلاة في التعذية ليلًا ونهارًا‏.‏

وفيه أيضًا خرج عدة من عسكر الدلاة نحو الخمسمائة نفر إلى ناحية قبة العزب ليسافروا إلى بلادهم فاستمروا في قضاء أشغالهم أيامًا ثم سافروا‏.‏

وفي يوم الاثنين ثالث عشرينه ارتحل مصطفى بك وانتقل إلى ناحية الشيخ عثمان مسافرًا إلى قبلي وعدي باشا راجعًا إلى مصر‏.‏

وفيه حضر ططريان من الروم يبشران بالعفو عن يوسف باشا المنفصل عن الشام وقبل فيه ترجي باشة مصر وشفاعته‏.‏

وفي يوم الأربعاء خامس عشرينه أحضروا من ناحية قبلي أربعة وستين شخصًا وأكثرهم من الذين كانوا مستوطنين بالبلاد من بقايا البيوت القديمة السنين العديدة ومحترفين فلما أحضروهم إلى مصر القديمة أبقوهم إلى الليل في محبس ثم أوقدوا المشاعل بساحل البحر وقطعوا رؤوسهم ورموا بجثثهم إلى البحر وأتوا بالرؤوس فوضعوها تجاه باب زويلة ليراها الناس كما رأوا غيرها‏.‏

واستهل شهر ربيع الأول بيوم الثلاثاء سنة 1226‏.‏

وفي يوم الأحد سادسه عمل الباشا لابنه طوسون باشا موكبًا عظيمًا ونبهوا في ليلتها على اجتماع العسكر في صبحها ونزل هو إلى جامع الغورية ليتفرج على الموكب وصحبته حسن باشا واستعد لذلك السيد المحروقي وفرش له بالجامع المذكور فروشًا ومراتب ووسائد فمر الموكب وفي أوله طائفة الدلاة فلما فرغوا مروا بعشرة مدافع كبار على عربيات وعربيتين تحملان هونين قنابر وخلفهم طوائف العسكر الرجالة أرنؤد وأتراك وسجمان وهم كثيرون مختلطون من غير ترتيب مدة طويلة ثم كبارهم ركبانًا بطوائفهم ثم الوالي والمحتسب وآغات مستحفظان ثم طوائف صاحب الموكب وجنائبه وكذا هجنه ثم الجاويشية والسعاة والملازمون ثم طوسون باشا وخلفه أتباعه وأعوانه ثم الكتخدا وهو محمد كتخدا المعروف بالبرديسي وهو الذي كان كتخدا الألفي وصحبته الخازندار وخلفهم النوبة التركية ولما انقضى أمر الموكب دعاه المحروقي إلى منزله فنزل معه من باب السر الذي بالجامع المعروف بالغوري وصحبته حسن باشا وتوجهوا إلى بيت المحروقي وتغدى عنده هو وأتباعه وخواصيه وأحضر له آلات الطرب واستمر هناك إلى آخر النهار في حظ وكيف وقدم له المحروقي تعابي هدية ثم ركب عائدًا إلى محله‏.‏

وفي يوم الاثنين رابع عشره نزل الباشا إلى ترعة الفرعونية للاهتمام بسدها ونقل الأحجار في المراكب مستمر فأقام عند السد أربع ليال وذهب إلى الإسكندرية عندما أتته الأخبار بوجود مراكب الإنكليز لأجل مشترى الغلال فذهب ليبيع عليهم الغلال التي جمعها فباع عليهم كل أردب بمائة قرش رومي عنها أربعة آلاف فضة وأكثر واجتهد ببناء أسوار الإسكندرية وجدد بها أبراجًا وحصونًا وأرسل بطلب البنائين والصناع فجمعوهم من كل ناحية وطالت غيبته هناك وأقامته لتتميم أغراضه وأمن مشايخ عربان أولاد على المستولين على البحيرة وتحيل عليهم فلما حضروا إليه قبض عليهم وقرر عليهم أموالًا عظيمة ثم خلع عليهم وعوقهم وأرسل العساكر فنهبت نجوعهم وسبوا نساءهم وأولادهم ومواشيهم وأما كتخدا بك فإنه بمصر يقرر الفرض على البلاد هو والكتبة حسب أوامر مخدومه ونظموا كيفية أخرى وهي أنهم جمعوا الميرى والمضاف والفائظ والرزق إيراد أربع سنوات وكتبوا بها مراسيم بنصف المقرر ليقبض في دفعتين وبعد أن تقرر النصف الأول وتحصل منه ما تحصل وبقي الباقي مع النصف الآخر ويطلب من أربابه ولا بد لا مسامحة في شيء منه ومن نكفل بما تقرر على حصته وألزم نفسه بدفعه وكتب على نفسه وثيقة لأجل طولب به حتى قبل حلول الأجل لاحتياج المهمات فتتوجه عليه الحوالات بيد العساكر فينزلون بداره ويلازمونها ويضيقون أنفاسه ويكفلونه ما لا يطيق فلا يجد ملجأ ولا خلاصًا إلا بأحد الشيئين إما الدفع بأي وجه كان وإما ينزل عن حصته بالفراغ للديوان ولا يبقى بيده ما يتقوت به هو وعياله ويصبح فقيرًا لا يملك شيئًا إن لم يكن له إيراد من جهة أخرى‏.‏

واستهل شهر ربيع الثاني سنة 1226 والكتخدا يتنوع في استجلاب الأموال ويتحيل في استخراجها بأنواع من الحيل فمنها أنه يرسل إلى أهل حرفة من الحرف يأمرهم ببيع بضاعتهم بنصف ثمنها ويظهر أنه يريد الشفقة والرأفة بالناس ويرخص لهم في أسعار المبيعات وأن أرباب الحرف تعدوا الحدود في غلاء الأسعار فيجتمع أهل الحرفة ويضجون ويأتون بدفاترهم وبيان رأس مالهم وما ينضاف إليه من غلو جزئيات تلك البضاعة وما استحدث عليها من الجمارك والمكوس وغلو الأجر في البحر والبر فلا يستمع لقولهم ولا يقبل لهم عذرًا ويأمر بهم إلى الحبس فعند ذلك يطلبون الخلاص ويصالحون على أنفسهم بقدر من المال يدفعونه ويوزعون ذلك على أفرادهم فيما بينهم ثم يزيدون في سعر تلك البضاعة ليعوضوا غرامتهم من الناس معتذرين بتلك الغرامة وما حل بهم من الخسارة ثم تستمر الزيادة على الدوام وأظن استمرار الغرامة أيضًا فجمع بهذه الكيفية أموالًا عظيمة وهي في الحقيقة سلب أموال الناس من الأغنياء والفقراء‏.‏

وفي أواخره حضر الباشا من الإسكندرية على حين غفلة فبات بقصر شبرا ثم حضر إلى بيت الأزبكية فأقام به يومين ثم طلع إلى القلعة‏.‏

وفيه وصلت عساكر كثيرة من الأرنؤد والأتراك حتى غصت بهم المدينة فلا يكاد المار يقع بصره إلا عليهم أمام وخلف وبداخل الأزقة والعطف وذلك خلاف الذين أقرهم وأبقاهم في الإسكندرية ومن هو بالجهات والأقاليم القبلية والبحرية وما يعلم جنود ربك إلا هو‏.‏

وفيه اهتم الباشا بتشهيل العرضي اهتمامًا زائدًا وفرض على البلاد جمالًا وأتبانًا وغلالًا‏.‏

واستهل شهر جمادى الأولى سنة 1226 وفيه ورد قاصد من الديار الرومية وعلى يده بشارة بأنه ولد للسلطان مولودة أنثى فعملوا لها شنكًا وهي مدافع تضرب من أبراج القلعة في الأوقات الخمسة ثلاثة أيام‏.‏

وفيه فرضوا فرضة بغال على مياسير الناس وأهل الحرف بغلة وبغلتين وثلاثة والذي لم يكن عنده بغلة تلزم بالشراء أو أنه يدفع ثمنها كيسًا عشرون ألف فضة‏.‏

وفيه انقطع الوارد من الديار الحجازية وغلا سعر البن حتى وصل إلى مائتين وسبعين نصف فضة كل رطل وقل وجوده من الأسواق والدكاكين فلا يوجد إلا مع المشقة وصنع الناس القهوة من أنواع الحبوب المحمصة كالشعير والقمح والفول وبزر العاقول وغيره مخلوطًا مع البن وبغير خلط‏.‏

واستهل شهر جمادى الثانية سنة 1226 في عشرينه خرج الباشا إلى البركة وطلب الجمال وقوافل العرب وشهل طائفة من العسكر للسفر إلى السويس فاهتموا بالدخول والخروج من المدينة وطفقوا يخطفون الحمير والبغال والجمال وكل ما صادفوه من الدواب ومن وجدوه راكبًا ولو من وجهاء الناس أنزلوه عن دابته وركبوها فانقبض الناس وانكمش غالبهم عن الركوب لمصالحهم وأخفوا حميرهم وبغالهم وأقام الباشا ثلاثة أيام جهة البركة ثم ركب إلى السويس‏.‏

وفيه وردت مراكب وداوات وفيها البن وذلك باستدعاء الباشا لها من ناحية جدة واليمن لأجل حمل العساكر واللوازم وانحل سعر البن قليلًا‏.‏

في ثاني عشرينه يوم الاثنين الموافق لسابع مسرى القبطي أوفى النيل أذرعه وكسر السد في صبحها يوم الثلاثاء بحضرة كتخدا بك والباشا غائب بالسويس‏.‏ واستهل

شهر شعبان سنة 1226

في ثانيه سافر ديوان أفندي بمن بقي من العساكر البحرية وفي يوم الثلاثاء ثامنه حضر الباشا من السويس وشرع في تشهيل العساكر البرية‏.‏

وفي خامس عشره خرج الباشا إلى العادلية واجتهد في تشهيل سفر العساكر البرية اجتهادًا كبيرًا وجمع من أهل كل حرفة طائفة وكذلك من أهل كل صنعة والذي يعجز عن السفر يخرج عنه بدلًا وتعين من الفقهاء للسفر الشيخ محمد المهدي من الشافعية ومن الحنفية السيد أحمد الطحطاوي وشيخ حنبلي وصل من ناحية الشام وكانوا رسموا بإحضار السيد حسن كريت المالكي من رشيد والشيخ علي خفاجي من دمياط فحضروا واعتذروا فأعفيا من السفر ورجعا إلى بلديهما‏.‏

وفي هذا الشهر ظهر نجم له ذنب في جهة الشمال بين بنات نعش الصغرى وبين منار بنات نعش الكبرى رأسه جهة المغرب وذنبه صاعدًا إلى جهة المشرق وله مستطيل في مقدار الرمح واستمر يظهر في كل ليلة والناس ينظرون إليه ويتحدثون به ويسألون الفلكيين عنه ويبحثون عن دلائله وعن الملاحم المصنفة في ذوات الأذناب واستمر ظهوره قريبًا من ثلاثة أشهر واضمحل بعض جرمه ومشى إلى ناحية الجنوب وقرب من النسر الطائر‏.‏

واستهل شهر رمضان بيوم الأربعاء سنة 1226 وفي يوم الخميس تاسعه ارتحل العسكر من الحصوة ونزلوا ببركة الحج‏.‏

وفي يوم الأحد ثاني عشره ارتحلوا من البركة فكان مدة مكث العرضي من يوم الموكب إلى يوم ارتحالهم من البركة قريبًا من ستة أشهر ونصف والناس في أمر مريج في كل شيء‏.‏

وفيه خرج السيد محمد المحروقي ليسافر صحبة الركب وخرج في موكب جليل لأنه هو المشار إليه في رياسة الركب ولوازمه واحتياجاته وأمور العربان ومشايخها وأوصى الباشا ولده طوسون باشا أمير العسكر بأن لا يفعل شيئًا من الأشياء إلا بمشورته واطلاعه ولا ينفذ أمرًا من الأمور إلا بعد مراجعته‏.‏

وفيه وردت الأخبار بأن العساكر البحرية ملكوا ينبع البحر ونهبوا ما كان فيه من ودائع التجار وذلك أنه كان بمرساة الينبع عدة مراكب وأدوات والشريف غالب أمير مكة يكاتب الباشا ويراسله ويظهر له النصح والصداقة وخلوص المودة والباشا أيضًا يراسله ويكاتبه وأرسل له السيد سلامة النجاري والسيد أحمد المنلا الترجمان المحروقي بمراسلات وجوابات مرارًا عديدة فكأنا هما السفيرين بينهما وأيضًا الشريف في كل كتابة مع كل مرسل يعاهد الباشا ويعاقده ويواعده بنصر عساكره متى وصلت وينافق للطرفين الذي هو العثماني والوهابي ويداهنهما أما الوهابي فلخوفه منه وعدم قدرته عليه فيظهر له الموافقة والامتثال وأنه معه على العهود التي عاهده عليها من ترك الظلم واجتناب البدع ونحو ذلك ويميل باطنًا للعثمانيين لكونه على طريقتهم ومذاهبهم وتعاقد مع الباشا أنه متى وصلت عساكره قام بنصرتهم وساعدهم بكليته وجميع همته وأرسل إلى المراكب الكائنة بمرساة الينبع بأن ينقلوا ما فيها من مال التجار وغيرهم ويودعوه قلعة الينبع تحت وزيره وترك معه نحو الخمسمائة مع عسكره وأخذ المراكب فأوسقها من بضائعه وبهاره ورنه وأرسلها إلى السويس لتباع بمصر ثم توسق بمهمات العسكر البحرية فلما وصلت مراكب العساكر البحرية وألقت مراسيها قبالة الينبع احتاجوا إلى الماء فلم يسعفوهم بالماء فطلع طائفة من العسكر إلى البر في طلب عين الماء فمانعهم من عندها مرابط فقاتلوهم وطردوهم ومنعوهم عن الماء وفي حال رجوعهم رموا عليهم من القلعة المدافع والرصاص والحال أن الأمر مبهم على الفريقين فعند ذلك استعدت العساكر لمحاربة من بالقلعة واحتاطوا بها وضربوا عليها القنابل والمدافع وركبوا على سورها سلالم وصعدوا عليها وتسلقوا على سور القلعة من غير مبالاة بالرصاص النازل عليهم من الكائنين بالقلعة فملكوا القلعة وقتلوا من كان بها ولم ينج منهم إلا الوزير ومعه ستة أنفار خرجوا هاربين على الخيول ونهبوا كل ما كان بالينبع من الودائع والأموال والأقمشة والبن وسبوا النساء والبنات الكائنات بالبندر وأخذوهن أسرى ويبيعوهن على بعضهم البعض ووصل المبشرون بذلك في عشرينه فضربوا لذلك مدافع من القلعة كثيرة وعملوا شنكًا وطافت المبشرون على بيوت الأعيان ليأخذوا منهم البقاشيش وأرسلوا بتلك البشارة شخصًا معينًا كبيرًا إلى إسلامبول يبشرون أهل الدولة وسلطان الإسلام وكان ذلك أول فتح حصل‏.‏

واستهل شهر شوال بيوم الجمعة سنة 1226 وكان حقه أن يكون بيوم السبت لأن الهلال لم يكن موجودًا ليلة الجمعة ولم يره ليلة السبت إلا النادر من الناس وكان قوسه ليلة السبت عشر درجات‏.‏

وفي سادس عشره وصلت هجانة ومكاتبات من عساكر البر يخبرون بوصولهم إلى بندر المويلح في اليوم السابع من الشهر وكان العيد عندهم بمغاير شعيب يوم السبت‏.‏

واستهل شهر ذي القعدة بيوم الأحد 1226 فيه وصلت حجاج المغاربة في عدة مراكب على ظهر البحر وتلف منهم نحو ثلاثة مراكب وحضر بعدهم بأيام الركب الطرابلسي ونزل بساحل بولاق‏.‏

وفي سادسه حضر أيضًا الركب الفاسي وفيهم ابن سلطان الغرب مولاي إبراهيم ابن مولاي سليمان فاعتنى الباشا بشأنه وأرسل كتخدا بك لملاقاته وقد له تقادم وأعدوا له منزل على كاشف بالقرب من بيت المحروقي لينزل فيه وتقيد بخدمته الرئيس حسن المحروقي وحواشيهم لمطبخه وكلف طعامه فلما عدى طلع إلى القلعة وقابل الباشا ونزل إلى المنزل الذي أعده له وأمامه قواسة أتراك وطرادون وأشخاص أتراك يضربون على طبلات وأمامه جميع المغاربة مشاة ويأمرون الناس الجالسين بالحوانيت بالقيام له على أقدامهم فأقام خمسة أيام حتى قضى أشغاله وفي تلك المدة تغدو إليه وتروح رسل الباشا وأرسل له هدية وذخيرة من كل صنف سكر وعسل وسمن ودقيق وبقسماط وأشياء أخر وبارود وأعطى له ألف بندقية لضرب الرصاص وبرز في عاشره وسافروا في ثاني عشره‏.‏

وفي يوم الخميس تاسع عشره وصلت هجانة على أيديهم مكاتبات خطابًا إلى الباشا وغيره وفيهم الخبر بأن العسكر البري اجتمع مع العسكر البحري وأخذوا ينبع البر من غير حرب وأن العربان أتت إليهم أفواجًا وقابلوا طوسون باشا وكساهم وخلع عليهم ثم انقطعت الأخبار‏.‏

واستهل شهر ذي الحجة سنة 1226 في منتصفه وصلت هجانة ومعهم رؤوس قتلى ومكاتبات مؤرخة في منتصف شهر القعدة مضمونها أنهم وصلوا إلى ينبع البر في حادي عشرين شوال واجتمع هناك العسكران البري والبحري وأنهم ملكوا قرية ابن جبارة من الوهابية وتسمى قرية السويق وفر ابن جبارة هاربًا وحضرت عربان كثيرة وقابلوا ابن الباشا وأنهم مقيمون وقت تاريخه في منزلة الينبع منتظرين وصول الذخيرة وعاق المراكب ريح الشتاء المخالف وأنه ورد عليهم خبر ليلة أربعة عشر شهره بأن جماعة من كبار الوهابية حضروا بنحو سبعة آلاف خيال وفيهم عبد الله بن مسعود وعثمان المضايفي ومعهم مشاة وقصدوا أن يدهموا العرضي على حين غفلة فخرج إليهم شديد شيخ الحويطات ومعه طوائفه ودلاة وعساكر فوافاهم قبل شروق الشمس ووقع بينهم القتال والوهابية يقولون هاه يا مشركون وانجلت الحرب عن هزيمة الوهابية وغنموا منهم نحو سبعين هجينًا من الهجن الجياد محملة أدوات وكانت الحرب بينهم مقدار ساعتين هذا ملخص ما ذكره وفي وفي يوم الجمعة خامس عشرينه وصلت قافلة من السويس وحضر فيها جاويش باشا وصحبته مكاتبات وحضر أيضًا السيد أحمد الطحطاوي والشيخ الحنبلي وأخبروا أن العرضي ارتحل من ينبع البر في سابع عشر ذي القعدة ووصلوا إلى منزل الصفراء والجديدة ونصبوا عرضيهم وخيامهم ووطاقاتهم بالقرب من الجبال فوجدوا هناك متاريس وأحجارًا فحاربوا على أول متراس حتى أخذوه ثم أخذوا متراسًا آخر وصعدت العساكر إلى قلل الجبال فهالهم كثرة الجيش وسارت الخيالة في مضيق الجبال هذا والحرب قائمة في أعلى الجبال يومًا وليلة إلى بعد الظهيرة من يوم الأربعاء ثالث عشرى القعدة فما يشعر السفلانيون إلا والعساكر الذين في الأعالي هابطون منهزمون فانهزموا جميعًا وولوا الأدبار وطلبوا جميعًا الفرار وتركوا خيامهم وأحمالهم وأثقالهم وطفقوا ينهبون ويخطفون ما خف عليهم من أمتعة رؤسائهم فكان القوي منهم يأخذ متاع رفيقه الضعيف ويأخذ دابته ويركبها وربما قتله وأخذ دابته وساروا طالبين الوصول إلى السفائن بساحل البريك لأنهم كانوا أعدوا عدة مراكب بساحل البريك من باب الاحتياط ووقع في قلوبهم الرعب واعتقدوا أن القوم في أثرهم والحال أنه لم يتبعهم أحد لأنهم لا يذهبون خلف المدبر ولو تبعوهم ما بقي منهم شخص واحد فكانوا يصرخون على القطائر فتأتي إليهم القطيرة وهي لا تسع إلا القليل فيتكاثرون ويتزاحمون على النزول فيها فيصعد منهم الجماعة ويمنعون البواقي من إخوانهم فإن لم يمتنعوا مانعوهم بالبنادق والرصاص حتى كانوا من شدة حرصهم وخوفهم واستعجالهم على النزول في القطائر يخوضون في البحر إلى رقابهم وكأنما العفاريت في أثرهم تريد خطفهم وكثير من العسكر والخدم لما شاهدوا الازدحام على اسكة البريك ذهبوا مشاة إلى ينبع البحر ووقع التشتيت في الدواب والأحمال والخلائق من الخدم وغيرهم ورجع طوسون باشا إلى ينبع البحر بعد أن تغيب يومًا عن معسكره حتى أنهم ظنوا فقده ورجع أيضًا المحروقي وديوان أفندي واستقروا بالينبع وترك المحروقي خيامه بما فيها فنزل بها طائفة من العسكر المنهزمين وهم على جهد من التعب والجوع فوجدوا بها المآكل والحلاوات وأنواع الملبسات والكعك المصنوع بالعجمية والسكر المكرر والغربيات والخشكنانكات والمربيات وأنواع الشرابات فوقعوا عليها أكلًا ونهبًا ولما تحققوا أن العرب لم تتبعهم ولم تأت في إثرهم أقاموا على ذلك يومين حتى استوفوا أغراضهم وشبعت بطونهم وارتاحت أبدانهم ثم لحقوا بإخوانهم فكانوا هم أثبت القوم وأعقلهم ولو كان على غير قصد منهم فكان مدة لإقامة المعسكر والعرضي بينبع البر أربعة وعشرين يومًا وأما الخيالة فإنهم اجتمعوا وساروا راجعين إلى المويلح وقد أجهدهم التعب وعدم الذخيرة والعليق حتى حكوا أنهم كانوا قبل الواقعة يعلقون على الجمل بنصف قدح قمح مسوس وكانت علائفهم في كل يوم أربعمائة وخمسين أردبًا وأما المحروقي فإن كبار العسكر قامت عليه وأسمعوه الكلام القبيح وكادوا يقتلونه فنزل في سفينة وخلص منهم وحضر من ناحية القصير وحضر الكثير من أتباعه وخدمه متفرقين إلى مصر فأما الذين ذهبوا إلى المويلح فهم تأمر كاشف وحسن بك دالي باشا وآخرون فأقاموا هناك في انتظار إذن الباشا في رجوعهم إلى مصر أو عدم رجوعهم وأما صالح آغا قوج فإنه عندما نزل السفينة كر راجعًا إلى القصير واستقل برأيه لأنه يرى في نفسه العظمة وأنه الأحق بالرياسة ويسفه رأي المحروقي وطوسون باشا ويقول هؤلاء الصغار كيف يصلحون لتدبير الحروب ويصرح بمثل هذا الكلام وأزيد منه وكان هو أول منهزم وعلم كل ذلك الباشا بمكاتبات ولده طوسون فحقده في نفسه وتمم ذلك بسرعة رجوعه إلى القصير ولم ينتظر إذنًا في الرجوع أو المكث ولما حصل ذلك لم يتزلزل الباشا واستمر على همته في تجهيزه عساكر أخرى وبرزوا إلى خارج البلدة وفرض على البلاد جمالًا ذكر أنها من أصل الغرائم والفرض في المستقبل وكذلك فرض غلالًا فكان المفروض على إقليم الشرقية خاصة اثني عشر ألف أردب بعناية علي كاشف قابله الله بما يستحق وانقضت السنة بحوادثها التي منها هذه الحادثة وأظنها طويلة الذيل‏.‏

ومنها أن النيل هبط قبل الصليب بأيام قليلة بعد أن بلغ في الزيادة مبلغًا عظيمًا حتى غرق الزرع الصيفي والدراوي ولما انحسر عن الأرض زرعوا البرسيم والوقت صائف والحرارة مستجنة في الأرض فتولدت فيه الدودة وأكلت الذي زرع فبدروه ثانية فأكلته أيضًا وفحش أمر الدودة جدًا في الزرع البدري وخصوصًا بإقليم الجيزة والقليوبية والمنوفية بل وباقي الأقاليم‏.‏

ومنها أن الباشا أحدث ديوانًا ورتبوه ببيت البكري القديم بالأزبكية وأظهر أن هذا الديوان لمحاسبة ما يتعلق به من البلاد ومحاسباتها والقصد الباطني غير ذلك وقيد به إبراهيم كتخدا الرزاز والشيخ أحمد يوسف كاتب حسن أفندي الروزنامجي وما انضم إليهم من الكتبة المسلمين دون الأقباط ليحرروا به قوائم المصروف والمضاف والبراني فكانوا يجلسون لذلك كل يوم ما عدا يوم الجمعة ثم تطرق الحال لسور بلاد الباشا وهو أن الكثير من الفلاحين لما سمعوا ذلك أتوا من كل ناحية إلى مصر وكتبوا عرضحالات إلى كتخدا بك وللباشا يتظلمون من أستاذيهم وينهون أنهم يزيدون عليهم زيادات في قوائم المصروف ويشددون عليهم في طلب الفرض أو بواقيها فيدفعهم الباشا أو الكتخدا إلى ذلك الديوان المحدث لينظر في أمورهم ويصحبهم معين تركي مباشر يأتي بالملتزم أيضًا والفلاحين والشاهد والصراف وقوائم المصروف لأجل المحاققة فعند ذلك يتعنت إبراهيم كتخدا في القوائم ويطلب قوائم السنين الماضية المختومة ونحو ذلك ولما فشا هذا الأمر وأشيع في البلدان أتت طوائف الفلاحين أفواجًا إلى هذا الديوان يطلبون الملتزمين ويخاصمونهم ويكافحونهم فيكون أمرًا مهولًا وغاية في الزحام والعياط والشباط وكذلك رفعوا المعلم منصور ومن معه من الكتبة من مباشرة ديوان ابنه إبراهيم بك الدفتردار وقيدوا بدلهم السيد محمد غانم الرشيدي ومحمد أفندي سليم ومن انضم إليهم وأظهر الباشا أنه يفعل ذلك لما علمه من خيانة الأقباط والقصد الخفي خلاف ذلك وهو الاستيلاء والاستحواذ الكلي والجزئي وقطع منفعة الغير ولو قليلًا فيضرب هذا بهذا والناس أعداء بعضهم لبعض وقلوبهم متنافرة فيغري هذا بذاك وذاك بهذا ومن الناس من سمى هذا الديوان ديوان الفتنة‏.‏

ومنها الزيادة الفاحشة في صرف المعاملة والنقص في وزنها وعيارها وذلك أن حضرة الباشا أبقى دار الضرب على ذمته وجعل خاله ناظرًا عليها وقرر لنفسه عليها في كل شهر خمسمائة كيس بعد أن كان شهريتها أيام نظارة المحروقي خمسين كيسًا في كل شهر ونقصوا وزن القروش نحو النصف عن القرش المعتاد وزادوا في خلطه حتى لا يكون فيه مقدار ربعه من الفضة الخالصة ويصرف بأربعين نصفًا وكذلك المحبوب نقصوا من عياره ووزنه ولما كان الناس يتساهلون في صرف المحبوب والريال الفرانسة ويقبضونها في خلاص الحقوق من المماطلين والمفلسين وفي المبيعات الكاسدة بالزيادة لضيق المعايش حتى وصل صرف الريال إلى مائتين وخمسين نصفًا والمحبوب إلى مائتين وثمانين ثم زاد الحال في التساهل في الناس بالزيادة أيضًا عن ذلك فينادي الحاكم بمنع الزيادة ويمشي الحال أياما قليلة ويعود لما كان أو أزيد فتحصل المناداة أيضًا ويعقبونها بالتشديد والتنكيل بمن يفعل ذلك ويقبض عليه أعوان الحاكم ويحبس ويضرب ويغرمونه غرامة وربما مثلوا به وخرموا أنفه وصلبوه على حانوته وعلقوا الريال في أنفه ردعًا لغيره وفي أثناء ذلك إذا بالمناداة بأن يكون صرف الريال بمائتين وسبعين والمحبوب بثلثمائة وعشرة فاستمع وتعجب من هذه الأحكام الغريبة التي لم يطرق سمع سامع مثلها هذا مع عدم الفضة العديدة في أيدي الناس فيدور الشخص بالقرش وهو ينادي على صرفه بنقص أربعة أنصاف نصف يوم حتى يصرفه بقطع إفرنجية منها ما هو باثني عشر أو خمسة وعشرين أو خمسة فقط أو يشتري من يريد الصرف شيئًا من الزيادات أو الخضري أو الجزار ويبقى عنده الكسور الباقية يعده بغلاقها فيعود إليه مرارًا حتى يتحصل عنده غلاقها وليس هو فقط بل أمثاله كثير وسبب شحة الفضة العددية أنه يضرب منها كل يوم بالضربخانة ألوف مؤلفة يأخذها التجار بزيادة مائة نصف في كل ألف يرسلونها إلى بلاد الشام والروم ويعوضون بدلها في الضربخانة الفرانسة والذهب لأنها تصرف في تلك البلاد بأقل مما تصرف به في مصر وزاد الحال بعد هذا التاريخ حتى استقر على صرف الألف مائتين وتقرر ذلك في حساب الميري فيدفع الصارف ثلاثين قرشًا عنها ألف ومائتان ويأخذ ألفًا فقط والفرانسة والمحبوب بحسابه المتعارف بذلك الحساب والأمر لله وحده‏.‏

وأما من مات في هذه السنة ممن له ذكر وأما الأمراء فقد تقدم ذكرهم‏.‏

وما وقع لهم ومقتلهم إجمالًا فأغنى عن التكرار فالله يرحمنا أجمعين‏.‏

ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين وألف وما تجدد بها من الحوادث فكان ابتداء المحرم بالرؤية يوم الخميس في عاشره وصل كثير من كبار العسكر الذين تخلفوا بالمويلح فحضر منهم حسين بك دالي باشا وغيره فوصلوا إلى قبة النصر جهة العادلية ودخلت عساكرهم المدينة شيئًا فشيئًا وهم في أسوأ حال من الجوع وتغير الألوان وكآبة المنظر والسجن ودوابهم وجمالهم في غاية العي ويدخلون إلى المدينة في كل يوم ثم دخل أكابرهم إلى بيوتهم وقد سخط عليهم الباشا ومنع أن لا يأتيه منهم أحد ولا يراه وكأنهم كانوا قادرين على النصرة والغلبة وفرطوا في ذلك ويلومهم على الانهزام والرجوع وطفقوا يتهم بعضهم البعض في الانهزام فتقول الخيالة سبب هزيمتنا القرابة وتقول القرابة بالعكس ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدعون الصلاح والتورع أين لنا بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة وفيهم من لا يتدين بدين ولا ينتحل مذهبًا وصحبتنا صناديق المكسرات ولا يسمع في عرضينا أذان ولا تقام به فريضة ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين والقوم إذا دخل الوقت أذن المؤذنون وينتظمون صفوفًا خلف إمام واحد بخشوع وخضوع وإذا حان وقت الصلاة والرحب قائمة أذن المؤذن وصلوا صلاة الخوف فتتقدم طائفة للحرب وتتأخر الأخرى للصلاة وعسكرنا يتعجبون هلموا إلى حرب المشركين المحلقين الذقون المستبيحين الزنا واللواط الشاربين الخمور التاركين للصلاة الآكلين الربا القاتلين الأنفس المستحلين المحرمات وكشفوا عن كثير من قتلى العسكر فوجدوهم غلفًا غير مختونين ولما وصلوا بدرًا واستولوا عليها وعلى القرى والخيوف وبها خيار الناس وبها أهل العلم والصلحاء نهبوهم وأخذوا نسائهم وبناتهم وأولادهم وكتبهم فكانوا يفعلون فيهم ويبيعونهم من بعضهم لبعض ويقولون هؤلاء الكفار الخوارج حتى اتفق أن بعض أهل بدر الصلحاء طلب من بعض العسكر زوجته فقال له حتى تبيت معي هذه الليلة وأعطيها لك في الغد‏.‏

وفيه خرج العسكر المجرد إلى السويس وكبيرهم بونابارته الخازندار ليذهب لمحافظة الينبع صحبة طوسون باشا‏.‏

وفيه وصل جماعة من الإنكليز وصحبتهم هدية إلى الباشا وفيها طيور ببغا هندية خضر الألوان وملونة وريالات فرانسة ونقود معبأة في براميل وحديد وآلات ومجيئهم وحضورهم في طلب أخذ الغلال وفي كل يوم تساق المراكب المشحونة بالغلال إلى بحري وكلما وردت مراكب سيرت إلى بحري حتى شحت الغلال وغلا سعرها وارتفعت من السواحل والرقع ولا يكاد يباع إلا ما دون الويبة وكان سعر الأردب من أربعمائة نصف إلى ألف ومائتين والفول كذلك وربما كان سعره أزيد من القمح لقلته فإنه هاف زرعه في هذه السنة ولم يتحصل من رميه إلا نحو التقاوى وحصل للناس في هذه الأيام شدة بسبب ذلك ثم بعد قليل وردت غلال وانحلت الأسعار وتواجدت الغلال بالسواحل والرقع‏.‏

وفي منتصفه حضر رجل نصراني من جبل الدروز وتوصل إلى الباشا وعرفه أنه يحسن الصناعة بدار الضرب ويوفر عليه كثيرًا من المصاريف وأنها بها نحو الخمسمائة صانع وأن يقوم بالعمل بأربعين شخصًا لا غير وأنه يصنع آلات وعدد الضرب القروش وغيرها ولا تحتاج إلى وقود نيران ولا كثير من العمل فصدق الباشا قوله وأمر بأن يفرد له مكان ويضم إليه ما يحتاجه من الرجال والحدادين والصناع ليعمل لصناعته العدد والآلات التي يحتاجه وشرع في أشغاله واستمر على ذلك شهورًا‏.‏

وفيه التفت الباشا إلى خدمة الضربخانة وأفنديتها وطمعت نفسه في مصادرتهم وأخذ الأموال لما يرى عليهم من التجمل في الملابس والمراكب لأن من طبعه داء الحسد والشره والطمع والتطلع لما في أيدي الناس وأرزاقهم فكان ينظر إليهم ويرمقهم وهم يغدون ويروحون إلى الضربخانة هم وأولادهم راكبون البغال والرهوانات المجملة وحولهم الخدم والأتباع فيسأل عنهم ويستخبر عن أحوالهم ودورهم ومصارفهم وقد اتفق أنه رأى شخصًا خرج آخر الصناع وهو راكب رهوانًا وحوله ثلاثة من الخدم فسأل عنه فقيل له أن هذا البواب الذي يغلق باب الضربخانة بعد خروج الناس منها ويفتحه لهم في الصباح فسأل عن مرتبه في كل يوم فعرفوه أن له في كل يومين قرشين لا غير فقال أن هذا المرتب له لا يكفي خدمه الذين هم حوله فكيف بمصرف داره وعليق دوابه وجميع لوازمه مما ينفقه ويحتاجه في تجملاته وملابسه وملابس أهله وعياله أن هؤلاء الناس كلهم سراق وكل ما هم فيه من السرقة والاختلاس ولا بد من إخراج الأموال التي اختلسوها وجمعوها وتناجى في ذلك مع العلم غالي وقرنائه ثم طلب أولًا إسمعيل أفندي ليلًا وهو الأفندي الكبير وقال له عرفني خيانة فلان النصراني وفلان اليهودي المورد فقال لا أعلم على أحد منهم خيانة وهذا شيء يدخل بالميزان ويخرج بالميزان ثم صرفه وأحضر النصراني وقال له عرفني بخيانة إسمعيل أفندي وأولاده والمداد إبراهيم أفندي الخضراوي الختام وغيره فلم يزد على ما قاله إسمعيل أفندي ثم أحضر الحاج سالم الجواهرجي وهدده فلم يزد على قول الجماعة شيئًا فقال الجميع شركاء لبعضهم البعض ومتفقون على خيانتي ثم أمر بحبس الحاج سالم وأحضر شخصًا آخر من الجواهرجية يسمى صالح الدنف وألبسه فروة وجعله في خدمة الحاج سالم ثم ركب الباشا إلى بيت الأزبكية وطلب إسمعيل أفندي ليلًا هو وأولاده فأحضروهم بجماعة من العسكر في صورة هائلة وهددهم بالقتل وأمر بإحضار المشاعلي فأحضروه وأوقدوا المشاعل وسعت المتكلمون في العفو عنهم من القتل وقرروا عليهم مبلغًا عظيمًا من الأكياس التزموا بدفعها خوفًا من القتل ففرضوا على الحاج سالم بمفرده سبعمائة وخمسين كيسًا وعلى إبراهيم المداد مائتي كيس وعلى أحمد أفندي الوزان مائتي كيس وعلى أولاد الشيخ السحيمي مائتي كيس لأن لهم بها آلات ختم ووظائف يستغلون أجرتها وأخذ الجماعة في تحصيل ما فرض عليهم فشرعوا في بيع أمتعتهم وجهات إيرادهم ورهنوا وتداينوا بالربا وحولت عليهم الحوالات لطف الله بنا وبهم‏.‏

واستهل شهر صفر الخير بيوم الجمعة سنة 1227 في سابعه يوم الخميس حضر السيد محمد المحروقي إلى مصر ووصل من طريق القصير ثم ركب بحر النيل ولم يحضر الشيخ المهدي بل تخلف عنه بقنا وقوص لبعض أغراضه‏.‏

وفيه ألبس الباشا صالح آغا السلحدار خلعة سر عسكر التجريدة المتوجهة على طريق البر إلى وفي يوم الأحد عاشره ورد قابجي وعلى يده مرسوم ببشارة مولود ولد للسلطان محمود وتسمى بمراد وصحبته أيضًا مقرر للباشا على ولاية مصر فضربوا مدافع وطلع إلى القلعة في موكب وقرئت المراسيم وعملوا شنكًا ومدافع تضرب في الأوقات الخمسة سبعة أيام من القلعة والأزبكية وبولاق والجيزة‏.‏

واستهل شهر ربيع الأول سنة 1227 في حضر إبراهيم بك ابن الباشا من الجهة القبلية‏.‏

وفي منتصفه حضر أحمد آغا لاظ الذي كان أميرًا بقنا وقوص وباقي الكشاف بعد أن راكوا جميع البلاد القبلية والأراضي وفوضوا عليها الأموال على كل فدان سبعة ريالات وهو شيء كثير جدًا وأخصوا جميع الرزق الأحباسية المرصدة على المساجد والبر الصدقة بالصعيد ومصر فبلغت ستمائة ألف فدان وأشاعوا بأنهم يطلقون للمرصد على المساجد خاصة نصف المفروض وهو ثلاثة ريال ونصف فضجت أصحاب الرزق وحضر الكثير منهم يستغيثون بالمشايخ فركبوا إلى الباشا وتكلموا معه في شأن ذلك وقالوا له هذا يترتب عليه خراب المساجد فقال وأين المساجد العامرة الذي لم يرض بذلك يرفع يده وأنا أعمر المساجد المتخربة وأرتب لها ما

وفي أواخره انتقل السيد عمر مكرم النقيب من دمياط إلى طندتا وسكن بها‏.‏

وسبب ذلك أنه لما طالت إقامته بدمياط وهو ينتظر الفرج وقد أبطأ عليه وهو ينتقل من المكان الذي هو فيه إلى مكان آخر على شاطئ البحر وتشاغل بعمارة خان أنشأه هناك والحرس ملازمون له فلم يزل حتى ورد عليه صديق أفندي قاضي العسكر فكلمه بأن يتشفع له عند الباشا في انتقاله إلى طندتا ففعل وأجاب الباشا إلى ذلك‏.‏ واستهل

شهر ربيع الآخر سنة 1227

في رابعه الحجاج المغاربة ووصل أيضًا مولاي إبراهيم ابن السلطان سليمان سلطان الغرب وسبب تأخرهم إلى هذا الوقت أنهم أتوا من طريق الشام وهلك الكثير من فقرائهم المشاة وأخبروا أنهم قضوا مناسكهم وحجوا وزاروا المدينة وأكرمهم الوهابية إكرامًا زائدًا وذهبوا ورجعوا من غير طريق العسكر‏.‏

وفي عاشره حضر تامر كاشف ومحو بك وعبد الله وهم الذين كانوا عند طوسون باشا ثم حضروا في هذه الأيام باستدعاء الباشا وكان محو بك في مركب من مراكب الباشا الكبار التي أنشأها فانكسر على شعب وهلك من عسكره أشخاص ونجا هو بمن بقي معه وأخبروا عنه أنه كان أول من تقدم في البحر هو وحسين بك فقتل من عسكرهما الكثير من دون البقية الذين استعجلوا الفرار‏.‏

وفيه خرجت أوراق الفرضة على نسق العام الأول عن أربع سنوات مال وفائظ ومضاف وبراني ورزق وأوسية واستقر طلبها في دفعة واحدة ويؤخذ من أصل حسابها الغلال من الأجران بحساب ثمانية ريال كل أردب ويجمع غلال كل إقليم في نواحي عينوها لتساق إلى الإسكندرية وتباع على الإفرنج فشحت الغلال وغلا سعرها مع كون الفلاح لا يقدر على رفع غلته المتحصلة له من زراعة أرضه التي غرم عليها المغارم بطول السنة بل تؤخذ منه قهرًا مع الإجحاف في الثمن والكيل بحيث يكال الأردب أردبًا ونصفًا ثم يلزمونه بأجرة حملها للمحل المعد لذلك ويلزم أيضًا بأجرة الكيال وعوائد المباشرين لذلك من الأعوان وخدمة الكشوفية وأجرة المعادي وبعض البلاد يطلق له الإذن بدفع المطلوب بالثمن والبعض النصف غلال والنصف الآخر دراهم حسب رسم المعلم غالي وأوامره وإذنه فإنه هو المرخص في الأمر والنهي فيبيع المأذون له غلته بأقصى قيمة بمرأى من المسكين الآخر الذي لم تسعده الأقدار وحضر الكثير من الفلاحين وازدحموا بباب المعلم غالي وتركوا بيادرهم وتعطلوا عن الدرس‏.‏

وفي ليلة الاثنين خامس عشره ذهب الباشا إلى قصر شبرا وسافر تلك الليلة إلى ثغر الإسكندرية ورجع ابنه إبراهيم بك إلى الجهة القبلية وكذلك أحمد آغا لاظ لتحرير وقبض الأموال‏.‏

وفيه ورد الخبر بأن العسكر بقبلي ذهبوا خلف الأمراء القبليين الفارين إلى خلف ابريم وضيقوا عليهم الطرق وماتت خيولهم وجمالهم وتفرق عنهم خدمهم واضمحل حالهم وحضر عدة من مماليكهم وأجنادهم إلى ناحية أسوان بأمان من الأتراك فقبضوا عليهم وقتلوهم عن آخرهم وفعلوا قبل ذلك بغيرهم كذلك‏.‏

وفي أواخره سافر عدة من عسكر المغاربة إلى الينبع ووصل جملة كبيرة من عسكر الأروام إلى الإسكندرية فصرف عليهم الباشا علائف وحضروا إلى مصر وانتظموا في سلك من بها ويعين منهم للسفر من يعين‏.‏

وفيه وقعت حادثة بخط الجامع الأزهر وهو أنه من مدة سابقة من قبل العام الماضي كان يقع بالخطة ونواحيها من الدور والحوانيت سرقات وضياع أمتعة وتكرر ذلك حتى ضج الناس وكثر لغطهم وضاع تخمينهم فمن قائل أنه مسترعيات يدخلون في نواحي السور ويتفرقون في الخطة ويفعلون ما يفعلون ومنهم من يقول أن ذلك فعل طائفة من العسكر الذين يقال لهم الحيطة في بلادهم إلى غير ذلك ثم في تاريخه سرق من بيت امرأة رومية صندوق ومتاع فاتهمت أشخاصًا من العميان المجاورين بزاويتهم تجاه مدرسة الجوهرية الملاصقة للأزهر فقبض عليهم الآغا وقررهم فأنكروا وقالوا لسنا سارقين وإنما سمعنا فلانًا سموه وهو محمد ابن أبي القاسم الدرقاوي المغربي المنفصل عن مشيخة رواق المغاربة ومعه أخوته وآخرون ونعرفه بصوته وهم يتذاكرون في ذلك ونحن نسمعهم فلما تحققوا ذلك وشاع بين الناس والأشياخ ذهب بعضهم إلى أبي القاسم وخاطبوه وكلموه سرًا وخوفوه من العاقبة وكان المذكور جعل نفسه مريضًا ومنقطعًا في داره فغالطهم فقالوا له نحن قصدنا بخطابك التستر على أهل الخرقة المنتسبين إلى الأزهر في العمل بالشريعة وأخذ العلم أو ما علمت ما قد جرى في العام السابق من حادثة الزغل وغير ذلك فلم يزالوا به حتى وعدهم أنه يتكلم مع أولاده ويفحصون على ذلك بنباهتهم ونجابتهم‏.‏

وفي اليوم الثالث وقيل الثاني أرسل أبو القاسم المذكور فأحضر السيد أحمد الذي يقال له جندي المطبخ وابن أخيه وهما اللذان يتعاطيان الحسبة والأحكام بخط الأزهر ويتكلمان على الباعة والخضرية والجزارين الكائنين بالخطة فلما حضرا عنده عاهدهما وحلفهما بأن يسترا عليه وعلى أولاده ولا يفضحاهم ويبعدا عنهم هذه القضية وأخبرهما بأن ولده لم يزل يتفحص بفطانته حتى عرف السارق ووجد بعض الأمتعة ثم فتح خزانة بمجلسه وأخرج منها أمتعة فسألوه عن الصندوق فقال هو باق عند من هو عنده ولا يمكن إحضاره في النهار فإذا كان آخر الليل انتظروا ولدى محمدًا هذا عند جامع الفاكهاني بالعقادين الرومي وهو يأتيكم بالصندوق مع سارقه فاقبضوا عليه واتركوا أولادي ولا تذكروهم ولا تتعرضوا لهم فقالوا له كذلك وحضر الجندي وابن أخيه في الوقت الذي وعدهم به وصحبتهما أشخاص من أتباع الشرطة ووقفوا في انتظاره عند جامع الفاكهاني فحضر إليهم وصحبته شخص صرماتي فقالا لهم مكانكم حتى نأتيكم ثم طلعا إلى ربع بعطفة الأنماطيين ورجعا في الحال بالصندوق حامله الصرماتي على رأسه فقبضوا على ذلك الصرماتي وأخذوه بالصندوق إلى بيت الآغا فعاقبوه بالضرب وهو يقول أنا لست وحدي وشركائي ابن أبي القاسم وأخواه وآخر يسمى شلاطة وابن عبد الرحيم الجميع خمسة أشخاص فذهب الآغا وأخبر كتخدا بك فأمره بطلب أولاد أبي القاسم فأرسل إليه ورقة بطلبهم فأجابه بأن أولاده حاضرون عنده بالأزهر من طلبة العلم وليسوا بسارقين فبالاختصار أخذهم الآغا أحضر ذلك الصرماتي معهم لأجل المحاققة فلم يزل يذكر لابن أبي القاسم ما كانوا عليه سرحاتهم القديمة والجديدة ويقول له أما كنا كذا وكذا وفعلنا ما هو كذا في ليلة كذا واقتسمنا ما هو كذا وكذا ويقيم عليه أدلة وقرائن وأمارات ويقول له أنت رئيسنا وكبيرنا في ذلك كله ولا نمشي إلى ناحية ولا سرحة إلا بإشارتك فعند ذلك لم يسع ابن أبي القاسم الإنكار وأقر واعترف هو واخوته وحبسوا سوية وأما شلاطة ورفيقه فإنهما تغيبا وهربا واختفيا وشاعت القضية في المدينة وكثر القال والقيل في الأزهر ونواحيه وتذكروا قضية الدراهم الزغل التي ظهرت قبل تاريخه وتذكروا أقوالًا أخرى واجتمع كثير من الذين سرق لهم فمنهم رجل يبيع السمن أخذ من مخزنة عدة مواعين سمن وصينية الفطاطري التي يعمل عليها الكنافة وأمتعة وفروش وجدت في ثلاثة أماكن وخاتم ياقوت ذكروا أنه بيع بجملة دنانير وعقد لؤلؤ وغير ذلك واستمروا أيامًا والناس يذهبون إلى الآغا ويذكرون ما سرق لهم ويسألهم فيقرون بأشياء دون أشياء ويذكرون ضياع أشياء فصرفوا فيها وباعوها وأكلوا بثمنها ثم اتفق الحال على المرافعة في المحكمة الكبيرة فذهبوا بالجميع واجتمع العالم الكثير من الناس وأصحاب السرقات وغيرهم نساء ورجالًا وادعوا على هؤلاء الأشخاص المقبوض عليهم فأحضروا بعض ما ادعوا به عليهم وقالوا أخذنا ولم يقولوا سرقنا وبرًا محمد بن أبي القاسم أخويه وقال أنهما لم يكونا معنا في شيء من هذا وحصل الاختلاف في ثبوت القطع بلفظ أخذنا وقد حضرت دعوى أخرى مثل هذه على رجل صباغ ثم أن القاضي كتب أعلامًا للكتخدا بك بصورة الواقع وفوض الأمر إليه فأمر بهم إلى بولاق وأنزلوهم عند القبطان وصحبتهم أبوهم أبو القاسم فأقاموا أيامًا ثم إن كتخدا بك أمر بقطع أيدي الثلاثة وهم محمد بن أبي القاسم الدرقاوي ورفيقة الصرماني والصباغ الذي ثبتت عليه السرقة في الحادثة الأخرى فقطعوا أيدي الثلاثة في بيت القبطان ثم أنزلوهم في مركب وصحبتهم أبوهم أبو القاسم وولداه الآخران اللذان لم تقطع أيديهما وسفروهم إلى الإسكندرية وذلك في منتصف شهر جمادى الأولى من السنة‏.‏

واستهل شهر جمادى الثانية بيوم الخميس سنة 1227 فيه حضر الثلاثة أشخاص المقطوعين الأيدي وذلك أنهم لما وصلوا إلى الإسكندرية وكان الباشا هناك تشفع فيهم المتشفعون عنده قائلين أنه جرى عليهم الحد بالقطع فلا حاجة إلى نفيهم وتغريبهم فأمر بنفي أبي القاسم وولديه الصغيرين إلى أبي قير ورجع ولده الآخر مع رفيقه الصرماتي والصباغ إلى مصر فحضروا إليها وذهبوا إلى دورهم وأما ابن أبي القاسم فذهب إلى داره وسلم على والدته ونزل إلى السوق يطوف على أصحابه ويسلم عليهم وهو يتألم مما حصل في نفسه ولا يظهر ذلك لشدة وقاحته وجمودة صدغه وغلاظة وجهه بل يظهر التجلد وعدم المبالاة بما وقع له من النكل وكسوف البال ومر في السوق والأطفال حوله وخلفه وأمامه يتفرجون عليه ويقولون انظروا الحرامي وهو لا يبالي بهم ولا يلتفت إليهم حتى قيل أنه ذهب إلى مسجد خرب بالباطنية ودعا إليه غلامًا يهواه بناحية الدرب الأحمر فجلس معه حصة من النهار ثم فارقه وذهب إلى داره واشتد به الألم لأن الذي باشر قطع يده لم يحسن القطع فمات في اليوم الثالث‏.‏

وفي هذا الشهر وما قبله وردت عساكر كثيرة من الأتراك وعينوا للسفر وخرجوا إلى مخيم العرضي خارج بأبي النصر والفتوح فكانوا يخرجون مساء ويدخلون في الصباح ويقع منهم ما يقع من أخذ الدواب وخطف بعض النساء والأولاد كعادتهم‏.‏

وفي ليلة الخميس ثاني عشرينه حضر الباشا من الإسكندرية ليلًا وصحبته حسن باشا إلى القصر بشبرا وطلع في صبحها إلى القلعة وضربوا لقدومه مدافع من الأبراج فكان مدة غيبته في هذه المدة شهرين وسبعة أيام واجتهد فيها في عمارة سور المدينة وأبراجها وحصنها تحصينًا عظيمًا وجعل بها جبانات وبارودًا ومدافع وآلات حرب ولم تزل العمارة مستمرة بعد خروجه منها على الرسم الذي رسمه لهم وأخذ جميع ما ورد عليه من مراكب التجار من البضائع على ذمته ثم باعه للمتسببين بما أحب من الثمن وورد من ناحية بلاد الإفرنج كثير من البن الإفرنجي وحبه أخضر وجرمه أكبر من حب البن اليمني الذي يأتي إلى مصر في مراكب الحجاز أخذه في جملة ما أخذ في معاوضة الغلال ورماه على باعة البن بمصر بثلاثة وعشرين فرانسة القنطار والتجار يبيعونه بالزيادة ويخلطونه مع البن اليمني وفي ابتداء وروده كان يباع رخيصًا لأنه دون البن وفيه وصل مرسوم صحبة قابجي من الديار الرومية مضمونه وكالة دار السعادة باسم كتخدا بك وعزل عثمان آغا الوكيل تابع سعيد آغا فعمل الباشا ديوانًا يوم الأحد وقرئ المرسوم وخلع على كتخدا بك خلعة الوكالة وخلعة أخرى باستمراره في الكتخدائية على عادته وركب في مركب إلى داره فلما استقر في ذلك أرسل في ثاني يوم فأحضر الكتبة من بيت عثمان آغا وأمرهم بعمل حسابه من ابتداء سنة 1221 لغاية تاريخه فشرعوا في ذلك وأصبح عثمان آغا المذكور مسلوب النعمة بالنسبة لما كان فيه ويطالب بما دخل في طرفه وانتزعت منه بلاد الوكالة وتعلقات الحرمين وأوقافهما وغير ذلك‏.‏

وفي يوم الخميس غايته وصل صالح قوج ومحو بك وسليمان آغا وخليل آغا من ناحية الينبع على طريق القصير من الجهة القبلية وذهبوا إلى دورهم‏.‏

واستهل شهر رجب بيوم الجمعة سنة 1227 في ثالثه طلع الجماعة الواصلون إلى القلعة وسلموا على الباشا وخاطره منحرف منهم ومتكدر عليهم لأنه طلبهم للحضور مجردين بدون عساكرهم ليتشاور معهم فحضروا بجملة عساكرهم وقد كان ثبت عنده أنهم هم الذين كانوا سببًا للهزيمة لمخالفتهم على ابنه واضطرب رأيهم وتقصيرهم في نفقات العساكر ومبادرتهم للهرب والهزيمة عند اللقاء ونزولهم بخاصتهم إلى المراكب وما حصل بينهم وبين ابنه طوسون باشا من المكالمات فلم يزالوا مقيمين في بيوتهم ببولاق ومصر والأمر بينهم وبين الباشا على السكوت نحو العشرين يومًا وأمرهم في ارتجاج واضطراب وعساكرهم مجتمعة حولهم ثم إن الباشا أمر بقطع خرجهم وعلائفهم فعند ذلك تحققوا منه المقاطعة‏.‏

وفي رابع عشرينه أرسل إليهم علائفهم المنكسرة وقدرها ألف وثمانمائة كيس جميعها ريالات فرانسة وأمر بحملها على الجمال ووجه إليهم بالسفر فشرعوا في بيع بلادهم وتعلقاتهم وضاق ذرعهم وندر طبعهم إلى الغاية وعسر عليهم مفارقة أرض مصر وما صاروا فيه من التنعم والرفاهية والسيادة والأمارة والتصرف في الأحكام والمساكن العظيمة والزوجات السراري والخدم والعبيد والجواري فإن لأقل منهم له البيتان والثلاثة من بيوت الأمراء ونسائهم اللاتي قتلت أزواجهن على أيديهم وظنوا أن البلاد صفت لهم حتى أن النساء المترفهات ذوات البيوت والإيرادات والالتزامات صرن يعرضن أنفسهن عليهم ليحتمين فيهم بعد أن كن يعفنهم ويأنفن من ذكرهم فضلًا عن قربهم‏.‏

وفيه ورد آغا قابجي من دار السلطنة وعلى يده مرسوم بالبشارة بمولود ولد للسلطان فعملوا ديوانًا يوم الأحد رابع عشرينه وطلع الآغا المذكور في موكب إلى القلعة وقرئ ذلك المرسوم وصحبته الأمراء وضربوا شنكًا ومدافع واستمروا على ذلك ثلاثة أيام في وقت كل أذان كأيام الأعياد‏.‏

وفي يوم الثلاثاء مات أحمد بك وهو من عظماء الأرنؤد وأركانهم وكان عندما بلغه قطع خرج المذكورين أرسل إلى الباشا يقول له اقطع خرجي وأعطني علوفة عساكري وأسافر مع إخواني فمنعه الباشا وأظهر الرأفة به فتغير طبعه وزاد قهره وتمرض جسمه فأرسل إليه الباشا حكيمه فسقاه شربه وفصده فمات من ليلته فخرجوا من جنازته من بولاق ودفنوه بالقرافة الصغرى وخرج أمامه صالح آغا وسليمان آغا وطاهر آغا وهم راكبون أمامه وطوائف الأرنؤد عدد كبير مشاة حوله‏.‏

واستهل شهر شعبان بيوم الأحد سنة 1227 في رابعه يوم الأربعاء الموافق لسابع مسرى القبطي أوفي النيل المبارك أدرعه ونزل الباشا في صبح يوم الخميس في جم غفير وعدة وافرة من العساكر وكسر السد بحضرته وحضرة القاضي وجرى الماء في الخليج ومنع المراكب من دخولها الخليج‏.‏

وفي منتصفه سافر سليمان آغا ومحو بك بعد أن قضوا أشغالهم وباعوا تعلقاتهم وقبضوا علائفهم‏.‏

وفي يوم الخميس تاسع عشره سافر صالح آغا قوج وصحبته نحو المائتين ممن اختارهم من عساكره الأرنؤدية وتفرق عنه الباقون وانضموا إلى حسن باشا وأخيه عابدين بك وغيرهما‏.‏

وفي يوم الجمعة برزت خيام الباشا خارج باب النصر وعزم على الخروج والسفر بنفسه إلى الحجاز وقد اطمأن خاطره عندما سافر الجماعة المذكورون لأنه لما قطع خرجهم ورواتبهم وأمرهم بالسفر جمعوا عساكرهم إليهم وخيولهم وأخذوا الدور والبيوت ببولاق وسكنوها وصارت لهم وسفاشيته وغيرهم بالملازمة والمبيت بالقلعة وغير ذلك‏.‏

وفي يوم السبت حادي عشرينه اجتمعت العساكر وانجر الموكب من باكر النهار فكان أولهم طوائف الدلاة ثم العساكر وأكابرهم وحسن باشا وأخوه عابدين بك وهو ماش على أقدامه في طوائفه أمام الباشا ثم الباشا وكتخدا بك وأغواتهم الصقلية وطوائفهم وخلفهم الطبلخانات وعند ركوبه من القلعة ضربوا عدة مدافع فكان مدة مرورهم نحو خمس ساعات وجروا أما الموكب ثمانية عشر مدفعًا وثلاث قنابر‏.‏

في رابع عشرينه وردت هجانة مبشرون باستيلاء الأتراك على عقبة الصفراء والجديدة من غير حرب بل بالمخادعة والمصالحة مع العرب وتدبير شريف مكة ولم يجدوا بها أحدًا من الوهابيين فعندما وصلت هذه البشارة ضربوا مدافع كثيرة تلك الليلة من القلعة وظهر فيهم الفرح والسرور‏.‏

وفي تلك الليلة حضر أحمد آغا لاظ حاكم قنا ونواحيها وكان من خبره أنه لما وصلت إليه الجماعة الذين سافروا في الشهر الماضي وهم صالح آغا وسليمان آغا ومحو بك ومن معهم واجتمعوا على المذكور وبثوا شكواهم وأسروا نجواهم وأضمروا في نفوسهم أنهم إذا وصلوا إلى مصر ووجدوا الباشا منحرفًا منهم أو أمرهم بالخروج والعود إلى الحجاز امتنعوا عليه وخالفوه وإن قطع خرجهم وأعطاهم علائفهم بارزوه ونابذوه وحاربوه واتفق أحمد آغا المذكور معهم على ذلك وأنه متى حصل هذا المذكور أرسلوا إليه فيأتيهم على الفور بعسكره وجنده وينضم إليه الكثير من المقيمين بمصر من طوائف الأرنؤد كعابدين بك وحسن باشا وغيرهم بعساكرهم لاتحاد الجنسية فلما حصل وصول المذكورين وقطع الباشا راتبهم وخرجهم وأعطاهم علائفهم المنكسرة وأمرهم بالسفر أرسلوا لأحمد آغا لاظ المذكور بالحضور بحكم اتفاقهم معه فتقاعس وأحب أن يبدي لنفسه عذرًا في شقاقه مع الباشا فأرسل إليه مكتوبًا يقول فيه إن كنت قطعت خرج إخواني وعزمت على سفرهم من مصر وإخراجهم منها فاقطع أيضًا خرجي ودعني أسافر معهم فأخفى الباشا تلك المكاتبة وأخر عود الرسول ويقال له الخجا لعلمه بما ضمروه فيما بينهم حتى أعطى للمذكورين علائفهم على الكامل ودفع لصالح آغا كل عامًا طلبه واده حتى أنه كان أنشأ مسجدًا بساحل بولاق بجوار داره وبنى له منارة ظريفة واشترى له عقارًا وأمكنة وقفها على مصالح ذلك المسجد وشعائره فدفع له الباشا جميع ما صرفه عليه وثمن العقار وغيره ولم يترك لهم مطالبة يحتجون بها في التأخير وأعطى الكثير من رواتبهم لحسن باشا وعابدين بك أخيه فمالوا عنهم وفارقهم الكثير من عساكرهم وانضموا إلى أجناسهم المقيمين عند حسن باشا وأخيه فرتبوا لهم العلائف معهم وأكثرهم مستوطنون ومتزوجون بل ومتناسلون ويصعب عليهم مفارقة الوطن وما صاروا فيه من التنعم ولا يهون بمطلق الحال استبدال النعيم بالجحيم ويعملون عاقبة ما هم صائرون إليه لأنه فيما بلغنا أنه من سافر منهم إلى بلاده قبض عليه حاكمها وأخذ منه ما معه من المال الذي جمعه من مصر وما معه من المتاع وأودعه السجن ويفرض عليه قدرًا فلا يطلقه حتى يقوم بدفعه على ظن أن يكون أودع شيئًا عند غيره فيشتري نفسه به أو يشتريه أقاربه أو يرسل إلى مصر مراسلة لعشيرته وأقاربه فتأخذهم عليه الغيرة فيرسلون له ما فرض عليه ويفتدونه وإلا فيموت بالسجن أو يطلق مجرد أو يرجع إلى حالته التي كان عليها في السابق من الخدم الممتهنة والاحتطاب من الجبل والتكسب بالصنائع الدنيئة ببيع الأسقاط والكروش والمؤاجرة في حمل الأمتعة ونحو ذلك فيختارون الإقامة ويتركون مخاديمهم خصوصًا والخسة من طباعهم هذا والباشا يستحث صالح آغا ورفقاءه في الرحيل حيث لم يبق له عذر في التأخير فعندما نزلوا في المراكب وانحدروا في النيل أحضر الباشا الخجا المذكور وهو عبارة عن الأفندي المخصوص بكتابة سره وإيراده ومصرفه وأعطاه جواب الرسالة مضمونها تطمينه وتأمينه ويذكر له أنه صعب عليه وتأثر من طلبه المقاطعة وطلبه المفارقة وعدد له أسباب انحرافه عن صالح آغا ورفقاءه وما استوجبوا به ما حصل لهم من الإخراج والإبعاد وأما هو فلم يحصل منه ما يوجب ذلك وأنه باق على ما يعهده من المودة والمحبة فإن كان ولا بد من قصده وسفره فهو لا يمنعه من ذلك فيأتي بجميع أتباعه ويتوجه بالسلامة أينما شاء وإلا بأن صرف عن نفسه هذا الهاجس فليحضر في القنجة في قلة ويترك وطاقه وأتباعه ليواجهه ويتحدث معه في مشورته وانتظام أموره التي لا يتحملها هذا الكتاب ويعود إلى محل ولايته وحكمه مكرمًا فراج عليه ذلك التمويه وركن إلى زخرف القول وظن أن الباشا لا يصله بمكروه ولا يواجهه بقبيح من القول فضلًا عن الفعل لأنه كان عظيمًا فيهم ومن الرؤساء المعدودين صاحب همة وشهامة وإقدام جسورًا في الحروب والخطوب وهو الذي مهد البلاد القبلية وأخلاها من الأجناد المصريين فلما خلت الديار منهم واستقر هو بقنا وقوص وهو مطلق آغا قوج بالأسيوطية ثم إن الباشا وجه صالح آغا إلى الحجاز وقلد ابنه إبراهيم باشا ولاية الصعيد فكان يناقض عليه أحمد آغا المذكور في أفعاله ويمانعه التعدي على أطيان الناس وأرزاق الأوقاف والمساجد ويحل عقد إبراماته فيرسل إلى أبيه بالأخبار فيحقد ذلك في نفسه ويظهر خلافه ويتغافل وأحمد آغا المذكور على جليته وخوص نيته فلما وصلته الرسالة اعتقد صدقه وبادر بالحضور في قلة من أتباعه حسب إشارته وطلع إلى القلعة ليلة السبت وهي ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان فعبر عند الباشا وسلم عليه فحادثه وعاتبه ونقم عليه أشياء وهو يجاوبه ويرادده حتى ظهر عليه الغيظ فقام كتخدا بك وإبراهيم آغا وخرجا من عند الباشا ودخلا إلى مجلس إبراهيم آغا وجلسوا يتحدثون وصار الكتخدا وإبراهيم آغا يلطفان معه القول وأشاروا عليه بأن يستمر معهما إلى وقت السحور وسكون حدة الباشا فيدخلون إليه ويتسحرون معه فأجابهم إلى رأيهم وأمر من كان بصحبته من العسكر وهم نحو الخمسين بالنزول إلى محلهم فامتنع كبيرهم وقال لا نذهب ونتركك وحيدًا فقال الكتخدا وما الذي يصيبه وهو همشري ومن بلدي وإن أصيب بشيء كنت أنا قبله فعند ذلك نزلوا وفارقوه وبقي عنده من لا يستغني عنه في الخدمة فعند ذلك أتاه من يستدعيه إلى الباشا فلما كان خارج المجلس قبضوا عليه وأخذوا سيفه وسلاحه ونزلوا له إلى تحت سلم الركوب وأشعل الضوى المشعل وأداروا كتافه ورموا رقبته ورفعوه في الحال وغسلوه وكنفوه ودفنوه وذلك في سادس ساعة من الليل وأصبح الخبر شائعًا في المدينة وأحضر الباشا الخجا وطولب بالتعريف عن أمواله وودائعه وعين في الحال باشجاويش ليذهب إلى قنا ويختم على داره ما له من الغلال والأموال وطلبت الودائع ممن هي عنده التي استدلوا عليها بالأوراق فظهر له ودائع في عدة أماكن وصناديق مال وغير ذلك ولم يتعرض لمنزله ولا لحريمه‏.‏

واستهل شهر شوال بيوم الأربعاء سنة 1227 في رابعه يوم السبت قدم قابجي من إسلامبول وعلى يده مقرر للباشا بولاية مصر على السنة الجديدة ومعه فروة لخصوص الباشا فلما وصل إلى بولاق فنزل كتخدا بك لملاقاته فركب في موكب جليل وخلفه النوبة التركية وشق من وسط البلد وصعد إلى القلعة وحضر الأشياخ وأكابر دولتهم وقرئ المرسوم بحضرة الجميع فلما انقضى الديوان ضربوا عدة مدافع من القلعة‏.‏

وفيه ألبس شيخ السادات ابن أخيه سيدي أحمد خلعة وتاجًا وجعله وكيلًا عنه في نقابة الأشراف وأركبه فرسًا بعباءة ومشى أمامه أيضًا الجاويشية المختصين بنقيب الأشراف وأمره بأن يذهب إلى الباشا ويقابله ليخلع عليه وأرسل في صحبته محمد أفندي فقال مبارك وأشار إليه محمد أفندي بأن يخلع عليه فروة فقال الباشا أن عمه جعله نائبًا عنه ووكيلًا فليس له عندي تلبيس لأنه لم يتقلدها بالأصالة من عندي فقام ونزل من غير شيء إلى داره بجوار المشهد الحسيني‏.‏

وفي يوم الخميس ثالث عشرينه سافر مصطفى بك دالي باشا بجميع الدلاة وغيرهم من العسكر إلى الحجاز وحصل للناس في هذا الشهر عدة كربات منها وهو أعظمها عدم وجود الماء العذب وذلك في وفت النيل وجريان الخليج من وسط المدينة حتى كاد الناس يموتون عطشًا وذلك بسبب أخذهم الحمير للسخرة والرجال لخدمة العسكر المسافرين وغلو ثمن القرب التي تشترى لنقل الماء فإن الباشا أخذ جميع القرب الموجودة بالوكالة عند الخليلية وما كان بغيرها أيضًا حتى أرسل إلى القدس والخليل فأحضر جميع ما كان بهما وبلغت الغاية في غلو الأثمان حتى بيعت القربة والواحدة التي كان ثمنها مائة وخمسين نصفًا بألف وخمسمائة نصف ويأخذون أيضًا الجمال التي تنقل الماء بالروايا إلى الأسبلة والصهاريج وغيرهما من الخليج فامتنع الجميع عن السراح والخروج واحتاج العسكر أيضًا إلى الماء فوقفوا بالطرق يرصدون مرور السقائين أو غيرهم من الفقراء والذين ينقلون الماء بالبلاليص والجرار على رؤوسهم فيوجد على كل موردة من الموارد عدة من العسكر وهم واقفون بالأسلحة ينتظرون من يستقي من السقائين أو غيرهم فكان الخدم والنساء والفقراء والبنات والصبيان ينقلون بطول النهار والليل بالأوعية الكبيرة والصغيرة على رؤوسهم بمقدار ما يكفيهم للشرب وبيعت القربة الواحدة بخمسة عشر نصف فضة وأكثر وشح وجود اللحم وغلا في الثمن زيادة على سعره المستمر حتى بيع بثمانية عشر نصف فضة كل رطل هذا إن وجد والجاموسي الجفيط بأربعة عشر وطلبوا للسفر طائفة من القبانية والخبازين ومن أرباب الصنائع والحرف وشددوا عليهم الطلب في أواخر الشهر فتغيبوا وهربوا فسمرت بيوتهم وحوانيتهم وكذلك الخبازون والفرانون بالطوابين والأفران حتى عدم الخبز من الأسواق ولم يجد أصحاب البيوت فرنًا يخبزون فيه عجينهم فمن الناس القادرين على الوقود من يخبز عجينه في داره أو عند جاره الذي يكون عنده فرن أو عند بعض الفرانين الذي تكون فرنه بداخل عطفة مستورة خفية أو ليلًا من الخوف من العسس والمرصدين لهم وكذلك عدم وجود التبن بسبب رصد العسكر في الطرق لأخذ ما يأتي به الفلاحون من الأرياف فيخطفونه قبل وصوله إلى المدينة وحصل بسبب هذه الأحوال المذكورة شبكات ومشاجرات وضرب وقتل وتجريح أبدان ولولا خوف العسكر من الباشا وشدته عليهم حتى القتل إذا وصلت الشكوى إليه لحصل أكثر من ذلك‏.‏

في سابعه يوم الخميس سافر الباشا هجانا إلى السويس وصحبته حسن باشا‏.‏

وفي يوم الجمعة خامس عشره وصل مبشرون من ناحية الحجاز وهم أتراك على الهجن والخبر عنهم أن عساكرهم وصلوا إلى المدينة المنورة ونزلوا بفنائها‏.‏

وفي يوم الأحد سابع عشره ورجع الباشا مكن ناحية السويس إلى مصر وفيه وردت أخبار لطائفة الفرنساوية وقنصلهم المقيمين بمصر بأن بونابارته وعساكر الفرنساوية زحفوا في جمع عظيم على بلاد المسكوب ووقع بينهم حروب عظيمة فكانت الهزيمة على المسكوب وانكسروا كسرة قوية وكتبوا بذلك أوراقًا ألصقوها بحيطان دوائرهم وحاراتهم ولما حضر الباشا طلع إليه القنصل وأخبره بتلك الأخبار وأطلعه على الكتب الواردة من بلادهم‏.‏ وفي

ليلة الثلاثاء عدى الباشا إلى بر الجزيرة

وأمر بخروج العساكر إلى البر الغربي وعدى أيضًا كتخدا بك بسبب أن عربان أولاد علي نزلوا بناحية الفيوم بجمع عظيم وأكلوا الزروعات فخرج إليهم حسن آغا الشماشرجي فوزن نفسه معهم فرأى أنه لا يقاومهم لكثرتهم فحضر إلى مصر وأخبر الباشا وتحرك الباشا للخروج إليهم ثم بعقيبه أرسل لهم وخادعهم فحضر إليه عظماؤهم فأخذ منهم رهائن وخلع عليهم وكساهم وأعطاهم راحتهم وعين لهم جهات وشرط عليهم أن لا يتعدوها ثم رجع وعدى إلى بر مصر في ليلة الخميس حادي عشرينه‏.‏

وفي سادس عشرينه نهب العرب القافلة القادمة من السويس بحمل بضائع التجار وغيرهم وقتلوا العسكر الذين بصحبتهم وخفارتهم وأخذوا الجمال بأحمالها وذهبوا بها لناحية الوادي والجمال المذكورة على ملك الباشا وأتباعه لأنهم صيروا لهم جمالًا وأعدوها لحمل البضائع ويأخذون أجرتها لأنفسهم بدلًا عن جمال العرب وذلك من جملة الأمور التي احتكروها طمعًا وحسدًا في كل شيء ولم ينج من الجمال إلا البعض الذين سبقوهم وهم لكتخدا بك فحنق لذلك الباشا وأرسل في الحال مراسلات إلى سليمان باشا محافظ عكا يعلمه بذلك ويلزمه بإحضارها ويتوعده إن ضاع منها عقال بعير والذي ذهب بالمراسلة إبراهيم أفندي المهردار‏.‏

واستهل شهر ذي الحجة بيوم السبت سنة 1227 في عاشره يوم الأضحى وردت هجانة من ناحية الحجاز وعلى يدهم البشائر بالاستيلاء على قلعة المدينة المنورة ونزول المتولي بها على حكمهم وأن القاصد الذي أتت بشائره وصل إلى السويس وصحبته مفاتيح المدينة فحصل للباشا بذلك سرور عظيم وضربوا مدافع وشنكًا بعد مدافع العيد وانتشرت المبشرون على بيوت الأعيان لأجل أخذ البقاشيش‏.‏

وفي يوم الثلاثاء حادي عشره وصل القادمون إلى العادلية فعملوا لقدومهم شنكًا عظيمًا وضربوا مدافع كثيرة من القلعة وبولاق والجيزة وخارج قبة العزب حيث العرضي العد للسفر وأيضًا ضربوا بنادق كثيرة متتابعة من جميع الجهات حتى من أسطحة البيوت الساكنين بها واستمر ذلك أكثر من ساعتين فلكيتين فكان شيئًا مهولًا مزعجًا وأشيع في الناس دخول الواصلين في موكب واختلفت رواياتهم وخرج الباشا إلى ناحية العادلية فاصطف الناس على مصاطب الدكاكين والسقائف للفرجة فلما كان قريب الغروب دخل طائفة من العسكر وصحبتهم بعض أشخاص راكبين على الهجن وفي يد أحدهم كيس أخضر وبيد الآخر كيس أحمر بداخلهما المكاتبات والمفاتيح وعاد الباشا من ليلته وصعد إلى القلعة هذا والمدافع والشنك يعمل في كل وقت من الأوقات الخمسة وفي الليل وفي صبح يوم الأربعاء شق الآغا والوالي وآغات التبديل وأمامهم المناداة على الناس بتزيين الأسواق وما فيها من الحوانيت والدور ووقود القناديل والتعاليق ويسهرون ثلاث ليال بأيامها أو لها يوم الخميس وآخرها يوم السبت الذي هو خامس عشره وأخرجوا طاقات وخيامًا إلى خارج بابي النصر والفتوح وخرج الباشا في ثاني يوم إلى ناحية العادلية وهو ليلة يوم الزينة وعملوا حراقات ونفوطًا وسواريخ ومدافع من كل ناحية مدة أيام الزينة وكتبت البشائر إلى جميع النواحي وأنعم الباشا بأمريات ومناصب على عشرين شخصًا من خواصه وعين لطيف بك آغات المفتاح للتوجه إلى دار السلطنة بالبشائر والمفاتيح صحبته وسافر في صبح يوم الزينة على طريق البر وتعين خلافه أيضًا للسفر بالبشائر إلى البلاد الرومية والشامية والأساكل الإسلامية مثل بلاد الأنضول والرومنلي ورودس وسلانيك وأزمير وكريت وغيرهما‏.‏

وفي أواخره وردت الأخبار المترافدة بوقوع الطاعون الكثير بإسلامبول فأشار الحكماء على الباشا بعمل كورنتينة بالإسكندرية على قاعدة اصطلاح الإفرنج ببلادهم فلا يدعون أحدًا من المسافرين الواردين في المراكب من الديار الرومية يصعد إلى البر إلا بعد مضي أربعين يومًا من وروده وإذا مات بالمركب أحد في أثناء المدة استأنفوا الأربعين‏.‏

وفيه وشى بعض اليهود على الحاج سالم الجواهرجي المباشر لإيراد الذهب والفضة إلى الضربخانة وانعزل عنها كما ذكر في وسط السنة عند ورود الرجل النصراني الدرزي الشامي بأنه كان في أيام مباشرته للإيراد يضرب لنفسه دنانير خارجة عن حساب الميري خاصة به فأمر الباشا بإثبات ذلك وتحقيقه فحصل كلام كثير والحاج سالم يجحد ذلك وينكره فقال له أيوب تابعك الذي كان ينزل آخر النهار بالخرج على حماره في كل يوم بحجة الأنصاف العددية التي يفرقها على الصيارف بالمدينة وأكثر ما في الخرج خاص بك فأحضروا أيوب المذكور وطلبوه للشهادة فقال لا أشهد بما لا أعلم ولم يحصل هذا مطلقًا ولا يجوز لي ولا يخلصني من الله أن أتهم الرجل بالباطل فقال اليهودي هذا رفيقه وصاحبه وخادمه ولا يمكنه أن يخبر ويقر إلا إذا خوف وعوقب وإذا ثبت قولي فإنه يطلع عليه ستة آلاف كيس فلما سمع الباشا قول اليهودي ستة آلاف كيس أمر بحبس الحاج سالم ثم أحضروا اخوته والحاج أيوب وسجنوهم وضربوهم والباشا يطلب ستة آلاف كيس كما قال اليهودي واستمروا في ذلك أيامًا وذلك الحبس عند قرأ علي بجوار بيت الحريم بالأزبكية وسبب خصومة شمعون اليهودي مع الحاج سالم أنهم احتجوا على اليهودي بأشياء وقرروا عليه غرامة أيضًا فطلب من الحاد سالم المساعدة وقال له ساعدني كما ساعدتك في غرامتك فقال الحاج سالم إنك لم تساعدني بمال من عندك بل هو من حسابي معك فقال اليهودي ألست كنت أداري عليك فيما تفعله واتسع الكلام بينهما وحضرة الباشا وأعوانه مترقبون لحادث يستخرجون به الأموال بأي وجه كان ويتقولون ويوقعون بين هذا وهذا والناس أعداء لبعضهم البعض تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى‏.‏

ثم إن السيد محمدًا المحروقي خاطب الباشا في شأن الحاج سالم وحلف عليه أن الغرامة الأولى تأخر عليه منها ثلثمائة كيس استدانها من الأوربيين ودفعها وهي باقية عليه إلى الآن ومطلوبة منه وذلك بعد أن باع أملاكه وحصة التزامه فإذا كان ولا بد من تغريمه ثانيًا فإننا نمهل أصحاب الديون ونقوم بدفع الثلثمائة كيس المطلوبين للمداينين وندفعها للخزينة فأجابه لذلك وأمر بالإفراج عن الحاج سالم واخوته ومن معه وفيه اشتد الأمر على إسمعيل أفندي أمين عيار الضربخانة وأولاده بالطلب من أرباب الحوالات مثل دالي باشا وخلافه وضيق العسكر المعينون عليهم منافسهم ولازموا دورهم ولم يجدوا شافعًا ولا دافعًا ولا رافعًا فباعوا أملاكهم وعقاراتهم وفراشهم ومصاغ حريمهم وأوانيهم وملابسهم وكان الباشا أخذ من إسمعيل أفندي المذكور داره التي بالقلعة عندما انتقل إلى القلعة فأمره بإخلائها ففعل ونزل إلى دار بحارة الروم بالقرب من دار ابنه محمد أفندي فاتخذ الباشا دار إسمعيل أفندي دار لحريمه وأسكنهم بها لأنها دار عظيمة جليلة عمرها المذكور وصرف عليها في الأيام الخالية أموالًا جمة فلما استولى عليها الباشا أسكن بها حريمه وجواريه وسراريه ولما قرر عليه غرامته أسقط عنه منها عشرين كيسًا لا غير وجعلها في ثمن داره المذكورة وذلك لا يقوم بثمن رخامها فقط فلما اشتد الحال بإسمعيل أفندي أشار عليه بعض المتشفعين بأن يكتب له عرضحال ويطلع به إلى الباشا صحبة المعلم غالي كبير الأقباط المباشرين ففعل ودخل معه المعلم غالي إلى الباشا فعندما رآه مقبلًا صحبة المذكور أشار إليه بالرجوع ولم يدعه يتكلم فرجع بقهره ونزل إلى داره فمرض وتوفي بعد أيام إلى رحمة الله تعالى ومات قبله ولده حسن أفندي وبقي جميع الطلب على ولده محمد أفندي فحصل له مشقة زائدة باع أثاث بيته وأوانيه وكتبه التي اقتناها وحصلها بالشراء والاستكتاب فباعها بأبخس الأثمان على الصحافين وغيرهم وطال عليه الحال وانقضت مواعيد المداينين له فطالبوه وكربوه فتداين من غيرهم بالربا والزيادة وهكذا والله يحسن لنا وله العاقبة‏.‏

وفيه قدم إلى الإسكندرية قليون من بلاد الإنكليز فيه بضائع وأشياء للباشا ومنها خمسون ألف كيس نقودًا ثمن غلال وخيول يأخذونها من مصر إلى بلادهم فطفقوا يطلبون لهم الخيول من أربابها فيقيسون طولها وعرضها وقوائمها بالأشبار فإن وجدوا ما يوافق غرضهم ومطلوبهم في القياس والقيافة أخذوه ولو بأغلى ثمن وإلا تركوه‏.‏

وفيه أيضًا أرسل الباشا لجميع كشاف الوجه القبلي بحجز جميع الغلال والحجر عليها لطرفه فلا يدعون أحدًا يبيع ولا يشتري شيئًا منها ولا يسافر بشيء منها في مركب مطلقًا ثم طلبوا ما عند أهل البلاد من الغلال حتى ما هو مدخر في دورهم للقوت فأخذوه أيضًا ثم زادوا في الأمر حتى صاروا يكسلون الدور ويأخذون من الغلال أقل أو أكثر ولا يدفعون له ثمنًا بل يقولون نحسب لكم ثمنه من مال السنة القابلة ويشحنون بذلك جميع مراكب الباشا التي استجدها وأعدها لنقل الغلال ثم يسيرون بها إلى بحري فتنقل إلى مراكب الإفرنج بحساب مائة قرش عن كل أردب وانقضت السنة ولم تنقض حوادثها بل استمر ما حدث بها كالتي قبلها وزيادة‏.‏

فمنها ما أحاط به علمنا وذكرنا بعضه ومنا ما لم يحط به علمنا أو أحاط ونسيناه بحدوث غيره قبل التثبت ومنها أن الباشا عمل ترسخانة عظيمة بساحل بولاق واتخذ عدة مراكب بالإسكندرية لخصوص جلب الأخشاب المتنوعة وكذلك الحطب الرومي من أماكنها على ذمته ويبيعه على الحطابين بما حدده عليهم من الثمن ويحمل في المراكب المختصة به بأجرة محددة أيضًا ويأتي إلى ديوان الكمرك ببولاق فيؤخذ كركه إلى مكسه وهو راجع إليه أيضًا إلى أن استقر سعر القنطار الواحد من الحطب بثلثمائة وخمسة عشر نصف فضة وأجرة حمله من بولاق إلى مصر ثلاثة عشر نصف وأجرة تكسيره مثل ذلك فيكون مجموع ذلك ثلثمائة وأربعين نصف فضة القنطار وقد اشتريناه قبل استيلاء هذه الدولة بثلاثين نصفًا وأجرة حمله في المركب عشرة أنصاف وأجرته من بولاق إلى مصر ثلاثة أصناف وتكسيره كذلك فيكون مجموع ذلك ستة وأربعين نصفًا وكذلك فعل في أنواع الأخشاب الكرسنة والحديد والرصاص والقصدير وجميع المجلوبات واستمر ينشئ في المراكب الكبار والصغار التي تسرح في النيل من قبلي إلى بحري ومن بحري إلى قبلي ولا يبطل الإنشاء والأعمال والعمل على الدوام وكل ذلك على ذمته ومرمتها وعمارتها ولوازمها وملاحوها بأجرتها على طرفه لا بالضمان كما كان في السابق ولهم قومة ومباشرون متقيدون بذلك الليل والنهار‏.‏

ومنها وهي من الحوادث الغريبة التي لم يتفق في هذه الأعصار مثلها إن في أواخر ربيع الآخر احترق بحر النيل وجف بحر بولاق وكثرت فيه الرمال وعلت فوق بعضها حتى صارت مثل التلول وانحسر الماء حتى كان الناس يمشون إلى قريب أنبابة بمداساتها وكذلك بحر مصر القديمة بقي مخاضًا وفقدت أهل القاهرة الماء الحلو واشتد بالناس العطش بسبب ذلك وبسبب تسخير السقائين ونادى الآغا والوالي على أن يكون حمل القربة للمكان البعيد باثني عشر نصف فضة استهل شهر بشنس القبطي فزد النيل في أوله في ليلة واحدة نحو ذراع ثم كان يزيد في كل يوم وليلة مثل دفعات أواخر أبيب ومسرى وجرى بحر بولاق ومصر القديمة وغطى الرمال وسارت فيه المراكب الكبار منحدرة ومقلعة وغرقت المقافئ مثل البطيخ والخيار والعبد اللاوي وما كان مزروعًا بالسواحل وهو شيء كثير جدًا استمرت الزيادة نحو عشرين يومًا حتى تغير وابيض وكاد يحمر وداخل الناس من ذلك وهم عظيم من هذه الزيادة التي في غير وقتها حتى اعتقدوا أنه يوفي أذرع الوفاء قبل نزول النقطة ولم يعهد مثل ذلك وكان ذلك رحمة من الله بعبيده الفقراء العطاش ثم إني طالعت في تاريخ الحافظ المقريزي المسمى بالسلوك في دول الملوك فذكر مثل هذه النادرة في سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة ولما ترافدت هذه الزيادات خرج الوالي إلى قنطرة السد وجمع الفعلة للعمل في سد فم الخليج ونادى على نزح الخليج وتنظيفه وكسح أوساخه وقطع أرضه ثم وقفت الزيادة بل نقص قليلًا وزاد في أوان الزيادة على العادة وأوفي أذرعه في أيامه المعتادة ومنها شحة الغلال وخلو السواحل منها فلا يجد الناس إلا ما بقي بأيدي فلاحي الجهات البحرية القريبة فيحملونه على الحمير إلى العرصات والرقع ويبيعونه على الناس كل أردب بأربعة وعشرين قرشًا خلاف المكس والكلف واستقر مكس الأردب الواحد أربعة وثلاثين نصف فضة وأجرته إذا كان من طريق البحر من المنوفية أو نحوها مائة نصف وأقل وأكثر وأجرته من بولاق إلى مصر خمسة وعشرون نصفًا‏.‏

ومنها أنه لما تنظم له ملك بلاد الصعيد ولم يبق له فيه منازع وقلد إمارته لابنه إبراهيم باشا ورسم بأن يضبط جميع أطيان بلاد الصعيد حتى الرزق الأحباسية المرصدة على المساجد والخيرات الكائنة بمصر وغيرها وأوقاف سلاطين مصر المتقدمين وخيراتهم ومساجدهم ومكاتبهم وصهاريجهم ووظائف المدرسين والمقرئين وغير ذلك ففعل ذلك وراك الأراضي بأسرها وشاع أنه جعل على كل فدان من أراضي الرزق والأوقاف ثلاثة ريالات لا غير وعلى باقي فدادين الأطيان ثمانية ريالات خلاف النباري وهو مزارع الذرة فجعل على كل عود من عيدان القطوة سبعة ريالات فرضي أصحاب الرزق والأطيان بهذا التنظيم وظنوا استمراره فإن الكثير من المرتزقة ما كان يحصل له من مزارعي رزقته مقدار ما يحصل له على هذا الحساب‏.‏

ومنها أنه رسم له بالحجر على جميع حصص الالتزام فلم يبق لأربابها شيئًا إلا ما ندر وهو شيء قليل جدًا واحتج في ذلك باستيلاء الأمراء المصريين عليها عندما خرجوا من مصر وأقاموا بالبلاد القبلية فوضعوا أيديهم على ذلك وأنه حاربهم وطردهم وقتلهم وورث ما كان بأيديهم بحق أو باطل وسموه المضبوط وأما ما كان بأيدي أربابه أيام استيلاء المصريين وهم الملتزمون القاطنون بالبلاد القبلية أو بمصر ممن يراعي جانبه فإنه إذا عرض حاله وطلب إذنًا في التصرف وأخبر بأنه كان مفروجًا عنه أيام استيلاء المصريين وأثبت ذلك بالكشف من الروزنامة وغيرها فأما أن يؤذن له في التصرف أو يقال له نعوضك بدلها من البلاد البحرية ويسوف وتتمادى الأيام أو يحيل ذلك على ابنه إبراهيم باشا ويقول أنا لأعلقه في البلاد القبلية والأمر فيها لإبراهيم باشا وإذا ذهب لإبراهيم باشا يقول له أنا أعطيك الغائط فإن رضي أعطاه شيئًا نزرًا ووعده بالإعطاء وإن لم يرض قال له هات لي إذنًا من أفندينا وكل منهما إما مرتحل أو مسافر أو أحدهما حاضر والآخر غائب فيصير صاحب الحاجة كالجملة المعترضة بين الشارط والمشروط وأمثال ذلك كثير‏.‏

ومنها الاستيلاء على جميع مزارع الأرز بالبحر الغربي والشرقي ورقب لهم مباشرين وكتابًا يصرفون عليهم من الكلف والتقاوي والبهائم ويؤخذ ذلك جميعه من حساب الفرض التي قررها على النواحي وعند استغلال الأرز يرفعونها بأيديهم ويسعرونها بما يريدونه ويستوفون المصاريف ومعاليم القومة والمباشرين المعين لهم وإن فضل بعد ذلك شيء أعطوه للمزارع أو أخوه منه وأعطوه ورقة يحاسب بها في المستقبل وفرض على كل دائرة من دوائر الأرز خمسة أكياس في كل سنة خلاف المقرر القديم وعلى كل عود ثلاثة أكياس فإذا كان وقت الحصاد وزنوه شعيرًا على أصحاب الدوائر والمناشر حتى إذا صلح وابيض حسبوا كلفه من أصل المقرر عليهم فإن زاد لهم شيء أعطوهم به ورقة وحاسبوا بها من قابل وأبطل تعامل المزارعين مع التجار الذين كانوا معتادين بالصرف عليهم واستقر الحال إلى أن صار جميعه أصلًا وفرعًا لديوان الباشا ويباع الموجود على ذمته لأهل الأقاليم المتسببين وغيرهم وهو عن كل أردب مائة قرش بل وزيادة وللإفرنج وبلاد الروم والشام بما لا أدري‏.‏

ومنها أنه حصل بين عبد الله آغا بكتاش الترجمان وبين النصراني الدرزي منافسة وهو الذي حضر من جبل الدروز ويسمى الياس واجتمع بمصر على من أوصله إلى الباشا وهو بكتاش وخلافه وعرفوه عن صناعته وأنه يعمل آلات بأسهل مما يصنعه صناع الضربخانة ويوفر على الباشا كذا وكذا من الأموال التي تذهب في الدواليب والكلف وما يأخذه المباشرون من المكاسب لأنفسهم وأفرد له بقعة خاصة به بجانب الضربخانة وأمر بحضور ما يطلبه إليه من الحديد والصناع واستمر على ذلك شهورًا ولما تمم الآلة صنع قروشًا وضربها ناقصة في الوزن والعيار وجعل كتابتها على نسق القروش الرومية ووزن القرش درهمان وربع وفيه من الفضة الخالصة الربع بل أقل والثلاثة أرباع نحاس وكان المرتب في الأموال من النحاس في كل يوم قنطارين فضوعف إلى ستة قناطير حتى غلا سعر النحاس والأواني المتخذة منه فبلغ سعر الرطل النحاس المستعمل مائة وأربعين نصف فضة بعد أن كان سعره في الأزمان السابقة أربعة عشر نصفًا والفراضة سبعة أنصاف أو أقل ثم زاد الطلب للضربخانة إلى عشرة قناطير في كل يوم والمباشر لذلك كله بكتاش أفندي ثم إن بكتاش أفندي المذكور انحرف على ذلك الدرزي وذلك بإغراء المعاير وحصل بينهما مناقشة بين يدي الباشا والمعلم غالي بينهم وانحط الأمر في ذلك المجلس على منع الدرزي من مباشرة العمل ورتب له الباشا أربعة أكياس لمصرفه في كل شهر ومنعوا أيضًا من كان معه من نصارى الشوام من الطلوع الضربخانة واستمر بكتاش أفندي ناظرًا عليها ودقق على أرباب الوظائف والخدم ليأخذ بذلك وجاهة عند مخدومه ثم إن الباشا بعد أيام أمر بنفي الدرزي من مصر وجميع أهله وأولاده وانقضى أمره بعد أن تعلموا تلك الصناعة منه وفي تلك المدة بلغ إيراد الضربخانة لخزينة الباشا في كل شهر ألفًا وخمسمائة كيس وكان الذي يرد منها في زمن المصريين ثلاثين كيسًا في كل شهر أو أقل من ذلك فلما التزم بها السيد محمد المحروقي أوصلها إلى خمسين واستمرت على ابنه السيد محمد كذلك مدة فانتبذ لها محمد أفندي طبل المعروف بناظر المهمات وزاد عليها ثلاثين كيسًا وبقيت تحت نظارة المحروقي بذلك القدر ثم إن الباشا عزل السيد محمد المحروقي عناه وأبقاها على ذمته وقيد خاله في نظارتها ولم يزل الباشا يلعب هذه الملاعيب حتى بلغت هذا المبلغ المستمر وربما تزيد وذلك خلاف الغرامات والمصادرات لأربابها ثم وشى له على عبد الله آغا بكتاش بأنه يزيد في وزن القروش وينقص منه عن القدر المحدود فإذا حسب القدر المنقوص وعمل معدله في مدة نظارته تحصل منه مقدار عظيم من الأكياس فلما نوقش في ذلك قال هذا الأمر يسأل فيه صاحب العيار فأحضروه وأحضروا محمد أفندي ابن إسمعيل أفندي بدفتره وتحاققوا في الحساب فسقط منهم خمسة أكياس لم تدخل الحساب فقالوا أين ذهبت هذه الخمسة أكياس فطفقوا ينظرون إلى بعضهم فقال المورد الحق أن هذه الخمسة أكياس من حساب محمد أفندي ومطلوبة له وتجاوز عنها لفلان اليهودي المورد من مدة سابقة فالتفت الباشا إلى محمد أفندي وقال له لأي شيء تجاوزت لليهودي عن هذا القدر فقال لعلمي أنه خلي ليس عنده شيء فأخذتني الرأفة عليه وتركت مطالبته حتى يحصل له اليسار فقال كيف تنعم بمالي على اليهودي فقال إنه من حسابي فقال ومن أين كان لك ذلك وأمر به فبطحوه وضربوه بالعصي ثم أقاموه وأضافوا الخمسة أكياس على باقي الغرامة المطلوبة منه التي هو متحير في تحصيلها ولو بالاستدانة من الربويين كما قال القائل شكوت جلوس إنسان ثقيل فجاءوني بمن هو منه أثقل فكنت كمن شكا الطاعون يومًا فزاده على الطاعون دمل‏.‏

ومحمد أفندي هذا من وجهاء الناس وخيارهم يفعل به هذه الفعال ثم انحط الحال مع بكتاش أفندي على أن فرض عليه ستمائة كيس يقوم بدفعها فقال ويعفوني أفندينا من نظارة الضربخانة فلم يجبه إلى ذلك واستمر في تلك الخدمة مكرهًا خائفًا من عواقبها‏.‏

ومنها أن الريال الفرانسة بلغ في مصارفته من الفضة العددية إلى مائتين وثمانين نصفًا بل وزيادة خمسة أنصاف فنودي عليه بنقص عشرة وشددوا في ذلك وبعد أيام نودي بنقص عشرة أخرى فخسر الناس حصة من أموالهم ثم إن ذلك القرش الذي يضاف إليه من الفضة ربع درهم ووزن الريال تسعة دراهم فضة فيكون الريال الواحد بما يضاف إليه من النحاس على هذا الحساب ستة وثلاثين قرشًا يخرج منها ثمن الريال ستة قروش ونصف وكلفة الشغل في الجملة قرش أو قرشان يبقى بعد ذلك سبعة وعشرون قرشًا ونصف وهو المكسب في الريال الواحد وهو من جملة سلب الأموال لأن صاحب الريال إذا أراد صرفه أخذ بدله ستة قروش ونصفًا وفيها من الفضة الدرهم ونصف وثمن وهي بدل التسعة دراهم التي هي وزن الريال ثم زيد في الطنبور نغمة وهي الحجر على الفضة العددية فلا يصرفون شيئًا منها للصيارف ولا لغيرهم إلا بالفرط وهو أربعة قروش على كل ألف فيعطي للضربخانة تسعة وعشرون قرشًا زلائط ويأخذ ألف فضة عنها خمسة وعشرون قرشًا ثم زادوا بعد ذلك في الفرط فجعلوه خمسة قروش فيعطي ألفًا ومائتين ويأخذ بدلها ألفًا فانظر إلى هذه الزيادة والرذالة وكذا السفالة‏.‏

ومنها استمرار غلاء الأسعار في كل شيء وخصوصًا في الأقوات التي لا يستغني عنها الغني والفقير في كل وقت بسبب الأحداثات والمكوس التي ترتبت على كل شيء ومنها المأكولات كاللحم والسمن والعسل والسكر وغير ذلك مثل الخضارات وإبطال جميع المذبح خلاف مذبح الحسينية والتزم به المحتسب بمبلغ عظيم مع كفاية لحم الباشا وأكابر دولته بالثمن القليل ويوزع الباقي على الجزارين بالسعر الأعلى الذي يخرج منه ثمن لحوم الدولة من غير ثمن فينزل الجزار بما يكون معه من الغنمة أو الاثنين الجفيط إلى بيت أو عطفة مستورة فتزدحم عليه المتتبعون له والمنتظرون إليه ويقع بينهم من المضاربة والمشاجرة ما لا يوصف وثمن الرطل اثنا عشر نصفًا وقد يزيد على ذلك ولا ينقص عن باثني عشر وكذلك الخضراوات التي كانت تباع جزافًا تباع بأقصى القيمة حتى أن الخس مثلًا الذي كان يباع كل عشرة أعداد بنصف واحد صارت الواحدة تباع بنصف وقس على ذلك باقي الخضراوات وأن الباشا لما وضع يده على الأراضي القريبة وأنشأ السواقي تجاه القصر والبساتين بناحية شبرا وحرث الأراضي الخرس وزرع فيه أنواع الخضراوات وأجرى عليها المياه وقيد لخدمتها المرابعين أيضًا والمزارعين بالمؤاجرة والمباشر على ذلك كله ذو الفقار كتخدا وعندما يبدو صلاح البقول والخضراوات يبيعها المتسببين فيها بأغلى ثمن وهم يبيعونها على الناس بما أحبوا وشاع بين الناس إضافة ذلك إلى الباشا فيقولون كرنب الباشا ولفت الباشا وملوخية الباشا وفجل الباشا وقرنبيط الباشا وزرع أيضًا بستانه من أنواع الزهور العجيبة المنظر المتنوعة الأشكال من الأحمر والأصفر والأزرق والملون أتوا بنقائها من بلاد الروم فنتجت وأفلحت وليس لها إلا حسن المنظر فقط ولا رائحة لها أصلًا‏.‏

ومنها إن ديوانا المكس ببولاق الذي يعبرون عنه الكمرك لم يزل يتزايد فيه المتزايدون حتى أوصلوه إلى ألف وخمسمائة كيس في السنة وكان في زمن المصريين يؤدي من يلتزمه ثلاثين كيسًا مع محاباة الكثير من الناس والعفو عن كثير من البضائع لمن ينسب إلى الأمراء وأصحاب الوجاهة من أهل العلم وغيرهم فلا يتعرضون له ولو تحامى في بعض أتباعهم ولو بالكذب ويعاملون غيرهم بالرفق مع التجاوز الكثير ولا ينبشون المتاع ولا رباط الشيء المحزوم بل على الصندوق و المحزوم قدر يسير معلوم فلما ارتفع أمره إلى هذه المقادير صاروا لا يعفون عن شيء مطلقًا ولا يسامحون أحدًا ولو كان عظيمًا من العلماء أو غيرهم وكان من عادة التجار إذا بعثوا إلى شركائهم محزومًا من الأقمشة الرخيصة مثل العاتكي والنابلسي جعلوا بداخل طيها أشياء من الأقمشة الغالية في الثمن المقصبات الحلبي والكشميري والهندي ونحو ذلك فتتدرج معها في قلة الكمرك وفي هذا الأوان يحلون رباط المحزوم ويفتحون الصناديق وينبشون المتاع ويهتكون ستره ويحصون عدده ويأخذون عشرة أي من كل عشرة واحدًا أو ثمنه كما يبيعه التاجر غاليًا أو رخيصًا حتى البوابيج والأخفاف والمسوت التي تجلب من الروم يفتحون صناديقها ويعدونها بالواحد ويأخذون عشورها عينًا أو ثمنًا ويفعل ذلك أيضًا متولي كمرك الإسكندرية ودمياط وإسلامبول والشام فبذلك غلت أسعار البضائع من كل شيء لفحش هذه الأمور وخصوصًا في الأقمشة الشامية والحلبية والرومية المنسوجة من القطن والحرير والصوف فإن عليها بمفردها مكوسًا فاحشة قبل نسجها وكان الدرهم الحرير في السابق بنصف فضة فصار الآن بخمسة عشر نصفًا وما يضاف إليه من الأصباغ وكلف الصناع والمكوس المذكورة فبذلك بلغ الغاية من غلو الثمن فيباع الثوب الواحد من القماش الشامي المسمى بالألاجة الذي كانت قيمته في السابق مائتي نصف فضة بألفين فضة مع ما يضاف إليه من ربح البائع وطمع التاجر والنعل الرومي الذي كان يباع بستين نصفًا يباع بأربعمائة نصف والذراع الواحد من الجوخ الذي كان يباع بمائة نصف فضة بلغ في الثمن إلى ألف نصف فضة وهكذا مما يستقصى تتبعه ولا تستقصى مفرداته ويتولى هذه الكمارك كل من تزايد فيها من أي ملة كان من نصارى القبط أو الشوام والأروام ومن يدعي الإسلام وهم الأقل في الأشياء المدون والمتولي الآن في ديوان كورك بولاق شخص نصراني رومي يسمى كرابيت من طرف طاهر باشا لأنه مختص بإيراده وأعوان كرابيت من جنسه وعنده قواسة أتراك يحجزون متاع الناس ويقبضون على المسلمين ويسجنونهم ويضربونهم حتى يدفعوا ما عليهم وإذا عثروا بشخص أخفى عنهم شيئاُ حبسوه وضربوه وسبوه ونكلوا به وألزموه بغرامة مجازاة لفعله والعجب أن بضائع المسلمين يؤخذ عشرها يعني من العشرة واحد وبضائع الإفرنج والنصارى ومن ينتسب إليهم يؤخذ عليها من المائة اثنان ونصف وكذلك أحدث عدة أشياء واحتكارات في كثير من البضائع مثل السكر الذي يأتي من ناحية الصعيد وزيادات في المكوس القديمة خلاف المحدثات وذلك أن من كان بطالًا أو كاسد الصنعة أو قليل الكسب أو خامل الذكر فيعمل فكرته في شيء مهمل عنه ويسعى إلى الحضرة بواسطة المتقربين أو بعرضحال يقول فيه أن الداعي للحضرة يطلب الالتزام بالصنف الفلاني ويقول للخزينة العامرة بكذا من الأكياس في كل سنة فإذا فعل تنبه المشار إليه فيعد بالإنجاز ويؤخر أيامًا فتتسامع المتكالبون على أمثال ذلك فيزيدون على الطالب حتى تستقر الزيادة على شخص أما هو وخلافه ويقيد اسمه بدفتر الروزنامة ويفعل بعد ذلك الملتزم ما يريده وما يقرره على ذلك الصنف ويتخذ له أعوانًا وخدمة وأتباعًا يتولون استخلاص المقررات ويجعلون لأنفسهم أقدار خارجة عن الذي يأخذه كبيرهم والذي تولى كبر ذلك وفتح بابه نصارى الأروام والأرمن فترأسوا بذلك وعلت أسافلهم ولبسوا الملابس الفاخرة وركبوا البغال والرهوانات وأخذوا بيوت الأعيان التي بمصر القديمة وعمروها وزخرفوها وعملوا فيها بساتين وجنائن وذلك خلاف البيوت التي لهم بداخل المدينة ويركب الواحد منهم وحوله وأمامه عدة من الخدم والقواسة يطردون الناس من أماه وخلفه ولم يدعو شيئًا خارجًا عن المكس حتى الفحم الذي يجلب من الصعيد والحطب السنط والرتم وحطب الذرة الذي كان يباع منه كل مائة حزمة بمائة نصف فلما احتكروه صار يباع كل مائة حزمة بألف ومائتي نصف وبسبب ذلك تشحطت أشياء كثيرة وغلت أثمانها مثل الجبس والجبر وكل ما كان يحتاج للوقود حتى الخبازين في الأفران فإننا أدركنا الأردب من الجبس بثمانية عشر نصف فضة والآن بمائتين وأربعين نصفًا وكذلك أدركنا القنطار من الجير بعشرة أنصاف والآن بمائة وعشرين والحال في الزيادة‏.‏

ومنها أن الباشا شرع في عمارة قصر العيني وكان قد تلاشى وخربته العسكر وأخذت أخشابه ولم يبق فيه إلا الجدران فشرع في إنشائه وتعميره وتجديده على هذه الصورة التي هو عليها الآن في وضع الأبنية الرومية‏.‏

ومنها أنه هدم سراية القلعة وما اشتملت عليه من الأماكن فهدم المجالس التي كانت بها والدواوين وديوان قايتباي وهو المقعد المواجه للداخل إلى الحوش علو الكلار الذي به الأعمدة وديوان الغوري الكبير وما اشتمل عليه من المجالس التي كانت تجلس بها الأفندية والقلفاوات أيام الدواوين وشرع في بنائها على وضع آخر واصطلاح رومي وأقاموا أكثر الأبنية من الأخشاب ويبنون الأعالي قبل بناء السفل وأشيع أنهم وجدوا مخبأت بها ذخائر الملوك مصر الأقدمين‏.‏

ومنها أن الباشا أرسل لقطع الأشجار المحتاج إليها في عمل المراكب مثل التوت والنبق من جميع البلاد القبلية والبحرية فانبث المعينون لذلك في البلاد فلم يبقوا من ذلك إلا القليل لمصانعة أصحابه بالرشا والبراطيل حتى يتركوا لهم ما يتركون فيجتمع بترسخانة الأخشاب لصناعة المراكب مع ما ينضم إليها من الأخشاب الرومية شيء عظيم جدًا يتعجب منه الناظر من كثرته وكلما نقص منه شيء في العمل اجتمع خلافه أكثر منه‏.

ومنها أن أحمد آغا أخا كتخدا بك لما تقلد وكالة دار السعادة ونظارة الحرمين انضم إليه أباليس الكتبة لتحرير الإيراد والمصرف وحصروا الأحكار المقررة على الأماكن والأطيان التي أجرها النظار السابقون المداد الطويلة وجعلوا عليها قدرًا من المال يقبض في كل سنة لجهة وقف أصله على عادة مصر السابقة واللاحقة في استئجار الأوقاف من نظارها والأطيان والأماكن المستأجرة من أوقاف الحرمين وتوابعها كالدشيشة والخاصكية والمحمدية والمرادية وغير ذلك جدًا ففتحوا هذا الباب وتسلطوا على الناس في طلب ما بأيديهم من السندات وحجج التأجرات فإذا اطلعوا عليها فلا يخلو غما أن تكون المدة قد انقضت ومضت أو بقي منها بقية من السنين فإذا كان بقي منها زادوا في الأجرة المؤجلة التي هي الحكر مثلها أو مثليها بحسب حال المحل ورواجه وإن كانت المدة قد انقضت ومضت واستولوا على حين المحل وضبطوه وجددوا له تأجرًا وزادوا في حكره ويكون ذلك لمصلحة جسيمة وعلى كلتا الحالين لا بد من التغريم والمصالحات الجوانية والبرانية للكتاب والمباشرين والخدم والمعينين ثم المرافعة إلى القاضي ودفع المحاصيل والرسوم والتسجيل وكتابة السندات التي يأخذها واضع اليد‏.‏

ومنها التحجير على الأجراء والمعمرين المستعملين في الأبنية والعمائر مثل البنائين والنجارين والنشارين والخراطين وإلزامهم في عمائر الدولة بمصر وغيرها بالإجارة والتسخير واختفى الكثير منهم وأبطل صناعته وأغلق من له حانوت حانوته فيطلبه كبير حرفته الملزم بإحضاره عند معمار باشا فإما أنه يلازم الشغل أو يفتدي نفسه أو يقين بدلًا عنه ويدفع له الأجرة من عنده فترك الكثير صناعته وأغلق حانوته وتكسب بحرفة أخرى فتعطل بذلك احتياجات الناس في التعمير والبناء بحيث أن من أراد أن يبني له كانونا أو مزودًا لدابته تحير في أمره وأقام أيامًا في تحصيل البناء وما يحتاجه من الطين والجبر والقصرمل وكان الباشا اشترى ألف حمار وعملوا لها مزابل وأعدوا لنقل أتربة عمائره وشيل القصرمل من مستوقدات الحمامات بالمدينة وبولاق ونودي في المدينة بمنع الناس كافة عن أخذ شيء من القصرمل فكان الذي تلزمه الضرورة لشيء منه إن كان قليلًا أخذه كالسرقة في الليل من المستوقد بأغلى ثمن وإن كان كثيرًا لا يأخذه إلا بفرمان بالإذن من كتخدا بك بعد أن كان شيئًا مبتذلًا وليس له قيمة ينقلونه إذا كثر في المستوقدات إلى الكيمان بالأجرة وإن احتاجه الناس في أبنيتهم إما نقلوه على حميرهم أو نقله خدمة المشتوفد بأجرتهم كل فردين بنصف وأقل وأزيد ونحو ذلك كما إذا أضاع إنسان مفتاح خشب لا يجد نجارًا يصنع له مفتاحًا آخر إلا خفية ويطلب ثمنه خمسة عشر نصف فضة وكان من عادة المفتاح نصف فضة إن كان كبيرًا أو نصف إن كان صغيرًا‏.‏

ومنها أن الذي التزم بعمل البارود قرر على نفسه مائتي كيس واحتكر جميع لوازمه مثل الفحم وحطب الترمس والذرة والكبريت فقرر على كل صنف من ذلك قدرًا من الأكياس وأبطل الذين كانوا يعملون في السباخ بالكيمان ويستخرجون منه ملح البارود ثم يؤخذ منهم عبيطًا إلى المعمل فيكررونه حتى يخرج ملحًا أبيض يصلح للعمل وهي صناعة قذرة ممتهنة فأبطلهم منها وبنى أحواضًا بدلًا عن الصناديق وجعلها متسعة وطلاها بالخافقي وعمل ساقية وأجرى الماء منها إلى تلك الأحواض وأوقف العمال لذلك بالأجرة يعملون في السباخ المذكور‏.‏

ومنها شحة الحطب الرومي في هذه السنة وإذا ورد منه شيء حجزه الباشا لاحتياجاته فلا يرى الناس منه شيئًا فكان الحطابة يبيعون بدله خشب الأشجار المقطوعة من القطر المصري وأفضلها السنط فيباع منه الحملة بثلثمائة نصف فضة وأجرة حملها عشرة وتكسيرها عشرة وعز وجود الفحم أيضًا حتى بيعت الأقة بعشرين نصفًا وذلك لانقطاع الجالب إلا ما يأتي قليلًا من ناحية الصعيد مع العسكر يتسببون فيه ويبيعونه بأغلى ثمن كل حصيرة باثني عشر قرشًا وهي دون القنطار وكانت تباع في السابق بستين نصفًا وهي قرش ونصف غير ذلك أمور وأحداثات وابتداعات لا يمكن استقصاؤها ولم يصل إلينا خبرها إذ لا يصل إلينا إلا ما تعلقت به اللوازم والاحتياجات الكلية وقد يستدل بالبعض على الكل وأما من مات في هذه السنة ممن له ذكر فمات الشيخ الإمام العلامة والتحرير الفهامة الفقيه الأصولي النحوي شيخ الإسلام والمسلمين الشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشافعي الأزهري الشهير بالشرقاوي شيخ الجامع الأزهر ولد ببلدة تسمى الطويلة بشرقية بلبيس بالقرب من القرين في حدود الخمسين بعد المائة وتربى القرين فلما ترعرع وحفظ القرآن قدم إلى الجامع الأزهر وسمع الكثير من الشهايين الملوي والجوهري والحنفي وأخيه يوسف والدومنهوري والبليدي وعطية الأجهوري ومحمد الفارسي وعلي المنسفيسي الشهير بالصعيدي وعمر الطحلاوي وسمع الموطا فقط على علي بن العربي الشهير بالسقاط وبآخره تلقن بالسلوك والطريقة على شيخنا الشيخ محمود الكردي ولازمه وحضر معنا في أذكاره وجمعياته ودرس الدروس بالجامع الأزهر وبمدرسة السنانية بالصنادقية وبرواق الجبرت والطيبرسية وأفتى في مذهبه متميز في الإلقاء والتحرير وله مؤلفات دالة على سعة فضله من ذلك حاشيته على التحرير وشرح نظم يحي العمريطي وشرح العقائد المشرقية والمتن له أيضًا وشرح مختصر في العقائد والفقه والتصوف مشهور في بلاد داغستان وشرح رسالة عبد الفتاح العادلي في العقائد ومختصر الشمائل وشرحه له ورسالة في لا إله إلا الله ورسالة في مسألة أصولية في جمع الجوامع وشرح الحكم والوصايا الكردية في التصوف وشرح ورد سحر للبكري ومختصر المغني في النحو وغير ذلك ولما أراد السلوك في طريق الخلوتية ولقنه الشيخ الحنفي الاسم الأول حصل له وله واختلال في عقله ومكث بالمارستان أيامًا ثم شفي ولازم الأقراء والإفادة ثم تلقن من شيخنا الشيخ محمود الكردي وقطع الأسماء عليه وألبسه التاج وواظب على مجالسته وكان في قلة من خشونة العيش وضيق المعيشة فلا يطبخ في داره إلا نادرًا وبعض معارفه يواسونه ويرسلون إليه الصفحة من الطعام أو يدعونه ليأكل معهم ولما عرفه الناس واشتهر ذكره فواصله بعض تجار الشوام وغيرهم بالزكوات والهدايا والصلات فراج حاله وتجمل بالملابس وكبر تاجه ولما توفي الشيخ الكردي كان المترجم من جملة خلفائه وضم إليه أشخاصًا من الطلبة والمجاورين الذين يحضرون في درسه يأتون إليه كل ليلة عشاء يذكرون معه ويعمل لهم في بعض الأحيان ثريدًا ويذهب بهم إلى بعض البيوت في مياتم الموتى وليالي السبح والجمع المعتادة ومعهم منشدون ومولهون ومن يقرأ الأعشار عند ختم المجلس فيأكلون العشاء ويسهرون حصة من الليل في الذكر والإنشاد والتوله وينادون في إنشادهم بقولهم يا بكري مدد يا حنفي مدد يا شرقاوي مدد ثم يأتون إليهم بالطاري وهو الطعام بعد انقضاء المجلس ثم يعطونهم أيضًا دراهم ثم اشترى له دار بحارة كتامة المسماة بالعينية وساعده في ثمنها بعض من يعاشره من المياسير وترك الذهاب إلى البيوت إلا في النادر واستمر على حالته حتى مات الشيخ أحمد العروسي فتولى بعده مشيخة الجامع الأزهر فزاد في تكبير عمامته وتعظيمها حتى كان يضرب بعظمتها المثل وكانت تعارضت فيه وفي الشيخ مصطفى الصاوي ثم حصل الاتفاق على المترجم وأن الشيخ الصاوي يستمر في وظيفة التدريس بالمدرسة الصلاحية المجاورة لضريح الإمام الشافعي بعد صلاة العصر وهي من وظائف مشيخة الجامع ولما تولاها الشيخ العروسي تعدى على الوظيفة المذكورة الشيخ محمد المصيلحي الضرير وكان يرى في نفسه أنه أحق بالمشيخة من العروسي فلم ينازعه فيها حسمًا للشر فلما مات المصيلحي تنزه عنها العروسي وأجلس فيها الصاوي وحضر درسه في أول ابتدائه لكونه من خواص تلامذته فلما مات العروسي وتولى المترجم المشيخة اتفقوا على بقاء الصاوي في الوظيفة ومضى على ذلك أشهر ثم أن المجتمعين على الشرقاوي وسوسوا له وحضروه على أخذ الوظيفة وأن مشيخته لا تتم إلا بها وكان مطواعًا فكلم بذلك الشيخ محمد ابن الجوهري وأيوب بك الدفتردار ووافقاه على ذلك واغتر بهما وذهب بجماعته ومن انضم إليهم وهم كثيرون وقرأ بها درسًا فلم يحتمل الصاوي ذلك وتشاور مع ذوي الرأي من رفقائه كالشيخ بدوي الهيتمي وأضرا به فبيتوا أمرهم وذهب الشيخ مصطفى إلى رضوان كتخدا إبراهيم بك الكبير وله به صداقة ومعاملة ومقارضة فسامحه في مبلغ كان عليه له فعند ذلك اهتم رضوان كتخدا المذكور وحضر عند الشرقاوي وتكلم معه وأفحمه ثم اجتمعوا في ثاني يوم ببيت الشرقاوي وحضر الصاوي وعزوته وباقي الجماعة فقال الشرقاوي اشهدوا يا جماعة أن هذه الوظيفة استحقاقي وأنا نزلت عنها إلى الشيخ مصطفى الصاوي فقال له الصاوي ارجع أما الآن فلا ولا جميلة لك الآن في ذلك وباكته بكلام كثير وبإنفاذه لرأي من حوله وغير ذلك وانفض المجلس على منعه من الوظيفة واستمرار الصاوي فيها إلى أن مات فعادت إلى المترجم عند ذلك من غير منازع فواظب الإقراء فيها مدة وطالب سدنة الضريح بمعلومها فماطلوه فتشاجر معهم وسبهم فشكوه للمعاضدين لهم وهم أهل المكايد من الفقهاء وغيرهم وتعصبوا عليه وأنهوا إلى الباشا وضموا إلى ذلك أشياء حتى أغروا عليه صدره واتفقوا على عزله من المشيخة ثم انحط الأمر على أن يلزم داره ولا يخرج منها ولا يتداخل في شيء من الأشياء فكان ذلك أيامًا ثم عفا عنه الباشا بشفاعة القاضي فركب وقابله ولكن لم يعد إلى القراءة في الوظيفة بل استناب فيها بعض الفقهاء وهو الشيخ محمد الشبراويني ولما حضرت الفرنساوية إلى مصر في سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف ورتبوا ديوانًا لإجراء الأحكام بين المسلمين جعلوا المترجم رئيس الديوان وانتفع في أيامهم بما يتحصل إليه من المعلوم المرتب له عن ذلك وقضايا وشفاعات لبعض الأجناد المصرية وجعالات على ذلك واستيلاء على تركات ودائع خرجت أربابها في حادثة الفرنساوية وهلكوا واتسعت عليه الدنيا وزاد طمعه فيها واشترى دار ابن بيرة بظاهر الأزهر وهي دار واسعة من مساكن الأمراء الأقدمين وزوجته بنت الشيخ علي الزغفراني هي التي تدبر أمره وتحرز كل ما يأتيه ويجمعه ولا يروح ولا يغدو إلا عن أمرها ومشورتها وهي أم سيدي علي الموجود الآن وكانت قبل زواجه بها في قلة من العيش فلما كثرت عليه الدنيا اشترت الأملاك والعقار والحمامات والحوانيت بما يغل إيراده مبلغًا في كل شهر له صورة وعمل مهمًا لزواج ابنه المذكور في أيام محمد باشا خسرو سنة سبع عشرة ومائتين وألف ودعا إليه الباشا وأعيان الوقت فاجتمع إليه شيء كثير من الهدايا ولما حضر إليه الباشا أنعم على ابنه بأربعة أكياس عنها ثمانون ألف درهم وذلك خلاف البقاشيش واتفق للمترجم في أيام الأمراء المصرية أن طائفة المجاورين بالأزهر من الشرقاويين يقطنون بمدرسة الطيبرسية بباب الأزهر وعمل لهم المترجم خزائن برواق معمر فوقع بينهم وبين المجاورين بها مشاجرة فضربوا نقيب الرواق فتعصب لهم الشيخ إبراهيم السجيني شيخ الرواق على الشرقاويين ومنعوهم من الطيبرسية وخزائنها وقهروا المترجم وطائفته فتوسط بامرأة عمياء فقيهة تحضر عنده في درسه إلى عديلة هانم ابنة إبراهيم بك فكلمت زوجها إبراهيم بك المعروف بالوالي بأن يبني له مكانًا خاصًا بطائفته فأجابه إلى ذلك وأخذ سكنًا أمام الجامع المجاور لمدرسة الجوهرية من غير ثمن وأضاف إليه قطعة أخرى وأنشأ ذلك رواقًا خاصًا بهم ونقل إليه الأحجار والعامود والرخام الذي بوسطه من جامع الملك الظاهر بيبرس خارج الحسينية وهو تحت نظر الشيخ إبراهيم السجيني ليكون ذلك نكاية له نظير تعصبه عليه وعمل به قوائم وخزائن واشترى له غلال من جريات السون وأضافها إلى أخباز الجامع وأدخلها ففي دفتره يستلمها خباز الجامع ويصرفها خبز قرصة لأهل ذلك الرواق في كل يوم ووزعها على الأنفار الذين اختارهم من أهل بلاده ومما اتفق للمترجم أن بخارج باب البرقية خانكاه أنشأتها خوند طغاي الناصرية بالصحراء على يمنة السالك إلى وهدة الجبانة المعروفة الآن بالبستان وكان الناظر عليها شخص من شهود المحكمة يقال له ابن الشاهيني فلما مات تقرر في نظيرها المترجم واستولى على جهات إيرادها فلما ولج الفرنساوية أراضي مصر وأحدثوا القلاع فوق التلول والأماكن المستعلية حوالي المدينة هدموا منارة هذه الخانكاه وبعض الحوائط الشمالية وتركوها على ذلك فلما ارتحلوا عن أرض مصر بقيت على وضعها في التخرب وكانت ساقيتها تجاه بابها في علوة يصعد إليها بمزلقان ويجري الماء منها إلى الخانكاه على حائط مبني وبه قنطرة يمر من تحتها المارون وتحت الساقية حوض لسقي الدواب وقد أدركنا ذلك وشاهدنا دوران الثور في الساقية ثم أن المترجم أبطل تلك الساقية وبنى مكانها زاوية وعمل لنفسه بها مدفنًا وعقد عليه قبة وجعل تحتها مقصورة بداخلها تابوت عال مربع وعلى أركانه عساكر فضة وبنى بجانبها قصرًا ملاصقًا لها يحتوي على أروقة ومساكن ومطبخ وكلار وذهبت الساقية في ضمن ذلك وجعلها بئر وعليه خرزة يملؤن منها بالدلو ونسيت تلك الساقية وانطمست معالمها وكأنها لم تكن وقد ذكر هذه الخانكاه العلامة المقريزي في خططه عند ذكر الخوانك لا بأس بإيراد ما نصه للمناسبة فقال خانكاه أم أنوك هذه الخانكا خارج باب البرقية بالصحراء أنشأتها الخاتون طغاي تجاه تربة الأمير طاشتمر الساقي فجاءت من أجل المباني وجعلت بها صوفية وقراء ووقفت عليها الأوقاف الكثيرة وقررت لكل جارية من جواريها مرتبًا يقوم بها ثم ترجمها بقوله طغاي الخوندة الكبرى زوج السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وأم ابنه الأمير أنوك كانت من جملة أمائه فأعتقها وتزوجها ويقال أنها أخت الأمير آفبغا عبد الواحد وكانت بديعة الحسن باهرة الجمال من السعادة ما لم يره غيرها من نساء ملوك الترك بمصر وتنعمت في ملاذ ما وصل سواها لمثلها ولم يدم السلطان على محبة امرأة سواها وصارت خوندة بعد ابنه توكاي أكبر نسائه حتى من ابنة الأمير تنكز وحج بها القاضي كريم الدين الكبير واحتفل بأمرها وحمل لها البقول في محاير طين على ظهور الجمال وأخذ لها الأبقار الحلابة فسارت معها طول الطريق لأجل اللبن الطري والجبن وكان يقلي لها الجبن في الغداء والعشاء وناهيك بمن وصل إلى مداومة البقل والجبن واللبن في كل يوم بطريق الحج فما عساه يكون بعد ذلك وكان القاضي كريم الدين وأمير مجلس وعدة من الأمراء يترجلون عند النزول ويسيرون بين يدي محفتها ويقبلون الأرض لها كما يفعلون بالسلطان ثم حج بها الأمير بشتاك في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وكان الأمير تنكز إذا جهز من دمشق تقدمة للسلطان لا بلد أن يكون لخوند طغاي منها جزء وافر فلما مات السلطان الملك الناصر استمرت عظمتها من بعده إلى أن ماتت في شهر شوال سنة تسع وأربعين وسبعمائة أيام الوباء عن ألف جارية وثمانين خصيًا وأموال كثيرة جدًا وكانت عفيفة طاهرة كثيرة الخير والصدقات والمعروف جهزت سائر جواريها وجعلت على قبر ابنها بقبة المدرسة الناصرية بين القصرين قراء ووقفت على ذلك وقفا وجعلت من جملته خبزًا يفرق على الفقراء ودفنت بهذه الخانكاه وهي من أعمر الأماكن إلى يومنا هذا انتهى كلامه‏.‏

يقول الحقير أني دخلت هذه الخانكاه في أواخر القرن الماضي فوجدت بها روحانية لطيفة وبها مساكن وسكان قاطنون بها وفيهم أصحاب الوظائف مثل المؤذن والوقاد والكناس والملاء ودخلت إلى مدفن الوقفة وعلى قبرها تركيبة مكن الرخام الأبيض وعند رأسها ختمة شريفة كبيرة على كرسي بخط جليل وهي مذهبة وعليها اسم الواقفة رحمها الله تعالى فلو أن الشيخ المترجم عمر هذه الخانكاه بدل هذا الذي ارتكبه من تخريبها لكان له بذلك منقبه وذكر حسن في حياته وبعد مماته وبالله التوفيق وللمترجم طبقات جمعها في تراجم الفقهاء الشافعية المتقدمين والمتأخرين من أهل عصره ومن قبلهم من أهل القرن الثاني عشر نقل تراجم المتقدمين من طبقات السبكي والأسنوي وأما التاخرون فنقلهم من تاريخنا هذا بالحرف الواحد وأظن أن ذلك آخر تأليفاته وعمل تاريخنا قبله مختصرًا في نحو أربعة كراريس عند قدوم الوزير يوسف باشا إلى مصر وخروج الفرنساوية منها وأهداه عدد فيه ملوك مصر وذكر في آخره خروج الفرنسيس ودخول العثمانية في نحو ورقتين وهو في غاية البرود وغلط فيه غلطات منها أنه ذكر الأشرف شعبان ابن الأمير حسين بن الناصر محمد بن قلاوون فجعله ابن السلطان حسن ونحو ذلك ولم يزل المترجم حتى تعلل ومات في يوم الخميس ثاني شهر شوال من السنة وصلى عليه بالأزهر في جمع كثير ودفن بمدفنه الذي بناه لنفسه كما ذكر ووضعوا على تابوته المذكور عمامة كبيرة أكبر من طبيزيته التي كان يلبسها في حياته بكثير وعمومًا بشاش أخضر وعصبوها بشال كشميري أحمر ووقف شخص عند باب مقصورته وبيده مقرعة يدعو الناس لزيارته ويأخذ منهم دراهم ثم أن زوجته وابنها ومن يلوذ بهم ابتدعوا له مولدًا وعيدًا في أيام مولد العفيفي وكتبوا بذلك فرمانًا من الباشا ونادى به تابع الشرطة بأسواق المدينة على الناس بالاجتماع والحضور لذلك المولد وكتبوا أوراقًا ورسائل للأعيان وأصحاب المظاهر وغيرهم بالحضور وذبحوا ذبائح وأحضروا طباخين وفراشين مدوا أسمطة بها أنواع الأطعمة والحلاوات والمحمرات والخشافات لمن حضر من الفقهاء والمشايخ والأعيان وأرباب الأشاير والبدع ونصبو قبالة تلك القبة صواري علقوا بها قناديل وبيارق وشراريب حمرًا وصفرًا يلوحها الريح واجتمع حول ذلك من غوغاء الناس وعملوا قهاوي وبياعين الحلو والمخللات والترمس المملح والفول المقلي ودهسوا ما بتلك البقعة من قبور الأموات وأوقدوا بها النيران وصبوا عليها القاذورات مع ما يلحقهم من البول والغائط وأما ضجة الأوباش والأولاد وصراخهم وفرقعتهم بالبارود وصياحهم وضجيجهم فقد شاهدنا به ما كنا نسمعه من عفاريت الترب وضرب المثل بهم فهم أقبح منهم فإن العفاريت الحقيقية لم نر لهم أفعالًا مثل هذه‏.‏

ولما مات الشيخ المترجم ومضى على موته ثلاثة أيام اجتمع المشايخ في يوم الأحد خامسه وطلعوا إلى القلعة ودخلوا إلى الباشا وذكروا له موت المترجم ويستأذنونه فيمن يجعلونه شيخًا على الأزهر فقال لهم الباشا اعملوا رأيكم واختاروا شخصًا يكون خاليًا من الأغراض وأنا أقلده ذلك فقاموا من مجلسه ونزلوا إلى بيوتهم واختلفت آراؤهم فالبعض اختار الشيخ المهدي والبعض ذكر الشيخ محمد الشنواني وأما الشيخ محمد الأمير فإنه امتنع من ذلك وكذلك ابن الشيخ العروسي والشيخ الشنواني المذكور منعزل عنهم وليس له درس بالأزهر ويقرأ دروسه بجامع الفاكهاني الذي في العقادين وبيده وظائف خدم الجامع وعند فراغه من الدروس يغير ثيابه ويكنس المسجد ويغسل القناديل ويعمرها بالزيت والفتائل حتى يكنس المراحيض فلما بلغه أنهم ذكروه تغيب ثم أن الباشا أمر القاضي وهو بهجة أفندي بأن يجمع المشايخ عنده ويتفقوا على شخص يجتمع رأيهم عليه بالشرط المذكور فأرسل إليهم القاضي وجمعهم وذلك في يوم الثلاثاء سابعه وحضر فقهاء الشافعية مثل القويسني والفضالي وكثير من المجاورين والشوام والمغاربة فسأل القاضي هل بقي أحد فقالوا لم يكن أحد غائبًا عن الحضور إلا ابن العروسي والهيثمي والشنواني فأرسلوا إليهم فحضر العروسي والهيثمي فقال وأين الشنواني فلا بد من حضوره فأرسلوا رسولًا فغاب ورجع وبيده ورقة ويقول الرسول أنه له ثلاثة أيام غائبًا عن داره وترك هذه الورقة عند أهله وقال إن طلبوني أعطوهم هذه الورقة فأخذها القاضي وقرأها جهارًا يقول فيها بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم لحضرة شيخ الإسلام أننا نزلنا عن المشيخة للشيخ بدوي الهيثمي إلى آخر ما قال فعندما سمع الحاضرون ذلك القول قاموا قومة وأكثرهم طائفة الشوام وقال بعضهم هو لم يثبت له مشيخة حتى أنه نزل عنها لغيره وقال كبارهم من المدرسين لا يكون شيخًا إلا من يدرس العلوم ويفيد الطلبة وزادوا في اللغط فقال القاضي ومن الذي ترضونه فقالوا نرضى الشيخ المهدي وكذلك قال البقية وقاموا وصافحوه وقرأوا الفاتحة وكتب القاضي إعلامًا إلى الباشا بما حصل وانفض الجمع وركب الشيخ المهدي إلى بيته في كبكبة وحوله وخلفه المشايخ وطوائف المجاورين وشربوا الشربات وأقبلت عليه الناس للتهنئة وانتظر جواب الإعلام بقية ذلك اليوم فلم يأت الجواب ومضى اليوم الثاني والمدبرون يدبرون شغلهم وأحضروا الشيخ الشنواني من المكان الذي كان متغيبًا فيه بمصر القديمة وتمموا شغلهم وأحضروا السيد منصور اليافاوي المنفصل عن مشيخة الشوام ليلًا ليعيدوه إلى مشيخة الشوام ويمنعوا الشيخ قاسمًا المتولي فعاله ولطائفته الذين تطاولوا في مجلس القاضي بالكلام وجمعوا بقية المشايخ آخر الليل وركبوا في الصباح إلى القلعة فقابلوا الباشا فخلع على الشيخ محمد الشنواني فروة سمور وجعله شيخًا على الأزهر وكذلك على السيد منصور اليافاوي ليكون شيخًا على رواق الشوام كما كان في السابق ثم نزلوا وركبوا وصحبتهم آغات الينكجرية بهيئة الموكب وعلى رأسه المجوزة الكبيرة وأمامه الملازمون بالبراقع والريش على رؤوسهم وما زالوا سائرين حتى دخلوا حارة خوشقدم فنزلوا بدار ابن الزليجي لأن دار ذات الشيخ الشنواني صغيرة وضيقة لا تسع ذلك الجمع والذي أنزله في ذلك المنزل السيد محمد المحروقي وقام له بجميع الاحتياجات وأرسل من الليل الطباخين والفراشين والأغنام والأرز والحطب والسمن والعسل والسكر والقهوة وأوقف عبيده وخدمه لخدمة القادمين للسلام والتهنئة ومناولة القهوة والشربات والبخور وماء الورد وازدحمت الناس عليه وأتوا أفواجًا إليه وكان ذلك يوم الثلاثاء رابع عشره ووصل الخبر إلى الشيخ المهدي ومن معه وحصل لهم كسوف وبطلت مشيخته ولما كان يوم الجمعة حضر الشيخ الجديد إلى الأزهر وصلى الجمعة وحضر باقي المشايخ وعملوا الختم للشيخ الشرقاوي وحصل ازدحام عظيم خصوصًا للتفرج على الشيخ الجديد وكأنه لم يكن طول دهره بينهم ولا يلتفتون إليه وبعد فراغ الختم أنشد المنشد قصيدة يرثي بها المتوفي من نظم الشيخ عبد الله العدوي المعروف بالقاضي وانفض الجميع‏.‏ ومات

الأستاذ المكرم بقية السلف الصالحين ونتيجة الخلف المعتقد الشيخ محمد

المكني أبا السعود بن الشيخ محمد جلال بن الشيخ محمد أفندي المكني بأبي المكارم بن السيد عبد المنعم بن السيد محمد المكني بأبي السرور صاحب الترجمة بن السيد القطب الملقب بأبي السرور البكري الصديقي العمري من جهة الأم تولى خلافة سجادتهم في سنة سبع عشرة ومائتين وألف عندما عزل ابن عمه السيد خليل البكري ولم تكن الخلافة في فرعهم بل كانت في أولاد الشيخ أحمد بن عبد المنعم وآخرهم السيد خليل المذكور فلما حضرت العثمانية إلى مصر واستقر في ولايتها محمد باشا خسروا سعى في السيد خليل الكارهون له وأنهوا إليه فيه ورموه بالقبائح ومنها تداخله في الفرنسيس وامتزاجه بهم وعزلوه من نقابة الأشراف وردت للسيد عمر مكرم ولم يكتفوا بذلك وذكروا أنه لا يصلح لخلافة البكرية فقال الباشا وهل موجود في أولادهم خلافة قالوا نعم وذكروا المترجم فيمن ذكروه وأنه قد طعن في السن وفقير من المال فقال الباشا الفقر لا ينفي النسب وأمر له بفرس وسرج وعباءة كعادة مركوبهم فأحضروه وألبسوه التاج والفرجية وخلع عليه الباشا فروة سمور وأنعم عليه بخمسة أكياس وأن يأخذ له فائظًا في بعض الإقطاعات ويعفى من الحلوان وسكن بدار جهة باب الخرق وراج أمره واشتهر ذكره من حينئذ وسار سيرًا حسنًا مقرونًا بالكمال جاريًا على نسق نظامهم بحسب الحال ويتحاكم لديه خلفاء الطرائق الصورية وأصحاب الأشاير البدعية كالأحمدية والرفاعية والبرهامية والقادرية فيفضل قوانينهم العادية وينتقل في أوائل شهر ربيع الأول إلى داره بالأزبكية بدرب عبد الحق فيعمل هناك وليمة المولد النبوي على العادة وكذلك مولد المعراج في شهر رجب بزاوية الدشطوطي خارج باب العدوي ولم يزل على حالته وطريقته مع انكسار النفس إلى أن ضعفت قواه وتعلل ولازم الفراش فعند ذلك طلب الشيخ الشنواني وباقي المشايخ وعرفهم أن مرضه الذي هو به مرض الموت لأنه بلغ التسعين وزيادة وأنه عهد بالخلافة على سجادتهم لولده السيد محمد لأنه بالغ رشيد والتمس منهم بأن يركبوا معه من الغد ويطلعوا إلى القلعة ويقابلوا به الباشا فأجابوه إلى ذلك وركبوا من الغد صحبته إلى القلعة فخلع عليه الباشا فروة سمور ونزل إلى داره بالأزبكية بدرب عبد الحق وتوفي المترجم في أواخر شهر شوال من السنة وحضروا بجنازته إلى الأزهر فصلوا عليه وذهبوا به إلى القرافة ودفن بمشهد أسلافهم رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الأجل المكرم المهذب في نفسه النادرة في أبناء جنسه محمد أفندي الودنلي الذي عرف بناظر المهمات ويعرف أيضًا بطبل أي الأعرج لأنه كان به عرج قدم إلى مصر في أيام قدوم الوزير يوسف باشا وولاه محمد باشا خسرو كشوفية أسيوط ثم رجع إلى مصر في ولاية محمد علي باشا فجعله ناظرًا على مهمات الدولة وسكن ببيت سليمان أفندي ميسوًا بعطفة أبي كلبة بناحية الدرب الأحمر فتقيد بعمل الخيام والسروج واليرقات ولوازم الحروب فضاقت عليه الدار فاشترى بيت ابن الدالي باللبودية بالقرب من قنطرة عمر شاه وهي دار واسعة عظيمة متخربة هي وما حولها من الدور والرباع والحوانيت فعمرها وسكن بها ورتب بها ورشات أرباب الأشغال والصنائع والمهمات المتعلقة بالدولة كسبك المدافع والجلل والقنابر والمكاحل والعربات وغير ذلك من الخيام والسروج ومصاريف طرائف العساكر الطبجية والعربجية والرماة وعمر ما حول تلك الدار من الرباع والحونيت والمسجد الذي بجواره ومكتبًا لإقراء الأطفال ورتب تدريسًا في المسجد المذكور بعد العصر وقرر فيه السيد أحمد الطحطاوي الحنفي ومعه عشرة من الطلبة ورتب لهم ألف عثماني تصرف لهم من الروزنامة وللأطفال وكسوتهم خلاف ذلك ويشتري في عيد الأضحى جواميس وكباشًا يذبح منها ويفرق على الفقراء والموظفين ويرسل إلى أصحابه عدة أكباش في عيد الأضحية إلى بيوتهم الكبش والكبشين على قدر مقاديرهم ويرسل في كل ليلة من ليالي رمضان عدة قصاع مملوءة بالثريد واللحم إلى الفقراء بالجامع الأزهر واتفق أن الباشا قصد تعمير المجراة والسواقي التي تنقل الماء من النيل إلى القلعة وكانت قد تهدمت وتخربت وتلاشت وبطل عملها مدة سنين فأحضروا المعمارجية فهولوا عليه أمرها وأخبروه أنها تحتاج خمسمائة كيس تنفق في عمارتها فعرض ذلك على المترجم فقال له‏:‏ أنا أعمرها بمائة كيس قال كيف تقول قال بل بثمانين كيسًا والتزم بذلك ثم شرع بعمارتها حتى أتمها على ما هي عليه الآن وأهدى إليه رجال دولتهم عدة أنوار معونة له فعمر أيضًا سواقيها وأدارها وجرى فيها الماء إلى القلعة ونواحيها وانتفع بها أهل تلك الجهات ورخص الماء وكثر في تلك الأخطاط وكانوا قاسوا شدة من عدم الماء عدة سنين ومما عد من مناقبه أن القلقات المقيدين بالمراكز وأبواب المدينة كانوا يأخذون من الواردين والداخلين والخارجين والمسافرين من الفلاحين وغيرهم ومهم أشياء أو أحمال ولو حطبًا أو برسيمًا أو تبنًا أو سرجينا دراهم على كل شيء ولو امرأة فقيرة معها أو على رأسها مقطف من رجيع البهائم تبيعه في الشارع وتقتات بثمنه فيحجزونها ولا يدعونها تمر حتى تدفع لهم نصف فضة ثم يأخذون أيضًا من ذلك الشيء ويأخذون على كل حمل حمار أو بغل أو جمل نصف فضة وإذا اشترى شخص من ساحل بولاق أو مصر القديمة أردب غلة أو حملة حطب لعياله أخذ منه المتقيدون عند قنطرة الليمون فإذا خلص منهم استقبله الكائنون بالباب الحديد وهكذا سائر الطرق التي يدخل منها المارة إلى المدينة ويخرجون مثل باب النصر وباب الفتوح وباب الشعرية وباب العدوي وطرق الأزبكية وباب القرافة والبرقية وطرق مصر القديمة فسعى المترجم بأبطال ذلك وتكلم مع الباشا وعرفه تضرر الناس وخصوصًا الفقراء وهؤلاء المتقيدون لهم علائف يقبضونها من الباشا كغيرهم وهذا قدر زائد مرخص له في إبطال هذا الأمر وكتب له بيور لدي بمنع هؤلاء المذكورين عن أخذ شيء من الناس جملة كافية وقيد بكل مركز شخصًا من أتباعه لمراقبتهم وأشاع ذلك في الناس فانكفوا وامتنعوا عن أخذ شيء من عامة الناس وكانوا يجمعون من ذلك مقادير من الفضة العددية يتقاسمونها آخر النهار وذلك خلاف ما يأخذونه من الأشياء المحمولة كالجبن والزبد والخيار والقثاء وأنواع البطيخ والفاكهة والبرسيم والأحطاب والخضارات وغير ذلك ومن مناقبه أيضًا أن الجاويشية والقواسة الأتراك المختصين بخدمة الباشا كتخدا كان من عوائدهم القبيحة أنهم في كل يوم جمعة يلبسون أحسن ملابسهم وينتشرون بالمدينة ويطوفون على بيوت الأعيان وأرباب المظاهر وأصحاب المناصب ويأخذون منهم البقاشيش ويسمونها الجمعية فما هو إلا أن يصطبح أحد من ذكر ويجلس مجلسه إلا واثنان أو ثلاثة عابرون عليه من غير استئذان فيقفون قبالته وبأيديهم العصي المفضضة فيعطيهم القرشين أو الثلاثة بحسب منصبه ومقامه فإذا ذهبوا وانصرفوا حضر إليه خلافهم وهكذا ولا يرون في ذلك ثقلًا ولا رذالة بل يرون أن ذلك من اللازمات الواجبة فلا يكفي أحد المقصودين الخمسون قرشًا أو أقل أو أكثر في ذلك اليوم تذهب سبهللًا فكان منهم من ينقطع في حريمه ذلك اليوم أو يتوارى ويغيب في منزله فإذا صادفوه مرة أخرى ذاكروه فيما فاتهم في السابق فإما سامحوه وامتنوا عليه بتركها أو طالبوه بها إن لم يكن ممن يخشوه فسعى أيضًا المترجم مع الباشا على منعهم من ذلك‏.

ومن مساويه أنه أول من فتح باب الزيادة في متحصل الضربخانة حتى تنبه الباشا من ذلك الوقت لأهل الضربخانة وأوقع بهم ما تقدم ذكره ومنها أحداث المكس على اللبان والحناء والصمغ على ما قيل ومن ذا الذي نرضى سجاياه كلها كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه وبالجملة فمن رأس العين يأتي الكدر كما قال الليث بن سعد لما سأله الرشيد وقال له يا أبا الحرث ما صلاح أمر زراعتها وجدبها وخصبها فبالنيل وأما صلاح أحكامها فمن رأس العين يأتي الكدر فقال له صدقت ذكر ذلك الحافظ بن حجر في المرحمة الغيثية في الترجمة الليثية وعلى كل فكان المترجم أحسن من رأينا في هذه الدولة وكان قريبًا من الخير وفعله مواظبًا على الصلوات الخمس في أوقاتها ملازمًا على الاشتغال ومطالعة الكتب والممارسة في دقائق الفنون واقتنى كتبًا كثيرة في سائر الفنون واستنباط الصنائع حتى أنه صنع الجوخ الملون الذي كان يعمل ببلاد الإفرنج ويجلب إلى الآفاق ويلبسه الناس للتجمل وكان قل وجوده بمصر وغلا ثمنه فعمل عدة أنوال ومناسج غريبة الواضع وأحضر أشخاصًا من النساجين فنسجوا الصوف بعد غزله مدات حددها لهم في الطول والعرض ثم بتسلمه رجال أعدهم لتخميره وتلبيده بالقلي والصابون منشورًا ومطويًا بكيفيات في أوقات وأيام بمباشرته لهم في العمل وإشارته ثم يضعونه مطويًا في أحواض من خشب ثخين مزفت تمتلئ بالماء من ساقية صنعها لخصوص ذلك يصب منها الماء إلى تلك الأحواض تديرها الأثوار وعلى تلك الأحواض مدقات شبيهة بمدقات الأرز تتحرك في صعودها وهبوطها من ترس خاص يدور بدوران الساقية وما يفيض من ماء الأحواض يجري إلى بستان زرعه حول ذلك فيسقي ما به من الأشجار والمزارع فلا يذهب الماء هدرًا ثم يخرجونه بعد ذلك ويبردخونه ويصبغونه بأنواع الأصباغ ويضعونه في مكبس كبير يقال له التخت صنعه لذلك وعند ذلك يتم عمله فكان الناس يذهبون للتفرج على ذلك لغرابته عندهم ثم حضر إليه شخص فرنساوي وأشار عليه بإشارات في تغيير المدقات وأفسد العمل واشتغل هو بكثرة المهمات الصعبة فتكاسل عن إعادتها ثانيًا وبطل ذلك وكان مع كثرة أشغاله ومصاريفه ليس له كاتبًا بل يكتب ويحسب لنفسه وبين يديه عدة دفاتر لكل شيء دفتر مخصوص ولا يشغله شيء عن شيء ولما اتسعت دائرته وكثرت حاشيته واجتمعت فيه عدة مناصب مضافة لنظر المهمات مثل معمل البارود وقاعة الفضة ومدابغ الجلود وغير ذلك فكان كتخدا بك يحقد عليه في الباطن لأمور بينهما حتى قيل أن نفسه طمحت في الكتخدائية فكان يتصدر في الأمور والقضايا ويرافع ويدافع ويهزل مع الباشا ويضاحكه ويرادده ويدخل عليه من غير استئذان فلم يزل الكتخدا يلقي فيه الدسائس ويعمل معدل الأشغال التي تحت نظره ويعرف الباشا بما يتوفر من ذلك حتى نزعه من نظارة جميع المهمات وقلدها صالح كتخدا الرزاز‏.‏

ومما نقمه عليه أن الكتخدا حضر لزيارة المشهد الحسيني في عصرية يوم رمضان ثم ركب متوجهًا إلى داره قبيل الغروب فصادف في طريقه عدة قصاع كبار مغطاة تحملها الرجال فسأل عنها فعرفوه أن المترجم يرسلها في كل ليلة من ليالي رمضان إلى فقراء الجامع الأزهر وبها الثريد واللحم فامتعض من ذلك وعرف الباشا أن يؤلف الناس ويتوادد إليهم بأموالك ونحو ذلك واستمر المترجم بطالًا نحو السنتين ولم يتضعضع ولم يظهر عليه تغير ونظامه ومطبخه على حاله وطعامه مبذول وراتبه جار وفي تلك المدة اشتغل بمطالعة الكتب والممارسة والمدارسة وعانى الحسابيات وصناعة التقويم حتى مهر في ذلك وعمل الدستور السنوي وما يشتمل عليه من تقويم الكواكب السيارة وتداخل التواريخ والأهلة والاجتماعات والاستقبالات وطوالع التحاويل والنصبات ويصنع بيده أيضًا الصنائع الفائقة مثل الظروف التي تأتي من بلاد الهند والإفرنج والروم ويضع فيها الكتبة محابرهم وأقلامهم فيصنعها أولًا من الخشب الرقيق والقرطاس المقوم المتلاصق ويصبغها وينقشها بأنواع الليق ويعيد على النقوشات بالسندروس المحلول ويضعها في صندوق من الزجاج صنعه لخصوص تلك الأشياء والقبورات وجفاف دهانها بحرارة الشمس المحجوب بالزجاج عن الهواء والغبار وعند تمامها تكون في غاية الحسن والظرافة والبهجة بحيث لا يشك من يراها بأنها من صناعة الهند أو الإفرنج المتقنين الصناعة وكان كلما سمع بشخص ذي معرفة لصناعة البضائع أو المعارف اجتهد في تحصيلها وتلقيها عنه بأي وجه كان ولو ببذل الرغائب وأعد بمنزله أماكن لأشخاص من أرباب المعارف ينزلهم فيها ويجري عليهم النفقات والكساوي حتى يجتني ثمار معارفهم وصنائعهم ويجتمع عنده في كل ليلة جمعة جماعة من القراء التي مساكنهم قريبة من داره فيذكر الله معهم حصة من الليل ثم يفرق فيهم دراهم ولما طال به الإهمال وفتور الأحوال والباشا قليل الإقامة بمصر وأكثر أيامه غائب عنها فحسن بباله الرحلة من مصر إلى الديار الرومية ويذهب إلى بلاده فاستأذن الباشا عند وداعه وهو متوجه إلى ناحية قبلي فأذن له وأخذ في أسباب السفر فأرسل الكتخدا إلى الباشا ودس إليه كلامًا فأرسل بمنعه ويرتب له خروجًا لمطبخه فتعوق عن السفر على غير خاطره وفي أوائل السنة حضرت إليه والدته وابنته وزوجها فأنزلهم في دار تجاه داره وأجرى عليهم ما يحتاجون إليه من النفقة فاتفق أن صهره المذكور حلف يمينًا بالطلاق الثلاث وحنث فيه ففرق بينه وبين ابنته وطرده فشكاه إلى كتخدا بك فكلمه في شأنه فلم يقبل وقال لا يجوز أن أحلل المحرم لأجلك واستمر صهره يتردد على الكتخدا ويلقي ما يلقيه في حقه من النميمة ويذكر له عنه في حقه ما يزيده غيظًا وكراهة ويقول له أنه يجمع أناسًا في كل ليلة جمعة يقرؤون ويدعون عليه وعلى مخدومك وذكر له أنه يقول لكم أن قصدت السفر إلى بلده وإنما قصده السفر إلى إسلامبول ليجتمع على مخدومه الأول لكونه تولى قبودان باشا ورياسة الدونانمة ويقول عندما أكون بدار السلطنة أفعل وأفعل وأخبرهم بحقيقة هؤلاء وأفاعيلهم وانقض عليهم أمرهم وذكر له أيضًا أنه استخرج من أحكام النجوم التي يعانيها أن الباشا يحصل له نكبة بعد مدة قريبة ويحصل ما يحصل من الفتن فيريد الخروج من مصر قبل وقوع ذلك ونحو ذلك فلما رجع الباشا من سفرته توسل المترجم بالكتخدا في أن يأخذ له إذنًا من الباشا بالسفر وهو لا يعلم سريرته ففاوض الباشا في ذلك وألقى إليه ما ألقاه حتى أوغر صدره منه ثم رد عليه بقوله إني استأذنت الباشا فلم يسهل به مفارقتك وقال أن كان عن ضيق في المعيشة فأطلق له في كل شهر كيسين عنها أربعون ألف نصف فضة فلما قال له ذلك قال‏:‏ أنا لا يكفيني هذا المقدار فإن كان فيطلق لي خمسة أكياس فقال لم يرض بأزيد مما ذكرته لك وكل ذلك مخادعة من الكتخدا ليحقق ما حشده في صدر مخدومه وما زال يتردد في طلب الإذن حتى أذن له وأضمر له القتل بعد خروجه من مصر فعند ذلك باع داره وما استجده حولها والبستان خارج قناطر السباع وما زاد عن حاجته من الأشياء والأمتعة واشترى عبيدًا وجواري وقضى لوازمه وسافر إلى رشيد فعندما مضى من نزوله يومان أو ثلاثة كتبوا إلى خليل بك حاكم الإسكندرية مرسومًا بقتله فبلغه خبر ذلك وهو بثغر رشيد فلم يصدقه وقال أي ذنب استوجب به القتل ولو أراد قتلي ما الذي يمنعه منه وأنا عنده بمصر وأن سافرت بإذنه وودعته وقبلت يديه وأخذت خاطره وهو مبشوش معي كعادته فلما حصل بالإسكندرية واستقر بالسفينة ومضى أيام وهم ينتظرون اعتدال الريح والإذن من الحاكم بالإقلاع ووصل المرسوم إلى خليل بك فأرسل إليه في وقت يدعوه ليتغدى معه في رأس التين ونظر إلى خليل بك وهو واقف في انتظاره على بعد منه فوق علوة فأجاب وخرج من السفينة فوصل إليه جماعة من العسكر وأحاطوا به فتحقق عند ذلك ما كان بلغه وهو برشيد ونظر إلى خليل بك فلم يره فقال أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي ركعتين وقام من حلاوة الروح وألقى بنفسه في البحر فضربوا عليه بالرصاص وأخرجوه وتمموا قتله وأخرجوا صناديقه وأخذوا ما فيها من الكتب لأن الباشا أرسل بطلبها وأخذ ما معه من المال والدراهم خليل بك فأعطى لولده جانبًا وأذن له بالسفر مع عياله وانقضى أمره ووصلت الكتب إلى سراية الباشا وأودعت عند ولي خوجا وتبدد الكثير منها وفرق منها عدة على غير أهلها وكانت قتلته في أواخر شهر صفر من السنة والله أعلم‏.‏

ثم دخلت سنة ثماني وعشرين ومائتين وألف استهل المحرم بيوم الاثنين سنة 1228 فيه وصل الخبر من الجهة القبلية بأن إبراهيم بك ابن الباشا قبض على أحمد أفندي ابن حافظ أفندي الذي بيده دفاتر الرزق الأحباسية وشنقه وضرب قاسم أفندي بن أمين الدين كاتب الشهر علقة قوية وكان والده أصحبهما معه ليباشرا معه الأمور ويعرفاه الأحوال وكان قاسم أفندي خصيصًا به مثل الوزير والصاحب والنديم ورتب له الباشا في كل سنة ثمانين كيسًا خلاف الخروج والكساوي وشرط عليه المناصحة في كشف المستورات وما يكون فيه تحصيل الأموال فكأنه قصر في كشف بعض الأشياء وأرسل إلى والده يعلمه بخيانته هو وكاتب الأرزاق وأنهما منهمكان في ملاذهما فأذن له في فعله بهما ما ذكر وأخذ ما كانا يجمعاه لأنفسهما وأظهر أنه إنما فعل ذلك بهما عقوبة على ارتكابهما المعصية‏.‏

وفي عشرينه حضر إبراهيم بك المذكور إلى مصر وفيه حصلت منافسة بين حسين أفندي الروزنامجي وبين شخصين من كتابه وهما مصطفى أفندي باش جاجرت وقيطاس ولعل ذلك بإغراء باطني على حسين أفندي فرفعا أمرهما إلى الباشا وعرفاه عن مصارف وأمور يفعلها حسين أفندي ويخفيها عن الباشا وأنه إذا حوسب على السنين الماضية يطلع عليه ألوف من الأكياس فعندما سمع ذلك أمرهما بمباشرة حسابه عن أربع سنوات متقدمة فخرجا من عدنه وأخذا صحبتهما مباشرًا تركيا ونزلوا على حسين غفلة بعد العصر وتوجهوا إلى منزل أخيه عثمان أفندي السروجي ففتحوا خزانة الدفاتر وأخذوها بتمامها إلى بيت ابن الباشا إبراهيم بك الدفتردار واجتمعوا في صبحها للمحاققة والحساب مع أخيه عثمان أفندي المذكور واستمروا في المناقشة والمحاققة عدة أيام مع المرافعة والمدافعة والميل الكلي على حسين أفندي ويذهبون في كل ليلة يخبرون الباشا بما يفعلون وبالقدر الذي ظهر عليه فيعجبه ذلك ويثني عليهما ويحرضهما على التدقيق فتنتفخ أوداجهما ويزيدان في الممانعة والمدافعة والمرافعة في الحساب وحسن أفندي على جليته ويظن أنه على عادته في كونه مطلق التصرف في الأموال الميرية ويبلغها إذا سئل فيها للقائم بالدولة إيرادًا ومصرفًا ليكون إجمالًا لا تفصيلًا لكونه أمينًا وعدلًا وكان الإيراد والمصرف محررًا أو مضبوطًا في الدفاتر التي بأيدي الأفندية الكتاب ومن انضم إليهم من كتاب اليهود في دفاترهم أيضًا بالعبراني لتكون كل فرقة شاهدة وضابطة على الأخرى فلما استقل هذا الباشا بمملكة الديار المصرية واستغول في تحصيل الأموال بأي وجه واستحدث أقلام المكوس وجعلها في دفاتر تحت أيدي الأفندية وكتبة الروزنامة فصارت من جملة الأموال الميرية في قبضها وصرفها وتحاويلها والباشا مرخى العنان للروزنامجي ومرخص له في الإذن والتصرف والروزنامجي كذلك مرخي العنان لأحد خواص كتابه المعروف بأحمد اليتيم لفطانته ودرايته فكان هو المشار إليه من دون الجميع ويتطاول عليهم ويمقت من فعل فعلًا دون اطلاعه وربما سبه ولو كان كبيرًا أو أعلى منزلة منه في فنه فيمتلئ غيظًا وينقطع عن حضور الديوان فيهمله ولا يسأل عنه والأفندي الكبير الذي لا يخرج عن رأيه لكونه ساد أمسد الجميع فدبروا على أحمد أفندي المذكور وحفروا له وأغروا به حتى نكبه الباشا وصادره في ثمانين كيسًا ومخدومه حسين أفندي في أربعمائة كيس وانقطع أحمد أفندي عن حضور الديوان وتقدم المتأخر وضم الباشا إلى ديوانهم من طرفه خليل أفندي وسموه كاتب الذمة بمعنى أنه لا يكتب تحويل ولا ورقة ميرى ولا خلاف ذلك مما يسطر في ديوانهم حتى يطلع عليه خليل أفندي المذكور ويرسم عليه علامته فأحاط علمه بجميع أسرارهم وكل قليل يستخبر منه الباشا فيحيطه بمعلوماته ولم يزل حتى تحول ديوانهم وانتقل إلى بيت خليل أفندي تجاه منزل إبراهيم بك ابن الباشا بالأزبكية وترأس بالديوان قاسم أفندي كاتب الشهر وقريبه قيطاس أفندي ومصطفى أفندي باش جاجرت وبعد مدة أشهر سافر إبراهيم بك وأخذ صحبته قاسم أفندي على الصورة المتقدمة والروزنامجي وولده محمد أفندي يراعيان جانب رفيقيه ولا يتعرضان لهما فيما يتصدران له ويضمانه في عهدتهما‏.‏ فلما

وصل الخبر بنكبة إبراهيم بك لقاسم أفندي

فعند ذلك قصر معهما وأظهر ابن الروزنامجي مكمون غيظه في حقهما ومانعهما أيضًا وخشن القول لهما فاتفقا على إنهاء الحال إلى باب الباشا ففعلا ما ذكر وكان حسين أفندي عندما استأذن الباشا في صرف ما يتعلق بمشايخ العلم والأفندية الكتبة والسيد محمد المحروقي بالكامل وما عداهم ربع استحقاقهم وكتب له فرمانًا بذلك فقال له الروزنامجي في بعضهم من يستحق المراعاة كبعض أهل العلم الخاملين وأهل الحرمين المهاجرين ومستوطنين بمصر بعيالهم وليس لهم إيراد يتعيشون منه إلا ما هو مرتب لهم من العلائف في كل سنة وكذلك بعض الملتزمين الذين اعتادوا سداد ما عليهم من الميري وبعضه بما لهم من الإتلافات والعلائف والغلال فقال له النظر في ذلك لرأيك فإن هذا شيء يعسر ضبط جزئياته فاعتمد ذلك وطفق يفعل في البعض بالنصف والبعض بالثلث أو الثلثين وأما العامة والأرامل فيصرف لهم الربع لا غير حسب الأمر ويقاسون في تحصيل ربع استحقاقهم الشدائد من السعي وتكرار الذهاب والتسويف والرجوع في الأكثر من غير شيء مع بعد المسافة وفيهم الكثير من العواجز فلما ترافعوا في الحساب مانع المتصدر فيما زاد على الربع وطلع إلى الباشا فعرفه بذلك فقال الباشا لا تخصموا له إلا ما كان بإذني وفرماني وما كان بدون ذلك فلا وأنكر الحال السابق منه له وقال هو متبرع فيما فعله فتأخر عليه مبلغ كبير في مدة أربع سنوات وكذلك كان يحول عليه حوالات لكبار العسكر برسول من أتباعه فلا يسعه الممانعة ويدفع القدر المحول عليه بدون فرمان اتكالًا على الحلة التي هو معه عليها فرجعوا عليه في كثير من ذلك وتأخر عليه مبلغ كبير أيضًا فتتموا حساب سنة واحدة على هذا النسق فبلغت نحو الألف كيس ومائتي كيس وكسور تبلغ في الأربع سنوات خمسة آلاف كيس فتقلق حسن أفندي وتحير في أمره وزاد وسواسه ولم يجد مغيثًا ولا شافعًا ولا دافعًا‏.‏

وفي أواخره عمل الباشا مهمًا لختان ابن بونابارته الخازندار الغائب ببلاد الحجاز وعملوا له زفة في يوم الجمعة بعد الصلاة اجتمع الناس للفرجة عليها‏.‏

وفيه أيضًا زاد الإرجاف بحصول الطاعون وواقع الموت منه بالإسكندرية فأمر الباشا كورنتينه بثغر رشيد ودمياط والبراس وشبرا وأرسل إلى الكاشف الذي بالبحيرة بمنع المسافرين المارين من البر وأمر أيضًا بقراءة صحيح البخاري بالأزهر وكذلك يقرأون بالمساجد والزوايا سورة الملك والأحقاف في كل ليلة بنية رفع الوباء فاجتمعوا إلا قليلًا بالأزهر نحو ثلاثة أيام ثم تركوا ذلك وتكاسلوا عن الحضور‏.‏

وفي يوم الاثنين تاسع عشرينه كسفت الشمس وقت الضحوة وكان المنكسف نحو ثلاثة أرباع الجرم وكانت الشمس في برج الدلو أيام الشتاء فأظلم الجو إلا قليلًا ولم ينتبه له كثير من الناس لظنهم أنها غيوم متراكمة لأنهم في فصل الشتاء‏.‏

واستهل شهر صفر بيوم الأربعاء سنة 1228 فيه في أخريات النهار هبت ريح جنوبية غربية عاصفة باردة واستمرت لعصر يوم السبت وكانت قوتها يوم الجمعة أثارت غبارًا أصفر ورمالًا مع غيم مطبق وقتام ورش مطر قليل في وفي يوم الثلاثاء سابعه وردت بشائر من البلاد الحجازية باستيلاء العساكر على جدة ومكة من غير حرب وذلك أنه لما انهزمت الأتراك في العلم الماضي ورجعوا على الصورة التي رجعوا عليها مشتتين ومتفرقين وفيهم من حضر من طريق السويس ومنهم من أتى من البر ومنهم من حضر من ناحية القصير ونفى الباشا من استعجل بالهزيمة والرجوع من غير أمره ويخشى صولته ويرى في نفسه أنه أحق بالرياسة منه مثل صالح قوج وسليمان وحجو وأخرجهم من مصر واستراح منهم ثم قتل أحمد آغا لاظ جدد ترتيبًا آخر وعرفه كبراء العرب الذين استمالهم واندرجوا معه وشيخ الحويطات أن الذي حصل لهم إنما هو من العرب الموهبين وهم عرب حرب والصفراء وأنهم مجهودون والوهابية لا يعطونهم شيئًا ويقولون لهم قاتلوا عن دينكم وبلادكم فإن بذلتم لهم الأموال وأغدقتم عليهم بالأنعام والعطاء ارتدوا ورجعوا وصاروا معكم وملكوكم البلاد فاجتهد الباشا في جمع الأموال بأي وجه كان واستأنف الطلب ورتب الأمور وأشاع الخروج بنفسه ونصب العرضي خارج بالموكب كما تقدم وجلس بالصيوان وقرر للسفر في المقدمة بونابارته الخازندار وأعطاه صناديق الأموال والكساوي وأرفق معه عابدين بك ومن يصحبهما وواظب على الخروج إلى العرضي والرجوع تارة إلى القلعة وتارة إلى الأزبكية والجيزة وقصر شبرا ويعمل الرماحة والميدان في يومي الخميس والاثنين والمصاف على طرائق حرب الإفرنج وسافر بونابارته في أواخر شعبان واستمر العرضي منصوبًا والطلب كذلك مطلوبًا والعساكر واردة من بلادها على طريق الإسكندرية ودمياط ويخرج الكثير إلى العرضي ويستمرون على الدخول إلى المدينة في الصباح لقضاء أشغالهم والرجوع أخريات النهار مع تعدي أذاهم للباعة والحمارة وغيرهم ولما غدر الباشا بأحمد آغا لاظ وقتله في أواخر رمضان ولم يبق أحد ممن يخشى سطوته وسافر عابدين بك في شوال وارتحل بعده بنحو شهر مصطفى بك داني باشا وصحبته عدة وافرة من العسكر ثم سافر أيضًا يحيى آغا ومعه نحو الخمسمائة وهكذا كل قليل ترحل طائفة بعد أخرى والعرضي كما هو ميدان الرماحة وكذلك ولما وصل بونابارته إلى ينبع البر أخذوا في تأليف العربان واستمالتهم وذهب إليهم ابن شديد الحويطي ومن معه وتقابلوا مع شيخ حرب ولم يزالوا به حتى وافقهم وحضروا به إلى بونابارته فأكرمه وخلع عليه الخلع وكذلك على من حضر من أكابر العربان فألبسهم الكساوي والفراوي السمور والشالات الكشميري ففرق عليهم من الكشمير ملء أربع سحاحير وصب عليهم الأموال وأعطى لشيخ حرب مائة ألف فرانسة عين وحضر باقي المشايخ فخلع عليهم وفرق فيهم فخص شيخ حرب بمفرده ثمانية عشر ألف فرانسة ثم رتب لهم علائف تصرف لهم في كل شهر لكل شخص خمسة فرانسة وغرارة بقسماط وغرارة عدس فعند ذلك ملكوهم الأرض والذي كان متأمرًا بالمدينة من جنسهم فاستمالوه أيضًا وسلم لهم المدينة وكل ذلك بمخامرة الشريف غالب أمير مكة وتدبيره وإشارته فلما تم ذلك أظهر الشريف غالب أمره وملكهم مكة والمدينة وكان ابن مسعود الوهابي حضر في الموسم وحج ثم ارتحل إلى الطائف وبعد رحيله فعل الشريف غالب فعله وسيلقي جزاءه ولما وصلت البشائر بذلك في يوم الثلاثاء سابعه ضربوا مدافع كثيرة ونودي في صبح ذلك بزينة المدينة ومصر وبولاق فزينوا خمسة أيام أولها الأربعاء وآخرها الأحد وقاسى الناس في ليالي هذه الأيام العذاب الأليم من شدة البرد والصقيع وسهر الليل الطويل وكان ذلك في قوة فصل الشتاء وكل صاحب حانوت جالس فيها وبين يديه مجمرة نار يتدفأ ويصطلي بحرارتها وهو ملتف بالعباءة والأكسية الصوف أو اللحاف وخرج الباشا من ليلة الأربعاء المذكور ونصبت الخيام وخرجت الجمال المحملة باللوازم من الفرش والأواني وأزيار الماء والبارود لعمل الشنائك والحرائق وفي كل يوم يعمل مرماح وشنك عظيم مهول بالمدافع وبنادق الرصاص المتواصلة من غير فاصل مثل الرعود والطبول من طلوع الشمس إلى قريب الظهر وفي أول يوم من أيام الرمي أصيب إبراهيم بك ابن الباشا برصاصة في كتفه أصابت شخصًا من السواس ونفذت منه إليه وهي باردة فتعلل بسببها وخرج بعد يومين في عربة إلى العرضي ثم رجع ولما كان يوم الأحد وقت الزوال ركب الباشا وطلع إلى القلعة وقلعوا خيام الشنك وحملوا الجمال ودخلت طوائف العسكر وأذن للناس بقلع الزينة ونزول التعاليق وكان الناس قد عمروا القناديل وأشاعوا أنها سبعة أيام فلما حصل الإذن بالرفع فكأنما نشطوا من عقال وخلصوا من السجون لما قاسوه من البرد والسهر وتعطيل الأشغال وكساد الصنائع والتكليف بما لا طاقة لهم به وفيهم من لا يملك قوت عياله أو تعمير سراجه فيكلف مع ذلك هذه التكاليف وكتب الباشا بالبشائر إلى دار السلطنة وأرسلها صحبة أمين جاويش وكذلك إلى جميع النواحي وأنعم بالمناصب على خواصه‏.‏

وفي هذا الشهر وردت أخبار بوقوع أمطار وثلوج كثيرة بناحية بحري وبالإسكندرية ورشيد بحدود الغربية والمنوفية والبحيرة وشدة برد ومات من ذلك أناس وبهائم والزروع البدرية وطف على وجه الماء أسماك موتى كثيرة فكان موج البحر يلقيه على الشطوط وغرق كثير من السفن من الرياح العواصف التي هبت في أول الشهر‏.‏

وفي سابعه يوم وصول البشارة أحضر الباشا حسين أفندي الروزنامجي وخلع عليه خلعة الإبقاء على منصبه في الروزنامة وقرر عليه ألفين وخمسمائة كيس وذلك أنهم لما رافعوه في الحساب على الطريقة المذكورة وأرسل إليه الباشا بطلب خمسمائة كيس من أصل الحساب فضاق خناقه ولم يجد له شافعًا ولا ذا مرحمة فأرسل ولده إلى محمود بك الدويدار يستجير فيه وليكون واسطة بينه وبين الباشا وهو رجل ظاهره خلاف باطنه فذهب معه إلى الباشا فبش في وجهه ورحب به وأجلسه محمود بك في ناحية من المجلس وتناجى هو مع الباشا ورجع إليه يقول له أنه يقول أن الحساب لم يتم إلى هذا الحين وأنه ظهر على أبيك تاريخ أمس خمسة آلاف كيس وزيادة وأنا تكلمت معه وتشفعت عنده في ترك باقي الحساب والمسامحة في نصف المبلغ والكسور فيكون الباقي ألفين وخمسمائة كيس تقومون بدفعها فقال ومن أين لنا هذا القدر العظيم وقد عزلنا من المنصب أيضًا حتى كنا نتداين ولا يأمننا الناس إذا كان القدر دون هذا فرجع إلى الباشا وعاد إليه يقول له لم يمكني تضعيف القدر سوى ما سامح فيه وأما المنصب فهو عليكم وفي غد يطلع والدك ويتجدد عليه الإبقاء وينكمد الخصم وعلى الله السداد ونهض وقبل يده وتوجه فنزل إلى دارهم وأخبر والده بما حصل فزاد كربه ولم يسعه إلا التسليم وركب في صبحها وطلع إلى الباشا فخلع عليه ونزل إلى داره بقهره وشرع في بيع تعلقاته وما يتحصل لديه‏.‏

وفي يوم الاثنين ثالث عشره خلع الباشا على مصطفى أفندي ونزل إلى داره وأتاه الناس يهنؤنه بالمنصب‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثالث عشرينه وردت بشائر بتملكهم الطائف وهروب المضايفي منها فعملوا شنكًا وضربوا مدافع كثيرة من القلعة وغيرها ثلاثة أيام في كل وقت أذان وشرع الباشا في تشهيل ولده إسمعيل باشا بالبشارة ليسافر إلى إسلامبول وتاريخ تملكها في سادس عشرين المحرم‏.‏

وفي هذه الأيام ابتدعوا تحرير الموازين وعملوا لذلك ديوانًا بالقلعة وأمروا بإبطال موازين الباعة وإحضار ما عندهم من الصنج فيزنون الصنجة فإن كانت زائدة أو ناقصة أخذوها وأبقوها عندهم وإن كانت محررة الوزن ختموها بختم وأخذوا على كل ختم صنجة ثلاثة أنصاف فضة وهي النصف أوقية والأوقية إلى الرطل الذي يكون وزنه غير محور يعطونه رطلًا من حديد ويدفع ثمنه مائة نصف فضة والنصف رطل خمسون وهكذا وهو باب ينجمع منه أكياس كثيرة‏.‏

وفيه أيضًا طلب الباشا من عرب الفوائد غرامة سبعين ألف فرانسة فعصوا ورمحوا بإقليم الجيزة وأخذوا المواشي وشلحوا من صادفوه ورمح كاشف الجيزة عليهم فصادف منهم أباعر محملة أمتعة لهم وصحبتهم نساء وأولاد فأخذهم ورجع بهم‏.‏

وفيه سافر إبراهيم بك ابن الباشا إلى ناحية قبلي ووصلت الأخبار بوقوع الطاعون بالإسكندرية فاشتد خوف الباشا والعسكر مع قساوتهم وعسفهم وعدم مرحمتهم‏.‏

واستهل شهر ربيع الأول بيوم الخميس سنة 1228 فيه قلدوا شخصًا يسمى حسين البرلي وهو الكتخدا عند كتخدا بك وجعلوه في منصب بيت المال وعزلوا رجب آغا وكان إنسانًا سهلًا لا بأس به فلما تولى هذا أرسل لجميع مشايخ الخطط والحارات وقيد عليهم بأنهم يخبرونه بكل من مات من ذكر أو أنثى ولو كان ذا أولاد وورثة أو غير ذلك وكذلك على حوانيت الأموات وأرسل فرمانات إلى بلاد الأرياف والبنادر بمعنى ذلك‏.‏

وفي يوم الأحد رابعه طلب الباشا حسن أفندي الروزنامجي وطلب منه ما قرره عليه وكان قد باع حصصه وأملاكه وأدر مسكنه فلم يوف إلا خمسمائة كيس فقال له مالك لك توف القدر المطلوب وما هذا التأخير وأنا محتاج إلى المال فقال لم يبق عندي شيء وقد بعت التزامي وأملاكي وبيتي وتداينت من الربويين حتى وفيت خمسمائة كيس وها أنا بين يديك فقال له هذا كلام لا يروج علي ولا ينفعك بل أخرج المال المدفون فقال لم يكن عندي مال مدفون وأما الذي أخبرك عنه فيذهب فيخرجه من محله فحنق منه وسبه وقبض على لحيته ولطمه على وجهه وجرد السيف ليضربه فترجى فيه الكتخدا والحاضرون فأمر به فبطحوه وأمر القواسة الأتراك بضربه فضربوه بالعصي المفضضة التي بأيديهم بعد أن ضربه هو بيده عدة عصي وشج جبهته حتى أتوا عليه ثم أقاموه وألبسوه فروته وحملوه وهو مغشى عليه وأركبوه حمارًا وأحاط به خدمه وأتباعه حتى أوصلوه إلى منزله وأرسل معه جماعة من العسكر يلازمونه ولا يدعونه يدخل إلى حريمه ولا يصل إليهم منه أحد وركب في أثره محمود بك الدويدار بأمر الباشا وعبر داره ودار أخيه عثمان أفندي المذكور وأخذه صحبته إلى القلعة وسجنوه وأما ولده وأخواه فإنهم تغيبوا من وقت الطلب واختفوا ونزل في اليوم الثاني إبراهيم آغا أغات الباب يطالبه بغلاق ثمانمائة كيس وقتئذ فقال له وكيف أحصل شيئًا وأنا رجل ضعيف وأخي عثمان عندكم في الترسيم وهو الذي يعينني ويقضي أشغالي وأخذتم دفاتري المختصة بأحوالي مع ما أخذتموه من الدفاتر فأقام عنده إبراهيم آغا برهة ثم ركب إلى الباشا وكلمه في ذلك فأطلقه له أخاه ليسعى في التحصيل‏.‏ وفي

حادي عشره عدى الباشا إلى بر الجيزة بقصد السفر إلى بلاد الفيوم

وأخذ صحبته كتبة مباشرين مسلمين ونصارى وأشاع أن سفره إلى الصعيد ليكشف على الأراضي وروكها وارتحل في ليلة الثلاثاء ثالث عشره بعد أن وجه ابنه إسمعيل إلى الديار الرومية في تلك الليلة بالبشارة‏.‏

وفي خامس عشرينه حضر لطيف آغا راجعًا من إسلامبول وكان قد توجه ببشارة فتح الحرمين وأخبروا أنه لما وصل إلى قرب دار السلطنة خرج لملاقاته الأعيان وعند دخوله إلى البلدة عملوا له موكبًا عظيمًا مشى فيه أعيان الدولة وأكابرهم وصحبته عدة مفاتيح زعموا أنها مفاتيح مكة وجدة والمدينة وضعوها على صفائح الذهب والفضة والعطر والطيب وخلفهم الطبول والزمور وعملوا لذلك شنكًا ومدافع وأنعم عليه السلطان وأعطاه خلعًا وهدايا وكذلك أكابر الدولة وأنعم عليه الخنكار بطوخين وصار يقال له لطيف باشا‏.‏

وفيه وردت الأخبار بقدوم قهوجي باشا ومعه خلع وأطواخ للباشا وعدة أطواخ بولايات لمن يختار تقليده فاحتفل الباشا به عندما وصلته أخباره وأرسل إلى أمراء الثغور بالإسكندرية ودمياط بالاعتناء بملاقاته عند وروده على ثغر منها‏.‏

وفيه حضر خليل بك حاكم الإسكندرية إلى مصر فرارًا من الطاعون لأنه قد فشا بها ومات أكثر عسكره وأتباعه‏.‏

واستهل شهر ربيع الثاني بيوم الأحد سنة 1228 في ثامنه حضر الباشا على حين غفلة من الفيوم إلى الجيزة وأخبروا أنه لما وصل إلى ناحية بني سويف ركب بغلة سريعة العدو ومعه بعض خواصه على الهجن والبغال فوصل إلى الفيوم في أربع ساعات وانقطع أكثر المرافقين له ومات منهم سبعة عشر هجينًا‏.‏

وفي يوم الثلاثاء عاشره عملوا مولد المشهد الحسيني المعتاد وتقيد لتنظيمه السيد المحروقي الذي تولى النظارة عليه وجلس ببيت السادات المجاور للمشهد بعد أن أخلوه له وفي ذلك اليوم أمر الباشا بعمل كورنتينه بالجيزة ونوه بإقامته بها وزاد به الخوف والوهم من الطاعون لحصول القليل منه بمصر وهلك الحكيم الفرنساوي وبعض نصارى أروام وهم يعتقدون صحة الكورنتينة وأنها تمنع الطاعون وقاضي الشريعة الذي هو قاضي العسكر يحقق قولهم ويمشي على مذهبهم ولرغبة الباشا في الحياة الدنيا وكذلك أهل دائرته وخوفهم من الموت يصدقون قولهم حتى أنه اتفق أنه مات بالمحكمة عند القاضي شخص من أتباعه فأمر بحرق ثيابه وغسل المحل الذي مات فيه وتبخيره بالبخورات وكذلك غسل الأواني التي كان يمسها وبخروها وأمروا أصحاب الشرطة أنهم يأمرون الناس وأصحاب الأسواق بالكنس والرش والتنظيف في كل وقت ونشر الثياب وإذا ورد عليهم مكاتبات خرقوها بالسكاكين ودخنوها بالبخور قبل ورودها ولما عزم الباشا على كورنتينة الجيزة أرسل في ذلك اليوم بأن ينادوا بها على سكانها بأن من كان يملك قوته وقوت عياله ستين يومًا وأحب الإقامة فليمكث بالبلدة وإلا فليخرج منها ويذهب ويسكن حيث أراد في غيرها ولهم مهلة أربع ساعات فانزعج سكان الجيزة وخرج من خرج وأقام من أقام وكان ذلك وقت الحصاد ولهم مزارع وأسباب مع مجاوريهم من أهل القرى ولا يخفى احتياجات الشخص لنفسه وعياله وبهائمه فمنعوا جميع ذلك حتى سدوا خروق السور والأبواب ومنعوا المعادي مطلقًا وأقام الباشا ببيت الأزبكية لا يجتمع بأحد من الناس إلى يوم الجمعة فعدى في ذلك اليوم وقت الفجر وطلع إلى قصر الجيزة وأوقف مركبين الأولى ببر الجيزة والأخرى في مقابلتها ببر مصر القديمة فإذا أرسل الكتخدا أو المعلم غالي إليه مراسلة ناولها المرسل للمقيد بذلك في طرف مزراق بعد تبخير الورقة بالشيح واللبان والكبريت ويتناولها منه الآخر بمزراق آخر على بعد منهما وعاد راجعًا فإذا قرب من البر تناولها المنتظر له أيضًا بمزراق وغمسها في الخل وبخرها بالبخور المذكور ثم يوصلها لحضرة المشار إليه بكيفية أخرى فأقام أيامًا وسافر إلى الفيوم ورجع كما ذكر وأرسل مماليكه ومن يعز عليه ويخاف عليه من الموت إلى أسيوط‏.‏

وفي يوم السبت سابعه نودي بالأسواق بأن السيد محمد المحروقي في شاه بندر التجار بمصر وله الحكم على جميع التجار وأهل الحرف والمتسببين في قضاياهم وقوانينهم وله الأمر والنهي فيهم‏.‏

وفيه وصل إلى مصر عدة كبيرة من العساكر الرومية على طريق دمياط ونصبوا لهم وطافا خارج باب النصر وحضر فيهم نحو الخمسمائة نفر أرباب صنائع بنائين ونجارين وخراطين فأنزلوهم بوكالة بخط الخليفة‏.‏

وفي يوم الأحد ثامنه تقلد الحسبة الخواجا محمود حسن ولبس الخلعة وركب وشق المدينة وأماه الميزان فرسم برد الموازين إلى الأرطال الزياتي التي عبره الرطل منها أربع عشرة وقية في جميع الأدهان والخضراوات على العادة القديمة ونقص من أسعار اللحم وغيره ففرح الناس بذلك ولكن لم يستمر ذلك‏.‏

وفي يوم الأربعاء حادي عشره بين الظهر والعصر كانت السماء مصحبة والشمس مضيئة صافية فما هو إلا والسماء والجو طلع به غيم وقتام ورياح نكباء غربية جنوبية وأظلم ضوء الشمس وأرعدت رعدتين الثانية أعظم من الأولى وبرق ظهر ضوءه وأمطرت مطرًا متوسطًا ثم سكن الريح وانجلت السماء وقت العصر وكان ذلك سابع بشنس القبطي وآخر يوم من نيسان الرومي فسبحان الملك الفعال مغير الشؤون والأحوال وحصل في تاليه يوم الجمعة مثل ذلك الوقت أيضًا غيوم ورعود كثيرة ومطر أزيد من اليوم الأول‏.‏

واستهل شهر جمادى الثانية سنة 1228 في ثاني عشره وصل في النيل على طريق دمياط آغا من طرف الدولة يقال له قهوجي باشا السلطان فاعتنى الباشا بشأنه وحضر إلى قصره بشبرا وأمر بإحضار عدة من المدافع وآلات الشنك وعملوا أمام القصر بساحل النيل تعاليق وقناديل وقدات ونبه على الطوائف بالاجتماع بملابسهم وزينتهم ووصل الآغا المذكور يوم الأحد فخرج الأغوات والسفاشية والصقلية وهم لابسون القواويق وجميع العساكر الخيالة ليلًا فما طلعت الشمس حتى اجتمعوا بأسرهم جهة شبرا وانتظموا في موكب ودخلوا من باب النصر ويقدمهم طوائف الدلاة وأكابرهم ويتلوهم أرباب المناصب مثل الآغا والوالي والمحتسب وبواقي وجاقات المصرية ثم موكب كتخدا بك وبعده موكب الآغا الواصل وفي أثره ما وصل معه من الخلع وهي أربع بقج وخنجران مجوهران وسيف وثلاث شلنجات عليها ريش مجوهر وخلف ذلك العساكر الخيالة والتفكجية وخلفهم النوبة التركية فكان مدة مرورهم نحو ساعتين وربع وليس فيهم رجالة مشاة سوى الخدم وقليل عسكر مشاة وأما بقية العسكر فهم متفرقون بالأسواق والأزقة كالجراد المنتشر خلاف من يرد منهم في كل وقت من الأجناس المختلفة برًا وبحرًا فمن الخلع الواردة ما هو مختص بالباشا وهو فروة وخنجر وريشة بشلنج وأطواخ ولابنه إبراهيم بك مثل ذلك وأسكنوا ذلك الآغا ورفيقه وأتباعهما بمنزل إبراهيم بك ابن الباشا بالأزبكية بقنطرة الدكة وأرسل بإحضار ولده من ناحية قبلي فحضر على الهجن ولبس الخلعة بولايته على الصعيد فنزل بالجيزة وعدى إلى بر مصر عند أبيه بقصر شبرا ولبس الخلعة وأقام عند أبيه ثلاث ليال ثم عدى إلى بر الجيزة وعندما وصل إلى البر أمر بتغريق السفينة بما فيها من الفرش ثم أخرجوها وكذلك أمر من معه من الرجال وفي خامس عشرينه سافر إبراهيم بك راجعًا إلى الصعيد‏.‏

وفيه حضر عرضي الباشا الذي كان سافر في ربيع الأول إلى الجهة القبلية ومعه الكتبة أيضًا المسلمون لتحرير حساب الأقباط ومساحة الأراضي‏.‏

وفي أواخره نودي على أهل الجيزة باستمرار الكورنتينة شهري رجب وشعبان وأن يعطوا لهم فسحة للمتسببين والباعة ثلاثة أيام وكذلك لمن يخرج أو إذا دخل لا يخرج إذا كلن عنده ما يكفيه ويكفي عياله في مدة الشهرين والثلاثة أيام المفسح لهم فيها ليقضوا أشغالهم واحتياجاتهم فخرج أهل البلدة بأسرهم ولم يبق منهم إلا القليل النادر القادر وأيضًا تفرقوا في البلاد وبقي الكثير منهم حول البلدة وفي الغيطان حول بيادرهم وأجرانهم وعملوا لهم أعشاشًا تظلهم من حر الشمس ووهج الهجير وينادي المقيم بالبلدة بحاجته من أعلى السور لرفيقه أو صاحبه الذي هو خارج البلدة فيجيبه ويرد جوابه من مكان بعيد ولا يمكنونهم من تناول الأشياء وأما العسكر فإنهم يدخلون ويخرجون ويقضون حوائجهم ويشترون الخضراوات والبطيخ وغيره ويبيعونه على المقيمين بالبلدة بأغلى الأثمان وإذا أراد أحد من أهل البلدة الخروج منعوه من أخذ شيء من متاعه أو بهيمته أو شاته أو حماره ولا يخرج إلا مجرد بطوله‏.‏

وفي أواخره وصل من الديار الرومية واصل وعلى يده مرسوم فقرأ بالمحكمة في يوم الأحد ثامن عشرينه بحضرة كتخدا بك والقاضي والمشايخ وأكبر الدولة والجم الغفير من الناس ومضمونه الأمر للخطباء في المساجد يوم الجمعة على المنابر بأن يقولوا عند الدعاء للسلطان فيقولوا السلطان بن السلطان بتكرير لفظ السلطان ثلاث مرات محمود خان بن السلطان عبد الحميد خان بن السلطان أحمد خان مغازي خادم الحرمين الشريفين لأنه استحق أن ينعت بهذه النعوت لكون عساكره افتتحت بلاد الحرمين وغزت الخوارج وأخرجتهم منها لأن المفتي أفناهم بأنهم كفار لتفكيرهم المسلمين ويجعلونهم مشركين ولخروجهم على السلطان وقتلهم الأنفس وأن من قاتلهم يكون مغازيًا ومجاهدًا وشهيدًا إذا قتل ولما انقضى المجلس ضربوا مدافع كثيرة من القلعة وبولاق والجيزة وعملوا شنكًا واستمر ضربهم المدافع عند كل أذان عشرة أيام وذلك ونحوه من الخور‏.‏

واستهل شهر رجب سنة 1228 في منتصفه حضر بونابارته الخازندار من الديار الحجازية على طريق القصير‏.‏

وفي أواخره سافر قهوجي باشا الذي تقدم ذكر حضوره بالخلع والشلنجات والخناجر بعدما أعطى خدمته مبلغًا من الأكياس وأصحب معه الباشا هدية عظيمة لصاحب الدولة وأكابرهم وقدره من الذهب العين أربعين ألف دينار ومن النصفيات يعني نصف الدينار ستون ألفًا ومن فروق البن خمسمائة فرق ومن السكر المكرر مرتين مائة قنطار ومن المكرر مرة واحدة مائتي قنطار ومائتا قدر صيني الذي يقال له أسكي معدن مملوءة بالمربيات وأنواع الشربات الممسك المطيب المختلف الأنواع ومن الخيول خمسون جوادًا مرختة بالجوهر والنمدكش‏.‏

واللؤلؤ والمرجان وخمسون حصانًا من غير رخوت وأقمشة هندية كشميري ومقصبات وشاهي ومهترخان في عدة تعابي بقج وبخور عود وعنبر وأشياء أخرى‏.‏

وفيه أيضًا حضر آغا يقال له جانم أفندي وصحبته مرسوم قرئ بالديوان في يوم الاثنين مضمونه البشارة بمولود ولد للسلطان وسموه عثمان واجتمع لسماع ذلك المشايخ والأعيان وضربوا بعد قراءته شنكًا ومدافع واستمر ذلك سبعة أيام في كل وقت من الأوقات الخمسة‏.‏

وفي يوم الثلاثاء عشرينه الموافق الثالث عشر مسرى القبطي وافى النيل المبارك أذرعه ونودي بذلك في الأسواق على العادة وكثر اجتماع غوغاء الناس للخروج إلى الروضة وناحية السد والولائم في البيوت المطلة على الخليج وما يحصل من اجتماع الأخلاط أما جري الماء كما هو المعتاد في كل سنة وأنه إذا نودي بالوفاء حصل ذلك الاجتماع في تلك الليلة وكسورا السد في صبحها عادة لا تتخلف فيما نعلم فلما كان آخر النهار ورد الخبر بأن الباشا أمر بتأخير فتح الخليج إلى يوم الخميس ثانية فكان كذلك وخرج الباشا في صبح يوم الخميس وكسر السد وجرى واستهل شهر رمضان بيوم الجمعة سنة 1228 وفي خامسه يوم الثلاثاء حضر ابن الباشا المسمى بإسمعيل من الديار الرومية ووصل إلى ساحل النيل بشبرا وضربوا لوصوله مدافع من القلعة وبولاق وشبرا والجيزة وتقدم أنه توجه ببشارة الحرمين وأكرمته الدولة وأعطوه أطواخًا‏.‏

وفي عاشره حضر قاصد من الديار الرومية ووصل إلى ساحل النيل وصحبته بشارة بمولودة ولدت لحضرة السلطان فعملوا الديوان في القلعة واجتمع له المشايخ والأعيان وأكابر الدولة وقرئ الفرمان الواصل ف شأن ذلك وفي مضمونه الأمر للكافة بالفرح والسرور وعمل الشنك وبعد الفراغ من ذلك ضربت المدافع من أبراج القلعة واستمر ضربها في كل وقت أذان خمسة أيام وهذا لم يعهد في الدولة الماضية إلا للأولاد الذكور وأما الإناث فليس لهن ذكر‏.‏

وفي ليلة الأربعاء سابع عشرينه عمل الباشا جمعية ببيت الأزبكية وحضر الأعيان والمشايخ والقضاة الثلاثة وهم بهجت أفندي المنفصل عن قضاء مصر وصديق أفندي المتوجه إلى قضاء مكة المنفصل عن قضاء مصر العام الذي قبله والقاضي المتوجه إلى المدينة فعقدوا عقد ابنه إسمعيل باشا على ابنة عارف بك التي حضرت بصحبته من الديار الرومية وعقدوا عقد أخته ابنة الباشا على محمد أفندي الذي تقلد الدفتردارية ولما تم ذلك قدموا لهم تعابي بقج في كل واحدة أربع قطع من الأقمشة الهندية وهي شال كشميري وطاقة قطني هندي وطاقة شاهي وفرقوا على الدون من الناس الحاضرين محارم ثم أن الباشا شرع في الاهتمام إلى سفر الحجاز وتشهيل المطاليب واللوازم فمن جملة ذلك أربعون صندوقًا من الصفيح المشمع داخلها بالشمع والمصطكي وبالخشب من خارج وفوق الخشب جلود البقر المدبوغ ليودع بها ماء النيل المغلي لشربه وشرب خاصته ومثلها في كل شهر يتقيد بعمل ذلك وغيره السيد المحروقي ويرسله في كل شهر‏.‏

واستهل شهر شوال بيوم الأحد سنة 1228 في سابعه يوم السبت أداروا كسوة الكعبة وكانت مصنوعة من نحو خمس سنوات ومودعة في مكان بالمشهد الحسيني فأخرجوها في مستهل الشهر وقد توسخت لطول المدة فحلوها ومسحوها وكان عليها اسم السلطان مصطفى فغيروه وكتبوا اسم السلطان محمود فاجتمع الناس للفرجة عليها وكان المباشر لها الريس حسن المحروقي فركب في موكبها‏.‏

وفي ليلة السبت رابع عشره خرج محمد علي باشا مسافرًا إلى الحجاز وكان خروجه وقت طلوع الفجر من يوم السبت المذكور إلى بركة الحاج وخرج الأعيان والمشايخ لوداعه بعد طلوع النهار فأخذوا خاطره ورجعوا آخر النهار وركب هو متوجهًا إلى السويس بعد مضي ثمان ساعات وربع من النهار وبرزتن الخيالة والسفاشية إلى خارج باب النصر ليذهبوا على طريق البر وقبل خروج الباشا بيومين قدمت هجانة مبشرون بالقبض على عثمان المضايفي بناحية الطائف وكان قد جرد على الطائف فبرز إليه الشريف غالب وصحبته عساكر الأتراك والعربان فحاربوه وحاربهم فأصيب جواده فنزل إلى الأرض واختلط بالعسكر فلم يعرفوه فخرج من بينهم ومشى وتباعد عنهم نحو أربع ساعات فصادفه جماعة من جند الشريف فقبضوا عليه وأصابته جراحة وعندما سقط من بين قومه ارتفع الحرب فيما بين الفريقين أخريات النهار ولما أحضروه إلى الشريف غالب جعل في رقبته الجنزير والمضايفي هذا زوج أخت الشريف وخرج عنه وانضم إلى الوهابيين فكان أعظم أعوانهم وهو الذي كان يحارب لهم ويقاتل ويجمع قبائل العربان ويدعوهم عدة سنين ويوجه السرايا على المخالفين ونما أمره واشتهر لذلك ذكره في الأقطار وهو الذي كان افتتح الطائف وحاربها وحاصرها وسبى النساء وهدم قبة ابن عباس الغريبة الشكل والوصف وكان هو المحارب للعسكر مع عربان حرب في العام الماضي بناحية الصفراء والجديدة وهزمهم وشتت شملهم ولما قبضوا عليه أحضروه إلى جدة واستمر في الترسيم عند الشريف ليأخذ بذلك وجاهة عند الأتراك الذي هو على ملتهم ويتحقق لديهم نصحه لهم ومسالمته إياهم وسيلقى قريبًا منهم جزاء فعله ووبال أمره كما سيتلى عليك بعضه بعد قليل‏.‏

واستهل شهر ذي القعدة بيوم الثلاثاء سنة 1228 وفي أوائله وردت أخبار من الجهة الرومية بأن عساكر العثمانيين استولوا على بلاد بلغارد من أيدي طائفة الصرب وكانوا استولوا عليها نيفًا وأربعين سنة والله أعلم بصحة ذلك‏.‏

وفيه عزل محمود حسن من الحسبة وتقلدها عثمان آغا المعروف بالورداني‏.‏

وفي خامس عشره وصل عثمان المضايفي صحبة المتسفرين معه إلى الريدانية آخر الليل وأشيع ذلك فلما طلعت الشمس ضربوا مدافع من القلعة إعلامًا وسرورًا بوصوله أسيرًا وركب صالح بك السلحدار في عدة كبيرة وخرجوا لملاقاته وإحضاره فلما واجه صالح بك نزع من عنقه الحديد وأركبه هجينًا ودخل به إلى المدينة وأماه الجاويشية والقواسة الأتراك وبأيديهم العصي المفضضة وخلفه صالح بك وطوائفه وطلعوا به إلى القلعة وأدخله إلى مجلس كتخدا بك وصحبته حسن باشا وطاهر باشا وباقي أعيانهم ونجيب أفندي قبي كتخدا الباشا ووكيله بباب الدولة وكان متأخرًا عن السفر ينتظر قدوم المضايفي ليأخذه بصحبته إلى دار السلطنة فلما دخل عليهم أجلسوه معهم فحدثوه ساعة وهو يجيبهم من جنس كلامهم بأحسن خطاب وأفصح جواب وفيه سكون وتؤدة في الخطاب وظاهر عليه آثار الإمارة والحشمة والنجابة ومعرفة مواقع الكلام حتى قال الجماعة لبعضهم البعض يا أسفا على مثل هذا إذا ذهب إلى إسلامبول يقتلونه ولم يزل يتحدث معهم حصة ثم أحضروا الطعام فواكلهم ثم أخذه كتخدا بك إلى منزله فأقام عنده مكرمًا ثلاثًا حتى تمم نجيب أفندي أشغاله فأركبوه وتوجهوا به إلى بولاق وأنزلوه في السفينة مع نجيب أفندي ووضعوا في عنقه الجنزير وانحدروا طالبين الديار الرومية وذلك يوم الاثنين حادي عشرينه‏.‏

وفي أواخره وصلت أخبار بأن مسعود الوهابي أرسل قصادًا من طرفه إلى ناحية جدة فقابلوا طوسون باشا والشريف غالب خلع عليهم وأخذهم إلى أبيه فخاطبهم وسألهم عما جاؤوا فيه فقالوا الأمير مسعود الوهابي يطلب الإفراج عن المضايفي ويفتديه بمائة ألف فرانسة وكذلك يريد إجراء الصلح بينه وبينكم وكف القتال فقال لهم فإنه سافر إلى الدولة وأما الصلح فلا ناباه بشروط وهو أن يدفع لنا كل ما صرفناه على العساكر من أول ابتداء الحرب إلى وقت تاريخه وان يأتي بكل ما أخذه واستلمه من الجواهر والذخائر التي كانت بالحجرة الشريفة وكذلك ثمن ما استهلك منها وأن يأتي بعد ذلك ويتلاقى معي وأتعاهد معه ويتم صلحنا بعد ذلك وإن أبى ذلك فنحن ذاهبون إليه فقالوا له اكتب له جوابًا فقال لا أكتب جوابًا لأنه لم يرسل معكم جوابًا ولا كتابًا وكما أرسلكم بمجرد الكلام فعودوا إليه كذلك فلما أصبح الصباح وقت انصرافهم أمر باجتماع العساكر فاجتمعوا ونصبوا ميدان الحروب والرمي المتتابع من البنادق والمدافع ليشاهد الرسل ذلك ويروه ويخبروا عنه مرسلهم‏.‏

واستهل شهر ذي الحجة بيوم الأربعاء سنة 1228 وفي ليلة الأحد تاسع عشره وقعت كائنة لطيف باشا وذلك أن المذكور مملوك الباشا أهداه له عارف بك وهو عارف أفندي بن خليل باشا المنفصل عن قضاء مصر نحو خمس سنوات واختص به الباشا وأحبه ورقاه في الخدم والمناصب إلى أن جعله أنختار أغاسي أي صاحب المفتاح وصار له حرمة زائدة وكلمة في باب الباشا وشهرة فلما حصلت النصرة للعسكر واستولوا على المدينة وأتوا بمفاتيح زعموا أنها مفاتيح المدينة كان هو المتعين بها للسفر للديار الرومية بالبشارة للدولة وأرسلوا صحبته مضيان الذي كان متأمرًا بالمدينة ولما وصل إلى دار السلطنة ووصلت أخباره احتفل أهل الدولة بشأنه احتفالًا زائدًا ونزلوا لملاقاته في المراكب في مسافة بعيدة ودخلوا إلى إسلامبول في موكب جليل وأبهة عظيمة إلى الغاية وسعت أعيان الدولة وعظماؤها بين يديه مشاة وركبانًا وكان يوم دخوله يومًا مشهودًا وقتلوا مضيان المذكور في ذلك اليوم وعلقوه أعلى باب السراية وعملوا شنانك ومدافع وأفراحًا وولائم وأنعم السلطان على لطيف المذكور وأعطاه أطواخًا وأرسل إليه أعيان الدولة الهدايا والتحف ورجع إلى مصر في أبهة زائدة وداخله الغرور وتعاظم في نفسه ولم يحتفل الباشا بأمره وكذلك أهل دولته لكونه من جنس المماليك وأيضًا قد تأسست عداوتهم في نفوسهم وكراهتهم له أشد من كراهتهم لأبنائنا وخصوصًا كتخدا بك فإنه أشد الناس عداوة وبغضًا في جنس المماليك وطفق يلقي لمخدومه ما يغير خاطره عليه ومنها أنه يضم إليه أجناسه من المماليك البطالين ليكونوا عزوته ويغترون به بحيث أن الباشا فوض إليه الأمر إن ظهر منه شيء في غيابه وسافر الباشا في أثر ذلك واستمر لطيف باشا مع الجماعة في صلف وهم يحدقون عليه ويرصدون حركاته ويتوقعون ما يوجب الإيقاع به وهو في غفلة وتيه لا يظن بهم سوا فطلب من الكتخدا الزيادة في رواتبه وعلائفه لسعة دائرته وكثرة حواشيه ومصاريفه فقال له الكتخدا أنا لست صاحب الأمر وقد كان هنا ولم يزدك شيئًا فراسله وكاتبه فإن أمر بشيء فأنا لا أخالف مأمورياته وتزايد هو والحاضرون في الكلام والمفاقمة ففارقهم على غير حالة ونزل إلى داره وأرسل في العشية إلى مماليك الباشا ليحضروا إليه في الصباح ليعمل معهم ميدان رماحة على العادة وأسر إليهم أن يصبحوا ما خف من متاعهم وأسلحتهم فلما أصبحوا استعدوا كما أشار إليهم وشدوا خيولهم ووصل خبرهم إلى الكتخدا فطلب كبيرهم وسأله فأخبره أن لطيف باشا طلبهم ليعمل معهم رماحة فقال أن هذا اليوم ليس هو موعد الرماحة ومنعهم من الركوب وفي الحال أحضر حسن باشا وأحمد آغا المسمى بونابارته الخازندار وصالح بك السلحدار وإبراهيم آغا أغات الباب ومحو بك وخلافهم ودبوس أوغلي وإسمعيل باشا بن الباشا ومحمود بك الدويدار وتوافق الجميع على الإيقاع به وأصبحوا يوم السبت مجتمعين وقد بلغه الخبر وأخذوا عليه الطرق وأرسلوا يطلبونه للحضور في مجلسهم فامتنع وقال ما المراد من حضوري فنزل إليه دبوس أوغلي وخدعه فلم يقبل فركب وعاد إليه ثانيًا يأمره بالخروج من مصر إن لم يحضر مجلسهم فقال أما الحضور فلا يكون وأما الخروج فلا أخالف فيه بشرط أن يكون بكفالة حسن باشا أو طاهر باشا فإني لا آمن أن يتبعوني ويقتلوني وخصوصًا وقد أوقفوا بجميع الطرق ففارقه دبوس أوغلي فتحير في أمره وأمر بشد الخيول وأراد الركوب فلم يتسع له ذلك ولم يزل في نقض وإبرام إلى الليل فشركوا الجهات وأبواب المدينة أيضًا بالعساكر وكثر جمعهم بالقلعة وأبوابها وفي تاسع ساعة من الليل نزل حسن باشا ونحو بك في نحو الألفين من العسكر واحتاطوا بداره في سويقة العزى وقد أغلق داره فصاروا يضربون عليه بالبنادق والقرابين إلى آخر الليل فلما أعياهم ذلك هجموا على دور الناس التي حوله وتسلقوا عليه من الأسطحة ونزلوا إلى سطح داره وقتلوا من صادفوه من عسكره وأتباعه واختفى هو في مخبأة أسفل الدار مع ستة أشخاص من الجواري ومملوك واحد وعلم بمكانهم أغات الحريم فداروا في الدار يفتشون عليه فلم يجدوه فنهبوا جميع ما في الدار ولم يتركوا بها شيئًا وسبوا الحريم والجواري والمماليك والعبيد وكذلك ما حوله وما جاوره من دور الناس ودور حواشيه وهم نيف وعشرون دارًا حتى حوانيت الباعة وغيرهم التي بالخطة ودار علي كتخدا صالح الفلاح هذا ما جرى بتلك الناحية وباقي نواحي المدينة لا يدورون بشيء من ذلك إلا أنهم لما طلع نهار يوم الأحد وخرج الناس إلى الأسواق والشوارع وجدوا العساكر مائجة وأبواب البلد مغلقة وحولها العساكر مجتمعة ومنهم من يعدو ومعه شيء من المنهوبات فامتنع الناس من فتح الحوانيت والقهاوي التي من عادتهم التبكير بفتحها وظنوا ظنًا واستمر لطيف باشا بالمخبأة إلى الليل واشتد به الخوف وتيقن أن العبد الطواشي سينم عليه ويعرفهم بمكانه فلما أظلم الليل وفرغوا من النهب والتفتيش وخلا المكان خرج من المخبأة بمفرده ونط من الأسطحة حتى خلص إلى دار خازنداره وصحبته كبير عسكره وآخر يسمى يوسف كاشف دياب من بقايا الأجناد المصرية وباتوا بقية تلك الليلة ويوم الاثنين والكتخدا وأهل دولته يدأبون في الفحص والتفتيش عليه ويتهمون كثيرًا من الناس بمعرفة مكانه ومحمود بك داره بالقرب من داره أوقف أشخاصًا من عسكره على الأسطحة ليلًا ونهارًا لرصده وكان المذكور له اعتقادًا في شخص يسمى حسن أفندي اللبلبي ولبلب لفظ تركي علم على الحمص المجوهر أي المقلي ومن شأن حسن أفندي هذا أنه رجل درويش يدخل بيوت الأعيان والأكابر من الناس الأتراك وغيرهم وفي جيوبه من ذلك الحمص فيفرق على أهل المجلس منه ويلاطفهم ويضاحكهم ويمزح معهم ويعرف باللغة التركية ويجانس الفريقين فمن أعطاه شيئًا أخذه ومن لم يعطه لم يطلب منه شيئًا وبعضهم يقول له انظر ضميري أو فالي فيعد على سبحته أزواجًا وأفرادًا ثم يقول ضميرك كذا وكذا فيضحكون منه فوشى بحسن أفندي هذا إلى كتخدا بك وباقي الجماعة بأنه كان يقول لطيف باشا أنه سيلي سيادة مصر وأحكامها ويقول له هذا وقت انتهاز الفرصة في غيبة الباشا ونحو ذلك وجسموا الدعوى وأنه كان يعتقد صحة كلامه ويزوره في داره ورتب له ترتيبًا وأشاعوا أنه أراد أن يضم إليه أجناس المماليك والخاملين من العساكر وغيرهم ويعطيهم نفقات ويريد إثارة فتنة ويعتال الكتخدا بك وحسن باشا وأمثالهما على حين غفلة ويتملك القلعة والبلد وأن اللبلبي يغريه على ذلك وكل وقت يقول له جار وقتك ونحو ذلك من الكلام الذي المولى جل جلاله أعلم بصحبته فأرسل كتخدا بك إلى اللبلبي فحضر بين يديه في يوم الاثنين فسأله عنه فقال لا أدري فقال انظر في حسابك هل نجده أم لا فأمسك سبحته وعدها كعادته وقال إنكم تجدونه وتقتلونه ثم إن الكتخدا أشار إلى أعوانه فأخذوه ونزلوا به وأركبوه على حماره وذهبوا به إلى بولاق فأنزلوه في مركب وانحدروا به إلى شلقان وشلحوه من ثيابه وأغرقوه في البحر‏.‏

وفي ذلك اليوم عرفهم أغات حريم لطيف باشا بعد أن هددوه وقرروه عن محل أستاذه وأخبرهم أنه في المخبأة وأراهم المكان ففتحوه فوجدوا به الجواري الستة والمملوك ولم يجدوه معهم فسألوهم عنه فقالوا أنه كان معنا وخرج ليلة أمس ولم نعلم أين ذهب فأخرجوهم وأخذوا ما وجدوه في المخبأة من متاع وسروج ومصاغ ونفوذ وغير ذلك فلما كان بعد الغروب من ليلة الثلاثاء اشتد بلطيف باشا الخوف والقلق فأراد أن ينتقل من بيت الخازندار إلى مكان آخر فطلع إلى السطح وصعد على حائط يريد النزول منها هو ورفيقه البيوكباشي ليخلص إلى حوش مجاور لتلك الدار فنظرهما شخص من العسكر المرصد بأعلى سطح دار محمود بك الدويدار فصاح على القريبين منه لينتبهوا له فعندما صاح ضربه لطيف باشا رصاصة فأصابته وتنبهت المرصدون بالنواحي عند سماع الصيحة وبندقة الرصاصة وتسارعوا إليه من كل ناحية وقبضوا عليه وعلى ورفيقه وأتوا بهما إلى محمود بك فبات عنده ورمحت المبشرون إلى بيوت الأعيان يبشرونهم بالقبض عليه ويأخذون على ذلك البقاشيش فلما طلع نهار يوم الثلاثاء طلع به محمود بك إلى القلعة وقد اجتمع أكابرهم بديوان الكتخدا واتفقوا على قتله ووافقهم على ذلك إسمعيل ابن الباشا بما نمقوه عليه لأنه في الأصل مملوك صهره عارف بك فعندما وصل إلى الدرج قبض عليه الأعوان وهو بجانب محمود بك فقبض بيده على علاقة سيفه وهو يقول بالتركي عرظندايم يعني أنا في عرضك وماتت يده على قيطان السيف فأخرج بعضهم سكينًا وقطع القيطان وجذبوه إلى أسفل سلم الركوبة وأخذوا عمامته وضربه المشاعلي بالسيف ضربات ووقع إلى الأرض ولم ينقطع عنقه فكملوا ذبحه مثل الشاة وقطعوا رأسه وفعلوا برفيقه كذلك وعلقوا رؤوسهما تجاه باب زويلة طول النهار‏.‏ وفي

ثاني يوم وهو يوم الأربعاء ثاني عشرينه

أحضروا أيضًا يوسف كاشف دياب وقتلوه أيضًا عند باب زويلة وانقضى أمرهم والله أعلم بحقيقة الحال وفتح أهل الأسواق حوانيتهم بعد ما تخيل الناس بأنها ستكون فتنة عظيمة وان العسكر ينهبون المدينة وخصوصًا الكائنون بالعرضي خارج باب النصر فإنهم جياع وبردانون وغالبهم مفلس لأن معظمهم من الجدد الواردين الذين لم يحصل لهم كسب من نهب أو حادث واقع أدركوه ولولا أنهم أوقفوا عساكر عند الأبواب منعتهم من العبور لحصل منهم غاية الضرر‏.‏

وانقضت السنة وحوادثها التي ربما استمرت إلى ما شاء الله بدوامها وانقضائها فمنها أن الباشا لما فرغ من أمر الجهة القبلية بعدما ولى ابنه إبراهيم باشا عليها وحرر أراضي الصعيد وقاس جملة أراضيه وفدنه وضبطه بأجمعه ولم يترك منه إلا ما قل وضبط لديوانه جميع الأراضي الميرية والإقطاعات التي كانت للملتزمين من الأمراء والهوارة وذوي البيوت القديمة والرزق الأحباسية والسراوي والمتأخرات والمرصد على الأهالي والخيرات وعلى البر والصدقة وغير ذلك مثل مصارف الولاية التي رتبها أهلي الخير المتقدمون لأربابها رغبة منهم في الخير وتوسعة على الفقراء المحتاجين وذوي البيوت والدواوير المفتوحة المعدة إطعام الطعام للضيفان والواردين والقاصدين وأبناء السبيل والمسافرين فمن ذلك أن بناحية سهاج دار الشيخ عارف وهو رجل مشهور كأسلافه ومعتقد بتلك الناحية وغيرها ومنزله محط الرجال الوافدين والقاصدين من الأكابر والأصاغر والفقراء والمحتاجين فيقرى الكل بما يليق بهم ويرتب لهم التراتيب والاحتياجات وعند انصرافهم بعد قضاء أشغالهم يزودوهم ويهاديهم بالغلال والسمن والعسل والتمر والأغنام وهذا دأبه ودأب أسلافه من قبله على الدوام والاستمرار ورزقته المرصدة التي يزرعها وينفق منها ستمائة فدان فضبطوها ولم يسمحوا له منها إلا بمائة فدان بعد التوسط والترجي والتشفع وأمثال ذلك بجرجا وأسيوط ومنفلوط وفرشوط وغيرها وإذا قال المتشفع والمترجي للمتآمر ينبغي مراعاة مثل هذا ومسامحته لأنه يطعم الطعام وتنزل بداره الضيفان فيقول ومن كلفه بذلك فيقال له وكيف تفعل إذا نزلت به الضيوف على حسب ما اعتادوه فيقول يشترون ما يأكلون بدارهم من أكياسهم أو يغلقون أبوابهم ويستقلون بأنفسهم وعيالهم ويقتصدون في معايشهم فيعتادون ذلك وهذا الذي يفعلونه تبذير وإسراف ونحو ذلك على حسب حالهم وشأنهم في بلادهم ويقول الديوان أحق بهذا فإن عليه مصاريف ونفقات ومهمات ومحاربات الأعداء وخصوصًا افتتاح بلاد الحجاز ولما حضر إبراهيم باشا إلى مصر وكان أبوه على أهبة السفر إلى الحجاز حضر الكثير من أهالي الصعيد يشكون ما نزل بهم ويستغيثون ويتشفعون بوجهاء المشايخ وغيرهم فإذا خوطب الباشا في شيء من ذلك يعتذر بأنه مشغول البال واهتمامه بالسفر وأنه أناط أمر الجهة القبلية وأحكامها وتعلقاتها بابنه إبراهيم باشا وأن الدولة قلدته ولاية الصعيد فأنا لا علاقة لي بذلك وإذا خوطب ابنه أجابهم بعد المحاججة بما تقدم ذكره ونحو ذلك وإذا قيل له هذا على مسجد فيقول كشفت على المساجد فوجدتها خرابًا والنظار عليها يأكلون الإيراد والخزينة أولى منهم ويكفيهم أني أسامحهم فيما أكلوه في السنين الماضية والذي وجدته عامرًا أطلقت له ما يكفيه وزيادة وأني وجدت لبعض المساجد أطيانًا واسعة وهي خراب ومعطلة والمسجد يكفيه مؤذن واحد وأجرته نصفان وأمام مثل ذلك وأما فرشه وأسراجه فإني أرتب له راتبًا من الديوان في كل سنة فإذا تكرر عليه الرجاء أحال الأمر على أبيه ولا يمكن العود إليه لحركاته وتنقلاته وكثرة أشغاله وزوغانه ولما زاد الحال بكثرة المتشكين والواردين وبرز الباشا للسفر بل وسافر بالفعل فلم يمكث بعده ابنه إلا أيامًا قليلة يبيت بالجيزة نيلة وعند أخيه ببولاق ليلة أخرى ثم سافر راجعًا إلى الصعيد يتمم ما بقي عليه لأهله من العذاب الشديد فإنه فعل بهم فعل التتار عندما جالوا بالأقطار وأذل أعزة أهله وأساء أسوأ لسوء معهم في فعله فيسلب نعمهم وأموالهم ويأخذ أبقارهم وأغنامهم ويحاسبهم على ما كان في تصرفهم واستهلكوه أو يحتج عليهم بذنب لم يقترفوه ثم يفرض عليهم المغارم الهائلة والمقادير من الأموال التي ليست أيديهم إليها طائلة ويلزمهم بتحصيلها وغلاقها وتعجيلها فتعجز أيديهم عن الإتمام فعند ذلك يجري عليهم أنواع الآلام من الضرب والتعليق والكي بالنار والتحريق فإنه بلغني والعهدة على الناقل أنه ربط الرجل ممدودًا على خشبة طويلة وأمسك بطرفيها الرجال وجعلوا يقلبونه على النار المضرمة مثل الكباب وليس ذلك ببعيد على شاب جاهل سنه دون العشرين وحضر من بلده ولم ير غير ما هو فيه لم يؤدبه مؤدب ولا يعرف شريعة ولا مأمورات ولا منهيات وسمعت أن قائلًا قال له وحق من أعطاك قال ومن هو الذي أعطاني قال له ربك قال له إنه لم يعطني شيئًا والذي أعطاني أبي فلو كان الذي قلت فإنه كان يعطيني وأن ببلدي وقد جئت وعلى رأسي قبع مزفت مثل المقلاة فلهذا لم تبلغه دعوى ولم يتخلق إلا بأخلاق التي دربه عليها والده وهي تحصيل المال بأي وجه كان فأنزل بأهل الصعيد الذل والهوان فلقد كان به من المقادم والهوارة كل شهم يستحي الرئيس من مكالمته والنظر إليه بالملابس الفاخرة والأكراك السمور والخيول المسومة والأنعام والأتباع والجند والعبيد والأكمام الواسعة والمضايف والأنعامات والإغداقات والتصدقات وخصوصًا أكابرهم المشهورون وهمام وما أدراك ما همام وقد تقدم في ترجمته ما يغني عن الإعادة فخربت دور الجميع وتشتتوا وماتوا غرباء ومن عسر عليه مفارقة وطنه جرى عليه ما جرى على غيره وصار في عداد المزارعين وقد رأيت بعض بني همام وقد حضروا إلى مصر ليعرضوا حالهم على الباشا لعله يرفق بهم ويسامحهم في بعض ما ضبطه ابنه من تعلقاتهم يتعيشون به وهم أولاد عبد الكريم وشاهين ولدى همام الكبير ومعهم حريمهم وجواريهم وزوجة عبد الكريم ويقولون لها الست الكبيرة وهي أم أولاده فلما وصلوا إلى ساحل مصر القديمة ورأى أرباب ديوان المكس الجواري وعدتهن ثلاثة حجزوهن وطالبوهم بكمركهن فقالوا هؤلاء جوارنا للخدمة وليسوا مجلوبين للبيع فلم يعبئوا بذلك وقبضوا منهم ما قبضوه ثم أنهم لم يتمكنوا من الباشا وكان إذ ذاك قد توجه إلى الفيوم وعاد إلى العرضي مسافرًا إلى الحجاز فاستمروا بمصر حتى نفذت نفقاتهم ورأيتهم مرة مارين بالشارع وهم مخلقنون وفيهم صغير مراهق واتفق أنهم تفاقموا مع ابن عمهم وهو عمر وشكوه إلى مصطفى بك دالي باشا بأنه حاف عليهم في أشياء من استحقاقهم دعوى مفلس على مفلس فأحضره وحبسه مدة وما أدرى ما حصل لهم بعد ذلك وهكذا‏.‏

تخفض العالي وتعلى من سفل‏.‏

اللهم إنا نعوذ بك من زوال النعم ونزول النقم‏.‏

وأما من مات في هذه السنة فمات الأستاذ الشهير والجهبذ النحرير الرئيس المفضل والفريد المبجل نادرة عصره ووحيد دهره الشيخ شمس الدين محمد أبو الأنوار ابن عبد الرحمن المعروف بابن عارفين سبط بني الوفاء وخليفة السادات الحنفاء وشيخ سجادتها ومحط رحال سيداتها وشهرته غنية عن مزيد الإفصاح ومناقبه أطهر من البيان والإيضاح وأمه السيدة صفية بنت الأستاذ جمال الدين يوسف أبي الإرشاد ابن وفا وتزوج بها الخواجا عبد الرحمن المعروف بعارفين فأولدها المترجم وأخاه الشيخ يوسف وكان أسن منه فتربى مع أخيه في حجر السيادة والصيانة والحشمة وقرأ القرآن وتولع بطلب العلم وحضر دروس أشياخ الوقت وتلقى طريقه أسلافه وأورادهم وأخرابهم عن خاله الأستاذ شمس الدين محمد أبو الإشراق ابن وفا عن عمه الشيخ عبد الخالق عن أبيه الشيخ يوسف أبي الإرشاد عن والده أبي التخصيص عبد الوهاب إلى آخر السند المنتهى إلى الأستاذ أبي الحسن الشاذلي ولازم العلامة القدوة الشيخ موسى البجيرمي فحضر عليه كما ذكره في برنامج شيوخه أم البراهين وشرح المصنف عليها والآجرومية وشرحها للشيخ خالد وشرح الستين مسألة للجلال المحلي وهو أول أشياخه ثم لازم الشيخ خليلًا المغربي فحضر عليه شرح إيساغوجي لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري وشرح العصام على السمرقندية والفاكهي على القطر ومتن التوضيح والأشموني على الخلاصة ورسالة الوضع والمغنى وحضر دروس شيخ الشيوخ الشيخ أحمد الميجري الملوي في صحيح البخاري والشيخ عبد السلام علي الجوهرة وأجازه بمروياته ومؤلفاته الإجازة العامة وكذلك إجازة الشيخ أحمد الجوهري الشافعي إجازة عامة وإجازة خاصة بطريقة مولاي عبد الله الشريف ولازم وقرأ وشارك ولده الشيخ محمد الجوهري الصغير وحضر أيضًا دروس الأستاذ الحفني في شرح التلخيص للسعد التفتازاني وشرح التحرير لشيخ الإسلام وشرح الإلفية لابن عقيل والأشموني وحضر دروس الشيخ عمر الطحلاوي المالكي في شرح الآجرومية للشيخ خالد وشيئًا من شرح الهمزية للعلامة بن حجر وشيئًا من تفسير الجلالين والبيضاوي وحضر الشيخ مصطفى السندوبي الشافعي في شرح ابن القاسم الغزي علي أبي شجاع وعلي السيد البليدي في شرح التهذيب للخبيصي وعلى الشيخ عطية الأجهوري الشافعي في شرح الخطيب علي أبي شجاع وشرح التحرير لشيخ الإسلام وتفسير الجلالين وعلى الشيخ محمد الناري شرح السلم لمصنفه وشرح التحرير وعلى الشيخ أحمد القوصي شرح الورقات الكبير لابن قاسم العبادي وسمع المسلسل بالأولية من عالم أهال المغرب في وقته الشيخ محمد بن سودة التاودي الفاسي المالكي عند وروده مصر في سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف بقصد الحج وكتب له إجازة بخطه مع سنده وإجازة أيضًا بدلائل الخيرات وأحزاب الشاذلي وكذلك تلقي الإجازة من الأستاذ المسلك عبد الوهاب بن عبد السلام العفيفي المرزوقي وتلقى أيضًا أمام الحرم المكي الشيخ إبراهيم ابن الرئيس محمد الزمزمي الإجازة بالمسبعات واستجازه هو أيضًا بما لأسلافه من الأحزاب وكناه بأبي الفوز وذلك في سنة تسع وسبعين ومائة وألف بمكة سنة حجة المترجم‏.‏

ولما مات السيد محمد أبو هادي وانقرضت بموته سلسلة أولاد الظهور وذلك في سنة ست وسبعين ومائة وألف وتاقت نفس المترجم لخلافة بيتهم وتهيأ لذلك ولبس التاج أيضًا والعصابة التي يجعلونها عليه فلم يتم له ذلك وعورض بسيدي أحمد بن إسمعيل بك المعروف بالدالي المكني بأبي الإمداد لأنه في طبقته في النسب وأمه السيدة أم المفاخر ابنة الشيخ عبد الخالق باتفاق أرباب الحل والعقد لكونه من بيت الأمارة وقد صار منزلهم كمنازل الأمراء في الاتساع والتأنق والمجالس المزخرفة والقيعان والقصور وفي ضمنه البستان بالنخيل والأشجار وما يجتنى منها من الفواكه والثمار لأن معظم الوجاهة والسيادة في هذه الأزمان بالمساكن الأنيقة والملابس الفاخرة وكثرة الإيراد والخدم والحشم خصوصًا إن اقترن بذلك شيء من المزايا المتعدية من بذل الإحسان وإكرام الضيفان فعند ذلك يصير ربه قطب الزمان وفريد العصر والأوان فلو فرضنا أن شخصًا اجتمعت فيه أوصاف الكمالات المحنوية والمعارف الدينية وخلا عما ذكر وكان صعلوكًا قليل المال كثير العيال فلا يعد في الرجال ولا يلتفت إليه بحال حكم إلهية وأحكام ربانية فلما تقلدها سيدي أحمد المذكور دون المترجم بقي متطلعًا يسلي نفسه بالأماني ثم قصد الحج في سنة تسع وسبعين كما ذكر فلما عاد من الحج تزوج بوالدة الشيخ محمد أبي هادي وأسكنها بمنزل ملاصق لدار الخليفة توصلًا وتقربًا لمأموله ولم تطل مدة الشيخ أبي الإمداد وتوفي سنة اثنتين وثمانين كما ذكرناه في ترجمته وعند ذلك لم يبق للمترجم معارض وقد مهد أحواله وتثبت أمره مع من يخشى صولته ومعارضته من الأشياخ وغيرهم ودفن السيد أحمد وركب المترجم في صبحها مع أشياخ الوقت والشيخ أحمد البكري وجماعة الحزب ونقبائهم إلى الرباط بالخرنفش ودخل إلى خلوة جدهم فجلس بها ساعة وقرأ أرباب الحزب وظيفتهم ثم ركب مع المشايخ إلى أمير البلدة وكان إذ ذاك علي بك فخلع عليه وركبوا إلى دارهم ومحل سيادتهم المعهودة وأصبح متقلدًا خلافة أسلافهم ومشيخة سجادتهم فكان لها أهلًا ومحلًا وتقدم على أخيه الشيخ يوسف مع كونه أسن منه لما فيه من زيادة الفضيلة ولما ثبطه به من مخادعته وسلامة صدر أخيه وحسن ظنه فيه وانتظم أمره وأحسن سلوكه بشهامة وحشمة ورآسة وتؤدة وأدب مع الأشياخ والأقران وتحبب إلى أرباب المظاهر والأكابر واستجلاب الخواطر وسلوك الطرائق الحميدة والتباعد عن الأمور المخلة بالمروءة والأخذ بالحزم والرفق مع الاشتغال في بعض الأحيان بالمطالعة والمذاكرة في المسائل الدينية والأدبية ومعاشرة الفضلاء ومجالستهم والمناقشة معهم في النكات واقتناء الكتب من كل فن كل ذلك مع الجد والتحصيل للأسباب الدنيوية وما يتوصل به إلى كثرة الإيراد بحسن تداخل وجميل طريقة مبعدة عما يخل بالمقدار بحيث يقضي مرامه من العظيم وجميل الفضل له ويراسل ويكاتب ويشاحح على أدنى شيء ويحاسب ولا يدفع لأرباب الأقلام عوائدهم المقررة في الدفاتر بل يرون أخذها منه من الكبائر وكذلك دواوين المكوس المبني على الإجحاف فكل ما نسب له فيها فهو معاف وكلما طال الأمد زاد المدد وخصوصًا إذا تقلبت الدول وارتفعت السفل كان الأسبق القديم في أعينهم هو الجليل العظيم وهم لديه صغار لا ينظر إليهم إلا بعين الاحتقار ولما انقرضت بقايا الشيوخ الذين كان يهابهم ويخضع لهم ويتأدب معهم وكانوا على طرائق الأقدمين في العفة والانجماع عما يخل بتعظيم العلم وأهله والتباعد عن بني الدنيا إلا بقدر الضرورة وخلف من بعدهم من هم على خلاف ذلك وهم أعاظم مدرسي الوقت فأحدقوا به وأكثروا من الترداد عليه وعلى موائده وبالغوا في تعظيمه وتقبيل يده ومدحوه بالقصائد البليغة طمعًا في صلاته وجائزه القليلة وحصول الشهرة لهم وزوال الخمول والتعارف بمن يتردد إلى داره من الأمراء والأكابر وزاد هو أيضًا وجهًا ووجاهة بمجالستهم ولا يريهم فضلًا بسعيهم إليه ويزداد كبرًا وتيهًا وبلغ به أنه لا يقوم لأكثرهم إذا دخل عليه ومنهم من يدخل بغاية الأدب فيضم ثيابه ويقول عند مشاهدته يا مولاي يا واحد فيجيبه هو بقوله يا مولاي يا دائم يا علي يا حكيم فإذا حصل بالقرب منه بنحو ذراعين حبا على ركبتيه ومد يمينه لتقبيل يده أو طرف ثوبه وأما الأدون فلا يقبل إلا طرف ثوبه وكذلك أتباعه وخدمه الخواص وإذا كان من أهل الذمة أو كبار المباشرين وقبلوا يده وخاطبهم في أشغاله وهم قيام وانصرفوا طلب الطست والإبريق وغسل يده بالصابون لإزالة أثر أفواههم ولا يجيب في رد التحية إلا بقول خير خير ولا يقطع غالب أوقاته مع مجالسيه وخاصته ومسامريه إلا بانتقاد أهل مصره وغيبة أهل عصره وتنبسط نفسه لذلك وإليه يصغى كلا إن الإنسان ليطغى وفي سنة تسعين ومائة وألف ورد إلى مصر عبد الرزاق أفندي رئيس الكتاب ومن أكابر أهل الدولة فتداخل معه واصطحب به وأهدى إليه هدايا واستدعاء وإضافة وحضر في ذلك العام محمد باشا المعروف بالعزتي واليًا على مصر فأنهى إليه بمعونة الرئيس المذكور احتياج زاوية أسلافه للعمارة ودعا الباشا لزيارة قبورهم في يوم المولد المعتاد السنوي وذكر له المقصود وأظهر به بعض الخلل وزين له ذلك الفعل وأنه من تمام الشعائر الإسلامية والمشاهد التي يجب الاعتناء بشأنها والسعي والطواف بحرمها وكان المعين والسفير والمساعد في ذلك أيضًا شيخنا محدث العصر السيد محمد مرتضى وهو عند العثمانيين مقبول القول وكان عبد الرزاق الرئيس يتلقى عنه المسلسلات والإجازات وقرأ عليه مقامات الحريري فأجاب الباش ووعد بإتمام ذلك وكاتب الدولة وورد الأمر بإطلاق خمسين كيسًا لمصرف العمارة من خزينة مصر فشرع في هدم حوائطها ووسعها عن وضعها الأصلي واندرس في جدرانها قبور ومدافن وحوطها وزخرفها بالنقوش وأنواع الرخام الملون والمموه بالذهب والأعمدة والرخام ثم كاتب الدولة وأنهى أن ذلك القدر لم يكف وأن العمارة لم تكمل والإحسان بالإتمام فأطلقوا له خمسين كيسًا أخرى وأتمها على هذا الوضع الذي هو عليه الآن وأنشأ حولها مساكن ومخادع ووسع القصر الملاصق لها المختص به لجلوسه ومواضع الحريم أيام المولد ثم أرسل في أثر ذلك كتخداه ووزيره الشيخ إبراهيم السندوبي إلى دار السلطنة بمكاتبات وعرض لرجال الدولة والتمس رفع ما على قرية زفتا وغيرها مما في حوزه من الالتزام من المال الميري الذي يدفع إلى الديوان في كل سنة وكان إبراهيم المذكور غاية في الدهاء والحيل الساسانية والتصنعات الشيطانية والتخليطات الوهمية وتقلبات الملامية فتمم مرامه بما ابتعه من المخرقة والإيهامات الملفقة ولم يدفع ما جرت به العادة من العوائد بل اجتلب خلاف ذلك فوائد ولما حضر حسن باشا الجزايرلي إلى مصر على رأس القرن وخرج الأمراء المصريون إلى الجهة القبلية واستباح أموالهم وقبض على نسائهم وأولادهم وأمر بإنزالهم سوق المزاد وبيعهم زاعمًا أنهم أرقاء المال وفعل ذلك فاجتمع الأشياخ وذهبوا إليه فكان المخاطب له المترجم قائلًا له أنت أتيت إلى هذه البلدة وأرسلك السلطان إلى إقامة العدل ورفع الظلم كما تقول أو لبيع الأحرار وأمهات الأولاد وهتك الحريم فقال هؤلاء أرقاء لبيت المال فقال له هذا لا يجوز ولم يقل به أحد فاغتاظ غيظًا شديدًا وطلب كاتب ديوانه وقال له اكتب أسماء هؤلاء وأخبر السلطان بمعارضتهم لأوامره فقال له السيد محمود البنوفري أكتب ما تريد بل نحن نكتب اسمانا بخطنا فأفحم وانكف عن إتمام قصده وأيضًا تتبع أموالهم وودائعهم وكان إبراهيم بك الكبير قد أودع عند المترجم وديعة وكذلك مراد بك أودع عند محمد أفندي البكري وديعة وعلم ذلك حسن باشا فأرسل عسكرًا إلى السيد البكري فلم تسعه المخالفة وسلم ما عنده وأرسل كذلك يطلب من المترجم وديعة إبراهيم بك فامتنع من دفعها قائلًا أن صاحبها لم يمت وقد كتبت على نفسي وثيقة فلا أسلم ذلك ما دام صاحبها في قيد الحياة فاشتد غيظ الباشا منه وقصد البطش به فحماه الله منه ببركة الأنصار للحق فكان يقول لم أر في جميع الممالك التي ولجتها من اجترأ على مخالفتي مثل هذا الرجل فإنه أحرق قلبي ولما ارتحل إلى مصر ورجع المصريون إلى دولتهم حصل من مراد بك في حق السيد البكري ما حصل وغرمه مبلغًا عظيمًا باع فيه إقطاعه في نظير تفريطه في وديعته واحتج عليه بامتناع نظيره وحصل له قهر تمرض بسببه وتسلسل به المرض حتى مات ويقال أن مراد بك أرسل إليه الحكيم ودس له السم في العلاج ثم مات رحمه الله وكانت منه هفوة ولا بد للجواد من كبوة ومن لم ينظر في العواقب فليس له الدهر بصاحب حتى قيل أنه هو الذي عرف حسن باشا عن ذلك لينال به زيادة في الحظوة عنده ويترك منها حصة لنفسه بقرينة ما ظهر عليه في عقب ذلك من التوسع ولقد غلب على ظنه بل وظن غالب الناس انقراض المصريين وغفلوا عن تقلبات الدهر في كل حين وأما المترجم فإنه لما أخذ بالحزم سلم ورد الأمانة إلى صاحبها حين قدم وحسنت فيهم سيرته وزادت عندهم محبته وفي عقب ذلك نزل السيد محمد أفندي البكري المذكور عن وظيفة نظر المشهد الحسيني للمترجم وأرسل إليه بصندوق دفاتر الوقف وكان نظر المشهد يبيتهم مدة طويلة ووعده المترجم بأن يبدله عنه وظيفة النظر على وقف الشافعي فلما حصل الفراغ واحتوى على الدفاتر نكث وطمع على الوظيفتين بل ومد يده إلى غيرهما لعدم من يعارضه ولا يدافعه من الأمراء وغيرهم مثل نظر المشهد النفيسي والزيتي وباقي الأضرحة الكثيرة الإيراد التي يصاد بها الدنيا من كل ناد وتأتيها الخلائق بالقربانات وأنواع النذورات وأخذ يحاسب المباشرين وخدمة الأضرحة المذكورة على الإيرادات والنذورات ويحاققهم على الذرات ويسبهم ويهينهم ويضربهم بالجريد المحمص على أرجلهم وفعل ذلك بالسيد بدوي مباشر المشهد الحسيني وهو من وجهاء الناس الذين يخشى جانبهم ومشهور ومذكور في المصر وغيره وكان معظم انقباض السيد البكري ونزوله عن نظر المشهد ضيق صدره من المذكور ومناكدته له واستيلاءه على المحل ومحصول الوقف والتقصير في مصارفه اللازمة وينسب التقصير للناظر وكان رحمه الله عظيم الهمة يغلب عليه الحياء والمسامحة ويرى خلاف ذلك من سفاسف الأمور فتنصل من ذلك وترك فعله لغيره فلما أوقع المترجم بالسيد بدوي وباقي عظماء السدنة ما أوقع انقمع الباقون وذلوا وخافوه أشد الخوف ووشوا على بعضهم البعض وطفق يطالبهم بالنذور والشموع والأغنام والعجول وما يتحصل من صندوق الضريح من المال وكانوا يختصون بذلك كله وأقلهم في رفاهية من العيش وجمع المال مع السفالة والشحاذة حتى من الفقير المعدم المفلس والكسرة الناشفة وكان إذا أراد الإيقاع بشخص أو إهانته وخشي عاقبة ذلك أو لو ما يلحقه ممن ينتصر له مهد له الطريق سرًا قبل الإيقاع به فإنه لما أراد ضرب السيد بدوي طاف على الشيخ العروسي وأمثاله وأسرهم ما في نفسه وامتدت يده أيضًا إلى شهود بيت القاضي فكان إذا بلغه أن أحدهم كتب حجة استبدال وإجارة مكان مدة طويلة لناظر أم مستحق وكان ذلك المكان يؤول بعد انقراض مستحقيه لضريح من الأضرحة التي تحت نظره أحضر ذلك الكاتب ووبخه ولعنه ولربما ضربه وأبطل تلك المكاتبة ومحاها من سجل القاضي أو يصالحونه على تنفيذ ذلك مع أنها لا تؤول إلى تلك الجهة إلا بعد سنين وأعوام متطاولة وقد نص علماء الشرع على أن الوقف والنذر للقبور والأضرحة باطل فإن قيل بصحته على الفقراء قلنا أن سدنة هذه الأضرحة ليسوا بفقراء بل هم الآن أغنى الناس والفقراء حقيقة خلافهم من أولاد الناس الذين لا كسب لهم والكثير من أهل العلم الخاملين والذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ولما استولى المترجم على وظيفة نظر المشهد الحسيني قهر السيد بدوي المباشر المذكور وأخذ دار سكنه شرقي المسجد وأخرجه منها وهدمها وأنشأها دارًا لنفسه ينزل بها أيام المولد المعتاد ويأتي إليها في كل جمعة أو جمعتين ولما تم بناؤها ونظامها وقرب وقت أيام المولد انتقل إليها بخدمه وحريمه وتقدم إليها حكام الشرطة بأمر الناس والمناداة على أهل الأسواق والحوانيت بالسهر بالليل ووقود السرج والقناديل خمس عشرة ليلة المولد وكان في السابق ليلة واحدة وأحدثوا في تلك الليالي سيارات وجمعيات وطبولًا وزمورًا ومناور ومشاعل وجمع خلائق من أوباش العالم الذين ينتسبون إلى الطرائق كالأحمدية والسعدية والشعيبية ويتجاوبون في وسط الطبول بألفاظ مستهجنة ينادون بها مشايخ طرقهم بكلمات وعبارات تشمئز منها الطباع وأمرهم بان يمروا من تحت داره ودعا أمراء البلدة في ظرف تلك الأيام متفرقين ودعا عابدين باشا يوم المولد ولما سكن بتلك الدار وهي قبالة الميضاة والمراحيض فكان يتضرر من الرائحة فقصد إبطالها من تلك الجهة فاشترى دارًا قبلي المسجد وهي بجانب حائط المسجد الجنوبية الفاصلة بينها وبين المسجد وأدخل منها جانبًا في المسجد وزاد فيه مقدار باكية وجعلها مرتفعة عن أرض المسجد درجة لتمتاز عن البناء القديم وجعل به محرابًا وخلفه خلوة يسلك إليها من باب بصدر الليوان المذكور إلى فسحة لطيفة أمام الخلوة وبالخلوة شباك مطل على الليوان الصغير الذي بقبة الضريح وأنشأ فيما بقي من الدار ميضاة ومراحيض وفتح لها بابًا من داخل المسجد من آخره بجانب باب السبيل وأبطل الميضاة القديمة لانحراف مزاجه وتأذيه من رائحتها وعبور الناس من داخل وخارج إلى هذه الجديدة وأتت عليها عدة أيام ففاحت الروائح على المصلين ومن بالمسجد وما انضاف إلى ذلك أيضًا من البلل والتقذير من أرجل الأوباش لقربها من المسجد فلغط الناس ومن يحضر في أوقات الصلاة من أتراك خان الخليلي والتجار وشنعوا القالة وقاموا قومة واحدة وأغلقوا الباب وأبطلوا تلك الميضاة ومنعوا من دخولها وساعدهم المتصوفون من أجناسهم فانكسف بال المترجم لذلك ولم يمكنه تنفيذ فعله وأعاد الميضاة القديمة كما كانت وجعل المستجدة مربطًا للحمير يستغل أجرته بعد أن أزال تلك الميضاة ومحا أثر ذلك وكان بناء هذه الزيادة سنة ست بعد المائتين ثم زاد في منزل سكنهم زيادة من ناحية البركة المعروفة ببركة الفيل خلف البستان أخذ في تلك الزيادة مقدارًا كبيرًا من أرض البركة وأنشأ مجلسًا مربعًا متسعًا مطلًا على البركة من جهتيه وبوسطه عامود من الرخام وبلط دور قاعته بالرخام وجعل به مخدعًا وخارجه فسحة كبيرة وشبابيكها مطلة على البركة وصارت القاعة القديمة المعروفة بالغزال الملتفت بابها في ضمن الفسحة وبها باب القيطون وسمى هذه المنشية الأسعدية وبتلك الفسحة باب يدخل منه إلى منافع ومرافق ثم عن له التغيير والتبديل لأوضاع البيت من ناحية أخرى فهدم الساتر على القاعة الكبيرة وفسحتها وهي التي يسمونها بأم الأفراح وهي من إنشاء الشيخ أبي التخصيص وهي أعظم المجالس التي بدارهم مزخرفة بالنقوش الذهب والقيشاني الصيني بجميع حيطانها والرخام الملون وبها الفسقية والسلسبيل والقمريات الملونة فكشف حائطها وأدخل فسحتها في رحبة الحوش وهدم القاعة الأخرى التي كان يصعد إليها بسلم من الفسحة الأخرى وأبطل الحواصل التي أسفلها وساواها بالأرض وعمل بها فسقية بالرخام ومرافقها من داخلها وبها باب يتوصل منه إلى الحريم وسماها الأنوارية نسبة لكنيته وأمامها فسحة عظيمة ديوان بدكك وكراسي بجانب البستان وبها الطرقة والدهليز الممتد بوسط البستان الموصل إلى القاعة المسماة بالغزال والأسعدية وهدم المقعد القديم الذي به العامود وقناطره وما كان بظاهر الحاصل المسمى بحاصل السجادة من الحواصل السفلية وجعله مسجدًا يصلي فيه الجمعة وجعل فيه منبرًا للخطبة وذلك لبعد المساجد الجامعة عن داره وتعاظمه عن السعي الكثير والاختلاط بالعامة وأخذ قطعة وافرة من بيت كتخدا الجاويشية وسع بها البستان وغرس بها الأشجار والرياحين والثمار وأفنى غالب عمره في تحصيل الدنيا وتنظيم المعاش والرفاهية واقتناء كل مرغوب للنفس وشراء الجواري والمماليك والعبيد والحبوش والخصيان والتأنق في المآكل والمشارب والملابس واستخراج الأدهان والعطريات المفرحة والمنعشة للقوة وتعاظم في نفسه وتعالى على أبناء جنسه حتى أنه ترفع على لبس التاج وحضور المحيا بالأزهر ليلة المعراج وكذا الحضور في مجلس وردهم الذي هو محل عزهم وفخرهم وصار يلبس قاووقًا بعمامة خضراء تسبها بأكابر الأمراء وبعدا عن التشبه بالمتعممين والفقهاء والمقرئين ولما طالت أيامه وماتت أقرانه والذين كان يستحي منهم ويهابهم وتقلبت عليه الدول واندرجت أكابر الأمراء وتأمر أتباعهم ومماليكهم الذين كانوا يقومون على أقدامهم بين يدي مخاديمهم وأسيادهم جلوس بالأدب مع المترجم لا جرم كانت هيبته في قلوبهم أعظم من أسلافهم واستصغاره هو لهم كذلك فكان يصدعهم بالكلام وينفذ أمره فيهم ويذكر الأمير الكبير بقوله ولدنا الأمير فلان وحوائجه عندهم مقضية وكلامه لديهم مسموع وشفاعته مقبولة وأوامره نافذة فيهم وفي حواشيهم وحريماتهم واتفق أن بعض أعاظم المباشرين من الأقباط توقف معه في أمر فأحضره ولعنه وسبه وكشف رأسه وضربه على دماغه بزخمة من الجلد ولم يراع حرمة أميره وهو إذا ذاك أمير البلدة ولما شكا إلى مخدومه ما فعل به قال له ما تريد أن أصنع بشيخ عظيم ضرب نصرانيًا فرحم الله عظامهم‏.‏

واتفق أيضًا أن جماعة من أولاد البلد ووجهائها اجتمعوا ليلة بمنزل بعض أصحابهم وتباسطوا فأخذ بعضهم يسخر ويقلد بعض أصحاب المظاهر فوشى للمترجم مجلسهم وأنهم أدرجوه في سخريتهم فتسماهم وأحضرهم واحد بعد واحد وعزرهم بالضرب والإهانة فكان كل قليل يقع في بيته الضرب والإهانة لأفراد من الناس وكذلك فلاحو الحصص التي حازها والتزم بها فإنه زادني خراجهم عن شركائه ويفرض عليهم زيادات ويحبسهم عليها شهورًا ويضربهم بالكرابيج وبالجملة فقد قلب الوضع وغير الرسم المطبوع بعد أن كان منزلهم محل سلوك ورشاد وولاية واعتقاد فصار كبيت حاكم الشرطة يخافه من غلط أدنى غلطة ويتحاماه الناس من جميع الأجناس وجلساؤه ومرافقوه لا يعارضونه في شيء بل يوافقونه ولا يتكلمون معه إلا بميزان وملاحظة الأركان ويتأدبون معه في رد الجواب وحذف كاف الخطاب ونقل الضمائر عن وضعها في غالب الألفاظ بل كلها حتى في الآثار المروية والأحاديث النبوية وغير ذلك من المبالغات وتحسين العبارات والوصف بالمناقب الجليلة والأوصاف الجميلة حتى أن السيد حسينًا المنزلاوي الخطيب كان ينشئ خطبًا يخطب بها يوم الجمعة التي يكون المترجم حاضرًا فيها بالمشهد الحسيني وبزاويتهم أيام المولد ويدرج فيها الإطراء العظيم في المترجم والتوسل به في كشف المهمات وتفريج الكروب وغفران الذنوب حتى أني سمعت قائلًا يقول بعد الصلاة لم يبق على الخطيب إلا أن يقول اركعوا واسجدوا واعبدوا شيخ السادات ولما قدمت الفرنساوية إلى الديار المصرية في أوائل سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف لم يتعرضوا له في شيء وراعوا جانبه وأفرجوا عن تعلقاته وقبلوا شفاعاته وتردد إليه كبيرهم وأعاظمهم وعمل لهم ولائم وكنت أصاحبه في الذهاب إلى مساكنهم والتفرج على صنائعهم ونقوشهم وتصاويرهم وغرائبهم إلى أن حضر ركب العثمانيين في سنة خمسة عشرة وحصلت بينهم المصالحة على انتقال الفرنساوية من أرض مصر ورجوعهم إلى بلادهم على شروط اشترطوها بينهم وبين وزير الدولة العثمانية‏.‏

ومنها حسابات تدفع إليهم وأخرى تخصم عليهم وظن المترجم وخلافه إتمام الأمر والارتحال لا محالة فعند ذلك لحقه الطمع فذكر مصلحة دفعها لكاتب جيشهم في نظير الإفراج عن تعلقاته وأرسل يطلبها من بوسليك مدبر الجمهور وكذلك ما قبضه ترجمانه فقال هذه عوائد لا بد منها ودخلت في حساب الجمهور وتغير خاطرهم منه وكانت منه هفوة ترتب عليها بينهم وبينه الجفوة ولما انتقض الصلح وحصلت المفاقمة ووقعت المحاربة في داخل المدينة وتترست العساكر الإسلامية وأهل البلد في النواحي والجهات وانقطع الجالب عن أهل البلد مدة ستة وثلاثين يومًا التزم أغنياء الناس وأصحاب المظاهر الإطعام والإنفاق على المحاربين والمقاتلين في جهتهم ونواحيهم والتزم المترجم كغيره الإنفاق على من حوله فلما انقضت أيام المحاربة وانتصر الفرنساوية ورجع الوزير ومن معه إلى جهة الشام منهزمين فعند ذلك انتقم الفرنساوية من المبارزين لهم بأخذ المال بدلًا عن الأرواح وقبضوا على المترجم وحبسوه وأهانوه أيامًا وفرضوا عليه قدرًا عظيمًا من المال قام بدفعه كما ذكرنا ذلك مفصلًا في محله وقيل أن الذي زاد الفرنساوية إغراء به مراد بك حين اصطلح معهم وعمل لهم ضيافة ببر الجيزة وسببه أنه لما دهمت الفرنساوية وطلعوا الإسكندرية ووصل الخبر إلى مصر اجتمع الأمراء بالمساطب وطلبوا المشايخ ليشاوروا في هذا الحادث فتكلم المترجم وخاطبهم بالتوبيخ وقال كل هذا سوء فعالكم وظلمكم وآخر أمرنا معكم ملكتمونا للإفرنج وشافه مراد بك وخصوصًا بأفعالك وتعديك أنت وأمرائك على متاجرهم وأخذ بضائعهم وإهانتهم فحقدها عليه وكتمها في نفسه حتى اصطلح مع الفرنساوية وألقى إليهم ما ألقاه ففعلوا ما ذكر وذلك في ثاني يوم الضيافة فلما رجع العثمانية في السنة الثانية إلى مصر بمعونة الإنكليز وصاروا بالقرب من المدينة حبسوا المترجم مع من حبس بالقلعة من أرباب المظاهر خوفًا من إحداثهم فتنة بالبلدة ومات ولده الذي كان سماه محمدًا نور الله وهو معوق ومميوع فأذنوا له في حضور جنازة ولده فنزل وصحبته شخص حرسي منهم فلازمه حتى واراه وعاد به ذلك الحرسي إلى القلعة وكان هذا الولد مراهقًا له من العمر اثنتا عشرة سنة كان في أمله أن يكون هو الخليفة في بيتهم بعده ويأبى الله إلا ما يريد ولما انفصل الأمر وارتحل الفرنساوية من أرض مصر ودخل إليها يوسف باشا الوزير ومن معه تقدم المترجم يشكو إليه حاله وما أصابه وادعى الفقر والإملاق مع أن الفرنساوية لم يحجزوا عنه شيئًا من تعلقاته وإيراده وجعل شكواه وما حصل له سلمًا للإفرنج عن جميع تعلقاته وإيراده من غير حلوان كغيره من الناس وزاد على ذلك أشياء ومطالب ومسامحات ودعا الوزير إلى داره وأفراد رجال الدولة الذين بيدهم مقاليد الأمور وعاد إلى حالته في التعاظم والكبرياء وارتحل الوزير بعد استقرار محمد باشا خسرو على ولاية مصر وكان سموحًا وكذلك شريف أفندي الدفتردار فرمح في غفلتهما واستكثر في التحصيل والإيراد إلى أن تقلبت الأحوال وعادت للمصريين في سنة ثمان عشرة ثم خروجهم وما وقع من الحوادث التي تقدم ذكرها واستقر محمد علي باشا وثبتت قدمه بمعونة العامة والسيد عمر مكرم بمملكة مصر وشرع في تمهيد مقاصده فكان السيد عمر يمانعه فدبر على إخراجه من مصر وجمع المشايخ وأحضر المترجم وخلع عليه وقلده النقابة واخرج السيد عمر من مصر منفيًا إلى دمياط وذلك في سنة أربع وعشرين كما تقدم ووافق فعله ذلك عرض المترجم بل ربما كان بمعونته لحقده الباطني على السيد عمر وتشوفه إلى النقابة وادعائه أنها كانت ببيتهم لكون الشيخ أبي هادي تولاها أيامًا ثم تولاها بعده أبو الإمداد ثم نزل عنها لمحمد أفندي البكري الكبير فلم يزل في نفس المترجم التطلع لنقابة الإشراف ويصرح بقوله أنها من وظائفنا القديمة وأحضر بها مرسومًا من دار السلطنة وأخفاه ولم يظهره مدة حياة محمد أفندي البكري الكبير فلما مات وتقلدها ولده محمد أفندي ادعاها وأظهر المرسوم وشاع خبر ذلك فاجتمع الجم الغفير من الأشراف بالمشهد الحسيني ممانعين وقائلين لا نرضاه نقيبًا ولا حكمًا علينا فلم يتم مراده فلما توفي محمد أفندي الصغير ظن أنه لم يبق له فيها منازع فلا يشعر إلا وقد تقلدها السيد عمر بمعونة مراد بك وإبراهيم بك لصحبته معهما ومرافقته لهما في الغربة حين كان المصريون بالصعيد فسكت على ضغن وغيظ يخفيه تارة ويظهره أخرى وخصوصًا وهو يرى أن السيد عمر في ذلك دون ذلك بكثير فلما خرج الفرنساوية ودخل الوزير إلى مصر وصحبته السيد عمر متقلدًا للنقابة كما كان وانفصل عنها السيد خليل البكري وارتفع شأن السيد عمر وزاد أمره بمباشرة الوقائع وولاية محمد علي باشا وصار بيده الحل والعقد والأمر والنهي والمرجع في الأمور الكلية والجزئية والمترجم يحقد عليه في الباطن ويظهر له خلافه وهو ولكنني أخشاه وهو يخافني فيخفي ويبدو بيننا البغض والود فلما أخرج الباشا السيد عمر وتقلد المترجم النقابة وبلغ مأموله عند ذلك أظهر الكامن في نفسه وصرح بالمكروه في حق السيد عمر ومن ينتمي إليه أو يواليه وسطر فيه عرضًا محضرًا إلى الدولة نسب إليه أنواعًا من الموبقات التي منها أنه أدخل جماعة من الأقباط في الأشراف وقطع أناسًا من الشرفاء المستحقين وصرف راتبهم للأقباط المدخلين ومنها أنه تسبب في خراب الإقليم وإثارة الفتن وموالاة البغاة المصريين وتطميعهم في المملكة حتى أنه وعدهم بالهجوم على البلدة يوم قطع الخليج في غفلة الباشا والناس والعساكر وأنه هو الذي أغرى المصريين على قتل علي باشا برغل الطرابلسي حين قدم واليًا على مصر وهو الذي كاتب الإنكليز وطمعهم في البلاد مع الألفي حين حضروا إلى إسكندرية وملكوها ونصر الله عليهم العساكر الإسلامية وغير ذلك من عبارات عكس القضية وتمنيق الأغراض النفسانية وكتب الأشياخ عليه خطوطهم وطبعوا تحتها ختومهم ما عدا الطحطاوي الحنفي فإنه تنحى عن الشرور وامتنع من شهادة الزور فأوسعوه سخطًا ومقتًا وعزلوه من الأفتا وقد تقدم خبر ذلك في حوادث سنة أربع وعشرين وإنما المعنى بإعادة ذلك لك هنا تتمة لترجمة المشار إليه وحذار من نقصها النسيان لأكثر جملها فلو سلمت الفكرة من النسيان لفاقت سيرته كان وكان وفي سنة ست وعشرين أنشأ دارًا عظيمة بجانب المنزل وصرف جملًا من المال وأنشأ بها مجالس وقاعات ورواشن ومنافع ومرافق وفساقي وأنشأ فيها بستانًا غرس فيه أنواع الأشجار المثمرة وأدخل به ما حازه من دور الأمراء المتخربة وكان السيد خليل البكري اشترى دارًا بدرب الفرن وذلك بعد خروج الفرنساوية وخمول أمره وعزله من مشيخة البكرية والنقابة وأنشأ بها بستانًا أنيقًا وأنشأ قصرًا برسم ولده مطلًا على البستان فلما توفي السيد خليل تعدى على ولده سيدي أحمد وقهره وأخذ منه ذلك البستان بأبخس الأثمان وخلطه ببستان الدار الجديد وبنى سوره وأحاطه وأقام حائطًا بينه وبين دار المذكور وطمسها وأعماها وسدت الحائط شبابيك ذلك القصر وأظلمته ولم يزل كلما طال عمره زاد كبره وقل بره وتعدى شره ولما ضعفت قواه تقاعد عن القيام لأعاظم الناس إذا دخل عليه محتجًا بالإعياء والضعف ولازم استعمال المنعشات والمركبات المفرحة ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر‏.‏ وفي

شهر شوال من السنة التي توفي فيها أحضر ابن أخيه سيدي أحمد

الذي تولى المشيخة بعده وألبسه خلعة وتاجًا وجعله وكيلًا عنه في نقابة الأشراف وأركبه فرسًا بعباءة وأرسله إلى الباشا صحبة سيدي محمد المعروف بأبي دفية وأمامه جاويشية النقابة على العادة فلما دخلا إلى الباشا وعرفه المرسول بأن عمه أقامه وكيلًا عنه فقال مبارك فأشارك إليه أن يلبسه خلعة فقال ان موكله ألبسه ولم يتقلدها بالأصالة ولو كنت قلدته أنا كنت أخلع عليه وألبسه فقال ونزل إلى داره التي أسكنه بها عمه وهي الدار التي عند المشهد الحسيني وحضر إليه الناس للسلام والتهنئة وفي هذه السنة أيضًا عن للمترجم أن يزيد في المسجد الحسيني زيادة مضافة لزيادته الأولى التي كان زادها في سنة ست ومائتين وألف فهدم الحائط التي كان بناها الجنوبية وأدخل القطعة التي كان عمل بها الميضاة وزاد باكية أخرى وصف عواميد وصارت مع القديمة ليوانًا جديدًا وشرع في بناء دار عظيمة لينزل فيها وقت مجيئه هناك في أيام المولد وغيره عوضًا عن الدار التي نزل عنها لابن أخيه فتكون هذه بعيدة عن روائح الميضاة القديمة وتكون بالشارع وتمر من تحتها مواكب الأشاير ولا يحتاجون إلى تعديهم المسجد ودخولهم من طريق باب القبة وجعل بالحائط الفاصل بين الزيادة والدار المستجدة شبابيك مطلة على المسجد لينظر منها المجالس والوقودات من يكون بالدار من الحريم وغيرهم فما هو إلا وقد قرب إتمام ذلك إلا وقد زاد به الإعياء والمرض وانقطع عن النزول من الحريم وتمت الزيادة ولم يبلق إلا إتمام الدار فيستعجل ويشتم المشد والمهندس وينسب إليهم إهمال استحثاث العمال ويقول قد قرب المولد ولم تكمل الدار فأين نجلس أيام المولد هذا كل يوم يزيد مرضه وتورمت قدماه وضعف عن الحركة وهو يقول ذلك ويؤمل الحياة فلما زاد به الحال وتحقق الرحيل إلى مغفرة المولى الجليل أوصى لأتباعه بدارهم ولذي الفقار الذي كان كتخدا الألفي والآن في خوالة بستان الباشا الذي بشبرا بخمسمائة ريال لكون زوجته خشداشة حريمه هما من جواري إسمعيل بك الكبير وليكون معينًا لها ومساعدًا في مهماتها ولسيدي محمد أبي دفية مثلها في نظير خدمته وتقيده وملازمته له وأوصى أن لا يغسل إلا على سريره الهندي الذي كان ينام عليه في ليكون مخالفًا للناس حتى في حال الموت فلما كان يوم الأحد ثامن عشر ربيع الأول من السنة انقضى نحبه وتوفي إلى رحمة الله تعالى وقت العصر وبات بالمنزل ميتًا فلما أصبح يوم الاثنين غسل وكفن كما أوصى على السرير وخرجوا بجنازته من المنزل ووصلوا بها إلى الأزهر فصلى عليه بعد ما أنشد المنشد مرثية من إنشاء العلامة الشيخ حسن العطار وجعل براعة استهلالها الإشارة إلى ما كان عليه المترجم من التعاظم والتفاخر فقال‏:‏ سلام على الدنيا فقد ذهب الفخر ثم حمل إلى مشهد أسلافه بالقرافة ودفن في التربة التي أعدها لنفسه بجانب مقام جدهم وتقلد مشيخة سجادتهم في ذلك اليوم الشيخ أحمد بن الشيخ يوسف وهو ابن عمه وعصبته وكنيته أبو الإقبال بإجماع من الخاص والعام وجلس هو وأخوه سيدي يحيى لتلقي العزاء وفي الصباح حضر إلى الرباط بالخرنفش وكان بزاوية الرباط المذكور خلوة جدهم أقام بها حين حضر من الغرب إلى مصر وعادتهم إذا تولى شخص منهم المشيخة لا بد أن يأتي في الصباح ويدخل الخلوة فيجلس بها حصة لطيفة فيتروحن وتلبش الولاية فلما كان المترجم هدم حائط تلك الخلوة زاعمًا أنه خاتمة أوليائه وأنه لم يأتي من يصلح للمشيخة سواه وكأنه أخذه بذلك عهدًا وميثاقاُ ولم يعلم أن ربه لم يزل خلاقًا وأن الولاية ليست بفعل العبد ولا بالسعي والقصد قال تعالى في محكم آياته الله أعلم حيث يجعل رسالاته وقال سبحانه إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون وإن أولياءه إلا المتقون نسأله التوفيق والهدايا والحفظ على أسباب الغواية ولما كان القديمة حضر المتولي وصحبته أشياخ الوقت والسيد محمد المحروقي وجماعة الحزب وغيرهم من المتفرجين وقد جعلوا على محل الخلوة سائرًا بدل الحائط المهدوم ودخل المتولي خلفها وقرأ جماعة الحزب شيئًا من القرآن ثم قام النقيب مع الشيخ البكري فتلقوا الشيخ فخرج على الحاضرين متطيلسًا وصافحهم وركب بصحبتهم إلى القلعة فخلع عليه كتخدا بك خلعة سمور ونزلوا إلى زاويتهم بالقرافة وأمامهم جماعة الحزب وجاويشية النقابة فجلسوا حصة وقرؤوا أحزابهم ثم ركب ورجع إلى المنزل وجلس مع أخيه لعمل المأتم والقراءة الجمعية على العادة وأرسل كتخدا بك ساعيًا يخبر موته إلى الباشا بالفيوم لأنه لما سافر إلى جهة قبلي ووصل إلى ناحية بني سويف ركب بغلة سريعة العدو وركب خلفه خواصه بالهجن والبغال فوصلها في أربع ساعات وانقطع أكثر المتوجهين معه ومات منهم سبعة عشر هجينًا رجع الساعي بعد ثلاثة أيام بجواب الرسالة ومضمونها عدم التعرض لورثة المتوفي حتى يقدم الباشا من غيبته فبقي الأمر على السكوت أربعة عشر يومًا وحضر الباشا ليلة الأحد ثامن ربيع الآخر فبمجرد وصوله إلى الجيزة أرسل بالختم على منزلهم فما يشعرون إلا وحسين كتخدا الكتخدا بك وبيت المال واصل إليهم ومعهم آخرون فختموا على المجالس التي بالحريم ومجلس الجلوس الرجالي ختموا على خزائنه وقبضوا على الكاتب القبطي المسمى عبد القدوس والفراش وحبسوهما وعدى الباشا من ليلته إلى بر مصر وطلع إلى القلعة فركب إليه في صبحها المشايخ وصحبتهم ابن أخي المتوفي وهو الذي تولى المشيخة فخاطبوه وقالوا له كلامًا معناه أن بيوت الأشياخ مكرمة ولم تجر العادة بالختم على أماكنهم وخصوصًا أن هذا المتوفي كان عظيمًا في بابه وأنتم أخبر به وكان لكم به مزيد عناية ومراعاة فقال نعم أني لا أريد إهانة بيتهم ولا أطمع في شيء مما يتعلق بمشيختهم ولا وظائفهم القديمة ولا يخفاكم أن المتوفي كان طماعًا وجماعًا للمال وطالت مدته وحاز التزامات وإقطاعات وكان لا يحب قرابته ولا يخصهم بشيء بل كتب ما حازه لزوجته وهي جارية نهاية ثمنها ألفا قرش أو أقل أو أكثر ولم يكتب لأولاد أخيه شيئًا فلا يصح أن أمه تختص بذلك كله والخزينة أولى به لاحتياجات مصاريف العساكر ومحاربة الخوارج واستخلاص الحرمين وخزينة السلطان وأنا أرفع الختم رعاية لخواطركم فدعوا له وقاموا إلى مجلس الكتخدا وخلع على الشيخ المتولي فروة سمور أخرى قلد السيد محمد الدواخلي نقابة الأشراف وخلع عليه فروة سمور عوضًا عن سيدي أحمد أبي الإقبال المتولي على خلافة السادات فانفصل من النقابة ونزلت الجاويشية ولوازم النقابة مثل باش جاويش والكاتب أما الدواخلي وخلفه وقلد السيد المحروقي نظارة المشهد الحسيني عوضًا عن المتوفي وكان فراغ بها لابن أخيه فلم ينفذ الباشا ذلك وفي ثاني يوم حضر الأعوان إلى بيت السادات وفكوا الختوم وطلبوا سقاء الحريم فأخذوه معهم وأوجعوه بالضرب وأحضروا البناء وسألوهما عن محل الخبايا ثم رجعوا إلى المنزل ففتحوا مخبأة مسدودة بالبناء فوجدوا بها قوالب مساند قطيفة غير محشوة ووجدوا نحاسًا وقطنًا وأواني صيني فتركوا ذلك وذهبوا وأبقوا بالدار عدة من العسكر فباتوا بها ثم رجعوا في ثالث يوم وفتحوا مخبأة أخرى فوجدوا بها أكياسًا مربوطة فظنوا بداخلها المال ففتحوها فوجدوا بها بن قهوة وبغيرها صابون وشموع عسل ولم يجدوا شيئًا من المال فتركوا تلك الأشياء ونزلوا إلى قاعة جلوسه وفتحوا خزانة فوجدوا بها نقودًا فعدوها وحصروها فبلغت مائة وسبعة وعشرين كيسًا فأخذوها ثم سعى السيد محمد المحروقي في مصالحة الباشا حتى قرر عليهم ألف كيس وخمسين كيسًا وخمسة أكياس براني لبيت المال وخصموا منها الذي وجدوه بالخزانة وطولبوا بالباقي وذلك بعد التشديد والتهديد على الزوجة وتوعدها بالتغريق في البحر إن لم تظهر المال وأمر الكاتب بحساب إيراده ومصرفه في كل سنة وما صرفه في الأبنية وينظر ما يتبقى بعد ذلك في مدة سنين ماضية فلم يزل السيد محمد المحروقي يدافع ويسعى حتى تقرر القدر المذكور والتزم هو بدفعه وحولت عليه الحوالات وضبط الباشا حصص الالتزام التي كتبت باسم الزوجة ومنها قلقشندة بالقليوبية وسوادة ودفرانية بالجهة القبلية وغير ذلك وبعد انقضاء عدة الزوجة استأذن السيد المحروقي الباشا في عقد نكاحها على ابن أخي المتوفي الذي هو السيد أحمد أبو الإقبال الذي تولى خلافة بيتهم فأذن بذلك فحضر في الحال وأجرى العقد بعد أن حكمت عليه بطلاق التي في عصمته وهي جاريتها زوجته في حياة عمه ورزق منها أولاد واستقر المشار إليه في المنزل خليفة وشيخًا على سجادتهم وسكن معه أخوه سيدي يحيى زادهما الله توفيقًا وخيرًا واتفاقًا وأشرق نجم المتصدر على أفق السعادة إشراقًا فهو أبو الإقبال المتحلي بالجمال والكمال في المهد ينطق عن سعادة جده أثر النجابة واضح البرهان أن الهلال إذا رأيت نموه أيقنت إن سيزيد في اللمعان‏.‏

ومات الشيخ الناسك محمد بن عبد الرحمن اليوسي المغربي ورد إلى مصر وحج ورجع ونزل بدار الحاج مصطفى الهجين العطار منجمعًا عن خلطة الناس والسعي على طريقة حميدة ومذاكرة حسنة ويأتي إليه الناس يزورونه ويتبركون به ويسألونه الدعاء ويستفهمون منه مسائل فجيب كل إنسان بما ينسر منه بتواضع وانكسار وتزهيد في الدنيا وتمرض سنينًا وتوفي يوم الثلاثاء عشرين المحرم وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بجانب الخطيب الشربيني بتربة المجاورين وهي القرافة الكبرى‏.‏

ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائتين وألف استهل المحرم بيوم الجمعة فيه في ليلة الجمعة ثامنه وردت مكاتبات من الديار الحجازية وفيها الأخبار بأن الباشا قبض على الشريف غالب أمير مكة وقبض على أولاده الثلاثة وأربعة عبيد طواشية من عبيده وأرسلهم إلى جدة وأنزلهم في مركب من مراكبه وهي واصله بهم والذي وصل في مركب صغير تسمى السبحان سبقتهم في الحضور إلى السويس وأخبروا أيضًا في المكاتبة أنه لما قبض عليهم أحضر يحيى ابن الشريف سرور وقلده الأمارة عوضًا عن عمه غالب وقبضوا أيضًا على وزيره الذي بجدة وأصحبوه معهم وقلد مكانه في الكمارك شخصًا من الأتراك يسمى علي الوجاقلي فلما وصل الهجان بهذه المكاتبة إلى السيد محمد المحروقي ليلًا ركب من وقته إلى كتخدا بك في بيته وأطلعه على المكاتبات فلما طلع النهار نهار يوم الجمعة ضربوا عدة مدافع من القلعة إعلامًا وسرورًا بذلك‏.‏

وفيه احتفل كتخدا بك بعمل مهم أيضًا لزواج إسمعيل باشا ابن محمد علي باشا ومحمد بك الدفتردار على ابنة الباشا وإسماعيل باشا على ابنة عارف بم ابن خليل باشا التي أحضرها صحبته من إسلامبول وقد ذكر العقد عليهما في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان من السنة الماضية قبل توجه الباشا إلى الحجاز فألزم كتخدا بك السيد محمد المحروقي بتنظيم الفرح والاحتياجات واللوازم واتفقوا على ان يكون نصبة الفرح ببركة الأزبكية تجاه بيت حريم الباشا وطاهر باشا تعمل الولائم واجتماع المدعوين ببيت طاهر باشا والمطبخ بخرائب بيت الصابونجي وأرسلوا أوراق التنابيه للمدعوين على طبقات الناس بالترتيب ونصبوا بوسط البركة عدة صواري لأجل الوقدات والقناديل التي تعمل عليها التصاوير من القناديل فترى من البعد صورة مركب أو سبعين متقابلين أو شجرة أو محمل على جمل أو كتابة مثل ما شاء الله ونحو ذلك وصفوا بوسط البركة عدة مدافع صفين متقابلين ونصب بهلوان الحبل حبله أوله من تجاه بيت الباشا وآخره برأس المنارة التي جهة حارة الفوالة خلف رصيف الخشاب حيث الأبنية المتخربة في الحوادث الماضية بالقرب من القشلة وعمارات محمد باشا خسرو التي لم تكمل وبهلوان آخر شامي بالناحية الأخرى وانتقل السيد محمد المحروقي من داره إلى بيت الشرايبي تجاه جامع أزبك لأجل مباشرة المهمات فلما أصبح يوم السبت وهو يوم الابتداء ودعوة الأشياخ رتبوهم فرقتين فرقة تأني ضحوة النهار وأخرى بعد العصر واجتمع بالأزبكية أصناف أرباب الملاعيب والمغزلكين والجنباذية والحببظية والحواة والقرداتية والرقاصين والبرامكة وغير ذلك أصناف وأشكال فاحتفلت وأقبل من كل ناحية أصناف الناس رجال ونساء وأقارب وأباعد وأكابر وأصاغر وعساكر وفلاحون ويهود ونصارى وأروام لأجل التفرج حتى ازدحمت الطرق الموصلة إلى الأزبكية من جميع النواحي بأصناف الناس الذاهبين والراجعين والمترددين واستمر ضرب المدفع من ليلة السبت المذكور إلى ليلة الجمعة التالية الأخرى ليلًا ونهارًا والحرائق والنفوط والسواريخ في الليل ولعبت أرباب الملاعيب والبهلوانات على الحبال وكذلك احتفل النصارى وعملوا وقدات وحراقات تجاه حاراتهم ومساكنهم وصادف ذلك عيد الميلاد وعملوا لهم مراجيح وملاعيب‏.‏

وفي أثناء ذلك وقع التنبيه على أصحاب الحرف والصنائع بعمل عربات مشكلة وممثلة بحرفتهم وصنائعهم ليمشوا بها في زفة العروس فاعتنى أهل كل حرفة وصناعة بتنميق وتزيين شكله وتباهوا وتناظروا وتفاخروا على بعضهم البعض فكان كل من سولت له نفسه وحدثه الشيطان بأحدث شيء فعله وذهب إلى المتعين لذلك فيعطيه ورقة لأن ذلك لم يكن لأناس مخصوصة أو عدد مقدر بل بتحكماتهم وإلزام بعضهم البعض فيفرض رئيس الحرفة على أشخاص أهلها فرائض ودراهم يجمعها منهم وينفقها على العربة وما يلزمها من أخشاب وحبال وحمير أو خيل أو رجال يسحبونها وما يكتريه أو يستعيره لزينتها من المزركشات والمقصبات والطليعات وأدوات الصنعة التي تتميز بها عن غيرها فتصير في الشكل كأنها حانوت والبائع جالس فيها كالحلواني وأمامه الأواني فيها أنواع الحلو والسكري وحوله أواني الملبس وأقماع السكر معلقة حوله والشربات والشربتلي والعطار والحريري والعقاد البلدي والرومي والزيات والحداد والنجار والخياط والقزاز والحباك والنشار وهو ينشر الخشب بمنشاره المعلق والطحان والفران وعه الفرن وهو يخبز فيه والفطاطري والجزار وحوله لحم الغنم ومثله جزار الجاموس والكبابجي والنيفاوي وقلاء الجبن والسمك والجيارين والجباسين بالبحر والثور يدور به وهو ماش بالعربة والبناء والمبلط والمبيض النحاس وللبناء والسمكري تتمته إحدى وتسعون عربة وفيهم حتى المراكبي في قنجة كبيرة كامل العدة والقلوع تمشي على الأرض على العجل خلاف أربع عربات المختصة بالعروس فلما كان يوم الأربعاء سحبوا تلك العربات وانجروا بمواكبهم وطبولهم وزمورهم وأمام كل عربة أهل حرفتها وصناعتها مشاة خلف الطبول والزمور وهم مزينون بالملابس وملابسهم الفاخرة وأكثرها مستعارة فكانوا ينزلون إلى البركة من ناحية باب الهواء ويمون من تحت بيت الباشا إلى ناحية رصيف الخشاب ويأتي كبير الحرفة بورقته إلى المتعين لملاقاتهم فينعم عليه بخلعة ودراهم فيعطي البعض شال كشميري وألفين فضة والبعض طاقة تفصيلة قطني أو أربعة أذرع جوخ على قدر مقام الصنعة وأهلها واستمر مرورهم من أول النهار إلى بعد الغروب واصطفوا بأسرهم عند رصيف الخشاب ولما أصبح يوم الخميس رتبوا مرور الزفة وعيت لترتيبها أشخاصًا ومنهم السيد محمد درب الشمسي وهو كبير المنظمين وكان خروجها من بيت الحريم وهو الذي كان سكن الشيخ خليل البكري وذهبوا وانجروا على طريق الموسكي على تحت الربع إلى باب زويلة إلى الغورية إلى بين القصرين إلى سوق مرجوش إلى باب الحديد إلى بولاق إلى سراية إسمعيل باشا التي جددوها قبلي بولاق قريبًا من الشون فلم تصل إلى منزلها إلا عند الغروب وكان في أول الزفة طائفة من العسكر الدلاة ثم والي الشرطة ثم المحتسب ثم موكب أغات الينكجرية وبعدهم المساخر والنقاقير وعدتها عشرة نقاقير وعلى كل نقارة تفصيلة ثم العربات المذكورة وفيها أيضًا تجار الغورية وطائفة تجار خان الخليلي في موكب حفل وتجار الحمزاوي من نصارى الشوام وغيرهم وكان يومًا مشهودًا اجتمعت فيه الخلائق للفرجة في طرقها حتى طريق بولاق واكترى الناس الأماكن المطلة على الشارع والحوانيت بأغلى الأثمان ولما وصلت العروس إلى قصرها ضربوا عدة مدافع من بولاق والأزبكية والجيزة وكان العزم على المهم الثاني والابتداء فيه من يوم السبت الذي بعد الجمعة فرسموا بتأخيره إلى الجمعة الأخرى لتأخر أم العريس ومن يصحبها من النساء وأقمن ببولاق تلك الجمعة واستمرت قصبة الصواري والحبال والآلات على حالها بالأزبكية‏.‏

وفي يوم الأحد سابع عشره وصل السيد غالب شريف مكة إلى مصر القديمة وقد أتت به السفينة من القلزم إلى مرساة ثغر القصير فتلقاه إبراهيم باشا وحضر صحبته إلى قنا وقوص ثم ركب النيل بمن معه من أولاده وعبيده والعسكر الواصلين صحبته وحضر إلى مصر القديمة فلما وصل الخبر إلى الكتخدا بك ضربوا عدة مدافع من القلعة إعلامًا بوصوله وإكرامًا على حد قوله تعالى ذق إنك أنت العزيز الكريم ركب صالح بك السلحدار وأحمد آغا أخو كتخدا بك في طائفة لملاقاته وإحضاره وهيئوا له مكانًا بمنزل أحمد آغا أخي كتخدا بك بعطفة ابن عبد الله بك بخط السروجية لينزل فيه وانتظره الكتخدا هناك وصحبته بونابارته الخازندار ومحمود بك ومحو بك وإبراهيم أغا أغات الباب والسيد محمد المحروقي فلما وصل إلى الدار نزل الكتخدا والجماعة ولاقوه عند سلم الركوبة وقبلوا يده ولزم الكتخدا بيده تحت إبطه حتى صعد إلى محل الجلوس الذي أعدوه له واستمر الكتخدا قائمًا على قدميه حتى أذن له في الجلوس هو وباقي الجماعة وعرفه الكتخدا عن السيد محمد المحروقي فتقدم وقبل يده فقام له وسلم عليه وجلس بحذاء الكتخدا ليترجم عنه في الكلام ويؤانسوه ويطمنوا خاطره ثم أن الكتخدا اعتذر له باشتغاله بأحوال الدولة واستأذنه في الذهاب إلى ديوانه وعرفه أن أخاه ينوب عنه في الخدمة ولوازمه فقبل عذره وقام منصرفًا هو وباقي الجماعة ما عدا السيد محمد المحروقي ومحمود بك فإن الكتخدا أمرهما بالتخلف عنده ساعة فجلسا معه وتغديا صحبته ومعه أولاده الثلاثة وعبيده ثم انصرفا إلى منزلهما ولم يأذن الكتخدا لأحد من الأشياخ أو غيرهم من التجار بالسلام عليه والاجتماع به والذي بلغنا في كيفية القبض عليه أنه لما ذهب الباشا إلى مكة واستمر هو وابنه طوسون باشا مع الشريف غالب على المصادقة والمسالمة والمصافاة وجدد معه العهود والإيمان في جوف الكعبة بأن لا يخون أحد صاحبه وكان الباشا يذهب إليه في قلة وهو الآخر يأتي إليه وإلى ابنه واستمروا على ذلك خمسة عشر يومًا من ذي القعدة دعاه طوسون باشا إليه فأتى إليه كعادته في قلة فوجد بالدار عساكر كثيرة فعندما استقر به المجلس وصل عابدين بك في عدة وافرة وطلع إلى المجلس فدنا منه وأخذ الجنبية من حزامه وقال له أنت مطلوب للدولة فقال سمعًا وطاعة ولكن حتى أقضي أشغالي في ظرف ثلاثة أيام وأتوجه فقال لا سبيل إلى ذلك والسفينة حاضرة في انتظارك فحصل في جماعة الشريف وعبيده رجة وصعدوا على أبراج سرايته وأرادوا الحرب فأرسل إليهم الباشا يقول لهم عن وقع منكم حرب أحرقت البلدة وقتلت أستاذكم وأرسل لهم أيضًا الشريف يكفهم عن ذلك وكان بها أولاده الثلاثة فحضر إليهم الشيخ أحمد تركي وهو من خواص الشريف وخدمهم وقال لهم لم يكن هناك بأس وإنما والدكم مطلوب في مشاورة مع الدولة ويعود بالسلامة وحضرة الباشا يريد أن يقلد كبيركم نيابة عن أبيه إلى حين رجوعه ولم يزل حتى انخدع كبيرهم إلى كلامه وقاموا معه فذهب بهم إلى محل خلاف الذي به والدهم محتفظًا بهم وفي الوقت أحضر الباشا الشريف يحيى بن سرور وهو ابن أخي الشريف غالب وخلع عليه وقلده أمارة مكة ونودي في البلدة باسمه وعزل الشريف غالبًا حسب الأوامر السلطانية واستمر الشريف غالب أربعة أيام عند طوسون باشا ثم أركبوه وأصحبوا معه عدة من العسكر وذهبوا به وبأولاده إلى بندر جدة وأنزلوهم السفينة وساروا بها إلى ناحية القصير من صعيد مصر وحضر كما ذكر‏.‏

وفي يوم الأربعاء وصل قاصد من الديار الرومية وعلى يده مثالان فعمل كتخدا بك ديوانًا في صبحية يوم الخميس حادي عشرينه وقرئ ذلك وهما مثالان يتضمن أحدهما التقرير لمحمد علي باشا على ولاية مصر على السنة الجديدة والثاني الأخبار والبشارة باستيلاء العثمانيين على بلاد الصرب ولما فرغوا من قراءتهما ضربوا عدة مدافع من القلعة وفي عصرية ذلك اليوم حضر حريم الباشا من بولاق إلى الأزبكية في عربات فضربوا لحضورهن مدافع من الأزبكية وشرعوا في عمل المهم الثاني لابنة الباشا علي الدفتردار وافتتحوا ذلك من ليلة السبت على النسق المتقدم وعملوا العزائم والولائم واحتفلوا زيد من المهم الأول وأحضروا الشريف غالبًا وأعدوا له مكانًا بيت الشرايبي على حدته هو وأولاده ليتفرجوا على الملاعيب والبهلوانات نهارًا والشنك والحراقات ليلًا وعلى الشريف وأولاده الحرس ولا يجتمع بهم أحد على الوجه والصورة التي كانوا عليها بالمنزل الذي أنزلوا فيه فلما كان يوم الأربعاء اجتمع أرباب العربات وأصحابها وقد زادوا عن الأولى خمسة عشر عربة وفيهم معمل الزجاج وباتوا بنواحي البركة على النسق المتقدم ونصبوا لهم خيامًا تقيهم من البرد والمطر لأن الوقت شات ولما أصبح يوم الخميس انجرت العربات وموكب الزفة من ناحية باب الهواء على قنطرة الموسكي على باب الخرق على درب الجماميز وعطفوا من الصليبة على المظفر على السروجية على قصبة رضوان بك على باب زويلة على شارع الغورية على الجمالية على سوق مرجوش على بين السورين على الأزبكية على باب الهواء إلى المنزل الذي أعدوه لها وهو بيت ابن إسمعيل بك وهي بنت إبراهيم بك وكانت متزوجة بإسمعيل بك ولما مات تزوج بها مملوكه محمد أغا ويعرف بالألفي وقد تولى أغاوية مستحفظان في هذه الدولة واعتنى بهذا الدار وعمر بها مكانين بداخل الحريم وزخرفها ونقشها نقشًا بديعًا صناعة صناع العجم واستمروا في نقشها سنتين ولما ماتت المذكورة في أوائل هذه السنة واستمر هو ساكنًا فيها وأنزل الباشا عنده القاضي المنفصل عن قضاء مصر المعروف ببهجة أفندي وقاضي مكة صادق أفندي حين حضر من إسلامبول ثم أمره الباشا بالخروج منها وإخلائها لأجل أن يسكن ابنته هذه المزفوفة فخرج منها في أوائل شوال وكذلك سافر القاضيان إلى الحجاز بصحبة الباشا وعند ذلك بيضوها وزادوا في زخرفتها وفرشوها بأنواع الفرش الفاخرة ونقلوا إليها جهاز العروس والصناديق وما قدم إليها من الهدايا والأمتعة والجواهر والتحف من الأعيان وحريماتهم حتى من نساء الأمراء المصريين المنكوبين وقد تكلفوا فوق طاقتهم وباعوا واستدانوا وغرموا في النقوط والتقادم والهدايا في هذين المهمين ما أصبحوا به مجردين ومديونين وكان إذا قدمت إحدى المشهورات منهن هديتها عرضوها على أم العروسين التي هي زوجة الباشا فقلبت ما فيها من المصاغ المجوهر والمقصبات وغيرها فإن أعجبتها تركتها وإلا أمرت بردها قائلة هذا مقام فلانة التي كانت بنت أمير مصر أو زوجته فتتكلف المسكينة للزيادة ونحو ذلك مع ما يلحقها من كسر الخاطر وانكساف البال ثم أدخلوا العروس إلى تلك الدار عندما وصلت بالزفة‏.‏

ومما حصل أنه قبل مرور موكب الزفة بيومين طاف أصحاب الشرطة ومعهم رجال وبأيديهم مقياس فكلما مروا بناحية أو طريق يضيق عن القياس هدموا ما عارضهم من مساطب الدكاكين أو غيرها من الجهتين لاتساع الطريق لمرور العربات والملاعيب وغيرها فأتلفوا كثيرًا من الأبنية ونودي في يوم الأربعاء بزينة الحوانيت والطرق التي تمر عليها الزفة بالعروس ومما حصل من الحوادث السماوية أن في يوم الخميس المذكور عندما توسطت الزفة في مرورها بوسط المدينة أطبق الجو بالغيام وأمطرت السماء مطرًا غزيرًا حتى تبخرت الطرق وتوحلت الأرض وابتلت الخلائق من النساء والرجال المجتمعين للفرجة وخصوصًا الكائنين بالسقائف وفوق الحوانيت والمساطب وأما المتعينون للمشي في الموكب ولا بد الذين لا مفر لهم من ذلك ولا مهرب فاختل نظامهم وابتلت ثيابهم وتكدرت طباعهم وانتقضت أوضاعهم وزادت وساوسهم وتلفت ملابسهم وهطل الغيث على الإبريسم والحرير والشالات الكرخانة والسليمي والكشمير وما زينت به العربات من أنواع المزركش والمقصبات ونفذت على من بداخلها من القيان والأغاني الحسان وكثير من الناس وقع بعدها تزحلق وصار نوبه بالوحل أبلق ومنهم من ترك الزفة وولى هاربًا في عطفه يمسح يديه في الحيط بما تلطخ بها من الرطريط وتعارجت الحمير وتعثرت البياجير وانهدم تنور الزجاج ولم ينفع به العلاج وتلف للناس شيء كثير ولا يدفع قضاء الله حيلة ولا تدبير ولم تصل العروس إلى دارها إلا قبيل دنو الشمس من غروبها وعند ذلك انجلى الجو وانكشفت بيوت النو ووافق ذلك اليوم ثالث عشر طوبه من شهور القبط المحسوبة وحصل بذلك الغيث العميم النفع لمزارع الغلة والبرسيم‏.‏

وفيه وردت مكاتبات من العقبة فيها الأخبار بوصول قافلة الحج صحبة المحمل وأميرها مصطفى بك دالي باشا‏.‏

وفي يوم الجمعة تاسع عشرينه وصل كثير من الحجاج الأتراك وغيرهم وردوا في البحر إلى بندر السويس ووصل تابع قهوجي باشا وأخبر عنه أنه فارق مخدومه من العقبة ونزل في مركب مع أم عابدين بك وحضر إلى السويس‏.‏ واستهل

شهر صفر بيوم الأحد سنة 1229

مما وقع في ذلك اليوم من الحوادث أن صناع البارد الكائنين بباب اللوق حملوا نحو عشرة أحمال من الجمال أوعية ملآنة بارودًا وهي الظروف المصنوعة من الجلود التي تسمى البطط يريدون بها القلعة فمروا من باب الخرق إلى ناحية تحت الربع فلما وصلوا تجاه معمل الشمع وبصحبة الجمال شخص عسكري فتشاجر مع الجمال ورد عليه القول فحنق منه فضربه بفرد الطبنجة فأصابت إحدى البطط فالتهبت بالنار وسرت إلى باقي الأحمال فالتهب الجميع وصعد إلى عنان السماء فاحترقت السقيفة المطلة على الشارع وما بناحيتها من البيوت والذم أسفلها من الحوانيت وكذلك من صادف مروره في ذلك الوقت واحترق ذلك العسكري والجمال فيمن احترق واتفق مرور امرأة من النساء المحتشمات مع رفيقتها فاحترقت ثيابها مع رفيقتها وذهبت تجري والنار ترعى فيها وكانت دارها بالقرب من تلك الناحية فيما وصلت إلى الدار حتى احترق ما عليها من الثياب واحترق أكثر جسدها ووصلت الأخرى بعدها وهي محترقة وعريانة فماتت من ليلتها ولحقتها الأخرى في ضحوة اليوم الثاني ومات في هذه الحادثة أكثر من المائة نفس من رجال ونساء وأطفال وصبيان وأما الجمال فأخذوها إلى بيت أبي الشوارب وهي سود محترقة الجلود وفيها من خرجت عينه فإما يعالجوها أو ينحروها وكل هذا الذي حصل من الحرق والموت والهدم في طرفة عين‏.‏

وفي الاثنين وصل مصطفى بك أمير ركب الحجاج إلى مصر وترك الحجاج بالدار الحمراء فبات في داره وأصبح عائدًا إلى البركة فدخل مع المحمل يوم الأربعاء ودخل الحجاج وأتبعهم بحيث أنه أخذ المسافة في أحد وعشرين يومًا وسبب حضور المذكور أنه ذهب بعساكره وعساكر الشريف من الطائف إلى ناحية تربة والمتآمر عليها امرأة فحاربتهم وانهزم منها شر هزيمة فحنق عليه الباشا وأمره بالذهاب إلى مصر مع المحمل‏.‏

وفيه أرسل الباشا يستدعي اثنتين أو ثلاثة عينهن من محاظيه وصحبتهن خمسة من الجواري السود الأسطاوات في الطبخ وعمل أنواع الفطور فأرسلوهن في ذلك اليوم إلى السويس وصحبتهن نفيسة القهرمانة وهي من جواريه أيضًا وكانت زوجًا لقاضي أوغلي المحتسب الذي مات بالحجاز في العام الماضي‏.‏

وفيه أيضًا وصل حريم الشريف غالب فعينوا له دارًا يسكنها مع حريمه جهة سويفة العزى فسكنها ومعه أولاده وعليهم المحافظون واستولى الباشا على موجودات الشريف غالب من نقود وأمتعة وودائع ومخبآت وشرك وتجارات وبن وبهار ونقود بمكة وجدة والهند واليمن شيء لا يعلم قدره إلا الله وأخرجوا حريمه وجواريه من سرايته بما عليهن من الثياب بعد ما فتشوهن تفتيشًا فاحشًا وهتك حرمته قل اللهم مالك الملك هذا الشريف غالب انتزع من مملكته وخرج من دولته وسيادته وأمواله وذخائر وانسل من ذلك كله كالشعرة من العجين حتى أنه لما ركب وخرج مع العسكر وهم متوجهون به إلى جدة أخذوا ما في جيوبه فليعتبر من يعتبر وكل الذي وقع له بعد من التغريب وغيره فيما جناه من الظلم ومخالفة الشريعة والطمع في الدنيا وتحصيلها بأي طريق نسأل الله السلامة وحسن العاقبة‏.‏

وفي يوم الخميس خامسه طاف الآغا أيضًا بأسواق المدينة وأمامه المناداة على أبواب الخانات والوكائل من التجار بأنهم لا يتعاملون في بيع البن والبهار إلا بحساب الريال المتعارف في معاملة الناس وهو الذي يصرف تسعين نصفًا لأن باعة البن لا يسمون في بيعه إلا الفرانسة ولا يقبضون في ثمنه إلا إياها بأعيانها ولا يقبلون خلافها من جنس المعاملات فيحصل بذلك تعب للمتسببين الفقراء والقطاعين ومن يشتري بالقنطار أو دونه فبهذه المناداة يدفع المشتري ما يشاء من جنس المعاملات قروشًا أو ذهبًا أو فرانسة أو أي صنف من المعاملات ويحسبه المعاملة والريال المعروف بين الناس الذي صرفه تسعون نصفًا فضة وإذا سمى سعر القنطار فلا يسمي إلا بهذا الريال وهذه المناداة بإشارة السيد محمد المحروقي بسبب ما كان يقع من تعطيل الأسباب‏.‏

وفيه سافر محمود بك وصحبته المعلم غالي للكشف عن قياس الأراضي البحرية التي نزل إليها القياسون بصحبة مباشريهم من النصارى والمسلمين من وقت انحسار الماء عن الأراضي وانتشروا بالأقاليم البحرية وهم يقيسون بقصبة تنقص عن القصبة القديمة‏.‏

وفي يوم الاثنين تاسعه وصل حريم الشريف غالب من السويس فأنزلوهن ببيت السيد محمد المحروقي وعدتهن خمسة إحداهن جارية بيضاء والأربعة حبشيات ومعهن جواري سود وطواشية وحضر إليهم سيدهم وصحبته أحمد أغا أخو كتخدا بك وصحبتهم نحو العشرين نفرًا من العسكر واستمر الجميع مقيمين بمنزل المذكور وهو يجري عليهم النفقات اللائقة بهم والمصاريف وفضل لهم كساوي من مقصبات وكشميري وتفاصيل هندية‏.‏

وفي يوم السبت رابع عشره خرج محو بك إلى ناحية الآثار بعساكره ليسافر من ساحل القصير إلى الحجاز باستدعاء الباشا فاستمر مقيمًا هناك عدة أيام لمخالفة الريح وارتحل في أواخره وفي أوائل هذا الشهر بل والذي قبله عملوا كورنتينه في إسكندرية ودمياط فيه رجع محمود بك والمعلم غالي من سرحتهما‏.‏

واستهل شهر ربيع الأول 1229 وفيه انتقل الشريف غالب بعياله من بيت السيد محمد المحروقي إلى المنزل الذي أعدوه له وهو بيت لطيف باشا بسويقة العزى بعد ما أصلحوه وبيضوه وأسكنوه به وعليه اليسق والعسكر الملازمون لبابه وفيه أبرز كتخدا بك فرمانًا وصل إليه من الباشا يتضمن ضبط جميع الالتزام لطرف الباشا ورفع أيدي الملتزمين عن التصرف بل الملتزم يأخذ فائظه من الخزينة فلما أشيع ذلك ضج الناس وكثر فيهم اللغط واجتمعوا على المشايخ فطلعوا إلى كتخدا بك وسألوه فقال نعم ورد من أفندينا أمر بذلك ولا يمكنني مخالفته فقالوا له كيف تقطعون معايش الناس وأرزاقهم وفيهم أرامل وعواجز وللواحدة قيراط أن نصف قيراط يتعيشن من إيراده فينقطع عنهن فقال يأخذن الفائظ من الخزينة العامرة عرضحال وننتظر الجواب فأجابهم إلى ذلك من باب المسايرة وفك المجلس وشرع الشيخ المهدي في ترصيف العرضحال فكتبوه وختموا عليه بعد وفي خامسه حضر جمع كثير من النساء الملتزمات إلى الجامع الأزهر وصرخوا في وجوه الفقهاء وأبطلوا الدروس وبددوا محافظهم وأوراقهم فتفرقوا وذهبوا إلى دورهم وكان قد اجتمع معهم الكثير من العامة واستمروا في هرج إلى بعد العصر ثم جاءهم من يقول لهم كلامًا كذبًا سكن به حدتهم فانفض الجمع وذهب النساء وهن يقلن نأتي في كل يوم على هذا المنوال حتى يفرجوا لنا عن حصصنا ومعايشنا وأرزاقنا وفي ظن الناس وغفلتهم أن في الإناء بقية أوانهم يدفعون الرزية وما علموا أن البساط قد انطوى وكل قد ضل وأضل وغوى ومال عن الصراط واتبع الهوى وكلب الجور قد كشر أنيابه وعوى ولم يجد له طاردًا ولا معارضًا ولا معاندًا ولما وصل الخبر إلى كتخدا بك طلب بعض المشايخ وقال له ما خبر هذه الجمعية بالأزهر فقال لهم بسبب ما بلغهم عن قطع معاشهم وإنما أنتم الذين تسلطونهم على هذه الفعال لأغراضكم ولا بد أني أستخبر على من غراهم وأخرج من حقه وطلبه علي آغا الوالي وقال له أخبرني عن هؤلاء النساء من أي البيوت فقال وما علمي ومن يميزهن وغالبهن وأكثرهن نساء العساكر ولا قدرة لي على منعهن وانقض المجلس وبردت همتهم وانكمشوا وشرعوا في تنفيذ ما أمروا به وترتيبه وتنظيمه‏.‏

وفيه حضر محمود بك والمعلم غالي فأقاما أيامًا وسافرا في ثالث عشره وفيه أحضروا حسن أغا محرم المعروف بنجائي من إقليم المنوفية وهو مريض وتوفي في ثاني يوم ودفن‏.‏

وفي خامس عشره مر الآغا والوالي وأغات التبديل وهم يأمرون الناس بكنس الأسواق ورشها حالًا في ذلك الوقت من غير تأخير فابتدر الناس ونزلوا من حوانيتهم وبأيديهم المكانس يكنسون بها تحت حوانيتهم ثم يرشونها‏.‏

وفي تاسع عشره حضر الشريف عبد الله ابن الشريف سرور أرسله الباشا إلى مصر من ناحية القصير منفيًا من أرض الحجاز فأنزلوه بمنزل أحمد آغا كتخدا بك محجوزًا عليه ولم يجتمع مع عمه ولم يره‏.‏

وفيه كثر الطلب للريال الفرانسة بسبب احتياج دار الضرب وما يرسل إلى الباشا من ذلك وألزموا التجار بإحضار جملة من ذلك ويأخذون بدلها قروشًا مقادير على أفرادهم بما يحتمله وجمعوا ما قدروا عليه منها‏.‏

وفيه شنق شخص يسمى صالح عند باب زويلة واستمر معلقًا يومين وسبب ذلك أنه يدعى الجذب والولاية وتزوج بامرأة وأخذ متاعها ومالها وحصل لها خلل في عقلها فأنهوا أمره إلى كتخدا بك فأمر بحبسه واستخلصوا منه جانبًا مما أخذه من متاع المرأة وكثر كلام الناس في حقه فأمر الكتخدا بشنقه‏.‏

وفي أواخره حضر إبراهيم بك ابن الباشا من الجهة القبلية ونزل بالبيت الذي اشتراه بناحية واستهل شهر ربيع الثاني بيوم الأربعاء سنة 1229 وفي ليلة الاثنين سادسه حضر ميمش آغا من ناحية الحجاز مرسلًا من عند الباشا باستعجال حسن باشا للحضور إلى الحجاز وكان قبل ذلك بأيام أرسل يطلب سبعة آلاف عسكري وسبعة آلاف كيس فشرع كتخدا بك في استكتاب أشخاص من أخلاط العالم ما بين مغاربة وصعايدة وفلاحي القرى فكان كل من ضاق به الحال في معاشه يذهب ويعرض نفسه فيكتبونه وإن كان وجيهًا جعله أميرًا على مائة أو مائتين ويعطيه أكياسًا يفرقها في أنفاره ويشتري فرسًا وسلاحًا ويتقلد بسيف وطبنجات وكذلك أنفاره ويلبسون قناطيش ولباسًا مثل لبس العسكر ويعاق له وزنة بارود تحت إبطه ويأخذ على كتفه بندقية ويمشون أمام كبيرهم مثل الموكب وفيهم أشخاص من الفعلة الذين يستعملون في شيل التراب والطين في العمائر وبرابرة وأرسل الكتخدا إلى الفيوم وغيرها بطلب رجال من أمثال ذلك وجمعوا الكثير من أرباب الصنائع مثل الخبازين والفرانين والنجارين والحدادين والبياطرة وغيرهم من أرباب الصنائع ويسحبونهم قهرًا فأغلق الفرانون مخابزهم وتعطل خبيز خبز الناس أيامًا وفيه ورد الطلب لحسن الباشا فشرع في تشهيل أحواله ولوازم سفره ثم حضر ميمش أغا باستعجاله واستعجال المطلوبات من الأموال وفيه قبضوا على اليهود الموردين الذين يوردون الذهب والفضة لدار الضرب بسبب إحضار الفرانسة وقد قلت بأيدي الناس جد الكثرة أخذها والطلب لها وانقطاع مجيئها من بلادها فحبسوهم وضربوهم ونزلوا في أسوأ حال متحيرين وذلك أن راتب الضربخانة سبعة آلاف في كل يوم عنها ثلاثة وستون ألف درهم وقدرها ثلاث مرات من النحاس يضربون ذلك قروشًا حتى بلغ سعر النحاس القراضة مائة وعشرين نصفًا فضة‏.‏

وفي تاسعه حضر محمود بك الدويدار والمعلم غالي من سرحتهما إلى مصر وهما المتآمران على مباشرة قياس الأراضي وتشهيل المال المفروض وسبب حضورهما أن إبراهيم باشا أرسل بطلبهما للحضور ليتشاور معهما في أمر فأقاما وعادا راجعين إلى شغلهما‏.‏

وفي منتصفه سافر إبراهيم باشا عائدًا إلى أسيوط وذهب صحبته أخوه إسمعيل باشا والبيكات الصغار خوفًا وهروبًا من الطاعون‏.‏

وفيه كمل تعمير الجامع الذي عمره دبوس أوغلي الذي بقرب داره التي بفيط العدة وهو جامع جوهر العيني وكان قد تخرب فهدمه جميعه وأنشأه وزخرفه ونقل لعمارته أنقاضًا كثيرة وأخشابًا ورخامًا من بيت أبي الشوارب وعمل به منبرًا بديع الصنعة واستخلص جهة أوقافه أطيانًا وأماكن من واضعي اليد‏.‏

وفيه أيضًا نادوا على سكان الجيزة بالخروج منها بعد عصر يوم السبت ومن لا يريد الخروج فلا يخرج بعد ذلك ومن خرج فلا يدخل وأمهلوهم إلى الغروب فخرجوا بأمتعتهم وأطفالهم وأولادهم وأوانيهم إلى خارج البلدة وبات الأكثر منهم تحت السماء لضيق الوقت على الرحيل إلى بلدة أخرى وخرج أيضًا الكثير من عساكرهم وأتباعهم ممن لا يريد المقام والحبس فكانوا كلما وجدوا من جمل متاعه من أهل البلدة على حمار ليذهب إلى جهة يستقر بها ورموا به إلى الأرض وأخذوا الحمار وحصل لأهل الجيزة في تلك الليلة ما لا مزيد عليه من الكرب والجلاء عن أوطانهم وكل ذلك مجرد وهم مع قلة وجود الطعن إلا التزر اليسير‏.‏

وفي ثالث عشرينه سافرت خزينة المال المطلوبة إلى الباشا إلى جهة السويس وأصحبوا معها عدة كبيرة من عسكر الدلاة لخفارتها وقدرها ألفان وخمسمائة كيس جميعها قروش‏.‏

شهر جمادى الأولى سنة 1229 استهل بيوم الجمعة في ثالثه خرج حسن باشا بعساكره ونزل بوطاقه وخيامه التي نصبت له بالعادلية قبل خروجه بيومين‏.‏

وفي رابعه وصلت هجانة من ناحية الحجاز بطلب حسن بك دالي باشا وأخشاب واحتياجات وجمال والذي أخبر به المخبرون عن الباشا وعساكره أن طوسون باشا وعابدين ركبوا بعساكرهم على ناحية تربة التي بها المرأة التي يقال لها غالية فوقعت بينهم حروب ثمانية أيام ثم رجعوا منهزمين ولم يظفروا بطائل ولأن العربان نفرت طباعهم من الباشا لما حصل منه في حق الشريف من القبض عليه وهاجر الكثير من الأشراف وانضموا إلى الأخصام وتفرقوا في النواحي ومنهم شخص يقال له الشريف راجح فأتى من خلف العسكر وقت قيام الحرب وحاربهم ونهب الذخيرة والأحمال من العربان المسالمين له بأغلى ثمن وأخبروا أيضًا أنه واقع بالحرمين غلاء شديد لقلة الجالب واحتكار الباشا للغلال الواصلة إليه من مصر فيبيعه حتى على عسكره بأغلى ثمن من التجبر على المسافرين والحجاج في استصحابهم شيئًا من الحب والدقيق فيفتشون متاعهم في السويس ويأخذون ما يجدونه معهم مما يتزودن يه في سفرهم من القمح أو الدقيق وما يكون معهم من الفرانسة لنفقتهم وأعطوهم بدلها من القروش‏.‏

وفيه بلغ صرف الريال الفرانسة من الفضة العددية ثمانمائة وعشرين نصفًا عناه ثمانية قروش والمشخص عشرون قرشًا وقل وجود الفرانسة والمشخص والمحبوب المصري بأيدي الناس جدًا ثم نودي على أن يصرف الريال بسبعة قروش والمشخص بستة عشر قرشًا وشددوا قفي ذلك وعاقبوا من زاد على ذلك في قبض أثمان المبيعات وأطلقوا في الناس جواسيس وعيونًا فمن عثروا عليه في مبيع أو غيره أنه قبض بالزيادة أحاطوا به وأخذوه وعاقبوه بالحبس والضرب والتغريم وربما أرسلوا من طرفهم أشخاصًا متنكرين يأتي أحدهم للبائع فيساومه السلعة كأنه مشتر ويدفع له في ضمن الثمن ريالًا أو مشخصًا ويحسبه بحسابه الأول ويناكره في ذلك فربما تجاوز البائع خوفًا من بوار سلعته وخصوصًا إذا كانت البيعة رابحة أو بيعة استفتاح على زعم الباعة وقلة الزبون بسبب وقف حال الناس أو إفلاسهم فما هو إلا أن يتباعد عنه يسيرًا فما يشعر إلا وهو بين يدي الأعوان ويلاقي وعده‏.‏

وفي منتصفه وصلت قافلة من السويس وفيها جملة من العسكر المتمرضين ونحو العشرة من كبارهم نفاهم الباشا إلى مصر وفيهم حجو أوغلي ودالي حسن وعلي أغادرمنلي وترجوا وحسن أغا أزرجنلي ومصطفى ميسوا وأحمد أغا قنبور‏.‏

وعليه أيضًا خرج عسكر المغاربة ومن معهم من الأجناس المختلفة إلى مصر العتيقة ليذهبوا من الناحية القصير إلى الحجاز وأما محو بك فإنه لم يزل بقنا القلة المراكب بالقصير التي تحملهم إلى الحجاز‏.‏

وفي سادس عشره وصلت قافلة وفيها أنفار من أهل مكة والمدينة وسفار وبضائع تجارة بن وأقمشة وبياض شيء كثير وقد أتت إلى جدة من تجارات الشريف غالب ولم يبلغهم خبر الشريف غالب وما حصل له فلما حضر وضع الباشا يده عليه جميعه وأرسل إلى مصر فتولى ذلك السيد محمد المحروقي وفرقها على التجار بالثمن الذي قدره عليهم وألزمهم أن لا يدفعوه إلا فرانسة‏.‏

وفي هذا الشهر وصل الخبر بموت الشيخ مسعود كبير الوهابية وتولى مكانه ابنه عبد الله‏.‏

وفيه خرج طائفة الكتبة والأقباط والروزنامجي والجاجرتية وذهب الجميع إلى جزيرة شلقان ليحرروا دفاتر على الروك الذي راكوه من قياس الأراضي زيادة الأطيان وجفل الكثير من الفلاحين وأهالي الأرياف وتركوا أوطانهم وزرعهم وهالهم هذا الواقع لكونهم لم يعتادوه ويألفوه وباعوا مواشيهم ودفعوا أثمانها في الذي طلع عليهم في الزيادات الهائلة وسيعودون مثل الكلاب ويعتادون سلخ الإرهاب وأما الملتزمون فبقوا حيارى باهتين وارتفع أيدي تصرفهم في حصصهم ولا يدرون عاقبة أمرهم منتظرين رحمة ربهم وان وقت الحصاد وهم ممنوعون عن ضم زرع وسياهم إلى أن أذن لهم الكتخدا بذلك وكتب لهم أوراقًا وتوجهوا بأنفسهم أو بمن ينوب عن مخدومه وأراد ضم زرعه ولم يجد من يطيعه بهم وتطاولوا عليهم بالألسنة فيقول الحرفوش منهم إذا دعي للشغل بأجرته روح انظر غيري أنا مشغول في شغلي أنتم إيش بقالكم في البلاد قد انقضت أيامكم إحنا صرنا فلاحين الباشا وقد كانوا من الملتزمين أذل من العبيد المشترى فربما أن العبد يهرب من سيده إذا كلفه فوق طاقته أو أهنه بالضرب وأما الفلاح فلا يمكنه ولا يسهل به أن يترك وطنه وأولاده وعياله ويهرب وإذا هرب إلى بلدة أخرى واستعلم أستاذه مكانه أحضره قهرًا وازداد ذلًا ومقتًا وإهانة وكان من طرائفهم أنه إذا آن وقت الحصاد والتحضير طلب الملتزم أو قائم مقامه الفلاحين فينادي عليهم الغفير أمس اليوم المطلوبين في صبحه بالتبكير إلى شغل الملتزم فمن تخلف لعذر أحضره الغفير أو المشد وسحبه من شنبه وأشبعه سبًا وشتمًا وضربًا وهو المسمى عندهم بالعونة والسخرة واعتادوا ذلك بل يرونه من اللازم الواجب وهذا خلاف ما يلقونه من الإذلال والتحكم من مشايخهم والشاهد والنصراني الصراف وهو العمدة والعهدة خصوصًا عند قبض المال فيخالطهم ويناكرهم وهم له أطوع من أستاذهم وأمره نافذ فيهم فيأمر قائمقام بحبس من شاء أو ضربه محتجًا عليهم ببواقي لا يدفعها وإذا غلق أحدهم ما عليه من المال الذي وجب عليه في قائمة المصروف وطلب من المعلم ورده وهي ورقة الغلاق وعده لوقت آخر حتى يحرر حسابه فلا يقدر الفلاح على مراددته خوفًا منه فإذا سأله من بعد ذلك قال له بقي عليك حبتان من فدان أو أخروبتان أو نحو ذلك ولا يعطيه ورقة الغلاق حتى يستوفي منه قدر المال أو يصانعه بالهدية والرشوة وغير ذلك أمور وأحكام خارجة عن إدراك البهيمة فضلًا عن البشرية كالشكاوي ونحوها وذلك كما إذا تشاجر أحدهم مع آخر على أمر جزئي بادر أحدهم بالحضور إلى الملتزم وتمثل بين يديه قائلًا أشكو إليه فلانًا بمائة ريال مثلًا فبمجرد قول ذلك يأمر بكتابة ورقة خطابًا إلى قائمقام أو المشايخ بإحضار ذلك الرجل المشتكي واستخلاص القدر الذي ذكره الشاكي قليلًا أو كثيرًا أو حبسه وضربه حتى يدفع ذلك القدر ويرسل والورقة مع بعض أتباعه ويكتب بهامشها كراء طريقة قليلًا أو كثير أو يسمونه حق الطريق فعند وصوله أول شيء يطالب به الرجل حق الطريق المعين ثم الشكوى فإن بادر ودفعها وإلا حبس أو حضر به المعين إلى بيت أستاذه فيوعده الحبس ويعاقبه بالضرب حتى يوفي القدر الذي تلفظ به الشاكي وإن تأخر عن حضوره المعين أردفه بآخر وحق طريق الآخر كذلك ويسمونها الاستعجالة وغير ذلك أحكام وأمور غير معقولة المعنى قد ربوا عليها واعتادوا لا يرون فيها بأسًا ولا عيبًا وقد سلط الله على هؤلاء الفلاحين بسوء أفعالهم وعدم ديانتهم وخيانتهم وإضرارهم لبعضهم البعض من لا يرحمهم ولا يعفو عنهم كما قال فيهم البدر الحجازي وسبعة بالفلح قد أنزلت لما حووه من قبيح الفعال شيوخهم أستاذهم والمشد والقتل فيما بينهم والقتال مع النصارى كاشف الناحية وزد عليها كدهم في اشتغال وفقرهم ما بين عينيهم مع اسوداد الوجه هذا النكال وإذا التزم بهم ذو رحمة أزدروه في أعينهم واستهانوا به وبخدمه وماطلوه في الخراج وسموه بأسماء النساء وتمنوا زوال التزامه بهم وولاية غيره من الجبارين الذين لا يخافون ربهم ولا يرحمهم لينالوا بذلك أغراضهم بوصول الأذى لبعضهم وكذلك أشياخهم إذا لم يكن الملتزم ظالمًا يتمكنون هم أيضًا من ظلم فلاحيهم لأنهم لم يحصلوا لهم رواج إلا بطلب الملتزم الزيادة والمغارم فيأخذون لأنفسهم في ضمنهاما أحبوا وربما وزعوا خراج أطيانهم وزراعاتهم على الفلاحين وقد انحرم هذا الترتيب بما حدث في هذه الدولة من قياس الأراضي والفدن وما سيحدث بعد ذلك من الإحداثات التي تبدو قرائنها شيئًا بعد شيء‏.‏

وفي ثاني عشرينه برز حسن بك باشا دالي خيامه إلى خارج باب النصر وخرج هو في ثاني يوم في موكب ونزل بوطاقه ليتوجه إلى الحجاز على طريق البر‏.‏

وفي ليلة الأربعاء سابع عشرينه قبل الغروب بنحو نصف ساعة وصل جراد كثير مثل الغمام وصار يتساقط على الدور والأسطحة والأزقة مثل الغمام وأفسد كثيرًا من الأشجار وانقطع أثره في ثاني يوم‏.‏

وفي يوم الاثنين عاشره ارتحل حسن باشا من ناحية الشيخ قمر إلى بركة الحج‏.‏

وفي منتصفه حضر الروزنامجي والأفندية بعد أن استملى منهم القبط الدفاتر وأسماء الملتزمين ومقادير حصصهم ثم حضر محمود بك والمعلم غالي ومن معهم من الكتبة الأقباط وظهر للناس عند حضورهم نتيجة صنعوه ونظموه ورتبوه من قياس الأراضي ورك البلاد وهو أن الأراضي زادت في القياس بالقصبة التي قاسوا بها وحددوها مقدار الثلث أو الربع حتى قاسوا الرزق الأحباسية بأسماء أصحابها ومزارعيها وأطيان الوسايا على حدتها حتى الأجران وما لا يصلح للزراعة وما يصلح من البور الصالح وغير الصالح فلما تم ذلك حسبوها بزياداتها بالأفدنة ثم جعلوها ضرائب منها ضريبة خمسة عشر ريالًا وأربعة عشر واثني عشر وأحد عشر وعشرة مال الفدان بحسب جودة الإقليم والأرض فبلغ ذلك مبلغًا عظيمًا بحيث أن البلدة التي كانت يفرض عليها في مغارم الفرض التي كانوا فرضوها قبل ذلك في سنيهم الماضية ويتشكى منها الفلاحون والملتزمون ويستغيثون ويبقى منها بواقي ويعجزون عنها ألف ريال طلع عليها في هذه اللفة عشرة آلاف ريال إلى مائة ألف وأقل وأكثر وأحضر الكتخدا إبراهيم آغا الرزاز والشيخ أحمد يوسف وخلع عليهما خلعتين وجعلوا لهما ديوانًا خاصًا لمن يلتزم بالقدر الذي تحرر على حصته التي في تصرفه فيعطونه ورقة تصرف ويكتب على نفسه وثيقة بأجل معلوم يقوم بدفع ذلك ويتصرف في حصته بشرط ان لا يكون له إلا أطيان الأوسية إن شاء زرعها وأخذ غلتها وإن شاء أجرها لمن شاء وليس له من مال الخراج إلا المال الحر المعين بسند الديوان المعروف بالتقسيط وما زاد في قياس الأرض من طين الفلاحة والأوسية فهو للميري قل أو كثر وأما الرزق الأحباسية المرصدة على البر والصدقة ولأهل المساجد والأسبلة والمكاتب والخيرات فإنهم مسحوها بقياسهم فما وجدوه زائدًا عن الحد الأصلي جعلوه للديوان وما يقي قيدوه وحرروه باسم واضع اليد عليها واسم واقفها وزارعها أو ما يمليه المزارع الحاضر وقت القياس وسؤال المباشرين وقرروا عليها المال مثل ضريبة البلد فإن أثبتها صاحبها وكان بيده سند جديد من أيام الوزير وشريف أفندي وما بعده على سبقه لوقت تاريخه قيدوا له نصف مال تآجرها والنصف الثاني الباقي للديوان ورسموا لكاتب الرزق أن يعمل ديوانًا لذلك ومعه عدة من الكتبة ويأتي إله الناس بأوراق سنداتهم فمن وجد بيده سندًا جديدًا كتب له صورة قيد الكشف بموجب ما هو بدفتره في ورقة فيذهب بها إلى الديوان فيقيدون ذلك بعد البحث والتعنت من الطرفين ويقع الاشتباه الكثير في أسماء أربابها وأسماء حيضانها وغيطانها فيكلفون صاحب الحاجة بإثبات ما ادعاه ويكتب له أوراقًا لمشايخ الناحية وقاضيها بإثبات ما يدعيه ويعود مسافرًا ويقاسي ما يقاسيه من مشقة السفر والمصرف ومعاكسة المشايخ وقاضي الناحية ثم يعود إلى الديوان بالجواب ثم يمكن الاحتجاج عليه بحجة أخرى وربما كان سعيه وتعبه على فدان واحد أو أقل أو أكثر وازدحم الناس على بيت كاتب الرزق وانفتح له بذلك باب لأنه لا يكتب كشفًا حتى يأخذ عليه دراهم تعينت على قدر الأفدنة وأضاع الكثير من الناس ما تلقوه من أسلافهم وما كانوا يرتزقون منه وأهملوا تجديد السندات واتكلوا على ما بأيديهم من السندات القديمة لجهلهم وظنهم انقضاء الأمر وعدم دوام الحال وتغير الدولة وعود النسق الأول أو لفقرهم وعدم قدرتهم على ما ابتدعوه من كثرة المصاريف التي تصرف على تجديد السند واشتغال مال الحماية التي قدرها شريف أفندي على أراضي الرزق على كل فدان عشرة أنصاف أو خمسة فكثير من الناس استعظم ذلك واعتمد على أوراقه القديمة فضاعت عليه رزقته وانحلت وأخذها الغير والذي لم يرض بالتوت بل ولا حصل حطبه رضي بالولاش وكان الشأن في أمر الرزق أن أراضيها تزيد عن موقع أراضي البلاد زيادة كثيرة وخراجها أقل من خراج أراضي البلاد الذي يقال له المال الحر الأصلي وليس عليها مصاريف ولا مغارم ولا تكاليف فالمزارع من الفلاحين إذا كان تحت رزقه أو رزقتين فإنه يكون مغبوطًا ومحسودًا في أهل بلده ويدفع لصاحب الأصل القدر النزر والمزارع يتلقى ذلك سلفًا عن خلف ولا يقدر صاحب الأصل ان يزيد عليه زيادة وخصوصًا إذا كانت تحت يد بعض مشايخ البلاد فلا يقدر أحد أن يتعدى عليه من الفلاحين ويستأجرها من صاحبها وإن فعل لا يقدر على حمايتها والكثير من الرزق واسعة القياس جدًا وما لها قليل جدًا وخصوصًا في الأراضي القبلية فإن غالبها رزق وشراوي ومتأخرات لم تمسح ولم يعلم لها فدادين ولا مقادير وقد تزيد أيضًا بانحسار البحر عن سواحلها وكذلك في البلاد البحرية ولكن دون ذلك ومعظم أراضي الرزق القبلية مرصدة على جهات الأوقاف بمصر وغيرها والواضعون أيديهم عليها لا يدفعون لجهاتها ولا لمستحقيها إلا ما هو مرتب ومقرر من الزمن الأول السابق وهو شيء قليل وليتهم لو دفعوه فإن في أوقاف السلاطين المتقدمة القطمة من الأراضي التي عبرتها أكثر من ألف فدان وخراجها خمسون زكيبة والزكيبة خمس ويبات أو من الدراهم ألفان فضة وأقل وأكثر وهي تحت يد بعض كبراء البلاد يزرعها ويأخذ منها الألوف من الأردب من أجناس الغلال ويضن ويبخل بدفع ذلك القدر اليسير لجهة وقفه ويكسر السنة على السنة فإن كانت يد صاحب الأصل قوية أو كان واضع اليد فيه خيرية وقليل ما هم دفع لأربابها ثمنها بعد أن يرد الخمسين إلى الأربعين بالتكسير والخلط ثم يبخس الثمن جدًا فإن كان ثمن الأردب أربعمائة حسبه بأربعين نصفًا أو أقل فيعود ثمن الخمسين زكيبة إلى ثمن زكيبتين وقس على ذلك والذي يكون تحت يده شيء من أطيان هذه الأوقاف وورثها من بعده ذريته فزرعوها وتقاسموها معتقدين ملكيتها تلقوها بالإرث من مورثهم ولا يرون أن لأحد سواهم فيها حقًا ولا يهون بهم دفع شيء لأربابه ولو قل إلا قهرًا وبالجملة ما أصاب الناس إلا ما كسبت أيديهم ولا جنوا إلا ثمرات أعمالهم وكان معظم إدارات دوائر عظماء النواحي وتوسعاتهم ومضايفهم من هذه الأرزاق التي تحت أيديهم بغير استحقاق إلى أن سلط الله عليهم من استحوذ على جميع ذلك وسلب عنهم ما كانوا فيه من النعمة وتشتتوا في النواحي وتغربوا عن أوطانهم وخربت دورهم ومضايفهم وذهبت سيادتهم وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد وتسمع لهم ركزًا وفي بعض الأرزاق من مات أربابه وخربت جهاته ونسي أمره وبقي تحت يد من هو تحت يده من غير شيء أصلًا وقد أخبرني بنحو ذلك شمس الدين ابن حمودة من مشايخ برما بالمنوفية عندما أحضر إلى مصر في وقت هذا النظام أنه كان في حوزهم ألف فدان لا علم للملتزم ولا غيره بها وذلك خلاف ما بأيديهم من الرزق التي يزرعونها بالمال اليسير وخلاف المرصد على مساجد بلادهم التي لم يبق لها أثر وكذلك الأسبلة وغيرها وأطيانهم تحت أيديهم من غير شيء وخلاف فلاحتهم الظاهرة بالمال القليل لمصارف الحج لأنها كانت من جملة البلاد الموقوفة على مهمات أمير الحاج وقد انتسخ ذلك كله‏.‏

وفيه أخبر المخبرون أم مراكب الموسم وصلت في هذا العام إلى جدة وكان لها مدة سنين ممتنعة عن الوصول خوفًا من جور الشريف وزواله وتملك الدولة البلاد وظنهم فيهم العدل فاطمأنوا وعبروا متاجرهم وحضروا إلى جدة فجمع الباشا مكوسهم فبلغت أربعة عشرين لكًا واللك الواحد مائة ألف فرانسة فيكون أربعة وعشرين مائة ألف فرانسة فقبضها منهم بضائع ونقودًا وحسب البضائع بأبخس الأثمان ثم التفت إلى التجار الذين اشتروا البضائع وقال لهم إني طلبت منكم مرارًا أن تقرضوني المال فادعيتم الإفلاس ولما حضر الموسم بادرتم بأخذه وظهرت أموالكم التي كنتم تبخلون بها فلا بد أن تقرضوني ثلثمائة ألف فرانسة فصالحوه على مائتي ألف دفعوها له نقودًا وبضائع مشترواتهم حسبها لهم العشرة ستة ثم فرض على أهل المدينة ثلاثين ألف فرانسة‏.‏ واستهل

شهر رجب سنة 1229

في خامسه ضربوا عدة مدافع وأخبروا بوصول بشارة وأن عساكرهم حاربوا قنفدة واستولوا عليها ولم يجدوا بها غير أهلها‏.‏

وفي سادسه سار حسن بك دالي باشا بعساكره الخيالة برًا‏.‏

وفيه عزم على السفر والد محرم بك زوج ابنة الباشا إلى بلاده وذلك بعد عوده من الحجاز فأرسلوا إلى الأعيان تنابية بالأمر لهم بمهاداته ففعلوا وعبوا له بقجًا وبناوازًا وأقمشة هندية ومحلاوية كل أمير على قدر مقامه وفي ليلة الاثنين تاسعه حصلت في وقت أذان العشاء زلزلة نحو دقيقتين وكان المؤذنون طلعوا على المنارات وشرعوا في الأذان فلما اهتزت بهم ظن كل من كان على منارة سقوطها فأسرعوا في النزول فلما علموا أنها زلزلة طلعوا وأعادوا الأذان وسقط من شرائف الجامع الأزهر شرافة وتحركت الأرض أيضًا في خامس ساعة من الليل ولكن دون الأولى وكذلك وقت الشروق هزة لطيفة‏.‏

وفي حادي عشره هرب الشريف عبد الله ابن الشريف سرور في وقت الفجرية ولم يشعروا بهروبه إلا بعد الظهر فلما بلغ كتخدا بك الخبر فتكدر لذلك وأرسل إلى مشايخ الحارات وغيرهم وبث العربان في الجهات فلما كان ليلة السبت حضروا به في وقت الغروب وقد حجزوه بحلوان وأتوا به إلى بيت السيد محمد المحروقي فأخذه إلى كتخدا بك فأرسله إلى بيت أخيه أحمد آغا ومن ذلك الوقت ضيقوا عليه ومنعوه من الخروج والدخول بعد أن كان مطلق السراح يخرج من بيت أحمد أغا ويذهب إلى بيت عمه الشريف غالب ويعود وحده فعند ذلك ضيقوا عليه وعلى عمه أيضًا‏.‏

وفي يوم الخميس تاسع عشره حضر المشايخ عند كتخدا بك وعاودوه في الحطاب فيما أحدثوه على الرزق وعرفوه أنه يلزم من هذه الأحداث إبطال المساجد والشعائر فتنصل من ذلك وقال هذا شيء لا علاقة لي فيه وهذا شيء أمر به أفندينا ومحمود بك والمعلم غالي ثم كلموه أيضًا في صرف الجامكية المعروفة بالساثرة والدعا جوى للفقراء والعامة فوعدهم بصرفها وقت ما يتحصل المال فإن الخزينة فارغة من المال‏.‏

وفي يوم السبت حضر محمود بك والمعلم غالي من سرحتهما فذهب إليهما المشايخ في ثاني يوم ثم خاطبوهما بالكلام في شأن الرزق فأجابهم المعلم غالي بقوله يا أسيادنا هذا أمر مفروغ منه بأمر أفندينا من عام أول من قبل سفره فلا تتعبوا خاطركم واجب عليكم مساعدته خصوصًا في خلاص كعبتكم ونبيكم من أيدي الخوارج فلم يردوا عليه جوابًا وانصرفوا في ويم الأحد تاسع عشرينه حصل كسوف شمس وكان ابتداؤه بعد الشروق ومتداره قريبًا من الجرم وثم انجلاؤه في ثاني ساعة من النهار وكانت الشمس ببرج السرطان أربعًا وعشرين درجة في حادي عشر أبيب القبطي‏.‏

وفيه وصلت القافلة من ناحية السويس وأخبر الواصلون عن واقعة قنفدة وما حصل بها بعد دخول العسكر إليها وذلك أنهم لما ركبوا عليها برًا وبحرًا وكبيرهم محمود بك وزعيم أوغلي وشريف أغا فوجدوها خالية فطلعوا إليها وملكوها من غير ممانع ولا مدافع وليس بها غير أهلها وهم أناس ضعاف فقتلوهم وقطعوا آذانهم وأرسلوها إلى مصر ليرسلوها إلى إسلامبول وعندما علم العربان بمجيء الأتراك خلوا منها ويقال لهم عرب العسير وترافعوا عنها وكبيرهم يسمى طامي فلما استقر بها الأتراك ومضى عليهم نحو ثمانية أيام رجعوا عليهم وأحاطوا بهم ومنعوهم الماء فعند ذلك ركبوا عليهم وحاربوهم فانهزموا وقتل الكثير منهم ونجا محو بك بنفسه في نحو سبعة أنفار وكذلك زعيم أوغلي وشريف آغا فنزلوا في سفينة وهربوا فغضب الباشا وقد كان أرسل لهم نجدة من الشفاسية الخيالة فحاربهم العرب ورجعوا منهزمين من ناحية البر وتواتر هذا الخبر‏.‏

واستهل شهر شعبان بيم الثلاثاء سنة 1229 في ثانيه حضر ميمش أغا من الديار الحجازية وعلى يده فرمانات خطابًا لدبوس أوغلي وآخرين يستدعيهم إلى الحضور بعساكرهم وكان دبوس أوغلي في بلده البرلس فتوجه إليه الطلب وكذلك شرع كتخدا بك في اكتتاب عساكر أتراك ومغاربة وعربان وغير ذلك‏.‏

وفي رابعه سافر طائفة من العسكر وأرسل كتخدا بك يمنع الحجاج الواردين من بلاد الروم وغيرهم من النزول إلى السفائن الكائنة بساحل السويس والقصير وبأن يخلوها لأجل نزول العساكر المسافرين وبتأخير الحجاج وذلك أنه لما وصلت البشائر إلى الديار الرومية بفتح الحرمين وخلاص مكة وجدة والطائف والمدينة ووصول ابن مضيان والمضايفي وغيرهم إلى دار السلطنة وهروب الوهابيين إلى بلادهم فعملوا ولائم وأفراحًا وتهاني وكتبت مراسيم سلطانية إلى بلاد الرومنلي والأنضول بالبشائر بالفتح والإذن والترخيص والإطلاق لمن يريد الحج إلى الحرمين بالأمن والأمان والرفاهية والراحة فتحركت همم مريدي الحج لأن لهم سنين وهم ممتنعون ومتخوفون عن ورود الحج فعند ذلك أقبلوا أفواجًا بحريمهم وأولادهم ومتاعهم حتى أن كثيرًا من المتصوفين منهم باع داره وتعلقاته وعزم على الحج والمجاورة بالحرمين بأهله وعياله ولم يبلغهم استمرار الحروب وما بالحرمين من الغلاء والقحط إلا عند وصولهم إلى ثغر إسكندرية ولم يتحققوها إلا بمصر فوقعوا في حيرة ما بين مصدق ومكذب فمنهم من عزم على السفر ولم يرجع عن عزمه وسلم الأمر لله ومنهم من تأخر بمصر إلى أن ينكشف له الحال وقرروا على كل شخص من المسافرين في مراكب السويس عشرين فرانسة وذلك خلاف أجرة متاعه وما يتزود به في سفره فإنهم يزنونه بالميزان وعلى كل أقة قدر معلوم من الدراهم وأما من يسافر في بحر النيل على جهة القصير في مراكب الباشا فيؤخذ على رأس كل شخص من مصر القديمة إلى ساحل قنا ثلاثون قرشًا ثم عليه أجرة حمله من قنا إلى القصير ثم أجرة بحر القلزم إن وجد سفينة حاضرة وإلا تأخر إما بالقصير أو السويس حتى يتيسر له النزول ويقاسي ما يقاسيه في مدة انتظاره وخصوصًا في المال وغلو ثمنه ورداءته ولا يسافر شخص ويتحرك من مصر إلا بإذن كتخدا بك ويعطيه مرسومًا بالإذن وبلغني أن الذين خرجوا من إسلامبول خاصة بقصد الحج نحو العشرة آلاف خلاف من وصل من بلاد الرومنلي والأنضول وغيرهما وحضر الكثير من أعيانهم مثل أمام السلطان وغيره فنزل البعض بمنزل عثمان آغا وكيل دار السعادة سابقًا والبعض بمنزل السيد محمد المحروقي وبيت شيخ السادات ومنهم من استأجر دورًا في الخانات والوكائل‏.‏

وفيه حضر قاصد من باب الدولة وعلى يده مرسوم مضمونه الأمر باسترجاع ما أخذ من الشريف غالب من المال والذخائر إليه وكان الباشا أرسل إلى الدولة بسجتي لؤلؤ عظام من موجودات الشريف فحضر بهما ذلك القبجي وردهما إلى الشريف غالب ثم سافر ذلك القبجي بالأوامر إلى الباشا بالحجاز‏.‏

وفي سابعه وصلت هجانة باستعجال العساكر وتولى حضور الهجانة لمخصوص الاستعجال‏.‏

وفي يوم السبت تاسع عشره أنزلوا الشريف غالبًا إلى بولاق بحريمه وأولاده وعبيده وكان قد وصل إلى مصر آغا معين بقصد سفر المذكور إلى سلانيك فنزل صحبته إلى بولاق وصالحوه عما أخذ منه من المال وغيره بخمسمائة كيس فأرادوا دفعها له قروشًا فامتنع قائلًا أنهم أخذوا مالي ذهبًا مشخصًا فرانسة فكيف آخذ بدل ذلك نحاسًا لأنفع بها في غير مصر فأعطوه مائتي كيس ذهبًا وفرانسة وتحول الباقي وكيله مكي الخولاني ثم زودوه وأعطوه سكرًا وبنًا وأرزًا وشرابات وغير ذلك ونزل مسافرًا إلى المراكب صحبة المعين إلى الحجاز من ناحية القصير وبرز ابن باشت طرابلس وصحبته عساكر أيضًا من ناحية العادلية وآخر يقال له قنجة بك ومعهم نحو الألف وفي يوم الخميس رابع عشرينه الموافق لسادس شهر مسرى القبطي أو في النيل المبارك أذرعه فداروا بالرايات ونودي بالوفاء وكسروا السد في صبح يوم الجمعة بحضرة كتخدا بك والقاضي والجم الغفير من العساكر‏.‏

وفي أواخره وصلت الأخبار بأن الباشا توجه إلى الطائف وأبقى حسن باشا بمكة‏.‏

واستهل شهر رمضان بيوم الأربعاء سنة 1229 في رابعه حضر موسى آغا تفكجي باشا من الديار الحجازية وكان فيمن باشر حرابة قنفدة ومن جملة من انهزم بها وهلكت جميع عساكره وخدمه ورجع إلى مصر وصحبته أربعة أنفار من الخدم‏.‏

وفي عاشره خرجت العساكر المجردة لسفر الحجاز إلى بركة الحج وهم مغاربة وعربان وارتحلوا يوم الأحد ثاني عشره‏.‏

وفي الأربعاء خامس عشره برز دبوس أوغلي خارج باب الفتوح ليسافر بعساكره إلى الحجاز وكذلك حسن آغا سرششمه ونصبوا خيامهم واستمروا يخرجون من المدينة ويدخلون غدوًا وعشيًا وهم يأكلون ويشربون جهارًا في نهار رمضان ويقولون نحن مسافرون ومجاهدون ويمرون بأسواق ويجلسون على المساطب وبأيديهم الأقصاب والشبكات التي يشربون فيها الدخان من غير احتشام ولا حياء ويجوزون بحارات الحسينية على القهاوي في الضحوة فيجدونها مغلوقة فيسألون عن القهوجي ويطلبونه ليفتح لهم القهوة ويوقد لهم النار ويغلي لهم القهوة ويسقيهم فربما هرب القهوجي واختفى منهم فيكسرون الباب ويعبثون بآلاته وأوانيه فما يسعه إلا المجيء وإيقاد النار وأشيع من ذلك أنه اجتمع بناحية عرضيهم وخيامهم الجم الكثير من النساء الخواطي والبغايا ونصبوا لهن خيامًا وأخصاصًا وانضم إليهن بياع البوظة والعرقي والحشاشون والغوازي والرقاصون وأمثال ذلك وانحشر معهم الكثير من الفساق وأهل الأهواء والعياق من أولاد البلد فكانوا جمعًا عظيمًا يأكلون الحشيش ويشربون المسكرات ويزنون ويلوطون ويشربون الجوزة ويلعبون القمار جهارًا في نهار رمضان ولياليه مختلطين مع العساكر كأنما سقط عن الجميع التكاليف وخلصوا من الحساب وسمعت ممن شاهد بعينه محمود بك المهردار الذي هو أعظم أعيانهم وهو المتولي على قياس الأراضي مع المعلم غالي وهو جالس في ديوانهم المخصوص بالقرب من سويقة اللالا وهو يشرب في النارجيلة التنباك ويأتونه بالغداء جهارًا ويقول أنا مسافر الشرقية لعمل نظام الأراضي‏.‏

وفي غايته وصلت هجانة باستعجال العساكر‏.‏

في ليلته قلدوا عبد الله كاشف الدرندالي أميرًا على ركب الحجاج‏.‏

وفي يوم السبت ثالثه خرج دبوس أوغلي في موكب إلى مخيمه وكذلك‏.‏

حسن آغا سرشه ليسافر إلى الحجاز‏.‏

وفي يوم السبت حادي عسره نزلوا بكسوة الكعبة بالطبول والزمور إلى المشهد الحسيني واجتمع الناس على عاداتهم للفرجة‏.‏

وفيه انتقل محمود بك والمعلم غالي إلى بيت حسن آغا نجاتي وعملوا ديوانهم فيه وتلقوا الجنينة التي به جلسوا تحت أشجارها وربط الأقباط حميرهم فيها وشرع محمود بك في عمارة الجهة القبلية منه وانزوت صاحبة المنزل في ناحية منه‏.‏

وفي سابع عشره ارتحل دبوس أوغلي وحسن آغا سرششمه ومن معهم من العساكر من منزلتهم متوجهين إلى الديار الحجازية‏.‏

وفي يوم الخميس ثاني عشرينه رسم كتخدا بك بنفي طائفة من الفقهاء من ناحية طندتا إلى أبي قير بسبب فتيا أفتوها في حادثة ببلدهم وقضى بها قاضيهم وأنهيت الدعوى إلى ديوان مصر فطلبوا إلى إعادة الدعوى فحضروا وترافعوا إلى قاضي العسكر وأثبتوا عليهم الخطا فرسم بنفي الشاكي والمفتيين ولقاضي ربعهم‏.‏

وفي يوم السبت رابع عشرينه عملوا موكبًا لخروج المحمل واستعد الناس للفرجة على عادتهم فكان عبارة عن نحو مائة جمل تحمل روايا الماء والقرب وعدة من طائفة الدلاة على رؤوسهم طراطير سود قلابها وأمير الحاج على شكلهم وخلفه أرباب الأشاير ببيارقهم وشراميطهم وطبولهم وزمورهم وجاقاتهم وخلفهم المحمل فكان مدة مرورهم مع تقطيعهم وعدم نظامهم نحو ساعتين فأين ما كان يعمل من المواكب بمصر التي يضرب بحسنها وترتيبها ونظامها المثل في الدنيا فسبحان مغير الشؤون والأحوال‏.‏

وفيه خرجت زوجة الباشا الكبيرة وهي أم أولاده تريد الحج إلى خارج باب النصر في ثلاثة تخوت والمتسفر بها بونابارته الخازندار وقد حضر لوداعها ولدها إبراهيم باشا من الصعيد وخرج لتشييعها هو وأخوه إسمعيل باشا وصحبتهما محرم بك زوج ابنتها حاكم الجيزة ومصطفى بك دالي باشا ويقال أنه أخوها وكذلك محمد بك الدفتردار زوج ابنتها أيضًا وطاهر باشا وصالح بك السلحدار وارتحلت ومن معها في سدس عشرينه إلى بندر السويس وفي ذلك اليوم برزت عساكر المغاربة وغيرهم ممن تعسكر وارتحل أمير الحج من الحصوة إلى البركة‏.‏

وفي يوم الثلاثاء خرجت عساكر كثيرة مجردين للسفر‏.‏

وفي يوم الخميس تاسع عشرينه ارتحل أمير الحج ومن معه من البركة في تاسع ساعة من النهار وفي ذلك اليوم هبت رياح غربية شمالية باردة واشتد هبوبها أواخر النهار وأطبقت السماء بالغيوم والقتام وأبرق البرق برقًا متتابعًا وأرعدت رعدًا له دوي متصل ولما قرب من سمت رؤوسنا كان له صوت عظيم مزعج ثم نزل مطر غزير استمر نحو نصف ساعة ثم سكن بعد أن تبحرت منه الأزقة والطرق وكان ذلك اليوم رابع شهر بابه القبطي‏.‏

وفيه ورد الخبر من السويس أن امرأة الباشا لما وصلت إلى هناك وجدت عالمًا كبيرًا من الحجاج المختلفة الأجناس ممنوعين من نزول المراكب فصرخوا في وجهها وشكوا إليها تخلفهم وأن أمير البندر مانعهم من النزول في المراكب وبذلك المنع يفوتهم الحج الذي تجشموا الأسفر وصرفوا أيضًا الأموال من أجله وهم في مشقة عظيمة من عدم الماء ولا يمكنهم الرجوع لعدم من يحملهم وأن أمير البندر يشتط عليهم في الأجرة ويأخذ على كل رأس خمسة عشر فرانسة فحلفت أنها لا تنزل من المركب حتى ينزل جميع من السويس من الحجاج المراكب ولا يؤخذ منهم إلا القدر الذي جعلته على كل فرد منهم فكان ما حكمت به هذه الحرمة صار لها به منقبة حميدة وذكرًا حسنًا وفرجًا لهؤلاء الخلائق بعد الشدة‏.‏

واستهل شهر ذي القعدة بيوم السبت سنة 1229 وفي يوم الاثنين نادى المنادي بوقود قناديل سهارى على البيوت والوكائل وكل أربع دكاكين قنديل‏.‏

وفي ثامنه جرسوا شخصًا وأركبوه على حمار بالمقلوب وهو قابض بيده على ذنب الحمار وعمموه بمصارين ذبيحة وعلى كتفه كرش بعد أن حلقوا نصف لحيته وشواربه قيل أن سبب ذلك أنه زور حجة تقرير على أماكن تتعلق بامرأة أجنبية وباع تلك الأماكن وكانت تلك المرأة غائبة من مصر فلما حضرت وجدت مكانها مسكونًا بالذي اشتراه فرفعت قصتها إلى كتخدا بك ففعل به ذلك بعد وضوح القضية‏.‏

وفي ثاني عشره سافر عبد الله ابن الشريف سرور إلى الحجاز باستدعاء من الباشا فأعطوه أكياسًا وقضى أشغاله وخرج مسافرًا‏.‏

وفيه وقعت حادثة بحارة الكعكيين بين شخصين من الدلاتية رمحا خلف غلام بدوي عمل نفسه عسكريًا مع طائفة المغاربة يدعي أحدهما أن له عنده دراهم فهرب منهما إلى الخطة المذكورة فرمحا خلفه وبيد كل منهما سيفه مسلولًا فدخل الغلام إلى عطفة الحمام وفزعت عليهما المغاربة المتعسكرون القاطنون بتلك الناحية وضربوا عليهما بنادق فسقط حصان أحد الدلاة وأطيب راكبه وهرب رفيقه إلى كتخدا بك فأخبره فأمر بإحضار كبراء المغاربة وطالبهم بالضارب فلم يتبين أمره وقبضوا على الغلام الهارب فحبسوه وفي ذلك الوقت حصل بين الناس فزعة وأغلقت أهل سوق الغورية والشوائين والفحامين حوانيتهم وبقي ذلك الغلام محبوسًا ومات الدلاتي المضروب في ليلة السبت خامس عشره فأحضروا ذلك الغلام إلى باب زويلة وقطعوا رأسه ظلمًا ولم يكن هو الضارب‏.‏

وفي عشرينه سافر ابن باشت طرابلس وسافر معه عسكر المغاربة الخيالة‏.‏

واستهل شهر ذي الحجة سنة 1229 في أوله ورد نجاب من الحجاز وأخبر بموت طاهر أفندي وهو أفندي ديوان الباشا وكان موته في شهر شوال بالمدينة حتف أنفه وورد الخبر أيضًا بصلح الشريف راجح مع الباشا وأنه قابله وأكرمه وأنعم عليه بمائتي كيس وأخبر أيضًا بأنه تركه الباشا بناحية الكلخة وهي ما بين الطائف وتربة وانقضت السنة بحوادثها‏.‏

وأما من مات في هذه السنة فمات العمدة الفاضل الفقيه النبيه الشيخ حسين المعروف بابن الكاشف الدمياطي ويعرف بالرشيدي تعلق بالعلم وانخلع من الآمرية والجندية وحضر أشياخ العصر ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي وانتقل من مذهب الحنفية إلى الشافعية لملازمته لهم في المعقول والمنقول وتلقى عن السيد مرتضى أسانيد الحديث والمسلسلات وحفظ القرآن في مبدأ أمره برشيد وجوده على السيد صديق وحفظ شيئًا من المتون قبل مجيئه إلى مصر واكب على الاشتغال بالأزهر وتزيا بزي الفقهاء بلبس العمامة والفرجية وتصدر ودرس في الفقه والمعقول وغيرهما ولما وصل محمد باشا إلى ولاية مصر اجتمع عليه عند قلعة أبي قير فجعله إمامًا يصلى خلفه الأوقات وحضر معه إلى مصر ولم يزل مواظبًا على وظيفته وانتفع بنسبته إليه واقتنى حصصًا وإقطاعات وتقلد قضايا مناصب البلاد البنادر ويأخذ ممن يتولاها الجعالات والهدايا وأخذ أيضًا نظر وقف أزبك وغيره ولم يزل تحت نظره بعد انفصال محمد باشا خسرو واستمر المذكور على القراءة والإقراء حتى توفي أواخر السنة‏.‏

ومات الفاضل الشيخ عبد الرحمن الجمل وهو أخو الشيخ سليمان الجمل تفقه على أخيه ولازم دروسه وحضر غيره من أشياخ العصر ومشى على طريقة أخيه في التقشف والانجماع عن خلطة الناس ولما مات أخوه وكان يملي الدروس بجامع المشهد الحسيني بين المغرب والعشاء على جمع مجاوري الأزهر والعامة تصدر للإقراء في محله في ذلك الوقت فقر الشمايل والمواهب والجلالين ولم يزل على حالته حتى توفي ثاني عشر ذي الحجة‏.‏

ومات الشيخ المفيد محمد الأسناري الشهير بجاد المولى ممن جاور بالأزهر دروس أشياخ الوقت من أهل عصره ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي في دروسه وبه تخرج وواظب عليه مجالس الذكر وتلقى عنه طريقة الخلوتية وألبسه التاج وتقدم في خطابة الجمعة والأعياد بالجامع الأزهر بدلًا عن الشيخ عبد الرحمن البكري عندما رفعوها عنه وخطب بجامع عمر وبمصر العتيقة يوم الاستسقاء عندما قصرت زيادة النيل في سنة ثلاث وعشرين وتأخر في الزيادة عن أوانه ولما حضر محمد باشا خسرو إلى مصر وصلى صلاة الجمعة بالأزهر في سنة سبع عشرة خلع عليه بعد الصلاة فروة سمور فكان يخرجها من الخزنة ويلبسها وقت خطبة الجمعة والأعياد وواظب على قراءة الكتب للمبتدئين كالشيخ خالد والأزهرية ثم قرأ شرح الأشموني على الخلاصة واشتهر ذكره ونما أمره في أقل زمن وكان فصيحًا مفوهًا في التقرير والإلقاء لتفهيم الطلبة ولم يزل على حالة حميدة في حسن السلوك والطريقة حتى توفي في شهر ذي الحجة وقد ناهز الأربعين‏.‏

سنة ثلاثين ومائتين وألف استهل شهر المحرم بيوم الثلاثاء في خامسه وصل نجاب من الحجاز وعلى يده مكاتبات بالأخبار عن الباشا والحجاج بأنهم حجوا ووقفوا بعرفة وقضوا المناسك‏.‏

وفي تاسعه حضر إبراهيم باشا من الجهة القبلية إلى داره بالجمالية‏.‏

وفي عاشره يوم الخميس وصل في ليلته قابجي وعلى يده تقرير للباشا من الحجاز إلى ساحل القصير فضربوا لذلك مدافع من القلعة‏.‏

وفي صبحها خرج ابن الباشا وأخوه وكذلك أكابر دولتهم إلى ناحية البساتين ومنهم من عدى النيل إلى البر الغربي لملاقاته على مقتضى عادته في عجلته في الحضور وعلى حساب مضي الأيام من يوم وصوله إلى القصير فغابوا في انتظاره حتى انقضى النهار ثم رجعوا‏.‏

وفي صبح اليوم الثاني خرجوا ثم عادوا إلى دورهم آخر النهار واستمروا على الخروج والرجوع ثلاثة أيام ولم يحضر وكثر لغط الناس عند ذلك واختلفت رواياتهم وأقاويلهم مدة أيام ليلًا ونهارًا ثم ظهر كذب هذا الخبر وأن الباشا لم يزل بأرض الحجاز وقيل أن سبب إشاعة خبر مجيئه أنه وصل إلى ساحل القصير سفينة بها سبعة عشر شخصًا من العسكر فسألهم الوكيل الكائن بالقصير عن مجيئهم فأجابوه أنهم مقدمة الباشا وأنه واصل في أثرهم فعندما سمع جوابهم أرسل خطابًا إلى كاتب من الأقباط بقنا يعرفه بقدوم الباشا فكتب ذلك القبطي خطابًا إلى وكيل شخص من أعيان كتبة الأقباط بأسيوط يسمى المعلم بشارة فعندما وصله الجواب أرسل جوابًا إلى موكله بشارة المكور بمصر بذلك الخبر وفي الحال طلع به إلى القلعة وأعطاه لإبراهيم باشا فانتقل به إبراهيم باشا إلى مجلس كتخدا بك فخلع كتخدا بك على بشارة خلعة وأمر بضرب المدافع ونزلت المبشرون وانتشروا بالبشائر إلى بيوت الأعيان وأخذ البقاشيش في اختلاف الروايات والأقاويل كعادتهم فمنهم من يقول أنه حضر مهزومًا ومنهم من يقول مجروحًا ومنهم من يثبت موته والشيء الذي أوجب في الناس هذه التخليطات ما شاهدوه من حركات أهل الدولة وانتقال نسائهم من المدينة وطلوعهم إلى القلعة بمتاعهم وإخلاء الكثير منهم البيوت وانتقال طائفة الأرنؤد من الدور المتباعدة واجتماعهم وسكناهم بناحية خطة عابدين وكذلك انتقل إبراهيم باشا إلى القلعة ونقل إليها الكثير من متاعه وأغرب من هذا كله إشاعة اتفاق عظماء الدولة على ولاية إبراهيم باشا على الأحكام عوضًا عن أبيه في يوم الخميس ويرتبوا له موكبًا يركب فيه ذلك اليوم ويشق من وسط المدينة واجتمع الناس للفرجة عليه واصطفوا على المساطب والدكاكين فلم يحصل وظهر كذب ذلك كله وبطلانه واتفق في أثناء ذلك من زيادة الأوهام والتخيلات أن رضوان كاشف المعروف بالشعراوي سد باب داره التي بالشارع بخط باب الشعرية وفتح له بابًا صغيرًا من داخل العطفة التي بظاهره فأوشى بعض مبغضيه إلى كتخدا بك فعلته في هذا الوقت والناس يزداد بهم الوهم ويعتقدون صحة ما دار بينهم من الأكاذيب وخصوصًا كونه من الأعيان المعروفين فطلبه كتخدا بك وقال له لأي شيء سددت باب دارك وما الذي قاله المنجم لك فقال أن طائفة من العساكر تشاجروا بالخطة ودخلوا إلى الدار وأزعجونا فسددتها من ناحية الشارع بعدًا من الشر وخوفًا مما جرى على داري سابقًا من النهب فلم يلتفت لكلامه وأمر بقتله فشفع فيه صالح بك السلحدار وحسن آغا مستحفظان فعفا عنه من القتل وأمر بضربه فبطحوه وضربوه بالعصي ثم نزل بصحبته الآغا إلى داره وفتح الباب كما كان‏.‏

وفي رابع عشرينه وصلت مكاتبات من الديار الحجازية من عند الباشا وخلافه مؤرخة في ثالث عشر ذي الحجة يذكرون فيها ان الباشا بمكة وطوسون باشا ابنه بالمدينة وحسن باشا وأخاه عابدين بك وخلافهم بالكلخة ما بين الطائف وتربة‏.‏

ودخلت سنة 1230 واستهل شهر صفر الخير بيوم الخميس سنة 1230 في خامس عشرينه نودي بنقص مصارفة أصناف المعاملة وقد وصل صرف الريال الفرانسة من الفضة العددية إلى ثلثمائة وأربعين نصفًا عنها ثمانية قروش ونصف فنودي عليه بنقص نصف قرش والمحبوب وصل إلى عشرة قروش فنودي عليه بتسعة قروش وشددوا في هذه المناداة تشديدًا زائدًا وقتل كل من زاد من غير معارضة وكتبوا مراسيم إلى جميع البنادر وفيها وفي أواخره التزم المعلم غالي بمال الجزية التي تطلب من النصارى على خمسة وثمانين كيسًا وسبب ذلك أن بعض أتباع المقيد لقبض الجوالي قبض على شخص من النصارى وكان من قسوسهم وشدد عليه في الطلب وأهانه فأنهوا الأمر إلى المعلم غالي ففعل ذلك قصدًا لمنع الإيذاء عن أبناء جنسه ويكون الطلب منه عليهم ومنع المتظاهرين بالإسلام عنهم‏.‏

واستهل شهر ربيع الأول بيوم السبت سنة 1230 في تاسعه وصلت قافلة طيارى من الحجاز قدم صحبتها السيد عبد الله القماعي ومعها هجانة من الحجاز وعلى يدهم مكاتبات وفيها الأخبار والبشرى بنصرة الباشا على العرب وأنه استولى على تربة وغنم منها جمالًا وغنائم وأخذ منهم أسرى فلما وصلت الأخبار بذلك انطلق المشردون إلى بيوت الأعيان لأخذ البقاشيش وضربوا في صبحها مدافع كثيرة من القلعة‏.‏

وفي يوم الثلاثاء حادي عشره كان المولد النبوي فنودي في صبحه بزينة المدينة وبولاق ومصر القديمة ووقود القناديل والسهر ثلاثة أيام بلياليها فلما أصبح يوم الأربعاء والزينة بحالها إلى بعد أذان العصر نودي برفعها ففرح أهل الأسواق بإزالتها ورفعها لما يحصل لهم من التكاليف والسهر في البرد والهواء خصوصًا وقد حصل في آخر ليلة رياح شديدة‏.‏

وفي هذه الأيام سافر محمود بك والمعلم غالي ومن يصحبهما من النصارى الأقباط وأخذوا معهم طائفة من الكتبة الأفندية المختصين بالروزنامة ومنهم محمد أفندي المنفصل عن الروزنامة ونزلوا لإعادة قياس الأراضي وتحرير الري والشراقي وسبقهم القياسون بالأقصاب نزلوا وسرحوا قبلهم بنحو عشرة أيام وشرع كشاف النواحي في قبض الترويجة من المزارعين وفرضوا على كل فدان الأدنى تسعة ريالات إلى خمسة عشر بحسب جودة الأراضي ورداءتها وهذا الطلب في غير وقته لأنه لم يحصل حصاد للزرع وليس عند الفلاحين ما يقتاتون منه ومن العجب أنه لم يقع مطر في هذه السنة أبدًا ومضت أيام الشتاء ودخل فصل الربيع ولم يقع غيث أبدًا سوى ما كان يحصل في بعض الأيام من غيوم وأهوية غربية ينزل مع هبوبها بعض رشاش قليل لا تبتل الأرض منه ويجف بالهواء بمجرد نزوله‏.‏

وفي أواخره ورد لحضرة الباشا هدية من بلاد الإنكليز وفيها طيور مختلفة الأجناس والأشكال كبار وصغار وفيها ما يتكلم ويحاكى وآلة مصنوعة لنقل الماء يقال لها الطلمبه وهي تنقل الماء إلى المسافة البعيدة ومن الأسفل إلى العلو ومرآة زجاج نجف كبيرة قطعة واحدة وساعة تضرب مقامات موسيقى في كل ربع يمضي من الساعة بأنغام مطربة وشمعدان به حركة غريبة كلما طالت فتيلة الشمعة غمز بحركة لطيفة فيخرج منه شخص لطيف من جانبه فيقط رأس الفتيلة وفيه عملوا تسعيرة على المبيعات والمأكولات مثل اللحم والسمن والجبن والشمع ونادوا بنقص أسعارها نقصًا فاحشًا وشددوا في ذلك بالتنكيل والشنق والتعليق وخرم الآناف فارتفع السمن والزبد والزيت من الحوانيت وأخفوه وطفقوا يبيعونه في العشيات بالسعر الذي يختارونه على الزبون وأما السمن فلكثرة طلبه لأهل الدولة شح وجوده وإذا ورد منه شيء خطفوه وأخذوه من الطريق بالسعر الذي سعره الحاكم وانعدم وجوده عند القبانية وإذا بيع منه شيء بيع سرابًا قصى الثمن وأما السكر والصابون فبلغا الغاية في غلو الثمن وقلة الوجود لأن إبراهيم باشا احتكر السكر بأجمعه الذي يأتي من الصعيد وليس بغير الجهة القبلية شيء منه فيبيعه على ذمته وهو في الحقيقة لأبيه ثم صار نفس الباشا يعطي لأهل المطابخ بالثمن الذي يعنيه عليهم ويشاركهم في ربحه فزاد غلو ثمنه على الناس وبيع الرطل من السكر الصعيدي الذي كان يباع بخمسة أنصاف فضة بثمانين نصفًا وأما الصابون ففرضوا على تجاره غرامة فامتنع وجوده وبيع الرطل الواحد منه خفية بستين نصفًا وأكثر وفي هذه الأيام غلا سعر الحنطة والفول وبيع الأردب بألف ومائتي نصف فضة خلاف الكلف والأجرة مع أن الأهراء والشون ببولاق ملآنة بالغلال ويأكلها السوس ولا يخرجون منها للبيع شيئًا حتى قيل لكتخدا بك في إخراج شيء منها يباع في الناس فلم يأذن وكأنه لم يكن مأذونًا من مخدومه‏.‏

في ثامنه عمل محرم بك الكورنتينة بالجيزة على نسق السنة الماضية من إخراج الناس وإزعاجهم تطيرًا خوفًا من الطاعون‏.‏

وفيه خوزقوا شيخ عرب بلى فيما بين العرب والهلايل بعد حبسه أربعة أشهر‏.‏

وفي يوم الجمعة ثامن عشرينه ضربت مدافع وأشيع الخبر بوصول شخص عسكري بمكاتبات من الباشا وخلافه والخبر بقدوم الباشا وانتشرت المبشرون إلى بيوت الأعيان وأصحاب المظاهر على عاداتهم لأخذ البقاشيش فمن قائل أنه وصل إلى القصير ومن قائل أنه نزل إلى السفينة بالبحر ومنهم من يقول أنه حضر إلى السويس ثم اختلفت الروايات وقالوا أن الذي وصل إلى السويس حريم الباشا فقط ثم تبين كذب هذه الأقاويل وأنها مكاتبات فقط مؤرخة أواخر شهر صفر يذكرون فيها أن الباشا حصل له نصر واستولى على ناحية يقال لها بيشة ورينة وقتل الكثير من الوهابيين وأنه عازم على الذهاب إلى ناحية قنفدة ثم ينزل بعد ذلك إلى البحر ويأتي إلى مصر ووصل الخبر بوفاة الشيخ إبراهيم كاتب الصرة‏.‏ واستهل

شهر جمادى الأول بيوم الثلاثاء سنة 1230

في سادسه يوم الأحد ضربت مدافع بعد الظهيرة لورود مكاتبة بأن الباشا استولى على ناحية وفي يوم الجمعة ثامن عشره وصل المحمل إلى بركة الحج وصحبته من بقي من رجال الركب مثل خطيب الجبل والصيرفي والمحملجية ووردت مكاتبات بالقبض على طامي الذي جرى منه ما جرى في وقائع قنفدة السابقة وقتله العساكر فلم يزل راجح الذي اصطلح مع الباشا ينصب له الحبائل حتى صاده وذلك أنه عمل لابن أخيه مبلغًا من المال إن هو أوقعه في شركه فعمل له وليمة ودعاه إلى محله فأتاه آمنًا فقبض عليه واغتاله طمعًا في المال وأتوا به إلى عرضي الباشا فوجهه إلى بندر جدة في الحال وأنزلوه السفينة وحضروا به إلى السويس وعجلوا بحضوره فلما وصل إلى البركة والمحمل إذ ذاك بها خرجت جميع العساكر في ليلة الاثنين حادي عشرينه وانجروا في صبحها طوائف وخلفهم المحمل مبعد مرورهم دخلوا بطامي المذكور وهو راكب على هجين وفي رقبته الحديد والجنزير مربوط في عنق الهجين وصورته رجل شهم عظيم اللحية وهو لابس عباءة عبدانية ويقرأ وهو راكب وعملوا في ذلك اليوم شنكًا ومدافع وحضر أيضًا عابدين بك وتوجه إلى داره في ليلة الاثنين‏.‏

واستهل شهر جمادى الثانية بيوم الخميس سنة 1230 في خامسه وصلت عساكر في داوات إلى السويس وحضروا إلى مصر وعلى رؤوسهم شلنجات فضة إعلامًا وإشارة بأنهم مجاهدون وعائدون من غزو الكفار وأنهم افتتحوا بلاد الحرمين وطردوا المخالفين لديانتهم حتى أن طوسون باشا وحسن باشا كتبا في إمضائهما على المراسلات بعد اسمهما لفظة المغازي والله أعلم بخلقه‏.‏

وفي تاسعه أخرجوا عساكر كثيرة وجوههم إلى الثغور ومحافظة الأساكل خوفًا من طارق يطرق الثغور لأنه أشيع أن بونابارته كبير الفرنساوية خرج من الجزيرة التي كان بها ورجع إلى فرنسا وملكها وأغار على بلاد الجورنة وخرج بعمارة كبيرة لا يعلم قصده إلى أي جهة يريد فربما طرق ثغر الإسكندرية أو دمياط على حين غفلة وقيل غير ذلك وسئل كتخدا بك عن سبب خروجهم فقال خوفًا عليهم من الطاعون ولئلا يوخموا المدينة لأنه وقع في هذه السنة موثان بالطاعون وهلك الكثير من العسكر وأهل البلدة والأطفال والجواري والعبيد خصوصًا السودان فإنه لم يبق منهم إلا القليل النادر وخلت منهم الدور‏.‏

وفي منتصفه أخرج كتخدا بك صدقة تفرق على الأولاد الأيتام الذين يقرؤون بالكتاتيب ويدعون برفع الطاعون فكانوا يجمعونهم ويأتي بهم فقهاؤهم إلى بيت حسن كتخدا الكتخدا عند مصلى ويدفعون لكل صغير ورقة بها ستون نصفًا فضة يأخذ منها جزأ الذي يجمع الطائفة منهم ويدعى أنه معلمهم زيادة عن حصته لأن معلم المكاتب مغلوقة وليس بها أحد بسبب تعطيل الأوقاف وقطع إيرادهم وصار لهذه الأطفال جلبة وغوغاء في ذهابهم ورجوعهم في الأسواق وعلى بيت الذي يقسم عليهم‏.‏

واستهل شهر رجب بيوم الجمعة سنة 1230 في سادسه يوم الأربعاء وصلت هجانة من ناحية قبلي وأخبروا بوصول الباشا إلى القصير فخلع عليهم كتخدا بك كساوى ولم يأمر بعمل شنك ولا مدافع حتى يتحقق صحة الخبر‏.‏

وفي ليلة الجمعة ثامنه احترق بيت طاهر باشا بالأزبكية والبيت الذي بجواره أيضًا‏.‏

وفي يوم الجمعة المذكور قبل العصر ضربت مدافع كثيرة من القلعة والجيزة وذلك عندما ثبت وتحقق ورود الباشا إلى قنا وقوص ووصل أيضًا حريم الباشا وطلعوا إلى قصر شبرا وركب للسلام عليها جميع نساء الأكابر والأعيان بهداياهم وتقادمهم ومنعوا المارين من المسافرين والفلاحين الواصلين من الأرياف المرور من تحت القصر الذي هو الطريق المعتادة للمسافرين فكانوا يذهبون ويمرون من طريق استحدثوها منعطفة خلف تلك الطريق ومستبعدة بمسافة طويلة‏.‏

وفي ليلة الخميس رابع عشره انخسف جرم القمر جميعه بعد الساعة الثالثة وكان في آخر برج وفي ليلة الجمعة خامس عشره وصل الباشا إلى الجيزة ليلًا فأقام بها إلى آخر الليل ثم حضر إلى داره بالأزبكية فأقام بها يومين وحضر كتخدا بك وأكابر دولته للسلام عليه فلم يأذن لأحد وكذلك مشايخ الوقت ذهبوا ورجعوا ولم يجتمع به أحد سوى ثاني يوم وترادفت عليه التقادم والهدايا من كل نوع من أكابر الدولة والنصارى بأجناسهم خصوصًا الأرمن وخلافهم بكل صنف من التحف حتى السراري البيض بالحلي والجواهر وغير ذلك وأشيع في الناس في مصر وفي القرى بأنه تاب عن الظلم وعزم على إقامة العدل وأنه نذر على نفسه أنه إذا رجع منصورًا واستولى على أرض الحجاز أفرج للناس عن حصصهم ورد الأرزاق الأحباشية إلى أهلها وزادوا على هذه الإشاعة أنه فعل ذلك في جميع النواحي وباتوا يتخيلونه في أحلامهم ولما مضى من وقت حضوره ثلاثة أيام كتبوا أوراقًا لمشاهير الملتزمين مضمونها أنه بلغ حضرة أفندينا ما فعله الأقباط من ظلم الملتزمين والجور عليهم في فائظهم فلم يرض بذلك والحال أنكم تحضرون بعد أربعة أيام وتحاسبون على فائظكم وتقبضونه فغن أفندينا لا يرضى بالظلم وعلى الأوراق إمضاء الدفتردار ففرح أكثر المغفلين بهذا الكلام واعتقدوا صحته وأشاعوا أيضًا أنه نصب تجاه قصر شبرا خوازيق للمعلم غالي وأكابر القبط‏.‏

وفي رابع عشرينه حضر الكثير من أصحاب الأرزاق الكائنين بالقرى والبلاد مشايخ وأشرافًا وفلاحين ومعهم بيارق وأعلام مستبشرين وفرحين بما سمعوه وأشاعوه وذهبوا إلى الباشا وهو يعمل رماحة بناحية القبة برمي بنادق كثيرة وميدان تعليم فلما رآهم وأخبروه عن سبب مجيئهم فأمر بضربهم وطردهم ففعلوا بهم ذلك ورجعوا خائبين‏.‏

وفيه حضر محمود بك والمعلم غالي من سرحتهما وقابلا الباشا وخلع عليهما وكساهما وألبسهما فراوي سمور فركب المعلم غالي وعليه الخلعة وشق من وسط المدينة وخلفه عدة كثيرة من الأقباط ليراه الناس ويكمد الأعداء ويبطل ما قيل من التقولات ثم أقام هو ومحمود بك أيامًا قليلة ورجعا لأشغالهما وتتميم أفعالهما من تحرير القياس وجبي الأموال وكانا أرسلا قبل حضورهما عدة كثيرة من الجمال الحاملة للأموال في كل يوم قطارات بعضها أثر بعض من الشرقية والغربية والمنوفية وباقي الأقاليم‏.‏

وفيه حضر شيخ طرهونة بجهة قبلي ويسمى كريم بضم الكاف وفتح الراء وتشديد الياء وسكون الميم وكان عاصيًا على الباشا ولم يقابله أبدًا فلم يزل يحتال عليه إبراهيم باشا ويصالحه ويمنيه حتى أتى إليه وقابله وأمنه فلما حضر الباشا أبوه من الحجاز أتاه على أمان ابنه وقدم معه هدية وأربعين من الإبل فقبل هديته ثم أمر برمي عنقه بالرميلة‏.‏

والناس في أمر مريج من قطع أرزاقهم وأرباب الالتزامات والحصص التي ضبطها الباشا ورفع أيديهم عن التصرف في شيء منها خلاطين الأوسية فإنه سامحهم فيه سوى ما زاد عن الروك الذي قاسوه فإنه لديوانه ووعدهم بصرف المال الحر المعين بالسند الديواني فقط بعد التحرير والمحاققة ومناقضة الكتبة الأقباط في القوائم وأقاموا منتظرين إنجاز وعده أيامًا يغدون ويروحون ويسألون الكتبة ومن له صلة بهم وقد ضاق خناقهم من التفليس وقطع الإيراد ورضوا بالأقل وتشوقوا لحصوله وكل قليل يعدون بعد أربعة أيام أو ثلاثة أيام حتى تحرر الدفاتر فإذا تحررت قيل أن الباشا أمر بتغييرها وتحريرها على نسق آخر ويكرر ذلك ثانيًا وثالثًا على حسب تفاوت المتحصل في السنين وما يتوفر في الخزينة قليلًا أو كثيرًا‏.‏

وفيه وصل رجل تركي على طريق دمياط يزعم أنه عاش من العمر زمنًا طويلًا وأنه أدرك أوائل القرن العاشر ويذكر أنه حضر إلى مصر مع السلطان سليم وأدرك وقته وواقعته مع السلطان الغوري وكان في ذلك الوقت تابعًا لبعض البيرقدارية وشاع ذكره وحكي من رآه أن ذاته تخالف دعواه وامتحنه البعض في مذاكرة الأخبار والوقائع فحصل منه تخليط ثم أمر الباشا بنفيه وإبعاده فأنزلوه في مركب وغاب خبره فيقال أنهم أغرقوه والله أعلم‏.‏

وفي خامس عشرينه عملوا الديوان ببيت الدفتردار وفتحوا باب صرف الفائظ على أرباب حصص الالتزام فجعلوا يعطون منه جانبًا وأكثر ما يعطونه نصف القدر الذي قرروه وأقل وأزيد قليلًا‏.‏

وفيه أمر الباشا لجميع العساكر بالخروج إلى الميدان لعمل التعليم والرماحة خارج باب النصر حيث قبة العزب فخرجوا من ثلث الليل الأخير وأخذوا في الرماحة والبندقة المتواصلة المتتابعة مثل الرعود على طريقة الإفرنج وذلك قبيل الفجر إلى الضحوة ولما انقضى ذلك رجعوا داخلين إلى المدينة في كبكبة عظيمة حتى زحموا الطرق بخيولهم من كل ناحية وداسوا أشخاصًا من الناس بخيولهم بل وحميرًا أيضًا وأشيع أن الباشا قصده إحصاء العسكر وترتيبهم على النظام الجديد وأوضاع الإفرنج ويلبسهم الملابس المقمطة ويغير شكلهم وركب في ثاني يوم إلى بولاق وجمع عساكر ابنه إسمعيل باشا وصنفهم على الطريقة المعروفة بالنظام الجديد وعرفهم قصده فعل ذلك بجميع العساكر ومن أبى ذلك قابله بالضرب والطرد والنفي بعد سلبه حتى من ثيابه ثم ركب من بولاق وذهب إلى شبرا وحصل في العسكر قلقلة ولغط وتناجوا فيما بينهم وتفرق الكثير منهم عن مخاديمهم وأكابرهم ووافقهم على النفور بعض أعيانهم واتفقوا على غدر الباشا ثم أن الباشا ركب من قصر شبرا وحضر إلى بيت الأزبكية ليلة الجمعة ثامن عشرينه وقد اجتمع عند عابدين بك بداره جماعة من أكابرهم في وليمة وفيهم حجو بك وعبد الله آغا صاري جلة وحسن آغا الأزرنجلي فتفاوضوا بينهم أمر الباشا وما هو شارع فيه واتفقوا على الهجوم عليه في داره بالأزبكية في الفجرية ثم إن عابدين بك غافلهم وتركهم في إنسهم وخرج متنكرًا مسرعًا إلى الباشا وأخبره ورجع إلى أصحابه فأسرع الباشا في الحال الركوب في سادس ساعة من الليل وطلب عساكر طاهر باشا فركبوا معه وحوط المنزل بالعساكر ثم أخلف الطريق وذهب على ناحية الناصرية ومرمى النشاب وصعد إلى القلعة وتبعه من يثق به من العساكر وانخرم أمر المتوافقين ولم يسعهم الرجوع عن عزيمتهم فساروا إلى بيت الباشا يريدون نهبه فمانعهم المرابطون وتضاربوا بالرصاص والبنادق وقتل بينهم أشخاص ولم ينالوا غرضًا فساروا على ناحية القلعة واجتمعوا بالرميلة وقراميدان وتحيروا في امرهم واشتد غيظهم وعلموا أو وقوفهم بالرميلة لا يجدي شيئًا وقد أظهروا المخاصمة ولا ثمرة تعود عليهم في رجوعهم وسكونهم بل ينكسف بالهم وتنذل أنفسهم ويلحقهم اللوم من أقرانهم الذين لم ينضموا إليهم فأجمع رأيهم لسور طباعهم وخبث عقيدتهم وطرائقهم أنهم يتفرقون في شوارع المدينة وينهبون متاع الرعية وأموالهم فإذا فعلوا ذلك فيكثر جمعهم وتقوى شوكتهم ويشاركهم المخلفون عنهم لرغبة الجميع في القبائح الذميمة ويعودون بالغنيمة ويحوصلون من الحواصل ولا يضيع سعيهم في الباطل كما يقال في المثل ما قدر على ضرب الحمار فضرب البرذعة ونزلوا على وسط قصبة المدينة على الصليبة على السروجية وهم يكسرون ويهشمون أبواب الحوانيت المغلوقة وينهبون ما فيها لأن الناس لما تسامعوا بالحركة أغلقوا حوانيتهم وأبوابهم وتركوا أسبابهم طلبًا للسلامة وعندما شاهد باقيهم ذلك أسرعوا للحوق وبادروا معهم للنهب والخطف بل وشاركهم الكثير من الشطار والزعر والعامة المقلين والجياع ومن لا دين له وعند ذلك كثر جمعهم ومضوا على طريقهم إلى قصبة رضوان إلى داخل باب زويلة وكسروا حوانيت السكرية وأخذوا ما وجدوه من الدراهم وما أحبوه من أصناف السكر فجعلوا يأكلون ويحملون ويبددون الذي لم يأخذوه ويلقونه تحت الأرجل في الطريق وكسروا أواني الحلو وقدور المربيات وفيها ما هو من الصيني والبياغوري والإفرنجي ومجامع الأشربة وأقراص الحلو الملونة والرشال والملبس والفانيد والحماض والبنفسج وبعد أن يأكلوا ويحملوا هم وأتباعهم ومن انضاف لهم من الأوباش البلدية والحرافيش والجعيدية يلقون ما فضل عنهم على قارعة الطريق بحيث صار السوق من حد باب زويلة إلى المناخلية مع اتساعه وطوله مرسومًا ومنقوشًا بألوان السكاكر وأقراص الأشربة الملونة وأعسال المربيات سائلة على الأرفن وكان أهل ذلك السوق المتسببون جددوا وطبخوا أنواع المربيات والأشربة عند وفور الفواكه وكثرتها في أوانها وهو هذا الشهر المبارك مثل الخوخ والتفاح والبرقوق والتوت والقرع المسير والحصرم والسفرجل وملئوا الأوعية وصففوها على حوانيتهم للمبيع وخصوصًا على موسم شهر رمضان ومضوا في سيرهم إلى العقادين الرومي والغورية والأشرفية وسوق الصاغة ووصلت طائفة إلى سوق مرجوس فكسروا أبواب الحوانيت والوكائل والخانات ونهبوا ما في حواصل التجار من الأقمشة المحلاوي والبز والحرير والزردخان ولما وصلت طائفة إلى رأس خان الخليلي وأرادوا العبور والنهب فزعت فيهم الأتراك والأرنؤد الذين يتعاطون التجارة الساكنون بخان اللبن والنحس وغيرهما وضربوا عليهم الرصاص وكذلك من سوق الصرماتية والأتراك الخردجية الساكنون بالرباع بباب الزهومة جعلوا يرمون عليهم من الطيقان بالرصاص حتى ردوهم ومنعوهم وكذلك تعصبت طائفة المغاربة الكائنون بالفحامين وحارة الكعكيين رموا عليهم بالرصاص وطردوهم عن تلك الناحية وأغلقوا البوابات التي على رؤوس العطف وجلس عند كل درب أناس ومن فوقهم أناس من أهل الخطة بالرصاص تمنع الواصل إليهم ووصلت طائفة إلى خان الحمزاوي فعالجوا في بابه حتى كسروا الخوخة التي في الباب وعبروا الخان وكسروا حواصل التجار من نصارى الشوام وغيرهم ونهبوا ما وجدوه من النقود وأنواع الأقمشة الهندية والشامية والمقصبات وبالات الجوخ والقطيفة والأسطوفة وأنواع الشيت والحرير الخام والإبريسم وغير ذلك وتبعهم الخدم والعامة في نهب وأخرجوا في الدكاكين والحواصل من أنواع الأقمشة وأخذوا ما أعجبهم واختاروه وانتقوه وتركوا ما تركوه ولم يقدروا على حمله مطروحًا على الأرض ودهليز الخان وخارج السوق يطئون عليه بالأرجل والنعالات ويعدو القوي على الضعيف فيأخذ ما معه من الأشياء الثمينة وقتل بعضهم البعض وكسروا أبواب الدكاكين التي خارج الخان بالخطة وأخرجوا ما فيها من الأواني والتحف الصيني والزجاج المذهب والكاسات البلور والصحون والأطباق والفناجين البيشة وأنواع الخردة وأخذوا ما أعجبهم وما وجدوه من نقود ودراهم وهمشوا البواقي وكسروه وألقوه على الأرض يحي الأرجل شقاقًا وما به من حوانيت العطارين وطرحوا أنواع الأشياء العطرية بوسط الشارع تداس بالأرجل أيضًا وفعلوا ما لا خير فيه من نهب أموال الناس والإتلاف ولولا الذين تصدوا لدفعهم ومنعهم بالبنادق والكرانك وغلق البوابات لكان الوقع أفظع من ذلك ولنهبوا أيضًا البيوت وفجروا بالنساء والعياذ بالله ولكن الله سلم وشاركهم في فعلهم الكثير من الأوباش والمغاربة المدافعين أيضًا فإنهم أخذوا أشياء كثيرة وكانوا يقبضون على من يمر بهم ممن يقدرون عليه من النهابين ويأخذون ما معهم لأنفسهم وإذا هشمت العساكر حانوتًا وخطفوا منها شيئًا ولحقهم من يطردهم عنها استأصل اللاحقون ما فيها واستباح الناس أموال بعضهم البعض وكان هذا الحادث الذي لم نسمع بنظيره في دولة من الدول في ظرف خمس ساعات وذلك من قبيل صلاة الجمعة إلى قبيل العصر حصل للناس في هذه المدة اليسيرة من الانزعاج والخوف الشديد ونهب الأموال وإتلاف الأسباب والبضائع ما لا يوصف ولم تصل الجمعة في ذلك اليوم وأغلقت المساجد الكائنة بداخل المدينة وأخذ الناس حذرهم ولبسوا أسلحتهم وأغلقوا البوابات وقعدوا على الكرانك والمرابط والمتاريس وسهروا الليالي وأقاموا على التحذر والتحفظ والتخوف أيامًا وليالي‏.‏

وفي يوم السبت تاسع عشرينه الموافق لآخر يوم من شهر أبيب القبطي أوفى النيل المبارك أذرعه وكان ذلك اليوم أيضًا ليلة رؤية هلال رمضان فصادف حصول الموسمين في آن واحد فلم يعمل فيها موسم ولا شنك على العادة ولم يركب المحتسب ولا أرباب الحرف بموكبهم وطبولهم وزمورهم وكذلك شنك قطع الخليج وما كان يعمل في ليلته من المهرجان في النيل وسواحله وعند السد وكذلك في صبحه وفي البيوت المطلة على الخليج فبطل ذلك جليعه ولم يشعر بهما أحد وصام الناس باجتهادهم وكان وفاء النيل في هذه السنة من النوادر فإن النيل لم تحصل فيه الزيادة بطول الأيام التي مضت من شهر أبيب إلا شيئًا يسيرًا حتى حصل في الناس وهم زائد وغلا سعر الغلة ورفعوها من السواحل والعرصات فأفاض المولى في النيل واندفعت فيه الزيادة العظيمة وفي ليلتين أوفى أذرعه قبل مظنته فإن الوفاء لا يقع في الغالب إلا في شهر مسرى ولم يحصل في أواخر أبيب إلا في النادر وإني لم أدركه في سنين عمري أو في أبيب إلا مرة واحدة وذلك في سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف فتكون المدة بين تلك وهذه المدة سبعًا وأربعين وفيه أرسل الباشا بطلب السيد محمد المحروقي فطلع إليه وصحبته عدة كبيرة من عسكر المغاربة لخفارته فلما واجهه قال له هذا الذي حصل للناس من نهب أموالهم في صحائفي والقصد أنكم تتقدمون لأرباب المنهوبات وتجمعونهم بديوان خاص طائفة بعد أخرى وتكتبون قوائم لكل طائفة بما ضاع لها على وجه التحرير والصحة وأنا أقوم لهم بدفعه بالغًا ما بلغ فشكر له ودعا له ونزل إلى داره وعرف الناس بذلك وشاع بينهم فحصل لأربابه بعض الاطمئنان وطلع إلى الباشا كبار العسكر مثل عابدين بك ودبوس أوغلي وحجو بك ومحو بك واعتذروا وتنصلوا وذكروا وأقروا أن هذا الواقع اشتركت فيه طوائف العسكر وفيهم من طوائفهم وعساكرهم ولا يخفاه خبث طباعهم فتقدم إليهم بأن يتفقدوا بالفحص وإحصاء ما حازه وأخذه كل من طوائفهم وعساكرهم وشدد عليهم في الأمر بذلك فأجابوه بالسمع والطاعة وامتثلوا لأمره وأخذوا في جمع ما يمكنهم وإرساله إلى القلعة وركبوا وشقوا بشوارع المدينة وأمامهم المناداة بالأمان وأحضر الباشا المعمار وأمره بجمع النجارين والمعمرين وإشغالهم في تعمير ما تكسر من أخشاب الدكاكين والأسواق ويدفع لهم أجرتهم وكذلك الأخشاب على طرف الميري‏.‏

واستهل شهر رمضان بيوم الاثنين سنة 1230 والناس في أمر مريج وتخوف شديد وملازمون للسهر على الكرنك ويتحاشون المشي والذهاب والمجيء وكل أهل خطة ملازم لخطته وحارته كل وقت يذكرون وينقلون بينهم روايات وحكايات ووقائع مزعجات وتطاولت أيدي العساكر بالتعدي والأذية والفتك والقتل لمن ينفردون به من الرعية‏.‏

وفي ثاني ليلة طلع السيد محمد المحروقي وطلع صحبته الشيخ محمد الدواخلي نقيب الأشراف وابن الشيخ العروسي وابن الصاوي المتعينون في مشيخة الوقت وصحبتهم شيخ الغورية وطائفته وقد ابتدؤا بهم في إملاء ما نهب لهم من حوانيتهم بعدما حرروها عند السيد محمد المحروقي وتحليفهم بعد الإملاء على صدق دعواهم وبعد التحليف والمحاققة يتجاوزعن بعضه لحضرة الباشا ثم يثبتون له الباقي فاستقر لأهل الغورية خاصة مائة وثمانون كيسًا فدفع لهم ثلثيها وأخر لهم الثلث وهو ستون كيسًا يستوفونها فيما بعد أما عن عروضهم إن ظهر لهم شيء منها أو من الخزينة ولازم الجماعة الطلوع والنزول في كل ليلة لتحرير بواقي المنهوبات وأيضًا استقر لأهل خان الحمزاوي نحو ثلاثة آلاف كيس كذلك ولطائفة السكرية نحو من سبعين كيسًا خصمت لهم من ثمن السكر الذي يبتاعونه من الباشا واستمر الباشا بالقلعة يدير أموره ويجب قلوب الناس من الرعية وأكابر دولته بما يفعله من بذل المال ورد المنهوبات حتى ترك الناس يسخطون على العسكر ويترضون عنه ولو لم يفعل ذلك وسارت العساكر هذه الثورة ولم يقع منهم نهب ولا تعد لساعدتهم الرعية واجتمعت عليهم أهالي القرى وأرباب الإقطاعات لشدة نكايتهم من الباشا بضبط الرزق والالتزامات وقياس الأراضي وقطع المعايش وذلك من سوء تدبير العسكر وسعادة الباشا وحسن سياسته باستجلابه الخواطر وتملقه بالكلام اللين والتصنع ويلوم على فعل العسكر ويقول بمسمع الحاضرين ما ذنب الناس معهم خصوصًا خصامهم معي أو مع الرعية ها أنا لي منزل بالأزبكية فيه أموال وجواهر وأمتعة وأشياء كثيرة وسراية ابني إسمعيل باشا ببولاق ومنزل الدفتردار ونحو ذلك ويتحسبل ويتحوقل ويعمل فكرته ويدبر أمره في أمر العسكر وعظمائهم وينقم عليهم ويعطيهم الأموال الكثيرة والأكياس العديدة لأنفسهم وعساكرهم وتنتبذ طائفة منهم ويقولون نحن لن ننهب ولم يحصل لنا كسب فيعطيهم ويفرق فيهم المقادير العظيمة فأنعم على عابدين بك بألف كيس ولغيره دون ذلك‏.‏

وفي أثناء ذلك أخرج جردة من عسكر الدلاة ليسافروا إلى الديار الحجازية فبرزوا إلى خارج باب الفتوح حيث المكان المسمى بالشيخ قمر ونصبوا هناك وطاقهم وخرجت أحمالهم وأثقالهم‏.‏

وفي ليلة الخميس ثارت طائفة الطبجية وخاضوا وضجوا وهم نحو الأربعمائة وطلبوا نفقة فأمر لهم بخمسة وعشرين كيسًا ففرقت فيهم الأربعمائة وطلبوا نفقة فأمر لهم بخمسة وعشرين كيسًا ففرقت فيهم فسكتوا وفي يوم الخميس المذكور نزل كتخدا بك وشق من وسط المدينة ونزل عند جامع الغورية وجلس فيه ورسم لأهل السوق بفتح حوانيتهم وأن يجلسوا فيها فامتثلوا وفتحوا الحوانيت وجلسوا على تخوف كل ذلك مع عدم الراحة والهدوء وتوقع المكروه والتطير من العسكر وتعدى السفهاء منهم في بعض الأحايين والتحزر والاحتراس وأما النصارى فإنهم حصنوا مساكنهم ونواحيهم وحاراتهم وسدوا المنافذ وبنو كرانك واستعدوا بالأسلحة والبنادق وأمدهم الباشا بالبارود ولآلات الحرب دون المسلمين حتى أنهم استأذنوا كتخدا بك في سد بعض الحارات النافذة التي يخشون وقوع الضرر منها فمنع من ذلك وأما النصارى فلم يمنعهم وقد تقدم ذكر فعله مع رضوان كاشف عندما سد باب داره وفتحه من جهة أخرى وعززه وضربه وبهدله بوسط الديوان‏.‏

وفيه وصل نجيب أفندي وهو قبي كتخدا الباشا عند الدولة إلى بولاق فركب إليه كتخدا بك وأكابر الدولة والآغا والوالي وقابلوه ونظموا له موكبًا من بولاق إلى القلعة ودخل من باب النصر وحضر صحبته خلع برسم الباشا وولده طوسون باشا وسفيان وشلنجان وهدايا وأحقاق تشوق مجوهرة وعملوا لوصوله شنكًا ومدافع من القلعة وبولاق‏.‏

وفيه ارتحل الدلاة المسافرون إلى الحجاز ودخل حجو بك إلى المدينة بطائفته‏.‏

وفي ضحوة ذلك اليوم بعد انفضاض أمر الموكب حصل في الناس زعجة وكرشات وأغلقوا البوابات والدروب واتصل هذا الإزعاج بجميع النواحي حتى بولاق ومصر القديمة ولم يظهر لذلك أصل ولا سبب من الأسباب مطلقًا‏.‏

وفي تلك الليلة ألبس الباشا حجو خلعة وتوجه بطرطور طويل وجعله أميرًا على طائفة من الدلاة وانخلع هو وأتباعه من طريقتهم التركية التي كانوا عليها وهؤلاء الطائفة التي يقال لهم دلاة ينسبون أنفسهم إلى طريقة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأكثرهم من نواحي الشام وجبال الدروز والمتاولة وتلك النواحي يركبون الأكاديش وعلى رؤوسهم الطراطير السود مصنوعة من جلود الغنم الصغار طول الطرطور نحو ذراع وإذا دخل لكنيف نزعه من على رأسه ووضعه على عتبة الكنيف وما أدرى ذلك تعظيم له عن مصاحبته معه في الكنيف أو الخوف والحذر من سقوطه إن انصدم باسفكة الباب في صحن المرحاض أو الملاقي وهؤلاء الطائفة مشهورة في دولة العثمانيين بالشجاعة والإقدام في الحروب ويوجد فيهم من هو على طريقة حميدة ومنهم دون ذلك وقليل ما هم ولكونهم من تمام النظام رتبهم الباشا من أجناسه وأتراكه خلاف الأجناس الغريبة ومن بقي من أولئك يكون تبعًا لا متبوعًا‏.‏

وفي يوم الثلاثاء سادس عشره حصل مثل ذلك المتقدم من الانزعاج والكرشات بل أكثر من المرة الأولى ورمحت الرامحان وأغلقت الحوانيت وطلبت الناس السقائين الذين ينقلون الماء من الخليج وبيعت القربة بعشرة أنصاف فضة والراوية بأربعين فنزل الآغا وأغات التبديل وأمامهم المناداة بالأمان وينادون على العساكر أيضًا ومنهم من حمل البنادق ويأمرون الناس بالتحفظ واستمر هذا الأمر والارتجاج إلى قبيل العصر وسكن الحال وكثر مرور السقائين وبيعت القربة بخمسة أنصاف والراوية بخمسة عشر ولم يظهر لهذه الحركة سبب أيضًا وتقول الناس بطول نهار ذلك اليوم أصنافًا وأنواعًا من الروايات والأقاويل التي لا أصل لها‏.‏

وفي يوم الأربعاء سابع عشره حضر الشريف راجح من الحجاز ودخل المدينة وهو راكب على هجين وصحبته خمسة أنفار على هجن أيضًا معهم أشخاص من الأرنؤد من أتباع حسن باشا الذي بالحجاز فطلعوا به إلى القلعة ثم أنزلوه إلى منزل أحمد أغا أخي كتخدا بك‏.‏

وفي ليلة الخميس قلد الباشا عبد الله أغا المعروف بصاري جله وجعله كبيرًا على طائفة من الينكجرية أيضًا وجعل على رأسه الطربوش الطويل المرخي على ظهره كما هي عادتهم هو وأتباعه وكان من جملة المتهومين بالمخامرة على الباشا‏.‏

وفيه برز أمر الباشا لكبار العسكر بركوب جميع عساكرهم الخيول ومنعهم من حمل البنادق ولا يكون منهم راجل أو حامل للبندقية إلا من كان من أتباع الشرطة والأحكام مثل الوالي والآغا وأغات التبديل ولازم كتخدا بك وأيوب آغا تابع إبراهيم آغا أغات التبديل والوالي المرور بالشوارع والجلوس في مراكز الأسواق مثل الغورية والجمالية وباب الحمزاوي وباب زويلة وباب الخرق وأكثر أتباعهم مغطرون في نهار رمضان ومتجاهرون بذلك من غير احتشام ولا مبالاة بانتهاك حرمة شهر الصوم ويجلسون على الحوانيت والمساطب يأكلون ويشربون الدخان ويأتي أحدهم وبيده شبك الدخان فيدني مجمرته لأنف ابن البلد على غفلة منه وينفخ فيه على سبيل السخرية والهذيان بالصمائم وزادوا في الغي والتعدي وخطف النساء نهارًا وجهارًا حتى اتفق أوفي أن شخصًا منهم أدخل امرأة إلى جامع الأشرفية وزنى بها في المسجد بعد صلاة الظهر في نهار رمضان‏.‏

وفي أواخره عملوا حساب أهل سوق مرجوش فبلغ ذلك أربعمائة وخمسين كيسًا قبضوا ثلثيها وتأخر لهم الثلث كل ذلك خلاف النقود لهم ولغيرهم مثل تجار الحمزاوي وهو شيء كثير ومبالغ عظيمة فإن الباشا منع من ذكرها وقال لأي شيء يؤخرون في حوانيتهم وحواصلهم النقود ولا يتجرون فيها واتفق لتاجر من أهل سوق الجيوش أنه ذهب من حاصله من حواصل الخان ثمانية آلاف فرانسة فلم يذكرها ومات قهر وكذلك ضاع لأهالي خان الحمزاوي من صرر الأموال والنقود والودائع والرهونات والمصاغ والجوهر مما يرهنه النساء على ثمن ما يشترونه من التجار والتفاصيل والمقصبات أو على ما يتأخر عليهم من الأثمان ما لا يدخل تحت المحصر ويستحيا من ذكره وضاع لرجل يبيع الفسيخ والبطارخ تجاه الحمزاوي من حانوته أربعة آلاف فلم يذكرها وأمثال ذلك كثير وانقضى شهر رمضان والناس في أمر مريج وخوف وانزعاج وتوقع المكروه ولم ينزل الباشا من القلعة بطول الشهر وذلك على خلاف عادته فإنه لا يقدر على الاستقرار بمكان أيامًا وطبيعته الحركة حتى في الكلام وكبار العساكر والسيد محمد المحروقي ومن يصحبه من المشايخ ونقيب الأشراف مستمرون على الطلوع والنزول في كل يوم وليلة وللمتقيدين بالمنهوبين ديوان خاص وفرق الباشا كساوي العيد على أربابها ولم يظهر في هذه القضية شخص معين والكثير من العساكر الذين يمشون مع الناس في الأسواق يظهرون الخلاف والسخط ويظهر منهم التعدي ويخطفون عمائم الناس والنساء جهارًا ويتوعدون الناس بعودهم في النهب وكأنما بينهم وبين أهل البلدة عداوة قديمة أو ثارات يخلصونها منهم وفيهم من يظهر التأسف والتندم واللوم على المعتدين ويسفه رأيهم وهو المحروم الذي غاب على ذلك وبالجملة فكل ذلك تقادير إلهية وقضايا سماوية ونقمة حلت بأهل الإقليم وأهله من كل ناحية نسأل الله العفو والسلامة وحسن العاقبة ومما اتفق أن بعض الناس زاد بهم الوهم فنقل ماله من حانوته إلى منزله أو حرز آخر فسرقها السراق وحانوته أو حاصله لم يصبه ما أصاب غيره وتعدد نظير ذلك لأشخاص كثيرة وذلك من فعل أهل البلدة يراقبون بعضهم بعضًا ويداورونهم في أوقات الغفلات في مثل هذه الحركات ومنهم من اتهم خدمه وأتباعه وتهددهم وشكاهم إلى حكام الشرطة ويغرم مالًا على ذلك أيضًا وهم بريؤن ولا يفيده إلا ارتكاب الإثم والفضيحة وعداوة الأهل والخدم وزيادة الغرم وغالب ما بأيدي التجار أموال الشركاء والودائع والرهونات ويطلبه أربابها ومنهم قليل الديانة وذهب من حانوته أشياء وبقي أشياء فادعى ضياع الكل لقوة الشبهة‏.‏ واستهل

شهر شوال بيوم الثلاثاء سنة 1230

وهو يوم عيد الفطر وكان في غاية البرودة والخمول عديم البهجة من كل شيء لم يظهر فيه من علامات الأعياد إلا فطر الصائمين ولم يغير أحد ملبوسه بل ولا فصل ثيابًا مطلقًا ولا شيئًا جديدًا ومن تقدم له ثوب وقطعه وفصله في شعبان تأخر عند الخياط مرهونًا على مصاريفه ولوازمه لتعطيل جمع الأسباب من بطانة وعقادة وغيرها حتى أنه إذا مات ميت لم يدرك أهله كفنه إلا بمشقة عظيمة وكسد في هذا العيد سوق الخياطين وما أشبههم من لوازم الأعياد ولم يعمل فيه كعك ولا شريك ولا سمك مملح ولا نقل ولم يخرجوا إلى الجبانات والمدافن أيضًا كعادتهم ولا نصبوا خيامًا على المقابر‏.‏

ولم يحسن في هذه الحادثة إلا امتناع هذه الأمور وخصوصًا خروج النساء إلى المقابر فإنه لا يخرج منهن إلا بعض حرافيشهن على تخوف ووقع لبعضهن من العسكر ما وقع عند باب النصر والجامع الأحمر‏.‏

وفي ثالثه نزل الباشا من القلعة من باب الجبل وهو في عدة من عسكر الدلاة والأتراك الخيالة والمشاة وصحبته عابدين بك وذهب إلى ناحية الآثار فعيد على يوسف باشا المنفصل عن الشام لأنه مقيم هناك لتغيير الهواء بسبب مرضه ثم عدى إلى الجيزة وبات بها عند صهره محرم بك ولما أصبح ركب السفائن وانحدر إلى شبرا وبات بقصره ورجع إلى منزله بالأزبكية ثم طلع إلى القلعة‏.‏

وفي يوم الثلاثاء ثامنه عمل ديوانًا وجمع المشايخ المتصدرين وخاطبهم بقوله أنه يريد أن يفرج عن حصص الملتزمين ويترك لهم وساياهم يؤجرونها ويزرعونها لأنفسهم ويرتب نظامًا لأجل راحة الناس وقد أمر الأفندية كتاب الروزنامه بتحرير دفاتر وأمهلهم اثني عشر يومًا يحررون في ظرفها الدفاتر على الوجه المرضي فأثنوا عليه خيرًا ودعوا له فقال الشيخ الشنواني ونرجو من أفندينا أيضًا الإفراج عن الرزق الأحباسية كذلك فقال كذلك ننتظر في محاسبات الملتزمين ونحررها على الوجه المرضي أيضًا ومن أراد منهم أن يتصرف في حصته ويلتزم بخلاص ما تحرر عليها من المال الميري لجهة الديوان من الفلاحين بموجب المساحة والقياس صرفناه فيها وإلا أبقاها على طرفنا ويقبض فائظه الذي يقع عليه التحرير من الخزينة نقدًا وعدًا فدعوا له أيضًا وسكتوا فقال لهم تكلموا فإني ما طلبتكم إلا للمشاورة معكم فلم يفتح الله عليهم بكلمة يقولها أحدهم غير الدعاء له على أن الكلام ضائع لأنها حيل ومخادعة تروج على أهل الغفلات ويتوصل بها إلى إبراز ما يرومه من المرادات وعند ذلك انفض المجلس وانطلقت المبشرون على الملتزمين بالبشائر وهو الالتزام لتصرفهم ويأخذون منهم البقاشيش مع أن الصورة معلولة والكيفية مجهولة ومعظم السبب في ذكره ذلك أن معظم حصص الالتزام كان بأيدي العساكر وعظمائهم وزوجاتهم وقد انحرفت طباعهم وتكدرت أمزجتهم بمنعهم عنه وحجزهم عن التصرف ولم يسهل بهم ذلك فمنهم من كظم غيظه وفي نفسه ما فيها ومنهم من لم يطق الكتمان وبارز بالمخالفة والتسلط على من لا جناية عليه فلذلك الباشا أعلن في ديوانه بهذا الكلام بمسمع منهم لتسكن حدتهم وتبرد حرارتهم إلى أن يتم أمر تدبيره معهم‏.‏

وفيه وصلت هجانة وأخبار ومكاتبات من الديار الحجازية بوقوع الصلح بين طوسون باشا وعبد الله بن مسعود الذي تولى بعد موت أبيه كبيرًا على الوهابية وأن عبد الله المذكور ترك الحروب والقتال وأذعن للطاعة وحقن الدماء وحضر من جماعة الوهابية نحو العشرين نفرًا من الأنفار إلى طوسون باشا ووصل منهم اثنان إلى مصر فكأن الباشا لم يعجبه هذا الصلح ولم يظهر عليه علامات الرضا بذلك ولم يحسن نزل الواصلين ولما اجتمعا به وخاطبهما عاتبهما على المخالفة فاعتذرا وذكرا أن الأمير مسعودًا المتوفي كان فيه عناد وحدة مزاج وكان يريد الملك وإقامة الدين وأما ابنه الأمير عبد الله فإنه لين الجانب والعريكة ويكره سفك الدماء على طريقة سلفه الأمير عبد العزيز المرحوم فإنه كان مسالمًا للدولة حتى أن المرحوم الوزير يوسف باشا حين كان بالمدينة كان بينه وبينه غاية الصداقة ولم يقع بينهما منازعة ولا مخالفة في شيء ولم يحصل التفاقم والخلاف إلا في أيام الأمير مسعود ومعظم الأمر للشريف غالب بخلاف الأمير عبد الله فإنه أحسن السير وترك الخلاف وأمن الطرق والسبل للحجاج والمسافرين ونحو ذلك من الكلمات والعبارات المستحسنات وانقضى المجلس وانصرفا إلى المحل الذي أمرا بالنزول فيه ومعهما بعض أتراك ملازمون لصحبتهما مع أتباعهما في الركوب والذهاب والإياب فإنه أطلق لهما الإذن إلى أي محل أراده فكانا يركبان ويمران بالشوارع بأتباعهما ومن يصحبهما ويتفرجان على البلدة وأهلها ودخلا إلى الجامع الأزهر في وقت لم يكن به أحد من المتصدرين للإقراء والتدريس وسألوا عن أهل مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وعن الكتب الفقهية المصنفة في مذهبه فقيل انقرضوا من أرض مصر بالكلية واشتريا نسخًا من كتب التفسير والحديث مثل الخازن والكشاف والبغوي والكتب الستة المجمع على صحتها وغير ذلك وقد اجتمعت بهما مرتين فوجدت منهما أنسًا وطلاقة لسان واطلاعًا وتضلعًا ومعرفة بالأخبار والنوادر ولهما من التواضع وتهذيب الأخلاق وحسن الأدب في الخطاب والتفقه في الدين واستحضار الفروع الفقهية واختلاف المذاهب فيها ما يفوق الوصف واسم أحدهما عبد الله والآخر عبد العزيز وهو الأكبر حسنًا ومعنى‏.‏

وفي يوم السبت تاسع عشره خرجوا بالمحمل إلى الحصوة خارج باب النصر وشقوا به من وسط المدينة وأمير الركب شخص من الدلاة يسمى أوزون أوغلي وفوق رأسه طرطور الدالاتية ومعظم الموكب من عساكر الدلاة وعلى رؤسهم الطراطير السود بذاتهم المستشبعة وقد عم الإقليم المسخ في كل شيء فقد تغص الطبيعة وتتكدر النفس إذا شاهدت ذلك أو سمعت به وقد كانت نضارة الموكب السالفة في أيام المصريين ونظامها وحسنها وترتيبها وفخامتها وجمالها وزينتها التي لم يكن لها نظير في الربع المعمور ويضرب بها المثل في الدنيا كما قال قائلهم فيها مصر السعيدة ما لها من مثيل فيها ثلاثة من الهنا والسرور مواكب السلطان وبحر الوفا ومحمل الهادي نهار يدور فقد فقدت هذه الثلاثة في جملة المفقودات‏.‏

وفي ثالث عشرينه وصل قابجي وعلى يده تقرير ولاية مصر لمحمد علي باشا على السنة الجديدة فعملوا لذلك الواصل موكبًا من بولاق إلى القلعة وضربوا مدافع وشنكًا وبنادق‏.‏

في سادس عشره سافر الباشا إلى الإسكندرية وأخذ صحبته عابدين بك وإسمعيل باشا ولده وغيرهما من كبرائهم وعظمائهم وسافر أيضًا نجيب أفندي وسليمان أغا وكيل دار السعادة سابقًا تابع صالح بك المصري المحمدي إلى دار السلطنة وأصحب الباشا إلى الدولة وأكابرها الهدايا من الخيول والمهاري والسروج المكللة بالذهب واللؤلؤ والمخيش وتعابي الأقمشة الهندية المتنوعة من الكشمير والمقصبات والتحف ومن الذهب المضروب السكة أربعة قناطير ومن الفضة الثقيلة في الوزن والعيار عدة قناطير ومن السكر المكرر مرارًا وأنواع الشراب خافاه في القدور الصيني وغير ذلك‏.‏

وفيه وردت الأخبار بوصول طوسون باشا إلى الطور فهرعت أكابرهم وأعيانهم إلى ملاقاته وأخذوا في الاهتمام وإحضار الهدايا والتقادم وركبت الخوندات والنساء والستات أفواجًا أفواجًا يطلعن إلى القلعة ليهنين والدته بقدومه‏.‏

وفي غايته وصل طوسون باشا إلى السويس فضربوا مدافع إعلامًا بقدومه وحضر نجيب أفندي راجعًا من الإسكندرية لأجل ملاقاته لأنه قبي كتخدا اليوم أيضًا عند الدولة كما هو لوالده‏.‏

في رابعه يوم الاثنين نودي بزينة الشارع الأعظم لدخول طوسون باشا سرورًا بقدومه فلما أصبح يوم الثلاثاء خامسه احتفل الناس بزينة الحوانيت بالشارع وعملوا له موكبًا حافلًا ودخل من باب النصر وعلى رأسه الطلخان وشعار الوزارة وطلع إلى القلعة وضربوا في ذلك اليوم مدافع كثيرة وشنكًا وحراقات‏.‏

وفي ليلة الجمعة خامس عشره سافر طوسون باشا المذكور إلى الإسكندرية ليراه أبوه ويسلم هو عليه وليرى هو ولدًا له ولد في غيبته يسمى عباس بك أصحبه معه جده مع حاضنته وسنه دون السنتين يقال أن جده قصد إرساله إلى دار السلطنة فلم يمهل بأبيه ذلك وشق عليه ففارقه وخصوصًا كونه لم يره وسافر صحبة طوسون بك نجيب أفندي عائدًا إلى الإسكندرية‏.‏

وفي يوم السبت عشرينه حضر طوسون باشا إلى مصر راجعًا من الإسكندرية في تطريدة ومعه ولده فكانت مدة غيبته ذهابًا وإيابًا ثمانية أيام فطلع إلى القلعة وصار ينزل إلى بستان بطريق بولاق ظاهر التبانة عمره كتخدا بك وبنى به قصرًا فيقيم به غالب الأيام التي أقامها بمصر وانقضت السنة وما تجدد فيها من استمرار المبتدعات والمكوس والتحكير وإهمال السوقة والمتسبيين حتى عم غلو الأسعار في كل شيء حتى بلغ سعر كل صنف عشرة أمثال سعره في الأيام الخالية مع الحجر على الإيراد وأسباب المعايش فلا يهنا يعيش في الجملة إلا من كان مكاسًا أو في خدمة من خدم الدولة مع كونه على خطر فإنه وقع لكثير ممن تقدم في منصب أو خدمة أنه حوسب وأهين وألزم بما رافعوه فيه وقد استهلكه في نفقات نفسه وحواشيه فباع ما يملكه واستدان وأصبح ميؤوسًا مديونًا وصارت المعايش ضنكًا وخصوصًا الواقع في اختلاف المعاملات والنقود والزيادة في صرفها وأسعارها واحتجاج الباعة والتجار والمتسببين بذلك وبما حدث عليها من مال المكس مع طمعهم أيضًا وخصوصًا سفلة الأسواق وبياعي الخضارات والجزارين والزياتين فإنهم يدفعون ما هو مرتب عليهم للمحتسب مياومة ومشاهرة ويخلصون أضعافه من الناس ولا رادع لهم بل يسعرون لأنفسهم حتى أن البطيخ في أوان كثرته تباع الواحدة التي كانت تساوي نصفين بعشرين وثلاثين والرطل من العنب الشرقاوي الذي كان يباع في السابق بنصف واحد يبيعونه يومًا بعشرة ويومًا بإثني عشر ويومًا بثمانية وقس على ذلك الخوخ والبرقوق والمشمش وأما الزبيب والتين واللوز والبندق والجوز والأشياء التي يقال لها اليميش التي تجلب من بلاد الروم فبلغت الغاية في الثمن بل قد لا يوجد في أكثر الأوقات وكذلك ما يجلب من الشام مثل الملبن والقمر الدين والمشمش الحموي والعناب وكذلك الفستق والصنوبر وغير ذلك ما يطول شرحه ويزداد بطول الزمان قله‏.‏

ومات في هذه السنة العلامة الأوحد والفهامة الأمجد محقق عصره ووحيد دهره الجامع لأشتات العلوم والمنفرد بتحقيق المنطوق والمفهوم بقية الفصحاء والفضلاء المتقدمين والمتميز عن المتأخرين الشيخ محمد بن أحمد عرفة الدسوقي المالكي ولد ببلدة دسوق من قرى مصر وحضر إلى مصر وحفظ القرآن وجوده على الشيخ محمد المنير ولازم حضور دروس الشيخ علي الصعيدي والشيخ الدردير وتلقى الكثير من العقولات عن الشيخ محمد الجناجي الشهير الشافعي وهو مالكي ولازم الوالد حسنًا الجبرتي مدة طويلة وتلقى عنه بواسطة الشيخ محمد بن إسمعيل النفراوي علم الحكمة والهيئة والهندسة وفن التوقيت وحضر عليه أيضًا في فقه الحنفية وفي المطول وغيره برواق الجبرت بالأزهر وتصدر للإقراء والتدريس وإفادة الطلبة وكان فريدًا في تسهيل المعاني وتبيين المباني يفك كل مشكل بواضح تقريره ويفتح كل مغلق برائق تحريره ودرسه مجمع أذكياء الطلاب والمهرة من ذوي الأفهام والألباب مع لين جانب وديانة وحسن خلق وتواضع وعدم تصنع وإطراح تكلف جاريًا على سجيته لا يرتكب ما يتكلفه غيره من التعاظم وفخامة الألفاظ ولهذا كثر الآخذون عليه والمترددون إليه‏.‏

ومات الأستاذ الفريد واللوذعي المجيد الإمام العلامة والنحرير الفهامة الفقيه النحوي الأصولي الجدلي المنطقي الشيخ محمد المهدي الحفني ووالده من الأقباط وأسلم هو صغيرًا دون البلوغ على يد الشيخ الحفني وحلت عليه أنظاره وأشرقت عليه أنواره وفارق أهله وتبرأ منهم وحضنه الشيخ ورباه وأحبه واستمر بمنزله مع أولاده واعتنى بشأنه وقرأ القرآن ولما ترعرع اشتغل بطلب العلم وحفظ أبا شجاع وألفية النحو والمتون ولازم دروس الشيخ وأخيه يوسف وغيرهما من أشياخ الوقت مثل الشيخ العدوي والشيخ عطية الأجهوري والشيخ الدرير والبيلي والجمل والخرشي وعبد الرحمن المقري والشرقاوي وغيرهم واجتهد في التحصيل ليلًا ونهارًا ومهر وأنجب ولازم في غالب مجالس الذكر عن الشيخ الدردير بعد وفاة الشيخ الحفني وتصدر للتدريس في سنة تسعين ومائة وألف ولما مات الشيخ محمد الهلباوي سنة اثنتين وتسعين جلس مكانه بالأزهر وقرأ شرح الألفية لابن عقيل ولازم الإلقاء وتقرير الدروس مع الفصاحة وحسن البيان والتفهم وسلاسة التعبير وإيضاح العبارات وتحقيق المشكلات وما أمره وذكره وبعد صيته ولم يزل أمره ينمو واسمه يسمو مع حسن السمت ووجاهة الطلعة وجمال الهيئة وبشاشة الوجه وطلاقة اللسان وسرعة الجواب واستحضار الصواب في ترداد الخطاب ومسايرة الأصحاب‏.‏

وفارق الدنيا وأرسلوا إلى أولاده فحضر وأحملوه في تابوت إلى الدار الكبيرة بالمرسكي ليلًا وشاع موته وجهز وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل جدًا ودفن عند الشيخ الحنفي بجانب القبر فسبحان الحي الذي لا يموت‏.‏

ومات الأستاذ العلامة والنحرير الفهامة الفقيه النبيه المهذب المتواضع الشيخ مصطفى بن محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الشهير بالصفوي القلعاوي الشافعي ولد في شهر ربيع الأول من سنة ثمان وخمسين ومائة وألف وتفقه على الشيخ الملوي والسحيمي والبراوي والحفني ولازم شيخنا الشيخ أحمد العروسي وانتفع عليه وأذن له في الفتيا عن لسانه وجمع من تقريراته واقتطف من تحقيقاته وألف وصنف وكتب حاشية على ابن قاسم الغزي على أبي شجاع في الفقه وحاشية على شرح المطول للسعد التفتازائي على التلخيص وشرح شرح السمرقندي على الرسالة العضدية في علم الوضع وله منظومة في آداب البحث وشرحها ومنظومة المتن التهذيب في المنطق وشرحها وديوان شعر سماه إتحاف الناظرين في مدح سيد المرسلين وعدة من الرسائل في معضلات المسائل وغير ذلك وكان سكنه بقلعة الجبل ويأتي في كل يوم إلى الأزهر للإقراء والإفادة فلما أمر الباشا سكان القلعة بإخلائها والنزول منها إلى المدينة فنزلوا إلى المدينة وتركوا دورهم وأوطانهم نزل المترجم مع من نزل وسكن بحارة أمير الجيوش جهة باب الشعرية ولم يزل هناك حتى تمرض أيامًا وتوفي ليلة السبت سابع عشري شهر رمضان وصلي عليه بالأزهر ودفن بزاوية الشيخ سراج الدين البلقبني بحارة بين السيارج رحمه الله تعالى فإنه كان من أحسن من رأينا سمتًا وعلمًا وصلاحًا وتواضعًا وانكسارًا وانجماعًا عن خلطة الكثير من الناس مقبلًا على شأنه راضيًا مرضيًا طاهرًا نقيًا لطيف المزاج جدًا محبوبًا للناس عفا الله عنه وغفر لنا وله‏.‏

ومات الشيخ الفاضل الأجل الأمثل والوجيه المفضل الشيخ حسين بن حسن كناني بن علي المنصوري الحنفي تفقه على خاله الشيخ مصطفى بن سليمان المنصوري والشيخ محمد الدلجي والشيخ أحمد الفارسي والشيخ عمر الديركي والشيخ محمد المصيلي وأقرأ في فقه المذهب دروسًا في محل جده لأمه بالأزهر وسكن داره بحارة الحبانية على بركة الفيل مع أخيه الشيخ عبد الرحمن ثم انتقلا في حوادث الفرنساوية إلى حارة الأزهر ولما كانت حادثة السيد عمر مكرم النقيب من مصر إلى دمياط وكتبوا فيه عرضًا للدولة وامتنع السيد أحمد الطحطاوي من الشهادة عليه كما تقدم وتعصبوا عليه وعزلوه من مشيخة الحنفية قلدوها المترجم فلم يزل فيها حتى تمرض وتوفي يوم الثلاثاء تاسع عشري لمحرم وصلي عليه بالأزهر ودفن بتربة المجاورين رحمه الله وإيانا‏.‏

ومات البليغ النجيب والنبيه الأريب نادرة الزمان وفريد الأوان أخونا ومحبنا في الله تعالى ومن أجله السيد إسمعيل بن سعد الشهير بالخشاب كان أبوه نجارًا ثم فتح له مخزنًا لبيع الخشب تجاه تكية الكلشني بالقرب من باب زويلة وولد له المترجم وأخوه إبراهيم ومحمد وهو أصغرهما فتولع السيد إسمعيل المترجم بحفظ القرآن ثم بطلب العلم ولازم حضور السيد علي المقدسي وغيره من أفاضل الوقت وأنجب في فقه الشافعية والمعقول بقدر الحاجة وتثقيف اللسان والفروع الفقهية الواجبة والفرائض وتنزل في حرفة الشهادة بالمحكمة الكبيرة لضرورة التكسب في المعاش ومصارف العيال وتمسك بمطالعة الكتب الأدبية والتصوف والتاريخ وأولع بذلك وحفظ أشياء كثيرة من الأشعار والمراسلات وحكايات الصوفية وما تكلموا فيه من الحقائق حتى صار نادرة عصره في المحاضرات والمحاورات واستحضار المناسبات والماجريات وقال الشعر الرائق ونثر النثر الفائق وصحب بسبب ما احتوى عليه من دماثة الأخلاق ولطف السرايا وكرم الشمائل وخفة الروح كثيرًا من رابا المظاهر والرؤساء من الكتاب والأمراء والتجار‏.‏

ولم يزل المترجم على حالته ورقته ولطافته مع ما كان عليه من كرم النفس والعفة والنزاهة والتولع بمعالي الأمور والتكسب وكثرة الإنفاق وسكنى الدور الواسعة والحزم وكان له صاحب يسمى أحمد العطار بباب الفتوح توفي وتزوج هو بزوجته وهي نصف وأقام معها نحو ثلاثين سنة ولها ولد صغير من المتوفي فتبناه ورباه ورفهه بالملابس وأشفق به إضعاف والد بولده بلغ عمل له مهما وزوجته ودعا الناس إلى ولائمه وأنفق عليه في ذلك أنفاقًا كثيرة وبعد نحو سنة تمرض ذلك الغلام أشهرًا فصرف عليه وعلى معالجته جملة من المال ومات فجزع عليه جزعًا شديدًا ويبكي وينتحب وعمل له مأتمًا وعزاء واختارت أمه دفنه بجامع الكردي بالحسينية ورتبت وقراء واتخذت مسكنًا ملاصقًا لقبره وأقامت به نحو الثلاثين سنة مع دوام عمل الشريك والكعك بالعجمية والسكر وطبخ الأطعمة للمقرئين والزائرين ثم ملازمة الميت واتخاذ ما ذكر في كل جمعة على الدوام والمترجم طوع يدها في كل ما طلبته وما كلفته به تسخيرًا من الله تعالى وكل ما وصل إلى يده من حرام أو حلال فهو مستهلك عليها وعلى أقاربها وخدمها لا لذة له في ذلك حسية ولا معنوية لأنها في ذاتها عجوز شوهاء وهو في نفسه نحيف البنية ضعيف الحركة جدًا بل معدومها وابتلي بحصر البول وسلسه القليل مع الحرقة والتألم استدام بها مدة طويلة حتى لزم الفراش أيامًا وتوفي يوم السبت ثاني شهر الحجة الحرام بمنزله الذي استأجره بدرب قرمز بين القصرين وصلينا عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن عند ابنه المذكور بالحسينية وكثيرًا ما كنت أتذكر قول القائل ومن تراه بأولاد السوي فرحًا في عقله عزه إن شئت وانتدب أولاد صلب الفتي قلت منافعهم فكيف يلمح نفع الأبعد الجنب مع أنه كان كثير الانتقاد على غيره فيما لا يداني فعله وانقياده إلى هذه المرأة وحواشيها نسأل الله السلامة والعافية وحسن العافية كما قيل من تكملة ما تقدم فلا سرور سوى نفع بعافية وحسن ختم وما يأتي من الشغب وأمن نكر نكير القبر ثمة ما يكون بعد من الأهوال والتعب‏.‏

واستهلت سنة 1231 استهل شهر المحرم بيوم السبت وحاكم مصر وصاحبها وأقطاعها وثغورها وكذلك بندر مكة وجدة والمدينة المنورة وبلاد الحجاز محمد علي باشا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ولاظ محمد الذي هو كتخدابك قائم مقامه هو المتصدر لإجراء الأحكام بين الناس عن أمر مخدومه وإبراهيم آغا آغات الباب والدفتردار محمد أفندي صهر الباشا والروزنامجي مصطفى أفندي تابع محمد أفندي باش جاكرت سابقًا وغيطاس أفندي سرجي وسليمان أفندي الكماخي باشمحاسب ورفيقه أحمد أفندي باش زعيم مصر وهو الوالي وآغات التبديل أحمد آغا وهو أخو حسن آغا قلفة وصالح بك السلحدار وحسن آغا آغات الينكجرية وعلي آغا الشعراوي المذكور وكاتب الخزينة ولي خوجه ورئيس كتبة الأقباط المعلم غالي وأولاد الباشا إبراهيم باشا حاكم الصعيد وطوسون باشا فاتح بلاد الحجاز وإسماعيل باشا ببولاق ومحرم بك صهر الباشا أيضًا على ابنته بالجيزة أحمد آغا المعروف ببونابارته الخازندار وباقي كشاف الأقاليم وأكابر أعيانهم مثل دبوس أوغلي وحسن باشا وحسن آغا شرششمه وحجو بك وخلافهم‏.‏

وفي ذلك اليوم قبض كتخدا بك على المعلم غالي وأمر بحبسه وكذلك أخوه المسمى فرنسيس وخازنداره المعلم سمعان وذلك عن أمر مخدومه من الاسكندرية لأنه حول عليه الطلب بستة آلاف كيس تأخر أداؤها إياه من حسابه القديم فاعتذر بعدم القدرة على أدائها في الحين لأنها بواقي على أربابها وهو ساع في تحصيلها ويطلب المهلة إلى رجوع الباشا من غيبته فأرسل الكتخدا بمقالته واعتذاره إلى الباشا وانتبذ طائفة من الأقباط في الحط على غالي مع الكتخدا وعرفوه أنه إذا حوسب يطهر عليه ثلاثون ألف كيس فقال لهم وإن لم يتأخر عليه هذا القدر تكونوا ملزومين به إلى الخزينة فأجابوه إلى ذلك فأرسل يعرف الباشا بذلك فأرسل الأمر بالقبض عليه وعلى أخيه وخازنداره وحبسهم وعزله ومطالبته بستة آلاف كيس القديمة أولًا ثم حسبه بعد ذلك فأحضر المرافعين عليه وهم المعلم جرجس الطويل ومنقريوس البنتوني وحنا الطويل وألبسهم خلعًا على رياسة الكتاب عوضًا عن غالي ومن يليه واستمر غالي في الحبس ثم أحضره مع أخيه وخازنداره فضربوا أخاه أمامه ثم أمر بضربه فقال وأنا ضرب أيضًا قال نعم ثم ضربوه على رجليه بالكرابيج ورفع وكرر عليه الضرب وضرب سمعان ألف كرباج حتى أشرف على الهلاك ووجدوا في جيبه ألف شخص بندقي ومائتي محبوب عنها اثنان وعشرون ألف قرش ثم بعد أيام أفرجوا عن أخيه وسمعان ليسعيا في التحصيل وهلك سمعان واستمر غالي في السجن وقد رفعوا عنه وعن أخيه العقاب لئلا يموتا‏.‏

وفي عاشره رجع الباشا من غيبته من الاسكندرية وأول ما بدأ به إخراج العساكر مع كبرائهم إلى ناحية بحري وجهة البحيرة والثغور فنصبوا خيامهم بالبر الغربي والشرقي تجاه الرحمانية واستهل شهر صفر الخير سنة 1231 فيه تشفع جوني الحكيم في المعلم غالي وأخذه من الحبس إلى داره والعساكر مستهلون في التشهيل والخروج وهم لا يعلمون المراد بهم وكثرت الروايات والأخبار والإيهامات والظنون ومعنى الشعر في بطن الشاعر‏.‏

واستهل شهر ربيع الأول سنة 1231 فيه سافر طوسون باشا وأخوه إسماعيل باشا إلى ناحية رشيد ونصبوا عرضيهما عند الحماد وناحية أبي منضور وحسين بك دالي باشا وخلافه مثل حسن آغا زجنلي ومحو بك وصارى جله وحجو بك جهة البحيرة وكل ذلك تواطين وتلبيس للعساكر بكونه إخراج حتى أولاده العزاز للمحافطة وكذلك الكثير من كبرائهم إلى جهة البحر الشرقي ودمياط‏.‏

وفي ثاني عشره صبيحة المولد النبوي طلب الباشا المشايخ فلما جلسوا مجلسهم وفيهم الشيخ البكري أحضروا خلعة وألبسوها له على منصب نقابة الأشراف عوضًا عن السيد محمد المحروقي وفاوضه في ذلك ورأى أن يقلده إياه فاعتذر السيد محمد المحروقي واستعفى وقال أنا متقيد بخدمة أفندينا ومهمات المتاجر والعرب والحجاز فقال قد قلدتك إياها فأعطها لمن شئت فذكرانها كانت مضافة للشيخ البكري وهو أولى من غيره فلما حضروا وتكاملوا لبسوه الخلعة واستوصب الجماعة ذلك وانصرفوا وفي الحال كتب فرما بإخراج الدواخلي منفيًا إلى قرية دسوق فنزل إليه السيد أحمد الملا الترجمان وصحبته قواس تركي وبيده الفرمان فدخلوا إليه على حين غفلة وكان بداخل حريمه لم يشعر بشيء مما جرى فخرج إليهم فأعطوه الفرمان فلما قرأه غاب عن حواسه وأجاب بالطاعة وأمروه بالركوب فركب بغلته وسارا به إلى بولاق إلى المنزل الذي كان شراه بعد موت ولده والشيخ سالم الشرقاوي وانسل مما كان فيه كانسلال الشعرة من العجين وتفرق الجمع الذي كان حوله وشرع الأشياخ في تنميق عرضحال عن لسانهم بأمر الباشا بتعداد جنايات الدواخلي وذنوبه وموجبات عزله وإن ذلك بترجيهم والتماسهم عزله ونفيه ويرسل ذلك العرضحال لنقيب الأشراف بدار السلطنة لأن الذي يكون نقيبًا بمصر نيابة عنه ويرسل إليه الهدية في كل سنة فالذي نقموه عليه من الذنوب أنه تطاول على حسين أفندي شيخ رواق الترك وسبه وحبسه من غير جرم وذلك أنه اشترى منه جارية حبشية بقدر من الفراسة فلما أقبضه الثمن أعطاه بدلها قروشًا بدون الفرط الذي بين المعاملتين فتوقف السيد حسين وقال أما تعطيني العين التي وقع عليهم الانفصال أو تكمل فرط النقص وتشلحنا وأدى ذلك إلى سبه وحبسه وهو رجل كبير متضلع ومدرس وشيخ رواق الأتراك بالأزهر وهذه القضية سابقه على حادثة نفيه ومنها أيضًا أنه تطاول على السيد منصور اليافي بسبب فتيا رفعت إليه وهي أن امرأة وقفت وقفًا في مرض موتها وأفتي بصحة الوقت على قول ضعيف فسبه في ملأ من الجمع وأراد ضربه ونزع عمامته من أعلى رأسه‏.‏

ومنها أيضًا أنه يعارض القاضي في أحكامه وينقص محاصيله ويكتب في بيته وثائق قضايا صلحًا ويسب أتباع القاضي ورسل المحكمة ويعارض شيخ الجامع الأزهر في أموره ونحو ذلك وعندما سطروه وتمموه وضعوا عليه ختومهم وأرسلوا إلى إسلامبول على أن جناياته عند الباشا ليست هذه النكات الفارغة بل ولا علم له بها ولا التفات وإنما هي أشياء وراء ذلك كله ظهر بعضها وخفي عنا باقيها وذلك أن الباشا يحب الشوكة ونفوذ أوامره في كل مرام ولا يصطفي ويحب الأمن لا يعارضه ولو في جزئية أو يفتح له بابًا يهب منه ريح الدراهم والدنانير أو يدله على ما فيه من كسب وربح من أي طريق أو سبب من أي ملة كان ولما حصلت واقعة قيام العسكر في أواخر السنة الماضية وأقام الباشا بالقلعة يدبر أمره فيهم وألزم أعيان المتظاهرين الطلوع إليه في كل ليلة وأجل المتعممين الدواخلي لكونه معدودًا في العلماء ونقيبًا على الأشراف وهي رتبة الوالي عند العثمانيين فداخله الغرور وظن أن الباشا قد حصل في ورطة يطلب النجاة منها بفعل القربات والندور ولكونه رآه يسترضي خواطر الرعية المنهوبين ويدفع لهم أثمانها ويستميل كبار العساكر وينعم عليهم بالمقادير الكثيرة من أكياس المال ويسترسل معه في المسامرة والمسايرة ولين الخطاب والمذاكرة والمضاحكة فلما رأى إقبال الباشا عليه زاد طمعه في الاسترسال معه فقال له الله يحفظ أفندينا وينصره على أعدائه والمخالفين له ونرجو من إحسانه بعد هدوء سره وسكون هذه الفتنة أن ينعم علينا ويجرينا على عوائدنا في الحمايات والمسامحات بخصوص ما يتعلق بنا من حصص الالتزام والرزق فأجابه بقوله نعم يكون ذلك ولابد من الراحة لكم ولكافة الناس فدعا له وآنس فؤاده وقال الله تعالى يحفظ أفندينا وينصره على أعدائه كذلك يكون تمام ما أشرتم به من الراحة لكافة الناس الإفراج عن الرزق الأحباسية على المساجد والفقراء فقال نعم ووعده مواعيده العرقوبية فكان الدواخلي إذا نزل من القلعة إلى داره يحكي في مجلسه ما يكون بينه وبين الباشا من أمثال هذا الكلام ويذيعه في الناس ولما أمر الباشا الكتاب بتحرير حساب الملتومين على الوجه المرضي بديوان خاص لرجال دائرة الباشا وأكابر العسكر وذلك بالقلعة تطييبًا لخواطرهم وديوان آخر في المدينة لعامة الملتزمين فيحررون للخاصة بالقلعة ما في قوائم مصروفهم وما كانوا يأخذونه من المضاف والبراني والهدايا وغير ذلك والديوان العام التحتاني بخلاف ذلك فلما رأى الدواخلي ذلك الترتيب قال للباشا وأنا الفقير محسوبكم من رجال الدائرة فقال نعم وحرروا قوائمه مع الأكابر وأكابر الدولة وأنعم عليه الباشا بأكياس أيضًا كثيرة زيادة على ذلك فلما راق الحال ورتب الباشا أموره مع العسكر أخذ يذكر الباشا بإنجاز الوعد ويكرر القول عليه وعلى كتخدا بك بقوله أنتم تكذبون علينا ونحن نكذب على الناس وأخذ يتطاول على كتبة الأقباط بسبب أمور يلزمهم ويكلفهم بإتمامها وعذرهم يخفى عنه في تأخيرها فيكلمهم بحضرة الكتخدا ويشتمهم ويقول لبعضهم أما اعتبر ثم بما حصل للعين غالي فيحقدون عليه ويشكون منه للباشا والكتخدا وغير ذلك أمور مثل تعرضه للقاضي في قضاياه وتشكيه منه واتفق أنه لما حضر إبراهيم باشا من الجهة القبلية وكان بصحبته أحمد جلبي بن ذي الفقار كتخدا الفلاح وكأنه كان كتخداه بالصعيد وتشكت الناس من أفاعله وإغوائه إبراهيم باشا فاجتمع به الدواخلي عند السيد محمد المحروقي وحضر قبل ذلك إليه للسلام عليه وفي كل مرة يوبخه بالكلام ويلومه على أفاعيله بالقول الخشن في ملأ من الناس فذهب إلى الباشا وبالغ في الشكوى ويقول فيها أنا نصحت في خدمة أفندينا جهدي وأظهرت من المخبآت ما عجز عنه غيري فأجازي عليه من هذا الشيخ ما أسمعنيه من قبيح القول وتجبيهي بين الملأ وإذا كان محبًا لأفندينا فلا يكره نفعه ولا النصح في خدمته وأمثال ذلك مما يخفي عنا خبره فمثل هذه الأمور هي التي أوغرت صدر الباشا على الدواخلي مع أنها في الحقيقة ليست خلافًا عند من فيه قابلية للخير وأنا أقول أن الذي وقع لهذا الدواخلي إنما هو قاصا وجزاء فعله في السيد عمر مكرم فإنه كان من أكبر الساعين عليه إلى أن عزلوه وأخرجوه من مصر والجزاء من جنس العمل كما قيل‏:‏ فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا ولما جرى على الدواخلي ما جرى من العزل والنفي أظهر الكثير من نظرائه المتفقهين الشماتة والفرح وعملوا ولائم وعزائم ومضاحكات كما يقال‏.‏

أمور تضحك السفهاء منها ويبكي من عوافبها اللبيب وقد زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس وانهمكوا في الأمور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية ومشاركة الجهال في المآثم والمسارعة إلى الولائم في الأفراح والمآتم يتكالبون على الأسمطة كالبهائم فتراهم في كل دعوة ذاهبين وعلى الخوانات راكعين وللكباب والمحمرات خاطفين وعلى ما وجب عليهم من النصح تاركين‏.‏

وفي أواخره شرعوا في عمل مهم عظيم بمنزل ولي أفندي ويقال له ولي جحا وهو كاتب الخزينة العامرة وهو من طائفة الأرنؤد واختص به الباشا واستأمنه على الأمور وضم إليه دفاتر الإيراد من جميع وجوه جبايات الأموال من خراج البلاد والمحدثات وحسابات المباشرين وأنشأ دارًا عظيمة بخطة باب اللوق على البركة المعروفة بأبي الشوارب وأدخل فيها عدة بيوت بجانبها وتجاهها على نسق واصطلاح الأبنية الإفرنجية والرومية وتأنق في زخرفتها واتساعها واستمرت العمارة بها على نحو السنتين ولما كملت وتمت أحضروا القاضي والمشايخ وعقدوا لولديه على ابنتين من أقارب الباشا بحضرة الأعيان ومن ذكر واحتفلوا بعمل المهم احتفالًا زائدًا وتقيد السيد محمد المحروقي بالمصاريف والتنظيم واللوازم كما كان في أفراح أولاد الباشا واجتمعت الماعيب والبهلوانات بالبركة وما حولها وبالشارع وعلقوا تعاليق قناديل ونجفات وأحمال بلور وزينات واجتمع الناس للفرجة وبالليل حراقات ونفوط ومدافع وسواريخ سبع ليلا متوالية وعملت الزفة يوم الخميس واجتمعت العربات لأرباب الحرف كما تقدم في العام الماضي بل أزيد وذلك لأن الباشا لم يشاهد أفراح أولاده لكونه كان غائبًا بالديار الحجازية وحضر الباشا للفرجة وجلس بمدرسة الغورية بقصد الفرجة وعمل له السيد محمد المحروقي الغداء وخرجوا بالزفة أوائل النهار وداروا بها دورة طويلة فلم يمروا بسوق الغورية إلا قريب الغروب أواخر النهار‏.‏ واستهل

شهر ربيع الثاني سنة 1231

وخروج العساكر إلى ناحية بحري مستمر وأفصح الباشا وذكر في كلامه في مجالسه وبين السر في إخراجهم من المدينة بأن العساكر قد كثروا وفي إقامتهم بالبلدة مع كثرتهم وإفساد وضيق على الرعية مع عدم الحاجة إليهم داخل البلدة الأولى والأحوط أن يكونوا خارجها وحولها مرابطين لحفظ الثغور من طارق على حين غفلة أو حادث خارجي وليس لهم إلا رواتبهم وعلائفهم تأتيهم في أماكنهم ومراكزهم والسر الخفي إخراج الذين قصدوا غدره وخيانته ووقع بسبب حركتهم ما وقع من لنهب والإزعاج على أواخر شعبان من السنة الماضية وكان قد بدأ بإخراج أولاده وخواصه من تحيله واحدًا بعد واحد وأسر إلى أولاده بما في ضميره وأصحب مع ولده طوسون باشا شخصًا من خواصه يسمى أحمد آغا البخورجي المدللي وأخذ طوسون باشا في تدبير الإيقاع مع من يريد به فبدأ بمحو بك وهو أعظمهم وأكثرهم جندًا فأخذ في تأليف عساكره حتى لم يبق معه إلا القليل ثم أرسل في وقت بطلب محو بك عنده في مشورة فذهب إليه أحمد آغا المدللي المذكور وأسر إليه ما يراد به وأشار إليه بعدم الذهاب فركب محو بك في الحال وذهب عند الدلاة فأرسلوا إلى مصطفى بك وهو كبير على طائفة من الدلاة وأخو زوجة الباشا وقريبه وإلى إسماعيل باشا ابن الباشا ليتوسطا في صلح محو بك مع الباشا وليعفوه ويذهب إلى بلاده فأرسلا إلى الباشا بالخبر وبما نقله أحمد آغا المدللي إلى محو بك فسفه رأيه في تصديق المقالة وفي هروبه عند الدلاة ثم يقول لولا أن في نفسه خيانة لما فعل ما فعل من التصديق والهروب وكان طوسون باشا لما جرى من أحمد آغا ما جرى من نقل الخبر لمحو بك عوقه وأرسل إلى أبيه يعلمه بذلك فطلبه للحضور إليه بمصر فلما مثل بين يديه وبخه وعزره بالكلام وقال له ترمي الفتن بين أولادي وكبار العسكر ثم أمر بقتله فنزلوا به إلى باب وزيلة وقطعوا رأسه هناك وتركوه مرميًا طول النهار ثم رفعوه إلى داره وعملوا له في صبحها مشهدًا ودفنوه‏.‏

وفيه حضر إسماعيل باشا ومصطفى بك إلى مصر‏.‏

وفي أواخره حضر شخص يسمى سليم كاشف من الأجناد المصرية مرسلًا من عند بقاياهم من الأمراء وأتباعهم الذين رماهم الزمان بكلكله وأقصاهم وأبعدهم عن أوطانهم واستوطنهم دنقلة من بلاد السودان يتقوتون مما يزرعونه بأيديهم من الدخن وبينهم وبين أقصى الصعيد مسافة طويلة نحو من أربعين يومًا وقد طال عليهم الأمد ومات أكثرهم ومعظم رؤساهم مثل عثمان بك حسن وسليم آغا وأحمد آغا شويكار وغيرهم ممن لا علم لنا بخبرة أخبارهم لبعد المسافة حتى على أهل منازلهم وبقي ممن لم يمت منهم إبراهيم بك الكبير وعبد الرحمن بك تابع عثمان بك المرادي وعثمان بك يوسف وأحمد بك الألافي زوج عديلة ابنة إبراهيم بك الكبير وعلي بك أيوب وبواقي الصغار الأمراء والمماليك على ظن خيانتهم وقد كبر سن إبراهيم بك الكبير وعجزت قواه ووهن جسمه فلما طالت عليهم الغربة أرسلوا هذا المرسل بمكاتبة إلى الباشا يستعطفونه ويسألون فضله ويرجون مراحمه بأن ينعم عليهم بالأمان على نفوسهم ويأذن لهم بالانتقال من دنقلة إلى جهة من أراضي مصر يقيمون بها أيضًا ويتعيشون فيها بأقل العيش تحت أمانه ويدفعون ما يجب عليهم من الخراج الذي يقرر عليهم ولا يتعدون مراسمه وأوامره فلما حضر وقابل الباشا وتكلم معه وسأله عن حالهم وشأنهم ومن مات ومن لم يمت منهم وهو يخبره خبرهم ثم أمره بالانصراف إلى محله الذي نزل فيه إلى أن يرد عليه الجواب وأنعم عليه بخمسة أكياس فأقام أيامًا حتى كتب له جواب رسالته مضمونه أنه أعطاهم الأمان على أنفسهم بشروط شرطها عليهم إن خالفوا منها شرطًا واحدًا كان أمانهم منقوضًا وعهدهم منكرثًا ويحل بهم ما حل بمن تقدم منهم فأول الشروط أنهم إذا عزموا على الانتقال من المحل الذي هم فيه يرسلون أمامهم نجابًا يخبره بخبرهم وحركتهم وانتقالهم ليأتيهم من أعينه لملاقاتهم الثاني إذا حلوا بأرض الصعيد لا يأخذون من أهل النواحي كلفة ولا دجاجة ولا رغيفًا واحدًا وإنما الذي يتعين لملاقاتهم يقوم لهم بما يحتاجون إليه من مؤونة وعليق ومصرف الثالث أني لا أقطعهم شيئًا من الأراضي والنواحي ولا إقامة في جهة من جهات أراضي مصر بل يأتون عندي وينزلون على حكمي ولهم ما يليق بكل واحد منهم من المسكن والتعيين والمصرف ومن كان ذا قوة قلدته منصبًا أو خدمة تليق به أو ضمته إلى بعض الأكابر من رؤساء العسكر وإن كان ضعيفًا أو هرمًا أجريت عليه نفقة لنفسه وعياله الربع أنهم إذا حصلوا بمصر على هذه الشروط وطلبوا شيئًا من إقطاع أو رزقة أو قنطرة أو أقل مما كان في تصرفهم في الزمن الماضي أو نحو ذلك انتقض معي عهدهم وبطل أماني لهم بمخالفة شرط واحد من هذه الشروط وهي سبعة غاب عن ذهني باقيها فسبحان المعز المذل مقلب الأحوال ومغير الشؤون‏.‏

فمن المعبر أنه لما حضر المصريون ودخلوا إلى مصر بعد مقتل طاهر باشا وتأمروا وتحكموا فكانت عساكر الأتراك في خدمتهم ومن أرذل طوائفهم وعلائفهم تصرف عليهم من أيدي كتابهم وأتباعهم وإبراهيم بك هو الأمير الكبير وراتب محمد علي باشا هذا من الخبز اللحم والأرز والسمن الذي عينه له من كباره نعوذ بالله من سوء المنقلب ورجع سليم كاشف المرسل إليهم بالجواب المشتمل على ما فيه من الشروط‏.‏

وفيه أمر الباشا بحبس أحمد أفندي المعايرجي بدار الضرب وحبس أيضا عبد الله بكتاش ناظر الضربخانة واحتج عليهما باختلاسات يختلسانها واستمر أيامًا حتى قرر عليهما نحو السبعمائة كيس وعلى الحاج سالم الجواهرجي وهو الذي يتعاطى إيراد الذهب والفضة إلى شغل الضربخانة مثلها ثم أطلق المذكوران ليحصلا ما تقرر عليهما وكذلك أطلق الحاج سالم وشرعوا في التحصيل بالبيع والاستدانة واشتد القهر بالحاج سالم ومات على حين غفلة وقيل أنه ابتلع فص الماس وكان عليه ديون باقية من التي استدانها في المرة الأولى والغرامة السابقة‏.‏

أنه لما مات إبراهيم بك المداد بالضربخانة قبل تاريخه تزوج بزوجته أحمد أفندي المعايرجي المذكور فلما عوق أحمد أفندي خافت زوجته المذكورة أن يدهمها أمر مثل الختم على الدار أو نحو ذلك فجمعت مصاغها وما تخاف عليه مما خف حمله وثقل ثمنه وربطته في صرة وأودعتها عند امرأة من معارفها فسطا على بيت تلك المرأة شخص حرامي وأخذ تلك الصرة وذهب بها إلى دار امرأة من أقاربه بالقرب من جامع مسكة وقال لها احفظي عندك هذه الصرة حتى أرجع ونزل إلى أسفل الدار فنادته المرأة اصبر حتى آتيك بشيء تأكله فقال نعم فإني جيعان وجلس أسفل الدار ينتظر إتيانها له بما يأكله وصادف مجيء زوج المرأة تلك الساعة فوجده فرحب به وهو يعلم بحاله ويكره مجيئه إلى داره وطلع إلى زوجته فوجد بين يديها تلك الصرة فسألها عنها فأخبرته أن قريبها المذكور أتى بها إليها حتى يعود لأخذها فجسها فوجدها ثقيلة فنزل في الحال ودخل على محمد أفندي سليم من أعيان جيران الخطة فأخبره فأحضر محمد أفندي أنفارًا من الجيران أيضًا وفيهم الخجا المنسوب إلى أحمد آغا لاظ المقتول ودخل الجميع إلى الدار وذلك الحرامي جالس ومشتغل بالأكل فوكلوا به الخدم وأحضروا تلك الصرة وفتحوها فوجدوا بها مضآغا وكيسًا بداخله أنصاف فضة عددية ذكروا أن عدتها أربعون ألفًا ولكنها من غير ختم وبدون نقش السكة فأخذوا ذلك وتوجهوا لكتخدا بك وصحبتهم الحرامي فسألوه وهددوه فأقر وأخبر عن المكان الذي اختلسها منه فأحضروا صاحبة المكان فقالت هو وديعة عندي لزوجة أحمد أفندي المعايرجي فثبت لديهم خيانته واختلاسه وسئل أحمد أفندي فحلف لأنه لا يعلم بشيء من ذلك وأن زوجته كانت زوجًا لإبراهيم المداد فلعل ذلك عندها من أيامه وسئلت هي أيضًا عن تحقيق ذلك فقالت الصحيح أن إبراهيم المداد كان اشترى هذه الدراهم من شخص مغربي عندما نهب عسكر المغاربة الضربخانة في وقت حادثة الأمراء المصرين وخروجهم من مصر عندما قامت عليهم عسكر الأتراك فلم يزيلوا الشبهة عن أحمد أفندي بل زادت وكانت هذه النادرة من عجائب الاتفاق فقدروا أثمانها وخصموها من المطلوب منه‏.‏

وفي يوم الخميس عشرينه حصلت جمعية ببيت البكري وحضر المشايخ وخلافهم وذلك بأمر باطني من صاحب الدولة وتذاكروا ما يفعله قاضي العسكر من الجور والطمع في أخذ أموال الناس والمحاصيل وذلك أن القضاة الذين يأتون من باب السلطنة كانت لهم عوائد وقوانين قديمة لا يتعدونها في أيام الأمراء المصريين فلما استولت هؤلاء الأروام على الممالك والقاضي منهم فحش أمرهم وزاد طمعهم وابتدعوا بدعًا وابتكروا حيلًا لسلب أموال الناس والأيتام والأرامل وكلما ورد قاض ورأى ما ابتكره الذي كان قبله أحدث هو الآخر أشياء يمتاز بها عن سلفه حتى فحش الأمر وتعدى ذلك لقضايا أكابر الدولة وكتخدا بك بل والباشا وصارت ذريعة وأمرًا محتمًا لا يحتشمون منه ولا يراعون خليلًا ولا كبيرًا ولا جليلًا وكان المعتاد القديم أنه إذا ورد القاضي في أول السنة التوتية التزم بالقسمة بعض المميزين من رجال المحكمة بقدر معلوم يقوم بدفعه للقاضي وكذلك تقرير الوظائف كانت بالفراغ أو المحلول وله شهريات على باقي المحاكم الخارجة كالصالحية وباب سعادة والخرق وباب الشعرية وباب زويلة وباب الفتوح وطيلون وقناطر السباع وبولاق ومصر القديمة ونحو ذلك ولع عوائد وإطلاقات وغلال من الميري وليس له غير ذلك إلا معلوم الإمضاء وهو خمسة أنصاف فضة فإذا احتاج الناس في قضاياهم ومواريثهم أحضروا شاهدًا من المحكمة القريبة منهم فيقضي فيها ما يقضيه ويعطونه أجرته وهو يكتب التوثيق أو حجة المبايعة أو التوريث ويجمع العدة من الأوراق في كل جمعة أو شهر ثم يضيها من القاضي ويدفع له معلوم الإمضاء لا غير وأما القضايا لمثل العلماء والأمراء فبالمسامحة والإكرام وكان القضاة يخشون صولة الفقهاء وقت كونهم يصدعون بالحق ولا يداهنون فيه فلما تغيرت الأحوال وتحكمت الأتراك وقضاتها ابتدعوا بدعًا شتى‏.‏

منها إبطال نواب المحاكم وإبطال القضاة الثلاثة خلاف مذهب الحنفي وأن تكون جميع الدعاوي بين يديه وبعد الانفصال يأمرهم بالذهاب إلى كتخداه ليدفع المحصول فيطلب منهم المقادير الخارجة عن المعقول وذلك خلاف الرشوات الخفية والمصالحات السرية وأضاف التقرير والقسمة لنفسه ولا يلتزم بها أحد من الشهود كما كان في السابق وإذا دعى بعض الشهود لكتابة توثيق أو مبايعة أو تركة فلا يذهب لا بعد أن يأذن له القاضي أو يصحبه بجوخدار ليباشر القضية وله نصيب أيضًا وزاد طمع هؤلاء الجوخدارية حتى لا يرضون بالقليل كما كانوا في أول الأمر وتخلف منهم أشخاص بمصر عن مخاديمهم وصاروا عند المتولي لما انفتح لهم هذا الباب وإذا ضبط تركة من التركات وبلغت مقدارًا أخرجوا للقاضي العشر من ذلك ومعلوم الكاتب والجوخدار والرسول ثم التجهيز والتكفير والمصرف والديون وما بقي بعد ذلك يقسم بين الورثة فيتفق أن الوارث واليتيم لا يبقى له شيء ويأخذ من أرباب الديون عشر ديونهم أيضًا ويأخذ من محاليل وظائف التقارير معلوم سنتين أو ثلاثة وقد كان يصالح عليها بأدنى شيء وإلا إكرامًا وابتدع بعضها الفحص عن وظائف القبانية والموازين وطلب تقاريرهم القديمة ومن أين تلقوها وتعلل عليهم بعدم صلاحية المقرر وفيها من هو باسم النساء وليسوا أهلًا لذلك وجمع من هذا النوع مقدارًا عظيمًا من المال ثم محاسبات نظار الأوقاف والعزل والتولية فيهم والمصالحات على ذلك وقرر على نصارى الأقباط والأروام قدرًا عظيمًا في كل سنة بحجة المحاسبة على الديور والكنائس ومما هو زائد الشناعة أيضًا أنه إذا ادعى مبطل على إنسان دعوى لا أصل لها بأن قال أدعي عليه بكذا وكذا من المال وغيره كتب المقيد ذلك القول حقًا كان أو باطلًا معقولًا أو غير معقول ثم يظهر بطلان الدعوى أو صحة بعضها فيطالب الخصم بمحصول القدر الذي ادعاه المدعي وسطره الكاتب يدفعه عليه للقاضي على دور النصف الواحد أو خلاف ما يؤخذ من الخصم الآخر وحصل نظيرها لبعض من هو ملتجئ لكتخدا بك فحبس على المحصول فأرسل الكتخدا يترجى في إطلاقه والمصالحة عن بعضه فأبى فعند ذلك حنق الكتخدا وأرسل من أعوانه من استخرجه من الحبس ومن الزيادات في نغمة الطنبور كتابة الإعلامات وهو أنه إذا حضر عند القاضي دعوى بقاصد من عند الكتخدا أو الباشا ليقضي فيها وقضى فيها لأحد الخصمين طلب المقضي له إعلامًا بذلك إلى الكتخدا أو الباشا يرجع به مع القاصد تقييدًا وإثباتًا فعند ذلك لا يكتب له الإعلام إلا بما عسى لا يرضيه إلا أن يسلخ من جلده طاقًا أو طاقين وقد حكمت عليه الصورة وتابع الباشا أو الكتخدا ملازم له ويستعجله ويساعد كتخدا القاضي عليه ويسليه على ذلك الظفر والنصرة على الخصم مع أن الفرنساوية الذين كانوا لا يتدينون بدين لما قلدوا الشيخ أحمد العريشي القضاء بين المسلمين بالمحكمة حددوا له حدًا في أخذ المحاصيل لا يتعداه بأن يأخذ على المائة اثنين فقط له منها جزء والكتاب جزء فلما زاد الحال وتعدى إلى أهل الدولة رتبوا هذه الجمعية فلما تكاملوا بمجلس بيت البكري كتبوا عرضًا محضرًا ذكروا فيه بعض هذه لإحداثات والتمسوا من ولي الأمر رفعها ويرجون من المراحم أن يجري القاضي ويسلك في الناس طريقًا من إحدى الطرق الثلاث أما الطريقة التي كان عليها القضاة في زمن الأمراء المصريين وأما الطريقة التي كانت في زمن الفرنساوية أو الطريقة التي كانت أيام مجيء الوزير وهي الأقرب والأوفق وقد اخترناها ورضيناها بالنسبة لما هم عليه الآن من الجور وتمموا العرض محضرًا وأطلعوا عليه الباشا فأرسله إلى القاضي فامتثل الأمر وسجل بالسجل على مضض منه ولم تسعه المخالفة‏.‏

واستهل شهر جمادى الثانية سنة 1231 في منتصفه ورد الخبر بموت مصطفى بك دالي باشا بناحية الاسكندرية وهو قريب الباشا وأخو زوجته‏.‏

واستهل شهر رجب الأصم بيوم الثلاثاء سنة 1231 في ثالثه يوم الخميس قبل الغروب حصل في الناس انزعاج ولغط ونقل أصحاب الحوانيت بضائعهم منها مثل سوق الغورية ومرجوش وخان الحمزاوي وخان الخليلي وغيرهم ولم يظهر لذلك سبب من الأسباب وأصبح الناس مبهوتين ولغطوا بموت الباشا وحضر آغات الينكجرية وآغات التبديل إلى الغورية وأقاما بطول النهار وهما يأمران الناس بالسكون وفتح الدكاكين وكذلك علي آغا الوالي بباب زويلة وأصبح يوم السبت فركب الباشا وخرج إلى قبة العزب وعمل رماحة وملعبًا ورجع إلى شبرا وحضر كتخدا بك إلى سوق الغورية وجلس بالمدفن وأمر بضرب شيخ الغورية فبطحوه على الأرض في وسط السوق وهو مرشوش بالماء وضربه الأتراك بعصيهم ثم رفعوه إلى داره ثم أمر الكتخدا بكتاية أصحاب الدكاكين الذين نقلوا متاعهم فشرعوا في ذلك وهرب الكثير منهم وحبسهم في داره ثم ركب الكتخدا ومر في كريقه على خان الحزاوي وطلب البواب فلما مثل بين يديه أمر بضربه كذلك وضرب أيضًا شيخ مرجوش وأما طائفة خان الخليلي ونصارى الحزاوي فلم يتعرض لهم‏.‏

واستهل شهر شعبان بيوم الخميس سنة 1231 فيه من الحوادث أن بعض العيارين من السراق تعدوا على قهوة الباشا بشبرا وسرقوا جميع ما بالنصبة من الأواني والبكارج والفناجين والظروف فأحضر الباشا بعض أرباب الدرك بتلك الناحية وألزمه بإحضار السراق والمسروق ولا يبقبل له عذرًا في التأخير ولو يصالح على نفسه بخزينة أو أكثر من المال ولا يكون غير ذلك أبدًا وإلا نكل به نكالًا عظيمًا وهو المأخوذ بذلك فترجى في طلب المهلة فأمهله أيامًا وحضر بخمسة أشخاص أحضروا المسروق بتمامه لم ينقص منه شيء وأمر بالسراق فخوزقوهم في نواحي متفرقين بعد أن قرروهم على أمثالهم وعرفوا عن أماكنهم وجمع منهم زيادة على الخمسين وشنق الجميع في نواح متفرقة بالأقاليم مثل القليوبية والغربية والمنوفية‏.‏

وفي منتصفه يوم الجمعة الموافق لرابع مسرى القبطي أوفى النيل أذرعه وفتح سد الخليج يوم السبت‏.‏

وفيه وقع من النوادر أن امرأة ولدت مولودًا برأسين وأربعة أيد وله وجهان متقابلان والوجهان بكتفيهما مفروقان من حد الرأس وقيل لحد الصدر والبطن واحدة وثلاثة أرجل وإحدى الأرجل لها عشرة أصابع فيقال أنه قام يومًا وليلة حيًا ومات وشاهده خلق كثير وطلعوا به إلى القلعة ورآه كتخدا بك وكل من كان حاضرًا بديوانه فسبحان الخلاق العظيم‏.‏

واستهل شهر رمضان بيوم الجمعة سنة 1231 حصل فيه من النوادر أن في تاسع عشره علق شخص عسكري غلامًا من أولاد البلد وصار يتبعه في الطرقات إلى أن صادفه ليلة بالقرب من جامع ألماس بالشارع فقبض عليه وأراد الفعل به في الطريق فخدعه الغلام وقال له إن كان ولا بد فادخل بنا في مكان لا يرانا فيه أحد من الناس فدخل معه درب حلب المعروف الآن بدرب الحمام خير بك حديد وهناك دور الأمراء التي صارت خرائب فحل العسكري سراويله فقال له الغلام أرني بتاعك فلعله يكون عظيمًا لا أتحمله جميعه وقبض عليه وكان بيده موسى مخفية في يده الأخرى فقطع ذكره بتلك الموسى سريعًا وسقط العسكري مغشيًا عليه وتركه الغلام وذهب في طريقه وحضر رفقاء ذلك العسكري وحملوه وأحضروا له سليمًا الجرائحي فقطع ما بقي من مذاكيره وأخذ في معالجته ومداواته ولم يمت العسكري‏.‏

واستهل شهر شوال بيوم السبت سنة 1231 وكان حقه يوم الأحد وذلك أن أواخر رمضان حضر جماعة من دمنهور البحيرة وأخبروا عن أهل دمنهور أنهم صاموا يوم الخميس فطلب الباشا حضور من رأى الهلال تلك الليلة فحضر اثنان من العسكر وشهدا برؤيته ليلة الخميس فأثبتوا بذلك هلال رمضان ويكوت تمامه يوم الجمعة وأخبر جماعة أيضًا أنهم رأوا هلال شوال ليلة السبت وكان قوسه في حساب قواعد الأهلة تلك الليلة قليلًا جدًا ولم ير في ثاني ليلة منه إلا بعسر وإنما اشتبه على الرائين لأن المريخ كان مقارنًا للزهرة في برج الشمس من خلفها وبينهما وبين الشمس رؤيا بعدها في شعاع الشمس شبه الهلال فظن الراؤن أنه الهلال فلينتبه لذلك فإن ذلك من الدقائق التي تخفى على أهل الفطانة فضلًا عن غيرهم من العوام الذين يسارعون إلى إفساد العبادات حسبة بالظنون الكاذبة لأجل أن يقال شهد فلان ونحو ذلك‏.‏

وفي أواخره قلد الباشا شخصًا من أقاربه يسمى شريف آغا على دواوين المبتدعات وضم إليه جماعة من الكتبة أيضًا المسلمين والأقباط وجعلوا ديوانهم ببيت أبي الشوارب وهمروه عمارة عظيمة وواظبوا الجلوس فيه كل يوم التحرير المبتدعات ودفاتر المكوس‏.‏

واستهل شهر ذي القعدة سنة 1231 فيه انهدم جانب من السواقي التي أنشأها الباشا بشبرا على حين غفلة وقد قوي عليها النيل فتهدمت وتكسرت أخشابها وسقط معها أشخاص كانوا حولها فنجا منهم من نجا وغرق منهم من غرق وكان الباشا بقصر شبرا مقيمًا به وهو يرى ذلك وانقضت السنة وأخبار بعض حوادثها واستمرار ما تجدد فيها من المبتدعات التي لا حصر لها‏.‏

ومنها الحجر على االمزارع التي يزرعها الفلاحون في الأراضي التي يدفعون خراجها من الكتاب والسمسم والعصفر والنيلة والقطن والقرطم وإذا بدا صلاحه لا يبيعون منه شيئًا كعادتهم وإنما يشتريه الباشا بالثمن الذي يفرضه ويقدره على يد أمناء النواحي والكشاف ويحملونه إلى المحل الذي يؤمرون بحمله إليه ويعطى لهم الثمن أو يحسب لهم من أصل المال فإن احتاجوا الشيء من ذلك اشتروه بالثمن الزائد المفروض وكذلك القمح والفول والشعير لا يبيعون منه شيئًا لغير طرف الباشا بالثمن المفروض والكيل الوافي‏.‏

ومنها الأمر لكشاف الأقاليم بالمناداة العامة بالمنع لمن يأخذ أو يأكل من الفول الأخضر والحمص والحلبة وأن المعينين في الخدم والمباشرين وكشاف النواحي لا يأخذون شيئًا من الفلاحين كعادتهم من غير ثمن فمن عثر عليه يأخذ شيء واو رغيفًا أو تبنًا أو من جميع البهائم حصل له مزيد الضرر ولو كان من الأعاظم وكذلك الأمر بتكميم أفواه المواشي التي تسرح للمرعي حوالي الجسور والغيطان‏.‏

ومنها أن نصرانيًا من الأرمن التزم بقلم الأبزار التي تأتي من بلاد الصعيد مثل الحبة السوداء والشمر والأنيسون والكمون والكراويا ونحو ذلك بقدر كبير من الأكياس ويتولى هو شراءها دون غيره ويبيعها بالثمن الذي يفرضه ومقدار ما التزم بدفعه من الأكياس للخزينة على ما بلغنا خمسمائة كيس وكانت في أيام الأمراء المصريين عشرة أكياس لا غير فلما تولى على وكالة دار السعادة صالح بك المحمدي زادها عشرة أكياس وكانت وكالة الأبزار والقطن وقفًا لمصطفى آغا السعادة سابقًا على خيرات الحرمين وخلافهما فلما كانت هذه الدولة تولاها شخص على مائتي كيس وعند ذلك سعر الأبزار أضعاف الثمن الأصلي ومن داخل الأبزار الثمر الإبريمي والسلطاني والخوص والمقاطف والسلب والليف وبلغ سعر المقطف الذي يسع الكيلة من البر خمسة وعشرين نصفًا وكان يباع بنصف أو نصفين إن كان جيدًا وفي الجملة أقل من ذلك‏.‏

ومنها أن كرابيت معلم ديوان الكمرك ببولا فالتزم بمشيخة الحمامية وأحدث عليها وعلى توابعها حوادث وعلى النساء البلانات في كل جمعة قدرًا من الدراهم وجعل لنفسه يومًا في كل جمعة يأخذ إيراده من كل حمام‏.‏

ومنها ما حصل في هذه السنة من شحة السابون وعدم وجوده بالأسواق ومع السراحين وهو شيء لا يستغني عنه الغني ولا الفقير وذلك أن تجارة بوكالة الصابون زادوا في ثمنه محتجين بما عليهم من المغارم والرواتب لأهل الدولة فأمر الكتخدا فيه بأمر ويسعر بثمن فيدعون الخسران وعدم الربح وتكرر الحال فيه المرة بعد المرة ويتشكون من قلة المجلوب إلى أن سعر رطله بستة وثلاثين نصفًا فلم يرتضوا ذلك وبالغوا في التشكي فطلب قوائمهم وعمل حسابهم وزادهم خمسة أنصاف في كل رطل وحلف أن لا يزيد على ذلك وهم مصممون على دعوى الخسران فأرسل من أتباعه شخصًا تركيًا لمباشرة البيع وعدم الزيادة فيأتي إلى الخان في كل يوم يباشر البيع على من يشتري بذلك الثمن لأربابه ويمكث مقدار ساعتين من النهار ويغلق الحواصل ويرفع البيع لثاني يوم وفي ظرف هاتين الساعتين تزدحم العسكر على الشراء ولا يتمكن خلافهم من أهل البلد من أخذ شيء وتخرج العسكر فيبيعون من الذي اشتروه على الناس بزيادة فاحشة فيأخذ الرطل بقرش ويبيعه على غيره بقرشين ورفع التشكي إلى كتخدا فأمر ببيعه عند باب زويلة في السبلين المواجه أحدهما للباب والبيل الذي أنشأته الست نفيسة المرادية عند الخان تجاه الجامع المؤيدي ليسهل على العامة تحصيله وشراؤه فلم يزداد الحال إلا عسرًا وذلك أن البائع يجلس داخل السبيل ويغلق عليه بابه ويتناول من خروق الشبابيك من المشتري الثمن ويناوله الصابون فازدحمت طوائف العسكر على الشراء ويتعلقون بأيديهم وأرجلهم على شبابيك السبيلين والعامة أسفلهم لا يتمكنون من أخذ شيء ويمنعون من يزاحمهم فيكون على السبيلين ضجة وصياح من الفريقين فلا يسع ابن البلد الفقير المضطر إلا أن يشتري من العسكري بما أحب وإلا رجع إلى منزله من غير شيء واستمر الحال على هذا المنوال أيامًا وفي بعض الأحايين يكثر وجود الصابون بين أيدي الباعة بوسط السوق ولا تجد عليه مزاحمة وأمام البائع كوم عظيم وهو ينتظر من يشتري وذلك في غالب الأسواق مثل الغورية والأشرفية وباب زويلة والبندقانيين والجهات الخارجة ثم يصبحون فلا يوجد منه شيء ويرجع الازدحام على السبيلين كالأول‏.‏

ومنها أن الباشا أطلق المناداة في البلدة وندب جماعة من المهندسين والمباشرين للكشف على الدور والمساكن فإن وجدوا به أو ببعضه خللًا أمروا صاحبه بهدمه وتعميره فإن كان يعجز عن ذلك فيؤمر بالخروج منها وإخلائها ويعاد بناؤها على طرف الميري وتصير من حقوق الدولة وسبب هذه النكتة أنه بلغ الباشا سقوط دار ببعض الجهات ومات تحت ردمها ثلاثة أشخاص من سكانها فأمر بالمناداة وأرسل المهندسين والأمر بما ذكر فنزل بأهالي البلد من الكرب أمر عزيم مع ما هم فيه من الإفلاس وقطع الإيراد وغلو الأسعار على أن من كان له نوع مقدرة على الهدم والبناء لا يجد من أدواته شيئًا بحسب التحجير الواقع على أرباب الأشغال واستعمال الجميع في عمائر الباشا وأكابر الدولة حتى أن الإنسان إذا احتاج لبناء كانون لا يجد من يبنيه ولا يقدر على تحصيل صانع أو فاعل أو أخذ شيء من رماد الحمام إلا بفرمان ومن حصل شيئًا من ذلك على طريق السرقة في غفلة وعثر عليه نكلوا به وبرئيس الحمام وحمير الباشا وهي أزيد من ألفي حمار تنقل بالمزابل والسرقانيات طول النهار ما يوجد بالحمامات من الرماد وتنقل أيضًا الطوب والدبش والأتربة وأنقاض البيوت المنهدمة لمحل العمائر بالقلعة وغيرها فترى الأسواق والعطف مزدحمة بقطارات الحمير الذاهبة والراجعة وإذا هدم إنسان داره التي أمروه بهدمها وصل إليه في الحال قطار من الحمير لأخذ الطوب الذي يتساقط إلا أن يكون من أهل القدرة على منعهم وربما كانت هذه الأوامر حيلة على أخذ الأنقاض وأما الأتربة فتبقى بحالها حتى في طرق المارة للعجز عن نقلها فترى غالب الطرق والنواحي مردومة بالأتربة وأما الهدم ونقل الأنقاض من البيوت الكبار والدور الواسعة التي كانت مساكن الأمراء المصريين بكل ناحية وخصوصًا بركة الفيل وجهة الحبانية فهو مستمر حتى بقيت خرابًا ودعائم قائمة وكيمان هائلة واختلطت بها الطرق وأصبحت موحشة ولا ماري بها حتى لليوم بعد أن كانت مراتع غزلان فكنت كلما رأيتها أتذكر قول القائل‏:‏ هذي منازل أقوام عهدتهم في خفض عيش نعيم ما له خطر صاحت بهم نوب الأيام فارتحلوا إلى القبور فلا عين ولا أثر وكذلك بولاق كانت نتزه الرفاق فإنه تسلط عليها سليمان آغا السلحدار وإسماعيل باشا في الهدم وأخذ أنقاض الأبنية ببر أنبابة والجزيرة الوسطى بين أنبابة وبولاق فإن سليمان آغا أنشأ بستانًا كبيرًا بين أنبابة وسوره وبنى به قصرًا وسواقي وأخذ يهدم أبنية بولاق من الوكائل والدور وينقل أحجارها وأنقاضها في المراكب ليلًا ونهارًا إلى البر الآخر وإسماعيل باشا كذلك أنشأ بستانًا وقصرًا بالجزيرة وشرع أيضًا في اتساع سرايته ومحل سكنه ببولاق وأخذ الدور والمساكن والوكائل من حد الشؤن القديم إلى آخر وكالة الأبزار العظيمة طولًا فيهدمون الدور وغيرها من غير مانع ولا شافع وينقلون الأنقاض إلى محل البناء وكذلك ولي خوجه شرع في بناء قصر بالروضة ببستان فهو الآخر يهدم ما يهدمه من مصر القديمة وينقل أنقاضه لبنائه وهلك قبل إتمامه وأما نصارى الأرمن وما أدراك ما الأرمن الذين هم أخصاء الدولة الآن فإنهم أنشؤا دورًا وقصورًا وبساتين بمصر القديمة لكنهم فهم يهدمون أيضًا وينقلون لأبنيتهم ما شاؤا ولا حرج عليهم وإنما الحرج والمنع والحجر والهدم على المسلمين من أهل البلدة فقط‏.‏

ومنها أن الباشا أمر ببناء مساكن للعسكر الذين أخرجهم من مصر بالأقاليم يسمونها القشلات بكل جهة من أقاليم الأرياف لسكن العساكر المقيمين بالنواحي لتضررهم من الإقامة الطويلة بالخيام في الحر والبرد واحتياج الخيام في ما حين إلى تجديد وترقيع وكثير خدمة وهي جمع قشلة بكسر القاف وسكون الشين وهي في اللغة التركية المكان الشتوي لأن الشتاء في لغتهم يسمى قش بكسر القاف وسكون الشين فكتب مراسيم إلى النواحي بسائر القرى بالأمر لهم بعمل الطوب اللبن ثم حرقه وحمله إلى محل البناء وفرضوا على كل بلد وقرية فرضًا وعددًا معينًا فيفرض على القرية مثلًا خمسمائة ألف لبنة وأكثر بحسب كبر القرية وصغرها فيجمع كاشف الناحية مشايخ القرى ثم يفرض على كل شيخ قدرًا وعددًا من اللبن عشرين ألفًا أو ثلاثين ألفًا أو أكثر أو أقل ويلزم بضربها وحرقها ورفعها وأجلهم مدة ثلاثين يومًا وفرضوا على كل قرية أيضًا مقادير من أفلاق النخل ومقادير من الجريد ثم فرضوا عليهم أيضًا أشخاصًا من الرجال لمحل الأشغال والعمائر يستعملونهم في فعالة نقل أدوات لعمارة في النواحي حتى الاسكندرية وخلافها ولهم أجرة أعمالهم في كل يوم لكل شخص سبعة أنصاف فضة لا غير ولمن يعمل اللبن أجرة أيضًا ولثمن الأفلاق والجريد قدر معلوم لكنه قليل‏.‏

ومنها أنه توجه الأمر لكشاف النواحي عند انكشاف الماء عن الأراضي بأن يتقدموا إلى الفلاحين بأن من كان زراعًا في العام الماضي فداني كنان أو حمص أو سمسم أو قطن فليزرع في هذه السنة أربعة أفدنة ضعف ما تقدم لأن المزارعين عزموا على عدم زراعة هذه الأشياء لما حصل لهم من أخذ ثمرات متاعهم وزراعاتهم التي دفعوا خراجها الزائد بدون القيمة التي كانوا يبيعون بها مع قلة الخراج الذي كانوا يماطلون فيه الملتزمين السابقين مع التظلم والتشكي فيزرع الزارع ما يزرعه من هذه الأشياء من التقاوى المتروكة في مخزنه ثم يبيع الفدان من الكتان الأخضر في غيطه إن كان مستعجلًا بالثمن الكثير وإلا أبقاه إلى تمام صلاحه فيجمعه ويدقه ويبيع ما يبيعه من البزر خاصة بأغلى ثمن ثم يتمم خدمته من التعطين والنشر والتمحير إلى أن يصفى وينظف من أدرانه وخشوناته وينصلح للغزل والنسج فيباع حينئذ بالأوقية والرطل وكذا القطن والنيلة والعصفر فلما وقع عليهم التحجير وحرموا من المكاسب التي كانوا يتوسعون بها في معايشهم باقتناء المواشي والحلي للنساء قالوا ما عدنا نزرع هذه الأشياء وظنوا أن يتركوا على هواهم ونسوا مكر أوليائهم فنزل عليهم الأمر والإلزام بزرع الضعف فضجوا وترجوا واستشفعوا ورضوا بمقدار العام الماضي فمنهم من سومح ومنهم من لم يسامح وهو ذو المقدرة وبعد إتمامه وكمال صلحه يؤخذ بالثمن المفروض على طرف الميري ويباع لمن يشتري من أربابه أو خلافهم بالثمن المقدر وربح زيادته لطرف حضرة الباشا مع التضييق والحجر البليغ والفحص عن الاختلاس فمن عثروا عليه باختلاس شيء ولو قليلًا عوقب عقابًا شديدًا ليرتدع خلافه والكتبة والموظفون لتحرير كل صنف ووزنه وضبطه في تنقلات أطواره وعند تسليم الصناع ونتج من ذلك وأثمر عزة الأشياء وغلو الأسعار على الناس منها أن المقطع القماش الذي كان ثمنه ثلاثين نصفًا بلغ سعره عشرة قروش مع عزة وجدانه بالأسواق المعدة لبيعه مثل سوق مجوش وخلافه خلا الطوافين به والثوب البطانة الذي كان ثمنه قرشين بلغ ثمنه شبعة قروش وأدركناه في الأزمان السابقة يباع بعشرين نصفًا وبلغ ثمن الثوب من البفتة المحلاوي أربعة عشر قرشًا وكان يباع فيما أدركنا بدكان التاجر بستين نصفًا وقس على ذلك وبسبب التحجير على النيلة غلا صبغ ثياب الفقراء حتى بلغ صبغ الذراع الواحد نصف قرش والله يلطف بحال خلقه وما دام توزون له امرأة مطاعة فالميل في الجمر‏.‏

ومنها استمر التحجير على الأرز ومزارعه على مثل هذا النسق حيث أن الزراعين له التعبانين فيه لا يمكنون من أخذ حبة منه فيؤخذ بأجمعه لطرف الباشا بما قدره من الثمن ثم يخدم ويبيض في المداوير والمدقات والمناشر بأجرة العمال على طرفه ثم يباع بالثمن المفروض واتفق أن شخصًا من أبناء البلد يسمى حسين جلبي عجوة ابتكر بفكره صورة دائرة وهي التي يدقون بها الأرز وعمل لها مثالًا من الصفيح تدور بأسهل طريقة وقدم ذلك المثال إلى الباشا فأعجبه وأنعم عليه بدراهم وأمره بالمسير إلى دمياط ويبني بها دائرة ويهندسها برأيه ومعرفته وأعطاه مرسومًا بما يحتاجه من الأخشاب والحديد والمصرف ففعل وصح قوله ثم فعل أخرى برشيد وراج أمره بسبب ذلك‏.‏

ومنها أن الباشا لما رأى هذه النكتة من حسين شلبي هذا قال أن في أولاد مصر نجابة وقابلية للمعارف فأمر ببناء مكتب بحوش السراية ويرتب فيه جملة من أولاد البلد ومماليك الباشا وجعل معلمهم حسن أفندي المعروف بالدرويش الموصلي يقرر لهم قواعد الحساب والهندسة وعلم المقادير والقياسات والارتفاعات واستخراج المجهولات مع مشاركة شخص رومي يقال له روح الدين أفندي بل وأشخاص من الإفرنج وأحضر لهم آلات هندسية متنوعة من أشغال الإنكليز يأخذون بها الأبعاد والإرتفاعات والمساحة ورتب لهم شهريات وكساوي في السنة واستمروا على الاجتماع بهذا المكتب وسموه مهندس خانه في كل يوم من الصباح إلى بعد الظهيرة يم ينزلون إلى بيوتهم ويخرجون في بعض الأيام إلى الخلاء لتعليم مساحات الأراضي وقياساتها وهو الغرض المقصود للباشا‏.‏

ومنها استمرارا الإنشاء في السفن الكبار والصغار لنقل الغلال من قبلي وبحري لناحية الإسكندرية لتباع على الإفرنج من سائر أصناف الحبوب فيشحنون السفن من سواحل البلاد القبلية وتأتي إلى ساحل بولاق ومصر القديمة فيصبونها كيمانًا هائلة عظيمة صاعدة في الهواء فتصل المراكب البحرية لنقلها فتصبح ولا يبقى شيء منها ويأتي غيرها وتعود كما كانت بالأمس ومثل ذلك بساحل رشيد وأما الحبوب البحرية فإنها لا تأتي إلى هذه السواحل بل تذهب من سواحلها إلى حيث هي برشيد ثم إلى الإسكندرية ولما بطل البغاز جمعوا الحمير الكثيرة والجمال ينقلون عليها على طريق البر بالأجرة القليلة فكانت تموت من قلة العلف ومشقة الطريق وتوثق بها السفن الواصلة بالطلب إلى بلاد الإفرنج بالثمن عن كل أردب من البر ستة آلاف فضة وأما الفول والشعير والحلبة والذرة وغيرها من الحبوب والأدهان فأسعارها مختلفة ويعوض بالبضائع والنقود من الفرانسة معبأة في صناديق صغيرة تحمل الثلاثة منها على بعير إلى الخزينة وهي مصفحة بالحديد يمرون بها قطارات إلى القلعة وعند قلة الغلال ومضي وقت الحصاد يتقدم إلى كشاف النواحي القبلية والبحرية بفرض مقادير من الغلال على البلدان والقرى فيلزمون مشايخ البلدان بما تقرر على كل بلد م القمح والفول والذرة ليجمعوه ويحصلوه من الفلاحين وهم أيضًا يعملون بفلاحي بلادهم ما يعملون بجورهم وأغراضهم ويأخذون الأقوات المدخرة للعيال وذلك بالثمن عن كل أردب من البر ثمانية ريالات يعطى له نصفها ويبقى له النصف الثاني ليحسب له من أصل المال الذي سيطالب به في العام القابل‏.‏

ومنها أن الباشا سنح له أن ينشئ بالمحل المعروف برأس الوادي بشرقية بلبيس سواقي وعمارات ومزارع وأشجار توت وزيتون فذهب هناك وكشف عن أراضيه فوجدها متسعة وخالية من المزارع وهي أراضي رمال وأودية فوكل أناسًا لإصلاحها وتمهيدها وأن يحفروا بها جملة من السواقي تزيد عن الألف ساقية ويبنوا أبنية ومساكن ويزرعوا أشجار التوت لتربية دود القز وأشجارًا كثيرة من الزيتون لعمل الصابون وشرعوا في العمل والحفر والبناء وفي إنشاء توابيت خشب للسواقي تصنع ببيت الجبجي بالتبانة وتحمل على الجمال إلى رأس الوادي شيئًا بعد شيء وأمر أيضًا ببناء جامع الظاهر بيبرس خارج الحسينية وأن يعمل مصبنة لصناعة الصابون وطبخه مثل الذي يصنع ببلاد الشام وتوكل بذلك السيد أحمد بن يوسف فخر الدين وعمل به أحواضًا كبيرة للزيت والقلي‏.‏

ومن المتجددات أيضًا محل بخطة تحت الربع يعمل به وتسبك أوان ودسوت من النحاس في غاية الكبر والعظم‏.‏

ومنها شغل البارود وصناعته بالمكان والصناع المعدة لذلك بجزيرة الروضة بالقرب من المقياس بعد أن يستخرجوه من كيمان السباخ في أحواض مبنية ومخففة ثم يكررونه بالطبخ حتى يكون ملحه غاية في البياض والحدة كالذي يجلب من بلاد الإنكليز والمتقيد كبيرًا على صناعة شخص أفرنكي ولهم معاليم تصرف في كل شهر ومكان أيضًا بالقلعة عند باب الينكجرية لسبك المدافع وعملها وقياساتها وهندستها والبنبات وارتفاعها ومقاديرها وسمى ذلك المكان بالطبخانة وعليه رئيس وكتبة وصناع ولهم شهريات‏.‏

ومنها شدة رغبة الباشا في تحصيل الأموال والزيادة من ذلك من أي طريق بعد استيلائه على البلاد والإقطاعات والرزق الأحباسية وإبطال الفراغ والبيع والشراء والمحلول عن الموتى من ذلك والعلوفات وغلال الأنبار ونحو ذلك فكل من مات عن حصته أو رزقته أو مرتب انحل بموته ما كان على اسمه وضبطه وأضيف إلى ديوانه ولو له أولادًا وكان هو كتبه باسم أولاده وماتت أولاده قبله انحل عنه وأصبح هو وأولاده من غير شيء فإن عرض حاله على الباشا أمر بالكشف عن إيراده فإن وجدوا بالدفاتر جهة أو وظيفة أخرى قيل له هذه تكفيك وإن لم يوجد في حوزه خلافها أمر له بشيء يستغله من أقلام المكوس إما قرش أو نصف قرش في كل يوم أو نحو هذا مع التفاته ورغبته في أنواع النجارات والشركات وإنشاء السفن ببحر الروم والقلزم وأقام له وكلاء بسائر الأساكل حتى ببلاد فرانسة والإنكليز ومالطة وإزمير وتونس والنابلطان والونديك والبنادقة واليمن والهند وأعطى أناسًا جملًا عظيمة من أموال يسافرون بها ويجلبون البضائع وجعل لهم الثلث في الربح في نظير شفرهم وخدمتهم فمن ذلك أنه أعطى للرئيس حسن المحروقي خمسمائة ألف فرانسة يسافر بها إلى الهند ويشتري البضائع الهندية ويأتي بها إلى مصر ولشخص نصراني أيضًا ستمائة ألف فرانسة وكذلك لمن يذهب إلى بيروت وبلاد الشام لمشترى القز والحرير وغير ذلك وعمل بمصر أماكن ومصانع لنسج القطاني التي يتخذها الناس في ملابسهم من القطن والحرير وكذلك الجنفس والصندل واحتكر ذلك بأجمعه وأبطل دواليب الصناع لذلك ومعلميهم وأقامهم يشتغلون وينسجون في المناسج التي أحدثها بالأجرة وأبطل مكاسبهم أيضًا وطرائقهم التي كانوا عليها فيأخذ من ذلك ما يحتاجه في اليلكات والكساوى وما زاد يرميه على التجار وهم يبيعونه على الناس بأغلى ثمن وبلغ ثمن الدرهم من الحرير خمسة وعشرين نصفًا بعد أن كان يباع بنصفين‏.‏

ومنها أنه أبطل ديوان المنجرة وهي عبارة عما يؤخذ من المعاشات وهي المراكب التي تغدو وتروح لموارد الأرياف مثل شيبين الكوم وسمنود والبلاد البحرية وعليها ضرائب وفرائض للملتزم بذلك وهو شخص يسمى عليا الجزار وسبب ذلك أن معظم المراكب التي تصعد ببحر النيل وتنحدر من إنشاء الباشا ولم يبق لغيره إلا القليل جدًا والعمل والإنشاء بالترسخانة مستمر على الداوم والرؤساء والملاحون يخدمون فيها بالأجرة وعمارة خللها وأحبالها وجميع احتياجاتها على طرف الترسخانة ولذلك مباشرون وكتاب وأمناء يكتبون ويقيدون الصادر والوارد وهذه الترسخانة بساحل بولاق بها الأخشاب الكثيرة والمتنوعة وما يصلح للعمائر والمراكب ويأتي إليها المجلوب من البلاد الرومية والشامية فإذا ورد شيء من أنواع الأخشاب سمحوا للخشابة بشيء يسير منها بالثمن الزائد ورفع الباقي إلى الترسخانة وجميع الأخشاب الواردة والأحطاب جميعها في متاجر الباشا وليس لتجارها إلا ما كان من داخل متاجره وهو القليل‏.‏

ومن النوادر أنه وصل إلى بلاد الإنكليز سواقي بآلات الحديد تدور بالماء فلم يستقم لها دوران على بحر النيل‏.‏

ومنها أنه أنشأ جسرًا ممتدًا من ناحية قنطرة الليمون على يمنة السالك إلى طريق بولاق متصلًا إلى شبرا على خط مستقيم وزرعوا بحافتية أشجار التوت وعلى هذا النسق جسور بطرق الأرياف والأقاليم‏.‏

ومنها أن اللحم قل وجوده من أول شهر رجب إلى غاية السنة وغلا سعره مع رداءته وهزاله حتى بيع الرطل بعشرين نصفًا وأزيد وأقل مع ما فيه من العظام وأجزاء السقط والشغت وسبب ذلك رواتب الدولة وأخذها بالثمن القليل فيستعوض الجزارون خسارتهم من الناس وكان البعض من العسكر يشتري الأغنام ويذبحها ويبيعها بالثمن الغالي وينقص الوزن ولا يقدر ابن البلد على مراجعته‏.‏

ومنها أن إبراهيم آغا الذي كان كتخدا إبراهيم باشا قلده الباشا كشوفية المنوفية فمن أفاعيله أنه يطلب مشايخ البلدة أو القرية فيسأل الشخص منهم على من شيخه فيقول أستاذ البلدة فيقول له في أي وقت فيقول سنة كذا فيقول وما الذي قدمته له في سياختك ويهدده أو يحبسه على الإنكار أو يخبر من بادئ الأمر ويقول أعطيته كذا وكذا إما دراهم أو أغنامًا فيأمر الكاتب بتقييده وتحريره وضبطه على الملتزم وسطر بذلك دفترًا وأرسله إلى الديوان ليخصم على الملتزمين من فائظهم المحرر لهم بالديوان فيتفق أن المحرر عليه يزيد على القدر المطلوب له فيطالب الباقي أو يخصم عليه من السنة القابلة‏.‏

ومنها التحجير على القصب الفارسي فلا يتمكن أحد من شراء شيء منه ولو قصبة واحدة إلا بمرسوم من كتخدا بك فمن احتاج منه في عمارة أو شباك أو لدوارات الحرير أو أقصاب الدخان أخذ فرمانًا بقدر احتياجه واحتاج إلى وسائط ومعالجات واحتجاجات حتى يظفر بمطلوبه‏.‏

ومنها وهي من محاسن الأفعال أن الباشا أعمل همته في إعادة السد الأعظم الممتد الموصل إلى الإسكندرية وقد كان اتسع أمره وتخرب من مدة سنين وزحف منه ماء البحر المالح وأتلف أراضي كثيرة وخربت منه قرى ومزارع وتكلت بسببه الطرق والمسالك وعجزت الدول في أمره ولم يزل يتزايد في التهور وزحف المياه المالحة على الأراضي حتى وصلت إلى خليج الأشرفية التي يمتلئ منها صهاريج الثغر فكانوا يجسرون عليه بالأتربة والطين فلما اعتنى الباشا بتعمير الإسكندرية وتشييد أركانها وأبراجها وتحصينها ولم تزل بها العمارات اعتنى أيضًا بأمر الجسر وأرسل إليه المباشرين والقومة والرجال والفعلة والنجارين والبنائين والمسامير وآلات الحديد والأحجار والمؤن والأخشاب العظيمة والسهوم والبراطيم حتى تممه وكان له مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان فلو وفقه الله لشيء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه وأما أمر المعاملة فلم يزل حالها في التزايد حتى وصل صرف الريال الفرانسة إلى تسعة قروش وهو أربعة أمثال الريال المتعارف ولما بطل ضرب القروش من العام الماضي ضربوا بدلها أنصاف قروش وأرباعها وأثمانها وتصرف بالفرط والأنصاف العددية لا وجود لها بأديد الناس إلا ما قل جدًا فإذا أراد إنسان منها دفع في إبدالها عشرة قروش عنها أربعمائة نصف فضة زيادة على المبدل إن كان ذهبًا أو فرانسة أو قروشًا ووصل صرف البندقي إلى ثمانمائة نصف والمجر ثمانية عشر قرشًا والمحبوب المصري إلى أربعمائة والإسلامبولي إلى أربعمائة وثمانين كل ذلك أسماء لا مسميات لانعدام الأنصاف مع أنه يضرب منها المقادير والقناطير يأخذها التجار الشاميون والروميون بالفرط ثم يرسلونها متاجر بدلًا عن البضائع لأن الريال في تلك البلاد صرفه ثلاثمائة نصف فقط فيكون فيه الربح ستون نصفًا في كل ريال ولما علم الباشا ذلك جعل يرسل لوكلائه بالشام في كل شهر ألف كيس من الفضة العددية ويأتيه بدلها فرانسة فيضيف عليها ثلاثة أمثالها نحاسًا ويضربها فضة عددية فيربح فيها ربحًا بدون حاء عظيمًا وهكذا من هذا الباب فقط‏.‏

ومن حوادث السنة الآفاقية واقعة الإنكليز مع أهل الجزائر وهو أن لأهل الجزائر صولة واستعدادًا وغزوات في البحر ويغزون مراكب الإفرنج ويغتنمون منها غنائم ويأخذون منهم أسرى وتحت أيديهم من أسارى الإنكليز وغيرهم شيء كثير ومينتهم حصينة يدور بها سور خارج في البحر كنصف الدائرة في غاية الضخامة والمتانة ذو أبراج مشحونة بالمدافع والقنابر والمرابطين والمحاربين ومراكبهم من داخله فوصل إليهم بعض مراكب الإنكليز ومعهم مرسوم من السلطان العثماني ليفتدوا أساراهم بمال فأعطوهم ما يزيد عن الألف أسير ودفعوا عن ك رأس أسير مائة وخمسين فرانسًا ورجعوا من حيث أتوا وبعد مدة وصل منهم بعض سافئن إلى خارج المينا رافعين أعلام السلم والصلح فعبروا داخل المينا من غير ممانع ونزل منهم أنفار في فلوكة وبيدهم مرسوم بطلب باقي الأسرى فامتنع حاكمهم من ذلك وترددوا في المخاطبات وفي أثناء ذلك وصلت عدة مراكب من مراكبهم وشلنبات وهي المراكب الصغار لمعدة للحرب وعبروا مع مساعدة الريح إلى المينا وأثاروا الحرب والضراب بطرائقهم المستحدثة فأحرقوا مراكب أهل الجزائر مع المضاربة أيضًا من أهل المدينة مع تأخر استعدادهم وسرعة استعداد الخصم ومدافع الأبراج الداخلة لا تصيب الشلنبات الصغيرة المتسفلة وهم لا يخطؤون ثم هم في شدة الغارة والحرب إذ قيل للحاكم بأن عساكره الأتراك تركوا المحاربة واشتغلوا بنهب البلدة وإحراق الدور فقط في يده واحتار في أمره ما بين قتال العدو الواصل أو قتال عسكره ومنعهم وكفهم عن النهب والإحراق والفساد وهذا شأنهم فلم يسعه إلا خفض الأعلام وطلب الأمان من الإنكليز فعند ذلك أبطلوا الحرب وكفوا عن الضراب وترددوا في الصلح على شرائطهم التي منها تسليم بواقي الأسرى واسترداد المال الذي سلموه في الفداء السابق حالًا من غير مهلة فكان ذلك وتسلموا الأسرى وفيهم من كان صغيرًا وأسلم وقرأ القرآن واتفقوا على المتاركة والمهلة زمنًا مقداره ستة أشهر ورجعوا إلى بلادهم بالظفر والأسرى والأمر لله وحده ثم أن الجزائرلية اجتهدوا في تعمير ما تهدم وتخرب من السور والأبراج والجامع في الحرب وكذلك ما أخربه عساكرهم الذين هم أعدى من الأعداء وأضر ما يكون على الإسلام وأهله وصارت الأخبار بذلك في الآفاق وأمدهم سلطان المغرب مولاي سليمان وبعث إليهم مراكب عوضًا عن الذي تلف من مراكبهم فأرسل إليهم معمرين وأدوات ولوازم عمارات وكذلك حاكم تونس وغيرها ومن السلطان العثماني أيضًا ولم يتفق فيما نعلم لأهل الجزائر مثل هذه الحادثة الهائلة ولا أشنع منها وكانت هذه الواقعة غرة شهر شوال من السنة وهو يوم عيد الفطر وكان عيدًا في غاية الشناعة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏ وأما

من مات في هذه السنة ممن له ذكر

مات الشيخ الفهامة والنحرير العلامة الفقيه النحوي الأصولي إبراهيم البسيوني البجيرمي الشيخ الصالح المقتصد الورع الزاهد حضر جل الأشياخ المتقدمين وهو في عداد الطبقة الأولى ودرس وأفاد وانتفع به الطلبة بل غالب الناس كان طارحًا للتكلف متقشفًا مع التواضع والانكسار ملازمًا على العبادة مستحضرًا للفروع الفقهية والمعقولية والمناسبات الشعرية والشواهد النحوية والأدبية جيدًا لحافظة لا تمل مجالسته ومؤانسته ولم يزل على حالته وإفادته وانجماعه وعفته حتى تمرض وتوفي يوم السبت منتصف المحرم من السنة عن نحو الخمسة وسبعين وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل رحمه الله تعالى وإيانا‏.‏

ومات الشيخ العلامة الأصولي الفقيه النحوي على الحصاوي الشافعي نسبة إلى بلدة بالقليوبية تسمى الحصة حضر إلى الجامع الأزهر صغير وحفظ القرآن والمتون وحضر دروس الأشياخ كالشيخ علي العدوي المنسفيسي الشهير بالصعيدي والشيخ عبد الرحمن النحريري الشهير بالمقري ولازم الشيخ سليمان الجمل وبه تخرج وحضر على الشيخ عبد الله الشرقاوي مصطلح الحديث وكان يحفظ جمع الجوامع مع شرحه للجلال المحلي في الأصول ومختصر السعد ويقرأ الدروس ويفيد الطلبة وكان إنسانًا حسنًا مهذبًا متواضعًا ولا يرى لنفسه مقامًا عاش معانقًا للخمول في جهد وقلة من العيش مع العفة وعدم التطلع لغيره صابرًا على مناكدة زوجته وبآخره أصيب بداء الفالج انقطع بسببه أشهرًا ثم انجلى عنه يسيرًا مع سلامة حواسه وعاد إلى الإقراء والإفادة ولم يزل على حسن حاله ورضاه وانشراح صدره وعدم تضجره وشكواه للخلوقين إلى أن توفي في شهر جمادى الثانية سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف رحمه الله وإيانا‏.‏

ومات الشيخ العلامة والنحرير الفهامة السيد أحمد بن محمد بن إسماعيل من ذرية السيد محمد الدوقاطي الطهطاوي الحنفي والده رومي حضر إلى أرض مصر متقلدًا القضاء بطهطا بلدة بالقرب من أسيوط بالصعيد الأدنى فتزوج بامرأة شريفة فولد له منها المترجم وأخوه السيد إسماعيل ولم يزل مستوطنًا بها إلى أن مات وترك ولديه المذكورين وأختًا لهما حضر المترجم إلى مصر سنة إحدى وثمانين ومائة وألف وكان قد بدأ نبات لحيته بعدما حفظ القرآن ببلده وقرأ شيئًا من النحو فدخل الأزهر ولازم الحضور في الفقه على الشيخ أحمد الحماقي والمقدسي والحريري والشيخ مصطفى الطائي والشيخ عبد الرحمن العريشي حضر عليه من أول كتاب الدر المختار إلى كتاب البيوع وتمم حضوره على المرحوم الوالد مع الجماعة لتوجسه الشيخ عبد الرحمن لدار السلطنة لبعض المقتضيات عن أمر علي بك في سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف فالتمس الجماعة تكملة الكتاب على الوالد فأجابهم لذلك فكانوا يأتون للتلقي عنه في المنزل والمترجم معهم وفي أثناء ذلك قرأت مع المترجم عن الوالد متن نور الإيضاح بعد انصراف الجماعة عن الدرس ويتحلف المترجم وذلك لعلو السند فإن الوالد تلقاه عن ابن المؤلف وهو جد الوالد عن المؤلف وجد الوالد والمؤلف يسميان بحسن فهو من عجيب الاتفاق وكان المترجم يلائم طبع الفقير في الصحبة فكنت معه في غالب الأوقات إما في الجامع أو في المنزل للطاقة طبعه وقرب سني من سنه وكان الوالد يرى ذلك ويسألني عنه إذا تخلف في بعض الأحيان ويقول أين رفيقك الصعيدي فكان يعيد معي ويفهمني ما يصعب علي فهمه ولم يزل يدأب في الاشتغال والطلب مع جودة ذهنه وخلو باله وتفرغه والفقير بخلاف ذلك وتلقى المترجم الحديث سماعًا وإجازة عن كل من الشيخ حسن الجداوي والشيخ محمد الأمير والشيخ عبد العليم للفيومي ثلاثتهم عن الشيخ علي العدوي المنسفيسي عن الشيخ محمد عقيلة بسنده الشمهور والمترشح للإفادة والتدريس وكان مسكنه بناحية الصليبة وجلس للإقراء بالمدرسة الشيخونية والصرغشمشية احتف به سكان تلك الناحية وأكابرهم واعتنوا بشأنه وأسكونه في دار تليق به وهادوه وواسوه وأكرموه وكانت تلك الناحية عامرة بأكابرها وانفرد المترجم عندهم لكونه على مذهبهم وأصله من جنس الأتراك وخلو تلك النواحي من أهل العلم وخصوصًا الأحناف وملازمة المترجم للحالة المحمودة من الإفادة مع شرف النفس والتباعد عما يخل بالمروءة إلا ما يأتيه عفوًا فازدادت محبتهم له ووثقوا فيما يقضيه ثم تصدى لوقف الشيخونيتين وإبرادهما واستخلاص أماكنهما وشرع في تعميرهما وساعده على ذلك كل من كان يحب الإصلاح فجدد عمارة المسجد والتكية وأنشأ بها صهريجًا وفي أثناء ذلك انتقل بأهله إلى دار مايحة بجوار المسجد بالدرب المعروف بدرب الميضاة وقفها بانيها على المسجد كل ذلك والمترجم لم ينقطع عن الحضور إلى الأزهر في كل يوم ويقرأ دروسه أيضًا بالجامع ولما كثرت جماعته انتقل إلى المدرسة العينية بالقرب من الأزهر وملا عمر محمد أفندي الودنلي الجامع المجاور لمنزله تجاه القنطرة المعروفة بعمار شاه والمكتب قرر المترجم في درس الحديث بها في كل يوم بعد العصر وقرر له عشرة من الطلبة ورتب للشيخ والطلبة معلومًا وافرًا يقبض من الديوان ولما مات الشيخ إبراهيم الحريري تعين المترجم لمشيخة الحنفية فتقلدها على امتناع منه فاستمر إلى أن أخرج السيد عمر مكرم من مصر منفيًا وكتبوا في شأنه عرضحال إلى الدولة نسبوا إليه فيه أشياء لم تحصل منه وطلبوا الشهادة فيها فامتنع فشنعوا عليه وبالغوا في الحطط عليه وعزلوه من المشيخة وقلدوها الشيخ حسينًا المنصوري فلما مات المذكور أعيد المترجم إلى مشيخة الحنفية وذلك في غرة شهر صفر سنة ألف ومائتين وثلاثين ولبس الخلع من الشيخ الشنواني شيخ الجامع ثم من الباشا وباقي المشايخ أرباب المظاهر ولم يختلف عليه اثنان وفي هذه السنة استأذن الفقير في بناء مقبرة يدفن فيها إذا مات بجوار الشيخ أبي جعفر الطحاوي بالقرافة لكوني ناظرًا عليها فأذنت له في ذلك فبنى له قبرًا بجانب مقام الأستاذ ولما توفي دفن فيه وكانت وفاته ليلة الجمعة بعد الغروب خامس عشر شهر رجب سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف وله من المآثر حاشية على الدر المختار شرح تنوير الأبصار في أربع مجلدات جمع فيها المواد التي في الكتاب وضم إليها غيرها‏.‏

ومات النجيب الأريب والنادرة العجب أعجوبة الزمان وبهجة الخلان حسن أفندي المعروف بالدرويش الموصلي كما أخبر عن نفسه الذكي الألمعي والسميذع اللوذعي كان إنسانًا عجيبًا في نفسه مميزًا شهيرًا في مصره طاف البلاد والنواحي وجال في الممالك والضواحي واطلع على عجائب المخلوقات وعرف الكثير من الألسن واللغات ويعتزى لكل قبيل ويخالط كل جيل فمرة ينتسب إلى فارس وأخرى إلى بني مكانس فكأنه المعني بما قيل طور إيمان إذا لاقيت ذا يمن وإن رأيت معديًا فعدناني هذا مع فصاحة لسان وقوة جنان والمشاركة في كل فن من الرياضيات والأدبيات حتى يظن سامعه أنه مجيد في ذلك الفن منفرد به وليس الأمر كذلك وإنما ذلك بقوة الفهم والحفظ وما فيه من القابلية فيستغني بذلك عن التلقي من الأشياخ وأيضًا فقد انقرض أهل الفنون فيحفظ اصطلاحات الفن وأوضاع أهله ويبرزه في ألفاظ ينمقها ويحسنها ويذكر أسماء كتب مؤلفة وأشياخًا وحكمًا يقل الاطلاع عليها والوصول إليها ولمعرفته باللغات خالط كل ملة حتى يظن كل أهل ملة أنه واحد منهم ويحفظ كثيرًا من الشبه والمدركات العقلية والبراهين الفلسفية وأهمل الواجبات الشرعية والفرائض القطعية وربما قلد كلام الملحدين وشكوك المارقين ويزلق لسانه في بعض المجالس بغلطات من ذلك ووساوس فلذلك طعن الناس عليه في الدين وأخرجوه عن اعتقاد المسلمين وساءت فيه الظنون وكثر عليه الطاعنون وصرحوا بعد موته بما كانوا يخفونه في حياته لاتقاء شره وسطوته وكان له تداخل عجيب في الأعيان ومع كل أهل دولة وزمان ورؤساء الكتبة والماشرين من الأقباط والمسلمين بالمعزة الزائدة واستجلاب الفائدة لا تمل مجالسته ولا معاشرته وبأخره لما رغب الباشا في إنشاء محل لمعرفة علم الحساب والهندسة والمساحة تعين المترجم رئيسًا ومعلمًا لمن يكون متعلمًا بذلك المكتب وذلك أنه تداخل بتحيلاته لتعليم مماليك الباشا الكتابة والحساب ونحو ذلك ورتب له خروجًا وشهرية ونجب تحت يده بعض المماليك في معرفة الحسابيات ونحوها وأعجب الباشا ذلك فذاكره وحسن له بأن بفرد مكانًا للتعليم ويضم إلى مماليكه من يريد التعليم من أولاد الناس فأمر بإنشاء ذلك المكتب وحضر إليه أشياء من آلات الهندسة والمساحة والهيئة الفلكية من بلاد الإنكلز وغيرهم واستجلب من أولاد البلد ما ينيف على الثمانين شخصًا من الشبان الذين فيهم قابلية التعليم ورتبوا لكل شخص شهرية وكسوة في آخر السنة فكان يسعى في تعجيل كسوة الفقير منهم ليتجمل بها بين أقرانه ويواسي من يستحق المواساة ويشتري لهم الحمير مساعدة لطلوعهم ونزولهم إلى القلعة فيجتمعون للتعليم في كل يوم من الصباح إلى بعد الظهر وأضيف إليه آخر حضر من إسلامبول له معرفة بالحسابيات والهندسيات لتعليم من يكون أعجميًا لا يعرف العربية مساعدًا للمترجم في التعليم يسمى روح الدين أفندي فاستمرا نحوًا من تسعة أشهر ومات المترجم وذلك أنه اقتصد وطلع إلى القلعة فحنق على بعض المتعلمين وضربه فانحلت الرفادة فسال منه دم كثير فحم حمى مختلطة واستمر أيامًا وتوفي ودفن بجامع السراج البلقيني بين السيارج وعند ذلك زاد قول الشامتين وصروحوا بما كانوا يخفونه في حياته فيقول البعض مات رئيس الملحدين وآخر يقول انهدم ركن الزندقة ونسبوا إليه أن عنده الكتاب الذي ألفه ابن الراوندي لبعض اليهود وسماه دافع القرآن وأنه كان يقرؤه ويعتقد به وأخبروا بذلك كتخدا بك فطلب كتبه وتصفحوها فلم يجدوا بها ذلك الكتاب وما كفى مبغضه وحاسده من الشناعات حتى رأوا له منامات شنيعة تدل على أنه من أهل النار والله ألم بخلقه وبالجملة فكان غريبًا في بابه وكانت وفاته يوم الخميس سابع عشر جمادى الثانية من السنة وانفرد برياسة المكتب روح الدين أفندي المذكور‏.‏

ومات الأجل المكرم الشريف غالب بسلانيك وهو المنفصل عن إمارة مكة وجدة والمدينة وما انضاف إلى ذلك من بلاد الحجاز فكانت إمارته نحوًا من سبع وعشرين سنة فإنه تولى بعد موت الشريف سرور في سنة ثلاث ومائتين وألف وكان من دهاة العالم وأخباره ومناقبه تحتاج إلى مجلدين ولم يزل حتى سلك الله عليه بأفاعيله هذا الباشا فلم يزل يخادعه حتى تمكن منه وقبض عليه وأرسله إلى بلدة سلانيك وخرج من سلطنته وسيادته إلى بلاد الغربة ونهبت أمواله وماتت أولاده وجواريه ثم مات هو في هذه السنة‏.‏

ومات الأمير مصطفى بك دالي باشا ونسيبه أيضًا وكان من أعاظم أركان دولته شهير الذكر موصوفًا بالإقدام والشجاعة ومات بالإسكندرية ولما وصل خبره إلى الباشا اغتم غمًا شديدًا وتأسف عليه وكان الباشا ولاه كشوفية الشرقية وقرن به علي كاشف فأقام بها نحو السنتين ومهد البلاد وأخاف العربان وأذلهم وقتل منهم الكثير وجمع لمخدومه أموالًا جمة وكان جسيمًا بطينًا يأكل التيس المخصي وحده ويشرب عليه الزق من الشراب ثم يتبعه بشالية أو اثنتين من اللبن ويستلقي نائمًا مثل العجل العظيم ذي الخوار إلا أنه كان يقضي حاجة من التجأ إليه ويحب أولاد الناس ويواسيهم يتجاوز عن الكثير ويعطي ما يلزمه من الحقوق لأربابها ولما تحققت أخته التي هي زوج الباشا وكذلك والدته أمرتا بإحضار رمته إلى مصر ويدفن بمدفنهم وتعين لذلك سليمان آغا السلحدار فسافر إلى الإسكندرية ووضعه في صندوق مزفت على عربية ووصل به بعد اثني عشر يوما ً من موته وكان وصوله في ثاني ساعة من ليلة الجمعة سادس عشرة جمادى الثانية وذهبوا به إلى المدفن في المشاعل من خلف المجراة فلما وصلوا إلى المدفن أرادوا إنزاله إلى القبر بالصنجوق فلم يمكنهم فكسروا الصندوق فبقت رائحته وقد تهرى فهرب كل من كان حاضرًا فكبوه على حصير ولفوه فيه وأنزلوه إلى الحفرة وغشي على الفحارين وخزعت النفوس من رائحة أخشاب الصندوق فحثوا عليه الأتربة وليس من يفتكر ويعتبر‏.‏

ومات أيضًا حسن آغا حاكم بندر السويس مطعونًا فولى الباشا عوضه السيد أحمد الملا الترجمان‏.‏

ومات أيضًا سليمان آغا حاكم رشيد‏.‏

ومات الأمير الكبير المشهير بإبراهيم بك المحمدي عين أعيان أمراء الألوف المصريين ومات بدنقلة متغربًا عن مصر وضواحيها وهو من مماليك محمد بك أبي الذهب تقلد الأمرة والإمارة في سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف في أيام علي بك الكبير وتقلد مشيخة البلد ورياسة مصر بعد موت أستاذه في سنة تسع وثمانين ومائة وألف مع مشاركة خشداشه مراد بك وباقي أمرائهم والجميع راضون برياسته وإمارته لا يخالفهم ولا يخالفونه ويراعي جانب الصغير منهم قبل الكبير ويحرص على جمعية أمرهم وألفة قلوبهم فطالت أيامه وتولى قائم مقامية مصر على الوزراء نحو العشرة مرار وطلع أميرًا على الحج سنة ست وثمانين وتولى الدفتردارية في سنة سبع وثمانين وكلاهما في حياة أستاذه واشترى المماليك الكثيرة ورباهم وأعتقهم وأمر وقلد منهم صناجق وكشافًا وأسكنهم الدور الواسعة وأعطاهم الإقطاعات ومات الكثير منهم في حياته وأقام خلافهم من مماليكه ورأى أولاد أولاده بل وأولادهم وما زال يولد له وأقام في الإمارة نحو ثمان وأربعين سنة وتنعم فيها وقاسى في أواخر أمره شدائد واغترابًا عن الأهل والأوطان وكان موصوفًا بالشجاعة والفروسية وباشر عدة حوب وكان ساكن الجأش صبورًا ذا تؤدة وحلم قريبًا للانقياد للحق متجنبًا للهزل إلا نادرًا مع الكمال والحشمة لا يحب سفك الدماء مرخصًا لخشداشينه في أفاعيلهم كثير الغافل عن مساويهم مع معارضتهم له في كثير من الأمور وخصوصًا مراد بك وأتباعه فيغضي ويتجاوز ولا يظهر غمًا ولا خلافًا ولا تأثرًا حرصًا على دوام الألفة وعدم المشاغبة وإن حدث فيما بينهم ما يوجب وحشة تلافاه وأصلحه وكان هذا الإهمال والترخص والتغافل سببًا لمبادئ الشرور فإنهم تمادوا في التعدي وداخلهم الغرور وغمرتهم الغفلة عن عواقب الأمور واستصغروا من عداهم وامتدت أيديهم لأخذ أموال التجار وبضائع الإفرنج الفرنساوية وغيرهم بدون الثمن مع الحقارة لهم ولغيرهم وعدم المبالاة والاكتراث بسلطانهم الذي يدعون أنهم في طاعته مع مخالفة أوامره ومنع خزينته واحتقار الولاة ومنعهم من التصرف والحجر عليهم فلا يصل للمولى عليهم إلا بعض صدقاتهم إلى أن تحرك عليهم حسن باشا الجزائرلي في سنة مائتين وألف وحضر على الصورة التي حضر فيها وساعدته الرعية وخرجوا من المدينة إلى الصعيد وانتهكت حرمتهم ثم رجعوا بعد الفصل في سنة ست ومائتين إلى إمارتهم ودولتهم وعادوا إلى حالتهم الأولى بل وأزيد منها في التعدي فأوجب ذلك ركوب الفرنساوية عليهم ولم يزل الحال يتزايد والأهوال يتلو بعضها بعضًا حتى انقلبت أوضاع الديار المصرية وزالت حرمتها بالكلية وأدى الحال بالمترجم إلى الخروج والتشتيت والتشريد هو ومن بقي من عشيرته إلى بلاد العبيد يزرعون الدخن ويتقوتون منه وملابسهم القمصان التي يلبسها الجلابة في بلادهم إلى أن وردت الأخبار بموته في شهر ربيع الأول من السنة وأما جملة أخباره فقد ومات الأمير الأجل أحمد آغا الخازندار المعروف ببونابارته وهو أيضًا شهير الذكر من أعاظم الدولة وقد تقدم كثير من أخباره وسفره إلى الحجاز وكان عمر دارًا عظيمة على بركة الأزبكية جهة الرويعي ثم عمل مهمًا كبيرًا لزواج ابنه وهو إذ ذاك مريض في حياض الموت حتى أشيع في الناس يوم زفة العروس ثم مات بعد أيام قليلة مضت على الفرح وذلك يوم الأربعاء ثالث شهر جمادى الثانية‏.‏

وماتت الست الجليلة خاتون وهي سرية علي بك بلوط قبان الكبير وكانت محظيته وبنى لها الدار العظيمة على بركة الأزبكية بدرب عبد الحق والساقية والطاحون بجانبها ولما مات علي بك وتأمر مراد بك فتزوج بها وعمرت طويلًا مع العز والسيادة والكلمة النافذة وأكثر نساء الأمراء من جواريها ولم يأت بعد الست شويكار من اشتهر ذكره وخبره سواها وكان أيام الفرنساوية واصطلح معهم مراد بك حصل لها منهم غاية الكرم ورتبوا لها من ديوانهم في كل شهر مائة ألف نصف فضة وشفاعتها عندهم مقبولة لا ترد بالجملة فإنها كانت من الخيرات ولها على الفقراء بر وإحسان ولما من المآثر الخان الجديد والصهريج داخل باب زويلة توفيت يوم الخميس لعشرين من شهر جمادى الأولى بمنزلها المذكور بدرب عبد الحقودفنت بحوشهم في القرافة الصغرى بجوار الإمام الشافعي وأضيفت الدار إلى الدولة وسكنها بعض أكابرها وسبحان الحي الذي لا يموت‏.‏

ومات المقر الكريم المخدوم أحمد باشا الشهير بطوسون ابن حضرة الوزير محمد علي باشا مالك الأقاليم المصرية والحجازية والثغور وما أضيف إليها وقد تقدم ذكر رجوعه من البلاد الحجازية وتوجهه إلى الإسكندرية ورجوعه إلى مصر ثم عوده إلى ناحية رشيد وعرضى خيامه جهة الحماد بالعسكر على الصورة المذكورة وهو ينتقل من العرضي إلى رشيد ثم إلى برنبال وأبي منضور والعزب ولما رجع في هذه المرة أخذ صحبته من مصر الغنين وأرباب الآلات المطربة بالعود والقانون والناي والكمنجات وهم إبراهيم الوراق والحباني وقشوة ومن يصحبهم من باقي رفقائهم فذهب ببعض خواصه إلى رشيد ومعه الجماعة المذكورون فأقام أيامًا وحضر إليه من جهة الروم جوار وغلمان أيضًا رقاصون فانتقل بهم إلى قصر برنبال ففي ليلة حلوله بها نزل به ما نزل من المقدور فتمرض بالطاعون وتململ نحو عشر ساعات وانقضى نحبه وذلك ليلة الأحد سابع شهر القعدة وحضر خليل أفندي قوللي حاكم رشيد وعندما خرجت روحه انتفخ جسمه وتغير لونه إلى الزرقة فغسلوه وكفنوه ووضعوه في صندوق من الخشب ووصلوا به في السفينة منتصف ليلة الأربعاء عاشره وكان والده بالجيزة فلم يتجاسروا على إخباره فذهب إليه أحمد آغا أخو كتخدا بك فلما علم بوصوله ليلًا استنكر حضوره في ذلك الوقت فأخبره عنه أنه ورد إلى شبرا متوعكًا فركب في الحين القنجة وانحدر إلى شبرا وطلع إلى القصر وصار يمر بالمخادع ويقول أين هو فلم يتجاسر أحد أن يصرح بموته وكانوا ذهبوا به وهو في السفينة إلى بولاق ورسوا به عند الترسخانة وأقبل كتخدا بك على الباشا فرآه يبكي فانزعج انزعاجًا شديدًا وكاد أن يقع على الأرض ونزل السفينة فأتى بولاق آخر الليل وانطلقت الرسل لإخبار الأعيان فركبوا بأجمعهم إلى بولاق وحضر القاضي والأشياخ والسيد المحروقي ثم نصبوا تظلك ساترًا على السفينة وأخرجوا الناووس والدم والصديد يقطر منه وطلبوا القلافطة لسد خروقه ومنافسه ونصبوا عودًا عند رأسه ووضعوا عليه تاج الوزارة المسمى بالطلخان وانجروا بالجنازة من غير ترتيب والجميع مشاة أمامه وخلفه وليس فيها من جوقات الجنائز المعتادة كالفقهاء وأولاد الكتاتيب والأحزاب شيء من ساحل بولاق على طريق المدابغ وباب الخرق على الدرب الأحمر على التبانة إلى الرميلة فصلوا عليه بمصلى المؤمنين وذهبوا به إلى المدفن الذي أعده الباشا لنفسه ولموتاه كل هذه المسافة ووالده خلفه ينظر إليه ويبكي ومع الجنازة أربعة من الحمير تحمل القروش وربعيات الذهب ودراهم أنصاف عددية ينثرون صبها على الأرض وعلى الكيمان وعن يمين الكتخدا ويساره شخصان يتناول منهما قراطيس الفضة يفرق على من يعترض له من الفقراء والصبيان فإذا تكاثروا عليه نثر ما بقي في يده عليهم فيشتغلون عنه بالتقاطها من الأرض فكان جملة ما فرق وبدر من الأنصاف العددية فقط خمسة وعشرين كيسًا عنها خمسمائة ألف فضة وذلك خلاف القروش وساقوا أما الجنازة ستة رؤوس من الجواميس الكبار أخذ منها خدمة التربة ومن حولهم وخدمة ضريح الإمام الشافعي ولم ينل الفقراء إلا ما فضل عنهم وأخرجوا لإسقاط صلاة المتوفي خمسة وأربعين كيسًا تناولها فقراء الأزهر وفرقت بجامع الفاكهاني بحسب الأغراض للغني منهم أضعاف قسم الفقير وأكثر الفقراء من الفقهاء لم ينالوا ولا القليل ولما وصلوا إلى المدفن هدموا التربة وأنزلوه فيها بتابوته الخشب لتعسر إخراجه منه بسبب انتفاخه وتهربه حتى أنهم كانوا يطلقون حول تابوته البخورات في المجامر الذهب والرائحة غالبة على ذلك وليس ثم من يتعظ أو يعتبر ولما مات لم يخبروا والدته بموته إلا بعد دفنه فجزعت عليه جزعًا شديدًا ولبست السواد وكذلك جميع نسائهم وأتباعهم وصبغوا براقعهم بالسواد والزرقة وكذلك من ينافقهم من الناس حتى لطخوا أبواب البيوت ببولاق وغيرها بالوحل وامتنع الناس بالأمر عليهم من عمل الأفراح ودق الطبول مطلقًا ونوبة الباشا وإسمعيل باشا وطاهر باشا حتى ما يفعله دراويش المولوية في تكاياهم عند المقابلة من الناي والطبل أربعين يومًا وأقاموا عليه العزاء عند القبر وعدة من الفقهاء والمقرئين يتناوبون قراءة القرآن مدة الأربعين يومًا ورتبوا لهم ذبائح ومآكل وكل ما يحتاجونه ثم ترادفت عليهم العطايا من والدته وأخواته والواردين من أقاربه وغيرهم على حد قول القائل مصائب قوم عنج قوم فوائد ومات وهو مقتبل الشبيبة لم يبلغ العشرين وكان أبيض جسيمًا كما قد دارت لحيته بطلًا شجاعًا جواجًا له ميل لأولاد العرب منقادًا لملة الإسلام ويعترض على أبيه في أفعاله تخافه العسكر وتهابه ومن اقترف ذنبًا صغيرًا قتله مع إحسانه وعطاياه للمنقاد منهم ولأمرائه ولغالب الناس إليه ميل وكانوا يرجون تأمره بعد أبيه ويأبى الله إلا ما يريد‏.‏

ومات الوزير المعظم يوسف باشا المنفصل عن إمارة الشام وحضر إلى مصر من نحو ثلاث سنوات هاربًا وملتجئًا إلى حاكم مصر وذلك في أواخر سنة سبع وعشرين ومائتين وألف وأصله من الأكراد الدكرلية وينسب إلى الأكراد الملية وابتداء أمره بإخبار من يعرفه أنه هرب من أهله وعمره إذا ذاك خمس عشرة سنة فوصل إلى حماة وتعاطى بيع الحشيش والسرجين والروث ثم خدم عند رجل يسمى ملا حسين مدة سنين إلى أن ألبسه قلبق ثم خدم بعده ملا إسماعيل بلكتاش وتعلم الفروسية والرماحة فلعب يومًا في القمار وخسر فيه وخاف على نفسه فخرج هاربًا إلى عمر آغا باسيلي من إشراقات إبراهيم باشا المعروف بالأزدن فتوجه معه إلى غزة وكان مع المترجم جواد أشقر من جياد الخيل فقلد علي آغا متسلم غزة عمر آغا المذكور وجعله دالي باشا ففي بعض الأيام طلب المتسلم من المترجم الجواد فقال له إن قلدتني دالي باشا قدمته لك فأجابه إلى ذلك وعزل عمر آغا وقلد المترجم المنصب عوضًا عنه وامتنع من إعطائه ذلك الجواد وأقام في خدمته فوصل مرسوم من أحمد باشا الجزار خطابًا للمترجم بالقبض على المتسلم وإحضاره إلى طرفه وإن فعل ذلك ينعم عليه بمبلغ خمسين كيسًا ومائة بيرق ففعل ذلك وأوقع القبض على علي آغا المتسلم وتوجع إلى عكا بلدة الجزار فقال المتسلم للمترجم في أثناء الطريق تعلم أن الجزار رجل سفاك دماء فلا توصلني إليه وإن كان وعدك بمال أنا أعطيك أضعافه وأطلقني أذهب حيث شاء الله ولا تشاركه في دمي فلم يجبه إلى ذلك وأوصله إلى الجزار فحبسه ثم قتله ورماه في البحر وأقام المترجم بباب الجزار أيامًا ثم أرسل إليه يأمره بالذهاب إلى حيث يريد فإنه لا خير فيه لخيانته لمخدومه فذهب إلى حماة وأقام عند آغاته إسماعيل آغا وهو متول من طرف عبد الله باشا المعروف بابن العظم فأقام في خدمته كلارجي زمنًا نحو الثلاث سنوات وكان بين عبد الله باشا وأحمد باشا الجزار عداوة فتوجه عبد الله باشا إلى الدورة فأرسل الجزار عساكره ليقطع عليه الطريق فسلك طريقًا أخرى فلما وصل إلى جنيني وهي مدينة قريبة من بلاد الجزار وجه الجزار عساكره عليه فلما تقارب العسكران وتسامعت أهل النواحي امتنعوا من دفع الأموال فما وسع عبد الله باشا إلا الرحيل وتوجه إلى ناحية نابلس مسافة يومين وحاصر بلدة تسمى صوفين وأخذ مدافع من يافا وأقام محاصرًا لها ستة أيام ثم طلبوا الأمان فأمنهم ورحل عنهم إلى طرف الجبل مسيرة نصف ساعة وفرق عساكره لقبض أموال الميري من البلاد وأقام هو في قلة من العسكر فوصل إليه خيال وقت العصر في يوم من الأيام يخبره بوصل عساكر الجزار وأنه لك يكن بينه وبينهم إلا نصف ساعة وهم خمسة آلاف مقاتل فارتبك في أمره وأرسل إلى النواحي فحضر إليه من حضروهم نحو الثلاثمائة خيال وهو بدائرته نحو الثمانين فأمر بالركوب فلما تقربا هاله كثرة عساكر العدو وأيقنوا الهلاك فتقدم المترجم إلى العسكر وأشار عليه و بالثبات وقال لهم لم يكن غير ذلك فإننا إن فررنا هلكنا عن آخرنا وتقدم المترجم مع آغاته ملا إسماعيل وتبعهم العسكر وولجوا أوسط خيل العدو وصدقوا الحملة جملة واحدة فحصلت في العدو الهزيمة وركبوا أقفيتهم وتبعهم المترجم حتى حال الليل بينهم فرجعوا برؤوس القتلى والقلائع فلما أصبح النهار عرضوها على الوزير وهي نحو الألف رأس وألف قليعة فخلع عليهم وشكرهم وارتحلوا إلى دمشق وذهب المترجم مع آغاته إلى مدينة حماة واستمر هناك إلى أن حضر الوزير الأعظم يوسف باشا المعروف بالمعدن إلى دمشق بسبب الفرنساوية ففارق المترجم مخدومه في نحو السبعين خيالًا وجعل يدور بأراضي حماة بطالًا ويقال له قيس فيراسل الجزار لينضم إليه وكان الجزار عند حضور الوزير انفصل حكمه عن دمشق ووجه ولايتها إلى عبد الله باشا العظم فلما بلغ المترجم ذلك توجه إلى لقاء عبد الله باشا بالمعرة فأكرمه عبد الله باشا وقلده دالي باشا كبيرًا على جميع الخيالة حتى على آغاته ملا إسماعيل وأقام بدمشق مدة إلى أن حاصر عبد الله باشا مدينة طرابلس فوصل إليه الخبر بأن عساكر الجزار استولوا على دمشق وبلادها فركب عبد الله باشا وذهب إلى دمشق ودخلها بالسيف ونصب عرضيه خارجها فوصل خبر ذلك إلى الجزار فكاتب عساكر عبد الله باشا يستميلهم لأن معظمهم غرباء فاتفقوا على خيانته والقبض عليه وتسليمه إلى الجزار وعلم ذلك وثبته فركب في بعض مماليكه وخاصته إلى وطاق المترجم وهو إذ ذاك دالي باشا وأعلمه الخبر وأنه يريد النجاة بنفسه فركب بمن معه وأخرجه من بين العسكر قهرًا عنهم وأوصله إلى شول بغداد ثم ذهب على الهجن إلى بغداد ورجع المترجم إلى حماة فقبل وصوله إليها ورد عليه مرسوم الجزار يستدعيه فذهب إليه فجعله مقدم ألف وقلده باش الجردة فسافر إلى الحجاز بالملاقاة وكان أمير الحاج الشامي إذ ذاك سليمان باشا عوضًا عن مخدومه أحمد باشا الجزار فلما حصلوا في نصف الطريق وصلهم خبر موت الجزار فرجع يوسف المترجم إلى الشام واستولى إسماعيل باشا على عكا وتوجه منصب ولاية الشام إلى إبراهيم باشا المعروف بقطر آغاسي أي آغات البغال وفي فرمان ولايته الأمر بقطع رأس إسماعيل باشا وضبط مال الجزار فذهب المترجم بخيله وأتباعه إلى إبراهيم باشا وخدم عنده وركب إلى عكا وحصروها وحظا في أرض الكرداني مسيرة ساعة من عكا وكانت الحرب بينهم سجالًا وعساكر إسماعيل باشا نحو العشرة آلاف والمترجم يباشر الوقائع وكل وقعة يظهر فيها على الخصم ففي يوم من الأيام لم يشعروا إلا وعسكر إسماعيل باشا نافذ إليهم من طريق أخرى فركب المترجم وأخذ صحبته ثلاثة مدافع وتلاقى معهم وقاتلهم وهزمهم إلى أن حصرهم بقرية تسمى دعوق ثم أخرجهم بالأمان إلى وطاقه وأكرمهم وعمل لهم ضيافة ثلاثة أيام ثم أرسلهم إلى عكا بغير أمر الوزير ثم توجه إبراهيم باشا إلى الدورة وصحبته المترجم وتركوا سليمان باشا مكانهم وخرج إسماعيل باشا من عكا وأغلقت أبوابها فاتفقت عساكره وقبضوا عليه وسلموه إلى إبراهيم باشا فعند ذلك برز أمر إبراهيم باشا بتسليم عكا إلى سليمان باشا وذهب بالمرسوم المترجم فأدخله إليها ورجع إلى مخدومه وذهب معه إلى الدورة ثم عاد معه إلى الشام وورد الأمر بعزل إبراهيم باشا عن الشام وولاية عبد الله باشا المعروف بالعظم على يد باشت بغداد فخرج المترجم لملاقاته من على حلب فقلده دالي باشا على جميع العسكر فلما وصل إلى الشام ولاه على حوران وإربد والقنيطرة ليقبض أموالها فأقام نحو السنة ثم توجه صحبة الباشا مع الحج وتلاقوا مع الوهابية في الجديدة فحاربهم المترجم وهزمهم وحجوا واعتمروا ورجعوا ومكثوا إلى السنة الثانية فخرج عبد الله باشا بالحج وأبقى المترجم نائبًا عنه بالشام فلما وصل إلى المدينة المنورة منعه الوهابيون ورجع من غير حج ووصل خبر ذلك إلى الدولة فورد الأمر بعزل عبد الله باشا عن ولاية الشام وولاية المترجم على الشام وضواحيها فارتاعت النواحي والعربان وأقام السنة ولم يخرج بنفسه إلى الحج بل أرسل ملا حسن عوضًا عنه فمنع أيضًا عن الحج فلما كانت القابلة انفتح عليه أمر الدورة وعصى عليه بعض البلاد فخرج إليها وحاصر بلدة تسمى كردانية ووقع له فيها مشقة كبيرة إلى أن ملكها بالسيف وقتل أهلها ثم توجه إلى جبل نابلس وقهرهم وجبى منهم أموالًا عظيمة ثم رجع إلى الشام واستقام أمره وحسنت سيرته وسلك طريق العدل في الأحكام وأقام الشريعة والسنة وأبطل البدع والمنكرات واستتاب الخواطيء وزوجهن وطفق يفرق الصدقات على الفقراء وأهل العلم والغرباء وابن السبيل وأمر بترك الإسراف في المآكل والملابس وشاع خبر عدله في النواحي ولكن ثقل ذلك على أهل البلاد بترك مألوفهم ثم إنه ركب إلى بلاد النصيرية وقاتلهم وانتصر عليهم وسبى نساءهم وأولادهم وكان خيرهم بين الدخول في الإسلام أو الخروج من بلادهم فامتنعوا وحاربوا وانخذلوا وبيعت نساؤهم وأولادهم فلما شاهدوا ذلك أظهروا الإسلام تقية فعفا عنهم وعمل بظاهر الحديث وتركهم ورحل عنهم إلى طرابلس وحاصرها بسبب عصيان أميرها بربر باشا على الوزير وأقام محاصرًا لها عشرة أشهر حتى ملكها واستولى على قلعتها ونهبت منها أموال التجار وغيرهم ثم ارتحل إلى دمشق وأقام بها مدة فطرقه خبر الوهابية أنهم حضروا إلى المزيريب فبادر مسرعًا وخرج إلى لقائهم فلما وصل إلى المزيريب وجدهم قد ارتحلوا من غير قتال فأقام هناك أيامًا فوصل إليه الخبر بأن سليمان باشا وصل إلى الشام وملكها فعاد مسرعًا إلى الشام وتلاقى مع عسكر سليمان باشا وتحارب العسكران إلى المساء وبات كل منهم في محله ففي نصف الليل في غفلتهم والمترجم نائم وعسكره أيضًا هامدة فلم يشعروا إلا وعساكر سليمان باشا كبستهم فحضر إليه كتخداه وأيقظه من منامه وقال له إن لم تسرع وإلا قبضوا عليك فقام في الحين وخرج هاربًا وصحبته ثلاثة أشخاص من مماليكه فقط ونهبت أمواله وأرزاقه وزالت عنه سيادته في ساعة واحدة ولم يزل حتى وصل إلى حماه فلم يتمكن من الدخول إليها ومنعه أهلها عنها وطردوه فذهب إلى سيجر وارتحل منها إلى بلدة يعمل بها البارود ومنها إلى بلدة تسمى ريمة ونزل عند سعيد آغا فأقام عنده ثلاثة أيام ثم توجه إلى نواحي أنطاكية بصحبته جماعة من عند سعيد آغا المذكور ثم إلى السويدة ولم يبق معه سوى فرس واحد ثم أنه أرسل إلى محمد علي باشا صاحب مصر واستأذنه في الحضور إلى مصر فكاتبه بالحضور إليه والترحيب به فوصل إلى مصر في التاريخ المذكور فلاقاه صاحب مصر وأكرمه وقدم إليه خيولًا وقماشًا ومالًا وأنزله بدار واسعة بالأزبكية ورتب له خروجًا زائدة من لحم وخبز وسمن وأرز وحطب وجميع اللوازم المحتاج إليها وأنعم عليه بجوار وغير ذلك وأقام بمصر هذه المدة وأرسل في شأنه الدولة وقبلت شفاعة محمد علي باشا فيه ووصله العفو والرضا ما عدا ولاية الشام وحصلت فيه علة ذات الصدر فكن يظهر به شبه السلعة مع الفواق بصوت يسمعه من يكون بعيدًا عنه ويذهب إليه جماعة الحكماء من الإفرنج وغيرهم ويطالع من كتب الطب مع بعض الطلبة من المجاورين فلم ينجع غيه علاج وانتقل إلى قصر الآثار بقصد تبديل الهواء ولم يزل مقيمًا هناك حتى اشتد به المرض ومات في ليلة السبت العشرين من شهر ذي القعدة وحملت جنزته من الآثار إلى القرافة من ناحية الخلاء ودفن بالحوش الذي أنشأه الباشا وأعده لموتاه وكانت مدة إقامته بمصر نحو ستة سنوات فسبحان الحي الذي لا يموت الدائم الملك السلطان‏.‏ ودخلت

سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف

واستهل المحرم بيوم الخميس وحاكم مصر والمتولي عليها وعلى ضواحيها وثغورها من حد رشيد ودمياط إلى أسوان وأقصى الصعيد واسكاسة القصير والسويس وساحل القلزم وجدة ومكة والمدينة والأقطار الحجازية بأسرها محمد علي باشا القوللي ووزيره وكتخداه محمد آغا لاظو والدفتدار محمد بك صهر الباشا وزوج ابنته وآغات الباب إبراهيم آغا ومدبر أمور البلاد والأطيان والرزق والمساحات وقبض الأموال الميرية وحساباتها ومصاريفها محمود بك الخازندار والسلحدار سليمان آغا حاكم الوجه القبلي محمد بك الدفتردار صهر الباشا عوض إبراهيم باشا ولد الباشا لانفصاله عن إمارة الوجه القبلي وسفره إلى الحجا أنفار لمحاربة الوهابيين وباقي أمراء الدولة مثل عابدين بك وإسماعيل باشا ابن الباشا وخليل باشا وهو الذي كان حاكم الإسكندرية سابقًا وشريف آغا وحسين بك دالي باشا وحسين بك الشماشرجي وحسن بك الشماشرجي الذي كان حاكمًا بالفيوم وغير هؤلاء وحسن آغا آغات الينكجرية وعلي آغا الوالي وكاتب الروزنامه مصطفى أفندي وحسن باشا بالديار الحجازية وشاه بندر التجار السيد محمد المحروقي وهو المتعين لمهمات الأسفار وقوافل العربان ومخاطباتهم وملاقاة الأخبار الواصلة من الديار الحجازية والمتوجه إليها وأجر المحمول وشحنة السفن ولوازم الصدارين والواردين والمنتجعين والمقيمين والراحلين والمتعهد بجميع فرق القبائل والعشير وغوائلهم ومحاكماتهم وأرغابهم وإرهابهم وسياستهم على اختلاف أخلاقهم وطباعهم وهو المتعين أيضًا لفصل قضايا التجار والباعة وأرباب الحرف البلدية وفصل خصوماتهم ومشاجرتهم وتأديب المنحرفين منهم والنصابين وبعوثات الباشا ومراسلاته ومكاتباته وتجاراته وشركاته وابتداعاته واجتهاده في تحصيل الأموال من كل وجه وأي طريق ومتابعة توجيه السرايا والعساكر والذخائر إلى نواحي الحجاز للآغارة على بلاد الوهابية وأخذ الدرعية مستمر لا ينقطع والعرضي منصوب خارج باب النصر وباب الفتوح وإذا ارتحلت طائفة خرجت أخرى مكانها‏.‏

وفيه سومحت أرباب الحرف والباعة والزياتون والجزارون والخضرية والخبازون ونحوهم من المسانهات والمشاهرات واليوميات الموظفة عليهم للمحتسب ونودي برفعها أما المحتسب في الأسواق وعوض المحتسب عنها خمسة أكياس كل شهر يستوفيها من الخزينة وعملوا تسعيرًا بترخيص أسعار المبيعات بدلًا عما كانوا يعرفونه للمحتسب من غير مراعاة النسبة والمعادلة في غالب الأصناف فإن العادة عند إقبال وجود الفاكهة أو الخضروات تباع بأغلى ثمن لعزتها وقلتها حينئذ وشهوة الطباع واشتياق النفوس لجديد الأشياء وزهدها في القديم الذي تكرر استعماله وتعاطيه كما يقال لكل جديد لذة فلم يراعوا ذلك ولم ينظروا في أصول الأشياء أيضًا فإن غالب الأصناف داخل في المحتكرات وزيادة المكوس الحادثة في هذه السنين وما يضاف إلى ذلك من طمع الباعة والسوقة وغشهم وقبحهم وعدم ديانتهم وخبث طباعهم فلما نودي بذلك وسمع الناس رخص المبيعات ظنوا بغفلتهم حصول الرخاء ونزلوا على المبيعات مثل الكلاب السعرانة وخطفوا ما كان بالأسواق بموجب التسعيرة من اللحم وأنواع الخضروات والفاكهة والأدهان فلما أصبح اليوم الثاني لم يوجد بالأسواق في شيء من ذلك وأغلقت الفاكهانية حوانيتهم وأخفوا ما عندهم وطفقوا يبيعونه خفية وفي الليل بالثمن الذي يرتضونه والمحتسب يكثر الطواف بأسواق ويتجسس عليهم ويقبض على من أغلق حانوته أو وجدها خالية أو عثر عليه أنه باع بالزيادة وينكل بهم ويسحبهم مكشوفين الرؤس مشنوقين وموثقين بالحبال ويضربهم ضربًا مؤلمًا ويصلبهم بمفارق الطرق مخزومين الأنوف ومعلق فيها النوع المزاد في ثمنه فلم يرتجعوا عن عادتهم ثم أن هذه المناداة والتسعيرة ظاهرها الرفق بالرعية ورخص الأسعار وباطنها المكر والتحيل والتوصل لما سيظهر بعد عن قريب وذلك أن ولي الأمر لم يكن له من الشغل إلا صرف همته وعقله وفكرته في تحصيل المال والمكاسب وقطع أرزاق المسترزقين والحجر والاحتكار لجميع الأسباب ولا يتقرب إليه من يريد قربه إلا بمساعدته على مراداته ومقاصده ومن كان بخلاف ذلك فلا حظ له معه مطلقًا ومن تجاسر عليه من الوجهاء بنصح أو فعل مناسب ولو على سبيل التشفع حقد عليه وربما أقصاه وأبعده وعاداه معاداة من لا يصفو أبدًا وعرفت طباعه وأخلاقه في دائرته وبطانته فلم يمكنهم إلا الموافقة والمساعدة في مشروعاته إما رهبة أو خوفًا على سيادتهم ورياستهم ومناصبهم إما رغبة أو طمعًا وتوصلًا للرياسة والسيادة وهم الأكثر وخصوصًا أعداء الملة من نصارى الأرمن وأمثالهم الذين هم الآن أخصاء لحضرته ومجالسته وهم شركاؤه في أنواع المتاجر وهم أصحاب الرأي والمشورة وليس لهم شمل ودرس إلا فيما يريد حظوتهم ووجاهتهم عند مخدومهم وموافقة أغراضه وتحسين مخترعاته وربما ذكروه ونبهوه على أشياء تركها أو غفل عنها من المبتدعات وما يتحصل منها من المال والمكاسب التي يسترزقها أرباب تلك الحرفة لمعاشهم ومصاريف عيالهم ثم يقع الفحص على أصل الشيء وما يتفرع منه وما يؤول إذا أحكم أمره وانتظم ترتيبه وما يتحصل منه بعد التسعير الذي يجعلونه مصاريف الكتبة والمباشرين أبرزت مباديه في قالب العدل والرفق بالرعية ولما وقع الالتفات إلى أمر المذابح والسلخانة وما يتحصل منها وما يكتسبه الموظفون فيها فأول ما بدؤا به إبطال جميع المذابح التي بجهات مصر والقاهرة وبولاق خلاف السلخانة السلطانية التي خارج الحسينية وتولى رياستها شخص من الأتراك ثم سعرت هذه التسعيرة فجعل الرطل الذي يبيعه القصاب بسبعة أنصاف فضة وثمنه على القصاب من المذبح ثمانية أنصاف ونصف وكان يباع قبل هذه التسعيرة بالزيادة الفاحشة فحش وجود اللحم وأغلقت حوانيت الجزارين وخسروا في شراء الأغنام وذبحها وبيعها بهذا السعر وأنهي أمر شحة اللحم إلى ولي الأمر وأن ذلك من قلة المواشي وغلو أثمان مشترواتها على الجزارين وكثرة رواتب الدولة والعساكر وأشيع أنه أمر بمراسيم إلى كشاف الأقاليم قبلي وبحري لشراء الأغنام من الأرياف لخصوص رواتبه ورواتب العسكر والخاصة وأهل الدولة ويترك ما يذبحه جزار والمذبح لأهل البلدة وعند ذلك ترخص الأسعار ثم تبين خلاف ذلك وأن هذه وفي منتصفه وصلت أغنام وعجول وجواميس من الأرياف هزيلة وازدادت بإقامتها هزالًا من الجوع وعدم مراعاتها فذبحوا منها المذابح أقل من المعتاد وزعت على الجزارين فيخص الشخص منهم الاثنان أو الثلاثة فعندما يصل إلى حانوته وهو مثل الحرامي فيتخاطفها العساكر التي بتلك الخطة وتزدحم الناس فلا ينوبهم شيء وتذهب في لمح البصر ثم امتنع وجودها واستمر الحال والناس لا يجدون ما يطبخونه لعيالهم وكذلك امتنع وجود الخضراوات فكان الناس لا يحصلون القوت إلا بغاية المشقة واقتاتوا بالفول المصلوق والعدس والبيصار ونحو ذلك وانعدم وجود السمن والزيت والشيرج وزيت البزر وزيت القرطم لاحتكارها لجهة الميري وأغلقت المعاصر والسيارج وامتنع وجود الشمع والعسل والشمع المصنوع من الشحم لاحتكار الشحم والحجز على عمال الشمع فلا يصنعه الشماعون ولا غيرهم ونودي على بيع الموجود منه بأربعة وعشرين نصفًا وكان يباع بثلاثين وأربعين فأخفوه وطفقوا يبيعونه خفية بما أحبوا وانعدم وجود بيض الدجاج لجعلهم العشرة منه بأربعة أنصاف وكان قبل المناداة اثنان بنصف وكل ذلك والمحتسب يطوف بالأسواق ويشدد على الباعة ويؤلمهم بالضرب والتجريس وفقد وجود الدجاج فلا يكاد يوجد بالأسواق دجاجة لأنه نودي على الدجاجة باثني عشر نصفًا وكان الثمن عنها قبل ذلك خمسة وعشرين فأكثر‏.‏

فيه حضر المعلم غالي من الجهة القبلية ومعه مكاتبات من محمد بك الدفتردار الذي تولى إمارة الصعيد عوضًا عن إبراهيم باشا ابن الباشا الذي توجه إلى البلاد الحجازية لمحاربة الوهابية يذكر فيها نصح المعلم غالي وسعيه في فتح أبواب تحصيل الأموال للخزينة وأنه ابتكر شيء وحسابات يتحصل منها مقادير كثيرة من المال فقوبل بالرضا والإكرام وخلع عليه الباشا واختص به وجعله كاتب سره ولازم خدمته وأخذ فيما ندب إليه وحضر لأجله التي منها حسابات جميع الدفاتر وأقلام المبتدعات ومباشريها وحكام الأقاليم‏.‏

وفيه تجردت عدة عساكر أتراك ومغاربة إلى الحجاز وصحبتهم أرباب صنائع وحرف‏.‏

وفيه أرسل الباشا إلى بندر السويس أخشابًا وأدوات عمارة وبلاط كذان وحديدًا وصناعًا بقصد عمارة قصر لخصوصه إذا نزل هناك‏.‏

واستهل شهر ربيع الأول سنة 1232 فيه شحت المبيعات والغلال والأدهان وغلا سعر الحبوب وقل وجودها في الرقع والسواحل فكان الناس لا يحصلون شيئًا منها إلا بغاية المشقة‏.‏

وفيه عزل الباشا حكام الأقاليم والكشاف ونوابهم وطلبهم للحضور وأمر بحسابهم وما أخذوه من الفلاحين زيادة على ما فرضه لهم وأرسل من قبله أشخاصًا مفتشين للفحص والتجسس على ما عسى يكون أخذوه منهم من غير ثمن فأخذوا يقررون المشايخ والفلاحين ويحررون أثمان مفرق الأشياء من غنم أو دجاج أو تبن أو عليق أو بيض أو غير ذلك في المدة التي أقامها أحدهم بالناحية فحصل للكثير من قائم مقاماتهم الضرر وكذلك من انتمى إليهم فمنهم من اضطر وباع فرسه واستدان‏.‏

وفيه حضر علي كاشف من شرقية بلبيس معزولًا عن كشوفيتها وقلدها خلافه وكان كاشفًا بالإقليم عدة سنوات وكذلك جرى لكاشف المنوفية والغربية وحضر أيضًا حسن بك الشماشرجي من الفيوم معزولًا ووجهه الباشا إلى ناحية درنة لمحاربة أولاد علي‏.‏

واستهل شهر ربيع الثاني سنة 1232 فيه حصل الحجز والمنع على من يذبح شيئًا من المواشي في داره أو غيرها ولا يأخذ الناس لحوم أطعمتهم إلا من المذبح وأقفت عساكر بالطرق رصدًا لمن يدخل المدينة بشيء من الأغنام وذلك أنه لما نزلت لمراسيم إلى الكشاف بمشترى المواشي من الفلاحين وإرسالها إلى المكان الذي أعده الباشا لذلك ويؤخذ منها مقدار ما يذبح بالسلخانة في كل يوم لرواتب الدولة والبيع طلب كشاف النواحي شراء الأغنام والعجول والجواميس بالثمن القليل من أربابها فهرب الكثير من الفلاحين بأغنامهم فيخرجون من القرية ليلًا ويدخلون ويمرون بها في الأسواق ويبيعونها بما أحبوا من الثمن على الناس فانكب الناس على شرائها منهم لجودتها ويشترك الجماعة في الشاة فيذبحونها ويقسمونها بينهم وذلك لقلة وجدان اللحم كما سبقت الإشارة إليه وإن تيسر وجوده فيكون هزيلًا رديئًا فإن في كل يوم ترد الجملة الكثيرة من بحري وقبلي إلى المكان المعد لها ولم يكن ثم من يراعيها بالعلف والسقي فتهزل وتضعف فلما كثر ورود الفلاحين بالأغنام وشراء الناس لها ووصل خبر لك إلى الباشا فأمر بوقوف عساكر على مفارق الطرق خارج المدينة من كل ناحية فيأخذون الشاة من الفلاحين إما بالثمن أو يذهب صاحبها معها إلى المذبح فتذبح في يومها ومن الغد ويوزن اللحم خالصًا ويعطى لصاحبها ثمنه عن كل رطل ثمانية فضة ونصف ويوزن على الجزارين بذلك الثمن بما فيه من القلب والكبد والمنحر والمذاكير والمخرج بما فيه من الزبل أيضًا والجزارون يبيعونها على من يشتري لشدة الطلب بزيادة النصف والنصفين بل والثلاثة والأربعة إن كان به نوع جودة وأما الأسقاط من الرؤوس والجلود والكروش فهو للميري وكذلك يفعل فيما يرد لخاصة الناس من الأغنام يفعل بها كذلك ولا يأخذ إلا قدر راتبه في كل يوم من المذبح‏.‏

وفيه شح وجود الغلال في الرقع والسواحل حتى امتنع وجود الخبز في الأسواق فأخرج الباشا جانب غلة ففرقت على الرقع وبيعت على الناس وهي ألف أردب انفضت في يومين ولا يبيعون أزيد من كيلة أو كيلتين وبيع الأردب بألف ومائتين وخمسين نصفًا‏.‏

وفيه أفرد محل لعمل الشمع الذي يعمل من الشحوم بعطفة ابن عبد الله بك جهة السروجية واحتكروا لأجل عمله جميع الشحوم التي من المذبح وغيره وامتنع وجود الشحم من حوانيت الدهانين ومنعوا من يعمل شيئًا من الشمع في داره أو في القوالب الزجاج وتتبعوا من يكون عنده شيء منها فأخذوها منه وحذروا من عمله خارج المعمل كل التحذير وسعروا رطله بأربعة وعشرين نصفًا‏.‏

واستهل شهر جمادى الأولى سنة 1232 فيه حول معمل الشمع إلى جهة الحسينية عند الدرب الذي يعرف بالسبع والضبع‏.‏

دوفيه ارتحلت عساكر مجردة إلى الحجاز‏.‏

وفيه برزت أوامر إلى كشاف النواحي بإحصاء عدد أغنام البلاد والقرى ويفرض عليها كل عشر شياه واحدة من أعظمها إما كبش أو نعجة بأولادها يجمعون ذلك ويرسلون به إلى مجمع أغنام الباشا وفرض أيضًا على كل فدان رطلًا من السمن يجمع الأرطال مشايخ البلاد من الفلتحين عند كشاف النواحي ويرسلونها إلى مصر وسبب هذه الحادثة أنه لما عملت التسعيرة وتسعر رطل السمن بستة وعشرين نصفًا ويبيعه السمان والزيات بزيادة نصفين امتنع وجوده وظهوره فيأتي الفلاح ليلًا في الخفية ويبيعه للزبون أو للمتسبب بما أحب ويبيعه المتسبب أيضًا بالزيادة لمن يريده سرًا فيبيعون الرطل بأربعين وخمسين ويزيد على ذلك غش المتسبب وخلطه بالدقيق والقرع والشحم وعكر اللبن فيصفو على النصف ولا يقدر مشتريه على رد غشه للبائع لأنه ما حصله إلا بغاية المشقة والعزة والإنكار والمنع وإن فعل لا يجد من يعطيه ثانيًا وتقف طائفة من العسكر بالطرق ليلًا وفي وقت الغفلات يرصدون الواردين من الفلاحين ويأخذونه منهم بالقهر ويعطونهم ثمنه بالسعر المرسوم ويحتكرونه هم أيضًا ويبيعونه لمن يشتريه منهم بالزيادة الفاحشة فامتنع وروده إلا في النادر خفية مع الغرر أو الخفارة والتحامي في بعض العساكر من أمثالهم واشتد الحال في انعدام السمن حتى على أكابر الدولة فعند ذلك ابتدع الباشا هذه البدعة وفرض على كل فدان من طين الزراعات رطلًا من السمن ويعطي في ثمن الرطل عشرين نصفًا فاشتغلوا في تحصيل ما دهمهم من هذه النازلة وطولب المزارع بمقدار ما يزرعه من الأفدنة أرطالًا من السمن ومن لم يكن متأخرًا عنده شيء من سمن بهيمته أو لم يكن له بهيمة أو احتاج إلى تكملة موجود عنده فيشتريه ممن يوجد عنده بأغلى ثمن ليسد ما عليه اضطرار أجزاء وفاقًا‏.‏

وفيه حصل الإذن بدخول ما دون العشرة من الأغنام إلى المدينة وكذلك الإذن لمن يشتري شيئًا منها من الأسواق وسبب إطلاق الإذن بذلك مجيء بعض أغنام إلى أكابر الدولة ولا غنى عن ذلك ولا دني منهم أيضًا وحجزوا عن وصولها إلى دورهم فشكوا إلى الباشا فأطلق الإذن فيما دون العشرة‏.‏

وفيه أيضًا امتنع وجود الغلال بالعرصات والسواحل بسبب احتكارها واستمرار انجرارها ونقلها في المراكب قبلي وبحري إلى جهة الإسكندرية للبيع على الإفرنج بالثمن الكثير كما تقدم ووجهت المراسيم إلى كشاف النواحي بمنع بيع الفلاحين غلالهم لمن يشتري منهم من المتسببين والتراسين وغيرهم وبأن كل ما احتاجوا لبيعه مما خرج لهم من زراعتهم يؤخذ لطرف الميري بالثمن المفروض بالكيل الوافي واشتد الحال في هذا الشهر وما قبله حتى قل وجود الخبز من الأسواق بل امتنع وجوده في بعض الأيام وأقبلت الفقراء نساء ورجالًا إلى الرقع بمقاطفهم ورجعوا بها فوارغ من غير شيء وزاد الهول والتشكي وبلغ الخبر الباشا فأطلق أيضًا ألف أردب توزع على الرقع ويباع على الناس إما ربع واحدًا وكيلة فقط وكل ربع ثمنه قرش فيكون الأردب بأربعة وفيه حضر حسن بك الشماشرجي من ناحية درنة وبلد أخرى يقال لها سيوة وصحبته فرقة من أولاد علي وذلك أن أولاد علي افترقوا فرقتين أحدهما طائعة والأخرى عاصية عن الطاعة ومنحازون إلى هذه الناحية فجرد الباشا عليهم حسن بك المذكور فحاربهم وهزمهم وهزموه ثانيًا فرجع إلى مصر فضم إليه الباشا جملة من العساكر وأصحب معه الفرقة الأخرى الطائعة فسار الجمع ودهموهم على حين غفلة وتقدم لحربهم إخوانهم الطائعة وقتلوا منهم وآغاروا على مواشيهم وأباعرهم وأغنامهم فأرسلوا المنهوبات إلى جهة الفيوم وفي ظن العرب أن الغنائم تطيب لهم وحضر حسن بك وصحبته كبار العرب من أولاد علي الطائعين وفي ظنهم الفوز بالغنيمة وأن الباشا لا يطمع فيها لكون النصرة كانت بأيديهم وأنه يشكرهم ويزيدهم أنعامًا وكانوا نزلوا ببر الجيزة وحضر حسن بك إلى الباشا فطلب كبار العرب ليخلع عليهم ويكسوهم فلما حضروا إليه أمر بحبسهم وإحضار الغنيمة من ناحية الفيوم بتمامها فأحضروها بعد أيام وأطلقهم فيقال أن الأغنام ستة عشر ألف رأس أو أكثر ومن الجمال ثمانية آلاف جمل وناقة وقيل أكثر من ذلك‏.‏

وفيه نجزت عمارة السواقي التي أنشأها الباشا بالأرض المعروفة برأس الوادي بناحية شرقية بلبيس قيل أنها تزيد على ألف ساقية وهي سواقي دواليب خشب تعمل في الأرض التي يكون منبع الماء فيها قريبًا واستمر الصناع مدة مستطيلة في عمل آلاتها عند بيت الجبجي وهو بيت الرزاز الذي جهة التبانة بقرب المحجر وتحمل على الجمال إلى الوادي هناك المباشرون للعمل المقيدون بذلك وغرسوا بها أشجار التوت الكثيرة لتربية دود القز واستخراج الحرير كما يكون بنواحي الشام وجبل الدوروز ثم برزت الأوامر إلى جميع بلاد الشرقية بأشخاص أنفار من الفلاحين البطالين الذين لم يكن لهم أطيان فلاحة يستوطنون بالوادي المذكور وتبنى لهم كفور يسكنون فيها ويتعاطون خدمة السواقي والمزارع ويتعلمون صناعة تربية القز والحرير واستجلب أناسًا من نواحي الشام والجبل من أصحاب المعرفة بذلك ويرتب للجميع نفقات إلى حين ظهور النتيجة ثم يكونون شركاء في ربع المتحصل ولما برزت المراسيم بطلب الأشخاص من بلاد الشرق أشيع في جميع قرى الأقاليم المصرية إشاعات وتقولوا أقاويل منها أن الباشا يطلب من كل بلدة عشرة من الصبيان البالغين وعشرة من البنات ويزوجهم بهن ويمهرهن من ماله ويرتب لهم نفقات إلى بد وصلا المزارع ثم أشاعوا الطلب للصبيان الغير مختونين ليرسلهم إلى بلاد الإفرنج ليتعلموا الصنائع التي لم تكن بأرض مصر وشاع ذلك في أهل القرى وثبت ذلك عندهم فختن الجميع صبيانهم ومنهم من أرسل ابنه أو بنته وفيها عند معارفه بالمدينة إلى غير ذلك من الأقاويل التي لم يثبت منها إلا ما ذكر أولًا من أن المطلوب جلب الفلاحين البطالين من بلد الشرقية لا غير وقد تعمر هذا الوادي بالسواقي والأشجار والسكان من جميع الأجناس وانتشأ دنيا وفيه سافر جملة من عساكر الأتراك والمغاربة وكبيرهم إبراهيم آغا الذي كان كتخدا إبراهيم باشا ثم تولى كشوفية المنوفية وصحبته خزينة وجبخانة ومطلوبات لمخدومه‏.‏

واستهل شهر جمادى الثانية بيوم الثلاثاء سنة 1232 في أوائله حضر إلى مصر بن يوسف باشا حاكم طرابلس وعه أخوه أصغر منه يستأذنان الباشا في حضور والدهما إلى مصر فارًا من والده وكان ولاه على ناحية درنة وبني غازي فحصل منه ما غير خاطر والده عليه وعزم على أن يجرد عليه فأرسل أولاده إلى صاحب مصر بهدية يستأذن في الحضور إلى مصر والالتجاء إليه فأذن له في الحضور وهو ابن أخي الذي بمصر أولًا وسافر مع الباشا إلى الحجاز ورجع إلى مصر واستمر ساكنًا بالسبع قاعات‏.‏

وفيه وصل الخبر بأن إبراهيم آغا سافر مع الجردة لما وصل إلى العقبة أمر من بصحبته من المغاربة والعسكر بالرحيل فلما ارتحلوا ركب هو في خاصته وذهب على طريق الشام‏.‏

وفي ليلة الأربعاء سادس عشره وصل جراد كثير ليلًا ونزل ببستان الباشا بشبرا وتعلق بالأشجار والزهور وصاحت الخولة والبستانجية وأرسل الباشا إلى الحسينية وغيرها فجمعوا مشاعل كثيرة وأوقدوها وضربوا بالطبول والصنوج النحاس لطرده وأمر الباشا لكل من جمع منه ثم في ليلة السبت تاسع عشره قبل الغروب وصل جراد كثير من ناحية المشرق مارًا بين السماء والأرض مثل السحاب وكان الريح ساكنًا فيقط منه الكثير على الجنائن والمزارع والمقاثيء فلما كان في نصف الليل هبت رياح جنوبية واستمرت واشتد هبوبها عند انتصاف النهار وأثارت غبارًا أصفر وعبوقًا بالجو ودامت إلى بعد العصر يوم السبت فطردت ذلك الجراتد وأذهبته فسبحان الحكيم المدبر اللطيف‏.‏

وفي يوم الأحد طاف مناد أعمى يقوده آخر بالأسواق ويقول في ندائه من كان مريضًا أو به رمدًا وجراحة وإدارة فليذهب إلى خان بالموسكي به أربعة من حكماء الإفرنج أطباء يداوونه من غير مقابلة شيء فتعجب الناس من هذا وتحاكوه وسعوا إلى جهتهم لطلب التداوي‏.‏

وفيه حضر ابن باشت طرابلس ودخل إلى المدينة وصحبته نحو المائتي نفر من أتباعه فأنزله الباشا في منزل أم مرزوق بك بحارة عابدين وأجرى عليه النفقات والرواتب له ولأتباعه‏.‏

وفي يوم الخميس حادي عشرينه وصل خبر الأطباء ومناداتهم إلى كتخدا بك فأحضر حكيم باشا وسأله فأنكر معرفتهم وأنه لا علم عنده بذلك فأمر بإحضارهم وسألهم فخلطوا في الكلام فأمر بإخراجهم من البلدة ونفوهم في الحال وذهبوا إلى حيث شاء الله ولو فعل مثل هذه الفعلة بعض المسلمين لجوزي بالقتل أو الخازوق وكان صورة جلوسهم أن يجلس أحدهم خارج المكان والآخر من داخل وبينهما ترجمان ويأتي مريد العلاج إلى الأول وهو كأنه الرئيس فيجس نبضه أو بيضه وكأنه عرف علته ويكتب له ورقة فيدخل مع الترجمان بها لآخر بدخل المكان فيعطيه شيئًا من الدهن أو السفوف أو الحب المركب ويطلب منه إما قرشًا أو قرشين أو خمسة بحسب الحال وذلك ثمن الدواء لا غير وشاع ذلك وتسامع به الناس وأكثرهم معلول من طبيعتهم التقليد والرغبة في الوارد الغريب فتكاثروا وتزاحموا عليهم فجمعوا في الأيام القليلة جملة من الدراهم واستلطف الناس طريقتهم هذه بخلاف ما يفعله الذين يدعون التطبيب من الإفرنج واصطلاحهم إذا دعي الواحد منهم لمعالجة المريض فأول ما يبدأ به نقل قدمه بدراهم يأخذها إما ريال فرانسة أو أكثر بحسب الحال والمقام ثم يذهب إلى المريض فيجسه ويزعم أنه عرف علته ومرضه وربما هول على المريض داءه وعلاجه ثم يقاول على سعيه في معالجته بمقدار من الفرانسة إما خمسين أو مائة أو أكثر بحسب مقام العليل ويطلب نصف الجعالة ابتداء ويجعل على كل مرة من التردادات عليه جعالة أيضًا ثم يزاوله بالعلاجات التي تجددت عندهم وهي مياه مستقطرة من الأعشاب أو أدهان كذلك يأتون بها للمرضى في قوارير الزجاج اللطيفة في المنظر يسمونها بأسماء بلغاتهم ويعربونها بدهن البد زهر وإكسير الخاصة ونحو ذلك فإن شفى الله العليل أخذ منه بقية ما قاوله عليه أو أماته طالب الورثة بباقي الجعالة وثمن الأدوية طبق ما يدعيه وإذا قيل له أنه قد مات قال في جوابه أني لم أضمن أجله وليس على الطبيب منع الموت ولا تطويل العمر وفيهم من جعل له في كل يوم عشرة من الفرانسة‏.‏

وفيه رأى رأيه حضرة الباشا حفر بحر عميق يجري إلى بركة عميقة تحفر أيضًا بالإسكندرية تسير فيها السفن بالغلال وغيرها ومبدؤها من مبدً خليج الأشرفية عند الرحمانية فطلب لذلك خمسين ألف فأس ومسة يصنعها صناع الحديد وأمر بجمع الرجال من القرى وهم مائة ألف فلاح توزع على القرى والبلدان للعمل والحفر بالأجرة وبرزت الأوامر وبذلك فارتبك أمر الفلاحين ومشايخ البلاد لأن الأمر برز بحضور المشايخ وفلاحيهم فشرعوا في التشهيل وما يتزيدون به في البرية ولا يدرون مدة الإقامة فمنهم من يقدرها بالسنة ومنهم بأقل أو أكثر‏.‏

واستهل شهر رجب بيوم الأحد سنة 1232 في ثانيه يوم الاثنين الموافق لثاني عشر بشنس القبطي وسابع أيار الرومي قبل الغروب بنحو ساعة تغير الجو بسحاب وقتام وحصل رعد متتابع وأعقبه مطر بعد الغروب ثم انجلى ذلك والسبب في ذكر مثل هذه الجزئية شيئان الأول وقوعها في غير زمانها لما فيه من الاعتبار بخرق العوائد الثاني الاحتياج إليها في بعض الأحيان في العلامات السماوية وبالأكثر في الوقائع العامية فإن العامة لا يؤرخون غالبًا بالأعوام والشهور بل بحادثة أرضية أو سماوية خصوصًا إذا حصلت في غير وقتها أو ملحمة أو معركة أو فصل أو مرض عام أو موت كبير أو أمير فإذا سئل الشخص عن وقت مولده أو مولد ابنه أو ابنته أو موت أبيه أو سنة بلوغه سن الرشد يقول كان بعد الحادثة الفلانية بكذا من الأيام ثم لا يدري في أي شهر أو عام وخصوصًا إذا طال الزمان بعدها وتكرر الاحتياج إلى تحرير الوقت في مسائل شرعية في مجلس الشرع في مثل الحضانة والعدة والنفقة وسن اليأس ومدة غيبة المفقود بأن يتفق قولهم على أن الصبي ولد يوم السيل الذي هدم القبور أو يوم موت الأمير فلان أو الواقعة الفلانية ويختلفون في تحقيق وقتها وعند ذلك يحتاجون إلى السؤال ممن عساه يكون أرخ وقتها وفي غير وقت الاحتياج يسخرون بمن يشغل بعض أوقاته بشيء من ذلك لاعتيادهم إهمال العلوم التي كان يعتني بتدوينها الأوائل إلا بقدر إقامة الناموس الذي يحصلون به الدنيا ولولا تدوين العلوم وخصوصًا علم الأخبار ما وصل إلينا شيء منها ولا الشرائع الواجبة ولا يشك شاك في فوائد التدوين وخصائصه بنص التنزيل قال تعالى وكلًا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين‏.‏

وفي عاشره وصلت هجانة وأخبار عن إبراهيم باشا من الحجاز بأنه وصل إلى محل يسمى الموتان فوقع بينه وبين الوهابية وقتل منهم مقتلة عظيمة وأخذ منهم أسرى وخيامًا ومدفعين وفي يوم الأربعاء ثامن عشره سافر الباشا إلى أسكلة السويس وصحبته السيد محمد المحروقي ليتلقى سفائنه الواصلة بالبضائع الهندية‏.‏ واستهل

شهر شعبان بيوم الاثنين سنة 1232

فيه رجع الباشا من السويس وأخلوا للبضائع الواصلة ثلاث خانات توضع في حواصلها ثم توزع على الباعة بالثمن الذي يفرضه‏.‏

وفيه وصل الخبر أيضًا بوصول سفائن إلى بندر جدة وفيها ثلاثة من الفيلة‏.‏

وفيه قوي اهتمام الباشا لحفر الترعة الموصلة إلى الإسكندرية كما تقدم وأن يكون عرضها عشرة أقصاب والعمق أربعة أقصاب بحسب علو الأراضي وانخفاضها وتعينت كشاف الأقاليم لجمع الرجال وفرضوا أعدادهم بحسب كثرة أهل القرية وقلتها وعلى كل عشرة أشخاص شخص كبير وجمعت الغلقان ولكل غلق فأس وثلاثة رجال لخدمته وأعطوا كل شخص خمسة عشر قرشًا ترحيلة ولكل شخص ثلاثون نصفًا في أجرته كل يوم وقت العمل وحصل الاهتمام لذلك في وقت اشتغال الفلاحين بالحصيدة والدراس وزراعة الذرة التي هي معظم قوتهم وشرعوا في تشهيل احتياجاتهم وشراء القرب للماء فإن تلك البرية لا يوجد الماء إلا ببعض الحفائر التي يحفرها طالب الماء وقد تخرج مالحة لأنها أراض مسبخة وتعين جماعة من مهندس خانة ونزلوا مع كبيرهم لمساحتها وقياسها فقاسوا من فم ترعة الأشرفية حيث الرحمانية إلى حد الحفر المراد بقرب عمود السواري الذي بالإسكندرية فبلغ ذلك ستة وعشرين ألف قصبة ثم قاسوا من أول الترعة القديمة المعروفة بالناصرية وابتداؤها من المكان المعروف بالعطف عند مدينة فوة فكان أقل من ذلك ينقص عنه خمسة آلاف قصبة وكسر فوقع الاختيار على أن يكون ابتداؤها هناك‏.‏

وفي أثناء ذلك زاد النيل قبل المناداة عليه بالزيادة وذلك في منتصف بؤنه القبطي وغرق المقاثيء من البطيخ والخيار والعبدلاوي وأهمل أمر الحفر في الترعة المذكورة إلى ما بعد النيل واستردت الدراهم التي أعطيت للفلاحين لأجل الترحيلة وفرحوا بذلك الإهمال وقد كان أطلق الباشا لمصارفها أربعة آلاف كيس من تحت الحساب ورجع المهندسون إلى مصر وقد صوروا صورتها في كواغد ليطلع عليها الباشا عيانًا وكان رجوعهم في ثامن عشر شعبان‏.‏

وفيه تقلد إبراهيم آغا المعروف بآغات الباب أمر تنظيم الأصناف والمحدثات وعمل معدلاتها لبيان سرقات ومخفيات المتقلدين أمر كل صنف من الأصناف بعد البحث والتفتيش والتفحص على دقائق الأشياء‏.‏

وفيه وصل نحو المائتي شخص من بلاد الروم أرباب صنائع معمرين ونجارين وحدادين وبنائين وفيه أيضًا اهتم الباشا ببناء حائطين بحري رشيد عند الطينة على يمين البغاز وشماله لينحصر فيما بينهما الماء ولا تطمى الرمال وقت ضعف النيل ويقع بسبب ذلك العطب للمراكب وتلف أموال المسافرين وقد كمل ذلك في هذا الشهر وهذه الفعلة من أعظم الهمم الملوكية التي لم يسبق بمثلها‏.‏

وفي عشرينه شنق شخص بباب زويلة بسبب الزيادة في المعاملة وعلقوا بأنفه ريال فرانسة مع أن الزيادة سارية في المبيعات والمشتروات من غير إنكار‏.‏

وفيه أيضًا خزم المحتسب آناف أشخاص من الجزارين في نواحي وجهات متفرقة وعلق في آنافهم قطعًا من اللحم وذلك بسبب الزيادة في ثمن اللحم وبيعهم له بما أحبوه من الثمن في بعض الأماكن خفية لأن الجزارين إذا نزلوا باللحم من المذبح وأكثره هزيل ونعاج ومعز والقليل من المناسب الجيد فيعلقون الرديء بالحوانيت ويبيعونه جهارًا بالثمن المسعر ويخفون الجيد ويبيعونه في بعض الأماكن بما يحبون‏.‏

وفي يوم الخميس خامس عشرينه وصلت الأفيال الثلاثة من السويس أحدها كبير عن الاثنين ولكن متوسط في الكبر فعبروا بها من باب النصر وشقوا من وسط المدينة وخرجوا بها من باب زويلة على الدرب الأحمر وذهبوا بها إلى قراميدان وهرولت الناس والصبيان للفرجة عليها وذهبوا خلفها وازحموا في الأسواق لرؤيتها وكذلك العسكر والدلاة ركبانًا ومشاة وعلى ظهر الفيل الكبير مقعد من خشب‏.‏

واستهل شهر رمضان بيوم الثلاثاء سنة 1232 وعملت الرؤية تلك الليلة وركب المحتسب وكذا مشايخ الحرف كعادتهم وأثبتوا رؤية الهلال تلك الليلة وكان عسر الرؤية جدًا‏.‏

وفي صبح ذلك اليوم عزل عثمان آغا الورداني من الحسبة وتقلدها مصطفى كاشف كرد وذلك لما تكرر على سمع الباشا أفعال الوقة وانحرافهم وقلة طاعتهم وعدم مبالاتهم بالضرب والإيذاء وخزم الأنوف والتجريس قال في مجلس خاصته لقد سرى حكمي في الأقاليم البعيدة فضلًا عن القريبة وخافني العربان وقطاع الطريق وغيرهم خلاف سوقة مصر فإنهم لا يرتدعون بما يفعله فيهم ولاة الحسبة من الإهانة والإيذاء فلا بد لهم من شخص يقهرهم ولا يرحمهم ولا يهملهم فوقع اختياره على مصطفى كاشف كرد هذا فقلده ذلك وأطلق له الإذن فعند ذلك ركب في كبكبة وخلفه عدة من الخيالة ترك شعار المنصب من المقدمين والخدم الذين يتقدمونه وكذلك الذي أمامه بالميزان ومن بأيديهم الكرابيج لضرب المستحق والمنقص في الوزن وبات يطوف على الباعة ويضرب بالدبوس هشمًا بأدنى سبب ويعاقب بقطع شحمة الأذن فأغلقوا الحوانيت ومنعوا وجود الأشياء حتى ما جرت العادة في رمضان من عمل الكعك والرقاق المعروف بالسحير وغيره فلم يلتفت لامتناعهم وغلقهم الحوانيت وزاد في التعسف ولم يرجع عن سعيه واجتهاده ولازم على السعي والطواف ليلًا ونهارًا لا ينام الليل بل ينام لحظة وقت ما يدركه النوم في أي مكان ولو على مصطبة حانوت وأخذ يتفحص على السمن والجبن ونحوه المخزون في الحواصل ويخرجه ويدفع ثمنه لأربابه بالسعر المفروض ويوزعه لأرباب الحوانيت ليبيعوه على الناس بزيادة نصف أو نصفين في كل رطل وذهب إلى بولاق ومصر القديمة فاستخرج منها سمنًا كثيرًا ومعظم ذلك في مخازن للعسكر فإن العسكر كانوا يرصدون الفلاحين وغيرهم فيأخذونه منهم بالسعر المفروض وهو مائتان وأربعون في العشرة منه ثم يبيعونه على المحتاجين إليه بما أحبوا من الزيادة الفاحشة فلم يراع جانبهم واستخرج مخبآتهم قهرًا عنهم ومن خالف عليه منهم ضربه وأخذ سلاحه ونكل به وذهب في بعض الأوقات إلى بولاق فأخرج من حاصل ببعض الوكائل ثلاثمائة وخمسين ماعونًا لكبير من العسكر فحضر إليه بطائفته فلم يلتفت إليه ووبخه وقال له أنتم عساكر ولكم رواتب والعلائف واللحوم والأسمان وخلافها ثم تحتكرون أيضًا أقوات الناس وتبيعونها عليهم بالثمن الزائد وإعطاء الثمن المفروض وحمل المواعين على الجمال إلى الأمكنة التي أعدها لها عند باب الفتوح وعندما رأى أرباب الحوانيت الجد وعدم الإهمال والتشديد عليهم فتح المغلق منهم حانوته وأظهروا مخبآتهم أمامهم وملؤا السدريات والطسوت من السمن وأنواع الجبن خوفًا من بطش المحتسب وعدم رحمته بهم ويقف بنفسه على باعة البطيخ والقاوون‏.‏

وفي منتصف شهر رمضان وصلوا برمة إبراهيم بك الكبير من دنقلة وذلك أنه لما وصل خبر موته استأذنت زوجته أم ولده الباشا في إرسالها امرأة تدعى نفيسة لإحضار رمته فأذن بذلك وأعطى المتسفرة فيما بلغنا عشرة أكياس وكتب لها مكاتبات لكشاف الوجه القبلي بالمساعدة وسافرت وحضرت به في تابوت وقد جف جلده على عظمه لنحافته وذلك بعد موته بنحو ستة شهور وعملوا له مشهدًا وأماه كفارة ودفنوه بالقرافة الصغرى عند ابنه مرزوق بك‏.‏

وفي ليلة الخميس سابع عشره طلب المحتسب حجاجًا الخضري الشهير بنواحي الرميلة فأخذه إلى الجمالية وشنقه على السبيل المجاور لحارة المبيضة وذلك في سادس ساعة من الليل وقت السحور وتركوه معلقًا لمثلها من الليلة القابلة ثم أذن برفعه فأخذه أهله ودفنوه وحجاج هو الذي تقدم ذكره غير مرة في واقعة خورشيد باشا وغيرها وكان مشهورًا بالإقدام والشجاعة طويل القامة عظيم الهمة وكانشيخًا على طوائف الخضرية صاحب صولة وكلمة بتلك النواحي ومكارم أخلاق وهو الذي بنى البوابة بآخر الرميلة عند عرصة الغلة أيام الفتنة واختفى مرارًا بعد تلك الحوادث وانضم إلى الألفي ثم حضر إلى مصر بأمان ولم يزل على حالته في هدوء وسكون ولم يؤخذ في هذه بجرم فعله يوجب شنقه بل قتل مظلومًا لحقد سابق وزجرًا لغيره‏.‏

وفي يوم الاثنين ثامن عشرين شهر رمضان الموافق السادس مسرى البطي أوفى النيل أذرعه فنودي بالوفاء وكسر السد صبح يوم الثلاثاء بحضرة كتخدا بك والقاضي وغيره وجرى الماء في الخليج ولم يقع فيه مهرجان مثل العادة هذا والمحتسب مواظب على السروح ليلًا ونهارًا ويعاقب بجرح الآذان والضرب بالدبوس وأقعد بعض صناع الكنافة على صوانيهم التي على النار وأمر بكنس الأسواق ومواظبة رشها بالماء ووقود القناديل على أبواب الدور وعلى كل ثلاثة من الحوانيت قنديل ويركب آخر الليل ثم يذهب إلى بولاق ليتلقى الواردين بالبطيخ الأخضر والأصفر ويعرف عدة الشروات ويأمرهم بدفع مكوسها المفروضة ثم يأمرهم بالذهاب إلى مراكز بيعهم ولا يبيعون شيئًا حتى يأتيهم بنفسه أو بحضرة من يرسله من طرفه ثم يعود طائفًا عليهم فيحصي ما في فرش أحدهم عددًا ويميز الكبير بثمن والصغير بثمن ويترك عند البائع من يباشره أو يقف هو بنفسه ويبيع على الناس بما فرضه ويعطي لصاحبه الثمن والربح فيراه قد ربح العشرة قروش وأكثر بعد مكسه ومصارفه فيقول له أما يكفي مثلك ربح هذا القدر حتى تطمع أيضًا في الزيادة عليه وهو مع ذلك يكر ويطوف على غيرهم ويحلق على ما يرد من السمن الوارد الذي تقرر على المزارعين فيزنه منهم بالسعر المفروض وهو أربعة وعشرون نصفًا الرطل ويرد عليهم الفوارغ ويعطيه للبائع بالثمن المقرر وهو ستة وعشرون وهو يبيعونه بزيادة نصفين في كل رطل وهو ثمانية وعشرون ويناله الناس بأسهل وجدان سالمًا من الخلط والغش ويأمرهم بإعادة ما عسى يوجد فيه من المرتة والعكار إلى مواعينه ليوزن مع فوارغه ورصد أيضًا ما يرد للناس ولو لأكابر الدولة من السمن فيطلق البعض ويأخذ الباقي بالثمن وكذلك ما يأتيهم من البطيخ والدجاج ولو كان لصاحب الدولة حسب إذنه له بذلك كل ذلك للحرص على كثرة وجدان الأشياء وتعدت أحكامه إلى بضائع التجار والأقمشة الهندية وأهل مرجوش والمحلاوية وخلافهم وطلب قوائم مشترواتهم والنظر في مكايلهم فضاق خناق أكثر الناس لكونهم لم يعتادوه من محتسب قبله وكأنه وصله خبر ولاة الحسبة وأحكامهم في الدلو المصرية القديمة فإن وظيفة أمين الاحتساب وظيفة قضاء وله التحكم والعدالة والتكلم على جميع الأشياء وكان لا يتولاها إلا المتضلع من جميع المعارف والعلوم والقوانين ونظام العدالة حتى على من يتصدر لتقرير العلوم فيحضر مجلسه ويباحثه فإن وجد فيه أهلية للإلقاء أذن له بالتصدر أو منعه حتى يستكمل وكذلك الأطباء والجراحية حتى البيطارية والبزدرية ومعلموا الأطفال في المكاتب ومعلموا السابحة في الماء والنظر في وسق المراكب في الأسفار وأحمال الدواب في نقل الأشياء ومقادير روايا الماء مما يطول شرحه وفي ذلك مؤلف للشيخ بن الرفعة وقد يسهل بعض ذلك مع العدالة وعدم الاحتكار وطمع المتولي وتطلعه لما في أديد الناس وأرزاقهم‏.‏

ومما يحكي أن الرشيد سأل الليث بن سعد فقال له يا أبا الحرث ما صلاح بلدكم يعني مصر فقال له أما صلاح أمرها ومزارعها فبالنيل وأما أحكامها فمن رأس العين يأتي الكدر‏.‏

وفي أواخر رمضان زاد المحتسب في نغمات الطنبور وهو أنه أرسل مناديه في مصر القديمة ينادي على نصارى الأرمن والأروام والشوام بإخلاء البيوت التي عمروها وزخرفوها وسكنوا بها بإنشاء والملك والمؤاجرة المطلة على النيل وأن يعودوا إلى زيهم الأول من لبس العمائم الزرق وعدم ركوبهم الخيول والبغال والرهونات الفارهة واستخدامهم المسلمين فتقدم أعاظمهم إلى الباشا بالشكوى وهو يراعي جانبهم لأنهم صاروا أخصاء الدولة وجلساء الحضرة وندماء الصحبة‏.‏

وأيضًا نادى مناديه على المردان ومحلقي اللحى بأنهم يتركونها ولا يحلقونها وجميع العسكر وغالب الأتراك سنتهم حلق اللحى ولو طعن في السن فأشيع فيهم أن يأمرهم بترك لحاهم وذلك خرم لقواعدهم بل يرونه من الكبائر وكذلك السيد محمد المحروقي بسبب تعرضه إلى بضائع التجار وفي أثناء ذلك ورد إلى عابدين بك مواعين سمن فأرسل الجمال إلى حملها من ساحل بولاق فبلغ خبرها المحتسب فأخذها وأدخلها مخزنه وعادت الجمال فارغة وأخبروا مخدومهم بحجز المحتسب لها فأرسل عدة من العسكر فأخرجوها من المخزن وأخذوها ولم يكن المحتسب حاضرًا واتفق أنه ضرب شخصًا من عسكر المذكور أرنؤدي بالدبوس حتى كاد يموت فاشتد بعابدين بك الحنق وركب إلى كتخدا بك وشنع على المحتسب وتعددت الشكاوي وصادفت في زمن واحد فأنهي الأمر إلى الباشا فتقدم إليه بكف المحتسب عن هذه الأفعال فأحضره الكتخدا وزجره وأمره أن لا يتعدى حكمه الباعة ومن كان يسري عليهم أحكام من كان في منصبه قبله وأن يكون أمامه الميزان ويؤدب المستحق بالكرابيج دون الدبوس‏.‏

واستهل شهر شوال بيوم الخميس سنة 1232 فترك السروح في أيام العيد وأشيع بين السوقة عزله فأظهروا الفرح ورفعوا ما كان ظاهرًا بين أديديهم من السمن والجبن وأخفوه عن الأعين ورجعوا إلى حالتهم الأولى في الغش والخيانة وغلاء السعر وأغلق بعضهم الحانوت وخرجوا إلى المنتزهات وعملوا ولائم‏.‏

وفي رابعه شنقوا عدة أشخاص في أماكن متفرقة قيل أنهم سراق وزغلية وكانوا مسجونين في أيام رمضان ولم يركب المحتسب حسب الأمر بل أركب خازنداره وشق بالميزان عوضًا عنه ثم ركب هو أيضًا وبيده الدبوس لكن دون الحالة الأولى في الجبروت ولم يسر حكمه على النصارى فضلًا عن غيرهم‏.‏

وفي عاشره يوم السبت نزلوا بكسوة الكعبة من القلعة وشقوا بها من وسط الشارع إلى المشهد الحسيني‏.‏

وفي يوم السبت سابع عشره أداروا المحمل وخرج أمير الركب إلى خارج باب النصر ووصلت حجاج كثيرة من ناحية المغرب إلى بر أنبابة وبولاق وطفقوا يشترون الأغنام من الفلاحين ويذبحونها ويبيعونها ببولاق وطرقها على الناس جزافًا من غير وزن ويذهب الكثير من الناس إلى الشراء منهم فيقعون في الغبن الفاحش والزيادة على السعر بالضعف وأكثر وضرورتهم في الشراء منهم رداءة ما يحمله القصابون من المذبح من أغنام الباشا المحضرة من البلاد والقرى وقد هزلت من السفر والإقامة بالجوع والعطش ويموت الكثير منها فيسلمونه ويزنونه على الجزارين بالبيع للناس وفيه المتغير الرائحة وما تعافه النفوس فبسبب ذلك اضطر الناس إلى الشراء من هؤلاء الأجناس بالغبن وتحمل سوء أخلاقهم وحصل بينهم وبين بعض العسكر شرور وقتل بينهم قتلى ومجاريح والباشا وحكام الوقت يتغافلون عنهم خوفًا من وقوع الفتن ثم ارتحلوا لأنهم كثروا وملؤا الأزقة والنواحي وحضر أيضًا الركب الفاسي وفيه ولدا السلطان سليمان ومن يصحبهما فأحسن الباشا نزلهم وتقيد السيد محمد المحروقي بملاقاتهم ولوازمهم وأنزلوهم في منزل بجوار المشهد الحسيني وأجريت عليهم نفقات تليق بهم وأهديا للباشا هدية وفيها عدة بغال وبرانس حرير وغير ذلك‏.‏

وفي ثامن عشرينه ارتحل الحج المصري من البركة وكانت الحجوج في هذه السنة كثيرة من سائر الأجناس أتراك وططر وبشناق وجركس وفلاحين من سائر الأجناس ورجع الكثير من المسافرين على بحر القلزم إلى الحجاز من السويس لقلة المراكب التي تحملهم وغصت المدينة من كثرة الزحام زيادة على ما بها من ازدحام العساكر وأخلاط العالم من فلاحي القرى المشيعين والمسافرين ومن يرد من الآفاق والبلاد الشامية ونصارى الروم والأرمن والدلاة والواردين والذين استدعاهم الباشا من الدروز والمتاولة والنصيرية وغيرهم لعمل الصنائع والمزارع وشغل الحرير وما استجده بوادي الشرق حتى أن الإنسان يقاسي الشدة والهول إذا مر بالشارع من كثرة الازدحام ومرور الخيالة وحمير الأوسية والجمال التي تحمل الأتربة والأنقاض والأحجار لعمائر الدولة سوى ما عداها من حمول الأحطاب والبضائع والتراسين حتى الزحمة في داخل العطف الضيقة وزيادة على ذلك كثرة الكلاب بحيث يكون في القطعة من الطريق نحو الخمسين ثم صياحها ونباحها المستمر وخصوصًا في الليل على المارين وتشاجرها مع يعضها مما يزعج النفوس ويمنع الهجوع وقد أحسن الفرنساوية بقتلهم الكلاب فإنهم لما استقروا وتكرر مرورهم ونظروا إلى كثرة الكلاب من غير حاجة ولا منفعة سوى الهبهبة والعواء وخصوصًا عليهم لغرابة أشكالهم فطاف عليهم طائف منهم باللحم المسموم فما أصبح النهار إلا وجميعها موتى مطروحة بجميع الشوارع فكان الناس والصغار يسحبونها كذا بالحبال إلى الخلاء واستراحت الأرض ومن فيها منها فالله يكشف عنا مطلق الكرب في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه‏.‏

واستهل شهر ذي القعدة سنة 1232 في خامسه يوم الأربعاء وليلة الخميس ارتحل ركب الحجاج المغاربة من الحصوة‏.‏

وفي أواخره حصل الأمر للفقهاء بأزهر بقراءة صحيح البخارى فاجتمع الكثير من الفقهاء والمجاورين وفرقوا بينهم أجزاء وكراريس من البخارى يقرؤون فيها في مقدار ساعتين من النهار بعد الشروق فاستمروا على ذلك خمسة أيام وذلك بقصد حصول النصر لإبراهيم باشا على الوهابية وقد طالت مدة انقطاع الأخبار عنه وحصل لأبيه قلق زائد ولما انقضت أيام قراءة البخاري نزل للفقهاء عشرون كيسًا فرقت عليهم وكذلك على أطفال المكاتب‏.‏

في رابعه شنقوا أشخاصًا قيل أنهم خمسة ويقال أنهم حرامية‏.‏

وفيه أرسلت الأفيال الثلاثة إلى دار السلطنة صحبة الهدايا المرسلة ثلاثة سروج ذهب وفيها سرج مجوهر وخيول وكباش ونقود وأقمشة هندية وسكاكر وأرز‏.‏

وفيه وصل فيل آخر كبير مروا به من وسط المدينة وذهبوا به إلى رحبة بيت السيد محمد المحروقي وقفوا به في أواخر النهار والناس تجتمع للفرجة عليه إلى أواخر النهار ثم طلعوا إلى القلعة وأوقفوا بالطبخانة وهي محل عمل المدافع وحضر بصحبته شخص يدعي العلم والمعرفة بالطب والحكمة ومعه مجلد كبير في حجم الوسادة يحتوي على الكتب الستة الحديثية وخطه دقيق قال أنه نسخه بيده ونزل ببيت السيد محمد المحروقي وركب له معجون الجواهر أنفق فيه جملة من المال وكجلا وركب أيضًا تراكيب لغيره وشرط عليهم في الاستعمال بعد مضي ستة أشهر وشيء منها بعد شهرين وثلاثة وأقام أيامًا ثم سافر راجعًا إلى صنعاء‏.‏

وفي يوم الثلاثاء عاشره كان عيد النحر ولم يرد فيه مواش كثيرة كالأعياد السابقة من الأغنام والجواميس التي تأتي من الأرياف فكانت تزدحم منها الأسواق لكثرتها والوكائل والرميلة فلم يرد إلا النزر القليل قبل النحر بيومين ويباع بالثمن الغالي ولم يذبح الجزارون في أيام النحر للبيع كعادتهم إلا القليل منهم مع التحجير على الجلود وعلى من يشتريها وتباع لطرف الدولة بالثمن الرخيص جدًا وانقضت السنة مع استمرار ما تجدد فيها من الحوادث التي منها ما حدث في آخر السنة من الحجر وضبط أنوال الحياكة وكل ما يصنع بالمكوك وما ينسج على نول أو نحوه من جميع الأصناف من إبريم أو حرير أو كتان إلى الخيش والفل والحصير في سائر الإقليم المصري طولًا وعرضًا قبلي وبحري من الإسكندرية ودمياط إلى أقصى بلاد الصعيد والفيوم وكل ناحية تحت حكم هذا المتولي وانتظمت لهذا الباب دواوين ببيت محمود بك الخازندار وأيامًا ببيت السيد محمد المحروقي وبحضرة من ذكر والمعلم غالي ومتولي كبر ذلك والمفتتح لأبوابه المعلم يوسف كنعان الشامي والمعلم منصور أبو سربمون القبطي ورتبوا لضبط ذلك كتابًا ومباشرين يتقررون بالنواحي والبلدان والقرى وما يلزم لهم من المصاريف والمعليم والمشاهرات ما يكفيهم في نظير تقيدهم وخدمتهم فيمضي المتعينون لذلك فيحصون ما يكون موجودًا على الأنوال بالناحية من القماش والبز والأكسية الصوف المعروفة بالزعابيط والدفافي ويكتبون عدده على ذمة الصانع ويكون ملزومًا به حتى إذا تم نسجه دفعوا لصاحبه ثمنه بالفرض الذي يفرضونه وإن أرادها صاحبها أخذها من الموكلين بالثمن الذي يقدرونه بعد الختم عليها من طرفيها بعلامة الميري فإن ظهر عند شخص شيء م غير علامة الميري أخذت منه بل وعوقب وغرم تأديبًا على اختلاسه وتحذيرًا لغيره هذا شأن الموجود الحاصل عند النساجين واستئناف العمل المجدد فإن الموكل بالناحية ومباشريها يستدعون من كل قرية شخصًا معروفًا من مشايخها فيقيمونه وكيلًا ويعطونه مبلغًا من الدراهم ويأمرونه بإحصاء الأنوال والشغالين والبطالين منهم في دفتر فيأمرون البطالين بالنسج على الأنوال التي ليس لها صناع بأجرتهم كغيرهم على طرف الميري ويدفع المتوكل لشخصين أو ثلاثة دراهم يطوفون بها على النساء اللاتي يغزلن الكتان بالنواحي ويجعلنه أذرعًا فيشترون ذلك منهن بالثمن المفروض ويأتون إلى النساجين ثم تجمع أصناف الأقمشة في أماكن للبيع بالثمن الزائد وجعلوا لمبيعها أمكنة مثل خان أبو طقية وخان الجلاد وبه يجلس المعلم كنعان ومن معه وغير ذلك وبلغ ثمن الثوب القطن الذي يقال له البطانة إلى ثلاثمائة نصف فضة بعد ما كان يشترى بمائة نصف وأقل وأكثر بحسب الرداءة والجودة وأدركناه يباع في الزمن السابق بعشرين نصفًا وبلغ ثمن المقطع القماش الغليظ إلى ستمائة نصف فضة وكان يباع بأقل من ثلث ذلك وقس على ذلك باقي الأصناف وهذه البدعة أشنع البدع المحدثة فإن ضررها عم الغني والفقير والجليل والحقير والحكم لله العلي الكبير‏.‏

ومنها أن المشار إليه هدم القصر الذي بالآثار وأنشأه على الهيئة الرومية التي ابتدعوها في عمائرهم بمصر وهدموه وعمروه وبيضوه في أيام قليلة وذلك أنه بات هناك ليلتين فأعجبه هواؤه فاختار بناءه على هواه وعند تمامه وتنظيمه بالفرش والزخارف جعل يتردد إلى المبيت به بعض الأحيان مع السراري والغلمان كما ينتقل ما قصر الجيزة وشبرا والأزبكية والقلعة وغيرها من سرايات أولاده وأصهاره والملك لله الواحد القهار‏.‏

ومنها أن طائفة من الإفرنج الإنكليز قصدوا الإطلاع على الأهرام المنهورة الكائنة ببر الجيزة غربي الفسطاط لأن طبيعتهم ورغبتهم الإطلاع على الأشياء المستغربات والفحص عن الجزئيات وخصوصًا الآثار القديمة وعجائب البلدان والتصاوير والتماثيل التي في المغارات والبرابي بالناحية القبلية وغيرها ويطوف منهم أشخاص في مطلق الأقاليم بقصد هذا الغرض ويصرفون لذلك جملًا من المال في نفقاتهم ولوازمهم ومؤاجريهم حتى أنهم ذهبوا إلى أقصى الصعيد وأحضروا قطع أحجار عليها نقوش وأقلام وتصاوير ونواويس من رخام أبيض كان بداخلها موتى بأكفانها أو أجسامها باقية بسبب الأطلية والأدهان الحافظة لها من البلاء ووجه المقبور مصور على تمثال صورته التي كان عليها في حال حياته وتماثيل آدمية من الحجر السماقي الأسود المنقط الذي لا يعمل فيه الحديد جالسين على كراسي واضعين أيديهم على الركب وبيد كل واحد شبه مفتاح بين أصابعه اليسرى والشخص مع كرسيه قطعة واحدة مفرغ معه أطول من قامة الرجل الطويل وعلو رأسه نصف دائرة منه في علو الشبر وهم شبه العبيد المشوهين الصورة وهم ستة على مثال واحد كأنما أفرغوا في قالب واحد يحمل الواحد منهم الجملة من العتالين وفيهم السابع من رخام أبيض جميل الصورة وأحضروا أيضًا رأس صنم كبير دفعوا في أجرة السفينة التي أحضروه فيها ستة عشر كيسًا عنها ثلاثمائة وعشرون ألف نصف فضة وأرسلوها إلى بلادهم لتباع هناك بأضعاف ما صرفوه عليها وذلك عندهم من جملة المتاجر في الأشياء الغريبة ولما سمعت بالصور المذكورة فذهبت بصحبة ولدنا الشيخ مصطفى باكير المعروف بالساعاتي وسيدي إبراهيم المهدي الإنكليزي إلى بيت قنصل بدرب البرابرة بالقرب من كوم الشيخ سلامة جهة الأزبكية وشاهدت ذلك كما ذكرته وتعجبنا من صناعتهم وتشبههم وصقالة أبدانهم الباقية على ممر السنين والقرون التي لا يعلم قدرها إلا علام الغيوب وأردوا الإطلاع على أمر الأهرام وأذن لهم صاحب المملكة فذهبوا إليها ونصبوا خيمة وأحضروا الفعلة والمساحي والفلقان وعبروا إلى داخلها وأخرجوا منها أتربة كثيرة من زبل الوطواط وغيره ونزلوا إلى الزلاقة ونقلوا منها ترابًا مربع من الحجر المنحوت غير مسلوك هذا ما بلغنا عنهم وحفروا حوالي الرأس العظيمة التي بالقرب من الأهرام التي تسميها الناس رأس أبي الهول فظهر أنه جسم كامل عظيم من حجر واحد ممتد كأنه راقد على بطنه رافع رأسه وهي التي يراها الناس وباقي جسمه مغيب بما انهال عليه من الرمال وساعداه من مرفقيه ممتدان أمامه وبينهما شبه صندوق مربع إلى استطالة من سماق أحمر عليه نقوش شبه قلم الطير في داخله صورة سبع مجسم من حجر مدهون بدهان أحمر رابض باسط ذراعيه في مقدار الكلب رفعوه أيضًا إلى بيت القنصل ورأيته يوم ذاك وقيس المرتفع من جسم أبي الهول من عند صدره إلى أعلى رأسه فكان اثنين وثلاثين ذراعًا وهي نحو الربع من باقي جسمه وأقاموا في هذا العمل نحوًا من أربعة أشهر‏.‏

وأما من مات في هذه السنة من المشاهير فمات العالم العلامة الفاضل الفهامة صاحب التحقيقات الرائقة والتأليفات الفائقة شيخ شيوخ أهل العلم وصدر صدور أهل الفهم المتفنن في العلوم كلها نقليها وعقليها وأديبها إليه انتهت الرياسة في العلوم بالديار المصرية وباهت مصر ما سواها بتحقيقاته البهية استنبط الفروع من الأصول واستخراج نفائس الدور من بحور المعقول والمنقول وأودع الطروس فوائد وقلدها عوائد فرائد الأستاذ الشيخ محمد بن محمد بن أحمد بن عبد القادر بن عبد العزيز بن محمد السنباوي المالكي الأزهري الشهير بالأمير وهو لقب جده الأدني أحمد وسببه أن أحمد وأباه عبد القادر كان لهما أمرة بالصعيد وأخبرني المترجم من لفظه أن أصلهم من المغرب نزلوا بمصر عند سيدي عبد الوهاب أبي التخصيص كما أخبر عن ذلك وثائق لهم ثم التزموا بحصة بناحية سنبو وارتحلوا إليها وقطنوا بها وبها ولد المترجم وكان مولده في شهر ذي الحجة سنة أربع وخمسين ومائة وألف بإخبار والديه وارتحل معهما إلى مصر وهو ابن تسع سنين وكان قد ختم القرآن فجوده على الشيخ المنير على طريقة الشاطيية والدرة وحبب إليه طلب العلم فأول ما حفظ متن الآجرومية وسمع سائر الصحيح والشفاء على سيدي علي بن العربي السقاط وحضر دروس أعيان عصره واجتهد في التحصيل ولازم دروس الشيخ الصعيدي في الفقه وغيره من كتب المعقول وحضر على السيد البليدي شرح السعد على عقائد النسفي والأربعين النووية وفقع الموطا على هلال المغرب وعالمه الشيخ محمد التاودي بن سودة بالجامع الأزهر سنة وروده بقصد الحج ولازم المرحوم الوالد حسنًا الجبرتي سنين وتلقى عنه الفقه الحنفي وغير ذلك من الفنون كالهيئة والهندسة والفلكيات والأوفاق والحكمة عنه وبواسطة تلميذه الشيخ محمد بن إسماعيل النفراوي المالكي وكتب له إجازة مثبتة في برنامج شيوخه وحضر الشيخ يوسف الحفني في آداب البحث وبانت سعاد وعلى الشيخ محمد الحفني أخيه مجالس من الجامع الصغير والشمايل والنجم الغيطي في المولد وعلى الشيخ أحمد الجوهري في شرح الجوهرة للشيخ عبد السلام وسمع منه المسلسل بالأولية وتلقى عنه طريق الشاذلية من سلسلة مولاي عبد الله الشريف وشملته إجازة الشيخ الملوي وتلقى عنه مسائل في أواخر أيام انقطاعه بالمنزل ومهر وأنجب وتصدر لإلقاء الدروس في حياة شيوخه ونما أمره واشتهر فضله خصوصًا بعد موت أشياخه وشاع ذكره في الآفاق وخصوصًا بلاد المغرب وتأتيه الصلات من سلطان المغرب وتلك النواحي في كل عام ووفد عليه الطالبون للأخذ عنه والتلقي منه وتوجه في بعض المقتضبات إلى دار السلطنة وألقى هناك دروسًا حضره فيها علماؤهم وشهدوا بفضله واستجازوه وأجازهم بما هو مجاز به من أشياخه وصنف عدة مؤلفات اشتهرت بأيدي الطلبة وهي غاية التحرير منها مصنف في فقه مذهبه سماه المجموع حاذى به مختصر خليل جمع فيه الراجح في المذهب وشرحه شرحًا نفيسًا وقد صار كل منهما مقبولًا في أيام شيخه العدوي حتى كان إذا توقف شيخه في موضع يقول هاتوا مختصر الأمير وهي منقبة شريفة وشرح مختصر خليل وحاشية على المغني لابن هشام وحاشية على الشيخ عبد الباقي على المختصر وحاشية على الشيخ عبد السلام على الجوهرة وحاشية على شرح الشذور لابن هشام وحاشية على الأزهرية وحاشية على الشنشوري على الرحبية في الفرائض وحواش على المعراج وحاشية على شرح الملوي على السمرقندية ومؤلف سماه مطلع النيرين فيما يتعلق بالقدرتين وإتحاف الأنس في الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس ورفع التلبيس عما يسأل به ابن خميس وثمر الثمام في شرح آداب الفهم والإفهام وحاشية على المجموع وتفسير سورة القدر وكان رحمه الله رقيق القلب لطيف المزاج ينزعج طبعه من غير انزعاج يكاد الوهم يؤلمه وسماع المنافر يوهنه ويسقمه وبآخره ضعفت قواه وتراخت أعضاه وزاد شكواه ولم يزل يتعلل ويزداد أنينه وتململ والأمراض به تسلسل وداعي المنون عنه لا يتحول إلى أن توفي يوم الإثنين عاشر ذي القعدة الحرام وكان له مشهد حافل جدًا ودفن بالصحراء بجوار مدفن الشيخ عبد الوهاب العفيفي بالقرب من عمارة السلطان قايتباي وكثر عليه الأسف والحزن وخلف ولده العلامة النحرير الشيخ محمدًا الأمير وهو الآن أحد الصدور كوالده يقرأ الدروس ويفيد الطلبة ويحضر الدواوين والمجالس العالية بارك الله فيه‏.‏

ومات الشيخ الفقيه العلامة الشيخ خليل المدابغي لكونه يسكن بحارة المدابغ حضر دروس الأشياخ من الطبقة الأولى وحصل الفقه والمعقول واشتهر فضله مع فقره وانجماعه عن الناس متقشفًا متواضعًا ويكتسب من الكتابة بالأجرة ولم يتجمل بالملابس ولا بزي الفقهاء يظن الجاهل به أنه من جملة العوام توفي يوم الإثنين ثامن عشر ذي القعدة من السنة‏.‏

ومات الشيخ الفقيه الورع الشيخ علي المعروف بأبي زكري البولاقي لسكنه ببولاق وكان ملازمًا لإقراء الدروس ببولاق ويأتي إلى الجامع الأزهر في كل يوم يقرأ الدروس ويفيد الطلبة ويرجع إلى بولاق بعد الظهر ومات حماره الذي كان يأتي عليه إلى الجامع الأزهر فلم يتخلف عن عادته ويأتي ماشيًا ثم يعود مدة حتى أشفق عليه بعض المشفقين من أهالي بولاق واشتروا له حمارًا ولم يزل على حالته وانكساره حتى توفي يوم الخميس ثامن شهر ذي القعدة من السنة رحمه الله وإيانا وجمعنا في مستقر رحمته آمين‏.‏

ويقال له خواجا وهو كاتب خزينة الباشا وأنشأ الدار العظيمة التي بناحية باب اللوق وأدخل فيها عدة بيوت ودورًا جليلة تجاهها وملاصقة لها من الجهتين وبعضها مطل على البركة المعروفة ببركة أبي الشوارب وتقدم في أخبار العام الماضي أن الباشا صاهره وزوج ابنته لبعض أقارب الباشا الخصيصين به مثل الذي يقال له شريف آغا وآخر وعمل له مهما عظيمًا احتفل فيه إلى الغاية وزفة وشنكًا كل ذلك وهو متمرض إلى أن مات في ثاني عشرين ربيع الثاني وضبطت تركته فوجد له كثير من النقود والجواهر والأمتعة وغير ذلك فسبحان الحي الذي لا يموت‏.‏ واستهلت

سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف

واستهل المحرم بيوم الإثنين ووالي مصر وحاكمها الوزير محمد علي باشا وهو المتصرف فيها قبليها وبحريها بل والأقطار الحجازية وضواحيها وبيده أزمة الثغور الإسلامية ووزيره محمد بك لاظ المعروف بكتخدا بك وهو قائم مقامه في حال غيابه وحضوره والمتصدر في ديون الأحكام الكلية والجزئية وفصل الخصومات ومباشرة الأحوال نافذ الكلمة وافر الحرمة وآغات الباب إبراهيم آغا ومتولي أيضًا أمر تعديل الأصناف ليوفر على الخزينة ما يأكله المتولي على كل صنف ويخفي أمره فيشدد الفحص في المكيل والموزون والمذروع حتى يستخرج المخبأ ولو قليلًا فيجتمع من القليل الكثير من الأموال فيحاسب المتولي مدة ولايته فيجتمع له ما لا قدرة له على وفاء بعضه لأن ذلك شيء قد استهلك في عدة أيدي أشخاص واتباع ويلزم الكبير بأدائه ويقاسي ما يقاسيه من الحبس والضرب وسلب النعمة ومكابدة الأهوال وسلحدار الباشا سليمان آغا عوضًا عن صالح بك السلحدار لاستعفائه عنها في العام السابق وهو السلط على أخذ الأماكن وهدمها وبنائها خانات ورباعًا وحوانيت فيأتي إلى الجهة التي يختار البناء فيها ويشرع في هدمها ويأتيه أربابها فيعطيهم أثمانها كما هي في حججهم القديمة وهو شيء نادر بالنسبة لغلو أثمان العقارات في هذا الوقت لعموم التخرب وكثرة العالم وغلاء المؤن وضيق المساكن بأهلها حتى أن المكان الذي كان يؤجر بالقليل صار يؤجر بعشرة أمثال الأجرة القديمة ونحو ذلك ومحمود بك الخازندار وخدمته قبض أموال البلاد والأطيان والرزق وما يتعلق بذلك من الدعاوي والشكاوي وديوانه بخط سويقة اللالا والمعلم غالي كاتب سر الباشا ورئيس الأقباط وكذلك الدفتردار محمد بك صهر الباشا وحاكم الجهة القبلية والروزنامجي مصطفى أفندي وآغا مستحفظان حسن آغا البهلوان والزعيم علي آغا الشعرواي ومصطفى آغا كرد المحتسب وقد بردت همته عما كان عليه ورجع الحال في قلة الأدهان كالأول وازدحم الناس على معمل الشمع فلا يحصل الطالب منه شيئًا إلا بشق الأنفس وكذلك انعدم وجود بيض الدجاج لعدم المجلوب ووقوف العسكر ورصدهم من يكون معه شيء منه من الفلاحين الداخلين إلى المدينة من القرى فيأخذونه منهم بدون القيمة حتى بيعت البيضة الواحدة بنصفين وأما المعاملة فلم يزل أمرها في اضطراب بالزيادة والنقص وتكرار المناداة كل قليل وصرف الريال الفرانسة إلى أربعمائة نصف فضة والمحبوب إلى أربعمائة وثمانين والبندقي إلى تسعمائة نصف والمجر إلى ثمانمائة نصف وأما هذه الأنصاف العددية التي تذكر فهي أسماء لا وجود لمسمياتها في الأيدي‏.‏

وفي ثاني عشره سافر الباشا إلى جهة الإسكندرية لمحاسبة الشركاء والنظر في بيع الغلال والمتاجر والمراسلات‏.‏

وفي تاسع عشره ارتحلت عساكر أتراك ومغاربة مجردة إلى الحجاز‏.‏

واستهل شهر صفر بيوم الأربعاء سنة 1233 في ثالث عشره وصل الكثير من حجاج المغاربة‏.‏

وفي يوم الجمعة سابع عشره وصل جاويش الحاج وفي ذلك اليوم وقت العصر ضربوا عدة مدافع من القلعة لبشارة وصلت من إبراهيم باشا بأنه حصلت له نصرة وملك بلدة من بلاد الوهابية وقبض على أميرها ويسمى عتيبة وهو طاعن في السن‏.‏

واستهل شهر ربيع الأول بيوم الجمعة سنة 1233 فيه وصل قابجي من دار السلطنة فعملوا له موكبًا وطلع إلى القلعة وضربوا له شنكًا سبعة أيام وهي مدافع تضرب في كل وقت من الأوقات الخمسة‏.‏

وفي هذا الشهر انعدم وجود القناديل الزجاج وبيع القنديل الواحد الذي كان ثمنه خمسة أنصاف بستين نصفًا إذا وجد‏.‏

واستهل شهر ربيع الثاني بيوم السبت سنة 1233 ووفقه أيضًا أول أمشير القبطي‏.‏

وفي منتصفه سافر أولاد سلطان المغرب والكثير من حجاج المغاربة وكانوا في غاية الكثرة بحيث ازدحمت منهم أسواق المدينة وبولاق وما بينهما من جميع الطرق فكانوا يشترون الأغنام من الفلاحين ويذبحونها ويبيعوها على الناس جزافًا من غير وزن بعد أن يتركوا لأنفسهم مقدار حاجتهم فذهب الكثير لشراء منهم بسبب رداءة اللحم الموجود بحوانيت الجزارين ولو وقف عليهم بالثمن الزائد‏.‏

وفي أواخره حضر مبشر من ناحية الديار الحجازية يخبر بنصرة حصلت لإبراهيم باشا وأنه استولى على بلدة تسمى الشقراء وأن عبد الله بن مسعود كان بها فخرج منها هاربًا إلى الدرعية ليلًا وأن بين عسكر الأتراك والدرعيين مسافة يومين فلما وصل هذا المبشر ضربوا لقدومه مدافع من أبراج القلعة وذلك وقت الغروب من يوم الأربعاء سادس عشرينه‏.‏

واستهل شهر جمادى الأولى بيوم الأحد سنة 1233 فيه نودي على طائفة المخالفين للملة من الأقباط والأروام بأن يلزموا زيهم من الأزرق والأسود ولا يلبسوا العمائم البيض لأنهم خرجوا عن الحد في كل شيء ويتعممون بالشيلان الكشميري الملونة والغالية في الثمن ويركبون الرهوانات والبغال والخيول وأمامهم وخلفهم الخدم بأديدهم العصي يطردون الناس عن طريقهم ولا يظن الرائي لهم إلا أنهم من أعيان الدولة ويلبسون الأسلحة وتخرج الطائفة منهم إلى الخلاء ويعملون لهم نشنبًا يضربون عليه بالبنادق الرصاص وغير ذلك فما أحسن هذا النهي لو دام‏.‏

وفي يوم السبت حادي عشرينه حضر الباشا من غيبته بالإسكندرية أواخر النهار فضربوا لقدومه مدافع فبات بقصر شبرا وطلع في صبحها إلى القلعة فضربوا بها مدافع أيضًا فكانت مدة غيبته بالإسكندرية أربعة أشهر وتسعة أيام‏.‏

وفي أواخره وصل هجان من شرق الحجاز ببشارة بأن إبراهيم باشا استولى على بلد كبير من بلاد الوهابية ولم يبق بينه وبين الدرعية إلا ثمان عشرة ساعة فضربوا شنكًا ومدافع‏.‏

وفيه وصل هجان من حسن باشا الذي بجدة بمراسلة يخبر فيها بعصيان الشريف حمود بناحية يمن الحجاز وأنه حاصر من بتلك النواحي من العساكر وقتلهم ولم ينج منهم إلا القليل وهو من فر على جوائد الخيل‏.‏

ووقع فيه أيضًا الاهتمام في تجريد عساكر للسفر وأرسل الباشا بطلب خليل باشا للحضور من ناحية بحري هو وخلافه وحصل الأمر بقراءة صحيح البخاري بالأزهر فقرئ يومين وفرق على مجاوري الأزهر عشرة أكياس وكذلك فرقت دراهم على أولاد المكاتب‏.‏

واستهل شهر جمادى الثانية سنة 1233 في منتصفه ليلة الثلاثاء حصل خسوف للقمر في سادس ساعة من الليل وكان المنخسف منه مقدار النصف وحصل الأمر أيضًا بقراءة صحيح البخاري بالأزهر‏.‏

وفيه ورد الخبر بموت الشريف حمود وأنه أصيب بجراحة مات بها‏.‏

وفي يوم الثلاثاء تاسع عشرينه حصل كسوف للشمس في ثالث ساعة من النهار وكان وفي ذلك اليوم ضربت مدافع لوصول بشارة من إبراهيم باشا بأنه ملك جانبًا من الدرعية وأن الوهابية محصورون وهو ومن معه من العربان محيطون بهم‏.‏

واستهل شهر شعبان سنة 1233 فيه حضر خليل باشا وحسين بك دالي باشا من الجهة البحرية ونزلوا بدورهم‏.‏

واستهل شهر رمضان بيوم الأحد سنة 1233 في منتصفه وصل نجاب وأخبر بأن إبراهيم باشا ركب إلى جهة من نواحي الدرعية لأمر يبتغيه وترك عرضيه فاغتنم الوهابية غيابه وكبسوا على العرضي على حين غفلة وقتلوا من العساكر عدة وافرة وأحرقوا الجبخانه فعند ذلك قوي الاهتمام وارتحل جملة من العساكر في دفعات ثلاث برًا وبحرًا يتلو بعضهم بعضًا في شعبان ورمضان وبرز عرضي خليل باشا إلى خارج باب النصر وترددوا في الخروج والدخول واستباحوا القطر في رمضان بحجة السفر فيجلس الكثير منهم بالأسواق يأكلون ويشربون ويمرون بالشوارع وبأيديهم أقصاب للدخان والتتن من غير احتشام ولا احترام لشهر الصوم وفي اعتقادهم الخروج بقصد الجهاد وغزو الكفار المخالفين لدين الإسلام وانقضى شهر الصوم والباشا متكدر الخاطر ومتقلق‏.‏

وكان هلاله عسر الرؤية جدًا فحضر جماعة من الأتراك إلى المحكمة وشهدوا برؤيته‏.‏

وفي ذلك اليوم الموافق لثامن عشرة شهر أبيب القبطي أوفى النيل أذرعه فأخروا فتح سد الخليج ثلاثة أيام العيد ونودي بالوفاء يوم الأربعاء وحصل الجمع يوم الخميس رابعه وحضر فتح الخليج كتخدا بك والقاضي ومن له عادة بالحضور فكان جمعًا وازدحامًا عظيمًا من أخلاط العالم في جهة السد والروضة تلك الليلة واشتغلت النار في الحريقة واحترق فيها أشخاص ومات بعضهم‏.‏

وفي سادسه يوم السبت خرج خليل باشا المعين إلى السفر في موكب وشق من وسط المدينة وخرج من باب النصر وعطف على باب الفتوح ورجع إلى داره في قلة من أتباعه في طريقه التي خرج منها‏.‏

وفيه انتدب مصطفى آغا المحتسب ونادى في المدينة ويأمر الناس بقطع أراضي الطرقات والأزقة حتى العطف والحارات الغير النافذة فأخذ أرباب الحوانيت والبيوت يعملون بأنفسهم في قطع الأرض والحفر ونقل الأتربة وحملها من خوفهم من أذيته ولعدم الفعلة والأجراء واشتغال حمير الترابين باستعمالهم في عمائر أهل الدولة فلو كان الاهتمام في قطع أرض الخليج الذي يجري به الماء فإنه لم تقطع أرضه وينقطع جريانه في أيام قليلة لعلو أرضه من الطمي وبما يتهدم عليه من الدور القديمة وما يلقيه على ذلك بهذه الفعلة إلقاء ما يحفرونه وينقلونه من أتربة الأزقة والبيوت القديمة منه فيه ليلًا ونهارًا‏.‏

وفي ثامنه ارتحل خليل باشا مسافرًا إلى الحجاز من القلزم وعساكره الخيالة على طريق البر‏.‏

وفي يوم السبت ثالث عشره نزلوا بكسوة الكعبة إلى المشهد الحسيني على العادة‏.‏

وفي يوم الاثنين ثاني عشرينه عمل الموكب لأمير الحاج وهو حسين بك دالي باشا وخرج بالمحمل خارج باب النصر تجاه الهمائل ثم انتقل في يوم الأربعاء إلى البركة وارتحل منها يوم الاثنين تاسع عشرينه وسافر الكثير من الحجاج وأكثر فلاحي القرى والصعايدة ومن باقي الأجناس مثل المغاربة والقرمان والأتراك أنفار قليلة‏.‏

وفي ذلك اليوم وصل قبجي وعلى يده تقرير لحضرة الباشا على السنة الجديدة وطلع إلى القلعة في موكب وقرئ التقرير بحضرة الجمع وضربت مدافع كثيرة وكذلك وصل قابجي صحبته فرمان بشارة بمولود ولد لحضرة السلطان فعمل له شنك ومدافع ثلاثة أيام في الأوقات الخمسة وذلك في منتصفه‏.‏

واستهل شهر ذي القعدة بيوم الأربعاء سنة 1233 وانقضى والباشا منفعل الخاطر لتأخر الأخبار وطول الانتظار وكل قليل يأمر بقراءة صحيح البخاري بالأزهر ويفرق على صغار المكاتب والفقراء دراهم ولضيق صدره واشتغال فكره لا يستقر بمكان فيقيم بالقلعة قليلًا ثم ينتقل إلى قصر شبرا ثم إلى قصر الآثار ثم الأزبكية ثم الجيزة وهكذا‏.‏

واستهل شهر ذي الحجة الحرام بيوم الجمعة 1233 في سابعه وردت بشائر من شرق الحجاز بمراسلة من عثمان آغا الورداني أمير الينبع بأن إبراهيم باشا استولى على الدرعية والوهابية فانسر الباشا لهذا الخبر سرورًا عظيمًا وانجلى عنه الضجر والقلق وأنعم على المبشر وعند ذلك ضربوا مدافع كثيرة من القلعة والجيزة وبولاق والأزبكية وانتشر المبشرون على بيوت الأعيان لأخذ البقاشيش‏.‏

وفي ثاني عشره وصل المرسوم بمكاتبات من السويس والينبع وذلك قبل العصر فأكثروا من ضرب المدافع من كل جهة واستمر الضرب من العصر إلى المغرب بحيث ضرب بالقلعة خاصة ألف مدفع وصادف ذلك شنك أيام العيد وعند ذلك أمر بعمل مهرجان وزينة داخل المدينة وخارجها وبولاق ومصر القديمة والجيزة وشنك على بحر النيل تجاه الترسخانه ببولاق من النجارين والخراطين والحدادين وتقيد لذلك أمين أفندي المعمار وشرعوا في العمل وحضر كشاف النواحي والأقاليم بعساكرهم وأخرجوا الخيام والصواوين والوطاقات خارج باب النصر وباب الفتوح وذلك يوم الثلاثاء سادس عشرينه ونودي بالزينة وأولها الأربعاء فشرع الناس في زينة الحوانيت والخانات وأبواب الدور ووقود القناديل والسهر وأظهروا الفرح والملاعيب كل ذلك مع ما الناس فيه من ضيق الحال والكد في تحصيل أسباب المعاش وعدم ما يسرجون به من الزيت والشيرج والزيت الحار وكذا السمن فإنه شح وجوده ولا يوجد منه إلا القليل عند بعض الزياتين ولا يبيع الزيات زيادة عن الأوقية وكذلك اللحم لا يوجد منه إلا ما كان في غاية الرداءة من لحم النعاج الهزيل وامتنع أيضًا وجود القمح بالساحل وعرصات الغلة حتى الخبز امتنع وجوده بالأسواق ولما أنهي الأمر إلى من لهم ولاية الأمر فأخرجوا من شون الباشا مقدارًا ليباع في الرقع وقد أكلها السوس ولا يباع منها أزيد من الكيلة أكثرها مسوس وكذلك لما شكا الناس من عدم ما يسرج به في القناديل أطلقوا للزياتين مقدار من الشيرج في كل يوم يباع في الناس لوقود الزينة وفي كل يوم يطوف المنادي ويكرر المناداة بالشوارع على الناس بالسهر والوقود والزينة وعدم غاق الحوانيت ليلًا ونهارًا وانقضى العام بحوادثه ومعظمها مستمر‏.‏

فمنها وهو أعظمها شدة الأذية والضيق خصوصًا بذوي البيوت والمساتير من الناس بسبب قطع إيرادهم وأرزاقهم من الفائظ والجامكية السائرة والرزق الأحباسية وضبط الأنوال التي تقدم ذكرها وكان يتعيش منها ألوف من العالم ولما اشتد الضنك بالملتزمين وتكرر عرضحالهم فأمر لهم بصرف الثلث وتحول المصرفجي على بعض الجهات فكان كلما اجتمع لديه قدر يلحقه الطلب بحوالة من لوازم عساكر السفر المجردين وانقضى العام وأكثر الناس لم يحصل على شيء وذلك لكثرة المصاريف والإرساليات من الذخائر والغلال والمؤن وخزائن المال من أصناف خصوص الريال الفرانسه والذهب البندقي ولمحبوب الإسلامي بالأحمال وهي الأصناف الرائجة بتلك النواحي وأما القروش فلا رواج لها إلا بمصر وضواحيها فقط أخبرني أحد أعيان كتاب الخزينة عن أجرة حمل الذخيرة على جمال العرب خاصة في مرة من المرات خمسة وأربعين ألف فرانسه وذلك من الينبع إلى المدينة حسابًا عن أجرة كل بعير ستة فرانسه يدفع نصفها أمير الينبع والنصف الأخير يدفعه أمير المدينة عند وصول ذلك ثم من المدينة إلى الدرعية ما يبلغ المائة والأربعين ألف فرانسه وهو شيء مستمر التكرر والبعوث ويحتاج إلى كنوز قارون وهامان وإكسير جابر بن حيان‏.‏

ومنها العمارة التي أمر بإنشائها الباشا المشار إليه بين السورين وحارة النصارى المعروفة بخميس العدس المتوصل منها إلى جهة الخرنفش وذلك بإشارة أكابر نصارى الإفرنج ليجتمع بها أرباب الصنائع الواصلون من بلاد الإفرنج وغيرهم وهي عمارة عظيمة ابتدؤا فيها ممن العام الماضي واستمروا مدة في صناعة الآلات الأصولية التي يصطنع بها اللوازم مثل السندالات والمخارط للحديد والقواديم والمناشير والتزجات ونحو ذلك وأفردوا لكل حرفة وصناعة مكانًا وصناعًا يحتوي المكان على الأنوال والدواليب والآلات الغريبة الوضع والتركيب لصناعة القطن وأنواع الحرير والأقمشة والمقصبات‏.‏

وفي أواخر هذا العام جمعوا مشايخ الحارات وألزموهم بجمع أربعة آلاف غلام من ألاد البلد ليشتغلوا تحت أيدي الصناع ويتعلموا ويأخذوا أجرة يومية ويرجعوا لأهاليهم أواخر النهار فمنهم من يكون له القرش والقرشان والثلاثة بحسب الصناعة وما يناسبها وربما احتيج إلى نحو العشرة آلاف غلام بعد إتمامها والمحتاج إليه في هذا الوقت القدر المذكور وهي كرخانه عظيمة صرف عليها مقادير عظيمة من الأموال‏.‏

ومنها أنه ظهر بأراضي الأرز بالبحر الشرقي ناحية دمياط حيوان يخرج من البحر الشرقي في قدر الجاموس العظيم ولونه فيرعى الفدان من الزرع ثم يتقايا أكثره وكان ظهوره من العام الماضي فيجتمع عليه الكثير من أهل الناحية ويرجمونه بالحجارة ويضربون عليه بنادق الرصاص فلا تؤثر في جلده ويهرب إلى البحر واتفق أنه ابتلع رجلًا إلى أن أصيب في عينه وسقط وتكاثر عليه وقتلوه وسلخوا جلده وحشوه تبنًا وأتوا به إلى بولاق وتفرج عليه الباشا والناس وأخبرني غير واحد ممن رآه أنه أعظم من الجاموس الكبير طوله ثلاثة عشر قدمًا ولونه وجلده أملس ورأسه عظيم يشبه رأس ابن عرس وعيناه في أعلى دماغه واسع الفم وذنبه مثل ذنب السمك وأرجله غلاظ مثل أرجل الفيل في أواخرها أربع ظلوف طوال وأسفلها كخف الجمل وأدخلوه إلى بيت الإفرنج وأنعم به الباشا على بغوص الترجمان الأرمني وهو يبيعه على الإفرنج بثمن كبير‏.‏

ومنها أن امرأة يقال لها الشيخة رقية تتزر بمئزر أبيض وبيدها خيزرانة وسبحة تطوف على بيوت الأعيان وتقرأ وتصلي وتذكر على السبحة ونساء الأكابر يعتقدون فيها الصلاح ويسألن منها الدعاء وكذلك الرجال حتى بعض الفقهاء وتجتمع على الشيخ العالم المعتقد الشيخ تعيلب الضرير ويكثر من مدحها للناس فيزدادون فيها اعتقادًا ولها بمنزل خليل بك طوقان النابلسي مكان مفرد تأوي إليه على حدتها وإذا دخلت بيتًا من البيوت قام إليها الخدم واستقبلوها بقولهم نهارنا سعيد ومبارك ونحو ذلك وإذا دخلت على الستات قمن إليها وفرحن بقدومها وقبلن يدها وتبيت معهن ومع الجواري فذهبت يومًا إلى دار الشيخ عبد العليم الفيومي وذلك في شهر شوال فتمرضت أيامًا وماتت فضجوا وتأسفوا عليها وأحبوا تغيير ما عليها من الثياب فرأوا شيئًا معجر ما بين أفخاذها فظنوه صرة دراهم وإذا هو آلة الرجال الخصيتان والذي فوقهما فبهت النساء وتعجبن وأخبروا الشيخ تعيلب بذلك فقال استروا هذا الأمر وغسلوه وكفنوه وواروه في التراب ووجدوا في جيبه مرآة وموسى وملقاطًا وشاع أمره واشتهر وتناقله الناس بالتحدث والتعجب‏.‏

ومنها زيادة النيل في هذا العام الزيادة المفرطة التي لم تسمع ولم نر مثلها حتى غرق الزروع الصيفية مثل الذرة والنيلة والسمسم والقصب والأرز وأكثر الجنائن بحيث صار البحر وسواحله والملق لجة ماء وانهدم بسببه قرى كثيرة وغرق الكثير من الناس والحيوان حتى كان الماء ينبع بين الناس من وسط الدور واختلط بحر الجيزة ببحر مصر العتيقة حتى كانت المراكب تمشي فوق جزيرة الروضة وكثر عويل الفلاحين وصراخهم على ما غرق لهم من المزارع وخصوصًا الذرة الذي هو معظم قوتهم وكثير من أهل البلاد ندبوا بالدفوف‏.‏

ومنها أن الباشا زاد في هذه السنة الخراج وجعل على كل فدان ستة قروش وسبعة وثمانية وذكر أنها مساعدة على حروب الحجاز والخوارج فدهي الفلاحون بهاتين الداهيتين وهي زيادة النيل وزيادة الخراج في غير وقت وأوان فإن من عادة الفلاحين وأهل القرى إذا انقضت أيام الحصاد والدراوي وشطبوا ما عليهم من مال الخراج لملتزميهم ويكون ذلك مبادي زيادة النيل وارتفع عنهم الطلب وارتحلت كشاف النواحي وقائمقام الملتزمين والصيارف والعينون وخلت النواحي منهم فعند ذلك ترتاح نفوسهم وتجتمع حواسهم ويعملون أعراسهم ويجدون ملبوسهم ويزوجون بناتهم ويختنون صبيانهم ويشيدون بنيانهم ويصلحون جسورهم وحبوسهم فإذا أخذ النيل في الزيادة شرعوا في زراعة الصيفي الذي هو معظم قوتهم وكسبهم حتى إذا انحسر الماء وانكشفت الأراضي وآن أوان التحضير وزراعة الشتوي من البرسيم والغلة وجدوا ما يسدون به مال التجهية وما يرقعون به أحوالهم من بهائم الحرث ومحاريث وتقاوي وأجر عمال ونحو ذلك فدهموا هذه السنة بهاتين الآفتين الأرضية والسماوية ورحل الكثير عن أهله ووطنه وكان ابتداء طلب هذه الزياجة قبل زيادة النيل ومجيء خبر النصرة فلما ورد خبر النصرة لم يرتفع ذلك‏.‏

ومنها الاضطراب في المعاملة بالزيادة والنقص والمناداة عليها كل قليل والتنكيل والترك وبلغ الصرف البندقي ثمانمائة وثمانين نصفًا فضة والفرانسة أربعمائة نصف وعشرة والمحبوب أربعمائة وأربعين وهو المصري وأما الإسلامبولي فيزيد أربعين والمجر ثمانمائة نصف وأما هذه الأنصاف وهي الفضة العددية فهي أسماء من غير مسميات لمنعها واحتكارها فلا يوجد منها في المعاملة بأديد الناس إلا النادر جدًا ولا يوجد بالأيدي في محقرات الأشياء وغيرها إلا المجزأ بالخمسة والعشرة والعشرين وتصرف من اليهود والصيارف بالفرط والنقص ومن حصل بيده شيء من الأنصاف عض عليه بالنواجذ ولا يسمح بإخراج شيء منها إلا عند شدة الاضطرار اللازم‏.‏

ومنها أن السيد محمد المحروقي أنشأ ببركة الرطلي دار وبستانًا في محل الأماكن التي تخربت في الحوادث وذلك أنه لما طرقت الفرنساوية الديار المصرية واختل النظام وجلا أكثر الناس عن أوطانهم وخصوصًا سكان الأطراف فبقيت دور البركة خالية من السكان وكان بها عدة من الديار الجليلة منها حسن كتخدا الشعراوي وتابعه عمر جاويش وداره على سمته أيضًا ودار علي كتخدا الخربطلي ودار قاضي البهار ودار سليمان آغا ودار الحموي وخلاف ذلك دور كانت جارية في وقف عثمان كتخدا القازدغلي وغيره وهذه الدور هي التي أدركناها بل سكنا بها عدة سنين وكانت في الزمن الأول عدة دور مختصرة يسكنها أهل الرفاهية من أهالي البلد وكان بها بيت البكرية القديم بالناحية الجنوبية تجاه زاوية جدهم الشيخ جلال الدين البكري وكان الناس يرغبون في سكناها لطيب هوائها وانكشاف الريح البحري بها وليس في تجاهها من البر الآخر سوى الأشجار والمزارع ويعبرها المراكب والسفائن والقنج في أيام النيل بالمتفرجين والمتنزهين وأهل الخلاعة بمزامرهم ومغانيهم ولصدى أصواتهم المطربة طرب آخر فلما انقشع عنها السكان تداعت الدور إلى الخراب وبقيت مسكنًا للبوم والغراب مدة إقامة الفرنساوية فلما حضر يوسف باشا الوزير في المرة الأولى وذلك سنة أربع عشرة ومائتين وألف وانتقض الصلح بينه وبين الفرنساوية وحصلت المفاقمة ووقعت الحروب داخل البلدة واحتاطت الفرنساوية بجهات البلد وجرى ما تقدم ذكره في الحوادث السابقة وكان طائفة من الفرنساوية أتوا إلى هذه البركة وملكوا التل المعروف بتل أبو الريش وأخذوا يرمون بالمدافع والقنابر على أهل باب الشعرية وتلك النواحي فما انجلت الحروب حتى خربت بيوت البركة وما كان بتلك النواحي من الدور التي بظاهرها وبقيت كيمانًا فحسن ببال السيد المذكور أن يجعل له سكنًا هناك فاحتكر أراضي تلك المساكن من أربابها من مدة سابقة ثم تكاسل عن ذلك واشتغل بتوسعة دار سكنه التي بخطة الفحامين محل دكة الحسبة القديمة حتى أتمها على الوضع الذي قصده ثم شرع في السنة الماضية في إنشاء سكن لخصوص نزاهته فشرع في تنظيف الأتربة وإصلاح الأرض وأنشأ دار متسعة وقيعانًا وفسحات وهي مفروشة بالرخام وحولها بستان وغرس به أنواع الأشجار ودوالي الكروم وهي بمكان حسن كتخدا ومن كان على سمته من الدور نحو الثلاثين وأنشأ كاتبه السيد عمر الحسيني دارًا عظيمة لخصوصه أخذ فيها باقي أراضي الأماكن وزخرفها وانتقل إليها بأهله وعياله وجعلها دارًا لسكناه صيفًا وشتاء وبنيا خارج ظاهرها حائطًا يكون لدورهما سورًا وعملا بها بوابة تفتح وتقفل وكان بجوار ذلك جامع متخرب يسمى جامع الحريشي فعمره أيضًا السيد محمد المحروقي وأقام حوائطه وأعمدته وسقفه وبيضه وأقام الخطبة آخر جمعة شهر المحرم وأما من مات في هذه السنة ممن له ذكر‏.‏

فمات شيخ الإسلام وعمدة الأنام الفقيه العلامة والنحرير الفهامة الشيخ محمد الشنواني نسبة إلى شنوان الغرف الشافعي الأزهري شيخ الجامع الأزهر من أهل الطبقة الثانية الفقيه النحوي المعقولي حضر الأشياخ أجلهم الشيخ فارس وكالصعيد والدردير والفرماوي وتفقه على الشيخ عيسى البراوي ولازم دروسه وبه تخرج وأقرأ الدروس وأفاد الطلبة بالجامع المعروف بالفاكهاني بالقرب من دار سكناه بخشقدم مهذب النفس مع التواضع والانكسار والبشاشة لكل واحد من الناس ويشمر ثيابه ويخدم بنفسه ويكنس الجامع ويسرج القناديل ولما توفي الشيخ عبد الله الشرقاوي اختاروه للمشيخة فامتنع وهرب إلى مصر العتيقة بعدما جرى ما تقدم ذكره من تصدر الشيخ محمد المهدي فأحضروه قهرًا عنه وتلبس بالمشيخة مع ملازمته لجامع الفاكهاني كعادته وأقبلت عليه الدنيا فلم يتهنأ بها واعترته الأمراض وتعلل بالزخير أشهرًا ثم عوفي ثم بآخره بالبرودة وانقطع بالدار كذلك أشهرًا ولم يزل منقطعًا حتى توفي يوم الأربعاء رابع عشري المحرم وصلي عليه بالأزهر في مشهد عظيم ودفن بتربة المجاورين وله تآليف منها حاشية جليلة على شرح الشيخ عبد السلام علي الجوهرة مشهورة بأيدي الطلبة وكان يجيد حفظ القرآن ويقرأ مع فقهاء الجوقة في الليالي وتقلد المشيخة بعده الشيخ العلامة السيد محمد ابن شيخنا الشيخ أحمد العروسي من غير منازع وبإجماع أهل الوقت ولبس الخلع من بيوت الأعيان مثل البكري ومات العمدة الشيخ محمد بن أحمد بن محمد المعروف هو بالدواخلي الشافعي ويقال له السيد محمد لأن أباه تزوج بفاطمة بنت السيد عبد الوهاب البرديني فولد له المترجم منها ومنها جاءه الشرف وهم من محلة الداخل بالغربية وولد المترجم بمصر وتربى في حجر أبيه وحفظ القرآن واجتهد في طلب العلم وحضر الأشياخ من أهل وقته كالشيخ محمد عرفة الدسوقي والشيخ مصطفى الصاوي وخلافه من أشياخ هذا العصر ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي في فقه مذهبه وغيره من العقولات ملازمة كلية وانتسب له وصار من أخص تلامذته ولما مات السيد مصطفى الدمنهوري الذي كان بمنزلة كتخداه قام مقامه واشتهر به وأقرأ الدروس الفقهية والمعقولية وحف به الطلبة وتداخل في قضايا الدعاوي والمصالح بين الناس واشتهر ذكره وخصوصًا أيام الفرنساوية حين تقلد شيخه رآسة ديوانهم وانتفع في أيامهم انتفاعًا عظيمًا من تصديه لقضايا نساء الأمراء المصرية وغيرهم ومات والده فأحرز ميراثه وكذلك لما قتل عديله الحاج مصطفى البشتيلي في الحرابة ببولاق لا عن وارث فاستولى على تعلقاته وأطيانه وبستانه التي ببشتيل واتسع حاله واشترى العبيد والجواري والخدم ولما ارتحل الفرنساوية ودخلها العثمانيون انطوى إلى السيد أحمد المحروقي لأنه كان يراسله سرًا بالأخبار حين خرج مع العثمانيين في الكسرة إلى الشام فلما رجع فراعاه وراشاه ونوه بذكره عند أهل الدولة وفي أيام الأمراء المصريين حين رجعوا إلى مصر بعد قتل طاهر باشا في سنة ثمان عشرة واحتوى على رزق وأطيان وحصص التزام ولبس الفراوي بالأقية وركب البغال وأحدق به الأشياخ والأتباع وعنده ميل عظيم للتقدم والرياسة ولا يقنع بالكثير ولما وقع ما وقع في ولاية محمد علي باشا وانفرد السيد عمر أفنجي في الرياسة وصار بيده مقاليد الأمور ازداد به الحسد فكان هو من أكبر الساعين عليه سرًا مع المهدي وباقي الأشياخ حتى أوقعوا به وأخرجه الباشا من مصر كما تقدم فعند ذلك صفا لهم الوقت وتقلد المترجم النقابة بعد موت الشيخ محمد بن وفأ وركب الخيول ولبس التاج الكبير ومشت أمامه الجاويشية والمقدمون وأرباب الخدم وازدحم بيته بأرباب الدعاوي والشكاوي وعمر دار سكنهم القديمة بكفر الطماعين وأدخل فيها دورًا وأنشأ تجاهها مسجدًا لطيفًا وجعل فيه منبرًا وخطبة وعمر دارًا ببركة جناق وأسكنها إحدى زوجاته وداخله الغرور وظن أن الوقت قد صفا له فأول ما ابتدأه به الدهر من نكباته أن مات ولده أحمد وكان قد ناهز البلوغ ولم يكن له من الأولاد الذكور غيره فوجد عليه وجدًا شديدًا حتى كان يتكلم بكلام نقمه الناس عليه وعمل ميتمًا ودفنه بمسجده تجاه بيته وعمل عليه مقامًا ومقصورة مثل المقامات التي تقصد للزيارة وكان موته في منتصف سنة تسع وعشرين ووقعت حادثة قومة العسكر على الباشا في أواخر شهر شعبان من السنة المذكورة والمترجم إذ ذاك من أعيان الرؤوس يطلع وينزل في كل ليلة إلى القلعة ويشار إليه ويحل ويعقد في قضايا الناس ويسترسل معه الباشا كما تقدم ذكر ذلك وداخله الغرور الزائد ولقد تطاول على كبار الكتبة الأقباط وغيرهم ويراجع الباشا في مطالبه بعد انقضاء الفتنة إلى أن ضاق صدر الباشا منه وأمر بإخراجه ونفيه إلى دسوق وذلك في سنة إحدى وثلاثين فأقام بها أشهرًا ثم توجه بشفاعة السيد المحروقي إلى المحلة الكبرى فلم يزل بها متقلق الحواس منحرف المزاج متكدر الطبع وكل قليل يراسل اليد المحروقي في أن يشفع فيه عند الباشا ليأذن له في الحج مرة يحتج بالمرض ليموت في داره فلم يؤذن له في شيء من ذلك ولم يزل بالمحلة حتى توفي في منتصف شهر ربيع الأول من السنة ودفن هناك وكان رحمه الله يميل إلى الرياسة طبعًا وفيد حدة مزاج وهي التي كانت سببًا لموته بأجله رحمه الله تعالى وإيانا‏.‏

ومات الصدر المعظم والدستور المكرم الوزير طاهر باشا ويقال أنه ابن أخت محمد علي باشا وكان ناظرًا على ديوان الكمرك ببولاق وعلى الخمامير ومصارفه من ذلك وشرع في عمارة داره التي بالأزبكية بجوار بيت الشرايبي تجاه جامع أزبك على طرف الميري وهي في الأصل بيت المدني ومحمود حسن واحترق منه جانب ثم هدم أكثرهما وخرج بالجدار إلى الرحبة وأخذ منها جانبًا وأخل فيه بيت رضوان كتخدا الذي يقال له ثلاثة ولية تسمية له باسم العامودين الرخام الملتفين على مكسلتي الباب الخارج وشيد البناء بخرجات في العلو متعددة وجعل بابه مثل باب القلعة ووضع في جهتيه العامودين المذكورين وصارت الدار كأنها قلعة مشيدة في غاية من الفخامة فما هو إلا أن قارب الإتمام وقد اعتراه المرض فسافر إلى الإسكندرية بقصد تبديل الهواء فأقام هناك أيامًا وتوفي في شهر جمادى الثانية وأحضروا رمته في أواخر الشهر ودفنوه بمدفنه الذي بناه محل بيت الزعفراني بجوار السيدة بقناطر السباع وترك ابنًا مراهقًا فأبقاه الباشا على منصب أبيه ونظامه وداره‏.‏

ومات الأمير أيوب كتخدا الفلاح وهو مملوك الأمير مصطفى جاويش تابع صلاح الفلاح وكان آخر الأعيان المبجلين من جماعة الفلاح المشهورين وله عزوة وأتباع وبيته مفتوح للواردين ويحب العلماء والصلحاء ويتأدب معهم وكان الباشا يجله ويقبل شفاعته وكذلك أكابر الدولة في كل عصر وعلى كل حال كان لا بأس به توفي يوم الأربعاء لعشرين من شهر شعبان وقد جاوز سبعين رحمه الله تعالى‏.‏ واستهلت

سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف

واستهل المحرم بيوم السبت وسلطان الإسلام السلطان محمود شاه ابن عبد الحميد بدار سلطنته إسلامبول وولي مصر وحاكمها محمد علي باشا القوللي وكتخداه وباقي أرباب المناصب على حالهم وما هم عليه في العام الماضي‏.‏

ووردت الأخبار من شرق الحجاز والبشائر بنصرة حضرة إبراهيم باشا على الوهابية قبل استهلال السنة بأربعة أيام فعند ذلك نودي بزينة المدينة سبعة أيام أولها الأربعاء سابع عشري الحجة ونصبت الصواوين خارج باب النصر عند الهمايل وكذلك صيوان الباشا وباقي الأمراء والأعيان خرجوا بأسرهم لعمل الشنك والحرائق وأخرجوا من المدافع مائة مدفع وعشرة وتماثيل وقلاعًا وسواقي وسواريخ وصورًا من بارود وبدءوا في عمل الشنك من يوم الأربعاء فيضربون بالمدافع مع رماحة الخيالة من أول النهار مقدار ساعة زامنية وربع قريبًا من عشرين درجة ضربًا متتابعًا لا يتخلله سكون على طريقة الإفرنج في الحروب بحيث أنهم يضربون المدفع الواحد اثنتي عشرة مرة وقيل أربع عشرة مرة في دقيقة واحدة فعلى هذا الحساب يزيد ضرب المدافع في تلك المدة على ثمانين ألف مدفع بحيث يتخيل الإنسان أصواتها مع أصوات بنادق الخيالة المترمحين رعودًا هائلة ورتبوا المدافع أربعة صفوف ورسم الباشا أن الخيالة ينقسمون كذلك طوابير ويكمنون في الأعالي ثم ينزلون مترامحين وهم يضربون بالبنادق ويهجمون على المدافع في حال اندفاعها بالرمي فمن خطف شيئًا من أدوات الطبجية الرماة يأتي به إلى الباشا ويعطيه البقشيش والأناعم فمات بسبب ذلك أشخاص وسواس ويكون مبادئ نهاية وقوف الخيالة نهاية محط جلة المدفع فإنهم عند طلوع الفجر يضربون مدافع معمورة بالجلل بعدد الطوابير فتستعد الخيالة ويقف كل طابور عند مرمى جلته ويأخذون أهبتهم من ذلك الوقت إلى بعد شروق الشمس ويبتدؤن في الرمي والرماحة الحصة المذكورة وبعد العشاء خيرة لا يعمل كذلك الشنك برمي المدافع المتتالية المختلطة أصواتها بدون الرماحة ومع المدافع الحراقة والنفوط والسواريخ التي تصعد في الهواء وفيها من خشب الزان بدل القصب وكرنجة بارودها أعظم من تلك بحيث أنها تصعد من الأسفل إلى العلو مثل عامود النار وأشياء أخر لم يسبق نظائرها تفنن في عملها الإفرنج وغيرهم وحول محل الحراقة حلقة دائرة متسعة حولها ألوف من المشاعل الموقدة وطلبوا لعمل أكياس بارود المدافع مائتي ألف ذراع من القماش البز وكان راتب الأرز الذي يطبخ في القزانات في عراضي العساكر في كل يوم أربعمائة أردب وما يتبعها من السمن وهذا خلاف مطابخ الأعيان وما يأتيهم من بيوتهم من تعابي الأطعمة وغيرها واستمر هذا الضرب والشنك إلى يوم الثلاثاء رابع المحرم وأهل البلد ملازمون للسهر والزينة على الحوانيت والدور ليلًا ونهارًا وتكرار المناداة عليهم في كل يوم وركب حضرة الباشا وتوجه إلى داره بالأزبكية وهدمت الصواوين والخيام وبطل الرمي ودخلت العساكر والبينبات بمتاعهم وعازتهم أفواجًا إلى المدينة وذهبوا إلى دروهم ورفع الناس الزينة وكان معظمها حيث مساكن الإفرنج والأرمن فإنهم تفننوا في عمل التصاوير والتماثيل وأشكال السرج والفنيارات الزجاج والبلور وأشكال النجف ومعظمها في جهات المسلمين بخان الخليلي والغورية والجمالية وببعض الأماكن والخانات ملاهي وآغاني وسماعات وقيان وجنك رقاصات هذا والتهيؤ والأشغال والاستعداد لعمل الدونانمه على بحر النيل ببولاق فصنعوا صورة قلعة بأبراج وقباب وزوايا وأنصاف دوائر وخورنقات وطيقان للمدافع وطلوها وبيضوها ونقشوها بالألوان والأصباغ وصورة باب مالطة وكذلك صورة بستان على سفائن وفيه الطين ومغروس به الأشجار ومحيط به درابزين مصبغ وبه دوالي العنب وأشجار الموز والفاكهة والنخيل والرياحين في قصارى لطيفة على حافاته وصورة عربة يجرها أفراس وبها تماثيل وصور جالسين وقائمين وتمثال مجلس وبه جنك رقاصات من تماثيل مصورة تتحرك بآلات ابتكار بعض المبتكرين لأن كل من تخيل بفكره شيئًا ملعوبًا أو تصويرًا ذهب إلى الترسخانه حيث الأخشاب والصناع فيعمله على طرف الميري حتى يبرزه في الخارج ويأخذ على ابتكاره البقشيش وأكثرها لخصوص الحراقات والنفوط والبارود والسواريخ وغير ذلك وبعد انقضاء السبعة أيام المذكورة حصل السكون من يوم الثلاثاء المذكور إلى يوم الأحد التالي له من الجمعة الأخرى مدة خمسة أيام في أثنائها اجتهد الناس من الأعيان وكل من له اسم من أكابر الناس وأهل الدائرة والأفندية الكتبة حتى الفقهاء أرباب المناصب والمظاهر ومشايخ الإفتاء والنواب والمتفرجين في نصب الخيام بحافتي النيل واستأجروا الأماكن المطلة على البحر ولو من البعد وتنافسوا واشتط أربابها في الأجرة حتى بلغ أجرة حفر طبقة بمثل وكالة الفسيخ إلى خمسمائة قرش وزيادة وكان الباشا أمر بإنشاء قصر لخصوص جلوسه بالجزيرة تجاه بولاق قبلي قصر ابنه إسماعيل باشا وتمموا بياضه ونظامه في هذه المدة القليلة فلما كان ليلة الاثنين وهو يوم عاشوراء خرج الباشا من ليلته وعدى إلى القصر المذكور وخرج أهل الدائرة والأعيان إلى الأماكن التي استأجروها وكذلك العامة أفواجًا وأصبح يوم الاثنين المذكور فضربت المدافع الكثيرة لتي صففوها بالبرين وزين أهالي بولاق أسواقهم وحوانيتهم وأبواب دورهم ودقت الطبول والمزامير والنقرزانات في السفائن وغيرها وطبلخانة الباشا تضرب في كل وقت والمدافع الكثيرة في ضحوة كل يوم وعصره وبعد العشاء كذلك وتوقد المشاعل وتعمل أصناف الحراقات والسواريخ والشعل وتتقابل القلاع المصنوعة على وجه الماء ويكون منها المدافع على هيئة المتحاربين وفيها فوانيس وقناديل وهيئة باب مالطه بوابة مجسمة مقوصرة لها بدنات ويرى بداخلها سرج وشعل ويخرج منها حراقات وسواريخ وغالب هذه الأعمال من صناعة الإفرنج وأحروا سفائن رومية صغيرة تسمى الشلنبات يرمي منها مدافع وشنابر وشيطيات وغلايين مما يسير في البحر المالح وفي جميعها وقدات وسرج وقناديل وكلها مزينة بالبيارق الحرير والأشكال المختلفة الألوان ودبوس أوغلي ببولاق التكرور وعنده أيضًا الحراقات الكثيرة والشعل والمدافع والسواريخ وبالجيزة عباس بك بن طوسون باشا والنصارى الأرمن بمصر القديمة وبولاق والإفرنج وأبرز الجميع زينتهم وتماثيلهم وحرائقهم وعند الأعيان حتى المشايخ في القنج والسفائن المعدة للسروج والتفرج والنزاهة والخروج عن الأوضاع الشرعية والأدبية واستمروا على ما ذكر إلى يوم الاثنين سابع عشره‏.‏

وفي ذلك اليوم وصل عبد الله بن مسعود الوهابي ودخل من باب النصر وصحبته عبد الله بكتاش قبطان السويس وهو راكب على هجين وبجانبه المذكور وأمامه طائفة من الدلاة فضربوا عند دخوله مدافع كثيرة من القلعة وبولاق وخلافهما وانقضى أمر الشنك وخلافه من ساحل النيل وبولاق ورفعوا الزينة وركب الباشا إلى قصر شبرا في تلك السفينة وانفض الجمع وذهبوا إلى دورهم وكان ذلك من أغرب الأعمال التي لم يقع نظيرها بأرض مصر ولا ما يقرب من ذلك ومطبخ الميري يطبخ به الأرز على النسق المتقدم والأطعمة ويؤتى لأرباب المظاهر منها في وجبتي الغداء والعشاء خلاف المطابخ الخاصة بهم وما يأتيهم من بيوتهم وأما العامة والمتفرجون من الرجال والنساء فخرجوا أفواجًا وكثر زحامهم في جميع الطرق الموصلة إلى بولاق ليلًا ونهارًا بأولادهم وأطفالهم ركبانًا ومشاة وقد ذهب في هاتين الملعبتين من الأموال ما لا يدخل تحت الحصر وأهل الاستحقاق يتلظون من الفشل والتفليس مع ما هم فيه من غلاء الأسعار في كل شيء وانعدام الأدهان وخصوصًا السمن والشيرج والشحم فلا يوجد من ذلك الشيء اليسير إلا بغاية المشقة ويكون على حانوت الدهان الذي يحصل عنده بعض السمن شدة الحام والصياح ولا يبيع بأزيد من خمسة أنصاف وهي أوقية اثنا عشر درهمًا بما فيها من الخلط وأعوان المحتسب مرصدون لمن يرد من الفلاحين والمسافرين بالسمن فيحجزونه لمطالب الدولة ومطابخهم ودورهم في هذه الولائم والجمعيات ويدفع لهم ثمنه على موجب التسعيرة ثم يوزع ما يوزعه وهو الشيء القليل على المتسببين وهم يبيعونه على هذه الحالة ومثل ذلك الشيرج وخلافه حتى الجبن القريش‏.‏

وفيه وصل عبد الله الوهابي فذهبوا إلى بيت إسماعيل باشا بن الباشا فأقام يومه وذهبوا به في صبحها عند الباشا بشبرا فلما دخل عليه قام له وقابله بالبشاشة وأجلسه بجانبه وحادثه وقال له ما هذه المطاولة فقال الحرب سجال قال وكيف رأيت إبراهيم باشا قال ما قصر وبذل همته ونحن كذلك حتى كان ما كان قدره المولى فقال أنا إن شاء الله تعالى أترجى فيك عند مولانا السلطان فقال المقدر يكون ثم ألبسه خلعة وانصرف عنه إلى بيت إسماعيل باشا ببولاق ونزل الباشا في ذلك اليوم السفينة وسافر إلى جهة دمياط وكان بصحبة الوهابي صندوق صغير من صفيح فقال له الباشا ما هذا فقال هذا ما أخذه أبي من الحجرة أصحبه معي إلى السلطان وفتحه فوجد به ثلاثة مصاحف قرآنًا مكلفة ونحو ثلاثمائة حبة لؤلؤ كبار وحبة زمرد كبيرة وبها شريط ذهب فقال له الباشا الذي أخذه من الحجرة أشياء كثيرة غير هذا فقال هذا الذي وجدته عند أبي فإنه لم يستأصل كل ما كان في الحجرة لنفسه بل أخذ كذلك كبار العرب وأهل المدينة وأغوات الحرم وشريف مكة فقال الباشا صحيح وجدنا عند الشريف أشياء من ذلك‏.‏

وفي يوم الأربعاء تاسع عشره سافر عبد الله بن مسعود إلى جهة الإسكندرية وصحبته جماعة من الططر إلى دار السلطنة ومعه خدم لزومه‏.‏

واستهل شهر صفر بيوم الاثنين سنة 1234 في ثالثه وصل طائفة من الحجاج المغاربة يوم الأربعاء وصحبتهم حجاج كثيرة من الصعائدة وأهل القرى فدخلوا على حين غفلة وكان الرئيس فيهم شخص من كبار عرب أولاد علي يسمى الحبالي وهذا لم يتفق نظيره فيما وعيناه وسببه أمن الطريق وانكماش العربان وقطاع الطريق‏.‏

وفيه أخبر المخبرون بأن الباشا أقام بدمياط أيامًا قليلة ثم توجه إلى البرلس ويزل في نقيرة وذهب إلى الإسكندرية على ظهر البحر المالح وقد استعد أهلها بقدومه وزينوا البلد والذي تولى الاعتناء بذلك طائفة الفرنج فإنهم نصبوا طريقًا من باب البلد إلى القصر الذي هو سكن الباشا وجعلوا بناحيتيه يمنى ويسرى أنواع الزينة والتماثيل والتصاوير والبلور والزجاج والمرايات وغير ذلك من البدع البديعة الغريبة‏.‏

وفي غايته وصل الحاج المصري ودخلوا إرسالًا شيئًا فشيئًا ومنهم من دخل ليلًا وخصوصًا ليلة الاثنين وفي صبحه دخل حسن باشا أرنؤد الذي كان مقيمًا بجدة وفي ذلك اليوم دخل بواقي الحجاج إلى منازلهم‏.‏

واستهل شهر ربيع الأول بيوم الثلاثاء سنة 1234 في صبحه دخلوا بالمحمل المدينة وأكثر الناس لم يشعر بدخوله وهذا لم يتفق فيما نعلم تأخر الحاج إلى شهر ربيع الأول‏.‏

وفي ليلة الثلاثاء ثامنه احترق سوق الشرم والجملون الكائن أسفل جامع الغورية بما فيه ن الحوانيت وبضائع التجار والأقمشة الهندية وخلافها فظهرت به النار من بعد العشاء الأخيرة فحضر الوالي وآغات التبديل فوجدوا الباب الذي من جهة الغورية مغلقًا من داخل وكذلك الباب الذي من الجهة الأخرى وهما في غاية المتانة فلم يزالوا يعالجون فتح الباب بالعتالات والكسر إلى بعد نصف الليل والنار عمالة من داخل وهرب الخفير واحترق ليوان الجامع البراني والدهليز وأخذوا في الهدم وصب المياه بآلات القصارين مع صعوبة العمل بسبب علو الحيطان الشاهقة والأخشاب العظيمة والأحجار الهائلة والعقود فلم يخمد لهب النار إلا بعد حصة من النهار وسرحت النار في أخشاب الجامع التي بداخل البناء ولم يزل الدخان صاعدًا منها وسقطت الشبابيك النحاس العظام وبقيت مفتتة ومكلسة واستمر العلاج في إطفاء الدخان ثلاثة أيام ولولا لطف المولى وتأخير فتح الباب لكونه مصفحًا بالحديد فلم تعمل فيه النار فهو لم يكن كذلك لاحترق وسرحت النار إلى الحوانيت الملاصقة به وهي كلها أخشاب ويعلوها سقائف أخشاب كذلك ومن فوق الجميع السقيفة العظيمة الممتدة على السوق من أوله إلى آخره وهي في غاية العلو والارتفاع وكلها أخشاب وحجة وسهوم وبراطيم من أعلى ومن أسفل لحملها من الجهتين ومن ناحيتها الرباع والوكائل والدور وحيطان الجميع من الحجة والأخشاب العتيقة التي تشتعل بأدنى حرارة فلو وصلت النار والعياذ بالله تعالى إلى هذه السقيفة لما أمكن إطفاؤها بوجه وكان حريقًا دوميًا ولكن الله سلم‏.‏

وفي يوم السبت ثاني عشره حضر السيد عمر أفندي نقيب الأشراف سابقًا وذلك أنه لما حصلت النصرة والمسرة للباشا فكتب إليه مكتوبًا بالتهنئة وأرسله مع حفيده السيد صالح إلى الإسكندرية فتلقاه بالبشاشة وطفق يسأله عن جده فيقول له بخير ويدعو لكم فقال له هل في نفسه شيء أو حاجة نقضيها له فقال لا يطلب غير طول البقاء لحضرتكم ثم انصرف إلى المكان الذي نزل به فأرسل إليه في ثاني يوم عثمان السلانكلي ليسأله ويستفسره عما عسى أن يستحي من مشافهة الباشا بذكره فلم يزل يلاطفه حتى قال لم يكن في نفسه إلا الحج إلى بيت الله إن أذن له أفندينا بذلك فلما عاد بالجواب أنعم عليه بذلك وأذن له بالذهب إلى مصر وأن يقيم بداره إلى أوان الحج إن شاء برًا وإن شاء بحرًا وقال أنا لا أتركه في الغربة هذه المدة إلا خوفًا من الفتنة والآن لم يبق شيء من ذلك فإنه أبى وبيني وبينه ما لا أنساه من المحبة والمعروف وكتب له جوابًا بالإجابة وصورته بحروفه مظهر الشمائل سنيها حميد الشؤون وسميها سلالة بيت المجد الأكرم والدنا السيد عمر مكرم دام شأنه أما بعد فقد ورد الكتاب اللطيف من الجناب الشريف تهنئة بما أنعم الله علينا وفرحًا بمواهب تأييده لدينا فكان ذلك مزيدًا في السرور ومستديمًا لحمد الشكور ومجلبة لثناكم وإعلانًا بنيل مناكم جزيتم حسن الثنا مع كمال الوقار ونيل المنى هذا وقد بلغنا نجلكم عن طلبكم الإذن في الحج إلى البيت الحرام وزيارة روضته عليه الصلاة والسلام للرغبة في ذلك والترجي لما هنالك وقد أذناكم في هذا المرام تقربًا لذي الجلال والإكرام ورجاء لدعواتكم بتلك المشاعر العظام فلا تدعوا الابتهال ولا الدعاء لنا بالقال والحال كما هو الظن في الطاهرين والمأمول من الأصفياء المقبولين والواصل لكم جواب منا خطابًا إلى كتخدائنا ولكم الإجلال والاحترام مع جزيل الثناء والسلام وأرسل إليه المكتوبين صحبة حفيده السيد صالح وأرسل إلى كتخدا بك كتابًا وصل إليه قبل قدومه فأرسل الكتخدا ترجمانه إلى منزله ليبشرهم بذلك وأشيع خبر مقدمه فكان الناس بين مصدق ومكذب حتى وصل في اليوم المذكور إلى بولاق فركب من هناك وتوجه إلى زيارة الإمام الشافعي وطلع إلى القلعة وقابل الكتخدا وسلم عليه وهنئه الشعراء بقصائدهم وأعطاهم الجوائز واستمر ازدحام الناس أيامًا ثم امتنع عن الجلوس في المجلس العام نهارًا واعتكف بحجرته الخاصة فلا يجتمع به إلا بعض من يريده من الأفراد فانكف الكثير عن الترداد وذلك من حسن الرأي‏.‏

واستهل شهر ربيع الثاني بيوم السبت سنة 1234 فيه حصل الاهتمام بحفر الترعة المعروفة بالأشرفية الموصلة إلى الإسكندرية وقد تقدم في العام الماضي بل والذي قبله اهتمام الباشا ونزل إليها المهندسون ووزنوا أرضها وقاسوا طولها وعرضها وعمقها المطلوب‏.‏

ثم أهمل أمرها لقرب مجيء النيل وتركوا الشغل في مبدئها ولم يترك الشغل في منتهاها عند الإسكندرية بالقرب من عامود السواري فحفروا هناك منبتها وهي بركة متسعة وحوطوها بالبناء المحكم المتين وهي مرسى المراكب التي تعبر منها إلى الإسكندرية بدلًا من البغاز وهو ملتقى البحرين وما يقع فيه من تلف المراكب فتكون هذه أسلم وأقرب وأقل كلفة إن صحت بل وأقرب مسافة ونزل الأمر لكشاف الأقاليم بجمع الفلاحين والرجال على حساب مزارع القدادين فيحصون رجال القرية المزارعين ويدفعون للشخص الواحد عشرة ريالات ويخصم له مثلها من المال وإذا كان له شريك وأحب المقام لأجل الزرع الصيفي أعطاه حصته وزاده عليها حتى يرضي خاطره وزوده بما يحتاج إليه أيضًا وعند العمل يدفع لكل شخص قرش في كل يوم ويخرج أهل القرية أفواجًا ومعهم أنفار من مشايخ البلاد ويجتمعون في المكان المأمورين باجتماعهم فيه ثم يسيرون مع الكاشف الذي بالناحية ومعهم طبول وزمور وبيارق ونجارون وبناؤن وحدادون وفرضوا على البلاد التي فيها النخيل غلقانًا ومقاطف وعراجين وسلبًا وعلى البنادر فؤوسًا ومساحي شيء كثير بالثمن وطلبوا أيضًا طائفة الغواصين لأنهم كانوا إذا تسفلوا في قطع الأرض في بعض المواضع منها ينبع الماء قبل الوصول إلى الحد المطلوب‏.‏

وفي يوم الخميس عشرينه ورد مرسوم من الباشا بعزل كتخدا بك عن منصب الكتخدائية وتولية محمود بك فيها عوضًا عنه وحضر محمود بك في ذلك اليوم قادمًا من الإسكندرية وطلع إلى القلعة وحضر أيضًا حسن باشا وكان قد ذهب إلى الإسكندرية ليسلم على الباشا لكونه كان بالديار الحجازية المدة المديدة وحضر إلى مصر والباشا بالإسكندرية فتوجه إليه وأقام معه أيامًا وعاد إلى مصر صحبة محمود بك وحضر أيضًا إبراهيم أفندي من إسلامبول وهو ديوان أفندي الباشا فتقلد في نظر الأطيان والرزق والالتزام عوضًا عن محمود بك‏.‏

واستهل شهر جمادى الأولى سنة 1234 في سابعه يوم الخميس ضربت مدافع كثيرة وقت الشروق بسبب ورود نجابة من الديار الحجازية باستيلاء خليل باشا على يمن الحجاز صلحًا‏.‏

وفيه وصلت الأخبار أيضًا عن عبد الله بن مسعود أنه لما وصل إلى إسلامبول طافوا به البلدة وقتلوه عند باب همايون وقتلوا أتباعه أيضًا في نواح متفرقة فذهبوا مع الشهداء‏.‏

وفيه أشيع وصول قابجي كبير من طرف الدولة يقال له قهوجي باشا إلى الإسكندرية وورد الأمر بالاستعداد لحضوره مع الباشا فطلعوا بالمطابخ إلى ناحية شبرا وطلبت الخيول من الربيع واستمر خروج العساكر ودخولهم وكذلك طبخ الأطعمة وفي كل يوم يشيعون الورود فلم يأت أحد ثم ذكروا أن ذلك القابجي حين قرب من الإسكندرية رده الريح إلى رودس واستمر هذا وفيه قوي الاهتمام بأمر حفر الترعة المتقدم ذكرها وسبقت الرجال والفلاحون من الأقاليم البحرية وجدوا في العمل بعدما حددوا لكل أهل إقليم أقصابًا توزع على أهل كل بلد من ذلك الإقليم فمن أتم عمله المحدود انتقل إلى مساعدة الآخرين وظهر في حفر بعض الأماكن منها صورة أماكن ومساكن وقيعان وحمام بعقوده وأحواضه ومغاطسه ووجد ظروف بداخلها فلوس نحاس كفرية قديمة وأخرى لم تفتح لا يعلم ما فيها رفعوها للباشا مع تلك‏.‏

وفي يوم الأربعاء سابع عشرينه حضر الباشا إلى شبرا ووصل في أثره قهوجي باشا وعملوا له موكبًا في صبيحة يوم الخميس وطلعوا إلى القلعة ومع الآغا المذكور ما أحضره برسم الباشا وولده إبراهيم باشا الذي بالحجاز وهو خلعتا سمور لكل واحد خلعة وخنجر مجوهر لكل واحد وشلنجان مجوهران وساعة جوهر وغير ذلك وقرئ الفرمان بحضرة الجمع وفيه الثناء الكثير على الباشا والعفو عمن بقي من الوهابية وبعد القراءة ضربت مدافع كثيرة وكذلك عند ورودهم واستمر ضرب المدافع ثلاثة أيام في جميع الأوقات الخمس ونزل القابجي المذكور ببيت طاهر باشا بالأزبكية وحضر أيضًا عقبه أطواخ لكل من عباس بك بن طوسون باشا بن الباشا ولأحمد بك ابن طاهر باشا وفي ضمن الفرمان الإذن للباشا بتولية أمريات وقبجيات لمن يختار‏.‏

وفي صبحها يوم الجمعة خلع الباشا على أربعة أو خمسة من أمرائه بقبجيات باشا وهم علي بك السلانكلي قابجي باشا وحسن آغا أزرجانلي كذلك وخليل أفندي حاكم رشيد وشريف بك‏.‏

واستهل شهر جمادى الثانية سنة 1234 فيه حضر محمد بك الدفتردار من الجهة القبلية فأقام أياما وعاد إلى قبلي وفي أواخره رجع الكثير من فلاحي الأقاليم إلى بلادهم من الأشرفية وهم الذين أتموا ما لزمهم من العمل والحفر ومات الكثير من الفلاحين من البرد ومقاساة التعب‏.‏

وفي هذا الشهر حصل بعض موت بالطاعون فداخل الناس وهم بسبب ما حدث في أكابر الدولة والنصارى من التحجب وعمل الكورنتينات وهي التباعد من الملامسة وتبخير الأوراق والمجالس ونحو ذلك‏.‏

واستهل شهر رجب بيوم الاثنين سنة 1234 في خامسه مات عبود النصراني كاتب الخزينة وكان مشكور السيرة في صناعته وعند مشاركة ودعوى عريضة ودعوى علم ويتكلم بالمناسبات والآيات القرآنية ويضمن إنشاءاته ومراسلاته آيات وأمثالًا وسجعات وأخذ دار القيسرلي بدرب الجنينة وما حولها وأنشأها دارًا عظيمة وزخرفها وجعل بها بستانًا ومجالس مفروشة بالرخام الملون وفساقي وشاذروانات وزجاج بلور وكل ذلك على طرف الميري وله مرتب واسع وكان الباشا يحبه ويثق به ويقول لولا الملامة لقلدته الدفتردارية‏.‏

وفي سابعه حضر إلى مصر حاكم يافا المعروف بمحمد بك أبو نبوت معزولًا عن ولايته فأرسل إلى الباشا يستأذنه في الحضور إلى مصر فأطلق له الإذن فحضر فأنزله بقصر العيني وصحبته نحو الخمسمائة مملوك وأجناد وأتباع واجتمع بالباشا وأجله وسلم عليه وأقام معه حصة من الليل ورتب له مرتبًا عظيمًا وعين له ما يقوم بكفايته وكفاية أتباعه فمن جملة ما رتب له ثلاثة آلاف تذكرة كل تذكرة بألفين وستمائة نصف فضة في كل شهر وذلك خلاف المعين واللوازم من السمن والخبز والسكر والعسل والحطب والأرز والفحم والشمع والصابون فمن الأرز خاصة في كل يوم أردبان وللعليق خمسة وعشرون أردبًا في كل يوم‏.‏

وفي يوم السبت ثالث عشره سافر قهوجي باشا عائدًا إلى إسلامبول واحتفل به الباشا احتفالًا زائدًا وقدم له ولمخدومه وأرباب الدولة من الأموال والهدايا والخيول والبن والأرز والسكر والشربات وتعابي الأقمشة الهندية وغيرها شيئًا كثيرًا وكذلك قدم له أكابر الدولة هدايا كثيرة ولأنه لما حضر إلى مصر قدم لهم هدايا فقابلوه بأضعافها وعندما سافر احتجب الباشا وأمر كل من كان يلازم ديوانه بالإنصراف والتحجب فتكرتن منهم من تكرتن في داره ومنهم في القصور وسافر مع قهوجي باشا سليمان آغا السلحدار وشربتشي باشا وآخرون لتشييعه إلى الإسكندرية‏.‏

وفي يوم الخميس ثامن عشره حضر بواقي الوهابية بحريمهم وأولادهم وهم نحو الأربعمائة نسمة وأسكنوا بالقشلة التي بالأزبكية وابن عبد الله ابن مسعود بدر جامع مسكة وخواصه من غير حرج عليهم وطفقوا يذهبون ويجيئون ويترددون على المشايخ وغيرهم ويمشون في الأسواق ويشترون البضائع والاحتياجات‏.‏

واستهل شهر شعبان سنة 1234 وفيه وصل جماعة هجانة من جهة الحجاز وصحبتهم ابن حمود أمير يمن الحجاز وذلك أنه لما مات أبوه تأمر عوضه وأظهر الطاعة وعدم المخالفة للدولة فلما توجه خليل باشا إلى اليمن أخلى له البلاد واعتزل في حصن له ولم يخرج لدفعه ومحربته كما فعل أبوه وترددت بينهما المراسلات والمخادعات حتى نزل من حصنه وحضر عند خليل باشا فقبض عليه وأرسله مع الهجانة إلى مصر‏.‏

واستهل شهر رمضان سنة 1234 والباشا مكرتن بشبرا ولم يطلع إلى القلعة كعادته في شهر رمضان‏.‏

وفي ثامن عشرينه طلع إلى القلعة وعيد بها‏.‏

واستهل شهر شوال بيوم الجمعة سنة 1234 وفي رباع عشره الموافق لآخر يوم من شهر أبيب نودي بوفاء النيل وكان الباشا سافر إلى جهة الإسكندرية بسبب ترعة الأشرفية وأمر حكام الجهات بالأرياف بجمع الفلاحين للعمل فأخذوا في جمعهم فكانوا يربطونهم قطارات بالحبال وينزلون بهم المراكب وتعطلوا عن زرع الدراوي الذي هو قوتهم وقاسوا شدة بعد رجوعهم من المرة الأولى بعد ما قاسوا ما قاسوه ومات الكثير منهم من البرد والتعب وكل من سقط أهالوا عليه من تراب الحفر ولو فيه الروح ولما رجعوا إلى بلادهم للحصيدة طولبوا بالمال وزيد عليهم عن كل فدان حمل بعير من التبن وكيلة قمع وكيلة فول وأخذ ما يبيعونه من الغلة بالثمن الدون والكيل الوافر فما هم إلا والطلب للعود إلى الشغل في الترعة ونزح المياه التي لا ينقطع نبعها من الأرض وهي في غاية الملوحة والمرة الأولى كانت في شدة البرد وهذه المرة في شدة لحر وقلة المياه العذبة فينقلونها بالروايا على الجمال مع بعد المسافة وفي سابع عشرينه ارتحل ركب الحجاج من البركة وأمير الحاج عابدين بك أخو حسن باشا‏.‏

واستهل شهر ذي القعدة سنة 1234 والعمل في الترعة مستمر‏.‏

واستهل شهر ذي الحجة سنة 1234 في منتصفه سافر الباشا إلى الصعيد وسافر صحبته حسن باشا طاهر ومحمد آغا لاظ المنفصل عن الكتخدائية وحسن آغا أزرجانلي وغيرهم من أعيان الدولة‏.‏

وفيه وصل الخبر بموت سليمان باشا حاكم عكا وهو من مماليك أحمد باشا الجزار‏.‏

وفي أواخره وصل ابن إبراهيم باشا وصحبته حريم أبيه فضربوا لوصولهم مدافع وعملوا للصغير موكبًا ودخل من باب النصر وشق من وسط المدينة‏.‏

وانقضت السنة وما تجدد بها من الحوادث التي منها زيادة النيل الزيادة المفرطة أكثر من العام الماضي وهذا من النوادر وهو الغرق في عامين متتابعين واستمر أيضًا في هذه السنة إلى منتصف هاتور حتى فات أوان الزراعة وربما نقص قليلًا ثم يرجع في ثاني يوم أكثر ما نقص‏.‏ ودخلت

سنة خمس وثلاثين ومائتين وألف

فكان أول المحرم بالهلال يوم الخميس وفيه وما قبله بأيام حصل بالأرياف بل وبداخل المدينة انزعاجات بسبب تواتر سرقات وإشاعة سروح مناسر وحرامية وعمر الناس أبواب الدور والدروب وحصل منع الناس من المسير والمشي بالأزقة من بعد الغروب وصار كتخدا بك وآغات التبديل والوالي يطوفون ليلًا بالمدينة وكل من صادفوه قبضوا عليه وحبسوه ولو كان مما لا شبهة فيه واستمر هذا الحال إلى آخر الشهر‏.‏

وفي سابع عشرينه حضر الباشا من الصعيد بعد أن وصل في سرحته إلى الشلال وكان الناس تقولوا على ذهابه إلى قبلي أقاويل منها أنه يريد التجريد على بواقي المصريين المنقطعين بدنقلة فإنهم استفحل أمرهم واستكثروا من شراء العبيد وصنعوا البارود والمدافع وغير ذلك ومنها أنه يريد التجريد أيضًا وأخذ بلاد دارفور والنوبة ويمهد طريق الوصول إليها ومنها أنهم قالوا أنه ظهر بتلك البلاد معدن الذهب والفضة والرصاص والزمرد وأن ذهابه للكشف على ذلك وامتحانه وعمل معدله ومقدار ما يصرف عليه حتى يستخرج صافيه وبطل كل ما توهموه وخمنوه برجوعه وأما قولهم عن هذه المعادن فالذي تلخص من ذلك أنه ظهر بأرض أحجار خضر تشبه الزمرد وليست إياه وبمكان آخر شيء أسود مخرفش مثل خرء الحديد يخرج منه بعد العلاج والتصفية رصاص قليل فقد أخبرني أخونا الشيخ عمر الناوي المعروف بالمخلصي أنه أخذ منه قطعة وذهب بها إلى الصائغ ودقها ووضعها في بوط كبير وساق عليها بنار السبك وانكسر البوط فنقلها إلى بوط آخر ولم يزل يعالجها بطول النهار وأحرق عليها زيادة عن القنطار من الفحم‏.‏

وفيه حضر أيضًا جماعة من الوهابية وأنزلوا بدار بحارة عابدين‏.‏

واستهل شهر صفر بيوم الجمعة سنة 1235 في غرته سافر محمد آغا المعروف بأبو نبوت الشامي إلى دار السلطنة باستدعاء من الدولة وذلك انه لما حضر إلى مصر ونزل برحاب الباشا كما تقدم وكاتب الباشا في شأنه إلى الدولة فحضر الأمر بطلبه وأوكد بالإكرام فعند ذلك هيأ له الباشا ما يحتاج إليه من هدية وغيرها وتعين للسفر صحبته خمسة وثلاثون شخصًا أرسل إليهم الباشا كساوي وفراوي وترك باقي أتباعه بمصر أنزلوهم في دار بسويقة اللالا وهم يزيدون عن المائتين ويصرف لهم الرواتب في كل يوم والشهرية‏.‏

وفيه وصل جماعة من عسكر المغاربة والعرب الذين كانوا ببلاد الحجاز وصحبتهم أسرى من الوهابية نساء وبنات وغلمانًا نزلوا عند الهمايل وطفقوا يبيعونهم على من يشتريهم مع أنهم وفي منتصفه مات مصطفى آغا وكيل دار السعادة سابقًا ومات أيضًا الشيخ عبد الرحمن القرشي الحنفي‏.‏

وفي سابع عشره وصل الحاج المصري ومات الكثير من الناس فيه بالحمى وكثرت الحمى بأرض مصر وكأنها تناقلت من أرض الحجاز‏.‏

وفي حادي عشرينه وصل إبراهيم باشا ابن الباشا من ناحية القصير وكان قبل وروده بأيام وصل خبر وصوله إلى القصير وضربوا لذلك الخبر مدافع من القلعة وغيرها ورمحت المبشرون لأخذ البقاشيش من الأعيان واجتمعت نساء أكابرهم عند والدته ونسائهم للتهنئة ونظموا له القصر الذي كان أنشأه ولي خوجه وتممه شريف بك الذي تولى في منصبه وهو بالروضة بشاطئ النيل تجاه الجيزة وعند وصول المذكور عملوا جسرًا من الروضة إلى ساحل مصر القديمة على مراكب من البر إلى البر وردموه بالأتربة من فوق الأخشاب‏.‏

وفي ذلك اليوم وصل قابجي من دار السلطنة بالبشارة بمولود ولد لحضرة السلطان وطلع إلى القلعة في موكب‏.‏

وفي يوم الخميس حادي عشرينه عند وصول إبراهيم باشا نودي بزينة المدينة سبعة أيام بلياليها فشرع الناس في تزيين الحوانيت والدور والخانات بما أمكنهم وقدروا عليه من الملونات والمقصبات وأما جهات النصارى وحاراتهم وخاناتهم فإنهم أبدعوا في عمل تصاوير مجسمات وتماثيل وأشكال غريبة وشكا الناس من عدم وجود الزيت والشيرج فرسموا بجملة قناطير شيرج تعطى للزياتين لتباع على الناس بقصد ذلك ويأخذونها ويبيعونها بأغلى ثمن بعد الإنكار والكتمان‏.‏

ولما أصبح يوم الجمعة وقد عدى إبراهيم باشا إلى بر مصر رتبوا له موكبًا ودخل من باب النصر وشق المدينة وعلى رأسه الطلخان السليمي من شعار الوزارة وقد أرخى لحيته بالحجاز وحضر والده إلى جامع الغورية بقصد الفرجة على موكب ابنه وطلع بالموكب إلى القلعة ثم رجع سائرًا بالهيئة الكاملة إلى جهة مصر القديمة ومر على الجسر وذهب إلى قصره المذكور بالروضة واستمرت الزينة والوقود والسهر بالليل وعمل الحراقات وضرب بالمدافع في كل وقت من القلعة ومغاني وملاعب في مجامع الناس سبعة أيام بلياليها في مصر الجديدة والقديمة وبولاق وجميع الأخطاط ورجع إبراهيم باشا من هذه الغيبة متعاظمًا في نفسه جدًا وداخله من الغرور ما لا مزيد عليه حتى أن المشايخ لما ذهبوا للسلام عليه والتهنئة بالقدوم فلما أقبلوا عليه وهو جالس في ديوانه لم يقم لهم ولم يرد عليهم السلام فجلسوا وجعلوا يهنئونه بالسلامة فلم يجبهم ولا بالإشارة بل جعل يحادث شخصًا سخرية عنده وقاموا على مثل ذلك منصرفين ومنكسفين ومنكسري الخاطر‏.‏

قي ثامنه مات ابن إبراهيم باشا وهو الذي تقدمه في المجيء إلى مصر وعملوا له الموكب وعمره نحو ست سنوات وكان موته في أول الليل من ليلة الأحد فأرسلوا التنابيه لأعيان الدولة والمشايخ فخرج البعض منهم في ثلث الليل الأخير إلى مصر القديمة حي المعادي لأنه مات بقصر الجيزة فما طلع النهار حتى ازدحموا بمصر القديمة وما حضروا به إلا قرب الزوال وانجروا بالمشهد إلى مدفنهم بالقرب من الإمام الشافعي وعملوا له مأتمًا وفرقوا دراهم على الناس والفقهاء وغير ذلك ثم حكى المخبرون عن كيفية موته أنه كان نائمًا في حجر دادته جارية سوداء فشاجرتها جارية بيضاء ورفصتها برجلها فأصابت الغلام فاضطرب ووصل الخبر إلى أبيه فدخل إليهم وقبض على الجواري الحاضرات وحبسهن في مكان بالقصر وقال إن مات ولدي قتلتكن عن آخركن فمات من ليلته فحخنق الجميع وألقاهن في البحر بما فيهن الدادة في أنهم خمسة وقيل ستة والله أعلم‏.‏

وفي أواخره انقضى أمر الحفر بترعة الإسكندرية ولم يبق من الشغل إلا القليل ثم فتحوا لها شرمًا خلاف فمها المعمول خوفًا من غلبة البحر فجرى فيها الماء واختلط بالمياه المالحة التي نبعت من أرضها وعلا الماء منها على بعض المواطن المسجنة وبها روبة عظيمة وساح على الأرض وليس هناك جسور تمنع وصادف أيضًا وقوع نوة وأهوية علا فيها البحر المالح على الجسر الكبير ووصل إلى الترعة فأشيع في الناس أن الترعة فسد أمرها ولم تصح وأن المياه المالحة التي منها ومن البحر غرقت الإسكندرية وخرج أهلها منها إلى أن تحقق الخبر بالواقع وهو دون ذلك ورجع المهندسون والفلاحون إلى بلادهم بعد ما هلك معظمهم‏.‏

واستهل شهر ربيع الثاني سنة 1235 في أوله عزل الباشا محمد بك الدفتردار عن إمارة الصعيد وقلد عوضه أحمد باشا ابن طاهر باشا وسافر في خامسه‏.‏

وفي سابعه سافر الباشا إلى الإسكندرية للكشف على الترعة وسافر صحبته ابنه إبراهيم باشا ومحمد بك الدفتردار والكتخدا القديم ودبوس أوغلي‏.‏

وفي ثالث عشره حضر الباشا ومن معه من غيبتهم وقد انشرح خاطره لتمام الترعة وسلوك المراكب وسفرها فيها وكذلك سافرت فيها مراكب رشيد والنقاير بالبضائع واستراحوا من وعر البغاز والسفر في المالح إلى الإسكندرية والنقل والتجريم وانتظار الريح المناسب لاقتحام البغاز والبحر الكبير ولم يبق في شغل الترعة إلا الأمر اليسير وإصلاح بعض جسورها واتفق وقوع حادثة في هذا الشهر وهو أن شخصًا من الإفرنج الإنكليز ورد من الإسكندرية وطلع إلى بلدة تسمى كفر حشاد فمشى بالغيط ليصطاد الطير فضرب طيرًا ببندقته فأصابت بعض الفلاحين في رجله وصادف هناك شخصًا من الأرنؤد بيدده هراوة أو مسوقة فجاء إلى ذلك الإفرنجي وقال له أما تخشى أن يأتي إليك بعض الفلاحين ويضربك على رأسك هكذا وأشار بما في يده على رأس الإفرنجي لكونه لا يفهم لغته فاغتاظ من ذلك الإفرنجي وضربه ببندقته فسقط ميتًا فاجتمع عليه الفلاحون وقبضوا على الإفرنجي ورفعوا الأرنؤدي المقتول وحضروا إلى مصر وطالبوا بمجلس كتخدا بك واجتمع الكثير من الأرنؤد وقالوا لا بد من قتل الإفرنجي فاستعظم الكتخدا ذلك لأنهم يراعون جانب الإفرنج إلى الغاية فقال حتى نرسل إلى القناصل ونحضرهم ليروا حكمهم في ذلك فأرسل بإحضارهم وقد تكاثر الأرنؤد وأخذتهم الحمية وقالوا لأي شيء تؤخر قتله إلى مشورة القناصل وإن لم يقتل هذا في الوقت نزلنا إلى حارة الإفرنج ونهبناها وقتلنا كل من بها من الإفرنج فلم يسع الكتخدا إلا أن أمر بقتله فنزلوا به إلى الرميلة وقطعوا رأسه وطلع أيضًا القناصل في كبكبتهم وقد نفذ الأمر وكان ذلك في غيبة الباشا‏.‏

واستهل شهر جمادى الأولى سنة 1235 فيه جرد الباشا حسن بك الشماشرجي حاكم البحيرة على سيوة من الجهة القبلية فتوجه إليها وفيه قوي عزم الباشا على الآغارة على نواحي السودان فمن قائل أنه متوجه إلى سنار ومن قائل إلى دار فور وساري العسكر ابنه إسماعيل باشا وخلافه ووجه الكثير من اللوازم إلى الجهة القلية وعمل البقسماط والذخيرة ببلاد قبلي والشرقية واهتم اهتمامًا عظيمًا وأرسل أيضًا بإحضار مشايخ العربان والقبائل‏.‏

وفيه خرج الباشا إلى ناحية القليوبية حيث الخيول بالربيع وخرج محو بك لضيافته بقلقشنده وأخرج خيامًا وجمالًا كثيرة محملة بالفرش والنحاس وآلات المطبخ والأرز والسمن والعسل والزيت والحطب والسكر وغير ذلك وإضافة ثلاثة أيام وكذلك تأمر كاشف الناحية وغيره وكذلك أحضر له ضيافة ابن شديد شيخ الحويطات وابن الشواربي كبير قليوب وابن عسر وكان صحبة الباشا ولداه إبراهيم باشا وإسماعيل باشا وحسن باشا‏.‏

وفي أثناء ذلك ورد الهبر بموت عابدين بك أخو حسن باشا بالديار الحجازية وكذلك الكثير من أتباعه بالحمى فتكدر حظهم وبطلت الضيافات وحضر الباشا ومن معه في أواخره لعمل العزاء والميتم وأخبر الواردون بكثرة الحمى بالديار الحجازية حتى قالوا أنه لم يبق من طائفة عابدين بك إلا القليل جدًا‏.‏

في عشرينه وردت هدية من والي الشام فيها من الخيول الخاص عشرة بعضها ملبس والباقي من غير سروج وأشياء أخر لا نعلمها‏.‏

وفي أواخره ورد الخبر بأن حسن بك الشماشرجي استولى على سيوة‏.‏

وفيه ورد الخبر بأنه وقع بإسلامبول حريق كثير‏.‏

وفيه ورد الخبر أيضًا عن حلب بأن أحمد باشا المعروف بخورشيد الذي كان سابقًا والي مصر استوى على حلب وقتل من أهلها وأعيانها أناسًا كثيرة وذلك أنه كان متوليًا عليها فحصل منه ما أوجب قيام أهل البلدة عليه وعزلوه وأخرجوه وذلك من مدة سابقة فلما أخرجوه أقام خارجها وكاتب الدولة في شأنهم وقال ما قال في حقهم فبعثوا أوامر ومراسيم لولاة تلك النواحي بأن يتوجهوا لمعونته على أهل حلب فاحتاطوا بالبلدة وحاربوها أشهرًا حتى ملكوها وفتكوا في أهلها وضربوا عليهم ضرائب عظيمة وهم على ذلك‏.‏

وفي أواخره تقلد آغاوية مستحفظان مصطفى آغا كرد مضافة للحسبة عوضًا عن حسن آغا الذي توفي في الحج فأخذ يعسف كعادته في مبادئ توليته للحسبة وجعل يطوف ليلًا ونهارًا ويحتج على المارين بالليل بأدنى سبب فيضرب من يصادفه راجعًا من سهر ونحوه أو يقطع من أذنه أو أنفه‏.‏

في ثالثه تقلد نظر الحسبة شخص يسمى حسين آغا المورلي وهو بخشونجي بساتين الباشا‏.‏

وفيه رجع حسن بك الشماشرجي من ناحية سيوة بعد أن استولى عليها وقبض من أهاليها مبلغًا من المال والتمر وقرر عليها قدرًا يقومون به في كل عام إلى الخزينة وفي عشرينه سافر محمد آغا لاظ وهو المنفصل عن الكتخدائية إلى قبلي بمعنى أنه في مقدمة الجردة يتقدمها إلى الشلال‏.‏

وفي أواخره وصل الخبر بموت خليل باشا بالديار الحجازية فخلع الباشا على أخيه أحمد بك وهو ثالث إخوته وهو أوسطهم وقلده في منصب أخيه عوضًا عنه وأعطى البيرق واللوازم‏.‏

وفي أواخره توجه الباشا إلى ناحية الوادي لينظر ما تجدد به من العمائر والمزارع والسواقي وقد صار هذا الوادي إقليمًا على حدته وعمر به قرى ومساكن ومزارع‏.‏

واستهل شهر شعبان بيوم الأحد سنة 1235 فيه سافر إبراهيم باشا إلى القليوبية ثم إلى المنوفية والغربية لقبض الخراج عن سنة تاريخه والطلب بالبواقي التي انكسرت على الفقراء وكان الباشا سامح في ذلك وتلك بواقي سبع سنين فكان يطلب مجموع ما على القرية من المال والبواقي في ظرف ثلاثة أيام ففزعت الفلاحون ومشايخ البلاد وتركوا غلالهم في الأجران وطفشوا في النواحي بنسائهم وأولادهم وكان يحبس من يجده من النساء ويضربهن فكان مجموع المال المطلوب تحصيله على ما أخبرني به بعض الكتاب مائة ألف كيس‏.‏

وفي منتصفه حضر الباشا من ناحية الوادي‏.‏

وفي أواخره وقع حريق ببولاق في مغالق الخشب التي خلف جامع مرزه وأقام الحريق نحو يومين حتى طفئ واحترق فيه الكثير من الخشب المعد للعمائر بالكرسنة والزفت وحطب الإشراق وغيره‏.‏

واستهل شهر رمضان بيوم الاثنين سنة 1235 والاهتمام الحاصل وكل قليل يخرج عساكر ومغاربة مسافرين إلى بلاد السودان ومن جملة الطلب ثلاثة أنفار من طلبة العلم يذهبون بصحبة التجريدة فوقع الاختيار على محمد أفندي الأسيوطي قاضي أسيوط والسيد أحمد البقلي الشافعيين والشيخ أحمد السلاوي المغربي المالكي وأقبضوا محمد أفندي المذكور عشرين كيسًا وكسوة ولكل واحد من الاثنين خمسة عشر كيسًا وكسوة ورتبوا لهم ذلك في كل سنة‏.‏

وفي سابعه وقع حريق في سراية القلعة فطلع الآغا والوالي وآغات التبديل واهتموا بطفء النار وطلبوا السقائين من كل ناحية حتى شح الماء ولا يكاد يوجد وكان ذلك في شدة الحر وتوافق شهر بؤته ورمضان وأقاموا في طفء النار يومين واحترق ناحية كتخدا بك ومجلس شريف بك وتلفت أشياء وأمتعة ودفاتر حرقًا ونهبًا وذلك أن أبنية القلعة كانت من بناء الملوك المصرية بالأحجار والصخور والعقود وليس بها إلا القليل من الأخشاب فهدموا ذلك جميعه وبنوا مكانه الأبنية الرقيقة وأكثرها من الحجنة والأخشاب على طريق بناء إسلامبول والإفرنج وزخرفوها وطلوها بالبياض الرقيق والأدهان والنقوش وكله سريع الاشتغال حتى أن الباشا لما بلغه هذا الحريق وكان مقيمًا بشبرا تذكر بناء القلعة القديم وما كان فيه من المتانة ويلوم على تغيير الوضع السابق ويقول أنا كنت غائبًا بالحجاز والمهندسون وضعوا هذا البناء وقد تلف في هذا الحريق ما ينيف عن خمسة وعشرين ألف كيس حرقًا ونهبًا ولما حصل هذا الحريق انتقلت الدواوين إلى بيت طاهر باشا بالأزبكية وانقضى شهر رمضان‏.‏

واستهل شهر شوال بيوم الثلاثاء سنة 1235 وقع في تلك الليلة اضطراب في ثبوت الهلال لكونه كان عسر الرؤية جدًا وشهد اثنان برؤيته ورد الواحد ثم حضر آخر ولم يزالوا كذلك إلى آخر الليل ثم حكم به عند الفجر بعد أن صليت التراويح وأوقدت المنارات وطاف المسحرون بطبلاتهم وتسخرت الناس وأصبح العيد باردًا‏.‏

وفي خامسه سافر الباشا إلى ثغر إسكندرية كعادته وأقام ولده إبراهيم باشا للنظر في الأحكام والشكاوى والدعاوى وكانت إقامته بقصره الذي أنشأه بشاطئ النيل تجاه مضرب النشاب وتعاظم في نفسه جدًا ولما رجع إبراهيم باشا من سرحته شرعوا في عمل مهم لختان عباس باشا ابن أخيه طوسون باشا وهو غلام في السادسة فشرعوا في ذلك في تاسع عشره ونصبوا خيامًا كثيرة تحت القصر وحضرت أرباب الملاعيب والحواة والمفزلكون والبهلوانيون وطبخت الأطعمة والحلواء والأسمطة وأوقدت الوقدات بالليل من المشاعل والقناديل والشموع بداخل القصر وتعاليق النجفات البلور وغير ذلك ورسموا بإحضار غلمان أولاد الفقراء فحضر الكثير منهم وأحضروا المزينين فختنوا في أثناء أيام الفرح نحو الأربعمائة غلام ويفرشون لكل غلام طراحة ولحافًا يرقد عليها حتى يبرأ جرحه ثم يعطى لكل غلام كسوة وألف نصف فضة وفي كل ليلة يعمل شنك وحراقات ونفوط ومدافع بطول الليل ودعوا في أثناء ذلك كبار الأشياخ والقاضي والشيخ السادات والبكري وهو نقيب الأشراف أيضًا والمفاتي وصار كل من دخل منهم يجلسونه من سكوت ولم يقم لواحد منهم ولم يرد على من يسلم ولا بالإشارة السلام ولم يكلمهم بكلمة يؤانسهم بها وحضرت المائدة فتعاطوا الذي تعاطوه حتى انقضى المجلس وقاموا وانصرفوا من سكوت‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثالث عشرينه خرجوا بالمحمل إلى الحصوة وأمير الحاج شخص من الدلاة لم نعرف اسمه‏.‏

وفي يوم الخميس عملوا الزفة لعباس باشا ونزلوا به من القلعة على الدرب الأحمر على باب الخرق إلى القصر وختنوه في ذلك اليوم وامتلأ طشت المزين الذي ختنه بالدنانير من نقوط الأكابر والأعيان وخلعوا عليه فروة وشال كشميري وأنعموا على باقي المزينين ثلاثين كيسًا وانقضى ذلك‏.‏

وفي يوم الثلاثاء تاسع عشرينه الموافق لثالث مسرى القبطي أوفى النيل أذرعه وكسر السد في صبحها يوم الأربعاء وجرى الماء في الخليج وذلك بحضرة كتخدا بك والقاضي‏.‏

وفي هذا الشهر حضر طائفة من بواقي الأمراء المصرية من دنقلة إلى بر الجيزة وهم نحو الخمسة وعشرين شخصًا وملابسهم قمصان بيض لا غير فأقاموا في خيمة ينتظرون الإذن وقد تقدم منهم الإرسال بطلب الأمان عندما بلغهم خروج التجاريد وحضر ابن علي بك أيوب وطلب أمانًا لأبيه فأجيبوا إلى ذلك وأرسل لهم أمانًا لأجمعهم ما عدا عبد الرحمن بك والذي يقال له المنفوخ فليس يعطيهما أمانًا ولما حضرت مراسلة الأمان لعلي بك أيوب تأهب للرحيل حقدوا عليه وقتلوه ووصل خبر موته فعملوا نعيه في بيت سكن زوجته الكائن بشمس الدولة وأكثروا من الندب والصراخ عدة أيام‏.‏

وفي هذا الشهر حضر أشخاص من بلاد العجم وصحبتهم هدية إلى الباشا وفيها خيول فأنزلوهم ببيت حسين بك الشماشرجي بناحية سويقة العزى‏.‏

واستهل شهر ذي القعدة بيوم الخميس سنة 1235 في رابعه يوم الأحد وصل قابجي وعلى يده مرسوم تقرير للباشا بولاية مصر على السنة الجديدة وتقرير آخر لولده إبراهيم باشا بولاية جدة وركب القابجي المذكور في موكب من بولاق إلى القلعة وقرئت المراسيم بحضرة كتخدا بك وإبراهيم باشا وأعيانهم وضربوا مدافع‏.‏

وفيه سافر إسماعيل باشا إلى جهة قبلي وهو أمير العسكر المعينة لبلاد النوبة كل ذلك والباشا الكبير على حاله بالإسكندرية‏.‏واستهل

شهر ذي الحجة سنة 1235

فيه توجه إبراهيم باشا إلى أبيه بالإسكندرية فأقام هناك أيامًا وعاد في آخر الشهر فأقام بمصر أيامًا قليلة وسافر إلى ناحية قبلي ليجمع ما يجده عند الناس من القمح والفول والعدس لثلاثة أصناف وأخذوا كل سفينة غصبًا وساقوا الجميع إلى قبلي لحمل الغلال وجمعها في الشون البحرية لتباع على الإفرنج والروم بالأثمان الغالية وانقضت السنة‏.‏

ومن حوادثها زيادة النيل الزيادة المفرطة وخصوصًا بعد الصليب وقد كان حصل الاعتناء الزائد بأمر الجسور بسبب ما حصل في العامين السابقين من التلف فلما حصلت هذه الزيادة بعد الصليب وطف الماء على أعلى الجسور وغرق مزارع الذرة والنيلة والقصب والأرز والقطن وأشجار البساتين وغالب أشجار الليمون والبرتقال بما عليها من الثمار وصار الماء ينبع من الأرض الممنوعة نبعًا ولا عاصم من أمر الله وطال مكث الماء على الأرض حتى فات أوان الزراعة ولم نسمع ولم نر في خوالي السنين تتابع الغرقات بل كان الغرق نادر الحصول وعلا ماء الخليج حتى سد غالب فرجات القناطر ونبع الماء من الأراضي الواطية القريبة من الخليج مثل غيط العدة وجامع الأمير حسين ونحو ذلك‏.‏

ومنها أن ترعة الإسكندرية المحدثة لما تم حفرها وسموها بالمحمودية على اسم السلطان محمود فتحوا لها شرمًا دون فمها المعد لذلك وامتلأت بالماء فلما بدات الزيادة فزادت وطف الماء في المواضع الوطية وغرقت الأراضي فسدوا ذلك الشرم وأبقوا من داخله فيها عدة مراكب للمسافرين فكانوا ينقلون منها إلى مراكب البحر ومن البحر إلى مراكبها وبقي ماؤها مالحًا متغيرًا ومنها أنه لما وقع القياس في أراضي القرى قرروا مسموحًا لمشايخ البلاد في نظير مضايقهم خمسة أفدنة من كل مائة فدان وفي هذا العام يدفع مال المسموح سنتين وذلك عقب مطالبتهم بالخراج قبل أوانه وما صدقوا أنهم غلقوه ببيع غلالهم بالنسيئة والاستدانة وبيع المواشي والأمتعة ومصاغ النساء وكانوا أيضًا طولبوا في السنين الخوالي التي كانوا عجزوا عنها ولم يزك رمي الغلال في هذه السنة وكذلك الفول وثمر النخيل والفواكه ولما طولب مشايخ البلاد بمال المسموح ازداد كربهم فأنه ربما يجيء على الواحد ألف ريال وأقل وأكثر وقد قاسوا الشدائد في غلاق الخراج الخارج عن الحد وعدم زكاء الزرع وغرق مزارع النيلة والأرز والقطن والقصب والكتان وغير ذلك‏.‏

وفي أثر ذلك فرضوا على الجواميس كل رأس عشرون قرشًا وعلى الجمل ستون قرشًا وعلى الشاة قرش والرأس من المعز سبعة وعشرون نصفًا وثلث البقرة خمسة عشر والفرس كذلك‏.‏

ومنها احتكار الصابون ويحجز جميع الوارد على ذمة الباشا ثم سومح تجاره بشرط أن يكون جميع صابون الباشا ومرتباته ودائرته من غير ثمن وهو شيء كثير ويستقر ثمنه على ستين نصفًا بعد أن كان بخمسين جردًا من غير نقو‏.‏

ومنها ما أحدث على البلح بأنواعه وما يجلب من الصعيد والإبريمي وأنواع العجوة حتى جريد النخل والليف والخوص يؤخذ جميع ذلك بالثمن القليل ويباع ذلك للمتسببين بالثمن الزائد وعلى الناس بأزيد من ذلك وفي هذه السنة لم تثمر النخيل إلا القليل جدًا ولم يظهر البلح الأحمر في أيام وفرته ولم يوجد بالأسواق إلا أيامًا قليلة وهو شيء رديء وبسر ليس بجيد ورطله بخمسة أنصاف وهي ثمن العشرة أرطال في السابق وكذلك العنب لم يظهر منه إلا القليل وهو الفيومي والشرقاوي وقد التزم به من يعصره شرابًا بأكياس كثيرة مثل غيره من الأصناف وغير ذلك جزئيات لم يصل إلينا علمها ومنها ما وصل إلينا علمها وأهملنا ذكرها‏.‏

ومنها أن حسن باشا سافر إلى الجهة القبلية وصحبته بعض الإفرنج الذين كان رخص لهم الباشا السياحة والغوص بأراضي الصعيد والفحص وفحر الأراضي والكهوف والبرابي واستخراج الآثار القديمة والأمم السالفة من التماثيل والتصاوير ونواويس الموتى وقطع الصخور بالبارود وأشاعوا أنه ظهر لهم شيء مخرفش يشبه خرء الرصاص أو الحديد وبه بعض بريق ذكروا أنه معدن إذا تصفى خرج منه فضة وذهب وأخبرني بعض من أثق بخبره أنه أخذ منه قطعة تزيد في الوزن على رطلين وذهب بها عند رجل صائغ فأوقد عليها نحو قنطار من الفحم بطول النهار فخرج منها في آخر الأمر وهو ينقلها من بوط إلى آخر بعد كسره قطعة مثل الرصاص قدر الأوقية وذكروا أيضًا أن بالجبل أحجارًا سوداء مثل الفحم وذلك أنهم أتوا بمثل ذلك من بلاد الإفرنج وأوقدها بالضربخانة كريهة الرائحة مثل الكبريت ولا تصير رمادًا بل تبقى على حجريتها مع تغير اللون ويحتاج إلى نقلها إلى الكيمان وقالوا أن بداخل جبال الصعيد كذلك فسافر حسن باشا بقصد استخراج هذه الأشياء وأمثالها فأقام نحو ثلاثة أشهر وذلك بأمر الباشا الكبير وهم يكسرون الجبل بالبارود فظهر بالجبل بجس يسيل منه دهن أسود بزرقة ورائحته زنخة كبريتية يشبه النفط وليس هو وأتوا بشيء منه إلى مصر وأوقدوا منه في السرج فملؤا منه سبعة مصافي وانقطع وأشيع في الناس قبل تحقق صورته بل وصلت مكاتبات بأنه خرج من الجبل عين تسيل بالزيت الطيب ولا ينقطع جريانها يكفي مصر وأقطاعها بل والدنيا أيضًا وأخبرني بعض أتباعهم أن الذي صرف في هذه المرة نحو الألفي كيس‏.‏

ومن حوادث هذه السنة الخارجة عن أرض مصر أن السلطان محمود تغير خاطره على علي باشا المعروف بتيه رنلي حاكم بلاد الأرنؤد وجرد عليه العساكر ووقع لهم معه حروب ووقائع واستولوا على أكثر البلاد التي تحت حكمة وتحصن هو في قلعة منيعة وعلى باشا هذا في مملكة واسعة وجنود كثيرة وله عدة أولاد متأمرين كذلك وبلادهم بين بلاد الرومنلي والنمسا ويقال أن بعض أولاده دخل تحت الطاعة وكذلك الكثير من عساكره وبقي الأمر على ذلك ودخل الشتاء وانقضت السنة ولم يتحقق عنه خبر‏.‏

ومنها أمر المعاملة وما يقع فيها من التخطيط والزيادة حتى بلغ صرف الريال الفرانسة اثني عشر قرشًا عنها أربعمائة وثمانون نصفًا والبندقجي ألف فضة وكذلك المجر والفندقلي الإسلامي سبعة عشر قرشًا والقرش الإسلامبولي بمعنى المضروب هناك المنقول إلى مصر يصرف بقرشين وربع يزيد عن المصري ستين نصفًا وكذلك الفندقلي الإسلامبولي يصرف في بلدته بأحد عشر قرشًا وبمصر بسبعة عشر كما تقدم فتكون زيادته ستة قروش وكذلك الفرانسة في بلادها تصرف بأربعة قروش وبإسلامبول بسبعة وبمصر بإثنى عشر وأما الأنصاف العددية التي تذكر في المصارفات فلا وجود لها أصلًا إلا في النادر جدًا واستغنى الناس عنها لغول الأثمان في جميع المبيعات والمشتروات وصار البشلك الذي يقال له الخمساوية أي صرفة خمسة أنصاف هي بدل النصف لأنه لما بطل ضرب القروش بضربخانة مصر وعوض عنها نصف القرش وربعه وثمنه الذي هو البشلك ولم يبق بالقطر إلا ما كان موجودًا قبل وهو كثير يتناقل بأديد الناس وأهل القرى ويعود إلى الخزينة ويصرف في المصارف والمشاهرات وعلائف العساكر كذلك يشترون لوازمهم فتذهب وتعود وهكذا تدور مع الفلك كلما دار ويصرف القرش عند الاحتياج إلى صرفه بسبعة من البشلك بنقص الثمن فباعتبار كونها في مقام النصف يكون القرش بسبعة أنصاف لا غير وباعتبار ذلك يكون الألف فضة بمائة وخمسة وسبعين فضة لأن الخمسة وعشرين قرشًا التي هي بدل الألف إذا نقصت في المصارفة الثمن تكون إحدى وعشرين وإذا ضربنا السبعة في الخمسة وعشرين كانت مائة وخمسة وسبعين وفيها من الفضة الخالصة ستة دراهم لا غير وأوزان هذه القطع مختلفة لا تجد قطعة وزن نظيرتها وفي ذلك فرط آخر والقليل في الكثير كثير والذي أدركناه في الزمن السابق أن هذه القروش لم يكن لها وجود بالقطر المصري البتة وأول من أحدثها بمصر علي بك القازدغلي بعد الثمانين ومائة وألف عندما استفحل أمره وأكثر من العساكر والنفقات وأظهر العصيان على الدولة ولما استولى محمد بك المعروف بأبي الذهب أبطلها رأسًا من الإقليم وخسر الناس بسبب إبطالها حصة من أموالهم مع فرحهم بإبطالها ولم يتأثروا بتلك الخسارة لكثرة الخير والمكاسب ولم يبق من أصناف المعاملة إلا أنواع الذهب الإسلامي والإفرنجي والفرانسة ونصفه وربعه والفضة الصغيرة التي يقال لها نصف فضة مع رخاء الأسعار وكثرة المكاسب ويصرف هذا النصف بعدد من الأفلس النحاس التي يقال لها الجدد إما عشرة أو اثنا عشرة إذا كانت مضروبة ومختومة أو عشرين إذا كانت صغيرة وبخلاف ذلك ويقال لها السحاتة فكان غالب المحقرات يقضي بهذه الجدد بل وخلاف المحقرات وفي البيع والشراء وكان يجلب منها الكثير مع الحجاج المغاربة في المخالي ويبيعونها على أهل الأسواق بوزن الأرطال ويربحون فيها فكان الفقير أو الأجير إذا اكتسب نصفًا وصرفه بهذه الجدد كفاه نفقة يومه مع رخاء الأسعار ويشتري منها خبزًا وأدمًا وإذا احتاج الطابخ لوازم الطبخة في التقلية أخذ من البقال البصل والثوم والسلق والكسبرة والبقدونس والفجل والكراث والليمون الصنف أو الصنفين أو الثلاثة بالجديد الواحد وقد انعدمت هذه الجدد بالكلية وإذا وجدت فلا ينتفع بها أصلًا وصار النصف الفضة بمنزلة الجديد النحاس ولا وجود له أيضًا وصارت الخمساوية بمنزلة النصف بل وأحقر لأنه كان يصرف بعدد كثير من الجدد وهذه بخمسة فقط فإذا أخذ الشخص شيئًا من المحقرات بنصف أو نصفين أو ثلاثة ما كان يؤخذ بجديد أو جديدين لم يجد عند البائع بقية الخمساوية فإما يترك الباقي لوقت احتياج آخر إن كان يعرفه وإلا تعطلا وإذا كان الإنسان بالسوق ولحقه العطش فيشرب من السقاء الطواف ويعطيه جديدًا أو يملأ صاحب الحانوت إبريقه بجديد وفي هذه الأيام إذا كان الشخص لم يكن معه بشلك يشرب به وإلا بقي عطشان حتى يشرب من داره ولا يهون عليه أن يدفع ثمن قربة في شربة ماء وذلك لعدم وجود النصف وكذلك الصدقة على الفقراء وأمثالهم وقد كان الناس من أرباب البيوت إذا زاد بعد ثمن اللحم والخضار نصف يسألون الخادم في اليوم الثاني عنه لكونه نصف المصروف ويحاسبونه عليه وكان صاحب العيال وذوو البيوت المحتوية على عدة أشخاص من عيال وجوار وخدم إذا ادخر الغلة والسمن والعسل والحطب ونحو ذلك يكفيه في مصرف يومه العشرة أنصاف في ثمن اللحم والخضار وخلافه وأما اليوم فلا يقوم مقامها العشرة قروش وأزيد لغلو الأسعار في كل شيء بسبب الحوادث والاحتكارات السابقة والمتجددة كل وقت في جميع الأصناف ولا يخفى أن أسباب الخراب التي نص عليها المتقدمون اجتمعت وتضاعفت في هذه السنين وهي زيادة الخراج واختلال المعاملة أيضًا والمكوس وزاد على ذلك احتكار جميع الأصناف والاستيلاء على أرزاق الناس فلا تجد مرزوقًا إلا من كان في خدمة الدولة متوليًا على نوع من أنواع المكوس أو مباشرًا أو كاتبًا أو صانعًا في الصنائع المحدثة ولا يخلو من هفوة ينم بها عليه فيحاسب مدة استيلائه فيجتمع عليه جملة من الأكياس فيلزم بدفعها وربما باع داره ومتاعه فلا يفي بما تأخر عليه فأما يهرب إن أمكنه الهرب وإما يبقى في الحبس هذا إن كان من أبناء العرب وأهالي البلدة وأما إن كان بخلاف ذلك فربما سومح أو تصدى له من يخفف عنه أو يدخله في منصب أو شركة فيترفع حاله ويرجع أحسن حالًا ما كان‏.‏

ومما حدث أيضًا في هذه السنة الاستيلاء على صناعة المخيش والقصب التلي الذي يصنع من الفضة للطرازات والمقصبات والمناديل والمحارم وخلافها من الملابس وذلك بإغراء بعض صناعهم وتحاسدهم وإن مكسبها يزيد على ألف كيس في السنة لأن غالب الحوادث بإغراء الناس على بعضهم البعض وكذلك الاستيلاء على وكالة الجلابة التي يباع فيها الرقيق من العبيد والجواري السود وغيرهم من البضائع التي تجلب من بلاد السودان كسن الفيل والتمر هندي والشتم وروايا الماء وريش النعام وغير ذلك‏.‏

ومنها الحجر على عسلي النحل وشمعه فيضبط جميعه للدولة ويباع رطل الشمع بستة قروش ولا يوجد إلا ما كان مختلسًا ويباع خفية وكان رطله قبل الحجر بثلاثة قروش فإذا وردت مراكب إلى السحل نزل إليها المفتشون على الأشياء ومن جملتها الشمع فيأخذون ما يجدونه ويحسب لهم بأبخس ثمن فإن أخفي شيء وعثر عليه أخذوه بلا ثمن ونكلوا بالشخص الذي يجدون معه ذلك وسموه حراميًا ليرتدع غيره والمتولي على ذلك نصارى وأعوانهم لا دين لهم وقد هاف النحل في هذه السنة وامتنع وجود العسل وكذلك ثمر النخيل بل والغلال فلم تزك في هذه السنين مع كثرة الأسيال التي غرقت منها الأراضي بل وتعطل بسببها الزرع وزادت أثمانها وخصوصًا الفول وأما العدس فلا يوجد أيضًا إلا نادرًا‏.‏

وكذلك التزم بالملاحة وتوابعها من زاد في مالها وبلغ ثمن الكيلة قرشًا وكانت قبل ذلك بثلاثين نصفًا وفيما أدركنا بثلاثة أنصاف وأما أجر الأجراء والفعلة والمعمرين فأبدل النصف بالقرش وكذلك ثمن الجير البلدي والجبس لأن عمائر أهل الدولة مستديمة لا تنقضي أبدًا ونقل الأتربة إلى الكيمان على قطارات الجمال والحمير من شروق الشمس إلى غروبها حتى ستر علوها الأفق من كل ناحية وإذا بنى أحدهم دارًا فلا يكفيه في ساحتها الكثير ويأخذ ما حولها من دور الناس بدون القيمة ليوسع بها داره ويأخذ ما بقي في تلك الخطة لخاصته وأهل دائرته ثم يبني أخرى كذلك لديوانه وجمعيته وأخرى لعسكره وهكذا‏.‏

وأما سليمان آغا السلحدار فهو الداهية العظمى والمنصيبة الكبرى فإنه تسلط على بقايا المساجد والمدارس والتكايا التي بالصحراء ونقل أحجارها إلى داخل باب البرقية بالغريب وكذلك ما كان جهة باب النصر وجمعوا أحجارها خارج باب النصر وأنشأ جهة خان الخليلي وكالة وجعل بها حواصل وطباقًا وأسكنها نصارى الأروام والأرمن بأجرة زائدة أضعاف الأجر المعتادة وكذلك غيرهم ممن رغب في السكنى وفتح لها بابًا يخرج منه إلى وكالة الجلابة الشهيرة التي بالخراطين لأنها بظاهرها وأجر الحوانيت كانت بأجرة زائدة فأجر الحانوت بثلاثين قرشًا في الشهر وكانت الحانوت تؤجر بثلاثين نصفًا في الشهر والعجب في إقدام الناس على ذلك وأسراعهم في تآجرهم قبل فراغ بنائها مع ادعائهم قلة المكاسب ووقف الحال ولكنهم أيضًا يستخرجونها من لحم الزبون وعظمه ثم أخذ بناحية داخل باب النصر مكانًا متسعًا يسمى حوش عطى بضم العين وفتح الطاء وسكون الياء كان محطًا لعربان الطور ونحوهم إذا وردوا بقوافلهم بالفحم والقلي وغيره وكذلك أهالي شرقية بلبيس فأنشأ في ذلك المكان أبنية عظيمة تحتوي على خانات متداخلة وحوانيت وقهاوي ومساكن وطباق وسكن غالبها أيضًا الأرمن وخلافهم بالأجر الزائدة ثم انتقل إلأى جهة خان الخليلي فأخذ الخان المعروف بخان القهوة وما حوله من البيوت والأماكن والحوانيت والجامع المجاور لذلك تصلى فيه الجمعة بالخطبة فهدم ذلك جميعه وأنشأ خانًا كبيرًا يحتوي على حواصل وطباق وحوانيت عدتها أربعون حانوتًا أجرة كل حانوت ثلاثون قرشًا في كل شهر وأنشأ فوق السبيل وبعض الحوانيت زاوية لطيفة يصعد إليها بدرج عوضًا عن الجامع ثم انتقل إلى جهة الخرنفش بخط الأمشاطية فأخذ أماكن ودورًا وهدمها وهو الآن مجتهد في تعميرها كذلك فكان يطلب رب المكان ليعطيه الثمن فلا يجد بدًا من الإجابة فيدفع له ما سمحت به نفسه إن شاء عشر الثمن أو أقل أو أزيد بقليل وذلك لشفاعة أو واسطة خير وإذا قيل له أنه وقف ولا مسوع لاستبداله لعدم تخربه أمر بتخريبه ليلًا ثم يأتي بكشاف القاضي فيراه خرابًا فيقضي له وكان يثقل عليه لفظة وقف ويقول إيش يعني وقف وإذا كان على المكان حكر لجهة وقف أصله لا يدفعه ولا يلتفت لتلك اللفظة ويتمم عمائره في أسرع وقت لعسفه وقوة مراسه على أرباب الأشغال والموانة ولا يطلق للفعلة الرواح بل يحبسهم على الدوام إلى باكر النهار ويوقظونهم من آخر الليل بالضرب ويبتدؤن العمل من وقت صلاة الشافعي إلى قبيل الغروب حتى في شدة الحر في رمضان وإذا ضجوا من الحر والعطش أمرهم مشد العمارة بالشرب وأحضر لهم السقاء ليسقهم وظن أكثر الناس أن هذه العمائر إنما هي لمخدومه لأنه لا يسمع لشكوى أحد فيه واشتد في هذا التاريخ أمر المساكن بالمدينة وضاقت بأهلها لشمول الخراب وكثرة الأغراب وخصوصًا المخالفين للملة فهم الآن أعيان الناس يتقلدون المناصب ويلبسون ثياب الأكابر ويركبون البغال والخيول المسومة والرهوانات وأمامهم وخلفهم العبيد والخدم وبأيديهم العصي يطردون الناس ويفرجون لهم الطرق ويتسرون بالجواري بيضًا وحبوشًا ويسكنون المساكن العالية الجليلة يشترونها بأغلى الأثمان ومنهم من له دار بالمدينة ودار مطلة على البحر للنزاهة ومنهم من عمر له دارًا وصرف عليها ألوفًا من الأكياس وكذلك أكابر الدولة لاستيلاء كل من كان في خطه على جميع دورها وأخذها من أربابها بأي وجه وتوصلوا بتقليدهم مناصب البدع إلى إذلال المسلمين لأنهم يحتاجون إلى كتبة وخدم وأعوان والتحكم في أهل الحرفة بالضرب والشتم والحبس من غير إنكار ويقف الشريف والعامي بين يدي الكافر ذليلًا فضاقت بالناس المساكن وزادت قيمتها أضعاف الأضعاف وأبدل لفظ الريال الذي كان يذكر في قيم الأشياء بالكيس وكذلك الأجر والأمر في كل شيء في الازدياد والله لطيف بالعباد ولو أردنها استيفاء بعض الكليات فضلًا عن الجزئيات لطال المقال وامتد الحال وعشنا ومتنا ما نرى غير ما نرى تشابهت العجما وزاد انعجامها نسأل الله حسن اليقين وسلامة الدين‏.‏

استهل شهر المحرم بيوم الإثنين وفي أوائله حضر الباشا من الإسكندرية‏.‏

وفيه الحوادث أن الشيخ إبراهيم الشهير بباشا المالكي بالإسكندرية قرر في درس الفقه أن ذبيحة أهل الكتاب في حكم الميتة لا يجوز أكلها وما ورد من إطلاق الآية فإنه قبل أن يغيروا ويبدلوا في كتبهم فلما سمع فقهاء الثغر ذلك أنكروه واستغربوه ثم تكلموا مع الشيخ إبراهيم المذكور وعارضوه فقال أنا لم أذكر بذلك بفهمي وعلمي وإنما تلقيت ذلك عن الشيخ علي الميلي المغربي وهو رجل عالم متورع موثوق بعلمه ثم أنه أرسل إلى شيخه المذكور بمصر يعلمه بالواقع فألف رسالة في خصوص ذلك وأطنب فيها فذكر أقوال المشايخ و الخلافات في المذاهب واعتمد قول الإمام الطرطوشي في المنع وعدم الحل وحشا الرسالة بالحط على علماء الوقت وحكامه وهي نحو الثلاثة عشر كراسة وأرسلها إلى الشيخ إبراهيم فقرأها على أهل الثغر فكثر اللغط والإنكار خصوصًا وأهل الوقت أكثرهم مخالفون للملة وانتهى الأمر إلى الباشا فكتب مرسومًا إلى كتخدا بك بمصر وتقدم إليه بأن يجمع مشايخ الوقت لتحقيق المسئلة وأرسل إليه بالرسالة أيضًا المصنفة فأحضر كتخدا بك المشايخ وعرض عليهم الأمر فلطف الشيخ محمد العروسي العبارة وقال الشيخ علي الميلي رجل من العلماء تلقى عن مشايخنا ومشايخهم لا ينكر علمه وفضله وهو منعزل عن خلطة الناس إلا أنه حاد المزاج وبعقله بعض خلل والأولى أن نجتمع به ونتذاكر في غير مجلسكم وننهي بعد ذلك الأمر إليكم فاجتمعوا في ثاني يوم وأرسلوا إلى الشيخ علي يدعونه للمناظرة فأبى عن الحضور وأرسل الجواب مع شخصين من مجاوري المغاربة يقولان أنه لا يحضر مع الغوغاء بل يكون في مجلس خاص يتناظر فيه مع الشيخ محمد ابن الأمير بحضرة الشيخ حسن القويسني والشيخ حسن العطار فقط لأن ابن الأمير يناقشه ويشن عليه الغارة فلما قالا ذلك القول تغير ابن الأمير وأرعد وأبرق وتشاتم بعضمن بالمجلس مع الرسل وعند ذلك أمروا بحبسهما في بيت الآغا وأمروا الآغا بالذهاب إلى بيت الشيخ علي وإحضاره بالمجلس ولو قهرًا عنه فركب الآغا وذهب إلى بيت المذكور فوجده قد تغيب فأخرج زوجته ومن معها من البيت وسمر البيت فذهبت إلى بيت بعض الجيران ثم كتبوا عرضًا محضرًا وذكروا فيه بأن الشيخ عليًا على خلاف الحق وأبى عن حضور مجلس العلماء والمناظرة معهم في تحقيق المسئلة وهرب واختفى لكونه على خلاف الحق ولو كان على الحق ما اختفى ولا هرب والرأي لحضرة الباشا فيه إذا ظهر وكذلك في الشيخ إبراهيم باشا السكندري وتمموا العرض وأمضوه بالختوم الكثيرة وأرسلوه إلى الباشا وبعد أيام أطلقوا الشخصين من حبس الآغا ورفعوا الختم عن بيت الشيخ علي ورجع أهله إليه وحضر الباشا إلى مصر في أوائل الشهر ورسم بنفي الشيخ إبراهيم باشا إلى بني غازي ولم يظهر الشيخ علي من اختفائه‏.‏

واستهل شهر صفر بيوم الأربعاء سنة 1236 وفي أوائله حضر إبراهيم باشا من الجهة القبلية بعد ما طاف الفيوم أيضًا واحضر معه جملة أشخاص قبض عليهم من المفسدين من العربان وهم في الجنازير الحديد وشقوا بهم البلد ثم حبسوهم‏.‏

واستهل شهر ربيع الأول بيوم الخميس سنة 1236 وفي أوائله حضر نحو العشرة أشخاص من الأمراء المصرية البواقي في حالة رثة وضعف وضيم واحتياج واجتياح وكانوا أرسلوا وطلبوا الأمان وأجيبوا إلى ذلك‏.‏

وفيه أشهروا العربان الذين أحضرهم إبراهيم باشا معه وقتلوهم وهم أربعة اثنان بالرميلة واثنان بباب زويلة‏.‏

واستهل شهر ربيع الثاني بيوم السبت سنة 1236 وفيه أخرج الباشا عبد الله بك الدرندلي منفيًا وكان عبد الله بك هذا يسكن بخطة الخرنفش وهو رجل فيه سكون قليل الأذى وملك بتلك الناحية دورًا وأماكن وله عزوة وعساكر وأتباع وكان يجلس بحضرة الباشا وينادمه ويتوسع معه في الكلام والمسامرة وسبب تغير خاطر الباشا عليه أنه جرى ذكر علي باشا تبدلان الأرنؤدي وحروبه ومخالفة العساكر عليه فقال عبد الله المذكور أن العساكر يرون محاربة السلطان معصية أو كلامًا هذا معناه فتغير وجه الباشا من ذلك القول ويقال أنه أمر بقتله فشفع فيه حسن باشا طاهر من القتل وأن يخرج منفيًا هكذا أشيع واستفيض وانضم إلى ذلك أنه قال لشريف بك أمين الخزنة عند تأخر علوفته خدمة نصراني أحسن من خدمتكم مع المشاجرة فبلغها شريف بك للباشا أيضًا وأوغر صدره عليه ودفع له الباشا علوفته وثمن ما حازه من الأماكن والأملاك ووصله على عدة جمال محملة بالدراهم وسافر في ثامنه على طريق البر وأبقى حريمه وأثقاله ليأتوه على سفن البحر‏.‏

وفي ستدس عشره أمر الباشا بقراءة صحيح البخاري بالجامع الأزهر فاجتمعوا في يوم الاثنين سابع عشره وقرأوا في الأجزاء على العادة ضحوة النهار أربعة أيام آخرها الخميس وفرقوا على أولاد المكاتب دراهم وكذلك على مجاوري الأزهر في نظير قراءة البخاري‏.‏

واستهل شهر جمادى الأولى بيوم الأحد سنة 1236 فيه حضر إبراهيم باشا ونزل بقصره الجديد بل قصوره لأنه أنشأ عدة قصور متصلة وبساتين ومصانع متسعة مزخرفة منها قصر لديوانه وقصر لحريمه وقصر لخصوص عباس باشا ابن أخيه وغير ذلك‏.‏

واستهل شهر جمادى الثانية بيوم الثلاثاء سنة 1236 فيه عزم إبراهيم باشا على إعادة قياس أراضي قرى مصر وأحضر من بلاد الصعيد عدة كبيرة من القياسين نحو الستين شخصًا‏.‏

وفي يوم السبت خامسه عدى إلى الجيزة تجاه القصور وجمع القياسين والمهندسين وكذلك مهندسي الإفرنج وقاس كل قياسته وكيفية عمله فعاند المعلم غالي وأحب تأييد أهل حرفته من قياسي القبط وقال كل منهم على الصحيح وعلم إبراهيم باشا أن قياس المهندسين وأرباب المساحة أصح ولكن فيها بطء فقال أريد الصحيح ولكن مع السرعة بعد أن عمل امتحانًا ومثالًا في قطعة من الأرض يظهر بها برهان الصحة والتفاوت وأمسى الوقت فأمرهم بالذهاب والرجوع يوم الخميس الآتي فحضروا كذلك واشتغلوا يومهم بالعمل إلى آخر النهار ثم اختار من مهندسي الأقباط طائفة وطرد الآخرين وسافر في رابع عشره إلى ناحية شرق اطفيح وأخذ م المهندسخانه كبيرها وصحبته سبعة عشر شخصًا وكذلك أشخاصًا من الإفرنج المهندسين وانتقصوا من القصبة في هذه المرة مقدار قبضة‏.‏

واستهل شهر رجب بيوم الخميس سنة 1236 فيه سافر مماليك الباشا إلى جهة أسيوط مثل العام المضي ليكرتنوا هناك حذرًا وخوفًا عليهم من حدوث الطاعون بمصر‏.‏

وفي سابع عشره ارتحل محمد بك الدفتردار مسافرًا إلى دار فور ببلاد السودان بعد أن تقدمه طوائف كثيرة عساكر أتراك ومغاربة‏.‏

وفي خامس عشرينه أمر الباشا بنفي محمد المعروف بالدرويش كتخدا محمود بك الذي هو الآن كتخدا بك والسيد أحمد الرشيدي كاتب المرزق وسليمان أفندي ناظر المدابغ والجلود ثلاثتهم إلى قلعة أبي قير لمقتضيات واهية في خدم مناصبهم ومحمد كتخدا كان ناظرًا على الجلود في العام الماضي قبل سليمان أفندي المذكور‏.‏

وفي أواخره حضر جماعة من المماليك المصرية الذين كانوا بدنقلة فيهم ثلاثة صناجق أحدهم أحمد بك الألفي وهو زوج عديلة هانم بنت إبراهيم بك الكبير‏.‏

في ثامنه يوم الجمعة عمل سليمان آغا السلحدار الجمعية بالجامع المعروف بالأحمر وكان قد تخرب ولم يبق به إلا الجدران فتصدى لعمارته سليمان آغا المذكور وسقفه أيضًا بأفلاق النخيل والجريد والبوص وأقام له عمدًا من الحجارة وجدد منبره وبلاطه وميضاته ومراحيضه وفرشه بالحصر وعمل به الجمعية في ذلك اليوم واجتمع به عالم كثيرون من الناس وخطب على منبره الشيخ محمد الأمير وبعد انقضاء الصلاة قرأ درسًا وأملى فيه حديث من بنى لله مسجدًا وبعد انقضاء ذلك خلع عليه فروة وكذلك على الشيخ العروسي وعمل لهم شربات سكر‏.‏

وفي يوم السبت ثالث عشرينه حضر إبراهيم باشا من ناحية شرق اطفيح‏.‏

وفي يوم الثلاثاء سادس عشرينه سافر بمن معه إلى ناحية شرقية بلبيس‏.‏ واستهل

شهر رمضان بيوم الأحد 1236

وعملت الرؤية في تلك الليلة كالعادة وركب فيها مشايخ الحرف والمحتسب وأثبتوا رؤية الهلال تلك الليلة بعد مضي أربع ساعات من الليل ولم يحصل فيه من الحوادث غير تغالي الأثمان وتعاليها بسوء فعل السوقة وإظهار رديء المأكولات وإخفاء جيدها وقد انقضى بخير‏.‏

واستهل شهر شوال بيوم الثلاثاء سنة 1236 في ثالثه حضرت هجانة من أراضي نجد وبصحبتهم أشخاص من كبار الوهابية مقيدون على الجمال وهم عمر بن عبد العزيز وأولاده وأبناء عمه وذلك أنهم لما رجعوا إلى الدرعية بعد رحيل إبراهيم باشا وعساكره وكان معهم مشاري بن مسعود وقد كانوا هربوا في الدرعية بعدم رحل عنها إبراهيم باشا وتركي ابن عبد الله ابن أخي عبد العزيز وولد عم مسعود الأمشاري فإنه هرب من العسكر الذين كانوا مع أولاد مسعود وجماعتهم حين أرسلهم إبراهيم باشا إلى مصر في الحمراء وهي قرية بين الجديدة وينبع البحر وذهب إلى الدرعية واجتمع عليه من فرحين قدمت العساكر وأخذوا في تعميرها ورجع أكثر أهلها وقدموا عليهم مشاري ودعا الناس إلى طاعته فأجابه الكثير منهم فكادت تتسع دولته وتعظم شوكته فلما بلغ الباشا ذلك جهز له عساكر رئيسها حسين بك فأوثقوا مشاري وأرسلوه إلى مصر فمات في الطريق وأما عمر وأولاده وبنو عمه فتحصنوا في قلعة الرياض المعروفة عند المتقدمين بحجر اليمامة وبينها وبين الدرعية أربع ساعات للقافلة فنزل عليهم حسين بك وحاربهم ثلاثة أيام أو أربعة وطلبوا الأمان لما علموا أنهم لا طاقة لهم به فأعطاهم الأمان على أنفسهم فخرجوا له إلا تركي فإنه خرج من القلعة ليلًا وهرب وأما حسين بك فإنه قيد الجماعة وأرسلهم إلى مصر في الشهر المذكور وهم الآن مقيمون بمصر بخطة الحنفي قريبًا من بيت جماعتهم الذين أتوا قبل هذا الوقت‏.‏

فيه حضر إبراهيم باشا من سرحته بالشرقية بسبب قياس الأراضي والمساحة‏.‏

وفي منتصفه سافر الباشا إلى الإسكندرية لداعي حركة الأروام وعصيانهم وخروجهم عن الذمة ووقوفهم بمراكب كثيرة العدد بالبحر وقطعهم الطريق على المسافرين واستئصالهم بالذبح والقتل حتى أنهم أخذوا المراكب الخارجة من إسلامبول وفيها قاضي العسكر المتولي قضاء مصر ومن بها أيضًا من السفار والحجاج فقتلوهم ذبحًا عن آخرهم ومعهم القاضي وحريمه وبناته وجواريه وغير ذلك وشاع ذلك بالنواحي وانقطعت السبل فنزل الباشا إلى الإسكندرية وشرع في تشهيل مراكب مساعدة للدونانمة السلطانية وسيأتي تتمة هذه الحادثة وبعد سفر الباشا سافر أيضًا إبراهيم باشا إلى ناحية قبلي قاصدًا بلاد النوبة‏.‏

واستهل شهر ذي الحجة بيوم الجمعة سنة 1236 فيه خرجت عساكر كثيرة ومعهم رؤساهم وفيهم محو بك ومغاربة وآلات الحرب كالمدافع وجبخانات البارود واللغمجية وجميع اللوازم قاصدين بلاد النوبة وما جاورها من بلاد السودان‏.‏

محمد كتخدا لاظ المنفصل عن الكتخدائية إلى أسنا ليتلقى القادمين ويشيع الذاهبين‏.‏

فيه حضر إبراهيم باشا من سرحته بالشرقية بسبب قياس الأراضي والمساحة‏.‏

وفي منتصفه سافر الباشا إلى الإسكندرية لداعي حركة الأروام وعصيانهم وخروجهم عن الذمة ووقوفهم بمراكب كثيرة العدد بالبحر وقطعهم الطريق على المسافرين واستئصالهم بالذبح والقتل حتى أنهم أخذوا المراكب الخارجة من إسلامبول وفيها قاضي العسكر المتولي قضاء مصر ومن بها أيضًا من السفار والحجاج فقتلوهم ذبحًا عن آخرهم ومعهم القاضي وحريمه وبناته وجواريه وغير ذلك وشاع ذلك بالنواحي وانقطعت السبل فنزل الباشا إلى الإسكندرية وشرع في تشهيل مراكب مساعدة للدونانمة السلطانية وسيأتي تتمة هذه الحادثة وبعد سفر الباشا سافر أيضًا إبراهيم باشا إلى ناحية قبلي قاصدًا بلاد النوبة‏.‏

واستهل شهر ذي الحجة بيوم الجمعة سنة 1236 فيه خرجت عساكر كثيرة ومعهم رؤساهم وفيهم محو بك ومغاربة وآلات الحرب كالمدافع وجبخانات البارود واللغمجية وجميع اللوازم قاصدين بلاد النوبة وما جاورها من بلاد السودان‏.‏

محمد كتخدا لاظ المنفصل عن الكتخدائية إلى أسنا ليتلقى القادمين ويشيع الذاهبين‏.‏

وفيه وصلت بشائر من جهة قبلي باستيلاء إسمعيل باشا على سنار بغير حرب ودخول أهلها تحت الطاعة فضربت لتلك الأخبار مدافع من القلعة‏.‏

وانقضت هذه السنة وما تجدد بها من الحوادث وانقضى بعضها والبعض باق إلى الآن‏.‏

فمنها توقف زيادة النيل وذلك أنه لم يستتم أذرع الوفاء إلى ثامن عشر مسرى القبطي حتى ضجر الناس وضج الفلاحون‏.‏

ومنها أمر المعاملة التي زادت زيادة فاحشة حتى بلغ البندقي ألفًا ومائتي نصف والمجر والفندقلي عشرين قرشًا عنها ثمانمائة نصف وبلغ صرف الريال الفرانسة أربعة عشر قرشًا عنها خمسمائة نصف وستون نصفًا وقس على ذلك باقي الأصناف‏.‏

ومنها غلو الأثمان في جميع المبيعات من ملبوسات ومأكولات والغلال حتى وصل الأردب إلى ألف وخمسمائة نصف والرطل السمن إلى خمسين نصفًا وإلى ستين نصفًا وقس على ذلك‏.‏

وأما حادثة الأروام التي هي باقية إلى الآن وما وقع منهم من الإفساد وقطع لطريق على المسافرين واستيلائهم على كل ما صادفوه من مراكب المسلمين وخروجهم عن الذمة وعصيانهم وما وقع معهم من الوقائع وما سينتهي حالهم إليه فسيتلى عليك إن شاء الله تعالى بكماله في الجزء الآتي بعد ذلك والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب‏.‏ 

قلت المدون تم بحمد الله فاللهم تقبل مني واستجب دعائي يا ربي.آمين

ط اخري مجلد 3. عجائب الآثار في التراجم والأخبار (المجلد الثالث) عبد الرحمن الجبرتي

  مجلد 3. عجائب الآثار في التراجم والأخبار (المجلد الثالث) عبد الرحمن الجبرتي   خطف العرب جراية العسكر من عند الزاوية الحمراء ...